وحوالي هذا الوقت ألف صديقنا الشاعر العبقري الأستاذ عبد الرحمن شكري كتابه النثري الذي سماه «حديث إبليس»، وقال في مقدمته: «قد بدأ يكثر في آداب اللغة العربية البحث النفسي والتساؤل والتفكير والتعبير عن حركات النفس وبواعثها، ولكن كل ذلك لم يزل قطرة لا نعرف إن كان وراءها سيل أتي. وهذا الكتاب فيه شيء كثير من البحث النفسي والتساؤل والشك والسخر، الذي هو محرك يحرك النفوس ويوقظها، فهو يعبر عن تلك الدنيا التي في كل نفس، ففي فصل نصيحة إبليس - مثلا - ترى تحت السخر المودع في هذا الباب ما أرمي إليه من معائب النفوس الجامدة القبيحة التي تشبه مباول الطرق، وقد جعلت إبليس ينصح بما ينبغي الانتهاء عنه.»
وقد اطلعنا بعد الحرب العالمية الأولى على محاولات منوعة في هذه الأغراض، لم يكن منها ما بلغ في جودته مبلغ العمل الفني خلال ثلاثين سنة أو تزيد، ومنها ما نظم في مصر وما نظم في غيرها من البلاد العربية، حتى ظهر ديوان «عبقر» للشاعر السوري الأستاذ شفيق معلوف، من صفوة أدباء المهجر بالبرازيل، وكان ظهوره في الطبعة الأولى سنة 1936، وأعيد طبعه في سنة 1949، ثم ظهرت قصة «الشهيد» لزميلنا الكاتب الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم، وهي قصة صغيرة من مجموعة قصصية صدرت سنة 1953، وتعد على صغرها من أجود ما كتب في هذا الغرض في جميع اللغات.
أما قصيدة «سباق الشياطين» فخلاصتها أن إبليس جعل لتلاميذه جائزة ينالها من يعرض أعماله، ويثبت للملأ من الشياطين قدرته على السبق في التضليل والإغواء، فانبرى سبعة من الشياطين يتنافسون عليها؛ وهم: شيطان الكبرياء، وشيطان الحسد، وشيطان اليأس، وشيطان الندم، وشيطان الحب، وشيطان الكسل، وشيطان الرياء، فاستحقها هذا الشيطان الأخير - شيطان الرياء - ولكنه جرى على عادته فأظهر الزهد فيها، وتنحى عن تناولها بعد اشتراكه في المنافسة عليها، فخاطبه إبليس:
قال تأباها ولولاك انجلى
غيهب الأرض فكانت كالنعيم
دونك الدنيا اتخذها منزلا
وتول اليوم أبواب الجحيم
وقصيدة «ترجمة شيطان» هي قصة شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء لهوان الناس عليه، وتشابه الصالحين والطالحين منهم عنده، فقبل الله منه هذه التوبة وأدخله الجنة، وحفه فيها بالحور العين والملائكة المقربين، غير أنه سئم عيشة النعيم، ومل العبادة والتسبيح، وتطلع إلى مقام الإلهية؛ لأنه لا يستطيع أن يرى الكمال الإلهي ولا يطلبه، ثم لا يستطيع أن يطلبه ويصبر على الحرمان منه، فجهر بالعصيان في الجنة، ومسخه الله حجرا، فهو ما يبرح يفتن العقول بجمال التماثيل وآيات الفنون، واستضحك إبليس بين جنده يوم انتهى المطاف بتلميذه إلى هذه الخاتمة فقال:
ما أرى هذا الفتى من دمنا
ومتى استغوى الشياطين الشرك؟!
Unknown page