93

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ويقول أبو عبيدة القاسم بن سلام: ((جالست أبا يوسف، ومحمد بن الحسن، ويحيى ابن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، فما هبت أحدا منهم، ما هبت أحمد بن حنبل)).

٩٣ - وما سر هذه الهيبة التي كانت لذلك الرجل العظيم؟ إنها هبة الله سبحانه وتعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، ففي الناس رجال آتاهم الله قوة نفس، وقوة وجدان، وإشعاعا روحيا، يجعلهم يؤثرون في غيرهم، ويستولون على نفوس الناس، لا بقوة السلطان، ولكن بقوة الوجدان.

ولقد كانت كل أحوال أحمد من شأنها أن تنمي هذه الهبة، وتقوي تأثيرها، وتجعل أثرها بالغا، جد لا مزاح فيه قط، حتى إنه ليحسب أن كل مزحة مجة من العقل، أو غفوة من الوجدان الديني، وهو لا يريد أن يمج عمله، ولا يريد أن يخبي نار الوجدان لأن في قوة الإحساس الديني إرهافا للإيمان، وهو مع جده في صمت دائم، لا لغو في القول ولا تأثيم، وهو في حضرة أصحابه يأبى أن يتكلم إلا في العلم، ويأبى إلا أن يصمت والصمت والابتعاد عن اللغو يجعلان المتصلين بالشخص متحفظين في حضرته، وبذلك تنمو المهابة، فإنه لا يبذل نفس الإنسان، ولا يسقط المهابة، ويذهب بالروعة أكثر من لغو القول والمراء والجدل، والمكاثرة والمهاترة، وقد تجافى أحمد رضي الله عنه عن ذلك، وباعده عن قلبه ولسانه.

وإنه مما نمى مهابته، تلك المحنة التي نزلت به فتحملها بجلد وصبر، فإنها أشاعت ذكره، وتحدث الناس بأمره. وإن حسن السمعة، وبعد الصيت، وجميل الذكر، تجعل لمجلس صاحبها روعة، وهيبة في نفوس الناس، فإن ألسنة الخلق بالثناء، تلقي مهابة صاحب الثناء في النفس، وخصوصا إذا كان أهلا لذلك، وله في نفسه جلال وتقى وهدى الإيمان، وبرد اليقين.

٩٤ - وإنه مع هذه الهيبة، وذلك الجلال كان حسن العشرة، ولم يكن فظا غليظا، بل كان طلق النفس والوجه، كريم الخلق سجح المعاملة لينا رفيقا، وكان شديد الحياء، يستحي من الله حق الحياء، ويستحي من الناس، فلا ينافرهم، ولا يكابرهم، قال بعض من لاقوه في وصفه: ((ما رأيت أحدا في عصر أحمد من رأيت أجمع منه ديانة، وصيانة

92