Ibn Ḥazm ḥayātuh wa-ʿaṣruhu ārāʾuhu wa-fiqhuhu
ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه
Publisher
دار الفكر العربي
Publisher Location
القاهرة
وثاني الأمرين اللذين ظهر بهما المعتزلة مسألة مرتكب الكبيرة، فقد قالوا إنه ليس مؤمن ولا كافر، ولكنه فاسق، فهو في منزلة بين المنزلتين أي بين الإيمان والكفر، وهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل عمل أهل الجنة ولا مانع عندهم من أن يسمى مسلماً، باعتباره يظهر الإسلام، وينطق بالشهادتين، ولكنه لا يسمى مؤمناً.
وقول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين فيه مجاراة لروح العصر، فقد جرى خلاف شديد في آخر عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعصر الأمويين في أمر مرتكب الكبيرة، وجرت بين الفرق المختلفة أقوال كثيرة في هذه، وقد نقلنا بعض أقوال الخوارج في هذا، وقد قال الحسن البصري من علماء التابعين إنه منافق، وليس مؤمناً، وقد قال المرجئة: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، كما ذكرنا من قبل. وقال جمهور المسلمين: إنه مؤمن عاص يحاسبه الله على عصيانه، إلا أن يتوب، أو يتغمده الله برحمته.
فلا عجب إذن إذا قال المعتزلة في وسط تلك الآراء المتضاربة، إنه في منزلة بين المنزلتين، منزلة الإيمان ومنزلة الكفر.
هذا ما اشتهر به المعتزلة في أول أمرهم، ولكنها كانت فرقة نشيطة دائبة. ولقد حرروا في آخر أمرهم مذهبهم الاعتقادي في خمسة أمور لخصها أبو الحسين الخياط في كتابه "الانتصار" فقال: ليس يستحق أحد اسم الاعتزال، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: "التوحيد، والعدل والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
وقد وضح معنى التوحيد عندهم أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين"، وخلاصة ما اشتمل عليه أن توحيد الله سبحانه معناه أنه منزه عن الشبيه والمثل فليس كمثله شيء، ولا ينازعه أحد في سلطانه، ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس، ولا يجوز عليه اجترار المنافع، ولا تلحقه
127