Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
13
ولأن الإرادة انطباع فإنه لا يمكن تفسيرها في حد ذاتها، ويمكن تفسيرها وشرحها فقط في حدود مقدماتها وتوابعها، وفي هذا نجد أن الجسم حين يتحرك لاتباع أمر الإرادة، نكون على وعي بهذه الحركة، ولكننا لا ندرك الأثر الفوري أو الطاقة المباشرة التي دفعت إلى هذه الحركة، وليس ثمة شيء أكثر غموضا من هذا الاتحاد بين العقل والجسم والذي يجعل لكل منهما تأثيرا على الآخر، إنها اتحاد ملغز سري، ونحن لا نعرف لماذا تؤثر الإرادة تأثيرا واضحا على اللسان والأصابع فنقول ألفاظا نريد أن نقولها ونمسك بأشياء نريد الإمساك بها، ولا تؤثر إطلاقا على مناطق أخرى من الجسم، كالقلب مثلا، ومن ناحية ثانية، يخبرنا علم التشريح بأن الأثر الفوري المؤدي توا إلى حركة معينة مرادة، ليس الإرادة، بل بين الإرادة وبين الاستجابة لها، حركة عضلات وأعصاب معينة، وربما حركة شيء ما آخر، أكثر دقة، ونحن به أكثر جهلا.
14
على هذا النحو تتشابك الإرادة مع الطبيعة الفيزيقية الخاضعة للقوانين العلمية، أي الخاضعة للحتمية الكونية والعلية الأبدية، وعلى أية حال، فإن الحتمية عند هيوم وزملائه - كما ذكرنا - صارمة في المجال النفسي عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ولكنه راح يؤكد أننا أحرار ومسئولون، وإذا سألناه: كيف نكون أحرارا مسئولين طالما أن الحتمية شاملة؟ لأجاب: بأن الحرية هي التصرف طبقا لما تحدده الإرادة، ولكن ما الإرادة إلا معلول للعلل الحتمية، وهكذا كل تصرفات الإنسان وأفعاله، لتغدو الإرادة مجرد حلقة في السلسلة العلية، وتصرفات الإنسان هي الحلقة التالية، والكل سائر في المسار المحتوم المحدد بالعلل، لكن الحلقة المسماة - عبثا - بالإرادة هي العلة المباشرة للحرية، ولشعورنا بها.
وبهذا فقط يمكن أن نقيم المسئولية الخلقية؛ لأن تلك العلل الحتمية الموجهة للإرادة تكشف عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة.
والأخلاق لا يمكنها أن تستصوب أو تستهجن الفعل ما لم يكشف عن هذا - عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة، أما الأفعال الطائشة الرعناء، التي قد يأتي بها الشخص في وقت أو آخر، فإنها لا تحمل تقييما للشخصية ككل ولا تؤثر عليها، إن اللوم لا ينصب إلا على الأفعال التي تؤدي بنية متعمدة، والفعل لا يجعل الفاعل مجرما ما لم يكن ثمة في ذهنه مبدأ للجريمة جعله يرتكبها بتعمد أو مع سبق الإصرار والترصد، بالتعبير القانوني، وفقط مبدأ الضرورة الشاملة أي العلل المحتمة للسلوك هي التي تقيم هذا وترسي أساسه؛ لأنها تؤكد أن الجريمة علة محتمة للسلوك، فيغدو الفاعل مستحقا فعلا للوم والذم والاستهجان، إن الجريمة متأصلة في طبيعته، ونفس مبدأ الضرورة الحتمية هو الذي يجعل التوبة النصوح تمسح الجريمة، إذا ما انتواها الفاعل، وتعمدها حقا في إعادة تقويمه للأمر.
15
فإذا كانت التوبة صادقة فإنها تكشف عن علة محتمة للسلوك، تجعل الشخص مستحقا فعلا للغفران والتسامح .
وعلى هذا يصل هيوم إلى أن الحتمية ليست تنفي الحرية، وبالتالي لا تعفينا من المسئولية الخلقية، بل إنها أساسها، أوليست الحرية محض الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا للحتمية الكونية، وبالتالي فإن الأحكام التقويمية معبرة عن هذه الضرورة الحتمية التي هي الحقيقة المطلقة، الحرية والمسئولية الخلقية جزء من الحقيقة، صحيح أن هيوم شكاك كبير، إلا أنه أولا وأخيرا تجريبي متطرف، من غلاة القائلين بالحتمية الصارمة، وقد أوضح المدخل مدى هيمنة الحتمية على عصره، عصر الفلسفة الحديثة، وسنجد أن موقفه هذا، وهو موقف زملائه من الحتميين الصارمين الذين أنقذوا الحرية عن طريق الزعم بأنها الشعور بالضرورة والانسياق لها ... سنجد أن هذا الموقف شديد الشبه بالحتمية الرخوة التي سنتحدث عنها في الفقرة القادمة.
والآن، لقد حاول هيوم هذه المحاولة، فقط لكي يتبرأ من وزر إهدار المسئولية الخلقية، فهل نجحت؟ الواقع أن هيوم نفسه قد توقف معلنا عجزه في بعض الأحيان، عن الصعوبات التي تنطوي عليها محاولته.
Unknown page