من أفضل ما قيل عن الكتاب
الهروب
صدفة
في القريب العاجل
الصمت
عاطفة
الخطايا
الخدع
القوى
من أفضل ما قيل عن الكتاب
Unknown page
الهروب
صدفة
في القريب العاجل
الصمت
عاطفة
الخطايا
الخدع
القوى
الهروب
الهروب
Unknown page
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
نهلة الدربي
مراجعة
علا عبد الفتاح يس
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تستحق أليس مونرو عن جدارة لقب أفضل كاتبة روائية في أمريكا الشمالية الآن. ومجموعة «الهروب» ما هي إلا رائعة أخرى من روائعها.
ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
تعتبر مونرو واحدة من أرقى كتاب الرواية المعاصرين، ويمكنك الرجوع إلى أي من القصص الثمانية في المجموعة القصصية «الهروب» لتعرف سبب ذلك.
Unknown page
تايم
مجموعة قصصية مثالية ... تشعرك وكأنها مجموعة مصغرة من الروايات، فحياة الشخصيات التي ترسمها لنا مونرو على هذه الصفحات ثرية وعميقة ومكتملة الجوانب.
شيكاجو تريبيون
أليس مونرو كاتبة تتمتع بالحس المرهف ولديها رؤية عميقة. تقدم لنا مونرو شخصيات واقعية برؤية متسقة.
جائزة قراء مجلة إل
تتمتع أليس مونرو بالحكمة في ضروب العواطف البشرية، كما أن قصصها شديدة الثراء ... حتى إن قصة قصيرة لا تتعدى خمسين صفحة تشعرك بأنها مكتملة الأركان وكأنها رواية طويلة.
جائزة اختيار نقاد مجلة بيبول
هذه المجموعة مليئة بالروائع الصغيرة التي تنير الحياة الواقعية ... إنها عميقة في كثير من النواحي المهمة.
سياتل بوست إنتيليجنسر
هذه المجموعة القصصية أروع من أن يفيها حقها اقتباس أو ملخص؛ السبيل الوحيد لذلك هو قراءتها ... وهو ما يعود بي إلى الجملة التي رددتها كثيرا: اقرءوا أعمال أليس مونرو.
Unknown page
جوناثان فرانزن، ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
مونرو واحدة من عظماء القرن العشرين.
نيوزداي
تنبض هذه القصص بالتألق والحكمة الموجعة، كما تتسم بالطرافة والروعة والمأساوية، وتظل مسيطرة على القارئ لساعات بعد قراءتها مثلها مثل الطقس المحيط به.
هيوستن كرونيكل
مجموعة متميزة مكتوبة ببراعة. تبرع مونرو في نقل الحياة الداخلية. إن أي مجموعة من قصص أليس مونرو بحكمتها ورقتها واستبصارها هي بلا شك متعة.
إنترتينمنت ويكلي
إنها ببساطة تأسر الألباب.
فورت وورث ستار تيليجرام
ليس من الشائع أن تجد قصصا موجعة مثل الجروح، قصصا تخطف الأنفاس، إلا إذا قرأت قصص أليس مونرو ... إن قصصها لا تقدم لنا أفكارا متكررة ولا مجرد حكم مريحة حول اكتساب القوة من خلال الصعاب، بل تقدم لنا إحدى أهم النعم التي يمنحنا إياها الأدب؛ وهي أن يجعل الأشياء التي لا تحتمل محتملة إلى حد ما.
Unknown page
ذا بالتيمور صن
مجموعة قصصية آسرة ... إن مونرو تفعل ما يحلم معظم الكتاب بفعله وتنجح في ذلك، صفحة بعد صفحة، وقصة بعد قصة، ومجموعة بعد مجموعة.
ذي أوريجونيان
هذه المجموعة تمثل مونرو تماما بكل ما تتميز به من أداء استثنائي.
كويل آند كواير
مجموعة قصصية كتبت ببراعة وتتميز بواقعية مذهلة ... فشخصياتها حقيقية للغاية، حتى إنك تراها تنظر إليك على صفحات الكتاب. كنت أضطر إلى إغلاق الكتاب بعد أن أنتهي من قراءة كل قصة حتى أترك هذه التجربة تترسخ في ذهني.
آشلي سيمبسون شايرز، روكي ماونتن نيوز
أليس مونرو كاتبة رفيعة الطراز ... إن قصصها من أثرى القصص على الإطلاق؛ فصداها يتردد مثل أي رواية متميزة.
ذا بلين ديلر
رائعة ... مذهلة ... إن مونرو لم تضعفها السنون، وإنما زادها مرور الزمن ذكاء وفطنة.
Unknown page
فرانسين بروز، مور
مجموعة قصصية تترك أثرا في النفس ولا تنسى.
ذا نيويورك أوبزرفر
ترصد أليس مونرو أسرار النفس البشرية وألغازها، ويستطيع المرء تلمس ما بها من تشويق ... إن عنصر المفاجأة المشوق في الحياة الواقعية التي تصر عليه أليس مونرو دائما - ولها الحق في ذلك - هو ما يشد القارئ إلى النهاية.
لوري مور، ذي أتلانتك منثلي
إن أقصر اللحظات بين يدي أليس مونرو تحوي أهم الحقائق في حياة الإنسان.
ماكلينز
استطاعت مونرو من مجموعة محدودة من المكونات الأساسية أن تغزل بيديها تباديل لا نهاية لها من الرغبات ومشاعر اليأس والآمال الخائبة ووابلا من التجليات ... فكل واحدة من هؤلاء النساء اللاتي ظهرن في قصصها مختلفة عن الأخرى، وهذه روعة أليس مونرو.
ذا فيليدج فويس
تعد هذه المجموعة القصصية عملا إبداعيا لأحد أكثر الأدباء تعمقا في الروح البشرية.
Unknown page
يو إس إيه توداي
تتفوق أليس مونرو على جيمس جويس وتقهر تشيكوف ... كل قصة من قصص هذه المجموعة تحوي تفاصيل حياتية كاملة تكفي لأن تكون رواية بذاتها ... نساؤها يتسمن بالبطولة ... فتلتصق في ذهن القارئ ولا تغادره.
ذا بوسطن جلوب
كما هو حال الكثير من قصص أليس مونرو، عندما نقرؤها نشعر بأن مواقفنا كلها تتغير وتكتسب عمقا. فهل هناك ما هو أفضل من ذلك؟ ... إنه حقا عمل جديد رائع.
لوس أنجلوس تايمز
تثبت العظيمة أليس مونرو مجددا أن كتاب القصة القصيرة لا يملكون إلا الانحناء لها إجلالا وتقديرا.
فانيتي فير
إلى ذكرى صديقاتي
ماري كاري
جين ليفرمور
Unknown page
ميلدا بيوكانن
الهروب
سمعت كارلا صوت السيارة وهي قادمة حتى قبل أن تعتلي ذلك المرتفع الصغير في وسط الطريق، والذي يطلقون عليه التل هنا في الجوار. إنها هي، هكذا قالت لنفسها. رأت السيدة جاميسون - سيلفيا - في طريقها إلى منزلها بعد أن أمضت إجازتها في اليونان. ومن خلال باب الإسطبل - حيث وقفت مبتعدة حتى لا يستطيع أن يلمحها أحد بسهولة - راحت ترقب الطريق الذي كان على السيدة جاميسون أن تقطعه بالسيارة؛ فقد كان منزلها يبعد حوالي نصف ميل بطول الطريق عن منزل كلارك وكارلا.
ولو أن أحدا على وشك الانعطاف بسيارته مقتربا من بوابة منزلهم، لكان عليه أن يهدئ من سرعته الآن، ولكن لا يزال الأمل يداعب كارلا، فقالت في نفسها: «ليتها لا تكون هي.»
ولكنها كانت هي بالفعل. التفتت السيدة جاميسون مرة واحدة صوب منزل كارلا بسرعة - وقد كانت تبذل أقصى ما تستطيع وهي تراوغ بسيارتها عبر الحفر الصغيرة والأوحال التي خلفها المطر على الأرض المفروشة بالحصى - بيد أنها لم ترفع يدها عن عجلة القيادة لتلوح بها؛ إذ إنها لم تلحظ كارلا. لمحت كارلا ذراعها المكتسبة سمرة من الشمس وقد كشفت عنها حتى كتفها، وشعرها وقد أضحى فاتحا عن ذي قبل؛ فقد أصبح يميل أكثر الآن إلى اللون الأبيض منه إلى اللون الأشقر الفضي، وقد لمحت أيضا تعبيرا ينم عن الإصرار والحنق، وقد كانت هي نفسها منشغلة بهذا الحنق، تماما على النحو الحري بالسيدة جاميسون وهي تقطع مثل هذا الطريق. عندما أدارت السيدة جاميسون رأسها كان هناك شيء أشبه بالنظرة اللامعة - التي تشي بالتساؤل والأمل - وهو الأمر الذي جعل كارلا تجفل.
إذن.
ربما لم يعلم كلارك بقدومها بعد. إن كان يجلس أمام جهاز الكمبيوتر، فلا بد وأن ظهره كان باتجاه النافذة والطريق.
ولكن قد تضطر السيدة جاميسون إلى أن تقطع رحلة أخرى، فربما لم تتوقف عند أي من محال البقالة لابتياع احتياجاتها وهي في طريقها من المطار إلى المنزل؛ إذ إنها لن تفعل حتى تصل إلى المنزل وترى ما الذي تحتاجه؛ وعندئذ قد يراها كلارك، أو قد يعرف بقدومها عندما يهبط الظلام وتضاء أنوار منزلها، ولكنه شهر يوليو، ولا يحل الظلام حتى وقت متأخر، وربما يواتيها الشعور بالتعب والإرهاق فلا تحفل بأمر الأضواء، وقد تأوي إلى الفراش مبكرة.
ولكنها من ناحية أخرى، قد تهاتفهم في أي وقت من الآن. •••
إنه موسم الأمطار، بل الأمطار الغزيرة؛ فهي أول شيء يترامى إلى مسامعك في الصباح؛ حيث تتساقط زخاتها محدثة صوتا عاليا على سطح المنزل المتنقل. وترى الطرق وقد تراكمت بها الأوحال، والحشائش الطويلة غمرتها مياه المطر، وأوراق الشجر تبعث بالماء المنهمر على نحو عشوائي بين الحين والآخر حتى في تلك الأوقات التي لا تنهمر خلالها الأمطار وتبدو السماء وكأنها في سبيلها إلى الصفاء. وكانت كارلا كلما ذهبت للخارج في ذلك الوقت ترتدي تلك القبعة العالية العريضة من اللباد ذات الطابع الأسترالي القديم، وتدس بجديلتها الكثيفة الطويلة داخل القميص الذي ترتديه.
Unknown page
لم يأت أحد لتلقي دروس الفروسية وتعلم ركوب الخيل عبر الطرق الوعرة، بالرغم من أن كلارك وكارلا جابوا حول المدينة واضعين الملصقات في كل المخيمات، والمقاهي، واللوحات الإعلانية المخصصة للسائحين، وفي أي مكان آخر يرد على أذهانهم. ولم يأت للدروس سوى بضعة تلاميذ، وكانوا من المجموعة التي تتردد بانتظام، وليسوا من مجموعات أطفال المدارس التي تمضي عطلاتها الصيفية، أو ممن تقلهم الحافلات من المخيمات الصيفية ، وهو ما جعلهم مشغولين كثيرا خلال الصيف الماضي. وحتى طلاب تلك المجموعة المنتظمة التي كانوا يعتمدون عليها، كان منهم من يأخذ إجازة من الدروس من أجل القيام برحلات أيام العطلة، أو من كان يلغي ببساطة تلك الدروس بسبب أحوال الطقس غير المشجعة، وإذا ما حدث واعتذر أحدهم في وقت متأخر، فإن كلارك كان يطالبه بثمن الوقت المهدر على أي حال. وحدث أن تذمر اثنان منهما، وغادرا بلا رجعة.
ولكن لا يزال هناك بعض الدخل يأتي إليهم من وراء العناية بثلاثة خيول. وكانت تلك الخيول الثلاثة، إضافة إلى الخيول الأربعة التي يمتلكونها تتجول بالخارج الآن، وتجوب بحرية في الحقول وسط الحشائش التي تظللها الأشجار. وبدا وكأنها لا تهتم بملاحظة توقف الأمطار في تلك اللحظة، وهو ما اعتادت عليه لبرهة في معظم الأيام خلال فترة ما بعد الظهيرة. أضحت السحب أكثر بياضا وصفاء، وسمحت بتخلل بعض الضوء خلالها بما يكفي لترتفع المعنويات، ولكنه ضوء خافت لا يصل إلى درجة إشراقة الشمس، بل سرعان ما يذوي قبل موعد العشاء.
انتهت كارلا من إزالة الروث من الإسطبل. واستغرقت وقتها المعتاد - فهي تهوى إيقاع أعمالها الروتينية اليومية، والمسافة العالية أسفل سقف الإسطبل، والروائح المنتشرة في المكان - وها هي قد ذهبت الآن لتتفقد حلقة التدريبات وترى مدى جفاف الأرض، وذلك في حال قدوم تلميذ الساعة الخامسة للتدريب.
معظم الأمطار التي تهطل بانتظام ليست أمطارا غزيرة على وجه الخصوص، ولا تصاحبها أي رياح، غير أنه حدث في الأسبوع الماضي أن نشطت الرياح نشاطا مفاجئا، وأعقبها هبوب عاصفة شديدة راحت تهز قمم الأشجار العالية وصاحبها هطول أمطار غزيرة. وفي غضون ربع ساعة، كانت الرياح قد هدأت، ولكن سقطت من جرائها بعض فروع الأشجار وتمددت بعرض الطريق، وهوت خطوط الطاقة الكهربائية المائية، وتمزق جزء كبير من السقيفة البلاستيكية التي تظلل حلقة التدريب. وتجمعت المياه مكونة بركة صغيرة أشبه بالبحيرة في نهاية مضمار التدريب، وعكف كلارك على العمل إلى ما بعد حلول الظلام وهو يحاول حفر قناة لتصريف تلك المياه .
ولم يقم كلارك بإصلاح السقف إلى الآن، ولكنه وضع سياجا من الأسلاك حول حلقة التدريب حتى لا تدلف الخيول وسط الأوحال، ووضعت كارلا علامات جديدة لتحديد مضمار أصغر للتدريب.
جلس كلارك يبحث عبر مواقع الإنترنت عن مكان يبتاع منه سقيفة، كأحد منافذ بيع الأشياء المستعملة، التي تعرض أسعارا في متناول أيديهما، أو عن طريق شخص ما يريد الاستغناء عن مثل هذه المواد ويعرضها للبيع. فهو لن يذهب إلى متجر هاي آند روبرت باكلي لمواد البناء في المدينة، والذي يطلق عليه متجر اللصوص والمنحرفين على الطريق السريع؛ فهو يدين لهم بالكثير من المال، علاوة على أنه قد تشاجر معهم من قبل.
ولا يتشاجر كلارك مع الأشخاص الذين يدين لهم بالأموال فحسب؛ فأسلوبه الودود الكيس، والذي يكون رائعا في البداية، قد ينقلب فجأة إلى غضب شديد؛ فهناك على سبيل المثال بعض الأماكن التي لا يمكن أن يذهب إليها بسبب شجار ما، ويجعل كارلا تنوب عنه في ذلك. ومن بين هذه الأماكن متجر الأدوية؛ فقد حدث ذات مرة أن دفعت سيدة عجوز نفسها في صف الانتظار وتقدمته - كانت قد عادت لتأخذ شيئا نسيته ورجعت مرة أخرى ودفعت بنفسها للأمام بدلا من أن تقف في نهاية الصف - وعندئذ تذمر كلارك واشتكى، فقال له الكاشير: «إنها تعاني من انتفاخ الرئة.» فقال كلارك: «أحقا هو الأمر كذلك؟ وأنا عن نفسي أعاني من البواسير.» واستدعي المدير المسئول وقال إن هذا ليس له داع على الإطلاق. وفي المقهى الذي يقع على الطريق السريع لم يحصل على الخصم المعلن عنه على وجبة الإفطار؛ وذلك لأن الساعة كانت قد جاوزت الحادية عشرة صباحا، واعترض كلارك على ذلك، ورمى قدح القهوة الذي طلبه على الأرض، والذي أوشك أن يصيب طفلا في عربته كما قال القائمون على المقهى، فأجابهم بأن الطفل يبعد عن القهوة مسافة نصف ميل، وأن قدح القهوة سقط من يده لأنهم لم يقدموه بالسوار الخاص به، فأجابوه بأنه لم يطلبه، فرد بأنه لا ينبغي له أن يفعل.
قالت كارلا : «إنك تستشيط غضبا.»
قال: «هكذا يتصرف الرجال.»
ولم تنبس ببنت شفة عن شجاره مع جوي تاكر. وجوي تاكر هي أمينة مكتبة في المدينة تحتفظ بفرسها لديهما ليوفرا لها العناية اللازمة. كانت الفرس كستنائية اللون، حادة الطباع، تسمى ليزي، وتطلق عليها جوي تاكر - عندما تكون في حالة مزاجية جيدة - ليزي بوردن. وبالأمس توقفت لتلقي نظرة على الفرس، ولم تكن في حالة مزاجية جيدة، وراحت تشتكي بشأن السقف الذي لم يصلح بعد، ومظهر ليزي الذي يبدو مزريا، كما لو أنها مصابة بالبرد.
Unknown page
وفي حقيقة الأمر، لم يكن ثمة مشكلة تتعلق بليزي. وقد حاول كلارك من جانبه أن يلطف الأمر حتى لا يفقد أعصابه، ولكن كانت جوي تاكر هي من انفجرت غاضبة، وقالت إن المكان ليس سوى مقلب للنفايات، وإن ليزي تستحق ما هو أفضل من ذلك، فرد كلارك قائلا: «افعلي ما يتراءى لك.» ولم تأخذ جوي ليزي من المكان - أو أنها لم تفعل بعد - كما توقعت كارلا. وقد رفض كلارك - الذي كان يعامل الفرس كأنها حيوانه الأليف - أن يواصل اهتمامه بها. وحزنت الفرس نتيجة لتغير المعاملة، فأصبحت أكثر عنادا وتشبثا أوقات التدريبات، وصارت تحدث جلبة كبيرة عند تقليم حوافرها، كما يفعلان كل يوم خشية نمو الفطريات. وكان على كارلا أن تحترس من عضة الفرس.
ولكن الشيء الأسوأ في اعتقاد كارلا هو غياب فلورا؛ وهي النعجة البيضاء الصغيرة التي تصاحب الخيل في الإسطبل وفي الحقول. فلم تلمح لها أثرا منذ يومين، وتخشى كارلا أن يكون أحد الكلاب الشرسة أو ذئاب القيوط قد افترسها، أو حتى أن يكون قد فتك بها دب.
كانت قد رأت فلورا في أحلامها الليلة الماضية والليلة قبل الماضية. في الحلم الأول رأت فلورا وهي تقترب نحو الفراش وفي فمها تفاحة حمراء، ولكن في الحلم الثاني - ليلة البارحة - جرت فلورا مبتعدة عندما رأت كارلا تتجه نحوها. وبدت رجلها مصابة، ورغم ذلك هرولت مبتعدة. قادت فلورا كارلا إلى حاجز من الأسلاك الشائكة من ذلك النوع الذي تراه في ساحة المعارك، ثم تسللت فلورا خلاله، وقد جرحت ساقها ومعظم جسدها، ولكنها انزلقت خلاله مثل ثعبان البحر الأبيض وغابت عن النظر.
لمحت الخيول كارلا وهي تمر عبر حلقة التدريبات، وتحركت جميعها حتى وصلت إلى السياج لكي تراها كارلا في اتجاه عودتها، وقد بدت الخيول متسخة بعض الشيء بالرغم من أغطيتها الجديدة الواردة من نيوزيلاندا. تحدثت إليها كارلا بصوت خفيض، واعتذرت لأنها جاءت خالية الوفاض. أخذت كارلا تربت على أعناقها وتمسح على أنوفها برفق وتسألها إن كانت تعلم شيئا عن فلورا.
أصدر جريس وجونيبر صهيلا عاليا، وراحا يحركان أنفيهما لأعلى كما لو أنهما قد أدركا الاسم ويشاركانها القلق، ولكن ليزي دفعت برأسها بينهما وأخذت تدق برأسها على رأس جريس حتى تبعدها عن يد كارلا التي تربت عليها، بل إنها عضت يدها، وأمضت كارلا بعدها بعض الوقت في توبيخها. •••
حتى ثلاث سنوات مضت لم تكن كارلا تفكر في أمر المنازل المتنقلة، بل إنها لم تكن تطلق عليها مثل هذا الاسم أيضا. ومثلها كمثل والديها، كانت تنظر إليها كشيء ينم عن التكلف والمظهرية؛ فهناك بعض الأفراد يعيشون في عربات سكنية جاهزة، هذا كل ما في الأمر. ولم تكن هناك عربة سكنية تختلف عن الأخرى؛ فكلهم سواء، ولكن عندما انتقلت كارلا للعيش هنا، واختارت هذه الحياة مع كلارك، بدأت ترى الأشياء بطريقة مختلفة، فأخذت تردد تعبير المنزل المتنقل، وتلاحظ كيف يجهزونه ويعدونه؛ تلاحظ مثلا أنواع الستائر التي يعلقونها، والطريقة التي يتم بها طلاء الأطراف التزيينية، وكيفية إعداد الأرضيات والأفنية الداخلية، وبناء المزيد من الغرف. ولم تطق صبرا حتى تدخل هي الأخرى تلك التحسينات.
وقد شاركها كلارك أفكارها لفترة؛ فقد قام بتركيب بضعة سلالم جديدة، فاستغرق بعض الوقت وهو يبحث عن درابزين من الحديد المطوع. ولم يشتك بشأن النقود التي أنفقها على طلاء المطبخ، أو دورة المياه، أو شراء بعض المواد اللازمة من أجل الستائر. وكانت كارلا تقوم بمهام الطلاء على عجل آنذاك، فلم تكن تعرف وقتها أنه ينبغي نزع مفصلات باب الخزانة قبل طلائها، أو أنه يتعين تبطين الستائر، التي بهت لونها الآن بعد مرور كل هذا الوقت.
ولكن الأمر الذي عارضه كلارك هو التخلص من الأبسطة، التي كانت متشابهة في كل غرفة، وهو الشيء الذي رغبت في تغييره بشدة. لقد كان البساط مقسما إلى مربعات بنية صغيرة، وكل مربع يحتوي على أنماط وخطوط مائلة وأشكال بنية اللون بلون الصدأ. وقد اعتقدت لفترة طويلة أن الخطوط المائلة والأشكال منظمة بنفس الطريقة داخل كل مربع، ثم كان لديها الوقت الكافي فيما بعد - بل وقتا طويلا - لكي تركز انتباهها وتتأملها جيدا، ثم فطنت إلى أن هناك أربعة نماذج وأشكال مجتمعة معا لتكون مربعات كبيرة متماثلة. وكانت تستطيع في كثير من الأحيان أن تلمح ذلك النسق بسهولة، وفي أحايين أخرى كانت تستغرق بعص الوقت لكي تتبينه مرة أخرى.
لقد كانت تفعل ذلك وقت سقوط الأمطار، وعندما يكون مزاج كلارك معتلا بدرجة تملأ المنزل بالكآبة، ولا يريد أن يعير اهتمامه لأي شيء سوى شاشة جهاز الكمبيوتر، فإنه كان من الأفضل بالنسبة لها أن تختلق أو تتذكر عملا تؤديه في الإسطبل. ومن عادة الخيل ألا تلتفت إليها عندما تبدو حزينة، ولكن فلورا - التي لم يكن من عادة كارلا أن تقيدها قط - هي الوحيدة التي كانت تقترب منها وتتمسح بها، وتنظر إليها بعينين خضراوين لامعتين تميل إلى الصفرة بتعبير هو أقرب إلى سخرية ودودة منه إلى التعاطف.
كانت فلورا لا تزال صغيرة عندما أحضرها كلارك من إحدى المزارع التي ذهب إليها لمساومة أصحابها على شراء أطقم للأحصنة، كان هؤلاء الأشخاص ممن سئموا حياة الريف، أو على الأقل من تربية الحيوانات، وقد أفلحوا في بيع الخيول، ولكنهم لم يستطيعوا التخلص من الماعز. كان كلارك قد سمع عن قدرة الماعز على جلب الإحساس بالراحة والطمأنينة داخل الإسطبل؛ لذا أراد أن يجرب ذلك، وكانا ينتويان أن يجعلا النعجة تتزاوج، ولكن لم تبد عليها أي من علامات البلوغ.
Unknown page
كانت فلورا في أول الأمر أشبه بحيوان كلارك المدلل، تتعقبه في كل مكان، وتحدث جلبة من أجل أن تلفت انتباهه، فكانت سريعة ورشيقة، ومحبة للعب كهريرة، وأشبه بفتاة ساذجة واقعة في الحب، وهو ما كان يدفعهما إلى الضحك. ولكن عندما تقدمت في العمر، أضحت أكثر ارتباطا بكارلا، ومن خلال ذلك الارتباط أصبحت فجأة أكثر استكانة، وأقل نشاطا ولعبا، وبدت قادرة على إظهار بعض من الدعابة والسخرية غير الصاخبة. كان أسلوب كارلا في معاملة الخيول ينطوي على الرفق والحزم، وأقرب إلى الأمومة، ولكن كانت رفقة فلورا مختلفة تماما، فلم تكن تسمح لكارلا بأي شعور بالسيادة عليها.
قالت وهي تخلع الحذاء الخاص بالإسطبل: «أما من أخبار بشأن فلورا؟» فقد كان كلارك قد نشر إعلانا على شبكة الإنترنت يحمل عنوان «نعجة مفقودة».
أجابها بلهجة تنم عن انشغاله، ولكنها تحمل بعض الود في ذات الوقت: «ليس بعد.» وكان في رأيه - وليست هي المرة الأولى التي يعبر فيها عن ذلك - أن فلورا قد ذهبت لتبحث لنفسها عن شريك للتزاوج.
ليس ثمة خبر عن السيدة جاميسون. أوقدت كارلا الغلاية، وكان كلارك يتمتم ببعض الكلمات لنفسه كما كان يفعل عادة وهو يجلس أمام شاشة الكمبيوتر.
كان يتحدث إلى الجهاز في بعض الأحيان، وقد يتفوه بكلمة «هراء» عندما يواجه صعوبة أو تحديا ما، أو قد ينفجر ضاحكا على مزحة، ولكنه لا يتذكرها عندما تسأله عنها فيما بعد.
نادته كارلا قائلة: «هل تريد قدحا من الشاي؟» ولدهشتها الشديدة وجدته قد نهض من مكانه واتجه صوب المطبخ.
قال: «إذن كارلا ...» «ماذا؟» «إذن، فقد اتصلت.» «من؟» «جلالة الملكة؛ الملكة سيلفيا، لقد عادت لتوها.» «لم أسمع صوت سيارتها.» «لم أسألك إن كنت قد سمعت.» «إذن ما الشيء الذي اتصلت من أجله؟» «لقد كانت تريدك أن تذهبي وتساعديها في ترتيب المنزل. هذا هو ما قالته. غدا.» «وبماذا أجبتها؟» «لقد قلت لها: بكل تأكيد، ولكن من الأفضل أن تحادثيها بنفسك وتؤكدي على ذلك.»
قالت كارلا وهي تصب الشاي في الأقداح: «ولم أفعل طالما أنك أخبرتها بذلك؟ لقد قمت بتنظيف المنزل بالفعل قبل أن تغادره، ولا أدري ما الذي يمكن أن أفعله ثانية بهذه السرعة.» «لا تدرين، ربما تكون قد تسللت إلى المنزل بعض حيوانات الراكون وأحدثت بعض الفوضى.»
ردت قائلة: «لست مضطرة لمحادثتها في التو واللحظة، فأنا أريد أن أحتسي الشاي، ثم آخذ حماما.» «لو عجلت بالأمر لكان أفضل.»
أخذت كارلا قدح الشاي معها إلى الحمام وهي ترد عليه قائلة: «علينا أن نذهب إلى المغسلة؛ فالمناشف عطنة الرائحة بالرغم من أنها قد جفت.»
Unknown page
قال: «لا تديري دفة الحديث يا كارلا.»
وحتى بعد أن دخلت بالفعل لتأخذ حمامها وقف هو خلف الباب وقال لها: «لن أسمح لك بالهروب من مسئولياتك يا كارلا.»
اعتقدت كارلا بعدما انتهت من حمامها أنه ربما لا يزال واقفا في مكانه، ولكنه عاد ليجلس أمام شاشة الكمبيوتر. ارتدت ملابسها كما لو أنها ذاهبة إلى المدينة، وأملت في أنهما لو تمكنا من الخروج وذهبا إلى المغسلة، وجلسا في أحد المقاهي، فمن الممكن حينها أن يتحدثا بأسلوب مختلف، وأن تخف حدة التوتر ويسود بعض الهدوء. اتجهت نحو غرفة المعيشة بخطوة رشيقة وطوقته بذراعيها من الخلف، ولكن بمجرد أن فعلت ذلك اعترتها موجة من الحزن - ربما كانت حرارة المياه هي ما جعلتها تطلق العنان لدموعها - وانحنت أمامه وهي تبكي منهارة.
رفع يده عن لوحة المفاتيح، ولكنه لم يحرك ساكنا.
قالت: «لا تغضب مني.»
رد قائلا: «لست غاضبا، أنا فقط أكره تصرفك على هذا النحو، هذا كل ما في الأمر.» «إنني أفعل هذا لأنك غاضب.» «لا تملي علي الحالة التي أنا عليها، إنك تخنقينني. فلتعدي طعام العشاء.»
كان هذا هو ما قامت به بالفعل؛ إذ كان من الواضح أن متدرب الساعة الخامسة لن يأتي. أحضرت حبات البطاطس وشرعت في تقشيرها، ولم تتوقف دموعها عن الانهمار، حتى إنها لم تكن تتبين ما تفعله. جففت وجهها بمنديل ورقي، ثم سحبت منديلا آخر لتأخذه معها وذهبت للخارج وسط الأمطار. لم تتجه نحو الإسطبل؛ لأنه كان كئيبا دون فلورا، بل سارت عبر الممر في اتجاه الغابة، وكانت الخيول في الحقل الآخر، وقد اقتربت من السياج لمشاهدة كارلا. وكانت كل الخيول - ما عدا ليزي التي أخذت تثب بأرجلها وتصهل - تفهم جيدا أنها تركز انتباهها في مكان آخر. •••
بدأ الأمر كله عند قراءة ذلك النعي؛ النعي الخاص بالسيد جاميسون. لقد كان ذلك في جريدة المدينة، وعرضت صورته في أخبار المساء. قبل هذا بنحو عام لم يعرفا عن عائلة جاميسون سوى أنهم بعض الجيران المنغلقين على أنفسهم. كانت السيدة جاميسون تدرس علم النباتات في الجامعة التي تبعد عن مسكنهم بنحو أربعين ميلا؛ لذا كان عليها أن تمضي وقتا طويلا في الطريق، أما السيد جاميسون، فقد كان شاعرا.
كان الجميع يعرفون عنهم نفس القدر من المعلومات، إلا أن السيد جاميسون بدا مشغولا بأشياء أخرى؛ لقد كان قوي البنيان صارما ويتميز بالنشاط والخفة برغم كونه شاعرا ورجلا متقدما في العمر، ربما يكبر السيدة جاميسون بنحو عشرين عاما. كان قد طور نظام الصرف بمنزله، ونظف المجرى المائي وفرشه بالصخور، وحرث حديقة المنزل وزرعها بالخضراوات وأحاطها بسياج، علاوة على أنه حفر ممرات عبر الغابة، وكان يعتني بكل ما هو بحاجة للإصلاح في منزله.
لقد كان منزلهم ثلاثي الأضلاع على نحو غريب، شيده بمعاونة بعض أصدقائه منذ سنوات عدة على أطلال بيت مزرعة قديم. وقد قال عنهم البعض إنهم من الهيبيز، رغم أن السيد جاميسون كان كبيرا في السن لدرجة لا تسمح له بأن ينتمي لهذه الحركة الشبابية، حتى قبل وجود السيدة جاميسون. وهناك قصة أخرى يتداولها الناس عن زراعتهم لمخدرات الماريجوانا في الغابة، وقيامهم ببيعها، وإخفاء النقود في برطمانات محكمة الغلق من الزجاج مدفونة حول مسكنهم. سمع كلارك بهذه القصة من أشخاص تعرف عليهم في المدينة، ولكنه عقب بأن ذلك ما هو إلا هراء.
Unknown page
وأضاف: «وإلا لكان أحدهم قد تسلل وحفر الأرض وأخرج النقود منذ زمن طويل؛ فلا بد وأن هناك من كان يستطيع أن يجد طريقة تجعله يفصح عن مكان النقود.»
عندما قرأ كل من كارلا وكلارك النعي الخاص علما لأول مرة بأن السيد ليون جاميسون كان قد حصل على جائزة مالية ضخمة قبل وفاته بنحو خمس سنوات؛ نالها عن كتابة الشعر، ولم يذكر أحد شيئا عن هذا مطلقا من قبل. يبدو أن الناس تصدق أن ثمة أموالا مخبأة في برطمانات زجاجية مصدرها تجارة المخدرات، ولا تقتنع بأن النقود يمكن أن تأتي من كتابة الشعر.
بعد الوفاة بفترة قصيرة قال كلارك: «كان من الممكن أن نجعله يدفع لنا بعض النقود.»
أدركت كارلا على الفور ما يرمي إليه، ولكنها أخذت الحديث على محمل المزاح.
وقالت: «لقد فات أوان ذلك، لا يمكنك دفع النقود بعد الوفاة.» «ربما لا يستطيع هو أن يدفع، إنما هي بمقدورها.» «لقد ذهبت إلى اليونان.» «إنها لن تمكث في اليونان إلى الأبد.»
ردت كارلا بهدوء أكثر: «إنها لا تعلم شيئا.» «لم أقل إنها تعلم.» «ليس لديها أدنى فكرة عن الأمر.» «يمكننا معالجة ذلك الأمر.»
ردت كارلا: «لا، لا يمكن ذلك.»
استمر كلارك في حديثه كما لو أنه لا ينصت إليها بالمرة.
فقال: «بإمكاننا أن نقول إننا سنلجأ إلى القضاء؛ فالناس تحصل على النقود من وراء تلك الأمور طوال الوقت.» «كيف تفعل ذلك؟ ليس بإمكانك مقاضاة رجل ميت.» «سأهدد بالذهاب للصحف. شاعر مرموق ذو مكانة، وستتهافت الصحف على هذا الخبر. كل ما علينا أن نهدد بذلك وستنهار على الفور وتستسلم تحت الضغط.»
قالت كارلا: «لا بد وأنك تتخيل، أنت تمزح بالقطع.»
Unknown page
رد كلارك: «لا، لا أمزح في الواقع.»
أخبرته كارلا أنها لا تريد أن تتحدث بشأن هذا الأمر مرة أخرى، فوعدها كلارك بألا يفعل.
ولكنهما تحدثا بالفعل بشأنه في اليوم التالي، بل وفي اليوم الذي يليه ولعدة أيام بعدها. لقد كانت تراوده في بعض الأحيان أفكار وآراء غير قابلة للتطبيق، بل إنها قد تكون غير قانونية على الإطلاق، وكان يعبر عنها بشغف متزايد ثم يطرحها جانبا دون أن تدري ما السبب. لو كانت الأمطار توقفت، أو تحول اليوم إلى مجرد يوم صيفي طبيعي، لتخلى هو عن فكرته كغيرها من الأفكار، لكن ذلك لم يحدث، وظل طوال الشهر الماضي يضرب على نفس الوتر كما لو أن الأمر يتسم بالجدية ومن الممكن تنفيذه على نحو مثالي. وكان السؤال المطروح هو كم من الأموال يمكن أن يطلباها؟ فلو طلبا مبلغا ضئيلا، فقد لا تأخذ السيدة حينها الموضوع مأخذ الجد، وتعتقد أنهما يخدعانها، وفي الوقت نفسه لو كان المبلغ ضخما، فربما تجفل وترفض وتصبح أكثر عنادا.
توقفت كارلا عن قولها بأن الأمر مجرد مزحة، وبدلا من ذلك، أخذت تخبره بأنه لن ينجح؛ لسبب واحد؛ وهو أن الناس يتوقعون أن يكون سلوك الشعراء على هذا النحو؛ لذا فالأمر لن يستحق سداد أي نقود للتغطية على الأمر وإخفائه.
فقال كلارك إنه من الممكن أن ينجح لو نفذ على نحو سليم؛ فكل ما على كارلا أن تفعله هو أن تتصنع الانهيار وتقص على السيدة جاميسون القصة بأكملها، ثم يتحرك كلارك بعدها، كما لو أنه اكتشف الأمر لتوه، ثم بعد ذلك ينفجر غاضبا، ويهدد بأن يخبر العالم كله، بل سيجعل السيدة جاميسون هي التي تعرض النقود. «لقد جرحت؛ إذ تحرش بك ولحق بك الخزي والعار، وتأذيت أنا بدوري وشعرت بالخزي والمهانة لأنك زوجتي. إنها مسألة كرامة واحترام.»
كرر عليها هذا الحديث بهذا الأسلوب مرارا وتكرارا، وحاولت أن تثنيه عن ذلك ولكن بلا جدوى، فقد كان مصرا.
قال: «اتفقنا؟» فردت: «اتفقنا.» •••
كل هذا بسبب ما قد كانت تحكيه له، وهي أشياء لا تستطيع أن تتراجع عنها أو تنكرها الآن. «كان يظهر اهتمامه بي في بعض الأحيان.» «الرجل العجوز؟» «أحيانا كان يدعوني إلى غرفته عندما لا تكون زوجته هناك.» «نعم.» «عندما كانت تذهب للتسوق، ولا تكون الممرضة موجودة أيضا.»
لقد كان ذلك بمثابة إلهام وفكرة جديدة منها، مما أسعده على الفور. «وماذا كنت تفعلين حينها؟ هل كنت تدخلين إليه؟»
تصنعت الخجل وقالت: «في بعض الأحيان.» «هل كان يستدعيك لغرفته إذن يا كارلا؟ ثم ماذا؟» «كنت أذهب لأرى ماذا يريد.» «وماذا كان يريد؟»
Unknown page
كانت كل تلك الأسئلة والإجابات تدور بينهما بهمس، حتى لو لم يكن هناك أحد يسمع، حتى عندما يكونان في أرض أحلامهما البعيدة ... في الفراش. كانت كقصة ما قبل النوم؛ حيث تصبح التفاصيل أكثر أهمية، وبحاجة إلى إضافات في كل مرة، وكل ذلك بإحجام وممانعة يشوبهما الإقناع، وبخجل وضحكات، بل وبذاءة. ولم يكن هو وحده الذي يشعر بالشغف والإثارة والامتنان، بل كانت هي أيضا كذلك؛ كانت حريصة على أن تسعده وتجعله يشعر بالإثارة، وأن تشعر هي نفسها بالإثارة، وكانت تشعر بالامتنان في كل مرة كان ينجح فيها هذا الأمر.
ولكن في جانب من عقلها كان ذلك حقيقيا؛ فقد كانت ترى ذلك العجوز الشهواني، وحركاته المشينة أسفل الملاءة، حيث كان طريح الفراش حقا، ولا يتحدث كثيرا في الغالب، ولكنه كان ماهرا في لغة الإشارة، ويعبر عن رغبته وهو يحاول أن يكزها أو يتلمسها؛ لكي يدفعها أن تشاركه فيما يريده من أفعال وعلاقة حميمية. لقد كان رفضها ضرورة، ولكنه مخيب لآمال كلارك إلى حد ما وبطريقة غريبة.
وبين الحين والآخر تأتي على ذهنها فكرة تحاول قمعها خشية أن تفسد كل شيء؛ فقد كانت تفكر في ذلك الجسد الهزيل الملفوف بالملاءة، وهو تحت تأثير المخدر ويزداد انكماشا كل يوم في فراش المستشفى المستأجر، والذي لم تلمحه سوى مرات قليلة عندما تنسى السيدة جاميسون أو الممرضة إغلاق باب الغرفة، وكانت هي ذاتها لا تقترب منه بما هو أكثر من ذلك.
وفي واقع الأمر، كانت تخشى الذهاب إلى منزل عائلة جاميسون، لكنها كانت بحاجة إلى النقود، وكانت تشعر بالأسف من أجل السيدة جاميسون التي كانت تبدو كما لو كانت ممسوسة أو مرتبكة، كما لو كانت تسير وهي نائمة. ولمرة أو مرتين انفجرت كارلا ضاحكة وفعلت أشياء تافهة لمجرد أن تلطف الأجواء، وهو الشيء الذي تفعله مع أي متدرب جديد يمتطي الحصان لأول مرة ويشعر بالإحراج والخزي بسبب قلة مهاراته، وكانت تفعل نفس الشيء مع كلارك عندما لا تكون حالته المزاجية على ما يرام، ولكن لم يعد الأمر يفلح معه، غير أن قصة السيد جاميسون كانت قد نجحت، بالقطع ودون شك. •••
ليس ثمة وسيلة لتفادي تلك الأوحال المتراكمة في الممر، أو الحشائش الطويلة المغمورة بطول الطريق، أو نباتات الجزر التي أينعت حديثا، ولكن الهواء كان دافئا بدرجة لم تشعر معها بأي برودة. لقد ابتلت ملابسها كما لو أنها كانت بسبب العرق المتساقط منها أو بسبب دموعها التي انسابت على وجهها واختلطت برذاذ المطر. خفت دموعها الآن، ولم تجد شيئا تمسح به أنفها - فلقد تشبعت المناديل الورقية بالمياه - فانحنت نحو الأرض المغطاة بالأوحال وأخرجت ما في أنفها بقوة.
رفعت رأسها وراحت تطلق صفيرا طويلا كالذي اعتادت عليه لتنادي على فلورا وعلى كلارك أيضا. انتظرت بضع دقائق ثم أخذت تنادي باسمها، وراحت تكرر ذلك عدة مرات؛ فتنادي على الاسم وتطلق صفيرها.
ولم ترد عليها فلورا.
وبرغم هذا، كان هناك إحساس بالارتياح لشعورها بأن الألم الذي تشعر به الآن ما هو إلا لفقد فلورا - ربما فقدها للأبد - وذلك مقارنة بالفوضى التي اجتاحتها بشأن موضوع السيدة جاميسون وتعاستها المتأرجحة مع كلارك. على الأقل لم يكن غياب فلورا بسبب غلط اقترفته كارلا. •••
في المنزل، لم يكن هناك ما تفعله سيلفيا سوى أن تفتح النوافذ فحسب، وأن تفكر - بشغف أثار خشيتها دون أن يكون سببا في دهشتها - في موعد مجيء كارلا.
تم التخلص من كل الأدوات التي كان يستعملها في فترة المرض، وتنظيف غرفة النوم الخاصة به هو وسيلفيا - وهي الغرفة التي توفي بها - وترتيبها وكأن شيئا لم يحدث فيها. لقد ساعدت كارلا في كل ذلك، وعاونت بكل طاقتها أثناء تلك الأيام العصيبة ما بين حرق الجثة والسفر إلى اليونان. وقد جمعوا كل قطعة من الملابس التي ارتداها ليون وتلك التي لم يرتدها - بما في ذلك بعض الهدايا التي أهدتها له أخته والتي ما زالت في تغليفها - وحزموها داخل حقيبة السيارة وأعطوها «لمحل بيع الأشياء المستعملة». وحتى أقراص الدواء الخاصة به، وأدوات الحلاقة، وزجاجات المقويات التي لم تفتح، والتي كانت تقيم أوده طيلة الوقت، وعلب مقرمشات السمسم التي كان يتناول منها بالعشرات، وزجاجات الملطف البلاستيكية التي كانت تريح ظهره، وجلد الغنم الذي كان يضطجع عليه؛ فقد جمعت في أكياس القمامة وتم التخلص منها، ولم تحاول كارلا أن تقول أي شيء؛ فلم تقل قط: «ربما يمكن أن يستفيد منها شخص آخر.» أو أن تشير إلى أن هناك صندوقا بأكمله من زجاجات الدواء لم يفتح بعد. وعندما قالت سيلفيا: «ليتني لم آخذ الملابس إلى المدينة، ليتني قمت بإحراقها جميعا في المحرقة.» لم تعبر كارلا عن دهشتها.
Unknown page
ثم قاموا بتنظيف الموقد، وتنظيف الخزانة، وغسلوا كل الجدران والنوافذ. وفي أحد الأيام كانت سيلفيا تجلس في غرفة المعيشة تتصفح رسائل التعزية التي تلقتها (لم يكن هناك وجود لأي مجموعة من الأوراق أو المفكرات، كما هو متوقع في منزل كاتب، أو حتى أعمال غير مكتملة أو مسودات لأعمال مكتوبة. لقد أخبرها منذ بضعة أشهر أنه قد تخلص من كل شيء «ودون أي ندم»).
لقد كان جدار المنزل المائل نحو الجنوب يحوي نوافذ ضخمة. ورفعت سيلفيا بصرها، وأثار دهشتها ضوء الشمس الذي يتخلل الأمطار؛ أو بالأحرى طيف كارلا، بساقيها العاريتين، وذراعيها المكشوفتين، وهي تعتلي سلما، ووجهها الذي يكسوه الحزم مزين بخصلات شعرها الملون بلون الهندباء الذي لم يسمح قصره بعقد جديلة. وكانت كارلا ترش زجاج النوافذ وتلمعه بكل همة ونشاط، وعندما لمحت سيلفيا وهي تنظر إليها توقفت عن ذلك، وراحت تحرك ذراعيها وتمدهما للأمام وترسم تعبيرات مضحكة بوجهها، وأخذتا تضحكان، وقد شعرت سيلفيا بأن موجة الضحك هذه تتدفق من أعماقها وتبعث فيهما بعض المرح. وعادت مرة أخرى تنظر إلى الأوراق التي بين يديها في حين استأنفت كارلا تنظيف الزجاج. وقد قررت سيلفيا أن كل تلك العبارات الرقيقة - سواء أكانت صادقة أو مصطنعة؛ للمدح أو للرثاء - ستلقى نفس مصير جلد الماشية أو مقرمشات السمسم.
وعندما سمعت كارلا وهي تنزل من فوق السلم، وترامى إلى مسامعها وقع الحذاء ذي الرقبة على الأرضية، شعرت فجأة بالخجل. كانت لا تزال جالسة في مكانها وتحني رأسها عندما دخلت كارلا الغرفة ومرت بجانبها وهي في طريقها إلى المطبخ لكي تضع الدلو وقطع القماش بجوار المغسلة، وكانت كارلا لا تتوقف لحظة أثناء عملها؛ فقد كانت سريعة كالعصفور، ولكنها توقفت لتطبع قبلة على رأس سيلفيا المحني، وراحت تتمتم بشيء لنفسها.
ظلت تلك القبلة عالقة في ذهن سيلفيا منذ ذلك الحين، ولم تكن تعني شيئا بعينه، بل مجرد قولها هوني عليك وابتهجي، أو أن الأمر على وشك الانتهاء. لقد كانت تعني أنهما صديقتان وفيتان مرتا بالكثير من الأوقات العصيبة، أو ربما تعني أن الشمس قد أشرقت، وأن كارلا تفكر في الحصول على مكان يلائم خيولها. ومع ذلك، فقد رأتها سيلفيا كبرعم زهرة مشرقة، تنتفش بتلاتها بداخلها بحرارة شديدة أشبه بهبات الحرارة في سن انقطاع الطمث.
وبين الحين والآخر كانت ثمة طالبة صغيرة متميزة ممن يتلقون العلم لديها في محاضرات علم النباتات، وكانت مهارة تلك الطالبة، وتفانيها، وكبرياؤها الشديد واعتزازها بذاتها، أو ربما أيضا ولعها بالعالم الطبيعي يذكرها بنفسها عندما كانت في سنها. ومثل أولئك الفتيات كن يتقربن من سيلفيا في ود وتبجيل؛ طلبا لمزيد من التقرب والحميمية التي لم يكن يتخيلن - في معظم الأحوال - أنهن سيحصلن عليها، وسرعان ما كن يسببن لها الضيق بسبب ذلك.
ولم تكن كارلا تشبه أولئك في شيء، وإن كانت تشبه أحدا في حياة سيلفيا، فسيكون بعض الفتيات اللاتي عرفتهن في مدرستها الثانوية؛ هؤلاء الفتيات اللاتي يتسمن ببعض الذكاء ولسن متقدات الذكاء؛ فتيات يمارسن الرياضة ببساطة ولكن لا يدخلن ساحة المنافسة الشديدة، متفائلات ولسن مسببات للمشاكل مفتقدات للتهذيب. ببساطة سعيدات بطبيعتهن. ••• «في المكان الذي كنت أعيش فيه، في تلك القرية الصغيرة، بل شديدة الصغر، مع اثنتين من صديقاتي القديمات، كانت تقف حافلات السياح من آن لآخر، كما لو أنها ضلت طريقها، ويغادرها السائحون ويتلفتون حولهم وقد غلبتهم الحيرة؛ لأنهم لا يجدون شيئا أو أي أماكن حولهم، فليس ثمة شيء يبتاعونه.»
هكذا تحدثت سيلفيا عن اليونان. وكانت كارلا تجلس على بعد سنتيمترات. وأخيرا كانت تجلس في الغرفة - تلك الغرفة التي طالما امتلأت بأفكار عنها - تلك الفتاة المبهرة، القلقة ذات الأطراف الضخمة؛ وكانت تبتسم بوهن، وتومئ برأسها ببطء .
قالت سيلفيا: «وكنت أنا أيضا أشعر بالحيرة في البداية، كان الطقس شديد الحرارة، ولكن الأمر كان صحيحا بشأن ضوء النهار، لقد كان رائعا بحق، ثم قررت ما يمكن أن أقوم به، ولم تكن هناك سوى بعض الأشياء القليلة البسيطة، ولكنها كانت كافية لملء اليوم؛ فقد كنت أسير مسافة نصف ميل عبر الطريق لشراء القليل من الزيت، ونصف ميل آخر في الطريق المعاكس لشراء الخبز أو النبيذ، وهكذا ينقضي الصباح، ثم أتناول طعام الغداء تحت الأشجار، وبعد ذلك يكون الطقس حارا بدرجة شديدة؛ بحيث لا يكون بمقدورك فعل أي شيء سوى إغلاق مصراع النافذة والاستلقاء على الفراش، وربما القراءة. في البداية تقرئين، ثم تزداد الحرارة فتتوقفين حتى عن فعل ذلك، فلم القراءة؟ وبعد أن ألاحظ أن الظلال امتدت، كنت أنهض لأمارس السباحة.»
قطعت سيلفيا حديثها قائلة: «أوه، كدت أنسى.»
ثم هبت من مكانها وذهبت لكي تحضر الهدية التي جاءت بها من اليونان، والتي لم تنس أمرها على الإطلاق في حقيقة الأمر؛ فلم تكن تريد أن تعطيها لكارلا على الفور، بل أرادت أن يأتي الأمر بصورة طبيعية، وحين كانت تتحدث كانت تفكر مقدما في اللحظة التي يمكن أن تذكر خلالها البحر، والذهاب للسباحة، وأن تقول - كما تقول الآن - لقد ذكرتني السباحة بالهدية؛ لأنها نسخة طبق الأصل من الحصان الذي وجدوه في البحر، وهو مصنوع من البرونز. لقد التقطوه بعد مرور كل هذا الوقت؛ إذ يعود للقرن الثاني قبل الميلاد.
Unknown page
عندما دخلت كارلا، وأخذت تبحث عن عمل تقوم به، قالت لها سيلفيا: «أوه، اجلسي لدقائق، فإنني لم أجد أحدا أتحدث معه منذ أن عدت من اليونان، أرجوك.» جلست كارلا على حافة المقعد، وساقاها منفرجتان بعض الشيء، واتكأت بيديها على ركبتيها، وبدت مكتئبة إلى حد ما. قالت وهي تحاول أن تبدو دمثة: «كيف كانت اليونان؟»
والآن وقفت، ورقائق الورق الشفاف تحيط بالحصان، ولم تكن قد أزالتها عنه تماما.
قالت سيلفيا: «يقال إنه يمثل خيل السباق، وهو يقفز تلك القفزات النهائية، أقصى ما يبذل من جهد في الدقائق الأخيرة من السباق. وكما ترين الصبي الفارس أيضا، يدفع الحصان ليجري بأقصى ما يستطيع من قوة.»
لم تذكر لها أن ذلك الفارس الصغير قد ذكرها بكارلا، ولم تستطع أن تعرف السبب حتى الآن. لقد كان الولد لا يتعدى العاشرة أو الحادية عشرة. ربما قوة ورشاقة الذراع التي تقبض على الزمام، أو تلك التغضنات في جبهته الطفولية، أو ذلك الانهماك والجهد الخالص الذي يشبه بشكل أو بآخر طريقة سيلفيا في تنظيف النوافذ الضخمة في الربيع الماضي، وربما ساقاها القويتان داخل سروالها القصير، وكتفاها العريضتان، وضرباتها القوية فوق الزجاج لتنظيفه، ثم الطريقة التي مدت بها ذراعيها وجسمها على سبيل المزحة، والتي دفعت، بل أجبرت سيلفيا على الضحك.
قالت كارلا، وهي تتفحص بعناية التمثال الأخضر الصغير المصنوع من البرونز: «إنك ترين هذا، أشكرك بشدة.» «على الرحب والسعة، لنحتس القهوة، لقد أعددت بعضا منها. كانت القهوة في اليونان ذات نكهة قوية بعض الشيء، ربما أكثر قوة مما أفضل، ولكن الخبز كان غاية في الروعة، ناهيك عن التين الناضج، لقد كان مدهشا بحق. اجلسي لدقائق أخرى، أرجوك. عليك أن توقفيني عن الاسترسال هكذا. ماذا عن هنا؟ كيف كانت الحياة تسير هنا؟» «لقد كانت تمطر معظم الوقت.»
ردت سيلفيا من خلال المطبخ الذي يقع عند نهاية الغرفة الكبيرة: «أرى هذا، أرى أنها كانت تمطر باستمرار.» قررت وهي تصب القهوة أن تخفي أمر الهدية الأخرى التي أحضرتها، إنها لم تكلفها شيئا (في الواقع كلفها الحصان أكثر مما تتخيل الفتاة)، كانت مجرد صخرة صغيرة جميلة ذات لون أبيض ضارب إلى الوردي التقطتها من الطريق. «هذه لكارلا.» هكذا قالت حينها لصديقتها ماجي التي كانت تسير بجوارها: «أعلم أنه قد يبدو الأمر ساذجا، ولكني أرغب في أن يكون لديها قطعة صغيرة من هذه الأرض.»
كانت قد أخبرت صديقتها ماجي عن كارلا، كما أخبرت أيضا صديقتها الأخرى سورايا، وكيف أن وجود الفتاة قد أصبح يعني الكثير والكثير لها، وأنه ثمة رباط لا يمكن وصفه تولد بينهما، وهو الشيء الذي ساعدها وواساها في الأشهر الفظيعة التي مرت بها خلال الربيع الماضي. «إنه لشيء جميل أن يرى المرء شخصا كهذه؛ شخصا صغير السن يمتلئ صحة وحيوية يأتي إلى المنزل.»
ضحكت كل من ماجي وسورايا بود، إلا أن ضحكاتهما شابها بعض الانزعاج.
قالت سورايا وهي تمد ذراعها البنية الممتلئة في كسل: «هناك دائما مثل هذه الفتاة.» وقالت ماجي: «نتعرض جميعنا لذلك في بعض الأحيان؛ إنه الافتتان بفتاة.»
شعرت سيلفيا بقليل من الغضب بسبب تلك الكلمة: افتتان.
Unknown page
قالت: «ربما يرجع ذلك إلى أنني وليون لم ننجب أطفالا. إنه غباء ... مشاعر أمومة موجهة في غير موضعها.»
تحدثت صديقتاها في الوقت نفسه، وقالتا شيئا ما بطريقتين مختلفتين، مفاده أنه قد يكون حقا من الغباء، ولكنه الحب على أي حال. •••
ولكن الفتاة، بالنسبة إلى سيلفيا اليوم، لا تشبه كارلا التي كانت تتذكرها سيلفيا في أي شيء؛ فلم تعد تغلب عليها تلك الروح المرحة الهادئة، ولم تعد ذلك الشخص الخالي من الهموم الذي لطالما لازمها في اليونان.
لقد كانت بالكاد تهتم بأمر الهدية، وكان يغلب عليها الحزن والكآبة وهي تمد يدها لتأخذ قدح القهوة.
قالت سيلفيا بحماس: «هناك شيء آخر أعتقد أنك كنت ستهوينه بشدة؛ وهو الماعز؛ فالماعز هناك كانت صغيرة الحجم للغاية حتى في تمام نموها. كان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر كان مرقطا، وكانت تقفز حول الصخور كأنها ... كأنها أرواح منتشرة في المكان.» كانت تضحك بطريقة مصطنعة، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك. «لم أكن لتصيبني الدهشة إن وجدت أكاليل الزهور حول قرونها. كيف حال نعجتك الصغيرة؟ لقد نسيت اسمها.»
قالت كارلا: «فلورا.» «فلورا.» «لم يعد لها وجود.» «لم يعد لها وجود؟ هل قمت ببيعها؟» «لقد اختفت ولا نعلم مكانها.» «أوه، إنني جد آسفة، ولكن أما من فرصة لعودتها مرة أخرى؟»
لم تجبها. نظرت سيلفيا مباشرة نحو الفتاة، وهو الشيء الذي لم تكن لتستطيع أن تفعله قبل الآن. وقد رأت عينيها مغرقة بالدموع، وتكسو وجهها بعض البقع، بل إنه في الواقع كان متسخا بعض الشيء، وكانت تعتريها موجة من الحزن الشديد.
لم تفعل شيئا لتتفادى نظرات سيلفيا. ضمت شفتيها، وأغلقت عينيها، وأخذت تهتز في مكانها للأمام وإلى الخلف كما لو أنها تصرخ بصوت مكتوم، وفجأة، ولصدمة سيلفيا، راحت تتأوه وتصرخ بالفعل. أخذت تصرخ وتبكي، وتحاول استنشاق الهواء، وسالت الدموع على خديها، وسالت أنفها، وراحت تتلفت حولها بحثا عن شيء تمسح به وجهها. وهبت سيلفيا من مكانها وأحضرت حفنة من المناديل الورقية.
قالت، وهي تعتقد أنه من الأفضل أن تأخذ الفتاة بين ذراعيها: «لا تقلقي، ستكونين بخير، سيكون كل شيء على ما يرام. تفضلي المناديل.» إلا أنها لم يكن لديها أدنى رغبة في أن تفعل ذلك، وقد يزداد الأمر سوءا إثر ذلك؛ فقد تشعر الفتاة بعدم رغبة سيلفيا في احتضانها، أو أنها انزعجت في الواقع بسبب ذلك الانفعال الصاخب.
وقالت كارلا شيئا، وأخذت تقوله مرارا.
Unknown page
لقد قالت: «مروع، مروع بحق.» «لا عليك، جميعنا نكون بحاجة للبكاء في بعض الأحيان، لا بأس، لا تقلقي.» «إنه أمر مروع.»
ولم تستطع سيلفيا أن تمنع نفسها من الشعور - إبان كل لحظة من لحظات التعاسة التي عبرت عنها كارلا - بأن الفتاة جعلت من نفسها واحدة من أولئك الطالبات الباكيات اللاتي يأتين لمكتب سيلفيا؛ فبعضهن يبكين بسبب الدرجات التي حصلن عليها، ولكن غالبا ما يكون بكاء متصنعا، ويظهرن بعض التشنجات المتكلفة غير المقنعة. أما عندما تكون الدموع حقيقية، وهو نادرا ما يحدث، فيكون بسبب شيء يتعلق بقصة حب، أو بشجار مع الوالدين، أو بسبب حمل إحداهن. «لا يتعلق الأمر بفقدان النعجة، أليس كذلك؟» «لا، لا.»
قالت سيلفيا: «من الأفضل أن أحضر لك كوبا من الماء.»
واستغرقت بعض الوقت لإحضار كوب من الماء البارد، وهي تفكر فيما ينبغي أن تقوله أو تفعله بعد ذلك، وعندما عادت به كانت كارلا قد هدأت بالفعل.
قالت سيلفيا بينما تتجرع كارلا الماء: «والآن، ألست أفضل حالا؟» «نعم.» «الأمر لا يتعلق بالنعجة، فما الخطب إذن؟» «لا أستطيع أن أتحمل أكثر من هذا.»
ما الذي لا تستطيع تحمله؟
واتضح أن الأمر يتعلق بالزوج.
إنه يظهر غضبه منها طوال الوقت، يتصرف كما لو أنه يكرهها. لم تعد تفعل أي شيء سليم، ولم تعد تقول أي شيء. إن الحياة معه ستصيبها بالجنون، بل إنها تعتقد في أحايين كثيرة أنها جنت بالفعل، أو أنه هو الذي فقد عقله في أحيان أخرى. «هل آذاك يا كارلا؟»
لا، إنه لم يؤذها جسديا، ولكنه يبغضها، إنه يحتقرها، إنه لا يحتمل بكاءها، وهي لا تتوقف عن البكاء؛ لأنه يثور في وجهها دائما.
لم تعد تدري ما الذي يمكنها فعله.
Unknown page