112

ومن الذين زادوا عددهم الكاتبة الإنجليزية المعروفة ماري كوريللي، والشيطان عندها في قصة أحزان الشيطان يشبه أن يكون صورة الخير منظورا من قفاه لا من وجهه، وسائرا إلى الوراء بدلا من مسيره إلى الأمام.

ومن الذين زادوا في عددهم سليل بيت العلم بين الإنجليز الدوس هكسلي، كاتب القصة والمقال، وأديب العلماء وعالم الأدباء؛ فإنه أخذ «أسيدي» شيطان القرون الأولى فنسخ منه ألوف النسخ بين الآدميين، وجعل هذا العصر أحق به من عصور النساك والرهبان الذين رهبوه في وضح النهار؛ إذ كان من بلواه أنه لا يغشاهم مع الظلام، بل يطرق عليهم قلوبهم في وهج الظهيرة، ومع شمس الصحراء التي يهرب منها الإنس والجان.

كان «أسيدي» هذا شيطان الحلم في اليقظة الذي سلطه إبليس على رهبان الصعيد في عصور المسيحية الأولى، وكان من دأبه أن يلهيهم عن العبادة بما يزخرفه لهم من الأحلام والرؤى وهم مفتوحو العيون، مستسلمون للسكون في ظلال الصوامع بين نيران القيظ في الصحراء، فإذا حلموا كسلوا، وإذا كسلوا شكوا، وإذا شكوا آل بهم الشك إلى السآمة والملل وكراهة الدنيا والآخرة، واليأس من الصحيح والباطل على السواء.

وينقله الكاتب من القرون الأولى إلى القرن التاسع عشر، ثم إلى القرن العشرين، ويقول في تفسير نقلته: «إننا لا نزعم أن (أسيدي) من مخترعات القرن التاسع عشر؛ فإن السآمة والخيبة واليأس وجدت قديما ولم تنقطع عن الوجود، وابتلي الناس بآلامها فيما مضى كما نبتلى بها الآن ... غير أنها في العصر الحديث قد طرأ عليها ما يجعلها موقرة مرعية، ولا يجعلها كما كانت خطيئة محظورة، أو يجعلها مجرد عرض من أعراض السقم ...

وهذا الذي طرأ عليها إنما هو التاريخ كله منذ سنة 1789 ... إنما هو إخفاق الثورة الفرنسية، وذلك الإخفاق الذي يربي عليه في الضجيج والأبهة؛ وهو سقوط نابليون، فقد غرس كلاهما (أسيدي) في قلب كل فتى من الفرنسيين وغير الفرنسيين صدق دعوة الحرية، وطمح إلى أحلام المجد والعبقرية، ثم جاءت الصناعة الكبرى بما تراكم معها من القذر والبؤس والمال الحرام، وكان مسخ الطبائع على يد هذه الصناعة حسب القلب الكريم من محنة الحزن والأسى.

واطلع الناس فرأوا أن الحرية الدستورية التي طالما كافحوا من أجلها عبث، لا يغني شيئا مع طغيان الآلات واستعبادها للنفوس، فكان ذلك رعبا آخر من ضروب الرعب التي خيبت الآمال في القرن العشرين، وزيد عليها من دواعي السآمة داع أدق وأغلب مما عداه؛ وهو تعاظم المدن وراء كل مقدار معقول، فتعود الناس المقام بها، وأحسوا في البعد عنها تفاهة لا تطاق، وأطبقت البلوى عليهم فأحسوا من ضوضاء المدينة حنينا إلى سآمة الريف ... وكأنما كانت هذه المضجرات في انتظار تاج يعلوها، فتوجتها الحرب العالمية الأولى.»

ويعنى بالكتابة عن شيطان العقيدة الدينية أناس من طبقة هؤلاء الكتاب الذين اتخذوا من اسم الشيطان تعبيرا مجازيا عن مساوئ العصر وشروره وأدناسه، وربما كتب المؤلف الواحد عن هذا الشيطان وذاك الشيطان، كما فعل هكسلي فيما ألممنا به من كتاباته آنفا، وفي كتابه الذي ألفه عن شياطين لودن

The Devils Of Loudun ... ومن قرأ هذا الكتاب علم أن هكسلي قد أراد أن يكشف عن خبيئة من السوء في هذا الإنسان الذي يلعن الشيطان، لم يهبط إلى ما دونها أخبث الشياطين.

فالقصة التي حققها الكاتب من مراجعها التاريخية إحدى المبكيات المضحكات من مآسي التاريخ التي حفلت بها صفحاته في القرون الوسطى، وكان فيها مظلومان مكذوب عليهما كذبا لا يخفى على أحد في الزمن الحديث، وهما الشيطان ورجل من رجال الدين مغضوب عليه.

وقد بدأت القصة بإصابة بعض الراهبات في بلدة لودن بالصرع، واتهامهن بالتجديف والبذاء والتفوه في نوبات المرض بكلام يخجلن منه كلما أعيد عليهن بشيء من التلميح وهن مفيقات، ولو حدثت هذه الإصابة في العصر الحاضر لاستطاع رجل الدين، كما يستطيع رجل الدنيا، أن يفهم أنهن مصابات «بالهستيريا»، أو بالفصام الذي تنقسم فيه شخصية المريض، ولكن الرئيس الذي تولى البحث في أمرهن لم يستطع أن يفهم من بذائهن في خلال النوبة، وخجلهن بعد الإفاقة منها، إلا أن المتكلم بالبذاء أحد غيرهن يهمه أن يعبث ببراءة الراهبات؛ انتقاما من الله وعابداته وعابديه، ومن يكون هذا المنتقم القادر على صرع فرائسه غير الشيطان.

Unknown page