الإهداء
المدخل
1 - ما الحرية
2 - معضل الحرية في عالم العلم الحتمي
3 - مواجهة المعضل
4 - خطوة فرنسية على الطريق
5 - نظريات الحرية في العالم اللاحتمي
6 - انفراجة المعضل في عالم العلم المعاصر
الخاتمة
المضمون
ثبت المراجع
الإهداء
المدخل
1 - ما الحرية
2 - معضل الحرية في عالم العلم الحتمي
3 - مواجهة المعضل
4 - خطوة فرنسية على الطريق
5 - نظريات الحرية في العالم اللاحتمي
6 - انفراجة المعضل في عالم العلم المعاصر
الخاتمة
المضمون
ثبت المراجع
الحرية الإنسانية والعلم
الحرية الإنسانية والعلم
مشكلة فلسفية
تأليف
يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى زوجي ...
وشلا من غمره.
يمنى طريف الخولي
المدخل
إن المعايشة الحقيقية الحميمة لعالم التفلسف، لا تأتي إلا من خلال معايشة مشكلاته، ذلك أن كل مبحث فلسفي وأية أطروحة للتناول الفلسفي، تسمى مشكلة. إذن فالفلسفة عن بكرة أبيها، ومنذ نشأتها وحتى الآن وإلى أبد الآبدين، لا تعدو أن تكون تفكيرا - اختلفت زواياه وأبعاده ومنظوراته وخلفياته ومناهجه ومسلماته وحصائله - في مجموعة من المشكلات.
فهل من سبيل للتعرف على عالم الفلسفة الخصب الزاخر خير من تناول مشكلة معينة؛ لنرى كيف ولماذا انشغلت بها أعاظم العقول؟ وبما جادت القرائح بشأنها؟
وقد وقع الاختيار على «مشكلة الحرية»؛ لأنها واحدة من أمهات المشكلات الفلسفية الكبرى، وتصلح في حد ذاتها مدخلا لتاريخ الفلسفة بجملتها، ولن نجد فيلسوفا أو حتى مفكرا لم يدل بدلوه فيها، إنها مشكلة عتيقة جدا، بدأ الانشغال بها في رحاب الفلسفة اليونانية - وهي الفلسفة الأم - وحتى الآن، وفي كل عصر وفي كل وضع وحال، كانت دائما تشغل الأذهان، وتستقطب اهتمام الفلاسفة، هي حقا مشكلة عتيقة جدا، ولكن شأنها شأن المشكلات الفلسفية الحقيقية، يزداد ميراثها مع الأيام - أو بالأحرى مع توالي العصور - نضارة ورونقا وبهاء.
على أن حيوية مشكلة الحرية لا تأتي فقط من الدور المحوري الذي احتلته في تاريخ وبنية الفكر الفلسفي، بل تتأتى أصلا من كونها واحدة من مشكلات فلسفية قليلة تحطم جدران الأروقة الأكاديمية التخصصية وتتجاوز أطر البحوث الاحترافية، لتنساب في تيار الحياة الدافق المعيش، وليس من الضروري أن يتسلح الإنسان بوعي عميق وفكر ثاقب ليدرك أن الحرية هي قدس أقداس التجربة الإنسانية، ومن منا - سواء كانت له علاقة بالفلسفة أم لا - لم يلح على ذهنه في لحظة ما التساؤل: هل أنا حر؟
لكن هذا التساؤل يحمل أكثر من مائتي معنى، أجل مائتين! ليس مبالغة ولا تهويلا، بل عدا وحصرا ... إن كان إلى عد وحصر زوايا الوجود الإنساني سبيل، وسوف نرى تفصيلا مدى شمولية مقولة الحرية الإنسانية، وليس يصعب بداءة إدراك تشعبها في كل مناحي الواقع المعاش والعقل الفعال، وكيف أنها قد تكون في هذا المنحى ولا تكون في ذاك، وقد يؤكدها جانب وينفيها آخر، وقد يكون الإنسان حرا هنا وليس حرا هناك.
فكيف لا نجفل من طرح مثل ذلك السؤال الجبار: هل الإنسان حر؟
وما بالنا لو كانت الأطروحة فلسفية! والفلسفة هي النظرة الشمولية الكلية الضامة لسائر كليات وجزئيات الحضارة الإنسانية ومجمل جوانب الوجود الموجود - وغير الموجود أيضا في بعض السبحات الميتافيزيقية.
وفي مقابل كل هذه العمومية الفضفاضة، نجد أن الفلسفة هي فن طرح الأسئلة، أكثر كثيرا من كونها فن الإجابة عنها، إن تحديد المشكلة المطروحة للبحث ليس فاتحة الطريق الفلسفي فحسب، بل أكثر من نصفه، وهي في عرف البعض غايته وكل المراد من الفيلسوف.
لا بد قبلا من وضع الحدود، أجل نروم الإجابة عن السؤال الأزلي الأبدي: هل الإنسان حر؟ ولكن سوف ندخل من أي مدخل؟ وننظر من أي منظور؟ ... وعلى أية أرضية؟ وبأية خلفية؟
بعبارة أخرى لمن سيوجه الفيلسوف هذا السؤال؟ لفقه الدين، أم للفكر الميتافيزيقي، أم للعقل العلمي، أم لرجل السياسة والاقتصاد، أم للقانوني، أم للمنظر الاجتماعي، أم للمربي ... إلخ.
كل هذه وغيرها زوايا مشروعة، بل مفروضة لتناول مشكلة الحرية الإنسانية، وهي في مجملها قد تعالج مجمل الحرية الإنسانية، ولكنها زوايا متضاربة، كائنة في مستويات عدة للتفكير، ونحن نروم - في الحيز المحدود بهذا الكتاب - رحلة فلسفية واضحة المعالم محددة الخطوات، بمنجاة من التيه والتخبط، لا بد من رسم مسار معلوم، نقطة بدء محددة وغاية واضحة. •••
من أجل هذا، سوف نطرح سؤالنا: هل الإنسان حر؟ على العقل العلمي دون سواه، فكيف؟ ولماذا؟ بل وما معنى هذا؟
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة، نلاحظ أننا سواء أخذنا في الاعتبار الطبائع المميزة للفكر المعاصر دون سواه من مراحل الفكر البشري، أو أخذنا في الاعتبار ميراث مشكلة الحرية بصورتها الجذرية - أي الفلسفية الأصيلة، وطبيعتها وماهيتها والمواقع التي استثارتها في تاريخ الفلسفة - سواء أخذنا هذا أو ذاك في الاعتبار، وجدنا أن العوامل العديدة تملي علينا الأخذ بالعقل العلمي ليجيب عن هذا السؤال، كمقدمة مشروعة لكل تناول فلسفي لمشكلة الحرية رام أن يكون معاصرا حقا.
فقد ذكرنا ضمنا أننا سنبحث في الحرية من حيث هي مشكلة فلسفية أصيلة، أي مشكلة جذرية، فليس المقصود حرية الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك، أو هذا الوضع أو ذاك ... لسنا ننشغل الآن بالحرية السياسية دونا عن الاقتصادية، أو حرية الصحافة، أو الحرية الشخصية، أو حرية التصرف في الأموال، أو حرية الفنان ... إلخ.
كل هذه وغيرها حريات جزئية عينية بعدية، والمشكلة الفلسفية الحقيقية هي التي تقف على أبعد الأبعاد البعيدة، وأعمق الجذور التأصيلية، فما هو البعد الجذري التأصيلي لحرية الإنسان، والذي ينبغي أن يكون موضوعا لمشكلة فلسفية حقا؟
الإجابة واضحة، ألا وهي: حرية الإنسان بوصفه موجودا في هذا الوجود، في هذا الكون، قبل أن يكون موجودا في هذا المجتمع أو تلك الجماعة؛ لذلك يمكن أن نسميها «الحرية الأنطولوجية»؛ لأن الأنطولوجيا هي فلسفة الوجود من حيث هو موجود، الوجود ككل.
ولا شك أن الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختصه بالعقل الذي جعله موجودا متفردا ومتميزا عن سائر الموجودات، ولكنه أولا وقبل كل شيء أحد ظواهر هذا الكون، وكائن من كائناته، فيه يمارس أفعاله وأنشطته واختياراته، وطبعا أفعاله التي نريد أن نعرف هل هي حرة أم لا، هي أحداث من جماع الأحداث الكونية، التي تشكل في مجملها الصورة العامة لهذا الوجود.
ولكن، أوليس هذا الكون بكل ما فيه من طبيعة ومن حياة ومن بشر، خاضعا لنظام معين تحكمه قوانين ، فهو لا يجري خبط عشواء، وليس خليطا من أحداث في فوضى وعماء، بل هو «كوزموس
COSMOS » أي كون منتظم؛ فثمة نظام معين وقوانين تجعله على ما هو عليه: عالما منتظما قابلا لأن نمارس فيه تجربة الحياة، بل وأيضا تجربة التعقل والفهم، فنحاول أن نعيه ونفهمه بأساليب منهجية كثيرة، على رأسها بالطبع العلم.
والآن، أوليس الحكم بأن الإنسان من حيث هو إنسان، من حيث هو موجود في هذا الوجود؛ الحكم بأنه حر أم لا، يقتضي مسبقا فهم طبيعة القوانين التي تحكمه، وطبيعة النظام الذي يجعله على ما هو عليه؟ وقد أثبت العلم، بلا جدال، أنه أصدق من يخبرنا عن طبيعة هذا العالم، وطبيعة الترابط بين أحداثه، التي تبدو مشتتة فتجمعها معا قوانين ونظريات العلم البحت، وبعد أن أحرز العلم هذا النجاح والتقدم الذي فاق كل تخيل فضلا عن توقع، وما زال حتى هذه اللحظة وما سيتلوها يفاجئنا بمواصلة نجاحه وتقدمه، وبعد أن احتل العلم الصدارة في مسيرة العرفان، أصبح من العبث الأهوج الإعراض عنه في أية محاولة لفهم طبيعة هذا الكون، وطبيعة مسار أحداثه.
والواقع أن الإعراض عن العلم - إن كان له أن يحدث - لا ينبغي أن يحدث من الفلسفة، إن الفلسفة تنفرد عن سائر الأنشطة العقلية بأنها ملزمة بالاستفادة من كل الحصائل والمنجزات المعرفية، وبأن لها علاقاتها التشابكية التفاعلية التعضونية بكل جوانب الحضارة الإنسانية: الفن، الدين، الأخلاق، السياسة ... إلخ، ولكن علاقتها بالعلم أوثق وأقوى، إنهما معا محاولة العقل لفهم هذا الوجود، كلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، وكلاهما يحمل رسالة للآخر، وكما هو معروف، كانت الفلسفة أم العلوم جميعا، وعنها استقل الأبناء الواحد بعد الآخر، بادئين بالفلك والفيزياء وصولا إلى علوم النفس والاجتماع، وبعد أن أكملت العلوم المختلفة استقلالها ونموها ونضجها، كان أن نشأت «فلسفة العلم» التي جعلت ظاهرة العلم موضوعا لها، وهي أهم فروع الفلسفة المعاصرة، فضلا عن الفلسفات العلمية المختلفة التي تحاول الاستفادة من منجزات العلم في حل المشكلات الفلسفية التقليدية. لقد تغلغل العلم في بنية العصر، فكيف لا يتغلغل في بنية الفلسفة - أقرب الأقربين إليه.
ولعل الالتفات إلى أهمية العلم وما يخبرنا به عن الواقع - خصوصا بالنسبة لكل فكر رام إلى أن يكون معاصرا - لم يكن بحاجة إلى كل هذا، ولكن السؤال الآن هو: كيف؟
كيف سنجعل نسق العلم مدخلا لمعالجة مشكلة الحرية معالجة فلسفية؟ هل سنبحث عن قانون فيزيائي أو تجربة بيولوجية أو نظرية سيكولوجية ... تخبرنا بأن الإنسان حر أو غير حر؟!
كلا طبعا، ما هكذا تكون المشكلات الفلسفية، ولو كان الأمر يمكن أن يعالج بمثل هذه البساطة فلا فلسفة، ولا حاجة إلى متفلسفين.
فكيف إذن؟ وما علاقة نسق العلم الذي هو بناء معرفي خالص بمشكلة فلسفية تتعلق بالوجود الخالص - كمشكلة الحرية الأنطولوجية، أي الحرية الإنسانية من حيث وضعها في الوجود؟
في الإجابة عن هذا نلاحظ أن العلم وإن كان معرفة أو إبستمولوجيا خالصة فإن له دلالة أنطولوجية، من حيث إن الأنطولوجيا نظرية أو مبحث الوجود. بعبارة أخرى، صحيح أن الوجود كائن وموجود في حين أن العلم أساسا بناء معرفي، إلا أنه معرفة بهذا الوجود منصبة عليه ولا شغل لها سواه، العلم معرفة ولكن العالم أو الوجود هو موضوع هذه المعرفة، نعم العلم نشاط إبستمولوجي (معرفي) مهمته وصف العالم، ولكن بماذا يصف العلم العالم؟ هكذا يجعل العلم الإبستمولوجيا تلقي بنا في قلب الأنطولوجيا.
فليس العلم إلا التمثيل المجرد لهذا الوجود، والواقع أن القيمة الأنطولوجية للنظريات وتحقق فروض العلم في الوجود الموجود لهو معلم نجاح العلم الحديث، والمسألة التفات إلى هذا، إلى قيمة العلم الإخبارية عن هذا الوجود، والاستفادة منها في بناء النظرة الأنطولوجية له؛ لنرى هل حرية الإنسان كائنة فيه أم لا.
والآن تغدو المشكلة الفلسفية محددة واضحة المعالم:
نسق العلم بمجمل فروعه: الفلك ثم الفيزياء، ثم الكيمياء ثم البيولوجيا ثم العلوم الإنسانية ... تشكل صورة عقلية أو تمثيلا مجردا لهذا الوجود، لو نظرنا بعيون العلم، لو نظرنا إلى الوجود (الأنطولوجي) من خلال هذا النسق المعرفي (الإبستمولوجي)، هل سنجد الحرية الإنسانية مثبتة أم منفية؟
وطبعا العلم الحديث إنجاز حضاري لا يتجاوز عمره بضعة قرون، والإنسان موجود قبله بزمان سحيق، ثم أبدعه في مرحلة متقدمة، فلو كانت حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة ... فالإنسان حر قبل العالم وبعده، ولو لم يكن هكذا، فإن العلم بداهة لم يخلق الوجود ولا هو خلق الإنسان، وبالتالي، لن يستطيع أن يفعل شيئا مهما أثبت أو أنكر، على هذا يبدو جليا أن المشكلة الفلسفية المطروحة في هذا الكتاب ليست ما إذا كانت الحرية الأنطولوجية كائنة أصلا أم لا، بل السؤال الذي سنجيب عنه محدد جدا: هل حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة في عالم العلوم أم غبر كائنة؟ هل العلم بالذات يقرها أم ينفيها؟ وسوف نرى مدى الخطورة والأهمية الفلسفية؛ لأن تتعارض أو تتوافق الحرية الإنسانية مع العلم بالذات.
وهذا بأن نتجاوز العوامل المعاصرة التي أملت المنظور العالمي دون سواه، وندلف إلى العوامل الآتية من ميراث مشكلة الحرية ... من ماهيتها وطبيعتها، والمواقع التي استثارتها في تاريخ الفلسفة، وهي عوامل أقوى وأسطع تؤدي مباشرة إلى المطلوب، إذ تلقي بنا توا في قلب المشكلة، فتاريخها الحقيقي، بوصفها مشكلة فلسفية فعلا، بل والمشكلة الفلسفية الأولى التي تمثل معضلا عسيرا يقض مضاجع الفلاسفة أجمعين، ويوجه خطا فلسفاتهم ويحدد معالمها ... هذا التاريخ بداية حاسمة للعلم الحديث في القرن السادس عشر.
ذلك أنها - أي مشكلة الحرية الإنسانية في صورتها الأنطولوجية التي اتفقنا على أنها موضوعنا - تتأتى من، وفقط من مبدأ الحتمية
Determinism
الذي ينفيها.
فمنطوق المشكلة كالآتي: إما أن الإنسان حر يمكن أن يمارس اختيارا بين بدائل متاحة أمامه، وإما أن هذا الوجود خاضع لحتمية حددت مساره أزلا وأبدا، فحتمت كل حدث من أحداثه بحيث لا بد وأن يحدث، ويستحيل أن يحدث سواه، فلا بدائل وبالتالي لا اختيار أمام الإنسان الذي يحيا في هذا الوجود.
ولولا افتراض الحتمية هذه لما كان لمشكلة الحرية الأنطولوجية أن تقوم، فضلا عن أن تكون الفلسفة الأولى، ولكنها كانت هكذا لأن مبدأ لم يلعب في تاريخ الفكر البشري دورا يماثل أو حتى يداني الدور الذي لعبه مبدأ الحتمية في تاريخ العلم الحديث (من القرن 16 إلى نهايات القرن 19). •••
بل ولم تكن الحتمية مجرد مبدأ من مبادئ العلم وحسب، إنها سيطرت على النسق العلمي، وعلى عمل العلماء، وتغلغلت في صميم نسيج العلم، بحيث أصبحت اللحمة، وسداها سائر النظريات والفروض ومجمل النشاط العلمي.
فقد أضحت الحتمية ركيزة يرتكز عليها العلم، وفي الوقت نفسه هدفا منشودا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك تجدها أيضا المحك المعتمد طوال الطريق العلمي.
وهذا ما عبر عنه عالم الفسيولوجيا الفرنسي كلود برنار
Claude Bernard (1813-1878) في كتابه «مدخل إلى دراسة الطب التجريبي» (عن الترجمة العربية، ص43 وما بعدها)، قائلا: «أما عن كونه الركيزة، فكما أن الإنسان في حالة المشي الطبيعي للجسم لا يستطيع السير إلا بوضع قدم أمام الأخرى، فإنه كذلك في حالة السير الطبيعي للذهن، لا يستطيع التقدم إلا بوضع فكرة أمام الأخرى، وهذا معناه أنه لا بد للذهن من نقطة ارتكاز أولى، شأنه في هذا شأن الجسم سواء بسواء، ونقطة الارتكاز هذه هي مبدأ الحتمية المطلقة، ولولاها لكان قد قضي على الإنسان وعقله أن يدور في دائرة مفرغة وألا يتعلم شيئا قط.» هكذا آمن العلماء، ولم يكتفوا بأنه الأساس، بل سلموا أيضا بأن الغرض الأول من كل دراسة علمية تجريبية أيا كان موضوعها هو «الوصول إلى الحتمية الشاملة، والتي هي الحقيقة المطلقة»، وبالتالي هدف العلم النهائي، وفي غضون الطريق السائر من ذاك الأساس إلى الهدف المنشود، يظل مبدأ الحتمية هو أيضا المحك التجريبي، فالعلاقات الحتمية هي مقياس الحقيقة المنشودة، والحتمية الشاملة المطلقة التي تخضع لها الظواهر، والتي نشعر بها شعورا قبليا هي المحك الوحيد، أو المبدأ الوحيد الذي يسندنا في وصولنا إلى النظريات العلمية، وفي حكمنا عليها - كما يقول كلود برنار أيضا، في مرجعه المذكور.
إلى كل هذا الحد سلم العلماء تسليم البداهة، بأن مبدأ الحتمية هو المعبر الوحيد المفضي إلى العلم الحقيقي، وبأن إليه وحده يرجع الفضل في كل ما أصابه العلم من تقدم، فسرعان ما جعل التسليم به قوانين العلم تتدفق بسلاسة من نجاح إلى نجاح أعظم ، ومن يقين إلى يقين أدق، ومن عمومية إلى عمومية أشمل.
ومن الناحية الأخرى أكد اطراد الطبيعة البادية أمام أعين العلماء في ذلك العصر، وتواتر صدق قوانين العلم عليها، من خضوع هذه الطبيعة للحتمية الشاملة، تضافرت إذن الأنطولوجيا مع الإبستمولوجيا في تأكيد الحتمية الشاملة، ورفعها فوق أي نقاش أو جدل.
وها هنا نلاحظ أن الخطورة الفلسفية لمبدأ الحتمية العلمية، أتت من التجادل بين كونه أنطولوجيا وإبستمولوجيا (أي وجوديا ومعرفيا) في آن واحد، إنه تصور لطبيعة العلم وطبيعة قوانينه، ولا غرو، فهذا صورة لذلك كما أوضحنا.
أنطولوجيا:
تعني الحتمية أن نظام الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه في أي زمان ولا في أي مكان شيء، فهو ذو علاقات علية (سببية) ضرورية ثابتة، تجعل كل حدث من أحداثه نتيجة ضرورية (معلولا) لما سبق، ومقدمة شرطية (علة) لما سيلحقه، وبالتالي فكل ظاهرة فيه وكل حدث وكل واقعة ... محكومة بشروط تلزم حدوثها اضطرارا، أي خاضعة لقانون محدد، ولا شيء البتة يحدث كمصادفة.
وإبستمولوجيا:
تعني الحتمية عمومية قوانين العلم وثبوتها واطرادها، فلا تخلف ولا اتفاق ولا عرضية ولا استثناء، ولأن كل حدث محتوم وسواه مستحيل، فإن كل تنبؤات العلم يقينية، وهكذا كل قوانينه ونظرياته، يقين في يقين في يقين، واليقين هو التحديد المطلق الجازم الذي لا خطأ فيه ولا احتمال البتة، إنهم يعملون بالرياضيات الإقليدية، فلا يعرفون إلا قيمتي الصدق والكذب ولا وسط بينهما، وصحيح أن الظواهر التي بدت مصادفة وموضع احتمال قد لفتت أنظارهم، حتى إن رجالات ذلك العصر هم مؤسسو الإحصاء وحساب الاحتمال، إلا أنهم فسروه تفسيرا ذاتيا - أي بإرجاعه إلى الذات العارفة وليس موضوع المعرفة، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك العلل الحقيقية، نسبة الاحتمال إذن تعبر عن الجهل فالعلم لا يكون إلا يقينا، وهي مسألة مؤقتة ستضمحل بالتقدم العلمي، لنصل يوما ما إلى اليقين في هذه الظواهر كما وصلنا إليه في سواها، إن اليقين هو التمثيل العيني للعلم بعالم يسير في مسار محتوم.
وقد أصبح يقين العلم - وبالتالي حتميته - مسألة مثبتة حينما أصبح العلم رياضيا، فالرياضيات دائما هي النموذج الأمثل للضرورة ولليقين المطلق، على سطح الأرض وتحته وفي المريخ، وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة ... تظل دائما «2 + 2 = 4» ويظل المثلث شكلا محوطا بثلاثة أضلاع؛ لأن نفي هذا يعني نفي أن المثلث مثلث! وطالما أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة معادلات رياضية، فمعنى ذلك أن الضرورة الرياضية قد تحولت إلى حتمية كونية، ولما أصبحت الرياضيات هي لغة العلم الحديث، اتضح أن الضرورة الحتمية هي نظام العالم.
والواقع أن السمة الرياضية هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي - يمكن أن تختلف بشأنه وجهات النظر - إلى مبدأ علمي صريح، لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.
أما الفارق بين الحتمية العلمية وبين الجبرية الدينية، فيتمثل في العلية (السببية)، وهي المبدأ القائل إن كل حدث لا بد له من علة أحدثته، والعلية مبدأ متوشج في الحس المشترك - أي في تفكير الإنسان العادي - وأيضا في الفكر الفلسفي، ولكنه اتخذ موقع العمود الفقري في العلم الحديث، إن العلم الحتمي هو العلم العلي؛ لأن حتمية الظاهرة لا تعدو أن تكون العلة التي تحدثها، وبالتالي أصبحت مهمة العلم الحديث هي تعليل كل الظواهر، وتحديد علة كل حدث، أما التسليم بحدث بغير علة، فليس يعني إلا إنكار العلم بها، وتتلخص كل قوانين العلم في أحكام علاقة العلة بالمعلول، لتتخذ جميعها الصورة المنطقية: إذا كان ... فإن ... دائما طبعا.
وطالما أن لكل حدث علة أحدثته، وهو بدوره معلول لها، فإن واقع الكون الراهن معلول ضروري لوضعه اللاحق، فتسير أحداث الكون في تسلسل علي، يجعلها أشبه بسلسلة محكمة الحلقات، تفضي كل حلقة إلى - وفقط إلى - لاحقتها، مثلما تنشأ عن - وفقط عن - سابقتها، وبالتالي فالكون نظام مغلق، مساره مرسوم منذ أن تخلقت الحلقة الأولى في السلسلة، إن التسلسل العلي يجعل مجرى الأحداث قد حتمته اللحظة الأولى لهذا الوجود، ومنذ أن تحددت هذه اللحظة، تحددت كل الأحداث التالية، والكون عليه أن يسلك طريقا واحدا لا سواه، طريقا محتوما؛ لهذا لا تعد العلية مجرد عنصر أو بعد من أبعاد الحتمية، بل إنها الحتمية عينها، أو بالكثير الوجه الآخر لها، حتى إن المصطلحين - الحتمية والعلية - كثيرا ما يستعملان كمرادفين.
إن العلية هي التي تؤكد نظام الطبيعة الحتمي واتساقه، وقانون تسلسل الأحداث فيه: فالعلة هي الحدث السابق والمعلول هو الحدث اللاحق، وتؤكد العلية تدفق الزمان في اتجاه واحد لا سواه من الماضي إلى المستقبل، وأيضا ثبات المكان، وبصورة مطلقة أي بالنسبة للجميع مهما اختلفت مواقعهم.
هذان الزمان والمكان المطلقان هما القالب أو الخلفية الأساسية للعلم الحديث، وبالأدق لفيزيائه الكلاسيكية، التي تعد الصلب والهيكل للعلم الحتمي، وللحتمية العلمية، المتعضونين معا، وهذه الخلفية هي تصور للكون كمجرد كتل مادية، أجسام صلبة تتحرك على السطح المستوي عبر الزمان والمكان المطلقين، وقد بلغت الفيزياء الكلاسيكية الذروة بنظرية نيوتن التي تعد بمثابة مراسم التتويج النهائية لفرض الحتمية العلمية.
وطالما أن الكون لا يعدو أن يكون أجساما مادية تتحرك، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، فإن الكون بالتأكيد نظام ميكانيكي، كل تغير فيه مردود إلى حركة الأجسام، وهذه الحركة، كل حركة وأية حركة تحكمها بدقة صارمة قوانين نيوتن، وحين نعرف حالة هذا النظام الميكانيكي في وقت معين، فإن قوانين نيوتن تسمح بحساب حالته في كل الأوقات، تأكيدا لمبدأ العلية الذي يجعل الحالة السابقة علة للحالة الراهنة، تحتمها بالضرورة، هكذا بدت الحتمية أوضح من شمس النهار.
إن هذا التصور الميكانيكي للكون، وقد رفعته نظرية نيوتن على رءوس الأشهاد، هو التمثيل العيني لأنطولوجية الحتمية، والذي جعلنا نمسك عليها بجمع اليدين، والواقع أنه لا حتمية علمية بغير الميكانيكية - أي النظر إلى الكون بكل محتوياته وعناصره وظواهره بوصفه مترتبا في صورة آلة ميكانيكية ضخمة، مغلقة على ذاتها، من مادة واحدة متجانسة، تسير تلقائيا بواسطة عللها الداخلية، وتبعا لقوانينها الخاصة، تفضي كل حالة من حالاته إلى الحالة التالية.
وبعد أن وضع العلماء فرض الأثير، وهو وسط لا نهائي المرونة كثافته أقل من الهواء، افترضوه بوصفه يملأ كل الفراغات في الآلة الميكانيكية العظمى؛ بحيث يحمل الضوء والإشعاعات لتندرج بدورها في التفسير الحتمي الميكانيكي، وبعد أن اكتشفوا أن المادة الحية مؤلفة من الذرات نفسها التي تؤلف المادة الجامدة، وأنها بالتالي تخضع للقوانين نفسها، وتصوروا أن الحياة أيضا ذات طبيعة ميكانيكية، وأن الإنسان لا يعدو أن يكون آلة ميكانيكية حية، والعقل بدوره هكذا ... بعد كل هذا أيقن العلماء أنهم يستحيل أن يفهموا أي شيء بغير أن يصطنعوا له أنموذجا ميكانيكيا، وأن التفسير الوحيد الممكن لهذا الوجود - ككل وكأجزاء - هو التفسير الميكانيكي.
وانتشر في الفلسفة مذهب يعد المتحدث الرسمي باسم هذا العلم الحديث، وهو مذهب «الواحدية المادية» أو «المادية الكلاسيكية»، الذي يؤكد أن الوجود عبارة عن مادة، ولا شيء سوى مادة، تشكلت في صورة آلة ميكانيكية، أما الفكر والعواطف والانفعالات والروح ... وما شابه هذا من كيانات غير مادية، فإما أنها خرافة لا معنى لها، وإما أنها مردودة في النهاية إلى المادة وخاضعة للقوانين الميكانيكية نفسها - العلمية الحتمية.
وجاء في عام 1814 العالم الفرنسي سيمون بيير دو لابلاس
S. p. Laplace (1749-1827) ليصوغ في مقدمة كتابه «مقال فلسفي في الاحتمال» أشهر صياغة للحتمية العلمية، ومؤداها أننا إذا استطعنا أن نجمع معلومات دقيقة عن كل الظروف، لأمكن استنباط الحالة اللاحقة للكون بكل دقة، والعقبة الوحيدة أننا لا نعلم كل الظروف والشروط. فإذا تصورنا عقلا فائقا يعرف كل القوى التي تعمل في الطبيعة، والوضع الراهن لكل مكوناتها - أي يعلم كل تفاصيل الكون، فإنه يستطيع التنبؤ - بمنتهى الدقة - بوضع كل جسيم في كل لحظة، وبكل القوى التي تؤثر عليه، ولن يكون ثمة أي شيء غير يقيني بالنسبة له، سواء ما يختص بحركات أضخم الأجسام أو أصغر الذرات ... فضلا عن الإنسان المحصور بين هذا وذاك. •••
وإذا كان هذا هو عالم العلم والعلماء، فهل يمكن أن يعترفوا بأية حرية للإنسان الذي يحيا فيه؟! أو بأنه يمكن أن يمارس اختيارا بين بدائل؟! أية بدائل تلك؟! إن الحدث محتوم، واحد ووحيد، مهمة العلم تحديده بدقة قاطعة، وتصور بديل للحدث، كان يمكن أن يحدث لو أن الإنسان اختار اختيارا بدلا من آخر - هذا التصور يعني هدم نظام العالم ، النظام الحتمي الميكانيكي، والذي ما كان العلم إلا ليكتشفه. •••
وهي بديهية في غير حاجة إلى الذكر - وإن كنا قد ذكرناها، أعني البديهة القائلة إن هذا الوجود أو هذا العالم كوزموس - أي كون منتظم، فطبعا له نظام، ولكن مشكلتنا - مشكلة الحرية الإنسانية أتت من أن نظاما من نوع معين جدا، من طبيعة خاصة إلى أقصى الحدود، قد سيطر على الأذهان وبوصفه النظام الأوحد الذي يستحيل أن يكون لهذا العالم نظام آخر سواه - وهو ذلك النظام الحتمي الميكانيكي الذي يلقي في روع العلماء الأمل باليقين المنشود، وبالكون الذي يبدو بماضيه ومستقبله كتابا مفتوحا مقروءا، بلا مفاجآت ولا شذوذ - بلا مصادفات تزعزع من رسوخ ويقين ما يتوصلون إليه من قوانين.
ويرىأوجست كونت
A. Conte (1798-1857) أن ثمة أطوارا ثلاثة لا بد وأن تمر بها كل فكرة، في الطور الأول تكون الفكرة لاهوتية مستقاة من التصورات الدينية، ثم تصبح الفكرة فلسفية معتمدة على تأملات العقل الخالص، وفي النهاية تصبح علمية وضعية، ورؤية كونت هذه التي يصر على تطبيقها على كل الأفكار، فيها تعميم مجاف للواقع، هذا فضلا عن أن الأطوار الثلاثة توجد معا في كل عصر، وإن تغلب واحد في عصر ما، ولكن الذي يهمنا الآن أنها رؤية تنطبق انطباقا حرفيا على مبدأ الحتمية.
فالمبدأ معروف منذ بدايات الفكر البشري، وبالتالي كانت مشكلة الحرية الإنسانية مثارة دائما، ولكن في العهود السحيقة - في عصور ما قبل الفلسفة كانت الحتمية فكرة ثيولوجية لاهوتية، ومع نشأة الفكر الفلسفي في القرن السادس قبل الميلاد أصبحت الحتمية فكرة ميتافيزيقية، وظلت هكذا حتى نشأة العلم الحديث، ليغدو المبدأ الحتمي علميا على الأصالة، أو بالأحرى ليغدو العالم حتميا في أقصى صورة للحتمية.
في العصور السابقة على ظهور الفلسفة في بلاد اليونان، كان القدر هو الصورة التي اتخذها مبدأ الحتمية، فعرف الإغريق القدامى هذا المبدأ في صورة القدر القاهر المحتوم، وقد اتخذ معهم اسم «المويرا
MOIRAE »، والمويرا - وهي أصلا ربة القدر في الأساطير الإغريقية - قوة قاهرة تلزم الجميع بالمحتوم مهما فعلوا، إنها تحتم مسار الأحداث بطريقة لا مهرب منها، ومهما بذلت الجهود للحيلولة دون وقوعها، وبسبب عقيدة المويرا اعتقدوا أن الإنسان طوع لقوة خفية ومقدر عليه أن يستغفر من ذنوب هو غير قادر على تجنبها! والمسرح الإغريقي خير ما يبلور هذه الأفكار الميثولوجية (أي الأسطورية) والتي كانت بالنسبة للإغريق أيضا ثيولوجية (دينية)؛ لذلك كانت قمته «مأساة أوديب» تبرز هذه الفكرة بوضوح، حتى إنها إعلان صريح بصرامة الحتمية القدرية، وعبثية أي تصور للحرية الإنسانية، وبالتالي عبثية أي تصور للمسئولية - فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، جوهر المأساة هو القدر المحتوم على أوديب منذ أن ولد، كما تمثله نبوءة العرافين بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، وحاول أبوه بدوره معارضة القدر أو المويرا بأن يتخلص من طفله الرضيع كي لا يقتله - لكن عبثا راحت المحاولة، وكانت لا بد أن تروح عبثا؛ لأن القدر قدر أن يحدث هذا، فلا بد وأن يحدث بالضرورة الحتمية - أو بالمويرا، وإذا التفتنا إلى الوجه الآخر للعملة: الحرية والمسئولية، وجدناه قد فقأ عينيه استغفارا لجريرة كانت محتومة عليه، ولم يكن بمقدوره أن يتجنبها، ومن العبث مساءلته بشأنها لجهله بحقيقة الظروف التي وجد نفسه فيها، وبعد فوات الأوان حيث لا يجدي الندم، بعد أن قتل أباه الملك لايوس وتزوج أمه جوكاستا، والتي انتحرت بدورها استغفارا لجريرة لم تكن هي أيضا مختارة بشأنها ولا قادرة على تجنبها، وبعد أن اتخذت زوجا من زوج، وأنجبت ولدا من ولد.
إن المويرا قانون الضرورة والقدر الحتمي الذي ينظم سير الأحداث كلها، فيقدر لكل نصيبه وما يستحقه، ويحدد مكانه الذي يستحيل أن يتعداه، فلا بد وأن يخضع له كل شيء أو إنسان أو إله، حتى زيوس العظيم نفسه، فكانت المويرا بداية إغريقية لتصور القانون السائد في عالم الطبيعة وعالم البشر، والذي يسري على الكون بجملته - إنها فكرة القانون الطبيعي الحتمي الشامل، والذي اتخذ فيما بعد صورة القانون العلمي.
على ألا يلهينا هذا عن الفارق بين المويرا وبين الحتمية العلمية، وهو الفارق بين الفكر اللاهوتي والفكر العلمي، والمتمثل في أن حتمية المويرا لا بد وأن تحدث مهما كانت الظروف السابقة عليها والمحيطة بها، بل وعلى الرغم من هذه الظروف، في حين أن حتمية القانون العلمي لا تكون إلا بسبب هذه الظروف السابقة والمحيطة، إن المويرا تلقي بحتميتها على المصير الآتي (الغائية) بينما القانون العلمي يلقي بحتميته على العوامل الماضية (العلية)، فالحتمية العلمية ليست بالنسبة لأمر خارق للطبيعة، بل بالنسبة للطبيعة ذاتها وقوانينها الفيزيقية؛ لذلك فالمويرا تحتم الظاهرة بلا شرط ولا قيد، في حين أن الحتمية العلمية هي ذاتها الشرط الضروري لظهور الظاهرة.
والعرب أيضا عرفوا بالطبع فكرة القدر، لغويا يعني القدر: وضع الشيء في مكانه المناسب، وهو اسم للفعل قدر، وقدر: استطاع وحكم، ويعني في النهاية: العلم الإلهي المسبق، وهو أحد الصفات الإلهية، وقد عرفه العرب قبل الإسلام، فاللات، الوثن المشهور الذي ورد في القرآن الكريم هو إله القدر، وكانت عرب الجاهلية تستقسم به في مسائل السفر والاحتكام، بيد أن مفهوم القدر لم يتبلور تبلورا واضحا إلا مع عقول الإسلاميين، ومن القرآن الكريم قد نفهم أن القدر هو الإرادة الإلهية التي تتحقق عبر مشيئة كلية فاعلة في النظم الطبيعية، أو بمعنى: العلم الإلهي السابق للأفعال الإنسانية؛ لذلك فهم بعض الأقدمين أن القدر يعني الحتمية الفيزيقية الممثلة لوحدة النظام الكوني عبر القوانين الأساسية التي تتحكم في الظواهر، والتي هي موضوع العلم الإلهي الشامل، ويرمز إليها باللوح والقلم، على أنه لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإسلام يعني الإيمان بالحتمية، أو أن مبدأ اللاحتمية والذي سنرى رحال العلم في عصرنا هذا ترسو عليه يناقض القرآن الكريم؛ فثمة آيات كريمة تفيد اللاحتمية، منها:
يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (الرعد: 39)، فضلا عن أن الأشاعرة وهم أهل السنة والجماعة، وإمامهم الغزالي حجة الإسلام، والمتصوفة وهم أكثر عباد الله عبودية - أو عبودة حسب مصطلحهم الذي يدل على الدرجة القصوى - قد قالوا بلا حتمية صريحة، وأنكروا الحتمية بشدة؛ لأنها لا تبيح لله جل شأنه أن يعاود تدخله في مسار الأحداث بما ينقض القوانين الحتمية، فضلا عن أن الحتمية الفيزيقية تستلزم إنكار معجزات الأنبياء، وما ورد بشأن أحوال القبور وإحياء الموتى والحياة الآخرة.
والأهم من كل هذا أن آيات القرآن الكريم تتعالى عن أن تفصل القول في مثل هذه الأمور - كالحتمية أو اللاحتمية العلمية - المتروكة للجهد البشري، والخاضعة لمتغيرات العلم الكسبي. •••
والواقع أن ثمة نزوعا سيكولوجيا في الإنسان نحو خضوع الكون لحتمية صارمة، ومنذ فجر الإنسانية وهي تبحث عن الحتمية الشاملة للعالم الذي تحيا فيه؛ نشدانا للطمأنينة والأمان، للراحة وللسكينة، لعالم ليس فيه شذوذات مفاجئة أو طوارئ غادرة، عالم مساره محدد، نركن إلى أنه سيسير كما سار دائما، لا تعكر صفوه مصادفة، أو عارضة غير متوقعة.
وأيضا نشدانا للتبرؤ من المسئولية، فكما ذكرنا - وسنذكر مرارا - الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، وحين يخضع الوجود للحتمية الشاملة فلا مسئولية حقيقية تقع على الإنسان، طالما أنه لا حرية ولا اختيار أمامه فيما يفعل، فهو مجرد قطرة في تيار دافق، يسير وإياه في المسار المحتوم، ومن منا لم يتعز عن كارثة ألمت به، أو مصيبة أصابته أو أصابت واحدا من أحبائه، بأنها قضاء وقدر! وأيضا من منا لم يتبرأ من خطأ ارتكبه بأنه كان قدرا عليه أو أن الظروف دفعته دفعا؟! وهذا هو الجذر الشعوري الانفعالي، الذي طوره الفلاسفة وكسوه برداء العقلانية المهيب، حين جعلوه يتخذ شكل مبدأ الحتمية.
ليس فحسب، بل وأصبح مبدأ الحتمية هو صلب العقلانية بعينها، هو قضها وقضيضها، هو هيكلها وإطارها، لكل من رام فهما نسقيا للطبيعة ... وكان من يشكك فيها مثلا كالمتصوفة أو كالأب نيقولا مالبرانش
N. Malberanch (1638-1715) إنما يقطع الطريق أمام العلم، أمام كل دراسة مجدية لهذا الكون، فطوال عصور الفكر السابقة على القرن العشرين، كانت الحتمية مقولة أساسية وضرورية لدراسة الطبيعة، وللدراسة العلمية إجمالا، وحيث لا حتمية حيث لا استطاعة أمام البشر للتناول العلمي، أو حتى للتفكير العقلاني في الطبيعة، والعالم الذي نحيا فيه، إن أبطال الفكر العلمي في التاريخ هم الذين دانوا بالحتمية حتى النخاع.
ومن الناحية الأخرى، تطلعنا الدراسات التفصيلية الدقيقة لتاريخ الفلاسفة على أن المحاولات القليلة المتناثرة للخلاص من ربقة الحتمية الفيزيقية - باستثناء أبيقور كما سنرى - كانت متعثرة وشبه فاشلة، حتى ولو جاءت من أعاظم الفلاسفة كسقراط وأفلاطون، وأرسطو والإمام الغزالي.
إلى هذا الحد هيمن مبدأ الحتمية على الفكر البشري هيمنة طاغية، ولكن النقطة الحاسمة هي أن الفلسفة استطاعت عقلنته كمقدمة لعلمنته.
وصاحب الخطوة الأولى في هذا الطريق الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس
Democritus (460-360ق.م.) وهو أبو الذرة أو صاحب الفرض الذري بوصفه المادة الخام التي صنع منها هذا الوجود!
ولم تكن فلسفته الذرية إلا تطبيقا دقيقا لمبدأ الحتمية، فالذرات نفسها لا تتغير، وهي في حركة مستمرة لكنها حركة ذاتية تلقائية، بما يمكن أن نسميه الآن القصور الذاتي، ولا تهتز إلا بفعل تصادم مع ذرات أخرى، وبالتقاء الذرات توجد الأشياء، وبانفصالها تفسد، ولكن ما إن بدأت الذرات فثمة قوانين آلية غير قابلة للتبديل، قد حتمت كل حركاتها التاليات؛ لذلك فحالة الكون في كل وضع تعتمد فقط على حالته السابقة، وحاضره يقرر أمر مستقبله، إنها إذن الحتمية العلمية في أعتى صورها.
وقد تبعه فيها زملاؤه الفلاسفة الطبيعيين القبل - سقراطيين، وهم طبيعيون؛ لأن فلاسفة الإغريق في هذه المرحلة السابقة على ظهور سقراط تدور فلسفاتهم حول الطبيعة، في محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي المادة التي صنعت منها الطبيعة؟ وكانت إجابة ديمقريطس - وهي خلاصة أسفرت عنها المناقشات الفلسفية على مدى قرنين من الزمان - أن المادة التي صنعت منها الطبيعة هي الذرة. ومع القرن التاسع عشر كان العلم قد أخذ هذا الفرض الذري من الفلسفة لتبدأ الانطلاقة الجبارة للعلوم الذرية، فهل أدركنا مدى حصافة وثقب نظر التأملات الفلسفية؟!
وصحيح أن الحتمية الفيزيقية تعرضت لشيء من البلبال مع الثالوث الأعظم للفلاسفة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلا أنها عادت لتكتسب قوة وشمولية في العصر الهلينستي - أي العصر التالي لفتوحات الإسكندر وموت أرسطو، وذلك مع المدرسة الرواقية (من القرن الثالث ق.م. إلى القرن السادس م) التي تعد من المعالم البارزة في تاريخ المبدأ الحتمي، فإذا كانت حتمية ديمقريطس أكمل صورة، وستظل هكذا حتى نهاية العصر الوسيط، فإنها محض حتمية فيزيقية - أي منصبة على تصور الطبيعة فقط، خصوصا وأن ديمقريطس أقر بالحرية الإنسانية والمسئولية الخلقية! هذا في مقابل الحتمية السقراطية والأفلاطونية التي كانت معرفية أخلاقية تقتصر على أن المعرفة بالحق والخير تحتم سلوك الإنسان ولا تترك أمامه اختيارا، فمن غير المعقول أن يعرف امرؤ ما هو الخير ويتركه، وأفلتت منها الحتمية الفيزيقية، أما مع أهل الرواق فلأول مرة في التاريخ تصبح الحتمية مبدأ أخلاقيا وفيزيقيا، إبستمولوجيا وأنطولوجيا (معرفيا ووجوديا) في آن واحد، مبدأ جامعا مانعا لمجمل الوجود وما فيه ومن فيه، فلا تفلت من حتمية الرواقيين صغيرة ولا كبيرة، لا في الإنسان ولا في الطبيعة.
أما في العصور الوسطى، فقد كان المبدأ الحتمي قلقا إلى حد ما؛ نظرا لتداخله - تلاقيا وتعارضا - مع الفكر الديني الذي كان مهيمنا على هذه العصور، شرقا وغربا، ونجد أن المعتزلة أقوى من نادى وتمسك بالحتمية، فهم حملة لواء العقلانية في الفكر الإسلامي وأسطع نقاطه المضيئة.
ونأتي للفلسفة الحديثة، عصر سؤدد الحتمية الكونية، حيث اكتسب المبدأ هيله وهيلمانه، وتم اعتماده رسميا واعتباريا وفلسفيا وعلميا بوصفه مبدأ التفكير في الطبيعة والعالم، والنتيجة أن شهد العصر معجزة العلم الحديث - العلم العلي الحتمي.
رينيه ديكارت
R. Descartes (1596-1650) هو أبو الفلسفة الحديثة، وهو الرائد الذي شق الطريق الفلسفي إلى علمنة الحتمية الفيزيقية - أو تبعا لمصطلحاته: علمنة حتمية الجوهر الممتد (المادة) دونا عن حرية الجوهر المفكر (النفس)، ومن بعد ديكارت انطلق الديكارتيون صغارا وكبارا عبر الفلسفة الحديثة أو بالأدق عبر قرنها السابع عشر، مؤرقين بحتمية الجوهر الممتد - العالم الفيزيقي؛ لتنجز الفلسفة مهمتها بشأن هذا المبدأ، ويكتسب نضجه الفلسفي النهائي، إيذانا بانتقاله إلى السمة أو الطور العلمي - كما أوضحت نظرية أوجست كونت.
والذي أكسب المبدأ الحتمي نضجه الفلسفي النهائي هو الفيلسوف الشهير باروخ سبينوزا
B. Spinoza (1632-1677) صاحب أعتى صورة عرفتها الفلسفة لهذا المبدأ.
وفلسفة سبينوزا مراوغة إلى أقصى الحدود، يعطي شكلها ومظهرها نقيضا لما يعطيه مضمونها وجوهرها، فقد لجأ في عرضها إلى أسلوب مخاتل أسماه «المنهج الهندسي»؛ ليبدأ بمسلمات يضع فيها تعريفات لمفاهيم معينة، كالله والحب والجوهر والأزلية ... وهي تعريفات مختلفة تماما عن المعنى المتعارف عليه، ثم لا يرد في السياق إلا الرمز المألوف، الله مثلا، ويفوت الدارس - أو يضنيه أو يعجزه - التخلص من المعنى المتعارف عليه لهذا الرمز، ووضع المعنى الإسبينوزي الخاص جدا في الذهن، فيضيع منه المراد، ولا يفهم شيئا، وينخدع الشعراء والرومانتيكيون وأمثالهم، فيتصوروا أن سبينوزا صوفي متهدج بحب الله.
أما الدراسات العميقة الثاقبة المتأنية، من قبيل دراسات ستيوارت هامبشير وموريس كوهين، وفوير، وجورج إليوت، وفؤاد زكريا ... وآخرين فتدرك أن سبينوزا مادي على الأصالة، أنكر وجود إله مفارق للطبيعة، ولأن الحتمية الصارمة تستلزم بالضرورة أن يكون الكون كلا واحدا مغلقا على ذاته لا ثنائية فيه فضلا عن أية تعددية، فإن الكون الإسبينوزي جوهر واحد أزلي أبدي لا متناه، أحيانا يسميه الله ذرا للرماد في عيون عشيرته اليهودية، ولكن الجوهر الواحد في حقيقته لا يعدو أن يكون مجمل هذا الكون، أحد وجهيه الطبيعة الطابعة (الفكر) والوجه الآخر هو الطبيعة المطبوعة (المادة)، على ألا نتصور أسبقية من أي نوع للطبيعة الطابعة على الطبيعة المطبوعة، الاثنان وجهان لعملة واحدة.
فيأتي سبينوزا في كتابه الأكبر «الأخلاق: مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية» لينص في القضية السابعة من الجزء الثاني على تطابق المعرفة والوجود، فيقول: «نظام وارتباط الأفكار هو ذاته نظام وارتباط الأشياء»، وبالتالي ليس من طبيعة العقل أن يعتبر الأشياء عرضية، فيتمكن سبينوزا من تحقيق واحديته ذات الحتمية الصلبة: كل ما في الأمر طبيعة مادية محكومة بقوانين حتمية هي موضوع الفكر الذي يكشف عنها، أو هي الفكر ذاته، لتغدو الحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية - أي معرفية ووجودية معا.
وحين يقول في القضية الخامسة عشرة من الجزء الأول: «كل شيء يوجد في الله، وليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يفهم بغير الله»، فإنه يعني أن كل ما هو موجود في الوجود (أنطولوجيا) وكل ما هو موضوع للفكر (إبستمولوجيا)، هو تلك الطبيعة الطابعة المطبوعة، وحين يقول في القضية السابعة عشرة: «يعمل الله فقط تبعا لقوانينه الخاصة به، وليس ثمة شيء يمكن أن يجبره.» فإنه يعني أنه ليس في الوجود أية قوانين إلا القوانين التي تحكم حتمية الطبيعة، وحين يقول في القضية التاسعة والعشرين: «طبيعة الأشياء لا تسلم بأي شيء عرضي، بل يتحتم كل شيء بواسطة ضرورة الطبيعة الإلهية للوجود وللعمل بطريقة معينة.» فإن هذا لا يعني إلا صرامة الحتمية، فهو يقول صراحة في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة إنه يفهم الأوامر الإلهية على أنها القوانين الحتمية الكامنة في الطبيعة. وحين يقول في القضية الثلاثين: «العقل يجب أن يعي خصائص وأحوال الله فقط لا غير.» فهذه دعوة صريحة إلى أن يقتصر النشاط العقلي على البحث في العلم الطبيعي الكاشف للقوانين أو المسار الحتمي لهذا الوجود، أو الجوهر الواحد، أو الطبيعة المادية الطابعة المطبوعة، أو «س» أو «ص»، ولا مشاحة في الألفاظ كما يقولون!
وهذه الدعوى إلى الدراسة العلمية الحتمية تشمل كل شيء، حتى العواطف والانفعالات، وكتابه «الأخلاق» يعالجها كما يعالج علم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، ومن هنا كان سبينوزا مبشرا بعلم النفس الحديث، بإخضاع الظواهر السيكولوجية للدراسة العلمية الموضوعية، وهو داعية لعلمنة الدراسات الإنسانية بجملتها: التاريخ والسياسة والاجتماع ... فلا بد من النظر إلى كل أوجه وجوانب الحياة الإنسانية بوصفها خاضعة لنفس قوانين الوجود الحتمية، فتستكمل الطبيعة المادية شموليتها وتستوعب كل الكيانات على الإطلاق، وتغدو الحتمية بدورها هكذا.
على هذا النحو كانت فلسفة سبينوزا مجرد تخطيط لكون حتمي مادي حاو لكل شيء، تحكمه قوانين حتمية صارمة هي موضوع العلم الذي هو النشاط العقلي الوحيد، فأحكمت الحتمية الفلسفية قبضتها على الكون فلا تنفذ من أقطارها أية واقعة من وقائعه، فحق القول إن الفلسفة أنجزت مهمتها بشأن الحتمية؛ ليتسلمها العلم مبدأ ناضجا مخدوما، خليقا بأن يكتسب الشخصية العلمية، بل أن يكتسب العلم منه شخصيته.
إن سبينوزا مواكب لنهضة العلم الحديث، معبر عن الروح العلمية السائدة في عصره، فقد كان مبدأ الحتمية آنذاك هو الأب الروحي الهادي الحادي للعلم، يرسم للعلماء المثل الأعلى الذي يحدد لهم مسار الخطوات.
لذلك نجد العلماء يتكفلون الواحد بعد الآخر، بتحقيق حلم البشرية الأزلي: تصور الكون ككل واحد خاضع لحتمية صارمة، والآن: كآلة ميكانيكية ضخمة، بدأت أولى الخطوات نحو هذا بأولى خطوات العلم الحديث، وهي خطوة علوم الطبيعة: الفلك والفيزياء، ولنلاحظ أن الفيزياء هي الأصل وصاحبة القول الفصل، فهي التي قادت نهضة العلم، وهي أكثر العلوم تقدما، وهي أيضا أكثرها عمومية وتتربع على قمة سلم نسق العلم الإخباري، وكل العلوم الأخرى تليها وتستفيد منها، فلا بد وأن تسلم بمبادئها، على هذا نجد الحتمية العلمية أولا وقبل كل شيء هي الحتمية الفيزيائية، فإذا كانت الفيزياء حتمية - أو لا حتمية، فالعلم كله هكذا.
وقد أصبح العلم الحديث حتميا لأن الفيزياء أصبحت هكذا، وعن طريق خطوات ثلاث، في الأولى بدأ كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543) نهضة العلم حين جعل الشمس بدلا من الأرض مركزا والكواكب تدور حولها، وبفضل تيكو براهه (1536-1601) وكبلر
J. Kepler (1571-1630) وضعت القوانين الرياضية التي تحكم حركة الكواكب، فتغدو هذه الحركة حتمية، وفي الخطوة الثانية تمكن جاليليو
G. Galileo (1564-1642) من صياغة قوانين رياضية تحكم حتمية الحركة على سطح الأرض، أما الخطوة الثالثة فهي ذروة العلم الحتمي؛ إذ تمكن نيوتن (1674-1727) من ضم الحركتين معا - السماوية والأرضية - في نظرية واحدة جمعت الكون بأسره بين فكي قوانينها لتبتلعه ابتلاعا يلقي به في جوف الحتمية، أو في قلب الآلة الميكانيكية؛ وذلك عندما نشر في لندن عام 1687 كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية» الذي يرسم الصورة الرياضية لكون يقوم على الزمان والمكان الثابتين كخلفية مطلقة بالنسبة للجميع، تتحرك فيها كل الأشياء، تبعا لفرض الجاذبية، ثم قوانين نيوتن الثلاثة الشهيرة التي هي أساس الفيزياء الكلاسيكية، وبالتالي هيكل الحتمية العلمية: (1)
كل جسم يظل على حاله - سكونا أو حركة مطردة في خط مستقيم - ما لم يجبره مؤثر خارجي على تغيير حالته، وهذا هو قانون القصور الذاتي. (2)
معدل التغير في العزم «كمية التحرك
Momentum » يتناسب مع القوة المؤثرة على الجسم، ويكون اتجاه العزم نفس اتجاه القوة المؤثرة. (3)
لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
وكان كل شيء في هذا الوجود ، الكوكب في السماء والفقاعة في الهواء ... موج البحر وأديم الأرض، النبتة الصاعدة والحجر الساقط، القذيفة المنطلقة والجبل الراسخ ... كل ما تراه الأعين وتدركه الحواس، لا تراه ولا تدركه إلا وهو خاضع بدقة مطلقة لهذه القوانين المصوغة باللغة الرياضية التي لا تخل ولا تحيد أبدا، فاتضح أن خضوع الكون للحتمية الشاملة قد ثبت نهائيا، وآمن العلماء أن نيوتن وضع النظرية الفيزيائية العامة، فوصل العلم على يديه إلى سدرة المنتهى، واقتصرت جهود الفيزيائيين بعده على تأمين نسقه بدرء أية شبهة لا حتمية عنه.
ومن الناحية الأخرى جاهدت بقية فروع العلم؛ لتظفر هي الأخرى بالسمة الحتمية، علها تحرز ما أحرزته الفيزياء من تقدم، واندرجت سائر علوم المادة الجامدة في النسق الحتمي، وبدا الدور على علوم المادة الحية - البيولوجيا، وبفضل جهود علماء الحياة بمختلف تخصصاتهم، لا سيما كلود برنار وتشارلز داروين، تدثرت ظاهرة الحياة على سطح الأرض بالسمة الحتمية، وتصوروا أن العقل الفائق الذي افترضه لابلاس - في صياغته الشهيرة لمبدأ الحتمية - لو عرف الوضع في أية لحظة، أو حتى في اللحظة التي تخلقت فيها ظاهرة الحياة، وعرف كل العلل والقوانين فسوف يستطيع أن يتنبأ يقينا بكل تفاصيل حالة المجموعات النباتية والحيوانية في أي مكان وزمان، وطبعا حالة الجسم الحي.
وبالتالي انفتح الطريق أمام الدراسة العلمية للإنسان، ونشأ علم النفس بفضل جهود أجيال متعاقبة من علمائه ومؤسسيه، واستطاع تأكيد هذه الحتمية في مجاله الخاص، وبالذات مع مدرستين من مدارسه هما: التحليلية والسلوكية.
وأيضا جاء أوجست كونت (1798-1857) وهو من أتباع الواحدية المادية؛ ليقيم علم الاجتماع على أساس أن الظواهر الاجتماعية شأنها شأن كل ظواهر هذا الوجود، فيزيقية أو عضوية أو سيكولوجية ... إلخ خاضعة لحتمية شاملة، الحاجة إذن ملحة لعلم الاجتماع كي يكتشف القوانين الصارمة لهذه الحتمية.
وانسحب المد الحتمي إلى التاريخ والجغرافيا، فقد كانت الحتمية قرينة العلم وكل دراسة تطمح في الظفر بالسمة العلمية لا بد وأن تتشح بوشاح الحتمية، وأشهر محاولة لعلمنة التاريخ عن طريق الزعم بخضوعه لحتمية صارمة هي محاولة كارل ماركس ، وإن كان ابن خلدون (1332-1406) قد سبقه في هذا بعدة قرون، وحتى الجغرافيا هرولت هي الأخرى لتلحق بركاب المسيرة الحتمية، فراح علماؤها يؤكدون أن الإنسان محض صنيعة لبيئته، أو مجرد نتاج لسطح الأرض، كما تقول العالمة الجغرافية إلين تشرشل سمبل.
هكذا اكتمل التصور الحتمي في عيون العلم، وحتى نهايات القرن التاسع عشر كان العلماء على يقين من أن كل ما يبدو وكأنه لا يؤكد الحتمية، سواء في الدراسات الطبيعية أو الإنسانية، مجرد فراغات سوف تملؤها الجهود العلمية المتواترة، لنظفر يوما ما - ليس بعيدا - بالعلم الكامل: الصورة القاطعة الجامعة المانعة لكون حتمي تماما، آلة ميكانيكية عظمى. •••
لقد تكاتفت أفرع العلم المختلفة لتسد منافذ هذا الوجود أمام الحرية الإنسانية، بكل خفقانها في القلوب وجيشانها في الصدور، أعلنت حتميته أنها غير كائنة في العالم، ثم أطبقت فكيها بشراسة على كل جوانب ممارسة الحياة فيه؛ السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية ... بالطبع فضلا عن الجانبين الفيزيقي والبيولوجي، كان هذا هو الوضع حتى نهايات القرن التاسع عشر.
من هنا كان الميراث التاريخي لمشكلة الحرية الإنسانية يفرض عليها المنظور العلمي، وكان لزاما أن نتعاقد على أن يكون للعلماء حق الحديث أولا، ثم يأتي الفلاسفة ليتفلسفوا بناء على أحاديث العلم والعلماء، بغية أفضل عرض منهجي للمشكلة، خصوصا وأنها ذات أبعاد بعيدة، أبعد من كل ما قد يبدو للنظرة العابرة، فهذا التناقض بين العلم بحتميته والإنسان بحريته - كما سنرى - صنع واحدا من أخطر بؤر التفلسف في تاريخ الفكر، وإحدى نقاط التحول فيه.
ولكن أين هي تلك الحرية التي ما زلنا وسنزال دائما نبحث عنها، ما دام مبدأ الحتمية قد بلغ في عالم العلم كل هذا الشأن العظيم؟! •••
الواقع أن مبدأ الحتمية العلمية هذا وتفسيره الميكانيكي للكون - وبغض النظر عن جذوره السيكولوجية - ليس إلا فرضا كان العقل البشري في حاجة ماسة إليه؛ كي يرسم له طريقا آمنا وأطرا مطمئنة لمحاولة فهم العالم، إنه يرسم صورة أنطولوجية لعالم مثالي كموضوع للعلم.
أما من الناحية الإبستمولوجية - والعلم أصلا نشاط إبستمولوجي والدلالة الأنطولوجية فرع - فلنتذكر أن اليقين هو الوجه الإبستمولوجي الصريح لمبدأ الحتمية، ومن هنا نجد أن العوامل الحضارية هي التي دفعت العلم دفعا إلى أحضان الحتمية، فقد ظل العلم التجريبي نشاطا ذاويا، ينمو على استحياء وبخطا وئيدة جدا، حتى كان أفول العصور الوسطى وإشراقة العصر الحديث، ومع القرن السادس تفجر نجاح العلم وبدأ يفرض نفسه، ولكن السلطة كانت لا تزال في يد الكنيسة، والسجال العنيف بل الدامي بينهما على أشده، ولكن ينتزع العلم السلطة من الكنيسة - ذات اليقين المطلق طبعا - ولم يرض مطلقا أن يبدو أقل شأنا، وأصر على أنه هو الآخر يأتينا باليقين المطلق، أوليس عالمه محض آلة ميكانيكية؟! فارتبط نجاح العلم بالثقة المفرطة غير النقدية في نتائجه حتى ساد الاعتقاد أن لديه الإجابة القاطعة على كل سؤال والحل الناجع لكل مشكلة، وكما يوضح هانز ريشنباخ في كتابه «نشأة الفلسفة العلمية» (عن الترجمة العربية ص44 وما بعدها) حيث يقول: «بلغ هذا مع القرن الثامن عشر حدا جعل العلم يضطلع بوظيفة اجتماعية هي أصلا من مهام الدين والمقصود وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى، فلا غرو أن يصبح الله في عصر التنوير أشبه بعالم رياضي جبار يعرف كل شيء، طالما أن لديه استبصارا كاملا بالقوانين، ويصبح العالم أشبه بإله صغير ينبغي أن تقبل تعاليمه بوصفها يقينية مطلقة، بمنأى عن كل شك.» ولله في خلقه شئون!
والواقع أن اليقين هذا ليس ذا علاقة حقيقية بالعلم؛ لأنه أي اليقين مجرد حالة سيكولوجية تقوم على اطمئنان النفس تجاه القضية المعطاة، وعادة ما يرجعها علماء النفس إلى الرغبة في العود لعهود الطفولة التي لا يعكر صفوها شك بفضل الثقة في حكمة الوالدين، وكما أوضح الفيلسوف التحليلي الرائد لودفيج فتجنشتين
L. Wittgenstein (1889-1951) بعباراته الصاروخية الموجزة، فإن الفارق بين مفهوم «يعرف» ومفهوم «يكون متيقنا» ليست له أية أهمية إطلاقا، ولا حتى في مقتضيات الحياة العلمية كالشهادة أمام المحاكم، هذا ما لم يكن مفهوم «أنا أعرف» مقصودا ليعني «أنا لا يمكن أن أكون على خطأ!» ومن ذا الذي يعد نفسه معصوما من أي خطأ؟! إنه على أية حال، مسألة شخصية ذاتية لا موضوعية فيها، ناهيك عن موضوعية العلم المثلي.
موضوعية العلم تحول بينه وبين أي زعم باليقين، وهذا يجعلنا أقل غرورا ويجذب انتباهنا إلى حقيقة عظمى مؤداها أن نتائج العلم تصوب نفسها باستمرار؛ لذا يواصل العلم تقدمه، يقين العلم ليس في أية نتيجة معينة، بل في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن دائما تصويبها، وفي القرن العشرين، اتضح أن كل قوانين العلم، مهما كانت ناجحة ونافذة وبارعة، هي فقط احتمالية أي قابلة للتعديل، وهذا يعني إمكانية الوصول إلى قانون أنجح وأنفذ وأبرع، هكذا يجعل الاحتمال طريق العلم مفتوحا للأبد، ويجعل البحث العلمي محتاجا دائما إلى المزيد من العمل الدءوب ومن الجهود الخلاقة، فلا يقين نتوقف عنده ونركن إليه، اللهم إلا إذا أردنا التخلي عن ميراث النهضة العلمية، والعودة إلى القواقع الأرسطية، وهذا هو المحال.
ولأن الفلسفة مهمتها النقد والاختبار، فيمكنها وضع الإصبع على زيف اليقين داخل حدود العصر الحتمي ذاته الذي استمر حتى مطالع القرن العشرين، أولم تكن قمته وإكليله نظرية نيوتن، النموذج الأمثل على يقين العلم الحتمي، وهي من الناحية المنطقية ليست يقينية، بل فقط صادقة؛ لأنها تعطينا أفضل تفسير للظواهر الفيزيائية، ولكن ليس ثمة برهان على أنه لا يوجد فرض آخر يعطينا تفسيرا أفضل وأدق، وهذا الاحتمال تحقق مع نظرية النسبية، ومن الناحية الأخرى يوجد دائما الاحتمال لأن نجد ظواهر لا تتسق معها، وقد وجدناها بالفعل في عالم الذرة. المنهج العلمي لا يمكن أبدا أن يستبعد مقدما أية واقعة مهما كانت غير مألوفة لنا، ولا أن يمنعنا من اكتشاف وقائع جديدة، حتى ولو ناقضت أرسخ نظرياتنا القديمة.
والخلاصة أن الواقع التجريبي يستحيل أن يكون موضوعا لأي يقين، والمعرفة اللاإلهية خاضعة دوما للايقينيات المستقبل، فقد تظهر كيانات وعلاقات جديدة، وافتراض اليقين - أي الإمساك بالحقيقة المطلقة يوصد الباب أمام تقدم العلم، وهو لن يوصد أبدا، ويضع صك الختام على حدوده الراهنة، وهو لن يوضع أبدا، وليس يحط من شأن نظرية نيوتن العظيمة أنها ليست يقينية؛ لأن اليقين ليس ذا دور في ميدان العلم، بل إن أخذه مأخذا جادا هو الخطر الوبيل على تقدم العلم ذاته، إن الواقع والمثال يفرضان اعتبار اليقين المعرفي محض وثن زائف، يتعلق به ذهن الإنسان؛ لأنه يعطيه راحة زائفة، وإنها راحة حرام ... حرام ... حرام على أهل العلم.
ومع هذا تشبث العلماء طوال العصور الحديثة بوهم اليقين العلمي، عين تشبثهم الأهوج بالمبدأ الحتمي؛ نظرا للعوامل الحضارية التي صاحبت مطالع العصور الحديثة ونشأة العلم الحديث ... العوامل التي تتلخص - كما ذكرنا - في الصراع الذي كان بين العلم والكنيسة.
والحقيقة المسلم بها الآن بعد انقضاء ذلك العصر بحيثياته، أن العلم يختلف عن الدين اختلافا جذريا في أنه لا يتعامل مع أية يقينيات مطلقة؛ لذلك التزم كل منهما مكانه في البنية الحضارية، ولم يعد من المراد ولا من المجدي ولا من المعقول أن يتطاول العلم على الدين، ونخلص من هذا إلى أن الحتمية العلمية مجرد افتراض عشوائي دفعت إليه متغيرات وظروف حضارية معينة، مقصورة فقط على مرحلة العلم الحديث.
وأبسط ما يقال في هذا الصدد إن الحتمية مبدأ يستحيل إثباته ببرهان، فهو ليس قضية رياضية أو منطقية نثبتها ببرهان عقلي صرف، فله مضمون إخباري، أي يخبرنا بشيء عن هذا العالم، وبالتالي يكون إثباته تجريبيا، أي بالالتجاء إلى التجربة لنرى هل تثبته أم تنقضه، ومن الواضح أن التفكير في البرهنة التجريبية على مبدأ الحتمية - بكل عموميته الهائلة - عبث، فكيف يمكن استشهاد الوقائع على أنها جميعا مترابطة في تسلسل علي، يجعلها ناجمة حتما عن الواقعة الأولى أو حالة الكون في اللحظة الأولى؟! إن هذا يقتضي فحص كل الوقائع ومنذ بدء الخليقة وحتى قيام القيامة! وإذا افترضنا جدلا أننا فعلنا هذا المستحيل، فمن أدرانا أنها جميعا كانت محتومة؟! كل ما سنعلمه أنها هي التي حدثت ولن نلقى أية بينة على أنه كان مستحيلا أن يحدث سواها.
فهل يمكن التذرع بالسمة العلمية للحتمية؟ كلا! فكما أوضح جون كيمني في كتابه «الفيلسوف والعلم» (عن الترجمة العربية ص271 وما بعدها) الحتمية هنا ستستند إلى أن وقائع الكون يوجهها القانون الذي يتوصل إليه العلم، وهذا يعني أن القوانين العلمية تحدد الحوادث، بل تحتم وقوعها، وكأنها تملك قوة ملزمة تجعلها لا بد وأن تطاع حين تأمر! المسألة إذن تشخيص للقانون العلمي وتمثيله بإله أو إنسان ذي قوة وسلطان! وهذا طبعا نزوع ساذج بدائي ومتخلف، مرفوض في أي تفكير عقلاني، فما بالنا بالتفكير العلمي؟! إن القانون العلمي - بداهة - لا يلزم الطبيعة بشيء؛ لأنه يعنى بما يحدث فعلا، لا بما يجب أن يحدث، ولما كانت القوانين العلمية تقتصر على وصف الوقائع فقط، فإن الكون بالتالي يغدو محددا، وينطبق هذا - كما يقول كيمني - على جميع الأكوان التي قد تخطر لنا، سواء افترضنا أنها حتمية أو لا حتمية.
ولم يكن منتظر أن يجدي التذرع بالسمة العلمية؛ لأن الحتمية - كما يمكن أن نستنبط من التحليلات التاريخية السابقة - محض صورة متعلمنة لحلم ميتافيزيقي قديم، يتوق لإضفاء رونق الواحدية على هذا الكون المتكثر الفوضوي، لننظر إليه ككل، فلا فردية ولا انعزال فيه، ومن ثم لا تكثر ولا تعدد، أينع حلم الواحدية لأنها تعني اتحاد وتناغم الغايات الإنسانية، وتجعلها مرتبطة معا أو على الأقل غير متعارضة، وكما يوضح إزايا برلين، هذا يفضي إلى نتيجة مؤداها أن إدراك النموذج الذي تشكله هذه الأشياء يجب أن يكون الغاية الحقيقية الوحيدة لكل الأنشطة العقلية، وعلى رأسها بالطبع العلم الساعي إلى الأنموذج الميكانيكي، وفي مقابل واحدية الحتمية، نجد أن التعددية - أي النظر إلى الكون على أنه مكون من وقائع عديدة - هي ما تفرضه النظرة العلمية الخالصة.
أما عن الوجه الآخر للحتمية العلمية - أي العلية، فإنها مثلها بلا بينة ولا برهان، وهي من أضخم الأوثان في تاريخ الفلسفة، لكن أوهاها، ومنذ قرون عديدة كان الإمام الغزالي (450-505ه/1118-1162م) وبعده الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776) قد أثار تساؤلا لم تلق إجابة عليه، وهو: من أين أتينا بالعلية؟ إن كل ما نراه تعاقبا بين أحداث، بين النار والاحتراق ... بين الأكل والشبع ... إلخ، ولسنا نرى كيانا ثالثا اسمه العلية - يحتم الثاني عن الأول، على هذا انتهى هيوم إلى رد العلية لمجرد نزوع سيكولوجي، عادة تجعل الإنسان يفترضها بين كل حدثين لاحظ اقترانهما.
ورب قائل: لماذا يقترنان دائما؟ لا إجابة إلا بأن العلية تربط بينهما؟ ولماذا نفترض أن العلية تربط بينهما؟ لأنهما يقترنان دائما؟ ... هذا الدوران المنطقي - أي إثبات الواحدة من القضيتين بالأخرى، فتظل كل منهما تنقلك إلى الأخرى في دائرة مغلقة - هذا الدوران القائم بين عنصرين من عناصر الحتمية العلمية هما العلية والاطراد «الاطراد = الطبيعة مطردة تسير على وتيرة واحدة ما يقترن اليوم لا بد وأن يقترن غدا وبعد غد وإلى الأبد»، يفصح عن الخلل في المبدأ الحتمي، وهو من أشهر الدورانات المنطقية في الفكر الفلسفي.
أما بالنسبة للعلم البحت، فقد انتهت التحليلات المعاصرة إلى أن العلية لم يكن لها أي دور في العلم، وأمامنا مثلا عالم الفيزياء الكبير وفيلسوف العلم هنري مارجينو، يحمل كتابه العميق «طبيعة الواقع الفيزيائي» (
The Nature of Physical Reality، p. 389-395 ) إثباتا لأن العلية بالنسبة للعلم عبث بلا جدوى! فليس أمامنا علل ومعلولات، أي أحداث سابقة ذات قوة خالقة موجدة لأحداث لاحقة، أمامنا فقط ظروف ملائمة للحدث، كأن يكون السل علة لموت شخص، أو جذب الشمس علة لحركة الأرض في مدار أهليلجي، أو أن النحات علة للتمثال، أو أن المثلث علة حقيقة مؤداها أن مجموع زواياه 180، وهذه أمثلة جامعة لشتى ضروب العلية العلمية، أو بالأحرى ما نتصوره علية، بينما هي في حقيقة الأمر تفسيرات وليست تعليلات، فكما أوضح وايتهد، ليس للطبيعة الميتة أن تقدم عللا!
ويسهب مارجينو في كتابه المذكور، بشأن المشكلات التي يثيرها اقتحام العلية في العلم، وينتهي إلى أن هذه المشكلات تتبخر ببساطة، إذا ما نفينا عن العلية أية حتمية! •••
ولكن هل يمكن تقبل هذا وسؤدد الحتمية قد أتى ببرهان دامغ هو تقدم العلم على مدى قرون أربعة من الزمان، وبلوغه الذروة بنظرية نيوتن التي أكدت الحتمية من حيث أكدت التفسير الميكانيكي للكون؟ ألم نر تواتر نشأة وتقدم بقية أفرع العلم على قدر ما استطاعت الامتثال للمثال الحتمي؟!
في هذا يمكن اقتباس فقرة من س. دي. برود في كتابه «علم الأخلاق وتاريخ الفلسفة» (
Ethics and History of Philosophy، p. 167 ) يقول فيها: «الدرس الرئيسي الذي ينبغي أن نتعلمه هو: في مراحل معينة من تطور المعرفة البشرية، قد يكون مربحا وأساسيا لأجيال من العلماء، أن يعملوا على أساس من نظرية قد تكون من الناحية الفلسفية محض مهزلة، ونجاح الإجراءات قد يعمي البشر قرونا طويلة عن حقيقة مؤداها أن افتراضهم يستحيل تصديقه إذا أخذناه على أنه كل الحقيقة، وليس شيئا إلا الحقيقة.» •••
فبعد كل ذلك السلطان، والهيل والهيلمان، الذي حازه المبدأ الحتمي في عالم العلم والعلماء، يواصل العلم تقدمه ليسحق معبودته الأثيرة - الحتمية ذاتها، ويمزق سذاجة السلسلة العلية الأبدية لتتناثر أشلاء وحطاما، ويغدو التصور الميكانيكي أنقاضا فوق أنقاض.
فقد فجر العلم المعاصر في القرن العشرين ثورته العظمى القائمة على الكوانتم والنسبية، وأحكم قبضته على العالم الأصغر أي عالم الذرة وما دون الذرة (الميكروكوزم) بفضل الكوانتم، وعلى العالم الأكبر (الماكروكوزم) بفضل النسبية، وعلى الاثنين معا بوصفهما عالما واحدا بفضل النسبية أيضا، كانت الكوانتم خروجا من العالم الحتمي، أما النظرية النسبية فهي تحطيم للعالم الحتمي ... تقويض للتصور الميكانيكي للكون ذي الثوابت المطلقة.
ثورة العلم المعاصر إذن أطاحت بالحتمية، فأثبتت أنه بلغ من العمر رشدا وقادر على الاستقلال، كان العلم الحديث - من القرن 16 حتى نهاية القرن 19 - مراهقا يشق طريق النمو والنضج، فكان في حاجة إلى راع وجده في مبدأ الحتمية، ولكن المبدأ أدى دوره، واستنفد مقومات وجوده، ثم أصبح يخلق المشاكل للعلم ويعرقل انطلاقته لمرحلة أبعد، ولمواصلة طريق التقدم.
يجمل عالم الطبيعة النووية فيتالي ريدنيك الموقف، في كتابه «ألف باء ميكانيكا الكوانتم» (
A, B, C, of Quantum Mechanism, p. 15 )، كالآتي: «مع نهايات القرن التاسع عشر أضحت الميكانيكا النيوتونية في موقف متأزم، وشيئا فشيئا اتضح أن تلك الأزمة تعني سقوط الحتمية الكونية التي تسمى علميا مبدأ الحتمية الميكانيكية، ولم يعد الكون بسيطا إلى هذا الحد ولا باقيا على حالة إلى الأبد، فلم تجلب ميكانيكا الكوانتم معها عرفانا جديدا فحسب، بل أعطتنا تفسيرا لظواهر العالم مختلفا اختلافا جذريا، ولأول مرة يعترف العلماء اعترافا كاملا بالمصادفة، ربما كان علينا أن ننحي باللائمة على الفيزيائيين لأنهم وقفوا موقفا حياديا، ولكن كان عليهم فقط أن يتخلوا تماما عن فكرة الحتمية الأبدية التي ابتدعوها بأنفسهم، فقد ظنوا أن مثل هذه الحتمية إن هي انسحقت فإن الفوضى المطلقة ستحكم الكون، ولن تعود الأشياء تطيع القوانين الدقيقة، ومضى ردح من الزمن قبل أن يجد الفيزيائيون مخرجهم من الأزمة.» وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، تمكن العلماء من التحرر التام من وثن الحتمية، ورفع لواء اللاحتمية.
فليست أزمة العالم تلك - التي تخلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - إلا عجز التصور الحتمي الميكانيكي عن استيعاب قوانين وظواهر جدت، فقد كانت فيزياء نيوتن تتعامل مع الكتل الماردة المكونة للعالم الأكبر البادي أمام الخبرة العادية، أي الحس المشترك النازع إلى الحتمية. ومع مطالع القرن العشرين كان العلم قد اقتحم بنجاح مظفر العالم الأصغر ... العالم الذري الذي ضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بالحتمية، واستعصى تماما على قوانين نيوتن، فلا تجرؤ على الاقتراب منه، ولتقتصر فقط على الكتل الضخمة، ولنعلم أن ما بدا معها من حتمية أتى من سطحية النظرة لما يقع مباشرة في الحواس، بينما الحقيقة الرابضة في أعماق المادة، حقيقة الذرات التي هي لبنات هذا الوجود تكشف عن خطأ كل ادعاء بالحتمية الميكانيكية والعلية والضرورة والعمومية المطلقة واطراد الطبيعة ... إلى آخر عناصر المبدأ الحتمي كما رأيناه.
بدأت الأزمة بعلم الديناميكا الحرارية (ظواهر الحرارة)، فهي لا تسمح باستخدام الرياضة الإقليدية، وترفض التحديد الفردي الميكانيكي وتستلزم الإحصاء وتطرح تنبؤات لا يقينية بل احتمالية، لا لعجز الإنسان عن إدراك كافة العلل، وإنما لاتفاق الإحصاء مع طبيعتها الاحتمالية، إن الاحتمالية هي النقض الصريح للحتمية، وبالتالي هي الوجه الإبستمولوجي الصريح للاحتمية، وكما رأينا، كان الحتميون يلوون عنق كل احتمال بواسطة تفسيره تفسيرا ذاتيا، أي إرجاعه إلى الذات، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك كافة العلل، ولكن الديناميكا الحرارية حملت إلى أعطاف الفيزياء أول اقتحام للاحتمال الموضوعي الراجع لطبيعة الموضوع لا لعجز الذات، وبالتالي أول تخل عن الحتمية، وتوطد هذا أكثر بدراسة حركة الغازات، والحركة الدائمة لجزيئات السوائل المسماة بالحركة البراونية «نسبة إلى مكتشفها روبرت براون» والتي تزيد بالحرارة حتى تعطي ظاهرة الغليان، وكلتا الحركتين مجهرية لا تراها العين المجردة، إنهما أول براهين مباشرة على الوجود الحقيقي للذرات.
ثم كانت الذرة ونشاطها الإشعاعي ليحررا العقل العلمي نهائيا من وهم الحتمية، لا سيما بعدما انضاف إليهما الكوانتم (الكم) في 17 ديسمبر عام 1900، على يد العالم الألماني الفذ ماكس بلانك، فقد حاول أن يضع حلا لمأزق نجم عن إشعاع الأجسام السوداء حين يتوغل في المنطقة فوق البنفسجية فيخرق القوانين المعمول بها «قانون رايلي/جينز»، فاقترح بلانك الكوانتم بوصفه ذرة الطاقة أو وحدتها الأولية، وأحكم العلاقة بين الطاقة والتردد عن طريق معامل تناسب معجز اتضح أنه ثابت في جميع أنواع الطاقة؛ لذا يعرف بثابت بلانك أو كوانتم (كم) الفعل.
كان الكوانتم هو المنعطف الجذري - بألف ولام التعريف أي المفرد العلم - في دنيا العلم، حقا أنه محض نظرية عن الطبيعة الفيزيائية للإشعاع، ولكن ما أدراك ما الإشعاع! لقد تفاقم أمره حتى استحال الكون بأسره، بما في ذلك كتل نيوتن الصلبة، إلى مجموعة من الإشعاعات، كل شعاع منها تملك زمامه نظرية الكوانتم تلك، فأصبحت الفيزياء الذرية هي فيزياء الكوانتم، الذرة والإشعاع والكوانتم هي الكيانات الأساسية التي يتكون منها عالم الفيزياء الذرية، المنبثق من قلب عالم نيوتن، ليتمرد على تفسيره الميكانيكي وليتحدى بصلابة قوانينه اليقينية ويفرض الاحتمال فرضا مهما عزت علينا الحتمية.
وتوالت جهود صناديد العلم، فاقتحم الكوانتم الميكانيكا الإحصائية ليحل مشاكل مستعصية، وطرح نيلز بور نظريته في الذرة تربط بين أنموذجها التقليدي عند رذرفورد وبين كوانتم الطاقة عند بلانك، ووضع مبدأه المعروف باسم مبدأ التكامل
Complementarity
بين مفهومي الذرة والإشعاع، وكان آينشتين قد قام بأعظم توسيع للكوانتم حين طبقه في دراسة الظاهرة الكهروضوئية، فتوصل إلى الفوتون، والفوتون هو الجسيم في كل إشعاع، ومعنى هذا عود إلى النظرية الجسيمية وخروج عن النظرية الموجية التي كانت الفيزياء الحتمية قد اعتمدتها، لتفسير طبيعة الضوء. فتقدم لويس دي بروي
L. De Broglie
مؤسس علم الميكانيكا الموجية في رسالته للدكتوراه عام 1917 لإعلان أن الضوء مكون من جسيمات ومن موجات معا، وبلغت به الجرأة حد نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة التي لم يفسرها أحد من قبله على أساس موجي، ويخبرنا لويس دي بروي - في كتابه «الفيزياء والميكروفيزياء» عن الترجمة العربية ص72 - بأن هذا أمر قد يبدو بالغ الصعوبة فقط إذا ما فكرنا بمفاهيم الفيزياء الكلاسيكية وبحثنا عن الحتمية واليقين، ولكنها تبدو بسيطة عندما ندخل الاحتمالات بصورة منتظمة في صلب الظواهر الأولية، فالمادة التي افترضها دي بروي هي توزيع لاحتمال وجود الفوتونات على المكان.
إذن فكرة الاحتمال هنا أساسية - أو موضوعية لا علاقة لها بجهل الذات العارفة، لتنقض الحتمية، وتعني اللاحتمية، جهارا نهارا.
وتوسع العلماء في تطبيق هذه الثنائية الموجية/الجسيمية على المادة والطاقة، أو الذرة والإشعاع معا، فلم يعد ثمة تعارض بينهما ولا حاجز، إنهما مظهران مختلفان، ويمكن أن يتخذ أحدهما صورة الآخر.
فتحت الميكانيكا الموجية الباب الاحتمالي اللاحتمي على مصراعيه، لتنطلق منه الفيزياء في طريق التقدم بسرعة مذهلة، فجاء إيرفين شرودنجر عام 1925-1926 ليتوغل في التفسير الإشعاعي لكل مكونات هذا العالم، وليوحد تماما بين صورتي الميكانيكا الجديدتين: ميكانيكا الكوانتم والميكانيكا الموجية، ثم اقترح ماكس بورن الفكرة القائلة إن الموجات لا تمثل أكثر من احتمال؛ فتعمقت جذرية التحول الاحتمالي، واستبدلت بفكرة «إذا كان ... فإن ... دائما» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية، فكرة «إذا كان ... فإن ... بنسبة مئوية معينة»، وأصبحت المصادفة عنصرا في بنية الطبيعة.
واصل فيرنر هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبين أن أدوات القياس تفرض قدرا من اللاتعين في التنبؤ بمسار الجسيم، أي استحالة التعيين الدقيق لموضع الإلكترون وسرعته في آن واحد، وصاغ هذا عام 1925 في مبدئه المعروف باسم مبدأ اللاتعين
Indeterminacy Principle ، الذي يعد الميلاد الثاني لنظرية الكوانتم، وفي الوقت نفسه المسمار الأخير في نعش الحتمية العلمية.
هكذا كان العالم الذري هو الذي شق لنا الطريق لنبرأ من وهم الحتمية، فهو يقر بالمصادفة والاحتمال الموضوعي، ولكنه طبعا كوزموس منتظم، ذو ثوابت عتيدة، تتضاءل - بل تذوي بجوارها ثوابت الحتمية الساذجة، ولن تلقي الحتمية همزة وصل بينه وبينها، فهو عالم عرف كيف يتحرر من داء البحث عن اليقين، فاتخذ الإحصاء منهجا يفضي به إلى تلك النتائج الاحتمالية الرائعة التي نلمس جبروتها في كل شيء بدءا من غزو الفضاء وقهر الأمراض الخبيثة حتى أدوات التسلية والترفيه، بغير الزعم بأن تنبؤاتها ضربة لازب أو قضاء مبرم أو كشف عن القدر المحتوم، عالم ليس بذي احتياج لاطراد الطبيعة ولن يتخبط أو ينهار بدونه كما يحدث لغير الراشدين، فلا يفرض على الطبيعة ولا يفترض فيها ضرورة، ولا ينشغل البتة بخرافة العلية ويحصر همه في العلاقات والارتباطات والتفسيرات - لا التعليلات، ويدرك تمام الإدراك أن الرياضة محض أداة عقلية خاوية، لا تبرر أية دعوى أنطولوجية، وهو الذي يملؤها بالمضمون، مضمون المتوسطات التي لا تزعم عمومية مطلقة ولا تبحث عنها، عالم يجعلنا ندرك سطحية التفسير الميكانيكي، فضلا عن فشله وعجزه، وندرك أكثر تفاهة الواحدية المادية التي تمخضت عنها حتمية نيوتن، فقد أصبحت المادة لا كتلا تثير حاسة اللمس فحسب بل كائنا غاية في الشفافية، مجرد إشعاعات من مركز ... على الإجمال إنه العالم اللاحتمي.
ويوما بعد يوم يؤكد لنا العالم الذري أن الاحتمالية واللاحتمية خير وأبقى، وأجدى من اليقين والحتمية ألف مرة، لقد تحطم هذا الوهم الطاغي الجبار تحت وطأة جسيمات الذرة المتناهية في الصغر.
على أن اللاحتمية
Indeterminism
ليست قصرا على العالم الذري، وليس العالم الأكبر الذي نحيا فيه بمنجاة منها، أو أنه لا يزال ساكنا بين أحضان قوانين علمية يقينية، كلا، فاللاحتمية أصبحت الآن عامة شاملة لمجمل نسق العلم، وأية ظاهرة في الكون تعطينا الحسابات من المعادلات الفيزيائية النتيجة المحتملة بشأنها ودرجة احتمالها، بمنتهى الدقة، مثلا، شروق الشمس غدا، في نظر العوام قضية حتمية، ولكنها في نظر العلم المعاصر تقع فقط في مجال احتمالية عالية جدا، بسبب ضخامة الشمس، شروقها غدا احتمال، وبالتالي عدم شروقها أيضا احتمال قائم، ولكن بنسبة ضئيلة جدا يمكن إهمالها.
بالعود إلى العالم الأكبر (الماكرو كوزم) نجد أن آينشتين قد أتانا بالنسبية، أول نظرية في التاريخ تحل محل نظرية نيوتن فتؤدي مهامها بصورة أكفأ وأدق، وقد بدأت من تجربة قام بها العالمان ميكلسون ومورلي، انتهيا منها إلى ثبات سرعة الضوء واستحالة الاستدلال على وجود الأثير، إنها كارثة حلت بالأثير، وقد كان - كما ذكرنا - فرضا ضروريا لكي يكتمل التفسير الميكانيكي للكون، ومن ثم فإن سقوط فرض الأثير بعد من أبعاد أزمة العلم الحتمي، وواحد من المؤشرات القوية التي آذنت بانهيار الحتمية العلمية.
بدأ آينشتين بنتيجة هذه التجربة، أي باستبعاد الأثير تماما، وثبات سرعة الضوء، والمقصود بها السرعة الكونية لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية والتي لا يمكن أن يبلغها أي جسم مادي، وهي 186000 ميل في الثانية، ثم وضع نظريتي النسبية الخاصة (1905) والنسبية العامة (سنة 1917)، الخاصة تتعلق بالأجسام التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، أما العامة فتختص بالأجسام التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة متزايدة أو متناقصة (أي بعجلة)، ولما كانت الأجسام المتحركة بسرعة ثابتة يمكن اعتبارها متحركة بعجلة مقدارها صفر، فإن النظرية الأولى محض حالة خاصة من الثانية.
في النسبية الخاصة، ينص القانون الأول على أن الأجسام تنكمش في اتجاه حركتها، والثاني على ازدياد كتلة الجسم بازدياد سرعته، والثالث خاص بتحصيل السرعات، كحساب السرعة النسبية لجسمين يتحركان بالنسبة لبعضهما في اتجاه معاكس، وهي ليست كما تتصور الفيزياء الكلاسيكية مجرد مجموع السرعتين، أما القانون الرابع فينص على أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، وفي الخامس يتباطأ الزمن - وبنفس المعامل الذي ينكمش به الطول - تبعا للسرعة التي يسير بها حامل الساعة، أي من يقوم برصد الزمان.
وبهذا انهارت تماما ثوابت فيزياء نيوتن الكلاسيكية، كالكتلة والأبعاد مثلا، وبعد أن كان كل شيء فيها مطلقا، يجعل حتميتها مطلقة بالنسبة للجميع، علمتنا النسبية أن هذا الكون، الذي نحيا فيه ونحاول فهمه واستكناه طبيعته بواسطة العلم، لا شيء فيه مطلق البتة، انهار المفهوم المطلق للزمان والمكان الموضوعيين بالنسبة للجميع، ودخل الزمان كبعد رابع للمادة، وهذا كما يقول فيرنر هيزنبرج، في كتابه «المشكلات الفلسفية للعلوم النووية»، عن الترجمة العربية ص6: أول هجوم سلط على الفرض الأساسي للفيزياء الكلاسيكية، فلم تعد المسافة مجرد بعد بين نقطتين، كما لم يعد الطول والعرض والارتفاع كل أبعاد المادة، والتي لم يخطر ببال العلماء الحتميين أبعاد سواها، بل تدخل الزمان في المسافات والأبعاد.
وترتب على هذا أنه إذا وقع حادثان في المكان نفسه ولكن في لحظتين مختلفتين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالا على الآخر، يصح العكس أيضا: فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها ولكن في مكانين مختلفين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين، إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، هكذا تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة، لتتحقق الموضوعية بصورة مدهشة، الموضوعية الحقيقية، ويتبخر مفهوم الموضوعية المطلقة التي لا علاقة لها البتة بالذات العارفة والزائفة زيف حتميتها الميكانيكية.
وأيضا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسها من وجهة نظر مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمنية معينة، من هنا حملت النسبية مفهوم التآني: أي استحالة الحكم بأن حادثا وقع قبل أو بعد الآخر، فكيف يتأتى التفسير العلي الذي يشترط أسبقية العلة على المعلول؟!
ثم نجد النسبية العامة تنص على أن السطح محدب، وليس مستويا كما افترض نيوتن وكما يدركه الحس المشترك، فهذان العالمان أي عالم نيوتن وعالم الحس المشترك متشابهان، أما النسبية فقد شيدت عالما مختلفا أتم الاختلاف.
أدركنا الآن أن نظرية نيوتن ليست ذات دقة قاطعة أو عمومية مطلقة أو صدق يقيني ... على الإجمال ليست من الحتمية في شيء، هي فقط نظرية تقريبية بارعة تقتصر على الماكروكوزم، وبينما تفشل في الاقتراب من الميكروكوزم، تنجح النسبية في التحكم فيه، فضلا عن أنها - أي النسبية - تتحكم في الماكروكوزم أيضا بدقة فائقة، وتحمل حلولا لمشكلات فيه استعصت على الفيزياء الكلاسيكية، لتنتصر على النيوتونية في عقر دارها، وإذا كانت النيوتونية لا يزال معمولا بها؛ فذلك لأنه في معظم مجالات الماكروكوزم يمكن إهمال الفارق الضئيل جدا بين النيوتنية وبين النسبية في مدى الدقة.
إن النسبية هي النظرية الفيزيائية لكون الذرة قوامه ومكونه الأول، والعالم الذري هو العالم اللاحتمي؛ لذا تحطم النسبية الخلفية المفترضة للحتمية، وتنهي بصورة حاسمة التفسير الميكانيكي للكون وترسم له صورة مناقضة تتبخر منها الأطر اللازمة للحتمية المزعومة، لقد أضحى عالم نيوتن الميكانيكي أطلالا دوارس. •••
وهذا الانقلاب على الحتمية حاز منتهى الشرعية، حين أسبغت عليه الرياضيات ملكة العلوم تأييدها، فثمة زلزال آخر - آت من تطور الرياضيات - أطاح بالبقية الباقية من دعائم الحتمية العلمية، التي يعد اليقين الوجه الإبستمولوجي الصريح لها، حتى رأينا أن الحتمية ويقينها توطدا نهائيا حين أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية باللغة الرياضية، الضرورية دائما.
فقد كانت الرياضيات، وستظل دائما، التمثيل العيني لليقين المطلق، ولكن أي يقين؟ ذلك هو السؤال.
لم يكن أمام الفيزياء الكلاسيكية إلا هندسة إقليدس؛ فظنوا أنه لا هندسة سواها، وأنها الأنموذج الأمثل لليقين المطلق المنشود، حتى إن القديس توما الإكويني (1225-1274) قد شغلته القضية: ما الذي يكون فوق إرادة الله؟ فوضع إجابة تتضمن بضعة أشياء، منها أنه تعالى لا يستطيع أن يجعل زوايا المثلث أقل من قائمتين فقد كان الجميع - فلاسفة وعلماء ومثقفون وعوام - شأنهم شأن إيفان كرامازوف بطل رائعة دستويفسكي، على يقين من أن الله خلق العالم بموجب الهندسة الإقليدية، فليس غريبا أن تطرح فيزياء نيوتن الكلاسيكية كل هذه الحتمية، وهي تقوم بتطبيقها على الواقع الفيزيائي، فتسلم مثلها بأن السطح مستو، كما تلاحظ الخبرة العادية.
بيد أن المسلمة الإقليدية الخامسة، القائلة باستحالة التقاء الخطين المتوازيين، أثارت مشكلات، فقد شك الرياضيون في أنها مسلمة، وحاولوا إثباتها باستخدام المسلمات الأخرى، ولم ينجح أحد، وبعضهم أفضت به هذه المسلمة إلى الجنون، فلم يكن أمامهم إلا برهان الخلف (أي البرهنة على صحة القضية بإثبات خطأ عكسها)، وبالتالي بدءوا بالتسليم بالعكس: إمكانية التقاء المتوازيين، ولكي يفعلوا هذا افترضوا أن السطح غير إقليدي؛ أي غير مستو. من هنا أدت المسلمة الخامسة إلى الهندسات اللاإقليدية، وهي كل الأنساق الهندسية التي تختلف عن نسق إقليدس في أنها لا تفترض أن السطح مستو، فتسلم بمسلمات مخالفة.
فجاء لوباتشيفسكي (1792-1856) ونشر عام 1829 في جامعته قازان مذكراته حول مبادئ الهندسة، وكان هذا أول عرض منهجي كامل لهندسة لا إقليدية، ترفض بديهية التوازي، فتفترض أن السطح ليس مستويا، بل مقعرا، ثم جاء الألماني ريمان (1826-1866) ليفترض أن السطح محدب، ووضع نسقا لهندسة لا إقليدية، لا توجد فيها أية خطوط متوازية على الإطلاق.
هاتان الهندستان تختلفان مع الإقليدية، ومع هذا كلتاهما - كالإقليدية - صحيحة ويقينية «في بنائهما الداخلي» مائة في المائة، أدركنا إذن أن الله يمكن أن يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين، وأن ما قاله إقليدس محض بناء عقلي بارع وليس ضربة لازب مفروضة على الله قبل الإنسان!
خصوصا وأنهما ظلتا رياضيات بحتة فحسب، حتى جاء آينشتين وجعل منها الرياضة التطبيقية، فقد أثبت الخطأ في محاولة تطبيق الإقليدية على العالم وأنه ليس به استقامة ولا استواء، وجعل من نسق ريمان، وهو هندسة السطح المحدب، الهندسة الفيزيائية لهذا الكون، فقد ذكرنا أن النسبية العامة تجعل كل السطوح محدبة، وكان آينشتين يعتبر هذا أعظم إنجازاته، وحين سأله ولده عن سبب شهرته، أجابه: أتعلم يا بني، عندما يزحف صرصور أعمى على سطح كرة فإنه لا يلاحظ الطريق الذي سار فيه، بينما أنا على العكس أسعدني الحظ بأن ألاحظ ذلك!
أفلا يعني هذا أن العلماء حين استمدوا من إقليدية النيوتونية سندا لحتميتهم كانوا كالصراصير العميان! •••
ثم جاءت ثورة المنطق الرياضية، أو ثورة الرياضة المنطقية، حين استأنف وايتهد (1861-1947) وبرتراند راسل (1872-1970) جهود زملائهما، وأخرجا كتاباهما العظيم «أصول الرياضيات»
وفيه يبدآن بثلاثة لا معرفات هي الإثبات والنفي والبدائل، ومنها فقط تمكنا بواسطة التدوين الرمزي من استنباط قواعد المنطق الصوري، ومنها استنبطا الرياضيات البحتة بأسرها، ومعنى هذا أن الرياضيات امتداد للمنطق وأنها مثله فارغة من أي مضمون إخباري، ومحض تحصيلات حاصل، الرياضيات إذن يقينية لأنها لا تمثل إلا ارتباطات جديدة، بين مفاهيم معروفة ، وتبعا لقواعد معروفة.
وبهذا ثبت أن الرياضيات تحليلية ، شق القضية فيها مجرد تحليل للشق الآخر، أي أنها ليست تركيبية ولا تقوم بتركيب معلومات تحمل أخبارا، إنها مجرد بناء عقلي بحت وإنشاء منطقي خالص، إنها ملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المرتفع عن شهادة الحواس، وعن لجة الواقع المادي.
بذلك نفهم مثلا كيف أن الإقليدية، بعد ظهور نسبية آينشتين فقدت ارتباطها الضروري بالواقع ومع هذا ظلت يقينية، فاليقين هنا هو يقين الضرورة المنطقية التي تربط بين أطراف النسق، لقد طلب منا إقليدس أن نسلم بمسلمات معينة ثم أعطانا النتائج التي تلزم يقينا عنها؛ أي تحليلاتها بصورة أو بأخرى، ولا شأن لنا بالواقع والإخبار عنه. وبالمثل فعل لوباتشيفسكي وريمان، فتوصلا إلى نظريات مختلفة، وكلها يقينية؛ لأنها جميعا تلزم بالضرورة عما سلمنا به من مسلمات اختلفت من نسق لآخر.
ومن الناحية الأخرى نجد أن الخاصة المميزة للفيزياء هي أنها مصوغة في حدود المعادلات الرياضية، حتى أوشكت الحدود أن تضيع بين الفيزياء والرياضة، وكلما ازداد العلم تقدما ازداد إيغالا في عالم الرياضيات: لغة العلم، ومع هذا تظل المعادلات الرياضية البحتة يقينية، بينما المعادلات الفيزيائية الرياضية محض احتمالية، فكيف؟! الحل بات واضحا، فصدق القضايا الرياضية يعتمد على العلاقات الداخلية بين أطرافها، أما صدق القضايا الفيزيائية فيعتمد على علاقتها بشيء خارجي، مرتبط بالخبرة، إن التمييز راجع إلى اختلاف موضوعات العلمين، واختلاف الخاصة المنطقية لكليهما، الرياضة تحليلية والفيزياء تركيبية، وموضوعات الفيزياء لا يمكن أن تتحدد ببديهيات ومسلمات؛ لأنها شيء في العالم الواقعي التجريبي، وليست في العالم المنطقي للرياضيات.
إن الرياضيات محض لغة وأداة فحسب، تقتصر على صياغة علاقات فارغة، تسري على كل كوزموس ممكن سواء أكان حتميا أو لا حتميا؛ لذلك وصلت الفيزياء المعاصرة إلى الذروة في سمتها الرياضية، وبصورة لم تكن تخطر على بال علماء الفيزياء الكلاسيكية أنفسهم، ومع هذا ستظل دائما في حاجة لإثبات صدق معادلاتها على الواقع، وهذه العلاقة تختلف تماما عن الاتساق الداخلي للرياضيات. •••
هكذا تبرأت الفيزياء المعاصرة تماما من كل ومن أي زعم بالحتمية الكونية، ولأن الفيزياء هي الأصل وصاحبة القول الفصل - كما أوضحنا - أصبحت فروع العلم المختلفة تسعى نحو مبدئها اللاحتمي.
لقد أضحى العلم في القرن العشرين لا حتميا، كمقابل للعلم الحديث الذي كان حتميا، وفي الفصل الأخير سنرى عمق وجذرية اللاحتمية في العلم المعاصر، إبستمولوجيا وأنطولوجيا، أو معرفيا ووجوديا. •••
إلى غير نهوض انهارت الحتمية العلمية بأنموذجها العلي الميكانيكي الذي يستحيل أن يتسع لأية ومضة حرية، وبعد أن أرقت فلاسفة الحرية أيما أرق، وفي الفصلين الثاني والثالث سنرى أن معضل الحرية في عالم العلم الحتمي أخطر مما نتصور، وذو نتائج وبيلة أبعد من كل ما نتوقع؛ لذا كان لفت الانتباه منذ البداية إلى خطورة أن يتعارض العلم مع الحرية، وبالتالي أهمية ألا يتعارض - أن يتوافق معها ... يتوافق القطبان الأعظمان لإنسانية الإنسان في مدارج رقيها: الحرية والعلم، وبعد طول تنازع وتضاد، أو على الأقل فصام وانفصام.
إن تبيان هذا التوافق والتأكيد عليه لمهمة منوطة بنا نحن لا سوانا، نحن أبناء العصر الذي شهد ثورة العلم العظمى، وخروجه من أعطاف الحتمية الميكانيكية إلى آفاق مفتوحة، بلا نموذج تؤدي أطره إلى طريق مسدود كما حدث إبان أزمة العلم الحتمي. إنها ثورة العلم العظمى التي توالي السير قدما، ويبدو أننا لم ندرك بعد كل مضامينها الفلسفية، حتى إن كثيرين من ذوي العقول النيرة يرفضون الخلاص من الحتمية وإن سلموا بانهيار ميكانيكيتها، أو يسلمون بها إبستمولوجيا وينكرونها أنطولوجيا مع تسليمهم بدلالة العلم الأنطولوجية! ... هذه الثورة العلمية العظمى كفيلة بأن تفتح أمامنا آفاقا أرحب، وتكسب عقولنا مرونة ونضجا تجعلنا أقدر من سوانا في العصور السالفة.
فقد اتضح آنفا مدى هيمنة الحتمية على العقل البشري عموما، والعقل العلمي خصوصا؛ لذلك كانت الحرية الإنسانية من أشهر المتاهات الفلسفية المفضية إلى لا شيء، ولما تصدر العلم مسيرة العرفان جعل من الحتمية الهيكل المعلى، لتبيض المتاهة وتفرخ متاهات ومتاهات، ولكن العقل العلمي المعاصر يفتح لنا طريق الخلاص من هذه المتاهات؛ لأنه قد اكتمل نضجا واستقلالا، ولم يعد يفترض ولا يفرض على الوجود ما هو منه براء. لقد تراجعت حتميته، وتلاشى نفيه للحرية الإنسانية، بعد أن كان أعتى وأصلب من ينفيها.
ربما كانت الحرية منفية من زاوية أخرى، أو حتى من ألف زاوية أخرى، ولكننا اتفقنا على الاقتصار على المنظور العلمي.
وهذه الخلفية التي طرحها المدخل جعلنا بإزاء انقلاب علمي جذري من النقيض إلى النقيض، من الحتمية إلى اللاحتمية، مما يعدنا برحلة فلسفية مثيرة حقا، شريطة أن ننزهها من التهاويم والإسقاطات، ويندر أن نجد قضية فلسفية نجت من الإسقاطات الدينية والسياسية، فما بالنا بقضية في حيوية الحرية.
إن المدخل قد أسهب فيما أوجزه عنوان الكتاب، في تحديد مسار الرحلة الفلسفية المزمعة، لتغدو بمنحاة من انحيازات أو تهاويم أو إسقاطات، فلنبدأ، وبالله قصد السبيل.
الفصل الأول
ما الحرية
(1) الثقافة الفلسفية تلقي في الروع أن مشكلة الحرية فضفاضة، بل هلامية مترامية الأطراف، ضائعة الحدود، لا مبتدأ لها ولا منتهى، إنها تبدو منذرة بالتشتت والضياع، فالحرية هي المقولة الوحيدة التي تتداخل في شتى كليات وجزئيات التجربة الإنسانية وسائر جوانب عالمه المعاش وأيضا عقله الفعال، ومن ثم يمكن جعلها مضافا لأي مضاف إليه شئنا: الميتافيزيقا، اللاهوت، الأخلاق، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الدين، العلم، الشخصية ... وكما يقول المستشرق روزنتال: «الحرية عبر التاريخ استطاعت أن تعتق نفسها من إطار قيود التعريفات، وأن تتطور إلى واحد من المصطلحات المجردة القوية التي ليس لها وجود خارجي إلا ما يعطيه لها العقل الإنساني، وفي الوقت الذي خرجت فيه الحرية عن أن تخضع لأي تعريف موضوعي أصبحت موضوع تعريفات متعددة، وغني عن القول أنها أصبحت أيضا موضوع أدبيات واسعة».
1
وشاع القول إن الحرية مشكلة تائهة، أوراق اعتمادها ضائعة، فأية حرية من ألف ألف حرية، تلك التي لا نجفل من أن نطلقها هكذا غير موسومة ولا مقترنة بفيلسوف أو مدرسة أو حتى اتجاه، هل هي حرية الإنسان أم الطبقة أم الأمة؟ حرية الأرض والوطن، أم حرية المواطن مقابل الإرهاب والقهر والفقر؟ حرية العقل مقابل الجهل، والجسد مقابل المرض والإذلال الفيزيقي والنفسي المتمثل في الضعف والعجز والعاهات والشذوذات النفسية وقوانين الطبيعة الصارمة وقواها الغاشمة ... هل هي حرية القبول والرفض أم الاختيار أم اتخاذ القرار؟ حرية الأنا بإزاء الآخرين، أم الذات بإزاء الموضوع، أم الفرد بإزاء المجتمع ...؟
ثم، أوليست تعني الحرية إمكانية الانطلاقات التجديدية أمام الفنان مقابل خضوعه للأنماط والمعايير، وفي الآن نفسه حرية القانون العلمي مقابل حتميته، وماذا عن حرية العالم في خلق الفروض، حرية الفيلسوف في انتقاء مسلمات فلسفته، هل هي حرية ميتافيزيقية أنطولوجية أم وجودية عينية، أم اجتماعية شخصية، أم فكرية أكاديمية، أم أن الحرية كما رآها الشاعر الألماني شيلر «مشكلة أو فكرة أستطيقية جمالية»؟
2
ودع عنك الحرية الدينية فهل الإنسان مسير أو مخير؟ ثم الحرية الدينية الوضعية بمعنى هل هو مجبر على التزام الدين المتوارث، أم حر في اختيار ما يقنعه من أديان؟ بل هو حر في اتباع ملة من ملل الدين الواحد المتعددة. هل هي حرية الفعل أم القبول وإبداء الرأي والتعبير عنه نظريا وعمليا - أي العيش بمقتضاه، مقابل الخضوع لرأي الآخرين في تحديد الاختيارات المستقبلية؟ وماذا بشأن الحريات الجزئية ذات النطاق المحدود: حرية العمل والتنقل والإقامة والتصرف في الأموال ... إلخ.
كل هذه الحريات وغيرها تشكل في مجموعها الصورة الكلية لمقولة الحرية التي تعني كل هذا وأكثر، والحصر الدقيق لأبعادها ليس من شأنه أن ينتهي، ويزيد من التباس الأمر أن «كل واحد منا يخوض معركة الحرية في مجال معين، ومن الطبيعي أن يضخم أهمية مفهوم الحرية الذي يوافق ذلك المجال. يضخم المحلل النفساني أهمية حرية السلوك ويستخف بعموميات الفيلسوف ... إلخ. كل نظرة أحادية للحرية تضعف خطوط تحقيقها وتسهل النقد على أعدائها الصرحاء أو المقنعين.»
3
فتتفاقم هلامية الحرية.
وتبدو المشكلة فضفاضة حتى أمام أعاظم العقول المعنية بنظريات الحرية وتاريخها، فأمامنا على سبيل المثال أشعيا برلين وهو من أرصن الفلاسفة المعاصرين الذين اهتموا بمشكلة الحرية اهتماما جادا شاملا، كما يوضح كتابه الثري «أربع مقالات في الحرية»، ثم كتاب «فكرة الحرية» الذي صدر على شرف برلين لمجموعة من الباحثين كمناقشة لكتابه المذكور، في هذين الكتابين - وفي سواهما - نجد الحرية تعني كل هذا وأكثر ، وما الحدود بينها إلا من فيض الكريم، فلا غرو أن يأتينا برلين بكل منهجية وشمولية نظرته وأيضا جذريتها ليعلن في نبرة اليائس أنه: «لن يناقش أكثر من مائتي تعريف للحرية.»
4
هكذا بدت الصورة الفلسفية العامة لمشكلة الحرية عند برلين وعند سواه، في الفكر العربي نجد مثلا المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي يعلن في كتابه «من الحريات إلى التحرر» الذي يبحث مناحي شتى من قضايا الحرية، أن الحل الوحيد لهذا المأزق هو الحديث عن حريات لا عن حرية.
وليس يجدي المدخل العلمي في تحديد مقولة الحرية المطروحة للبحث، ففي مقال لا يتجاوز خمسا وثلاثين صفحة، يناقش الدكتور فؤاد زكريا علاقة العلم بكل هذا الحريات وغيرها.
5 ••• (2أ) «فهل يجدي التحليل الإيتمولوجي؟»
6
في اللغة الإنجليزية يحمل معنى الحرية لفظان
Freedom, Liberty
تسري عليهما عادة القواميس بشأن المترادفات: تشرح الأولى بالثانية حتى إذا عدنا إلى الثانية وجدناها مشروحة بالأولى (هذه ملاحظة عامة طريفة، وردت على ما أذكر في مسرحية تنيسي وليامز «صيف ودخان» التي قرأتها منذ سنوات عديدة خلت).
المهم أن اللفظتين يمكن تعريفهما لغويا بالمادة نفسها التي تشير إلى وضع اجتماعي يفيد منزلة رفيعة وسجايا كريمة وأساسه الانعتاق من العبودية والأسر والسجن والجزية ... وأيضا إلى غياب القهر والقسر والإجبار والإرغام في الفعل أو الاختيار أو القرار، ولا تكاد تتميز
Freedom
إلا بذلك المدلول الذي اكتسبته مؤخرا بالتحديد عام 1879 وهو مدلول فيزيائي يعني القابلية للحركة.
7
والخلاصة أنهما لغويا متساويان، وليس ثمة خطأ منكور في استعمالهما كمترادفين، واحتذاء منتهى الدقة الفيلولوجية لن يفعل أكثر من إضفاء قوة أو فعالية أكثر على الحرية التي يدل عليها لفظ
Liberty .
8
لذلك فالعرف الشائع في الاستعمال قد يعطي
Liberty
انطباعا عينيا كسبيا ملموسا، بمعنى أنه يدل أكثر على الحريات الوضعية كالحرية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ... في حين أن
Freedom
أكثر ارتباطا بالحرية في مفهومها الأساسي المطلق.
وعلى هذا يمكن القول إن
Liberty
تحرر، بينما
Freedom
حرية، والأصل اللاتيني للفظة
Liberty
معروف، إنه الاسم
Liberty (حرية، أو تحرر كما اتفقنا) المشتق من الصفة حر:
Liber ، أما لفظة
Freedom
فيبدو أن أصولها ترتد إلى اللغة الجرمانية العتيقة «البروتو-جيرمانيك
» ومنها إلى اللغة الجرمانية في لهجتها الغربية، ثم إلى اللغة الأنجلو ساكسونية
Anglo-Saxonic ، وبالتالي إلى اللغة الإنجليزية القديمة، ومنها إلى اللغة الإنجليزية الحديثة.
ذلك أن لفظة الحرية في الألمانية قرينة اللفظية الإنجليزية
Freedom
المشتقة من الصفة حر
Free ، إنها
Freiheit
المشتقة من الصفة
Frei
ومشتق منها أيضا
Befreiung «تحرر»، ولا تستعمل الألمانية الأصل اللاتيني
Liber ، اللهم إلا للدلالة على الليبرالية
Liberalismus
وهذه بالطبع مجرد اصطلاح ترمينولوجي
9
مجلوب من صانعيه وليست لفظة أنبتها لسان الأمة إيتمولوجيا، حين أخذت هذه في الاعتبار رجحت الحكم بأن لفظة
Freedom
ذات أصل جرماني، أي أنها مأخوذة من اللغة الجرمانية القديمة، وهي شيء مختلف عن اللاتينية وإن كانت قد أثرت فيها، وتأثرت بها في تأسيسها للغة الألمانية الحديثة.
ونأتي للفرنسية لنجدها أكثر ولاء لأصلها اللاتيني حيث إن حرية:
Liberty ، وتحرر:
Liberation
ولا قرائن ل
Freiheit, Freedom . (2ب) «أما في اللغة العربية»: فيمكن التمييز بين معنيين لكلمة «حر» الأول إشاري والثاني دلالي، في المعنى الإشاري وهو الأساس: الحر ضد العبد، وضد الأمة نجد الكريمة العقيلة، وعليه الحر (بالضم) من الذهب أو النحاس أو غيره هو ما خلص من الاختلاط بغيره،
10
ورملة حرة رملة لا طين فيها، وطين حر طين لا رمل فيه، أما دلاليا فكلمة حر كما شاع استخدامها تعني السيد الشريف الكريم وكل ما هو أصيل ونبيل، الحر من الناس أخيارهم وأفاضلهم.
وحرية العرب أشرافهم، ويقال هو من حرية القوم أي من خالصهم والحر في كل شيء أعتقه، وفرس حر فرس عتيق بمعنى أصيل، وناقة حرة ناقة كريمة، وحر البقل والفاكهة خيارها، والحر كل شيء فاخر من شعر أو غيره، وحر كل أرض وسطها وأطيبها، وحر الدار وسطها وخيرها والجمع حرائر، والحر الفعل الحسن، ويقال ما هذا منك بحر: أي ليس بحسن ولا جميل، وسحابة حرة أي غزيرة المطر،
11
وكلام حر أي بالغ الفصاحة ... وهكذا.
ويلاحظ روزنتال أن أصل استخدام كلمة حر بهذا المعنى يعود إلى الميل الإنساني العام إلى نسبة كل الصفات السيئة إلى الرقيق وقدره السيئ في حين يحظى الإنسان الحر قانونا بنسبة كل الصفات الطيبة إليه، ولم تكن هذه الظاهرة قاصرة على العرب، بل شائعة في كل مكان وتطورت بشكل مستقل تحت تأثير مؤسسة العبودية.
12
وقد لاحظناها بشأن اللفظ اللاتيني، فهو الآخر يفيد الخلوص من الرقي وأيضا الكرم والأصالة «وأوضح نيتشه في أصول الأخلاق أنها موجودة في أوليات جميع اللغات الآرية».
13
وعبر تاريخ العربية حملت مادة «حر» أربعة معان متمايزة؛ الأول خلقي: وهو معنى اللفظة الدلالي أي الأصل الكريم ... وكان معروفا في الجاهلية وحافظ عليه الأدب، الثاني قانوني: وهو معنى اللفظة الإشاري أي ضد العبد وهو المستعمل في القرآن الكريم
فتحرير رقبة مؤمنة (النساء: 92) و
نذرت لك ما في بطني محررا (آل عمران: 35)، وأيضا في كتب الفقه، فقد كانت مشكلته الأساسية الفرد حر التصرف، وتناولها في أبواب معروفة تعالج مسائل الرق والحجر وكفالة المرأة والطفل، والفقه يربط الحرية بالمروءة، فلا تكتمل إنسانية الفرد إلا إذا شرف بالتكاليف، ويسجل الفقه وضعية المرأة الدونية كأمر واقع، ولكنه يسجل أيضا أن حالة العبد والمرأة تجلب نقصانا في العقل أي في المروءة؛ لذلك يخفض مسئولية من لحقت به تلك الحالة، نلاحظ في كل الأحوال ترابطا بين الحرية والعقل وبين التكليف والمروءة.
14
أما المعنى الثالث فاجتماعي استعمله بعض متأخري المؤرخين: الحر هو المعفي من الضريبة، والرابع صوفي كما يرد في تعريفات الجرجاني: «الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع الخلائق والأغيار فهي تحرر من الشهوات وفناء إرادة العبد في إرادة الحق»، ونلاحظ أن المعاني الأربعة تدور حول الفرد في علاقته مع غيره، أكان ذلك الغير فردا آخر يتحكم فيه من الخارج، أو قوة طبيعية تستعبده من الداخل.
15
وحين نأخذ في الاعتبار أن المعنى اللغوي أكد الخلوص من الاختلاط بالغير (ذهب حر، رملة حرة ...) نستنبط أن الحرية تعني الخلوص والأصل الأصيل الذي لا شبهة فيه، فلا مشاحنة في تطويعها ترمينولوجيا لتعني فلسفيا الفعل الأصيل في صدوره عن الذات أي الخالص من جبر أو قسر؛ فتصبح الحرية حال الإنسان الخالصة إنسانيته من أية حتمية ، أي من خضوع لقهر أو غلبة أو سيادة، تفسد صدور فعله عن ذاته، ومن ثم يمكن الزعم بمشروعية المصطلح.
والحق أن هذه المشروعية نقطة تسجل لحس العرب الإنساني والحضاري، خصوصا وأنه يفوح من معنى «حر» عندهم، كل ما يؤكد النزوع الإنساني السامي لاعتبار الحرية جماعا لقدس الأقداس الإنسانية، وبالربط بين المعنيين الإشاري والدلالي نجد أن العرب قد جعلوا الوضع الخالص الأصيل للإنسان هو وضع السادة الأحرار، إن «الحر» يشير إلى الأصيل وإلى الطبيعة النقية الصافية غير المختلطة بسواها.
وكلمة الطبيعة في اللغات الإغريقية واللاتينية، وبالتالي في الإنجليزية، لها معنيان، المعنى الأول يشير إلى مجموع الأشياء المفترض أنها موجودة، ولكنها، أي
Nature
لها مغزى أو معنى آخر هو الأصل والأكثر دقة، حين لا تشير إلى مجموع بل إلى مبدأ أو مصدر «وكانت عند فلاسفة القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد بالذات تعني الحقيقة
Reality
والأصل
Origin ».
16
فنقول مثلا إن طبيعة الرماد أن يكون مرنا، ومن طبيعة البلوط أن يكون صلدا، كلمة الطبيعة هنا تشير إلى شيء ما يجعل مالكه يتصرف حسبما يتصرف، وهذا المصدر لسلوكه يكون شيئا داخل نفسه، وإذا كان خارجها فإن السلوك الناجم عنه ليس طبيعيا، بل يعود إلى القسر، فإذا سار إنسان سريعا لأنه قوي، وذو طاقة يكون المشي السريع طبيعيا بالنسبة له، أما إذا مشى سريعا لأن كلبا يطارده فإن المشي السريع لا يعود إلى طبيعته بل إلى القسر الإجباري.
17
من هذا الالتقاء بين سيمانطيقية لغات شتى، نستخلص أن القسر والجبر تشويه لطبيعة الإنسان، وبالتالي فإن الحتمية على جملتها تشويه لطبيعة الإنسان، إذن التحليل اللغوي يجعلنا نهدأ بالا أكثر وأكثر بمبدأ اللاحتمية الذي رأينا العلم المعاصر يلوذ به.
ولكن لنلاحظ أننا كنا ندور حول الصفة حر دون المصدر حرية؛ ذلك أن المشكلة التي تصادفنا في العربية هي أن الصفة «حر» أصل ثابت، أما المصدر «حرية» فمحاق بكثير من الغموض، إنه كمعظم المصادر ليس واردا في أمهات المعاجم اللغوية، ولا في القرآن الكريم. بعض الباحثين يرجحون أن المتصوفة هم الذين اشتقوا المصدر حرية، غير أن تاريخ المصدر ليس واضحا على الإطلاق، وما زال الدليل ينقصنا حول ما إذا كان شائعا في استعمال عرب ما قبل الإسلام «خصوصا وأن كلمة الحرية ككل الصيغ المجردة التي تنتهي بياء النسبية لم تكن شاعرية؛ لذلك تجنب الشعراء استعمالها»،
18
وهذا قد يرجح الرأي القائل إن الكلمة غير مشتقة من الجذر «ح ر ر»، ومما يؤيد هذا الترجيح وجود جذر مماثل «ح ر ر» يعني كون الشيء حارا. وقد حاول بعض المفكرين القدامى والمعاصرين الربط بين «حر» والجذر الذي يعني السخونة ولكن هذه المحاولات غير مقنعة.
19
وقصارى ما نستطيعه بصدد اللفظ «حرية» أنه ربما يكون قد استعمل منذ فترة مبكرة للتعبير عن المصطلح القانوني المقابل للرق، وليس مستبعدا أن تكون الكلمة قد استخدمت على نطاق واسع عندما اتصل المسلمون بالتفكير الفلسفي لعالم البحر المتوسط الذي كان قد عرف النقاش حول الحرية لقرون طويلة خلت،
20
على أن أقدم تعريفات الحرية في الشرق الإسلامي لم تصدر عن دوائر إسلامية ولم يعبر عنها باللغة العربية، إنها ترد في الأعمال السريانية حول التعريفات المنسوبة إلى ميخائيل أوبازود، وقد وضعت حوالي عام 800م، وعندما نتبع تعريف الإرادة في كل هذه المجموعة نجد ما يلي: «الحرية هي القوة غير المحدودة للطبائع العاقلة التي تتعلق بالحواس والإدراك العقلي.» وهذا التعريف يمثل نتائج المناقشات اللاهوتية التي دارت حول «حرية» في أوساط الكنيسة الشرقية، ولقرون طويلة خلت كان المفكرون الدينيون الشرقيون يواجهون هذه المشكلة التي اعتبروها بحق حجر الزاوية للإنسان الأخلاقي.
21
وبهذا تكون المناقشة اللغوية التاريخية قد انتقلت بنا تلقائيا إلى قلب المشكلة الفلسفية مؤكدة أواصر القربى والصلات الوثقى بين هذا البحث المعاصر جدا وبين التراث القابع في أعماق التاريخ، وقبل أن ننتقل مرة أخرى إلى البحث الفلسفي نلاحظ أن التحليلات اللغوية قد انتهت إلى ما ينبغي أن تنتهي إليه: إلى تحصيل الحاصل، وهو ما عبرت عنه بالحكم بمشروعية المصطلح.
فلن تعني الحرية - وبشيء من التطويع - أكثر من الفعل الأصيل في صدوره من الذات، وهذا ينطبق على كل الأوجه المذكورة من الحرية «فقرة 1» وسواها ولا يستبعد شيئا، وإذا خرجنا من الإطار اللغوي إلى قلب مضمون الفكر الإسلامي، أي لو لجأنا إلى المفكرين والفلاسفة العرب في طرحهم للسؤال ما هي الحرية؟ لوجدناه لديهم ما زال موضوعا لعمومية مطلقة لا تتخلص من هلاميتها، وإن كان أشد التصاقا بالأساس الوجودي المطلق وأبعد عن العينيات الجزئية؛ فهو طرح لا يسأل عما تعنيه الحرية بالنسبة لهذا الفرد أو لهذه الطبقة، بل ما هي الحرية بالنسبة للإنسان كإنسان، يلتقي هنا الفلاسفة العرب المعاصرون بفلاسفة الماضي، وفلاسفة اليوم يرون المشكل في إطار علاقة الذات باللاذات، يتصورون الذات عقلا أو نفسا أو جوهرا أو مطلقا، ثم يتصورون اللاذات مادة أو جسما أو طبيعة مخلوقة، فيتصورون أن الحرية قدرة أو استطاعة أو كسب، قد يولدون الذات من اللاذات أو العكس لكنهم يتفقون جميعا في نظرتهم إلى الحرية كمفهوم مجرد يطبق على مثل معين، يعالجون المسألة بطرق مختلفة من تحليل لغوي إلى وصف وجودي إلى افتراض ما ورائي، ويستعملون أساليب متباينة من صور شعرية إلى معقولات مجردة، لكنهم ينظرون دائما إلى الحرية كمطلق.
22
إننا بهذا اقتربنا بعض الشيء مما نريده، لكن ما زالت المشكلة قائمة كيف يمكن تحديد مقولة الحرية في إطار هذا البحث. ••• (3) «لنبذل محاولة أخيرة مع التعريف الفلسفي للحرية»: وهو يخبرنا بأن الحرية بوجه عام حال الكائن الحي الذي لا يخضع لقهر أو غلبة ويفعل طبقا لطبيعته وإرادته، وتصدق على الكائنات الحية جميعها من نبات وحيوان وإنسان؛
23
لذلك فالحرية تشير بصفة ابتدائية إلى ظرف يحققه غياب الإجبار أو القسر كشرط ضروري، فنقول إن الإنسان حر على قدر ما يستطيع أن يختار بين البدائل المتاحة له، يختار ما يفعله ويختار أهدافه الخاصة وسبل سلوكه، وعلى قدر ما لا يكون مجبرا على التصرف تصرفا لم يختره هو نفسه أو يمنع من الاختيار أو من التصرف حسبما اختار، وليس مفروضا عليه شيء بلا إمكانية أخرى،
24
هكذا «تظهر فكرة الاختيار على اعتبار أن الحرية إن هي إلا المقدرة على فعل شيء أو الامتناع عن فعله»،
25
الاختيار هو الذي يحدد، وهو كما عرفه التوحيدي في المقابسات: إرادة تقدمتها روية مع تمييز، أما الفعل الحر فهو على حد تعبير الغزالي ما يصدر عن إرادة حقيقية، بينما الفاعل الحر هو من يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل وعلى سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد،
26
وتصبح الحرية هي تلك الملكة التي تميز الكائن الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن أية إرادة أخرى غريبة عنه.
27
ومن الممكن التمييز بصفة عامة بين نوعين للحرية: حرية التنفيذ وحرية التصميم، والمقصود بحرية التنفيذ: تلك المقدرة على العمل أو الامتناع عن العمل دون الخضوع لأي ضغط خارجي. نحن هنا بإزاء حرية طبيعية أو فيزيائية تعبر عن تلقائية الكائن الناطق واستقلاله الذاتي، الحرية بهذا المعنى عبارة عن القدرة على المبادأة والمبادرة
INITIATIVE ، مع انعدام كل قسر خارجي، أما حرية التصميم فهي عبارة عن المقدرة على الاختيار حين نكون بإزاء فعلين مختلفين، أو حينما يكون في وسعنا أن نفعل أو نمتنع عن الفعل،
28
حرية التنفيذ هي حرية الفعل وملكتها الإرادة، وحرية التصميم هي حرية القرار وملكتها الاختيار، الأولى تطبيق للثانية، والثانية مقدمة شرطية للأولى، بعبارة أخرى هما وجهان لعملة واحدة، هكذا تدخل مفاهيم الحرية والإرادة والاختيار في وحدة عضوية.
على أن إمكانية الاختيار بين بلدين على الأقل هي الشرط الأساسي الذي تدور معه الحرية وجودا وعدما، وإقرار أن الإنسان مريد يختار على الأقل بين فعلين ممكنين يعني أنه حر، ليس فقط بمعنى أنه قادر على فعل ما اختار أن يفعله، ولكنه أيضا حر بمعنى أنه ليس مجبرا على اختيار ما اختاره بواسطة علل خارجة عن نطاق تحكمه،
29
فالحرية أساسا - كما يقول إريك فروم - فرصة متاحة للفعل أكثر من أن تكون هي الفعل نفسه.
30
والخلاصة أن الحرية هي انعدام القسر وتوافر البدائل لتختار الإرادة بينها، وهذا التعريف الجامع المانع للحرية صحيح ونحن نقبله، بل ونعتمده كأساس الحديث المقبل عن الحرية، بيد أنه ينطبق على كل وجوه الحرية المذكورة آنفا وعلى سواها ولا يستبعد شيئا منها، ويوضح أكثر من كل سبق أن الحرية مقولة فضفاضة، وما زال السؤال ملحا: كيف يمكن تحديد مشكلة الحرية التي تشغلنا في هذا الكتاب؟ ••• (4) «الإجابة»: مطروحة ضمنا فيما سبق وصراحة في مقدمة الكتاب، فقد تبينا فصلا تاما بين مستويين لمقولة الحرية الإنسانية، بالانتباه إليه لا تعود مشكلة الحرية أكثر تشتتا ولا أقل تحددا من أية مشكلة أخرى.
ذلك أنه لا بد من الفصل بين حرية الإنسان بوصفه كائنا في هذا الكون أو الوجود ذي البنية أو الطبيعة المعينة منذ بدايته وحتى نهايته، «الحرية في المستوى الأول» وبين حرية الإنسان بوصفه كائنا في جماعة أو مجتمع ما يخضع لتحويلات ومتغيرات لا حصر لها عبر تاريخه «الحرية في المستوى الثاني».
الحرية من المستوى الأول حرية الإنسان بوصفه موجودا في هذا الوجود يمكن أن نسميها: الحرية الأنطولوجية؛ لأنها تعتمد على طبيعة هذا الوجود وطبيعة أحداثه التي تشكل أفعال الإنسان بعضا منها، فهل سياقها يستلزم أو على الأقل يسمح للإنسان بأن يمارس اختيارا؟ وبالتالي يتضمن وضع الإنسان في هذا الوجود حرية حين يكون ثمة بديل للحدث بمعنى أنه يمكن ألا يحدث أو أن يحدث سواه، أو أن يحدث على نحو آخر، أم أن كل الأحداث وبالتالي كل أفعال الإنسان مقدرة سلفا في طريق واحد لا سواه وكل مفاهيم الحرية والإرادة والاختيار أوهام وأباطيل لا مكان لها في الكون الذي نحيا فيه.
مشكلة الحرية بهذا المنظور إما أن تكون ميثولوجية، كأن تتدخل قوى أسطورية كالمويرا لتنفي حرية الإنسان وتلزمه بمصير محتوم مهما فعل وبتصرفات معينة لا محيص له عنها، وإما أن تكون ثيولوجية دينية حين يتعارض العلم المسبق لله، وقدراته تعالى أو مشيئته الشاملة مع إمكانية الاختيار أمام العبد، وإما أن تكون ميتافيزيقية حين تضطلع الفلسفة برسم صورة لوجود حتمي، تنتفي فيه أية حرية إنسانية، كتلك التي رسمها الرواقيون وسبينوزا، ثم أصبحت علمية حين تكفل العلم الحديث برسم هذه الصورة الحتمية للعالم، إنها نفس أطوار «كونت» التي مرت بها الحتمية: ثيولوجية ثم ميتافيزيقية ثم علمية، ذلك أن مشكلة هذه الحرية - أي الحرية في مستواها الأول - لا تأتي إلا من الحتمية التي تنفيها.
وكما يقول برلين كل صور الحتمية ترتد في النهاية إلى نموذج أو خطة أو مثال أو أفكار، كائنة في العقل الإلهي أو في العقل الكوني، كأهداف أو ككليات تحقق نفسها كعقليات ميتافيزيقية أو كتبريرات ثيولوجية آتية من عالم آخر، إن الحتمية تشبع الرغبة في المعرفة، ليس فقط معرفة كيف أو لماذا يوجد هذا العالم ولكن أيضا، معرفة لماذا استحق أن يوجد ولماذا وجد هذا العالم على وجه الخصوص دون غيره، ولماذا لم يوجد أي عالم غيره على وجه الإطلاق، وكان الحل مطروحا في حدود قيم، إما مطمورة في الوقائع ذاتها وإما هي محتمة من علو أو عمق متعال، كلها نظريات هي صور للحتمية، وسواء أكانت حتمية ثيولوجية أم أستطيقية أم دينية أم ميتافيزيقية، أم في النهاية علمية ميكانيكية، فإن الخاصة المشتركة بينها جميعا هي أن حرية الفرد في الاختيار وهم قائم على الجهل بالحقائق الذي يفترض أن ثمة مساحة معينة من حياة الإنسان لا تحددها قوانين تعبر عنها تعميمات العلم، تقدم المعرفة سيجعل مساحات جديدة من الخبرة محكومة بقوانين تمكننا من الاستدلال المنهجي والتنبؤ، وكلما عرفنا أكثر ضاقت مساحة حرية الإنسان وبالتالي مسئوليته،
31
حتى تتلاشى تماما في النهاية حين يصل التقدم العلمي إلى الدرجة المنشودة.
أما الحرية في المستوى الثاني، فهي تأتي من طبيعة أو بنية الجماعة المعينة التي ينتمي إليها الفرد الباحث عن الحرية فقد لا تسمح بها، ولكن بالتغيير والتطوير يمكن أن تسمح بها، فهذه هي الحرية التي تستلزم جهاد الأبطال وتضحيات الرواد وأحيانا استبسالهم واستشهادهم، المجتمعات كثيرة والجماعات أكثر؛ لذلك إذا كانت الحرية في المستوى الأول لها صورة واحدة هي الحرية الأنطولوجية وعائق وحيد هو الحتمية، فإن الحرية في المستوى الثاني لها صور شتى وعوائق شتى، حسب منظور الاهتمام الفكري والعلمي إنها حريات بعدية عينية تعددية نسبية تطورية جزئية، كالحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية والدينية والفنية والعلمية والفكرية والأكاديمية ... إلخ.
الحرية في مستواها الأول - الحرية الأنطولوجية - في حد ذاتها بغض النظر عن نتائج التنظير لها ليست خاضعة لأية متغيرات ولا درجات ولا جهود، فإما أنها كائنة وإما أنها غير كائنة، هي وضع أو بالأصح حيثية من حيثيات الوضع الذي وجد الإنسان نفسه فيه يمكنه فقط أن يعيه أو يدركه، إنها تساؤل يجيب عنه العقل بشتى إمكانياته؛ لذلك فهي مشكلة فلسفية بحتة خالصة.
أما الحرية في المستوى الثاني فكسب يحرزه الإنسان، ونتيجة تسفر عنها جهود الدعاة وكفاح المصلحين، وفيها - أو من أجلها - تتشابك نظريات الفلاسفة أو جهودهم مع جهود الجميع: الاجتماعيين والسياسيين والتربويين والسيكولوجيين والمجديين والرواد والمبدعين ...
الحرية في المستوى الأول هي حرية الموقف الوجودي المطلق، أما في المستوى الثاني فهي حرية الموقف الجمعي النسبي؛ لذلك فالأولى مطلقة لا يمكن أن تكون نسبية، لا أجزاء لها ولا درجات، أما الحرية في المستوى الثاني فهي نسبية لا يمكن أن تكون مطلقة ولا تتحقق إلا بدرجات متفاوتة، الحرية في المستوى الأول يندرج تحتها كل ما يسمى بميتافيزيقيات الحرية وتجريداتها وكلياتها، والمعبر الرسمي والشرعي، بل والأوحد عنها، نظرية اللاحتمية، أما الحرية في المستوى الثاني فيندرج تحتها كل ما يسمى بوضعيات الحرية وتمثيلاتها، المعبرون عنها كثيرون، وإن كان أشهرهم النظرية الليبرالية المعبرة عن الحرية السياسية والاقتصادية، وبشيء من التجاوز نقول وأيضا الحرية الاجتماعية والشخصية، وإذا أخذنا بالتقسيم الشهير للحرية إلى حرية سالبة تعني مجرد انتفاء عوائق الحرية، وحرية موجبة تعني تعيين مجال محدد يمارس فيه حريته لقلنا إن الحرية من المستوى الأول سالبة «انتفاء الحتمية» والحرية من المستوى الثاني موجبة، الحرية الأنطولوجية الحقيقية لن تكون إلا سالبة ولا يمكن منطقيا أن تأتي إلا من اللاحتمية الأنطولوجية، وأخيرا إذا رمنا دقة المصطلح لقلنا إن المستوى الأول حرية
Freedom ، والمستوى الثاني تحرر
Liberty ، وقد توجد حرية بغير أن يتحرر بها الإنسان، على أن الحرية في مستواها الأول - الحرية الأنطولوجية - هي الأساس الأولي والشروط اللزومي والمسوغ الضروري للحرية في مستواها الثاني والذي بدونه تنتفي أية مشروعية للبحث عنها؛ لأن كل تلك الحريات العينية الجزئية البعدية كائنة بالطبع في هذا الكون، ولو كانت كل أحداثه محتمة سلفا في تسلسل علي بدء ببدء هذا الكون، يجعل كل ما يحدث لا بد أن يحدث ويستحيل أن يحدث سواه، فما جدوى اكتساب الحرية السياسية مثلا أو عدم اكتسابها طالما أن وقائع التاريخ ككل أحداث هذا الوجود محتومة؟ وما جدوى تحمل مسئولية الحرية الشخصية أو عدم تحملها طالما أن عوامل الوراثة والبيئة قد حتمت سلفا ردود أفعال معينة وبالتالي قرارات وتصرفات معينة، بل وطالما أن مسار حياتي قطرة من طوفان الأحداث الكونية السائرة في المسار المحتوم وهلم جرا ...
على هذا لا بد من إثبات الحرية الأنطولوجية، بعبارة أخرى، الوعي بها وإدراكها قبل أي محاولة للبحث عن حريات عينية على المستوى الثاني، وإلا وقعنا في ابتسار النظرة أو التناقض الذاتي ثم الانفصام أو الشيزوفرينيا.
الحرية الأنطولوجية وضع وجودي، حيثية من حيثيات الوجود الإنساني، تساؤل يثيره مجرد وجود الإنسان في هذا الوجود؛ لذلك فهي في واقع الأمر تلك المشكلة الفلسفية العريقة التي انشغل بها الفلاسفة منذ ديموقريطس وحتى الآن، أما الحرية في المستوى الثاني فلم تظهر كمشكلة حادة تتطلب النظر والتنظير فضلا عن العمل إلا مع الفلسفة الحديثة؛ كنتيجة للتطور التاريخي الحضاري الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والذي فجرته عوامل شتى على رأسها تقدم العلم وبدء فعالية قواه التكنولوجية.
كانت الحضارات الشرقية القديمة، كما يزعم هيجل، تسلم بالحرية العينية لرجل واحد هو الحاكم أو الأب والعبودية لكل من سواه، وحين أتت الحضارة الإغريقية كان تضررها من الطغيان، لا سيما بعد اتصالها أو قهرها عسكريا على الأقل للحضارة الفارسية ورؤيتها لنظام الملكية المطلق فيها وفي مقابل نظام المساواة الغريب في أسبرطة،
32
وعلى الرغم من هذا وأيضا من أن الحرية السياسية بمعنى استقلال الدولة، دولة المدينة بالنظر إلى الخارج والديمقراطية في داخلها كانت شعارا مرفوعا استخدمه على الدوام كتاب التاريخ منذ أواخر القرن الخامس عشر ق.م.، وأنها انتقلت من اليونان إلى الرومان
33
على الرغم من كل هذا فإن الإغريق أحرزوا تقدما كميا لا كيفيا وكميا غير ذي بال، فكانت الحرية كل الحرية للمواطن الأثيني والعبودية للنساء والرقيق والأجانب، ولم تتغير الأحوال الاجتماعية كثيرا في العصور الوسطى، وحتى أفولها لم يلح على الأذهان تساؤل حاد بشأن الحرية في مستواها الثاني. وحين انتهت العصور الوسطى وتخلقت البيئة الحضارية للعصر الحديث - عصر العلم الحديث والفلسفة الحديثة - ألقى العلم على كاهل الوجود كل تلك الحتمية التي رأيناها، فهدد بل خنق الحرية الأنطولوجية حتى اعتراها الذبول وشحوب الموت، وفي الوقت نفسه تكاتفت العوامل الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية لتترعرع حريات المستوى الثاني كائنا غضا يافعا جذابا يستأثر بالاهتمام، ولكنه بغير أساسه، الحرية الأنطولوجية، كائن ينمو مجتث الجذور بالوجود أو الواقع الأنطولوجي، ليدب الفصام في قلب مشكلة الحرية يسفر في النهاية عن التنائي الشاسع بين مستوييها أو شطريها حتى أباح المفكرون لأنفسهم بوعي أو بدون وعي إنكار شطر والإقرار بالآخر فتفاقمت هلامية الحرية، كدالة من دوال الشيزوفرينيا التي تلخص الآثار الوبيلة لمعضل الحرية في العالم الحتمي، والتي سيوضحها الفصل الثالث (الفقرة 18).
وإذا وضعنا في الاعتبار الفصل بين مستويي الحرية ثم تمكنا من إرساء المستوى الأول للحرية الأنطولوجية ثابتة مكينة أمكن أن ترى كل الجهود النظرية والعملية لتشييد حريات المستوى الثاني بمنجاة من الشيزوفرينيا، على الإجمال إنه طريق يفضي إلى تحقيق الأهداف المطروحة في مقدمة البحث، ولكن هذا البحث في حد ذاته الذي عرضت مقدمته الصورة أو بالأحرى الصورتين الأنطولوجيتين اللتين رسمهما العلم في انقلابه من الحتمية إلى اللاحتمية مختص بالبحث في الحرية بمستواها الأول الأنطولوجية والتي هي ببساطة غير كائنة في العالم الحتمي، وكائنة في العالم اللاحتمي، على أن هذا في الواقع ليس بالأمر البسيط.
الفصل الثاني
معضل الحرية في عالم العلم الحتمي
(5) نحن الآن في العصر الحتمي بإزاء الصورة التي رسمتها إبستمولوجية العلم النيوتوني لهذا الكون الذي يحيا فيه الإنسان ويمارس أنشطته وأفعاله، لتندرج في تيار الأحداث، وقد رأينا كيف انساق هذا التيار في تسلسل حتمي؛ كل حدث - سواء فيزيائي أو كيميائي أو بيولوجي أو سيكولوجي أو سيسيولوجي أو تاريخي ... إلخ حدوثه - ضروري وحدوث سواه مستحيل، ومعنى هذا انتفاء بدائل للحدث، وقد رأينا أن البدائل هي الشرط الضروري للحرية.
كل حدث محتوم لأنه معلول بما سبقه، وعلة لما يلحقه، إذن فكل فعل من أفعال الإنسان هكذا، ولو وجد عقل لابلاس الفائق، فسوف يستطيع التنبؤ بما يفعله كل شخص في كل لحظة، وعلى أقل الفروض حين يوجد نسق العلم السيكولوجي المماثل في نضجه وتطوره لنسق العلم الفيزيائي، سيستطيع عالم النفس أن يتنبأ يقينا بسلوك الشخص المحتوم عليه أن يفعله حين يتعرض لموقف معين، تماما مثلما يتنبأ عالم الكيمياء بسلوك الماء المحتوم حدوثه حين يتعرض الماء لدرجة حرارة معينة، وبهذا العلم اليقيني الشامل لا بدائل أمام الإنسان ليختار منها فقط الحدث الواحد والوحيد المحتم أنطولوجيا بالعلل وإبستمولوجيا بالقانون، فكيف الاختيار؟ ومن أين الحرية؟ وأي دور للإرادة؟!
الحتمية العلمية تعني أن كل حدث محتم بسوابقه، والمستقبل لهذا وليد الماضي، ومن ثم فإن أفعال الإنسان بدورها هكذا محتمة بسوابقها، أي عللها، ومستقبله وليد ماضيه، وقراراته وأفعاله المقبلة معلول حتمي للعلل البيئية والوراثية التي حددت في الماضي شخصيته فحتمت ردود أفعاله، وتماما كما استطاع العلم التنبؤ اليقيني بكسوف الشمس وخسوف القمر فسوف يستطيع التنبؤ اليقيني بالمشروب الذي يختاره الشخص في اللحظة المعينة، وبالمصيف الذي يختاره لقضاء إجازته، وبالثوب الذي سينتقيه وبالثورة التي سيقودها، وبالجريمة التي سيرتكبها، وبالمعونة التي سيتبرع بها، وبالكشف العلمي الذي سيتوصل إليه وبالعمل الفني الذي سيبدعه، وبالعاطفة التي سيعيشها، بل وبكل حرف يتفوه به وبكل إيماءة تصدر عنه ... إلخ، وإذا كنا لا نستطيع الآن التنبؤ بهذا فتماما كما كنا منذ مئات الأعوام لا نستطيع التنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر، المسألة مجرد حدود للجهل ستتقلص بمرور الأيام وبتقدم العلوم خصوصا علم النفس وسائر علوم الإنسان، حتى نصل إلى اليوم الذي ندرك فيه آفاق الحتمية الشاملة الكاملة ولا يبقى مجال لحتمية مجهولة ، فنتصور أن هذا المجال مجال للحرية، إذن الإرادة ووهم الحرية كسائر شياطين التخلف تولد وتحيا في ظلام الجهل، ونور العرفان كفيل بوأدها، وحينما يتحقق نسق العلم الكامل سيعم نوره فيلغي افتراض الحرية نهائيا!
على أن الحتمية العلمية لم تكن في حاجة إلى أن تنتظر ريثما يتحقق نسق العلم الكامل، أو حتى نشأة العلوم الحتمية الإنسانية لكي تنفي حرية الإنسان، ولا حتى كانت في حاجة ماسة لذلك التأويل الذاتي لحدود الجهل الإبستمولوجي، لتنزه الواقع الأنطولوجي من أية شبهة حرية من حيث كانت تنزهه من أية شبهة لا حتمية ... كلا لم تكن الحتمية العلمية في حاجة ماسة لكل هذا؛ لأننا رأيناها - في المدخل - قد بدأت في أولى خطواتها بالحتمية الفلكية وبهذا استطاع مبدأ الحتمية أن يواصل مسيرته بغير انقطاع عبر التاريخ، ويمارس دوره المطرد في نفي الحرية، وبغير أن يعرقل هذا الاطراد الانقلاب الجذري الذي أحدثته ثورة العلم الحتمي في العصر الحديث، فهذه المرحلة المبكرة من العلم الحديث الحتمي - في القرن السادس عشر وبواكير القرن السابع عشر - كانت خطوة حاسمة للانتقال من علم التنجيم الخرافي إلى علم الفلك الوضعي، كمقدمة لنقل بقية أفرع العلم إلى المرحلة الحتمية الوضعية، بيد أن العقول كانت - ولعل بعضها لا يزال حتى الآن - مشبعة بمقدرة التنجيم على قراءة الطالع والتنبؤ بمصائر الأشخاص، ولما كان علم التنجيم يزعم أنه يفعل هذا عن طريق حركات النجوم والكواكب، فمبجرد أن أتانا العلم الحتمي بأول مراسيمه الحتمية - أي بأن حركات النجوم والكواكب خاضعة لضرورة الحتمية العلية - إلا وكان هذا المرسوم يعني أيضا أن مصائر البشر بدورها هكذا.
على هذا النحو انقضت الحتمية العلية بأولى خطواتها الغضة على حرية الإنسان لتلزمه بالمحتوم، وبمرور الأعوام تجاوزت الحتمية ميدان الفلك لتصل إلى كل الميادين الواحد بعد الآخر، وكل ميدان تفرض سطوتها عليه يؤكد من جانبه نفي حرية الإنسان حتى وصلت إلى غايتها بالتفسير الميكانيكي الجامع لكل ظواهر الوجود، «والذي يعتبر العالم دائرة مقفلة من الحوادث يتصل بعضها ببعض اتصالا عليا بحتا لا دخل لاختيار الإنسان فيه، وأن كل ما يحدث قد قدر أزلا وأحصي عددا كما لو كان نتيجة لعملية حسابية عظمى قام بها عقل حاسب»،
1
إننا بإزاء عالم حتمي كامل، وليس ثمة مجال لتدخل أي شيء من خارجه، وكما نصت قوانين الحفظ والبقاء؛ كل ما يحدث في مثل هذا العالم قد تحتم من قبل فيزيقيا بما في ذلك كل حركاتنا وبالتالي كل أفعالنا، ومن ثم فإن كل أفكارنا ومشاعرنا ومجهوداتنا لا يمكن أن يكون لها تأثير فعلي على ما يحدث في العالم الفيزيقي، إنها إن لم تكن محض أوهام فهي على أحسن الفروض نوافل ومنتجات جانبية وظواهر فرعية للأحداث الفيزيائية.
2
ولم يكن الوعي مشكلة أمام الحتميين، بعضهم اعترف به كعلة للسلوك، وظل السلوك محتوما على أساس أن الوعي بدوره معلول لعلة أسبق، بعبارة أخرى الوعي يندرج في التسلسل العلي ليغدو هو ذاته محتوما بسوابقه، والبعض اعتبر الوعي محض ظاهرة فرعية ثانوية وليس علة، وفي كلتا الحالتين التفسير الميكانيكي يحكم قبضته على العالم، فلن يستطيع الإنسان أن يفر من هذه الحتمية الميكانيكية الشاملة، يا ليت فحسب بل هرولت إلى رحابها علوم الإنسان الناشئة حديثا وهي بعد قاصرة لم تستقم قامتها.
أصبح الفكر يفسر على أنه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد، وتصورنا أنه إذا أمكن تقصي كل التغيرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث في المخ والجسم لأمكننا - ولو من حيث المبدأ - أن نستدل على كل الخبرات الذهنية والعاطفية الخاصة بالفعل الذي يصاحبها، فإذا كانت التغيرات المادية مرتبطة بسلسلة من العلل فلا بد وأن الخبرات الذهنية والعاطفية مترابطة أيضا بنفس الأسلوب ولم يعد هناك مجال لحرية الإرادة.
3
وكما أوضحنا حتى ولو كان الوعي - وليس العلل الفيزيقية - هو العلة المباشرة للسلوك، فإن الوعي محتوم بعلل؛ أي محتوم بسوابقه، وبالتالي فإن السلوك بدوره هكذا، رفض هذا يعني رفض إمكانية الفهم العلمي لسلوك الإنسان (قد رأينا في المدخل كيف أصبح التفسير العلمي مطابقا للتفسير الميكانيكي)؛ وبهذا يتأكد مرة أخرى أن تصور الحرية محض وهم ناشئ من الجهل.
يستبعد التفكير الميكانيكي مقولة الحرية جملة وتفصيلا؛ لأنه يستبعد أية إمكانية لأي دور تقوم به ولأي حيز لها، ولأي منشأ لها أو أصل، ولأي هدف لها أو داع؛ ذلك لأنه يسحق تماما كل وأي محاولة لتفسير السلوك الإنساني في حدود الاختيار والأهداف والعقائد والنوايا،
4
كلها مفاهيم أو محاولات تطيح بها نظريات الفسيولوجيا العصبية، لقد أصبح الفعل المعين والحركة المعينة للإنسان خاضعة بالكلية للتفسير الميكانيكي والذي هو محض تفسير حركي فيزيقي ولدرجة أن كل تفسير سواه عقيم وباطل،
5
وبالتالي أصبح لزاما على مقولة الحرية الإنسانية أن تغادر هذا الوجود، ومعها كل مفاهيم الأغراض والأهداف والغايات والمثل العليا التي تسعى هذه الحرية إليها؛ لكي تكون حرية إنسانية واعية، أوليس التفكير الميكانيكي هو التفسير الحتمي، هو التفسير العلي بالعوامل السابقة، وأي تفسير بالهدف أو الغاية المستقبلية إهدار للسمة العلمية ورجعة تقهقرية إلى العصر المتخلف السابق على عصر الحتمية العلمية، أي عصر الغائية.
هكذا أصبحنا دمى لا حول لها ولا حيلة في يد الحتمية الكونية بقوانينها الميكانيكية وعواملها العلية، التي تحدد طريقا نحن فيه سائرون، أو بالأحرى مسيرون، وإن تصورنا أننا متجهون بالإرادة الحرة نحو قرار أو اختيار أو هدف أو غاية؛ فذلك لأننا عميان وإن كنا نبصر، صم وإن كنا نسمع، عميان وصم عن القوى العلية الكائنة في الخلف.
العلية إذن هي مربط الفرس والكفيلة وحدها بتصدر الواجهة في مواجهة حرية الإنسان، وحقا أن العلية مجرد وجه آخر للحتمية إلا أنها على أية حال أكثر من الحتمية تحديدا، فهل يمكن الاستفادة من هذا التحديد في إيجاد مجال للحرية الإنسانية؟ ••• (6) «معضل الحرية/العلية»: لنتذكر أننا الآن في العصر الحتمي الذي امتد حتى نهايات القرن التاسع عشر، وكنا قد رأينا كيف امتد نطاق العلية من الحس المشترك إلى الفكر الفلسفي إلى العلم البحت، فاندرجت كل أحداث الوجود - ومن ضمنها الأفعال الإنسانية في التسلسل العلي الأنطولوجي، وأصبحت كل فاعلية مؤثرة أو قوة متغيرة علة معلولها الأثر أو التغير الذي هو الحدث موضع البحث، ولما كنا نرفض المفاهيم الصوفية والرومانتيكية وغيرها من مفاهيم لا معقولة للحرية، ونتمسك بالمفهوم الواقعي - بمعنى الواقعية الحديثة
6 - للحرية الأنطولوجية، أي باعتبارها محدثة أو مساهمة في إحداث فعل الفاعل، فإن هذا يجعل السبيل الأوحد والذي لا سبيل سواه إنما في جعل الحرية علة، معلولها فعل الفاعل، ومن الناحية الأخرى - الناحية الإبستمولوجية - فإن تعقل أو تفسير أو فهم أي حدث إنما هو تعليله بطريقة معينة؛ لأن أي تفكير عقلاني موضوعي في هذا الوجود قد أصبح تفكيرا عليا، فالعلية كما قال كانط من الشروط القبلية للعقل ولا سبيل إلى تجاوز معطيات الحواس بدونها، وبالتالي إذا كان ثمة فعل حر فلا بد وأن يكون معلولا بطريقة معينة.
فهل يمكن هذا؟ هل يمكن أن تندرج الحرية الإنسانية وفعلها الحر في سياق العلية الأنطولوجية والإبستمولوجية؟ لو قلنا: «الفاعل سيفعل الفعل إذا أراد أن يفعله فهل هذا عرض علي للفعل الحر؟ على أساس أنه إذا كانت الإرادة معللة للفعل فهي بالتالي قوة علية يملكها الفرد، فيصبح الفعل الحر هو الفعل الذي أحدثه تغيير في الفاعل جعله يحدث شيئا ما خارجه، وهذا في الواقع هو المعنى الطبيعي للقوة العلية المعزوة للشخص إن له قوة تعلل حدوث أشياء.»
7
وبهذا يصبح الفعل الحر معللا بطريقة معينة.
ولكن، ما الذي أحدث تغييرا جعل الفاعل يحدث تغييرا خارجه؟ إن أية إجابة عن هذا السؤال تجعل العامل العلي، الذي افترضنا أنه الحرية، معلولة لقوة قبلها أي محصلة ضرورية لها، والضرورة هي النقيض المنطقي للحرية، ثم إذا كانت الحرية التي هي قوة علية للفاعل تؤدي دورها حينما تتحقق ظروف معينة، وأن «نقول متى يكن الفاعل حرا في أداء الفعل بإرادته فإن هذا يعني طرح الشروط التي سيؤدي فيها الفعل، وتفسير أداء الفعل الإرادي يعني أن هذه الظروف قد تحققت»،
8
وأن العوامل العلية بما فيها الحرية المفترضة عبثا قد اكتملت، وبالتالي فإن الفعل المعلول قد تحتم، فأين هي الحرية؟ فضلا عن أن سلسلة العوامل العلية تمتد إلى مدى بعيد جدا خارج الفاعل لنجده يقع في موقع متأخر منها ليصبح هو ذاته بكل مكوناته سواء افترضنا الحرية فيها أو لم نفترضها مجرد حصيلة أو معلول للعلل التي حتمت وضعه وتكوينه وبالتالي حتمت فعله، أما إذا طرحنا الحرية جانبا وعللنا الفعل بالنوايا والدوافع والرغبات والغرائز؛ فقد وقعنا في شراك الحتمية العلية مباشرة، سوف تصبح هذه العوامل التي حددتها الوراثة والبيئة علة ضرورية والفعل الإنساني معلول حتمي لها، والخلاصة أن مجرد كينونة العلية في العقل أو في الواقع كفيلة باستبعاد، لا الحرية فحسب بل مشكلة الحرية بأسرها عن بكرة أبيها.
وقد حاول جورج إدوارد مور، الفيلسوف التحليلي الرائد، أن يحلل الفعل الحر تحليلا عليا، وعلى الأساس المتفق عليه دائما من أن البدائل - أو البديلين على الأقل - الشرط الأول لأنه حرية، فجاء تحليله في ثلاث قضايا، الأوليان متضمنتان صراحة والثالثة ضمنا: (1) «كنت أستطيع» لا تعني إلا: «كنت أستطيع إذا كنت قد اخترت». (2)
يمكن إحلال «كان يجب علي إذا كنت قد اخترت»، محل «كنت أستطيع إذا كنت قد اخترت». (3) «إذا» في هذين التعبيرين، تطرح شروطا علية يترتب عليها أني كنت أستطيع أو كان يجب أن أفعل غير الذي فعلته فعلا.
9
وعلى الرغم من أن هذا التحليل بطبيعة حال التحليلات اللغوية: تحصيل حاصل لا ينفي ولا يثبت شيئا، فإن بقية جهود الاتجاه التحليلي مع فلاسفة اللغة الجارية أوستن وراسل واستراوسون قد أثبتت أن أية محاولة للتحليل العلي للفعل الإرادي خاطئة، هذه بالطبع هي النتيجة المنطقية الواضحة التي تنفي حتى الاحتياج لكل هذا القيل والقال؛ لأن مجرد مقولة «العلية» في حد ذاتها كفيلة بدحض مقولة الحرية دحضا منطقيا، أي دحضا ضروريا من أي وجهة للنظر، وذلك على النحو الآتي: العلية تعني أساسا العلة الكافية، والآن إما أن تكون للفعل الحر علل كافية أو لا تكون له، وإن كانت له علل كافية كان محتما بها وبالتالي لم يكن حرا، وإن لم يكن له علة لما كان قد حدث، وبالتالي فإن الفعل الحر لا وجود له، ومن الناحية الأخرى فإن محاولة تعليل «الفعل الحر مسألة متناقضة؛ لأن طرح الإرادة الحرة هو طرح لفرض «عامل أولي» مجرد التساؤل عن مزيد من التفسير له خلف محال
Absurd ».
10
الخلاصة أن العلية والحرية تستبعد كل منهما الأخرى، إما هذه وإما تلك والثالث مرفوع، وبالتالي لا أمل في أي حديث عن الحرية في العالم العلي الذي هو عالم العلم الكلاسيكي النيوتوني الحتمي. ••• (7أ) «حجج الحتمية»: كل قانون يتوصل إليه العلم الحتمي مهما كان كليا أو جزئيا إنما هو حجة من حجج الحتمية العلمية، لتنفي بها حرية الإنسان، ومع هذا، لا بأس بشيء من التجريد يجعلنا نجمل هذه الحجج. (1)
وفي مقال وجيز أجمل هيرمان هاريل هورن (1874-1946) - على الرغم من أنه هو نفسه ليس حتميا - خلاصة الحجج التي تحاصر بها الحتمية العلمية حرية الإنسان للقضاء عليها، وبالطبع كل من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية تتكاتف لاستبعاد الحرية، ويردف هورن هذا بأنه حتى الأخلاق والثيولوجيا قد تتطلب منظورا حتميا للسلوك الإنساني، مع ملاحظة أننا جميعا يمكن أن نكون حتميين بناء على هذه الحجج وأيا كانت مشاربنا الفلسفية؛ لأنها حجج مشتقة من العلم ذي الموضوعية الأنموذج، وخلاصة هذه الحجج فيما يلي: (أ) «حجة الفيزياء»: تقوم على مبدأ: «بقاء الطاقة الكلية للعالم ثابتة»، فقط خاضعة للتحولات من صورة لأخرى كما تتحول من صورة الحرارة إلى صورة الضوء مثلا، غير أنها ليست خاضعة للزيادة ولا للنقصان، وهذا يعني أن أية حركة لأي جسم قابلة تماما للشرح في حدود ظروف فيزيائية سابقة، وهذا يعني أن أفعال الجسم الإنساني تعللها ميكانيكيا الظروف السابقة للجسم والعقل بغير إشارة للعقل الفردي بنواياه وأغراضه. إذن، فحرية الإنسان لا تسهم في سلوكه؛ ذلك لأن أفعاله محتومة فيزيائيا من كل الوجوه، فإذا سببت حالة الإرادة التي هي عقلية حركة للجسد الذي هو فيزيقي، فإن الطاقة الفيزيائية للعالم سوف تزداد مما يناقض الافتراض الكوني الذي يسلم به الفيزيائيون، أي مبدأ بقاء الطاقة؛ على هذا، فإنه بالنسبة للفيزياء ليست إرادة الإنسان علة
vera
لتفسير حركات الجسد الفيزيقية. (ب) «حجة البيولوجيا»: وهي حجة يجعلها فرض التطور الداروني في المقدمة ، وتعتمد على فرض البيولوجيا القائل إن أي كائن حي يمكن تفسيره بصورة ملائمة تماما وفقط عن طريق الإشارة إلى وراثته وبيئته، هذان العاملان الفعليان، وتقاطعهما معا يفسر تماما كل حركات الكائن الحي، إن أي كائن حي إنما هو مركب من قدرات وردود أفعال للمنبهات، القدرات مأخوذة من الوراثة، وردود الأفعال من البيئة، وهذا التفسير ملائم تماما للحيوانات الدنيا فلماذا لا يلائم أيضا الحيوان الأعلى أي الإنسان. (ج) «حجة الفسيولوجيا»: رأينا في المدخل كيف أن علوم الحياة والفسيولوجيا قد استعارت مناهج التفسير من العلوم الفيزيوكيميائية التي تتناول المادة الجامدة، وكما يقول هورن، سوف يتجلى هذا في حجة الحتمية القائمة على الفسيولوجيا، وتقوم هذه الحجة على افتراض الآلة الإنسانية الذي ورد مرارا وتكرارا إبان رحلتنا مع الحتمية العلمية خصوصا حين التعرض للحتمية البيولوجية، وإذا كان الإنسان آلة فلا بد وأنه آلة واعية؛ إذ لا يمكن إنكار الوعي بيد أن الحتمية الفسيولوجية تنكر أية فعالية للوعي فكل أفعال الإنسان على الرغم من تعقدها إنما تعمل بموجب النمط الآلي الأوتوماتيكي، وقد تكون مصحوبة بالوعي، ولكن الوعي على أية حال لا يقع في سلسلة الظواهر العلية بل يقع خارجها بوصفه ظاهرة خارجية
Epi-Phenomenon
على حد تعبير هكسلي، وإذا كان الإنسان آلة واعية فسيبدو عمل الإرادة الحرة، أي أن يحدد الاختيار السلوك، كما لو كان معجزة، على أن السماح بالمعجزات يناقض كل أسس العلم الذي لا يعترف إلا بسلسلة العلل والمعلولات؛ لذلك لا بد وأن يرفض العلم كل العوامل الروحية بموجب أسسه النظرية والتطبيقية على السواء. (د) «قانون العلية»: وقد رأيناه العمود الفقري للعلم الحتمي، والذي تصور علماؤه أنه علم علي، وحجة الحتمية القائمة على هذا القانون تسير كالآتي:
كل العلل المتماثلة لها معلولات متماثلة، المعلول يماثل العلة حتى إنه محض ترجمة لها، والآن نجد أن التصرف الإنساني هو بالطبع معلول فيزيقي، ومن ثم نتوقع أن نجد له بالضرورة علة فيزيقية؛ العلة الفيزيقية تستبعد من طبيعة الحالة أية علة غير فيزيقية، ومن ثم فإن الإرادة الإنسانية بالطبع لن تعلل شيئا، وحركات الإنسان والكلب والحجر والشجر كلها متماثلة في أنها تعود إلى ظروف فيزيقية سابقة، وهذه الظروف الفيزيقية بوصفها العلة تحدد، هي فقط بمفردها، المعلول، وتماما كما أننا لم نعد نستطيع تفسير الضوء في المصطلحات الفيزيقية على أنه سهام جوبيتر فإننا بالمثل لم نعد نستطيع تفسير أفعال إنسان ما بالإشارة إلى ما تنتويه روحه. (ه) «حجة فلسفة العلم للطبيعة»: وهي مجرد تعميم لكل الحجج الأربع السابقة، وفلسفة الطبيعة في إطار فلسفة العلم، هي نظرية عامة مفسرة لكل حدوثات الطبيعة وقد رأينا أن المثال الميكانيكي هو مثال التفسير العلمي في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفسيولوجيا ... وسواها من العلوم، وليست الأحداث تحدث لأن أي شخص أو أي إرادة قد شاءتها أن تحدث، إنها تحدث لأنه كان عليها أن تحدث وكان لا بد وأن تحدث، وإيجاد الرابطة الضرورية بين حدوثات الطبيعة هي مهمة العلم، وعن طريق الفرض الميكانيكي، نجد أن الكون كليا وجزئيا محكوم بالقانون الميكانيكي، ومجال القانون كوني كلي، بينما الإنسان مخلوق ضئيل جدا على أرض ضئيلة، هي ذاتها كوكب صغير نسبيا، في واحد من أصغر النظم الفلكية، بين عدد ضخم لا محدود من الأنظمة الفلكية التي تملأ هذا الكون، إن الكون نظام فيزيقي تعمل فيه القوانين، وما الإنسان إلا أصغر جزء من هذه الآلة الكونية، فكيف يمكنه إذا أن يفعل غير ما يفعله؟ أما عمل الإرادة الحرة الفردية فلا يقحم إلا كنزوة أو هوى، أو بالكثير مصادفة، في قلب كون كل حركاته محتمة ميكانيكيا، حتى إن ملاحظا ذا علم شامل، يلاحظ الوضع الحاضر يمكنه أن يتنبأ تنبؤا معصوما من الخطأ بكل ما سيكون في المستقبل ... كما أخبرنا لابلاس، وكما أوضحنا في المدخل تطرق مثال الحتمية العلمية، حتى وصل إلى العلوم التي تدرس الظواهر العقلية الإنسانية فاقتحمت الحتمية العلمية الحرية والإرادة الإنسانية، وكان اقتحاما مظفرا أسفر عن حجة مباشرة تماما هي: (و) «حجة علم النفس»: طالما أن منهج العلم يستبعد حرية الإرادة، فمن الطبيعي أن يصبح علماء النفس حتميين، يقرون بأن كل تصرفات الشخص لا تعدو أن تكون ردود أفعال انعكاسية آلية لمؤثرات بيئية لا دخل فيها للشخص، إنه لا يستطيع أن يتحرر كلية من عاملي الوراثة والبيئة، ولكن ليس التساؤل المطروح هو ما إذا كنا أحرارا كلية، بل ما إذا كنا أحرارا أصلا.
وتقوم حجة الحتمية ها هنا على أساس اعتماد علم النفس على العلوم الأسبق منه في سلم العمومية خصوصا الفسيولوجيا التي تسبقه مباشرة، وبناء على هذا، لن يكون ثمة حالة عقلية بغير حالة للمخ مناظرة لها، ذلك أن حالة المخ يجب وأن تعد تفسيرا للحالة العقلية، طالما أنه لا توجد للحالات العقلية المتعاقبة علاقات قابلة للتحكم، وحالة المخ ذاتها لا تفسر بالرجوع إلى الحالة العقلية، بل بالإشارة إلى حالة المخ الأسبق منها؛ على هذا النحو، لا تتحطم سلسلة العلية الفيزيقية، إنها تفسر نفسها بنفسها، وتفسر أيضا تسلسل الحالات العقلية، في حين أن تسلسل الحالات العقلية بدوره لا يفسر شيئا على الصعيد الفيزيقي، وهذا يستبعد بصورة حاسمة الإرادة الواعية من أي مجال للفاعلية.
إن علم النفس بوصفه علما بالذهن، له أيضا تصوره الحتمي للقانون، فإذا ما فهمنا المجال العقلي، فلا بد وأن له هو الآخر قوانينه، ويجب أن تكون هذه القوانين بغير استثناء يتضمن الإرادة الحرة، إنها لمهمة علم النفس من حيث هو علم، أن ينكر أية استثناءات وأن يكتشف القوانين، وعلى رأس القوانين التي تبرز بجلاء كيف ينفي علم النفس الحتمي الحرية، إنما هو قانون الدوافع، الذي ينص على أنه ليس ثمة أي فعل بغير دافع، وأن أقوى الدوافع هو الذي يحدد الإرادة ودائما يجيء الفعل طبقا لأقوى الدوافع، والدوافع، سواء فطرية أو مكتسبة، مستقاة من البيئة والوراثة، أو من كليهما معا، فكيف يمكن أن يختار الإنسان أن يتبع الدافع الأضعف؟ على الإجمال، كيف يمكن له أن يختار أصلا؟ (ز) «حجة علم الاجتماع»: يتناول علماء الاجتماع مشكلة الحرية من منظور آخر خاص بهم، فهم يسحبونها من نطاق الفعل الفردي، ويضعونها في نطاق المجتمع، وهذا أجدى كثيرا - في رأيهم ؛ لأن الإنسان يعيش ويتصرف بالفعل في مجتمع وليس في عزلة فردية، ثم إن أعضاء الجماعة ليسوا أحرارا في اتخاذ القرار، إنهم يتبعون القائد، والقائد بدوره لا يتخذ القرار بحرية فهو واقع تحت تأثير الأفكار الكائنة في عقله، ويمكن تعقب أفعال الإنسان حتى نصل إلى أفعال الآخرين وإلى الأفكار المسيطرة عليهم؛ وعلى هذا، يصبح علم التصرف الإنساني في الجماعة ممكنا، فقط عن طريق الاعتراف بالحتمية الاجتماعية وإنكار الحرية الإنسانية، ولم يكن تاريخ علم الاجتماع حتى كونت وإميل دور كايم إلا تبيانا للجهود التي بذلها مؤسسو علم الاجتماع لكي يصبح علما حتميا يضع القوانين الحتمية التي تتنبأ مسبقا بما سوف يحدث، وإذا كان هذا التنبؤ ممكنا فكيف يمكن إذن أن تعود تصرفات الأفراد في الجماعة إلى إرادة حرة،
11
إن ما يبدو على أنه أفعال الإرادة، سوف يخضع لقوانين عامة، بحيث يمكن - بل يجب - استبعاد فرض الحرية، ويصبح علم الاجتماع هو الآخر نصيرا للحتمية.
وأخيرا،
12
نجد الحجة الثيولوجية: وهي تقوم على أساس أن الله ذو علم شامل، إنه عالم بكل شيء، وعلى هذا يعلم ما سوف أفعله وقبل أن أفعله، وبالتالي، فليس أمامي أن أفعل سوى ما فعلته، وإلا كان علمه تعالى قابلا للتكذيب، وهذا خلف محال، إذن، ليس أمامي إمكانيات متاحة لي أو اختيار، أنا لست حرا، على هذا النحو يستبعد مبدأ المعرفة المسبقة للرب الحرية الإنسانية، وأي إنكار لهذا فيه مساس بالذات الإلهية.
13
وقد يظن البعض - ومنهم هيرمان هورن نفسه - أن هذه الحجة الثيولوجية لا علاقة لها بالعلم، غير أن أبسط مقارنة بينها وبين صياغة لابلاس الشهيرة لمبدأ الحتمية، توضح كيف أنه بعد تصدع سلطة الكنيسة تبوأ العلم الحتمي عرش العرفان، فتحمل مسئولية الإتيان بالعلم الشامل الذي يحدد ويتنبأ بدقة ويقين بكل ما سوف يحدث، كما أشار المدخل؛ وعلى هذا ليس بدعا أن يأخذ العالم على عاتقه إثارة معضل الحرية، بعد أن كان الفكر اللاهوتي بمقولة العلم الشامل وأيضا القدرة الشاملة للألوهية يتكفل بإثارتها في العصر الوسيط.
14 (7ب) «أما تشارلي دنبر برود»
C. D. Broad (1887-1971)، فقد تناول حجج الحتمية على أساس منطقي أسفر عن حجتين سلبيتين وأخريين إيجابيتين، وقد أوضح أن التأييد الأعظم للحتمية يأتي من العالم المادي الذي لا يعترف العلم بسواه، وإذا كانت المظاهر السطحية له تؤيد الحتمية أحيانا وتعارضها أحيانا، فإنه كلما درست المادة بدقة أكثر أصبح نطاق اللاحتمية أضيق، ونحن نتمكن أكثر من موضوع الدراسة بالتفسير الذاتي للاحتمية، أي على أنها جهل مؤقت بقوانين حتمية، أما ما يبدو من لاحتمية يكتشفها الاستبطان في بعض الأحداث التي تقع للعقل وخصوصا حين اتخاذ القرارات، فسوف تدحضها بالتفصيل (الفقرة 10)، بما يمكن اعتباره حججا سلبية للحتمية، وتبقى حجتان إيجابيتان:
الحتمية قد أصبحت يقينية في العالم اللاعضوي، فلماذا لا تصبح هكذا في العالم العضوي وأيضا العالم العقلي؟ إنها حجة المماثلة التي دفعت بقية أفرع العلم - كما أوضح المدخل - إلى السعي نحو المثال الحتمي.
والحجة الثانية أقوى الحجج، إنها تقوم على أن حركات الأجسام المادية حتى تلك التي تنسب عادة إلى الإرادة والحرية يمكن تفسيرها في حدود العلية الفيزيقية، وما دام الأمر هكذا فإن الإرادة الحرة ليست لها فاعلية علية، وقد يثار اعتراض من أنصار الحرية مؤداه أنه من الواضح أن الإرادة الحرة عادة ما يتبعها الفعل أو الحركة المرادة وأن بعض تسلسلات الحركات الجسدية كتلك المتضمنة في كتابة هذه السطور ما كانت لتحدث ما لم تسبقها إرادة حرة مناظرة، فكيف يمكن تفسير هذا الارتباط غير المتغير تقريبا والذي ليست له أية علاقة علية مباشرة؟ وأكثر الاستفسارات استصوابا أن بعض العوامل الفيزيقية في العلة الكلية لمثل هذه الحركات الجسمية لها معلولات فيزيقية وبالمثل معلولات نفسية، والحركة الجسمية لا تحدث إلا إذا سبقها وضع فيزيقي هو مثل سائر الأوضاع الفيزيقية محتم تماما، وطالما أن أية إرادة - هي بالضرورة - مصاحبة أو تالية لأوضاع فيزيقية كانت كل إرادة محتومة تماما،
15
وبالتالي يصبح افتراض حريتها مستحيلا أو على أحسن الفروض نافلة لا داعي لها. (8) «إما العلم وإما الحرية»: هكذا كانت الحتمية العلمية تنفي الحرية الإنسانية وكأنها محض وهم جاس يوما في العقول، ولم يعد يليق بالإنسان في عصر العلم أن يفسح مجالا لمثل هذه الأوهام الفارغة، فتكاتفت العلوم بأفرعها المختلفة لتعمل على تخليص الإنسان من وهم الحرية والإرادة، تماما كما كانت تعمل على تخليص الإنسان من شتى مخلفات عصور الجهالة البائدة وبواسطة سعيها الطموح نحو المثال الحتمي، كل تقدم صوب هذا المثال، أي كل تقدم إجمالا، إنما هو على حساب الحرية الإنسانية حتى إذا وجدنا أنفسنا بإزاء نسق العلم الحتمي الكامل، فقد وجدنا أنفسنا بإزاء نفي كامل لكل ولأية حرية إنسانية.
وما دام الأمر هكذا فلا بد وأن علماء الحتمية يعتبرون الحرية لغوا باطلا وخلفا محالا، يلفظونها كما تلفظ النواة وبلا مواربة، لقد ظل إنجيلهم مبدأ ديكارت أبي الفلسفة الحديثة، وقد رأيناه من أساطين الحتمية العلمية، المبدأ الذي يقوم على أن لا شيء يجيء من العدم وأن قدرة إرادة ما تتكون فقط من أننا مجبرون على تصرف معين بتأثير قوة خارجية؛ وعلى هذا فحرية الإرادة ما هي إلا الاسم الذي نطلقه على الحتمية التي لا ندركها،
16
لقد وجدوا أنه من الضروري تقبل المذهب الحتمي في شكله التقليدي، فأفعالنا تحددها إرادتنا، وإرادتنا تحددها دوافعنا، ودوافعنا محكومة بماضينا، سيفكر عالم النفس في هذا الماضي على ضوء الوراثة والبيئة وعالم الفسيولوجيا في ضوء الأنشطة الكهربائية الكيميائية ... ولكنهم جميعا سيتفقون على أن القوة النسبية للدوافع تحددها أحداث الماضي بحيث لا يختار الإنسان لنفسه أبدا فماضيه هو الذي يختار دائما،
17
أولم تعلمنا الحتمية العلمية أن المستقبل مجرد وليد للماضي؟
ظل هذا هو موقف العلماء، وتمسك به حتى بعض من علماء الفيزياء والمعاصرين ومن الذين أهدوا العقل البشري الاهتداء إلى اللاحتمية، وعجزوا هم عن التخلص من الحتمية، مثلا، ... كتب ماكس بلانك في كتابه «إلى أين يتجه العلم» ما يزكي هذا المعضل مؤكدا وجوب التمسك بأن مبدأ العلية يمتد حتى يشمل أسمى إنجازات النفس البشرية، فيجب أن نقر بأن عقل كل من عباقرتنا العظام أرسطو وكانط وليوناردو وجوتة وبيتهوفن ودانتي وشكسبير حتى في أسمى لحظات السمو الفكري وأعمق مراحل التعمق النفسي يكون خاضعا لأوامر العلية ويكون أداة بين يدي قانون جبار يحكم العالم،
18
وإلى مثل هذا يجنح آينشتين هو الآخر.
على أن علماء العلوم الإنسانية كانوا أكثر من غيرهم حماسا لنفي الحرية، لوثيق اتصالها بموضوعهم، وكان الاجتماعيون الفرنسيون، مقتدين بإمامهم أوجست كونت، في منتهى الاتساق والعزم والجزم في هذا، فرغبتهم في جعل علمهم المتعثر كفيزياء نيوتن جعلتهم من غلاة الحتميين، رأى أوجست كونت أن الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوتية تنطلق من الإنسان فنتج عن ذلك اعتمادها على فكرة الإرادة كصفة للظواهر، أما سيادة الروح الوضيعة فقد أدت إلى بروز فكرة القانون والتي تمثل تقدم الروح الوضعية في مدى تدرجها في الظواهر حتى بلوغها الإنسان ذاته والمجتمع بوصفهما آخر مجالين يبلغهما تطور سيادة هذه الفكرة،
19
أي فكرة القانون الوضعي الذي يحل محل الحرية.
على هذا الأساس الوضعي يأتي على سبيل المثال ألبير باييه وهو من تلاميذ دور كايم المخلصين ومتيم بالعلم الفيزيائي لانجفان خصم اللاحتمية اللدود، ليقول في معرض الدفاع عن أخلاقيات العلم الرفيعة وتبيان أنها السبيل الأمثل لتمجيد إنسانية الإنسان: «يستطيع الفيلسوف أن يضع في كل فرد من الناس إرادة حرة مستقلة كما المنجم يضع في كل كوكب وكل نجم إرادة عليا لإله من الآلهة، ولكن كما أن علم الفلك الحديث يفسر حركات القمر بقوانين متعلقة، لا بمشيئة أرتميس، كذلك يأبى علم الاجتماع أن يفسر الوقائع الإنسانية إلا بقوانين متضمنة في الأشياء»،
20
ومن هذا يستطرد باييه إلى المواجهة الصريحة مع المتشبثين بأطلال خزعبليات الحرية قائلا: إنني أسلم بأن الجواب الوحيد الذي يمكن أن يوجه إلى أنصار الحرية هو تزايد القوانين الاجتماعية التي محصت تمحيصا حسنا، والواقع أن ما شاع عندنا إطلاق اسم الحرية عليه إنما هو جهلنا بالعلاقات بين العلل ومعلولاتها.
21
على أن إنكار الحرية الأنطولوجية وطبعا بواسطة العلم وقوانينه موقف يكاد يشترك فيه كل العلماء، والذي ميز الاجتماعيين الفرنسيين بعزم واتساق متميزين هو أنهم انفردوا بالعمل على نفي الحرية في مستواها الثاني أيضا، كما ستوضح (الفقرة 18)، كانت وضعية
كونت تعني دلاليا الوقوف موقفا إيجابيا من النظام الاجتماعي القائم؛ لذلك رأى أن الكائن الاجتماعي يجب أن يندمج في شخصية متسلطة تسلطا مباشرا، ويجب تأكيد السلطة المركزية في كل الميادين لذلك نادى بالحد من حرية التفكير، لقد فرح وهلل عندما قبض نابليون على ناصية السلطة بيد من حديد، ولم يكن يهتم إطلاقا بحرية الفكر أو حرية الإنسان؛ وقال صراحة: «حرية الضمير لا توجد في الرياضيات.»
22
ومن هذا الموقف النافي للحرية في مستواها الثاني حرص كونت على أن يكون هذا العلم الجديد، أي علم الاجتماع، أداة محافظة وتبرير، ولكي يتمكن علم الاجتماع من أن يكون هكذا بناه على أساس وضعي مذهبي، له تعاليم وأيديولوجية تدعو إلى الاستسلام للواقع.
إن الاستسلام يعد نقطة أساسية في كتابات كونت وهو مستمد من قبول قوانين أزلية ثابتة لا تتغير ولا يجوز لأحد أن يغيرها، وإلا استحق العقاب، وإن حاول فلن يقدر لأنها حتمية، ومعنى هذا أن الإنسان عليه أن يمتثل ويتواءم مع ما هو قائم، فليس له إرادة ولا يجب أن تكون.
23
وعمق إميل دور كايم من هذا، وتسير كتاباته المتنوعة في مسار تأكيد ضرورة الانصياع لما هو قائم، وما هو محيط، فالظاهرة الاجتماعية حتمية، أي إجبارية وإلزامية، وعلى المرء أن يتلاءم معها وينصاع لها ومن هنا تلعب قضية الضبط الأخلاقي والتنشئة الأخلاقية
Moralization
دورا بارزا،
24
وكان جوهر الاشتراكية عنده ليس في الملكية ولا في دولة الرفاهية، وإنما في دمج الفرد في المجموع من خلال سلطة أخلاقية تريحنا من وهم الحرية أصلا وفروعا.
أما عن علماء النفس - النفس التي يؤرقنا التساؤل ما إذا كانت حرة أم لا - فموقفهم أعنف؛ لأن حتميتهم أمسكت بخناق الحرية الإنسانية مباشرة. ••• (9أ) «الحتمية السيكولوجية»: كثيرون من فلاسفة الحرية وأولهم هنري بيرجسون، يرون كل خطورة الحتمية الكونية تتركز في الحتمية السيكولوجية، بعبارة أخرى لأن الحتمية الكونية
Universal determinism
تفضي بالضرورة إلى الحتمية السيكولوجية فهي لهذا، وربما لهذا فقط تنفي الحرية.
وإني أرى في هذه النظرة قصورا وتوانيا عن تتبع القضية إلى حدودها الكلية الحقيقية ، ولعل الطموح الأنطولوجي الهادف إلى تمزيق قوقعة العلم الإبستمولوجية هو الحافز لتجاوزها، فلو اقتصرنا على فتوى العلم في الحتمية السيكولوجية لما حققنا شيئا من ذلك الطموح، أو بالكثير حققنا نزرا يسيرا، حسوة لا تطفئ ظمأ العصفور، الهدف إفتاء العلم في مجمل بل مطلق الصورة الأنطولوجية التي تقع فيها أفعال الإنسان؛ لذلك لا ينبغي إعطاء الحتمية السيكولوجية أكثر مما تستحق، وبوصفها آتية من علم كائن في مؤخرة سلم العلوم، فقط لأن الفيزياء التي كانت تتربع على قمته كانت حتمية، وهذا ما فعلته الصفحات السابقة، وعليه تغدو الحتمية السيكولوجية مجرد جزء ينطبق عليه ما ينطبق على الكل، وهي بالفعل هكذا تماما؛ لأنها لا تعدو أن تكون: النظرة إلى الأحداث النفسية هي نفسها النظرة إلى الأحداث الكونية ويمكن التنبؤ بها يقينا إذا عرفنا عللها، المسألة كلها انسياق الأحداث النفسية في تيار الأحداث الفيزيقية، وليست الحتمية الكونية تنفي حرية الإنسان لأنها تفضي إلى الحتمية السيكولوجية بل الأحرى أن الحتمية السيكولوجية هي التي تنفي حرية الإنسان؛ لأنها مردودة إلى الحتمية الكونية التي هي أساسا الحتمية الفيزيائية.
وعلى هذا فالحتمية السيكولوجية قائمة على نظرة ترابطية تحليلية للنفس تجعل الحياة العقلية تسلسلا متعاقبا بين لحظات كل منها معلول لما سبقها وعلة لما يلحقها.
والسؤال الآن: إذا كان علماء النفس لن ينظروا بالطبع إلى الوعي أو الحالات الذهنية كظواهر جانبية أو ثانوية، فكيف تنفي الحتمية السيكولوجية حتمية الإنسان، وبصورة مباشرة متبدية للأعين مهما كانت النظرة سطحية أو عجلى؟
الإجابة واضحة؛ فنفس منطوق تعريف الحتمية السيكولوجية في علم النفس الفلسفي يقول: «إن لا شيء يحدث بواسطة الإرادة الحرة أو الاختيار أو المصادفة لأن كل معلول له علة ضرورة كافية».
25
ويمكن عرض الحتمية السيكولوجية، ونفيها لحرية الإنسان، من خلال ثلاث قضايا أو مقدمات فيها البرهان الجلي على أن الحتمية السيكولوجية لا تعدو أن تكون جزءا من كل، ولا تتمتع بأية أفضلية على سائر الأجزاء، اللهم إلا في قربها ومباشرتها؛ ذلك أن الحتمية السيكولوجية تعني أولا أن حالات الذهن معلولات لحالات فيزيائية أخرى، وثانيا أن حالات كثيرة للذهن مترابطة أو متضايفة
Correlate ، وثالثا أن حالات الذهن علل؛ علل لحالات ذهنية أخرى، وأيضا علل لحركات الجسد التي هي أفعال أو تصرفات، بعضها بسيط نسبيا وبعضها - كالكلام مثلا - معقد يعتمد على خبرات ومعتقدات ومتوارثات وطقوس شائعة. على أن الأفعال سواء كانت بسيطة أو معقدة إنما هي حركات معلولة بحالات في الذهن، وهذه المقدمات الثلاث عن حالات الذهن بوصفها ترابطات لزومية وبوصفها عللا، يتبعها أننا حين نفعل أو نتصرف في أي موقف فإننا لا يمكن أن نتصرف إلا كما تصرفنا بالفعل، ويتبعها أيضا أننا لسنا مسئولين عن تصرفاتنا، والأهم من كل هذا أننا لا نملك نفوسا ذات خاصة معينة.
26
الحتمية السيكولوجية بهذه المقدمات الثلاث نظام علي صارم كامل، فأولا الأفعال حركات معلولة بحالات الذهن، وثانيا حالات الذهن المرتبطة فيزيقيا بالوعي، هي في ذاتها معلولة بحالات فيزيقية - أو فيزيائية أخرى، ومادة القضايا التي تعبر عنها هاتان الجملتان، هما جماع الخبرة الإنسانية،
27
هكذا عدنا من حيث بدأنا: من الحتمية الكونية التي هي أساسا حتمية فيزيائية، تجعل كل أحداث هذا الوجود مترابطة عليا في طريقها الواحد المحتوم. (9ب) «والواقع أن تتبع نشأة ونمو علم النفس»، هو في حقيقة الأمر تتبع لكفاح علم النفس الباسل من أجل الوصول إلى المثال الحتمي الذي كان منشودا، وكانت نهاية هذا التتبع، أو نتيجة ذلك الكفاح، أن علم النفس قد استطاع الامتثال لذلك المثال عن طريق عدة مدارس، بزتها جميعا في الخضوع للحتمية والإخضاع لها، مدرستا التحليل النفسي والسلوكية، اللتان تربعتا على عرش علم النفس بسبب ذلك النجاح الحتمي.
أما «التحليلية»: فقد جعل إمامها سيجموند فرويد
S. Freud (1856-1939) من الحتمية العلمية الديدن والناموس. «فطالما أنه لا توجد أية حادثة في الكون الفيزيقي بغير علة - أو بالأحرى بغير علل - فإنه بالتالي لا توجد أية حادثة عقلية أو حالة عقلية بغير علل، وهذه العقيدة الحتمية لم يأخذها فرويد كمجرد أساس لعلم النفس عنده، بل أكثر من هذا، لقد استخدمها كمفتاح لفض سر العقل وللكشف»،
28
الكشف عن كل شيء بلا أدنى استثناء.
لقد رفض فرويد - كشأن الحتميين المخلصين - أي مفهوم للمصادفة، وأكد أننا إذا تركنا لها قطاعا من قدرتنا النفسية، بحيث تظل غير قابلة للتفسير من خلال الأفكار المفترضة، فإننا نتجاهل نطاقات للحتمية في قدراتنا العقلية، في حين أن الحتمية في مثل تلك الظواهر - التي قد تبدو مجرد مصادفة - كما هي في سواها، أعمق وأبعد من كل ما نتصور،
29
هكذا كانت حتمية فرويد عميقة جدا، أعمق من كل ما تصوره السيكولوجيين السابقون، حتى إن أكثر مصطلحاته خداعا هو أشهرها، أي مصطلح «التداعي الحر»، الذي ينطلق فيه المريض أو الشخص موضع التحليل، وعلى أساس أن كل حرف يتفوه به، بما في ذلك فلتات اللسان، «تبرهن على أن عقل الإنسان لا يمكنه الفرار من قوانينه»،
30
فأين هي الحرية، وكيف يأتي بها أي شخص في هذا الوجود، والتحليلية قد أسهبت في وصف، أو خلق واقع عميق طويل عريض من الهو والأنا والأنا الأعلى، ومن اللاشعور الكامن خلف الوعي السطحي البادي، بحيث يحتم جملة وتفصيلا كل ظواهر السلوك، الشاذة قبل السوية، فضلا عن الهواجس والأوهام ورؤى الأحلام.
وليس هذا فحسب، بل قال فرويد في أكثر كتبه شعبية وانتشارا «العلاج النفسي في الحياة اليومية» (المذكور في الهامش) إن علم النفس المرضي للحياة اليومية قد جاء ليبرهن على أن العقائد الخزعبلية وفلتات اللسان والزلل والأخطاء العفوية التافهة - في القراءة مثلا - على الرغم من المعرفة القوية، والاختيار العشوائي للأسماء والأرقام (مثلا: قد يقال على سبيل الضجر: قلت ذلك عشرين مرة! فإن الورود العشوائي للرقم عشرين بالذات وليس خمسين أو مائة ...) كل هذا وغيره من الظواهر التي تبدو سطحية تافهة، حاول فرويد أن يثبت في ذلك الكتاب أنها محتمة، تماما كدوران الأرض حول الشمس.
ولما كان العلم علم النفس، فلا يمكن تجاهل الشعور الحرون بالحرية، الكائن في كل النفوس، فماذا فعل فرويد في هذا الصدد؟ إنه يقول: «مثل هذا الفهم لحتمية الاختيار الذي يبدو عشوائيا، اختيار الأسماء والأرقام والكلمات ... قد يساهم في حل مشكلة أخرى، فكما نعلم الكثيرون يجادلون ضد افتراض الحتمية النفسية المطلقة عن طريق الإشارة إلى شعور عميق بالاقتناع بأن ثمة إرادة حرة، هذا الشعور يوجد، بيد أنه لا يتناقض مع عقيدة الحتمية، فمثله مثل سائر المشاعر العادية يجب تبريره بشيء ما، ولكن على قدر ما أستطيع أن ألاحظ، فإن هذا الشعور بالحرية لا يفصح عن نفسه في قرارات عظيمة الشأن أو ذات أهمية، ففي مثل تلك الظروف الخطيرة يسود الإنسان أكثر الشعور بالإجبار، وهو يتقبله بسعادة.
ومن الناحية الأخرى فإنها فقط القرارات التافهة التي يستوي فيها الطرفان، هي تلك التي يشعر فيها الفرد يقينا أنه يستطيع فيها التصرف بطريقة أخرى، يتصرف بإرادته وبغير أية دوافع، ونحن - بسبب تحليلاتنا - لسنا في حاجة للدخول في صراع من أجل تفنيد صواب الشعور بالاقتناع بأن ثمة إرادة حرة، فإذا ميزنا بين دوافع الوعي واللاوعي، فسوف يخبرنا الشعور بالاقتناع بأن الدوافع الواعية لا تمتد لتشمل كل محركات قراراتنا، ولكن ما يتركه أحد الجانبين حرا، يتلقى دوافعه من الجانب الآخر، من اللاشعور، هكذا تسري الحتمية في المجال النفسي، ولا يمكن أن يعترض طريقها شيء».
31
أما السلوكية، التي بذرها بافلوف وبدأها واطسون، ورعاها ونماها سكينر
B. F. Skinner (1904-1976) حتى بلغت قمة النضج الحتمي بفضل جهوده الجادة، فطريقها إلى الحتمية أقصر وأيسر، لقد رفض السلوكيون كل تلك الأساطير الخيالية التي تفتقت عنها مقدرة فرويد الإبداعية، من قبيل الأنا والأنا الأعلى واللاشعور ... وأكد سكينر أن الإنسان مجرد آلة، حتى إن ما يسمى بالطبيعة البشرية المتميزة والنوايا والمشاعر ... كل هذا مجرد وهم ستطيح به الثورة السلوكية التي ظلت منطلقة في طريقها للإطاحة بكافة الكيانات التي لا تستلزمها الحتمية العلمية، حتى وصل بها الأمر إلى الإطاحة بمفهوم النفس وأصبح علم النفس معها كما يقال: علم نفس بغير نفس، إنه دراسة لردود أفعال شرطية منعكسة، مجرد سلوك يمكن جدا تعديله وتكييفه، عن طريق المؤثرات البيئية الواقعة عليه، بوصفها عللا محتمة للسلوك، خصوصا في عملية التربية، حتى نصل في النهاية إلى ما فيه صالح الفرد والمجتمع، وقد كرس سكينر جهوده الجادة من أجل هذه الإمكانية التقنية أو القوة التكنولوجية لعلم النفس، وأشهر أعماله في هذا كتابه «تكنولوجيا السلوك الإنساني»، وهو ترجمة عربية لكتاب له اسمه الأصلي «ما وراء الحرية والكرامة»
Beyound Freedom and Dignity ،
32
يوضح عنوان الكتاب ومضمونه معا أن معاني، أو بالأحرى أوهام الحرية والمسئولية والذاتية والشخصية وحتى إنسانية الإنسان، سيطيح بها العلم الحتمي، بواسطة المدرسة السلوكية ولكنه سيأتينا بما هو خير من الوهم العاطفي، بأفراد لمجتمع على درجة عالية من التكيف المطلوب.
هكذا أصبحنا، بلا لف ولا دوران، مجرد تروس في آلة. (10) «الحرية في الحس المشترك بالاستبطان»: دفعنا علم النفس بحكم طبيعته التخصصية إلى تفنيد خبرة كائنة في الحياة السيكولوجية الواعية، إنها الشعور بالحرية، لعل الحرية راحت، كما راحت الكثير من الكيانات التي كان العلم في تطوره نحو المثال الحتمي يطيح بها، كالغائية والقوى الحيوية، ومع هذا، فمهما تآزر العلم وفلسفته لتوطيد الحتمية، فستظل الحرية كائنة في الحس المشترك
Common sense ، أي في خبرة وتفكير الإنسان العادي في حياته العادية.
فهل يصلح هذا كملجأ أخير لإنقاذ الحرية الإنسانية من براثن الحتمية العلمية؟
الإجابة بالنفي، وكينونة الحرية في الحس المشترك لا تقدم ولا تؤخر من حال المعضل، فكما أوضحنا آنفا، في المدخل، الحس المشترك ينزع أيضا إلى الحتمية الكونية، وربما كان نزوعه إلى الحتمية أعمق وأكثر إلحاحا من شعوره بالحرية، وكما يقول بول فيز: «يسلم الحس المشترك بهاتين القضيتين «الحتمية والحرية» لأنه أصلا مجال للتناقضات، وأبعد ما يكون من الصورة النسقية المترابطة للاعتقاد».
33
وإذا أضفنا إلى هذا قصور مداه وخبراته، اتضح كيف يسهل على الحتمية العلمية، قهره وتفنيد إحساسه بالحرية، وكما يقول ويتلي، في كتاب له يمكن أن تعده من أقوى العروض العنيدة والمصرة على التفسير الحتمي العلي لكل ظواهر الوعي والسلوك الإنساني جملة وتفصيلا، ونفى أية إمكانية لفرض الحرية الباطل - يقول ويتلي: «ثمة شيء ما كالوعي بالحرية، كما أن ثمة الوعي المتناقض باللاحرية ولكن لا يمكن أن يكون ثمة وعي بلا علية، والعلية واللاعلية ليستا من النوع الذي يمكن معرفته معرفة فورية أو حدسية، فأن نقر أو ننفي علاقة علية بين حادثتين هو أن نقول شيئا أكثر مما يمكن اكتشافه بمحض الملاحظة المجردة للحوادث في ذاتها، وعيي أنا بأفعالي لا يمكن في حد ذاته أن يخبرنا بما إذا كانت أمثلة لقانون كلي»،
34
هكذا ترتد السهام إلى الصدور، ويتضح أن شعور الحس المشترك بالحرية هو عينه مظهر الجهل بالقوانين الكلية والعلل الكامنة في الخلف، ويتناول بلانشارد القضية بصورة أكثر هوادة، حيث يقول: «إن السؤال في حقيقته، ليس عما إذا كنا نستطيع فعلا أن نختار ما نختاره، وما إذا كان الاختيار ذاته قد أتى وفقا لقانون، وكنتيجة لمقدمات علية سابقة، إن هذا الإحساس بالحرية أو إدراكها يأتي من أننا نقوم بالفعل الحر أو بالاختيار - أو بالأصح ما نظنه هكذا - وأنظارنا مصوبة شطر الأمام، شطر المستقبل، شطر الغايات والمجاني التي سوف نظفر بها من هذا الاختيار، فنعتقد أننا أحرار فيه وفي الظفر بنتائجه، ومن ثم نظل على جهل بأن كل فعل وكل اختيار محتم، ولو نظرنا إلى الوراء، إلى الماضي والسوابق لوجدناها هي التي حتمت هذا الفعل، فلا اختيار إذن ولا حرية»،
35
وينتهي براند بلانشارد إلى أن الاعتراض على الحتمية بأننا نشعر دائما بالحرية مردود عليه كالآتي: من الطبيعي أن نشعر بالحرية على الرغم من أننا خاضعون للحتمية، طالما نصوب أنظارنا شطر نتائج الفعل وليس شطر علله، ودائما تفوتنا ملاحظة العلل،
36
مرة أخرى الشعور بالحرية هو الجهل بالقوانين الكلية والعلل الكامنة في الخلف، إنه مظهر من مظاهر القصور الإدراكي.
وقد يحاول الحس المشترك تدارك قصوره بشيء من المنهجية، ولن يجد أمامه إلا الاستبطان فهل ثمة أمل في الحرية؟ ربما لأن استبطان عملية اتخاذ القرار يكشف عن أنه نشاط حر لا حتمي وإذا كانت الحواس تخدعنا، كأن يرى السراب في قلب الصحراء واحة خضراء، فإن الاستبطان بمنجاة عن خطأ الحواس،
37
ومجمل الحجة الاستبطانية كالآتي: «يكشف الاستبطان عن أن سلوكنا الإرادي الحر لاحتمي، ونحن لا يمكن أن نكون على خطأ بصدد ما يكشف عنه الاستبطان؛ على هذا فالحرية كائنة، بعض الأفعال الإنسانية، بعضها على الأقل، لا حتمي».
38
على أن العلماء لم يجمعوا على شيء - وعن حق - مثلما أجمعوا على قصور وبطلان منهج الاستبطان وضرورة استبعاده، وقصوره كائن بوضوح ها هنا؛ لأنه لا يمكن أن ينصب إلا على فعل القرار أو الاختيار الذي تقوم به الذات، ولكنه لا يتطاول على العوامل القبلية التي كانت حتمية، أو حتى أفضت إلى أنه لا حتمي، عوامل البيئة والوراثة.
هكذا عدنا إلى حيث انتهت رحلتنا مع ويتلي وبراند بلانشارد، ومجرد كون الحرية في متناول الاستبطان - الذي يكشف الحدث منفصلا عن تسلسله العلي - لا يعتبر أبدا إثباتا للحرية، وقد اعتبره برود حجة سلبية في صالح الحتمية، وفصلها في الحجتين الآتيتين: (أ)
ثمة مبرر قوي للاعتقاد، أنه ليس كل الأحداث العقلية في متناول الاستبطان، فحتى لو كانت جميعها حتمية تماما، وكانت العوامل العلية الكافية هي ذاتها عوامل عقلية، فإن بعضها لا يمكن أن يتبينه الاستبطان. (ب)
ولأن بعض العوامل النهائية في العلة الكلية للحدث العقلي قد لا تكون عقلية بل مادية، فإنه مستحيل أن يكتشفها الاستبطان.
والحق أن هاتين الحجتين أو القضيتين تثبتان أن مظهر اللاحتمية البادي أمام العقل الإنساني قابل تماما للتأويل الحتمي وللتوافق مع الحتمية،
39
وإذا كانتا لا تقيمان أية حجة إيجابية للحتمية، فإن الحجج الإيجابية معروضة في الفقرة (7-ب)، المهم الآن أنهم اتخذوا من إدراك الاستبطان للحرية وكينونتها في الحس المشترك التبرير المنطقي لكون الحرية وهما، وتماما كما أن الحاسب الآلي (الكمبيوتر) لا يعرف كل شيء عن نفسه بطبيعة الحال، فإن المخ أيضا بالمثل لا يمكنه أن يعرف كل شيء عن نفسه، ومن ثم قد لا يكون على وعي ببعض العوامل التي تحتم سلوكه، وهذا يؤدي إلى الشعور الخادع بالإرادة الحرة، وهو شعور لا يمكن لأي قدر من الاستبطان أن يزيحه،
40
وعبث أن يحاول الحس المشترك مواجهة العلم وحتميته، أو أن يحاول الاستبطان مواجهة الاستقراء والاستنباط. ••• (11أ) «المعضل الأخلاقي»: الحس المشترك بطبيعة الحال خصم ضعيف أمام العلم، وليس يصعب قهره بلمسة إصبع ، أما الذي جعل أوار الصراع بين الحتمية العلمية والحرية الإنسانية يستعر حتى السماء السابعة ويأبى أية محاولة للمهادنة فهو المعضل الأخلاقي، وتفصيل أمره كما هو آت: (أ)
الإنسان لا يستطيع أن يفعل غير ما يفعله، وطالما أن فعله قابل للاستنباط اليقيني من القوانين الحتمية فكيف نطالبه بأن يكون أكثر أو أقل أخلاقية؟ كانت الحتمية البيولوجية حين بسطت سيطرتها على الإنسان قد أخبرتنا بأن المخ يفرز التفكير كما يفرز الكبد الصفراء، وبالتالي، الأحكام الخلقية ككل أنشطة الذهن نواتج أو معلولات حتمية للعلل الضرورية، وبالتالي ليست من القيمة في شيء، ولا يوجد شيء اسمه القيمة، مذهب الضرورة الحتمية، حيث تمثل في الصورة الميكانيكية العلمية، جعل الإنسان مجرد حيوان، هو من الناحية الفيزيائية كالآلة، ومن الناحية العقلية كالنظرية الهندسية؛ لهذا يقول تين: «إن الفضيلة والرذيلة مجرد منتجات جانبية، مثلها مثل الزاج والسكر».
41
وإذا كان الإنسان لا بد وأن يفعل ما يفعله، ويستحيل أن يفعل سواه، فكيف ولماذا يتحمل مسئولية ما فعل؟ وما معنى أن نلقنه قواعد الأخلاق التي ترشده إلى ما ينبغي فعله؟! بدا للحتميين أننا حين نتخلى عن الحرية بمعناها التقليدي الاختياري - أي إمكانية الاختيار بين بديلين فأختار أن أفعل هذا ولا أفعل ذاك - فإننا لا نتخلى عن شيء ذي بال، بل ربما نتخلى عن أوهام فارغة وأحلام جهلاء، في حين أننا ببساطة نتخلى عن حقيقية الحياة الأخلاقية،
42
فإذا كانت قوانين الفيزياء تحتم أن نفعل في كل لحظة ما نفعله فما جدوى الحكم عليه بأنه صواب أو خطأ؟ وماذا يبرر قيام القانون الأخلاقي إذا كان القانون الطبيعي يطغى عليه وينسخه،
43
وفي سياق القوانين الطبيعية تأتي القوانين البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية، قوانين الوراثة والبيئة، لتحتم ردود أفعال الشخص وتصرفاته، ولتعني الحتمية العلمية «أن كل فرد يحمل برنامجا جاهزا معدا من قبل في الماضي» ولو صح ذلك لكان الجهد الأخلاقي عقيما مجدبا.
44
وهذا يجعلنا نقتبس قول دستويفسكي في «الأخوة كرامازوف»: لو لم يكن الله موجودا لأصبح كل شيء مباحا. لنقول: «لو كان العالم حتميا لأصبح كل شيء مباحا.» فلا جدوى من محاولة منع أي شيء، ونحن ومحاولة منعه واقعون في قبضة القوانين الجبارة، التي تحكمنا وتحكم العالم، وإن كان ثمة مسئولية، فهي عليها لا علينا، هذا الوجه من وجوه معضل الحرية في العالم الحتمي، جعلها مشكلة أخلاقية، لا بد وأن يتعرض لها عالم الأخلاق، وأدخل العلم في صدام مع الأخلاق، أحدهما يستبعد الآخر، فتفاقمت حدة الصراع بين العلم والدين.
وسنرى في نهاية الفصل القادم الشيزوفرينيا التي أنجبها التناقض بين الحتمية والحرية في قلب الإنسان، والآن نجد العالم الأخلاقي تشارلز كامبل يشير إلى هذا التناقض في تحليله لفينومينولوجية
45
الإرادة الحرة من حيث كونها مقدمة شرطية لزومية للأخلاق، وأن المسئولية الخلقية تدور معها وجودا وعدما، وكانت خلاصة تحليلات كامبل الفينومينولوجية أن الحتمية تستطيع أن تأتينا بحجج مقنعة نظريا ضد الإرادة الحرة، بيد أن المأزق الأخرق الذي سينجم عن هذا هو أن الإنسان سينكر نظريا ما عليه أن يقره عمليا من حرية ومسئولية خلقية، ليكون ثمة صراع جوهري وأساسي بين الجانبين النظري والعملي في طبيعة الإنسان، إنه تناقض في صميم قلب الذات، وينتهي كامبل من هذا، إلى أن الحتمي عليه أن يعتني أكثر بالتحليل الفينومينولوجي ليرينا إن كان يستطيع تأكيد أن الإرادة الحرة ليست بالفعل عنصرا منيعا في الوعي العملي الذي يحياه الإنسان.
46
الحتمية العلمية تجعلنا ملزمين عقليا، لا بالتخلي عن الأخلاقيات فحسب، بل وبالتخلي أيضا عن مجرد الأحكام التقييمية، وعن الاتجاهات المرتبطة بها، التي تتضمن الإعجاب والاحتقار والفخر والعار والاحترام والإعابة ... إلخ، وقد أسماها ستراوسون اتجاهات انفعالية
Reactive Attitudes ، إنها ذاتية، تجاه الأفراد على قدر ما هم أشخاص، وفي مقابلها ثمة الاتجاهات الموضوعية
Objective
كتلك التي تكون تجاه الحيوانات والآلات والأطفال الصغار، إذا صحت الحتمية، فلن نتنازل فقط عن ممارسة الثواب والعقاب، بل وأيضا عن الاتجاهات والأحكام الانفعالية التي تعبر هذه الممارسة عنها، ونتبنى فقط الاتجاهات الموضوعية نحو أنفسنا ونحو الآخرين، مثلما نتخذها إزاء أي موضوع آخر أوليست الحتمية العلمية معقل هذا التصور للموضوعية. سنظل نلوم ونعاقب ونمدح ونذم، ونحاسب المجرمين، ولكن لن يكون هذا تعبيرا عن الإعجاب والاستهجان، بل فقط مسألة موضوعية، هي تعبير عن هدف مؤداه تغيير الآخرين حتى يلائموا احتياجاتنا، كما نعاقب أو نثيب حيوانات المعامل أو السيرك على قدر استجابتها للتمرين؟!
47
وهل كانت أهداف سكينر الصريحة المعلنة تخرج عن هذا قيد أنملة؟! إنها باختصار تكنولوجيا السلوك الإنساني.
إن الاتجاهات الانفعالية، أي غير المنصاعة للوعي بالحتمية، تعني عدم التوافق مع الواقع الذي يقضي بالتخلي عنها، وإذا رفضنا التخلي عنها لأنه يقلل مغزى حيواتنا وقيمتها تقليلا خطيرا، فإن التفكير في القيمة والمغزى أصلا اتجاهات انفعالية، لا بد من تحطيم الدائرة والولوج في قلب الحتمية العلمية، التي تعني أن الإنسان كائن غير حر وغير مسئول، وأنه يخدع نفسه حين يتصور إمكانية هذه الاتجاهات التفاعلية من حيث يتصور إمكانية الحرية والمسئولية، ربما فضل هذا الخداع، كما يفضل المريض عدم المواجهة بأن مرضه مميت، فيختار أن يفعل كما لو كان حرا مسئولا، وهو يعلم أنه ليس هكذا،
48
وربما نهرب من هذه الحتمية؛ لأنه في العالم الحتمي الاتجاهات موضوعية حتى في صميم العلاقات الإنسانية، فتؤسس على المعلولات المترتبة عليها من نفع أو ضرر، فنصادق ونحب على هذا الأساس! وبين القادة والأتباع أيضا الاتجاهات موضوعية فلا انفعالات تقييمية كالإعجاب أو الانبهار أو الإيثار ... مثل هذا العالم بارد مخيف لا يطاق،
49
إننا نجد أنفسنا دائما بين قرني معضل الحتمية/الحرية:
لو صحت الحتمية فنحن لسنا أحرارا، ولكننا نتخذ اتجاهات تفاعلية نحو أنفسنا ونحو الآخرين؛ ولذلك نعتبر أنفسنا أحرارا ومسئولين ... ولكن اتخاذ هذه الاتجاهات يجعلنا نحيا بطريقة لا تتفق مع الوقائع، إذن فلنتنازل عنها كي نعيش متفقين مع عالمنا الحتمي، ولكن إن فعلنا فسنقبل بهذا منزلة مماثلة لمنزلة الحيوانات والآلات، وإن رفضنا فهذا خداع للنفس، وإن قبلنا فهذا تجاهل لقيم نحياها
50 ... ولا مخرج أبدا. (11ب) وإذا تركنا هذا البعد للمعضل الأخلاقي والكائن في الوعي والذي يحرم عليه العلم الحتمي أية أحكام تقييمية أو اتجاهات تفاعلية، ودلفنا إلى كيان واقعي عملي لا مندوحة عنه من أجل ضبط المجتمع ألا وهو القانون لوجدنا أنفسنا بإزاء بعد آخر للمعضل، شأنه شأن كل وجوه معضل الحرية في العالم الحتمي لا مخرج منه أبدا.
وذلك أنه من المبادئ المسلم بها في العرف الاجتماعي وفي فقه القانون، أن الشخص يعفى من العاقبة القانونية للفعل الذي قام به تحت قسر، أي إرغام أو تهديد، وقد يكون الفعل جريمة نكراء، ولها أبشع النتائج كالقتل، ولكن القانون يحكم ببراءته لأنه غير مسئول، الفعل لم يصدر عن إرادته الحرة «ولكن ما هو القسر
Coercion ؟» الشخص الخاضع للقسر هو المجبور على أن يفعل ما يفعل، وليس أمامه أي اختيار سوى أن يفعله،
51
كأن يكون ذلك هو السبيل الأوحد للدفاع عن النفس أو العرض، على أن الحتمية العلمية قد حكمت بأن كل فعل من أفعال الإنسان هكذا، لم يكن أمامه أن يفعل سواه، ومن ثم فهي تعفيه من المسئولية ومن استحقاق الجزاء، من حيث تعفيه من الحرية.
وإذا كان القانون الجنائي في سائر المجتمعات المتمدينة، يفرق تفرقة حاسمة بين الجريمة التي يرتكبها الفاعل بإرادته الحرة، فتجعله مستحقا للوقوع تحت طائلة القانون، وبين الجريمة التي يرتكبها وهو واقع تحت واحد من الظروف التي تلغي دور حريته المسئولة، كأن يرتكبها عفوا أو قسرا، أو تحت ضغوط منعته من التروي قبل ارتكابها، أو أمراض أو شذوذات ذهانية أو عصابية، أو عن جهل بعواقب الفعل لحداثة السن مثلا ... فإن هذه التفرقة بناء على الحتمية خلف محال
Absuro
بغير معنى، لا عقلانية غير عادلة، لا أخلاقية، ربما كانت كل هذا معا، إنها تبدو بلهاء، بل إن القانون بأسره والعقاب بأسره يبدوان أشد بلاهة.
52
ومنذ أفلاطون وحتى يومنا هذا، يوجد التيار الحتمي الذي يؤكد أننا إذا ما كنا عقلانيين تماما فلا بد وأن ننظر إلى الجريمة على أنها مرض، وأن نكترس لعلاجه، وعلينا أن نفعل هذا، ليس فقط حين تكون الجريمة قد ارتكبت بالفعل، بل وأيضا حين نجد دلائل تشير إلى أنها سوف تحدث، فعلينا أن نتجه إلى المجرم ونعالجه قبل أن يرتكب الجريمة.
53
ومع الحتمية العلمية أصبح هذا الحلم اليوتوبي أسلوب عمل، علمي وواقعي رفيع الشأن، وقد لا يكون ثمة فارق بين اللص وبين المصاب بجنون السرقة
Kleptomania
إلا في أن العلم قد توصل إلى علة سرقة الثاني، ولم يتوصل إليها بعد بشأن الأول، وسوف يتوصل يوما ما، وكلما جعلنا العلم ندرك أكثر العلل الضرورية التي تحكم الأحداث والأفعال، جعلنا أكثر إدراكا للحتمية الكونية، وبالتالي لسذاجة المسئولية الخلقية وأحكام الأخلاق.
وكما يقول جون هوسبرز: «لنلاحظ أننا كلما عرفنا بشمولية أكثر العوامل العلية التي تقود الشخص إلى أن يتصرف كما تصرف، ازداد ميلنا لإعفائه من المسئولية.» لقد حاول هوسبرز إثبات أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل سوى ما يفعله، وأنه بالتالي ليس مسئولا عن أي من أفعاله، وعن طريق تحليل عديد من الأمثلة لشتى أنواع الأفعال والتصرفات، من تلك التي تبدو وكأنها إرادية تماما ومتعمدة، حتى تلك التي تبدو لا إرادية ولا دخل للحرية فيها، وكانت جهود هوسبرز على أساس منهاج التحليل النفسي لفرويد وخلفائه، وهو يؤكد أن علماء هذه المدرسة وغيرها من مدارس علم النفس، يستطيعون التنبؤ بالسلوك المحتوم على كل وأي إنسان أن يأتي به، ومن هذا ينتهي إلى أن الإنسان ليس مسئولا البتة، ولا ينبغي معاقبة أي مجرم على جريمة يرتكبها، بل الأحرى أن نعاقب الطبيعة أو نعاقب والديه؛ لأنهما خلعا عليه ذلك التكوين أو المزاج التعس.
54
المجرم نفسه غير مسئول عن العلة «أ» أي سلسلة الأحداث التي حدثت له في طفولته المبكرة، وبالتالي فهو غير مسئول عن المعلول «ب»، أي عن الأحداث التي تحدث له في رشده، وكلها أحداث فرضتها عليه التوترات العصبية.
55
وبالطبع معاقبة الطبيعة مزحة، على سبيل الهزء من أنصار الحرية، ولا يبقى إلا معاقبة الوالدين، وهما يحيلانا إلى معاقبة والديهما ... وهكذا حتى آخر السلسلة العلية الحتمية، والتي لا تنتهي بآدم وحواء، يريد هوسبرز أن يخلص من هذا إلى أننا نعاقب المجرم وكأنه لا أخلاقي ونحن أخلاقيون، بينما الأمر الواقع أنه غير محظوظ ونحن محظوظون.
56
بعبارة أوضح: لأن العالم حتمي ، لا يوجد شيء اسمه الأخلاق أو المسئولية، وقانون العقوبات كيان لا عقلاني بل وجائر أصلا وفروعا! وعلى الرغم من أن هوسبرز، كأي حتمي، لا يستطيع - كما يعترف - أن يفقه أي معنى للاحتمية؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور حدثا غير معلل، فإنه لكي يجاري التيار المعاصر يحاول أن يزيح الحتمية جانبا قائلا إنها لا تعدو أن تكون فرضا مبهما وكل ما في الأمر أن الإنسان ليس علة شخصيته، وليس له تحكم في المؤثرات التي أثرت عليه، وجعلته على ما هو عليه، وبالتالي صدرت عنه تلك الأفعال، وهذا سار، سواء سلمنا بالحتمية أو باللاحتمية،
57
وذلك بالطبع تلاعب بالألفاظ، فماذا يمكن أن تكون الحتمية العلمية غير العلية الكاملة التي أكدها، وماذا تكون اللاحتمية سوى نفي هذا، من المسلم به في كافة الدراسات التي تعرضت لهوسبرز، إنه يعطينا أقوى صورة للحتمية الصارمة التي تنفي أي معنى للحرية والمسئولية، واضعة الأخلاق في معضل، لا مخرج منه إلا بالإنسان اللاأخلاقي. (11ج) انبرى علماء الاجتماع الفرنسيون على وجه الخصوص للدفاع عن معضل الأخلاق في عالم العلم الحتمي، ومحاولة رفعه إلى مستوى البديهيات والمسلمات، وذلك من منطلق رغبتهم في تشييد ما دعا إليه جون ستيوارت مل صديق إمامهم كونت من علم أخلاق وضعي
Ethology ، وبالطبع يكون هو الآخر حتميا كسائر العلوم، فيدرس السلوك الإنساني ليصل إلى القوانين الحتمية التي تحكم ظاهرة الأخلاق؛ وذلك لكي تحيط الدراسة العلمية بكل ظواهر الاجتماع الإنساني.
فيوضح ألبير باييه، أنه في عصور الجهالة المتخلفة كان أسلافنا يرون أن الرجل الذي يقترف الإثم حر في ألا يقترفه، فجاءت الأخلاق التي ترفع من قدر الصالحين وتندد بالطالحين، أما في عصور العلم فإن الجريمة نفسها واقعة محتومة، فإذا مقتنا الجريمة لم نعد نستطيع أن نمقت المجرم، ويمضي باييه في توضيح كيف أن كل من يقترف خطأ أو يرتكب جريمة، إنما فعل هذا كنتيجة، أو كمعلول حتمي للعلل السابقة التي لا دخل له فيها، كبيئته أو ظروف نشأته؛ «لأن عبء الماضي أناخ بكلكله عليه، إن خطأنا إنما ورثناه عن ماض فرض علينا كما يفرض علينا الأمر الواقع، فلا ننظرن إلى المخطئ نظرتنا إلى مجرم يستحق المقت والاحتقار، بل إلى مريض يستحق العلاج والرحمة».
58
وليس يصعب تبين كيف يرتبط هذا مع ما ذكرناه في المقدمة من النزوع السيكولوجي إلى الحتمية؛ لأنها تريح النفس وتهدهدها، فما أجمل أن يتحلل الإنسان من مسئولية ما فعل، ملقيا الملام على الوراثة والبيئة والقضاء، فلا يستحق عقابا أو جزاء، بل قد يلقى رحمة باييه وتعاطفه؛ لأنه غير محظوظ كما قال هوسبرز، وكما أن التفسير والتبرير بواسطة الحتمية أيسر وأسلس السبل أمام العقل النظري، فإنه أيضا أوضح وأيسر أمام الفعل العملي، أوضح الأمثلة على هذا ما فعله الأمويون، حين رجعوا لعقيدة الجبر؛ لكي يبرروا حكمهم الجائر القائم على الدم الطاهر المراق، دماء آل البيت، مع الحتمية، نلقى أنفسنا في عالم لا يملك رادعا يردع المجرم عن ارتكاب جريمة «يمكنه» ألا يرتكبها، إنها كارثة العلم بحق.
لذلك، فبعد أن يجاهر ألبير باييه هكذا علانية بالمعضل، لا بد بالطبع وأن يدافع عنه في مواجهة الاعتراض بأن هذه النظرة المتسامحة قد يكون من شأنها أن تقلل السخط على الجريمة وأن تشجع أهل الشر على الغواية، يقول باييه عن هذا: «إن الافتراض ضعيف فهل قل فزعنا من وباء الطاعون منذ أن عدلنا عن رأينا في أن المصاب به آثم حل به عقاب الآلهة؟»
59
إنه إذا انتصرت الحتمية الاجتماعية، وهذا ما يحق لنا أن نرجوه، فإن المجتمعات ستظل تنكر الجريمة والكذب والسرقة، وستمضي في مكافحة تلك الرزايا لكنها لن توقع العقاب على الجاني، بل ستداويه بعد أن تكون قد حالت بينه وبين الإضرار بالناس، ولن تشدد النكير على الجريمة، بل ستهتم بتبيين عللها ووجوه القضاء عليها، وما هو الدواء الناجح،
60
ولا يكتفي باييه بالدفاع بواسطة تكنولوجيا العلم الاجتماعي - إن صح التعبير - بل يتوسل بأئمة الحتمية عبر التاريخ، قائلا: إن أخلاق التساهل القائمة على الحتمية لها أسلاف نابهون يجب إسكاتهم قبل التعرض لنا، فهل كان «أفلاطون» مقوضا للأخلاق حين قال: «لا أحد يقترف الإثم عامدا متعمدا.» وهل كان «سينكا» هادما للأخلاق حين قرر أنه لا ينبغي علينا أن نمقت الشرير، بل أن نرثي لحاله؟ وهل كان الإنجيل مقوضا للأخلاق حين أورد على لسان عيسى: «أبي اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يصنعون.» وأخيرا هل نقضي نحن على الأخلاق إذا اعتقدنا أن قانون المحبة شامل، وأنه ليس لأحد الحق أن يستثني منه أحدا.
61
علماء الحتمية لن يترفعوا على المجرمين، ولن يستهجنوهم ولا يدور بخلدهم أن يصرعوهم، بل يريدون أن يصلحوهم،
62
ويرد باييه هذا بالقول النبيل: «من منا المعصوم حتى يصح له أن يترفع على المخطئين؟!»
63
إلى كل هذا الحد لا يكتفي العلم الحتمي بالمجاهرة الصريحة بمعضل الأخلاق في عالمه، بل يردفه بالدفاع الباسل، ولم لا؟ وتكنولوجيا نسق العلم الحتمي الكامل ستعطينا ما هو خير من وهم الحرية وأحكام الأخلاق الجوفاء الانفعالية، ستعطينا المجتمع المنظم تنظيما أمثل، يجمل برلين الموقف كالآتي: «تلك هي عقيدة الحتميين المؤمنين بالعلم الطبيعي وبالتقدم المادي، إنهم يتمسكون بأن الخطيئة والمعاناة هي في النهاية نتيجة الجهل، الضعف والبؤس والحمق والخطأ والخلل الأخلاقي، كلها تعود في النهاية إلى سوء التنظيم الآتي من الجهل بالوسائل والغايات. وأن نفهم طبيعة الأشياء هو أن نعلم ما الذي نريده حقيقة وكيف نصل إليه، والتوصل إلى معرفة هذا هو غرض العلم ووظيفته، العلم سوف يتقدم، وسيكتشف يوما ما الغايات الحقيقية والوسائل الكفء الفعالة، المعرفة ستنمو وسيتقدم الإنسان أكثر، فيصبح أفضل وأحكم وأسعد، السعادة والفضيلة والمعرفة العلمية مرتبطة كلها معا، وبسلسلة لا تضمحل أبدا، أما الغباء والخطيئة والظلم والشقاء، فأعراض مرض سوف يحذفه تماما تقدم العلم، نحن على ما نحن عليه بسبب من العلل الطبيعية، وحين نفهمها فهذا وحده كفيل بأن يجعلنا على اتساق تام مع الطبيعة، أما الثواب والعقاب فدلالة على الجهل، إذا كان من المعقول أن نلوم الأشياء والحيوانات، أو نطالبها بالعدالة حين تسبب لنا ألما، أو نلوم الطقس أو التربة أو الضواري والوحوش، لكان من المعقول أن نلوم الإنسان، الذي لا تقل حتمية خصائص شخصيته وأفعاله عن حتمية هذه الأشياء، حين نبحث نمط حياة هذا الشخص أو ذاك، لا يجب أن ندين أو نعاقب لأننا سنعرف ما العلة التي دفعت هذا الإنسان أو ذاك للتصرف الخاطئ، قد يكون الجهل أو الفقر أو أي خلل فيزيقي أو عقلي أو أخلاقي، ولو تسلحنا بما يكفي من الصبر والمعرفة ومن التعاطف سنفهم هذا دائما ولن نلوم أي مخطئ أكثر مما نلوم أي موضوع من موضوعات الطبيعة».
64 (11د) وأخيرا انقلب هذا المبدأ الحتمي: نفي مشروعية الأحكام التقويمية أخلاقية أو غيرها، إلى قاعدة منهجية ميثودولوجية يتحراها الراغبون في علمنة دراستهم، خصوصا حين تكون علميتها محل شبهة، فدافع الحتميون التاريخيون عنها دفاعا مستميتا، مؤكدين أن التاريخ كأي علم آخر، وصف للوقائع لا يعترف بشيء اسمه الأحكام التقويمية «محمد وهتلر والإسكندر» ... قد نعجب بهم أو نخافهم، لكننا لا ندين أفعالهم ولا نمدحهم، فلو فعلنا فكأننا نلقي موعظة على شجرة، وبالمثل تماما محاولة عزو التغييرات إلى إرادتهم وتصرفاتهم أو محاولة استخلاص الدروس منهم. لا ينبغي أن نشعر بالاستصغار أمامهم، هم على ما هم عليه، ونحن على ما نحن عليه، ولم يكن أحد منا يستطيع غير هذا؛ لأنه محكوم بالقوى العظمى، إننا بإزاء عقول حتمية صلبة تناشدنا باسم المنزلة العلمية أن نحجم عن الحكم لكي نحافظ على الموضوعية.
65
ويمكن مقارنة هذا باتجاهات ستراوسون التفاعلية الذاتية، مقابل الاتجاهات الموضوعية الجديرة بالعلم الحتمي.
66 ••• (12) «معضل الجدة»: يرى الحتميون أن تاريخ عالمهم لا يحتمل أية أحكام تقويمية، ولن نبحث في كونهم محقين في هذا أم لا؛ لأن ثمة تساؤلا أهم وأكثر جذرية: هل لعالمهم هذا أصلا تاريخ بالمعنى الحقيقي؟ والأحداث فيه ليست إلا اطراد القانون الحتمي، وتطبيق لخطة فرضتها العلل الكونية التي تخلقت في الماضي السحيق قبل ظهور الإنسان ذي التاريخ، ودع عنك الإنسان المؤرخ.
العالم الحتمي الميكانيكي المغلق، الذي قدرت حركاته أزلا وأحصيت عددا، لن يعرف البتة جديدا، الجديد هو العارض الخصب، والعالم الحتمي حتمي لأنه لا عارض فيه، الجدة ظاهرة من ظواهر المفهوم الحيوي ، من حيث كونه مناقضا للمفهوم الآلي ... أما وقد أصبحت الحياة ككل شيء: آلة، فلا جديد البتة، ولا خلق ولا إبداع وبالتالي لا تطور.
هذا في حين أن الجدة مفهوم ضروري تماما، مثل الأخلاقية والمسئولية وما إليه، أو على الأقل ضروري لكي يكون العالم إنسانيا متطورا وليس مخزن بضائع وأشياء متحركة، و«لكي يكون الكون متطورا تطورا حقيقيا، فلا بد وأن يظهر باستمرار شيئا جديدا كل الجدة، أعني أن التطور لا بد وأن يكون خلاقا، إننا ننظر إلى عالمنا على أنه عالم في دور التكوين، وإلى أنفسنا على أننا جزء منه في دور التكوين أيضا، إن حاضرنا ليس غير ساكن فحسب، بل هو حركة لا يمكن لها هي ذاتها أن تتكرر غدا».
67
تنفي الخطة الحتمية؛ هذا لأنها حددت كل شيء أزلا وأبدا، «وإذا كانت ماهية كل شيء محددة تحديدا قاطعا، فكيف يمكن أن يكون هناك تطور على الإطلاق، إن كل ما نتوقعه في هذه الحالة هو عالم سبينوزا الموجود منذ الأزل، ويبقى هو نفسه في سلسلة من التحولات، ولكن بلا جدة حقيقية».
68
لذلك لم يكن الإدراك العنيد للحرية، هو في حد ذاته الدافع الوحيد لاعتبار الحتمية كابوسا، بل وأيضا لأنها تنفي الجدة والخلق الأصيل والإبداع، كان هذا هو الذي دفع كثيرين من الفلاسفة المعاصرين، أمثال بيرس ووليام جيمس وبيرجسون ووايتهيد لشن حرب شعواء على الحتمية،
69
وفي هذا يقول كارل بوبر: «لقد وصفت الحتمية بأنها كابوس لأنها تنفي قوة الخلق، فكرة الإبداع والجدة تصبح معها وهما فارغا، مثلا كتابة هذه السطور لا يمكن أن يكون فيه أي شيء من هذا؛ لأن أي فيزيائي مزود بمعرفة تفصيلية كافية يمكنه أن يكتبه بمنهج بسيط للتنبؤ العلمي، بالمواضيع الدقيقة التي ستسود فيها الكلمات بواسطة النسق الفيزيائي المكون من جسمي وعقلي وأصابعي وقلمي، ولكي نستخدم مثالا أوقع نقول إنه لو صحت الحتمية الفيزيائية، فإن الفيزيائي الأصم «شيطان لابلاس» الذي لم يسمع في حياته أية موسيقى، يمكنه أن يكتب كل سيمفونيات موزارت وبيتهوفن، عن طريق منهج بسيط لدراسة الحالات الفيزيائية الدقيقة لأجسامها، فيتنبأ بالمواضيع التي سيضعان فيها علاماتهما الموسيقية في نوتتهما، بل ويمكن لهذا الفيزيائي الأصم أن يكتب ما لم يكتبه موزارت وبيتهوفن وكان يمكن أن يكتباه لو توافرت لهما شروط خارجية مختلفة كأن يأكلا لحما بدلا من الدجاج، أو يشربا قهوة بدلا من الشاي».
70
نفي الجدة يجعلنا ندور بين أطر الآلة في تسلسل ممل من الأحداث العقيمة، كلها نواتج - معلولات للعلل، ولا أصلة البتة، ولما كانت العلل والقوانين ثابتة، فالأحداث في حقيقتها التي يكشف عنها نور العلم الحتمي، كلها متشابهة، ألوانها كالحة، فيزيقيا وعقليا أيضا، فحتى مجرد الاعتقاد، اعتقاد أي إنسان في أية نظرية بأية لغة وفي أي شيء، «مسألة حتمية لا بد وأن تحدث، إذا ما وضع أي إنسان في الظروف الفيزيائية نفسها؛ لأن محض هذه الظروف، تحتم قول وقبول كل ما نقوله ونقبله، والفيزيائي الماهر الذي لا يعرف شيئا عن مبدأ الحتمية ولا عن اللغة الفرنسية، سيكون قادرا على أن يتنبأ بما سوف يقوله أيضا معارضو الحتمية؛ على هذا، فإذا تصورنا أننا نقبل الحتمية أو سواها، لأننا اقتنعنا بالقوة المنطقية لحجج معينة فاتخذنا موقفا جديدا، فإننا نخدع أنفسنا».
71
فمثلا ظل الحتمي هنري بوانكاريه مؤرقا عدة شهور بمشكلة رياضية لم يجد لها حلا، وفجأة بلا أية مقدمات، بمجرد أن وضع قدمه في إحدى الحافلات، لمع الحل في ذهنه بغتة، بغير أن يجد لذلك أي تفسير، وإذا افترضنا عالما أو محللا نفسانيا، على طراز شيطان لابلاس، يعلم كل شيء عن حالة الوعي واللاوعي، والشعور واللاشعور لبوانكاريه، فإنه كان سوف يتنبأ بهذه الحادثة، وهذا يعني أنه كان سيعرف قبل بوانكاريه حل تلك المشكلة الرياضية،
72
فكيف يمكن أن نتصور فيها - أو في أي شيء - إبداعا أو خلقا من قبل ذات منفردة، لا ذوات في عالمنا الحتمي، بل فقط مواضيع لتطبيق المبدأ الحتمي، ولا مكان في هذا العالم لمفاهيم الجدة والخلق الأصيل والإبداع والتطور الحقيقي.
ويمثل هذا معضلا؛ لأن التجربة الوجودية تؤكد عملية انبثاق الجديد باستمرار، كل ميدان من ميادينها بدءا من أعظم إنجازات العقل وأروع إبداعات الفن، وحتى أبسط المواقف الشخصية، يؤكد أن الإنسان يأتي بالجديد، يبدع ويخلق، أي يفعل ما لن يفعله سواه، وما لا يتحقق إلا بالإرادة المبدعة والتصميم الحر والجهد الإرادي الموجه، تنفي الحتمية هذا، وعلى ديدنها في إزاحة كل ما يعارضها أو يعترضها تئوله على أنه مظهر يخدعنا بسبب الجهل بالعلل الكونية الكائنة خلفه، وحين يعم نور العلم الحتمي سوف ندرك هذا جيدا، ولكن يصعب بل يستحيل تصديق أن التطور والجدة والخلق والإبداع مظاهر للجهل الذي لا يقحم ويقهر إلا بها، ويصعب أكثر تكذيب الحتمية، فيتخلق معضل لا مخرج منه أبدا.
وبعد كل هذا، إذا عدنا إلى الفقرة (18) التي ستوضح تناقض العلم الحتمي ذاته بصدد الحرية حين ينفي أول مستوييها، الحرية الأنطولوجية، ويصادر على حرية من المستوى الثاني، لكي ينمو العلم نفسه ويترعرع ولكي تتواتر إبداعات العلماء، أدركنا مدى حدة الشيزوفرينيا التي يخلقها معضل أو مبدأ الحتمية، إن العلم يصادر على الحرية من أجل الجدة والإبداع في حين أن حتميته تنفي الجدة والإبداع من حيث تنفي الحرية الإنسانية.
إن المعضل ليس معضلين بل واحدا لا سواه، إنه معضل الحرية الإنسانية، أما معضل الجدة فهو كالمعضل الأخلاقي، وجه من وجوهه أو بعد من أبعاده؛ لأن الجديد لا يأتي طبعا من الآلي الميكانيكي، ومحاولة الإقرار بهذا تناقض منطقي وخلف محال، الجديد لا يأتي إلا من الفعل الحر، والفعل الحر بدوره هو الفعل المبدع «الحرية هي حرية الخلق، حرية الانبثاق من الماضي المتراكم إلى الجدة التي لا يمكن التنبؤ بها»
73
الحرية تربط الأنا بذاته وبالعالم، وذاك هو معنى التحرر: قوة مبدعة وفي الوقت نفسه إبراز لأنا كلي وفاعل،
74
وماذا عسى أن تكون الحرية في النهاية إن لم تكن تلك القدرة على الخلق، خلق الجدة والعمل على تحقيقها، بل خلق وجود خصب يكون من شأنه أن يجيء نسيجا وحدة، وأن يحقق في الكون ما لا سبيل إلى تحقيقه بدونه.
75
الإرادة هي الوجه العيني للحرية؛ لأنها أداة تحقيق الفاعلية الإنسانية، فعالية الخلق الذي لا يتحقق إلا بعزمها، عزم الإرادة.
الحرية الأنطولوجية تعني أن الوجود الإنساني فعل
Act ، لا حالة
State ، يقول الدكتور زكريا إبراهيم: «ما دام هذا الوجود في صميمه عبارة عن انتقال شعوري حر من الإمكانية إلى الواقعية، والقول بحرية الإرادة، إنما هو تقرير لتلك الإمكانية الهائلة التي لولا الفكر الإنساني لما كان في وسع العالم مطلقا أن يتضمنها بأية حال، إذن فإن الحتمية مذهب يائس مثبط للهمم؛ لأنه يلغي من الوجود بالعالم تلك الصورة الإنسانية من صور القوة ألا وهي الإمكانية النوعية الخاصة التي ما كان يمكن أن توجد لولا أن هناك حرية إنسانية مبدعة.»
76
تطيح الحتمية بالجدة بالإبداع من حيث تطيح بالحرية، التي هي القوة المبدعة. ••• (13) هكذا جعل معضل الحرية في العالم الحتمي من الإنسان لا إنسانا، بل مجرد ترس في الآلة الكونية، يسير وإياها في المسار العلي المحتوم بقوانين يكشف عنها العلم، وبواسطة تنبؤاته التي يعلو سلطانها يوما بعد يوم، سيعلم الطريق الواحد والوحيد لكل ما هو آت وما قد كان، إنه حلم اليقظة الحتمي، بالعلم اليقيني الشامل، والذي انقلب إلى كابوس مرعب، يسحق حرية الإنسان وحياته الأخلاقية وأحكامه التقويمية وإبداعاته وإنجازاته، كأوهام وأدها نور العرفان، وكأن نور العرفان كشف عن الحقيقة الحقة لهذا الكون: إنه معتقل للمجبورين والمقهورين، أدوات أو عبيد المبدأ الحتمي الأعظم، يقول العلم بصوته الوقور الرزين المنزه عن الهوى والغرض: كلا، ليس هذا الكون منزلا أو موطنا للإنسان، يحيا فيه حياة إنسانيتها الحرية التي تجعل الذات ذاتا والأنا أنا، تختار وتقرر قبل أن تفعل، فتخطئ أو تصيب، وقد تبدع فتأتي بما لا تستطيعه ذات سواها، وتتحمل المسئولية عن مشروعية فيحق لها الثواب، أو عليها العقاب ... تلك خيالات تسبح في عماء الجهل، ولكن كل جزئية من جزئيات الواقع والمثال، تؤكد للإنسان هذا، من حيث تؤكد له أنه حر الإرادة، تجربته الوجودية العينية تخبره بأنه كان يمكن ألا يفعل ما فعله، أو كان يمكن أن يفعل سواه، وتطرح أمامه أكثر من احتمال، ولزاما عليه أن يختار بينها ... الفرح الصافي بما أنجزت يداه، الألم والمعاناة من جراء ما اقترفت يداه، أو من جراء الاختيار الخاطئ الذي كان يمكن تفاديه ... سواء أكان هذا الألم داخليا من النفس اللوامة، أو خارجيا من معقبات الفعل الخاطئ ... كان هذا وغيره يؤكد للإنسان أنه حر.
إن تتبع تاريخ العلوم المختلفة في نشأتها ونموها يعرض لكفاح العلم من أجل الوصول إلى المبدأ الحتمي، يعرض للكيانات التي أزاحها المبدأ من طريق العلم، الصفات الخفية، العلة الغائية، الفلوجستون، القوى الحيوية ... ولكن لماذا لم يثر معضل القوى الحيوية مثلا في العالم الحتمي أو معضل الفلوجستون؟ فما بال الحرية بالذات قد أقامت الدنيا ولم تقعدها؟ ولماذا لم تذو كما ذوت تلك الكيانات؟ الإجابة واضحة لو لم يكن وعي الإنسان بالحرية وإدراكه لها عن حق ويملك حيثيات الحكم بأنه الحق، لما كان ثمة معضل للحرية في العالم الحتمي.
تلك الكيانات كالفلوجستون أو القوة الحيوية أوهام جهالة فعلا، أو تمثيل لقصورات مرحلة انتهت، أما الحرية فليست هكذا، ولن نقول من الصعب أن نتفق أو ننتهي إلى أن الحرية وهم، بل نقول بصيغة تقريرية حاسمة، ليست الحرية وهما، إنها حقيقية حقيقية وجود الإنسان. واشتقاقا من الدليل الأنطولوجي على وجود الله،
77
يمكن الوصول إلى دليل إبستمولوجي على وجود الحرية، ذلك أن التساؤل عن الحرية وإثباتها أو نفيها، هو ذاته فعل من أفعال الحرية، فكان إدراك الحرية والشعور بها ماثلا في العقول وفي الصدور، قبل العلم بأسره، ولكن العلم الحديث رفع مبدأ الحتمية على رءوس الأشهاد، طارحا اختيارين، كلاهما مر:
الحرية والحتمية متعارضتان.
ونحن نعلم أن الحتمية صادقة.
إذن الحرية وهم. •••
الحرية والحتمية متعارضتان.
ونحن نعلم أننا أحرار.
إذن الحتمية كاذبة.
78
الخبر الأول آت من العقل العلمي المظفر، ذلك المصدر الموثوق بأخباره أيما ثقة، والثاني من الإدراك الوجودي الذي يصعب تخطئته، تعاظم جبروت العلم، ولم يعد التطاول على قدس أقداسه مبدأ الحتمية - مباحا ولا حتى ممكنا، فكانت الحرية هي الضحية، فهل يمكن صرع إنسانية الإنسان جهارا نهارا؟ ربما لا، ولكن ماذا نفعل؟ هل ننكر العقل ونعتبر العلم كاذبا؟ أو خبرا غير موثوق به أو يمكن إهماله؟ ... ذلكم هو المحال بعينه .
هذا المعضل بلا أدنى مبالغة، أعنف وأقسى مأزق فلسفي، مر به العقل البشري حتى الآن، فكيف كانت مواجهته؟
الفصل الثالث
مواجهة المعضل
إما بنفي الحرية وإما بنفيها (14) إنه حقا معضل، لا يمكن اعتباره محض مشكلة أو مأزق؛ لأنه وضع لا انفراجة له البتة: العلم ينفي الحرية، فما الذي فعله الفلاسفة بإزاء هذا النفي لأية إيجابية إنسانية؟
الواقع أن مجمل فلسفة الحرية بصدد هذا المعضل، لا تعدو أن تكون أحد موقفين، لا ثالث لهما: إما نفي الحرية بمعنى السلب والإنكار؛ اعترافا بحصيلة العلم التي لا سبيل إلى غير الاعتراف بها، وإما نفيها بمعنى إبعادها وطردها إلى عوالم أخرى متصورة أو متخيلة أو موهومة، لا علاقة لها بهذا العالم الذي نحيا فيه وأفتى العلم بأنه حتمي، وفي الحالين لا حرية حقيقية، فهي إما منكورة وإما موهومة، إما منفية وإما منفية، والمحصلة واحدة: لا حرية في هذا الوجود، فليس جزافا إذن أن تمنحنا عبقرية اللغة العربية جناسا لفظيا في هذا الحكم الذي انتهت إليه دراستي لفلسفات الحرية في العالم الحتمي، وعبثا حاولت العثور على استثناء له يكسبه شيئا من المرونة.
وسبيلنا الآن إلى تبيان مصداق هذا الحكم وعرض حيثياته، والمسألة تتلخص في أن نفي الحرية بمعنى السلب واللا إما أن يأتي من حتمية صارمة
Strict
تنفي الحرية صراحة، وإما من حتمية رخوة ومرنة
Soft ، عبثا تتحايل على صلابة الحتمية محاولة إفساح موطأ قدم للحرية، على أن الحتمية ما كانت لتسمح بطائل لأي تحايل أو مداهنة.
أما النفي بمعنى الإبعاد لعوالم أخرى ففيه تتفق عبقريات الفلاسفة عن تشييد قصور في الهواء تودع فيها الحرية الإنسانية، مجللة مكللة، كالعهد بنفي أعاظم القوم حين تدول دولتهم وبغير أن يدانوا بوزر، بعد أن يصدر إليها الأمر بمغادرة هذا العالم الذي أحكم العلم قبضته عليه، ولكن يصعب التسليم بأن الحرية بجلال قدرها وثقل شأنها كائنة في الهواء أو في الخيال، ومن هنا كانت محاولات إثبات الحرية إيجابا في العالم الحتمي تعمل على قصم أو فصم صميم العالم لتستقطع حيزا لا يقع تحت سلطان العلم وتدعي أنه مجال أو بالأحرى منفى الحرية. ••• (15أ) «نفي الحرية»: الحتمية الصارمة: هذا الموقف يحقق أبسط بسائط التفلسف؛ الاتساق، فهم يعلمون علم اليقين أنه لا حرية على وجه الإطلاق لإنسان يحيا في العالم الحتمي، ويطرحون أبنيتهم الفلسفية لإثبات أن الحرية وهم زائف وحديث خرافة.
ولما كان في هذا من القسوة الشيء الكثير - فإن بعضا منهم قد يحاول مداواة هذه القسوة عن طريق تسخير التحذلقات الفلسفية من أجل الاستغناء عن الحرية بواسطة اللاحرية، قبول الحتمية وتوهم الحرية، مما يذكرنا برواية الكاتب البريطاني الساخر جورج أورويل «1984»، ففيها ينقد بقسوة الأنظمة السياسية القائمة ويجعل دولته الوهمية تتخذ شعارات ثلاثة: الحرب هي السلام - الحرية هي العبودية - الجهل قوة. والشعار الثاني يسخر من فلاسفة الحرية الحتميين قبل أن يسخر من أية أنظمة سياسية.
ويأتي الرواقيون: في صدر القائمة، وقد رأينا أن الحتمية أصبحت معهم لأول مرة مفهوما جامعا مانعا للطبيعة والإنسان معا، إنهم آمنوا بشمولية القانون الكلي واستحالة الإفلات منه فيغدو سبيل الخلاص الأوحد هو الاتحاد بالضرورة الكونية والاندماج فيها عن وعي خير من أن يحدث هذا بغير وعي، فلا بد وأن يحدث على أية حال، فأصبحت الحرية هي الوعي بالحتمية، أي الإدراك والاعتراف الصريح بنفيها وبالطبع لا مسئولية، فقامت أخلاقياتهم على موافقة العقل الصريح، «والرجل الفاضل الحكيم الذي تسير حياته كلها وفقا للعقل الصريح إنما يحيا وفقا للطبيعة الخاصة والعامة، وهو مواطن هذا العالم يقبل طوعا كل ما يأتي به القدر من أحداث، حتى المصائب والنكبات، معتقدا أنها داخلة في النظام الكلي والقضاء الإلهي، الرجل الخبيث على عكس ذلك على خلاف مع نفسه ومع الموجودات جميعا وهو أجنبي في المدينة العظمى: العالم، ومع ذلك فالرجل الشرير مهما يتمرد على القدر فلا جدوى من تمرده؛ لأن جهوده للتخلص من الأقدار إنما تسوقه حيث أرادت الأقدار».
1
سلم أهل الرواق بأن الحرية هي غياب العوائق أمام تحقيق رغبات الإنسان، ولكن إذا كانت درجات الحرية هي دالة تحقيق هذه الرغبات فأنا أستطيع زيادة الحرية بحذف الرغبات التي قد يعاق إشباعها، وهذا ما حققه إبكتيتوس حين قال إنه وهو العبد أكثر حرية من سيده، وبغياب العقبات ونسيانها أصبح على غير وعي بها، وبالتالي أصبحت غير موجودة، وهكذا فعل القطب الرواقي بوزيدونيوس - الذي مات عن مرض خبيث وقال: افعل كل ما تشاء أيها الألم! ومهما فعلت فلن تستطيع أن تجعلني أكرهك. وهو بهذا كما لاحظ شيشرون يتحد مع الطبيعة التي تدخل في ذات الهوية مع العلة الكونية، لقد جعل ألمه حتميا، ومن ثم يكون الاتحاد به هو الحرية بعينها.
2
فراح الرواقيون يتحدثون عن حرية مطلقة معروفة في البوذية وفي أديان أخرى ولناس بلا دين، إنها حرية الاعتصام بالنفس والالتجاء إليها وبالتالي التحرر التام من العالم الخارجي، وفكرة الحكيم الذي يلتمس الحرية والأمن في أعماقه وعن طريق وأد الذات فكرة تنشأ حين يقسو الواقع الخارجي.
3
وتنطبق على الحرية بمستوييها، على المستوى الأول يقسو الواقع الأنطولوجي بسبب تصور الحتمية الكونية، وعلى المستوى الثاني قد يقسو الواقع الاجتماعي على الإنسان بسبب أحداث العصر واضطراب الظروف السياسية والاجتماعية ... إلخ؛ ونظرا لحتمية الرواقيين من ناحية، وقسوة ظروف عصرهم الهلينستي من الناحية الأخرى، فمن الطبيعي إذن أن يلجئوا إلى هذا التصور للحرية الذي ينفيها على كل مستوياتها.
وإذا غادرنا الأصول التاريخية ودلفنا مباشرة إلى أجواء العلم الحتمي، أي إلى الفلسفة الحديثة، فسوف نجد أشهر وأقوى صورة لنفي الحرية بمنتهى الإصرار والتأكيد بلا مواربة أو مداورة، مع أكثر الفلاسفة طرا في المواربة والمداورة؛ مع سبينوزا (راجع حديث المدخل عنه)، وحسن أن يأتي سبينوزا في أعقاب الرواقية، فثمة فكرة شائعة تجعله رواقيا، بسبب من التشابه الشديد بين أخلاقياته وأخلاقياتهم واشتراكه معهم في مادية كل شيء والحتمية الصارمة وبالتالي نفي الحرية، وفيما عدا هذا فهو ليس رواقيا.
لذلك نعرج على رأي هامبشير الذي رآه أبيقوريا من حيث إنه تابع للوكريتوس في تأكيده على أن الإنسان يمكنه أن يتكيف مع العالم الفيزيقي كجزء منه، لا متعال عليه، هذا في مواجهة خلفية ضخمة ترى الإنسان ظاهرة خارقة للطبيعة .
4
ويبقى الأساس السبينوزي الذي لا خلاف عليه ولا نقاش فيه؛ أي الحتمية.
كانت حتميته صارمة حتى إنها تحكم قبضتها على الإنسان تماما كما تحكمها على الحجر الساقط وعلى كون المثلث ذا أضلاع ثلاثة، وعليها لا بد وأن تنحذف الحرية تماما من هذا الوجود، فتنص القضية الثانية والأربعون من الجزء الثاني من كتابه «الأخلاق: مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية» على أنه: «لا يوجد في أي عقل إرادة مطلقة أو حرة، بل إن العقل محتم عليه أن يريد هذا أو ذاك بواسطة علة هي بدورها محتمة بواسطة علة أخرى، وهذه أيضا بواسطة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.»
5
أما ما نراه من قرار إرادي يلازم أداء الفعل، فإن سبينوزا يفسر هذا بأن قرار العقل مع شهوة الجسم وحتميته متآنيان في الطبيعة، أو هما شيء واحد، إذا أخذناه تحت خاصية الفكر كان القرار، وإذا أخذناه تحت خاصية الامتداد كان حتمية فيزيقية، يمكن استنباطها من قوانين الحركة والسكون - القوانين الميكانيكية. إن الجوهر الممتد أو المادة هي في النهاية الحقيقية السبينوزية الحقة، وبالتالي فالحتمية الفيزيقية الميكانيكية هي فقط الحقيقة الوحيدة. وكانت اللذة والألم والرغبة عنده مصطلحات أولية لتفسير الشعور في حدودها تفسيرا ميكانيكيا عليا حتميا، وما اللذة والرغبة إلا الحالات أو التكيفات الطبيعية للشخص، التي تحدث مستقلة تماما عن الحكم «أو الإرادة»، وصحيح أن اللذة والألم علل لتغيرات نفسية وجسمية، إلا أنهما بدورهما معلولات لعلة خارجية ويجب دراستها في علاقتهما بالحالات المتغيرة للكائنات الحية دراسة علمية كأي موضوع فيزيائي.
6
الإنسان خاضع بالكلية للقوانين الفيزيائية الميكانيكية، وكل ظواهر أنشطته وسلوكه قابلة للتفسير كمعلولات لعلل فيزيقية، وإذا اعترض معترض بأن الأنشطة العليا للإنسان مثل الفن لا تقبل هذا التفسير، كان رد سبينوزا على هذا هو رد الحتميين المعهود، أي بالتفسير الذاتي لحدود الجهل بأننا «لم نعرف بعد كل قدرات الجسم ولا مدى حدوده وذلك الاعتراض مجرد إقرار بهذا الجهل».
7
إننا على وعي بهذه الظواهر، ولسنا على وعي بعللها.
تبخرت الحرية من عالم سبينوزا، وكان لا بد وأن تتبخر ، فماذا فعل سبينوزا بإزاء مصاب الحرية الفادح؟ لقد بدا أنه فعل فعل الرواقيين، فكان التمييز بين الحرية والعبودية من أهم وجوه الفلسفة السبينوزية، إنهما الحدان اللذان يراجع بهما الحكيم سلوكه فينقده، ويتخذ قراراته.
8
وعنى سبينوزا عناية بالغة بتوضيح الطريق أمام الحرية الإنسانية من خلال الفهم والمعرفة العلمية، ولكن ما هي الحرية؟ إنها بالضبط كحرية الرواقيين أو حرية دولة جورج أورويل الوهمية، الحرية التي هي ذاتها العبودية واللاحرية، فليست الحرية السبينوزية إلا الاندماج الواعي في الحتمية الفيزيقية الكونية، وهي تبلغ ذروتها بالحب العقلي لله الذي هو الاتحاد الكامل بالطبيعة أو بالنسق الكامل للعلم الفيزيائي الحتمي، وهي غاية لن تتحقق تماما؛ لأن الإنسان وعلمه لا يمكن أن يكتملا أبدا، وإلا أصبح إلها، في حين أنه حالة محدودة من الله أو من الطبيعة، والمصطلحان مترادفان في الفلسفة السبينوزية.
على هذا لن نبلغ أبدا ذروة الحرية ولكن يجب تتبعها باستمرار، ونحن أحرار على قدر ما لدينا، فكرة واضحة ومتميزة عن علل حالتنا الفيزيقية والعقلية، والحصول على هذه المعرفة الكافية بالعلل يتضمن بالضرورة معرفة أكثر كمالا بالطبيعة وبأنفسنا كأجزاء من الطبيعة، تحدث هذه المعرفة كلما توقفنا بالضرورة عن أن نحب ونكره الأشياء الجزئية أو أن نتأثر بها، بل سيشعر الحكيم تجاهها بالحياد العاطفي والأخلاقي؛ لأنه سيفهم ما هي عليه وكيف أنها لا يمكن أن تكون خلافا لهذا ولن يراها كعلل لمتعته فيتجنب الألم وكل ما يدعي بفضائل الزهد والتقشف، وسيدرك أنه لا يمكن أن توجد حالة أخرى بحيث إن عدم تحققها يعوق الإشباع والسعادة، وبالتالي لن يفتقد السعادة أبدا، إنه على الدوام حر سعيد، الإدراك والمعرفة هما سر هذا النوع العجيب من السعادة والحرية، وكل شيء يساعد على تقدم المعرفة يزيد منهما لذلك فهو بالضرورة خير للفرد ويجب تتبعه في سياق حفظ الذات،
9
أو الكوناتس
Conatus
الدافع الأول لسلوك الإنسان في الفلسفة السبينوزية.
حالة الحكيم السبينوزي الحر السعيد حالة مثلى لتطبيق ما أسماه ستراوسون بالاتجاهات الموضوعية التي تختفي منها أية اتجاهات تفاعلية (فقرة 15أ)، فحين ندرس الله أي العالم الطبيعي وعواطفنا بنفس الانفصال عنهما، أي بنفس الموضوعية والوضوح والدقة التي ندرس بها الدوائر والمثلثات في علم الهندسة فسنجد الحرية والسعادة والانتقال من حد العبودية إلى حد الحرية هو الانتقال من حالة المشاعر السلبية والأفكار المختلطة «الاتجاهات التفاعلية» إلى حالة المشاعر الإيجابية والأفكار الكافية «الاتجاهات الموضوعية»، ولكن أولم تكن الاتجاهات الموضوعية هي وضع للحتمية التي لا تطاق؟ وهكذا حرية سبينوزا، هي حتمية لا تطاق «والعقل عنده حر وفعال حينما، وفقط حينما، تكون الحجة صارمة والنتائج حاسمة راجعة إلى الحدود الضرورية»،
10
أي حين تكون اتباع النتيجة ضربة لازب وقضاء مبرما فيكون بدوره حرية كاملة!
وإذا تذكرنا ما أثبتناه في المدخل من طبيعة مخاتلة لسبينوزا تجعل الشقة بين مظهره وجوهره جد واسعة،
11
أدركنا أن المظهر الرواقي هذا قشرة لا تعني الكثير، فحرية سبينوزا هي عينها الحتمية السيكولوجية الصارمة مع علماء النفس المحدثين من التحليلية والسلوكية، وكان سبينوزا بوصفه داعية للدراسة العلمية للإنسان الكاشفة عن القوانين التي تحتم سلوكه، مبشرا بهم ورائدا لهم، حالة الانتقال إلى الحكيم السبينوزي الحر يجب أن تتم إن كان لها أن تتم عن طريق لا يختلف عن طريق علم النفس التحليلي، من حيث إن منهج الشفاء فيه يقوم على جعل المريض أكثر وعيا بذاته وبالصراعات الكامنة في اللاشعور، فيستطيع أن يحقق توازنا أكثر، وثمة تواز بين حتمية الكوناتس عند سبينوزا وحتمية اللبيدو عند فرويد، من حيث إن كليهما يقيم الحياة الشعورية على دافع كلي، وأي كبت له يظهر في الوعي كاضطرابات مؤلمة، فتصبح الوسيلة الوحيدة لتطبيق السعادة هي فهم العلل المؤثرة على حالاتنا العقلية،
12
وإذا كان التحليل النفسي مشكوكا في علميته، فإن ريادة سبينوزا للسلوكية أعمق، فقد سبقهم إلى تأكيد دراسة سلوك الإنسان عن طريق الملاحظة الخارجية ولا حاجة إلى الاستبطان المحفوف بالمخاطر الذاتية، ولعل سبينوزا هو الذي علمهم الموضوعية المتعملقة بصورة مخيفة، تعالج السلوكية الإنسان كظاهرة طبيعية، لا تقل ولا تزيد على أية ظاهرة طبيعية أخرى، فلا أعماق سحيقة من الهو والأنا وما إليه من تهاويم تحليلية، وهذا ما عبر عنه سبينوزا قائلا: إن الإنسان مجرد حالة من حالات الجوهر اللامتناهي.
خلاصة كل هذا أن الحرية السبينوزية هي عينها الحتمية السيكولوجية المحدثة، من حيث النظر إلى الإنسان بوصفه كائنا حيا داخل الطبيعة، وليس فائقا لها، يجب دراسة سلوكه دراسة علمية موضوعية، فضلا عن أنه يشترك معهم في الهجوم الجريء على الدين والأخلاق المتوارثة بالدعوة إلى البحث عن سعادة الإنسان بوصفها كمالا له بدلا من إدانته، ورفع المسئولية الخلقية، وكان سبينوزا أول من أكد أنه كلما تقدمت الدراسة العلمية للإنسان - أي علم النفس - أدخلت خطايا وشرورا أكثر تحت خانة المرض النفسي، ومن يعانيه ليس مخطئا بل غير مسئول، ومستحقا للعلاج لا للعقاب، وأخيرا كان قد اتضح ضمنا فيما سبق أن عالم سبينوزا نموذج للعالم الذي تختفي فيه الجدة.
هكذا يعطينا سبينوزا صورة الحتمية الصارمة، صورة مثلى في اكتمالها موضوعيا وتاريخيا، إنه يربط بين طرفي تاريخها: أولى صورها مع الرواقية وآخرها مع السيكولوجيين الحتميين المعاصرين، ارتبطت حتمية سبينوزا الصارمة بقرينتها الرواقية؛ لأنه كفيلسوف ميتافيزيقي تحمل مسئولية تقديم العزاء في مصاب الحرية الفادح، فراح يعزينا مثل الرواقيين بلا حرية هي أروع أشكال الحرية.
أما التالون لسبينوزا من أقطاب الحتمية الصارمة التي تنفي الحرية صراحة كالماديين الكلاسيكيين جاسندي وهو لباخ وهوبز، والموسوعيين الفرنسيين كابانيس ولامتري ودولامبير، حتى الحتميين المحدثين والمعاصرين من العلماء وفلاسفة العلم والفلاسفة ذوي النزعة العلمية، فإن تبرؤهم من الميتافيزيقا وزهوهم بالهوية العلمية جعلهم في حل من تقديم العزاء في مصاب الحرية الأنطولوجية أو الحرية الميتافيزيقية، ومن خوض لغو القول في جعل حالة اللاحرية أروع أشكال الحرية، فأنكروا الحرية صراحة وجملة وتفصيلا، غير آسفين ولا متحرجين، بل ربما بافتخار من استطاع التخلص من وثن جاهلي قد انهار.
قصارى ما يفعله أحدهم هو القول بأننا فعلا أحرار ومسئولون وشعورنا بالحرية ليس من الوهم في شيء، ولكن ليس هذا الشعور إلا الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا لها، وبهذا يصدر الفعل عن تلقائية نابعة من قلب الذات فيغدو حرا!
من أبرز من يمثلون هذا الموقف الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم
David Hume (1711-1776)، وهو من المواصلين للتيار التجريبي المتأصل في الفلسفة الإنجليزية، المعبرين عن النزعة العلمية، والأهم من هذا أنه شكاك سكوتلندا الشهير، فقد أتى في عصره المشبع بالحتمية والعلية ليفجر ثورة عاتية بشأن مبدأ العلية الوطيد - أشرنا إليها في المدخل - وتتلخص في أنه أوضح أن العلية مجرد نزوع سيكولوجي، عادة دأبنا عليها، ولسنا نملك الحق في فرضها على الواقع، وعلى الرغم من هذا انساق هيوم مع تيار عصره، وأكد أن الحتمية صارمة في المجال النفسي، عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ثم راح يتحدث عن حقيقة الحرية والمسئولية الخلقية، على أساس أن الحرية وشعورنا بها لا يعدو أن يكون انسياقا للحتمية الكونية، وتحدث هيوم عن الإرادة وطبيعتها، وأوضح أنها لا تظهر إلا حين يكون ثمة فعل للجسم أو للعقل ينجم عنه الحصول على لذة وتجنب ألم؛ لذلك لم تكن الإرادة عند هيوم إلا مجرد انطباع، أي إدراك فوري لشيء ما، شأنها شأن الإحساس بالانفعالات المباشرة كالرعب والفرح، يقول هيوم: «لست أقصد بالإرادة إلا ذلك الانطباع الداخلي الذي نحسه ونكون على وعي به، حين نعرف أنه ثمة حركة جديدة لجسمنا أو إدراك جديد لعقلنا قد تولد عنه، إنها انطباع مثل الفخر والرضا والحب والكراهية، وليس ثمة ضرورة لتحديد أكثر أو وصف أبعد.»
13
ولأن الإرادة انطباع فإنه لا يمكن تفسيرها في حد ذاتها، ويمكن تفسيرها وشرحها فقط في حدود مقدماتها وتوابعها، وفي هذا نجد أن الجسم حين يتحرك لاتباع أمر الإرادة، نكون على وعي بهذه الحركة، ولكننا لا ندرك الأثر الفوري أو الطاقة المباشرة التي دفعت إلى هذه الحركة، وليس ثمة شيء أكثر غموضا من هذا الاتحاد بين العقل والجسم والذي يجعل لكل منهما تأثيرا على الآخر، إنها اتحاد ملغز سري، ونحن لا نعرف لماذا تؤثر الإرادة تأثيرا واضحا على اللسان والأصابع فنقول ألفاظا نريد أن نقولها ونمسك بأشياء نريد الإمساك بها، ولا تؤثر إطلاقا على مناطق أخرى من الجسم، كالقلب مثلا، ومن ناحية ثانية، يخبرنا علم التشريح بأن الأثر الفوري المؤدي توا إلى حركة معينة مرادة، ليس الإرادة، بل بين الإرادة وبين الاستجابة لها، حركة عضلات وأعصاب معينة، وربما حركة شيء ما آخر، أكثر دقة، ونحن به أكثر جهلا.
14
على هذا النحو تتشابك الإرادة مع الطبيعة الفيزيقية الخاضعة للقوانين العلمية، أي الخاضعة للحتمية الكونية والعلية الأبدية، وعلى أية حال، فإن الحتمية عند هيوم وزملائه - كما ذكرنا - صارمة في المجال النفسي عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ولكنه راح يؤكد أننا أحرار ومسئولون، وإذا سألناه: كيف نكون أحرارا مسئولين طالما أن الحتمية شاملة؟ لأجاب: بأن الحرية هي التصرف طبقا لما تحدده الإرادة، ولكن ما الإرادة إلا معلول للعلل الحتمية، وهكذا كل تصرفات الإنسان وأفعاله، لتغدو الإرادة مجرد حلقة في السلسلة العلية، وتصرفات الإنسان هي الحلقة التالية، والكل سائر في المسار المحتوم المحدد بالعلل، لكن الحلقة المسماة - عبثا - بالإرادة هي العلة المباشرة للحرية، ولشعورنا بها.
وبهذا فقط يمكن أن نقيم المسئولية الخلقية؛ لأن تلك العلل الحتمية الموجهة للإرادة تكشف عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة.
والأخلاق لا يمكنها أن تستصوب أو تستهجن الفعل ما لم يكشف عن هذا - عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة، أما الأفعال الطائشة الرعناء، التي قد يأتي بها الشخص في وقت أو آخر، فإنها لا تحمل تقييما للشخصية ككل ولا تؤثر عليها، إن اللوم لا ينصب إلا على الأفعال التي تؤدي بنية متعمدة، والفعل لا يجعل الفاعل مجرما ما لم يكن ثمة في ذهنه مبدأ للجريمة جعله يرتكبها بتعمد أو مع سبق الإصرار والترصد، بالتعبير القانوني، وفقط مبدأ الضرورة الشاملة أي العلل المحتمة للسلوك هي التي تقيم هذا وترسي أساسه؛ لأنها تؤكد أن الجريمة علة محتمة للسلوك، فيغدو الفاعل مستحقا فعلا للوم والذم والاستهجان، إن الجريمة متأصلة في طبيعته، ونفس مبدأ الضرورة الحتمية هو الذي يجعل التوبة النصوح تمسح الجريمة، إذا ما انتواها الفاعل، وتعمدها حقا في إعادة تقويمه للأمر.
15
فإذا كانت التوبة صادقة فإنها تكشف عن علة محتمة للسلوك، تجعل الشخص مستحقا فعلا للغفران والتسامح .
وعلى هذا يصل هيوم إلى أن الحتمية ليست تنفي الحرية، وبالتالي لا تعفينا من المسئولية الخلقية، بل إنها أساسها، أوليست الحرية محض الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا للحتمية الكونية، وبالتالي فإن الأحكام التقويمية معبرة عن هذه الضرورة الحتمية التي هي الحقيقة المطلقة، الحرية والمسئولية الخلقية جزء من الحقيقة، صحيح أن هيوم شكاك كبير، إلا أنه أولا وأخيرا تجريبي متطرف، من غلاة القائلين بالحتمية الصارمة، وقد أوضح المدخل مدى هيمنة الحتمية على عصره، عصر الفلسفة الحديثة، وسنجد أن موقفه هذا، وهو موقف زملائه من الحتميين الصارمين الذين أنقذوا الحرية عن طريق الزعم بأنها الشعور بالضرورة والانسياق لها ... سنجد أن هذا الموقف شديد الشبه بالحتمية الرخوة التي سنتحدث عنها في الفقرة القادمة.
والآن، لقد حاول هيوم هذه المحاولة، فقط لكي يتبرأ من وزر إهدار المسئولية الخلقية، فهل نجحت؟ الواقع أن هيوم نفسه قد توقف معلنا عجزه في بعض الأحيان، عن الصعوبات التي تنطوي عليها محاولته.
منها مثلا أننا لا نشعر دائما بتلك الضرورة الكامنة فينا، بل كثيرا، والأدهى خصوصا حين المواقف التي تتجلى فيها الحرية الإنسانية، كثيرا ما نشعر بالتردد والعجز عن اتخاذ القرار، ولم ينكر هيوم تلك الحيرة البادية أحيانا، ولكن رد على هذا الاعتراض بأن الضرورة ليست خاصية للفاعل بل للوجود الأنطولوجي، وإذا وجد ذهن على مستوى عال - كعقل لابلاس الفائق - سيفهم الفعل وبالتالي يدرك العلل التي حتمت التصرف النهائي، وإن غابت هذه العلل عن الفاعل نفسه، فأبدى ترددا في البداية، وبصفة عامة حاول هيوم أن يرد كثيرا من الاعتراضات.
ولكن بقي اعتراض هو الجوهر والأصل والعماد، اعترف هيوم بأنه يخل فعلا بمحاولته لإنقاذ المسئولية، وهو الاعتراض القائل إن العلل المحتمة للإرادة الفردية والسلوك الجزئي، تمتد في النهاية إلى آخر سلسلة العلل الأبدية، كما هو معروف طبقا للتصور الحتمي الشمولي المغلق للكون، وهذه السلسلة تصل في النهاية إلى العلة الأولى، خالق هذا الكون الموجد لسلسلة العلل، أي الرب ... فكيف يمكن أن يتحمل الفرد الآتي في نهاية السلسلة، والآتي كمعلول قبل أن يكون علة فاعلة ... كيف يمكن أن يتحمل المسئولية؟! واعترف هيوم بأنه لا يجد أية إجابة مرضية.
16
إذا فعلى الرغم من أنه راح يعزينا بحرية هي انسياق للضرورة الكونية، أي بلا حرية أو بحرية شبيهة بحرية جورج أورويل الوهمية ... على الرغم من هذا عاد ليعترف بصعوبة الإقرار بالحرية الإنسانية - وبالتالي المسئولية - في قلب سلسلة العلل الأبدية المشكلة للعالم الحتمي.
عدنا من حيث بدأنا، من حيث إن الحتمية تنفي الحرية الإنسانية، وبالتالي المسئولية الخلقية.
على أية حال علمنا سبينوزا جيدا، كيف تنفي الحتمية الصارمة الحرية الإنسانية، ولا داعي لأن نعيد ونزيد.
ولا يبقى من يستحق وقفة من الحتميين الصارمين إلا الماركسيون، فقط لشهرتهم الذائعة، فهم لم يأتوا بجديد في هذا الأمر، إنهم يبدءون من الأصل الهيجلي الذي يطرح قضيتنا نفسها، وإن كانت قد أتت مع هيجل (1770-1830) في سياق ميتافيزيقي لا علمي، أي: إن الحرية تعني في صميمها الشعور بالضرورة وعلى الرغم من أن الماركسية جعلت هذا الطابع الميتافيزيقي علميا، فإنها لم تخرج خروجا حقيقيا عن الهيجلية التي وضعت مشكلة الحرية في نطاق الدولة ورفضت حصرها في نطاق الوجدان المحض، وظلت الحرية عند هيجل لا تطابق بحال اختيار الفرد العابر، بل تتحقق في الدولة عبر انسياب التاريخ، الفرد لا يتحرر إلا عندما تتطابق إرادة الله مع أهداف الدولة، هكذا يربط هيجل بين نظرية الحرية ونظرية الدولة، بل يربطهما في النهاية بنظرية التاريخ ونظرية المعرفة ونظرية الكون، وليست هذه المفاهيم سوى تشكلات لمفهوم واحد، هو مفهوم المطلق الذي يظهر مجردا أو محققا، عاما أو مخصصا، في صورة متعددة، على مستويات مختلفة،
17
وبالطبع ابتلع هذا المطلق حرية الإنسان، وراح هيجل هو الآخر يحدثنا عن حرية هي في حقيقتها اللاحرية.
فأخذ الماركسيون منه أن الحرية هي عينها الضرورة، وأنها لا تتحقق إلا عبر تطورات التاريخ فانتهوا إلى أن الحرية هي تلك الإمكانية التي نستطيع بمقتضاها أن نجعل قوانين الطبيعة مثمرة، ولئن كان الإنسان محكوما بقوانينه الخاصة، فلديه شعور بتلك القوانين، وهذا الشعور نفسه هو المظهر الحقيقي للحرية البشرية على نحو ما ينبغي فهمها؛ لهذا يقرر الماركسيون أنه ليس أمعن في الخطأ من أن نتصور الحرية على أنها خرق للقوانين الطبيعية وانفصال تام عن الضرورة الكونية، إن مثل هذه الحرية المزعومة إن هي إلا وهم من أوهام أولئك الميتافيزيقيين الحالمين الذين لا يعترفون بالعلم ولا يقيمون وزنا للعلاقة الوثيقة التي تجمع الإنسان بالطبيعة وتخضعه لقوانينها الحتمية، حرية البشر تتوقف على مدى معرفتهم بتلك القوانين ودرجة علمهم بما يترتب عليها من نتائج، تتناسب درجة الحرية الإنسانية طرديا مع معرفتنا بالعملية العلية وبالضرورة، ولما كان الماركسيون قد نفوا الحرية الأنطولوجية هكذا صراحة وأفسحوا كل المجال للحتمية الصارمة، فقد سهل عليهم تلقي الدرس الهيجلي، ورفضوا الاعتراف بحرية فردية تتحقق للفرد بصفته العينية في صورة اختيار بين بدائل، بل رأوا الحرية تجربة اجتماعية في علاقة الإنسان بالعالم والآخرين، ومهمة الفيلسوف عندهم ليست في تحرير الإنسان من الحتمية، فهذا ما لا سبيل إليه، بل في تحريره من العبودية، ولكن، هل حقا نجحت النظم الماركسية في تحرير الإنسان من العبودية على أساس هذا الموقف الفلسفي المتناقض بصدد مستويات الحرية؟ إن الإجابة عن هذا بالنفي - تنقلنا إلى المستوى الثاني من الحرية، ونحن الآن منشغلون فقط بالمستوى الأول الذي رأينا كيف أزاحته الحتمية الصارمة تماما. (15ب) «نفي الحرية»: الحتمية الرخوة: دعاتها كثيرون. شهدت الفلسفة المعاصرة منهم شليك وآير وآخرون من دائرة فيينا، وفلاسفة اللغة الجارية رايل وأوستن وستراوسون، وجم غفير آخر، هم قوم عز عليهم هذا المآل للحرية.
إنهم مخلصون لحتميتهم، ولكنهم راحوا يزعمون أنها لا تلغي الحرية ولا تؤدي إلى حرية هي عينها اللاحرية، كما أعلن أقطاب الحتمية الصارمة، وأن الحتمية لا تناقض القضية القائلة إن الإنسان أحيانا - خصوصا حين التصرفات الأخلاقية - فاعل حر ومسئول.
فكيف فعلوا هذا؟ لقد فعلوه عن طريق التمييز بين نوعين من الحرية: حرية استواء الطرفين
Indifference ، وحرية التلقائية
Spontaneity
وقد بدأ هذا التمييز لاهوتيا، مع أولئك الذين سلموا بالحتمية لإعجابهم بالقديس كالفن، ثم استعمله هؤلاء الذين سلموا بالحتمية لإعجابهم بنيوتن، التلقائية تتناول حرية الإرادة من خلال فكرة الرغبة أو المراد، لتصبح ممارسة الإرادة هي إنجاز لما يريده الفرد، وأن تفعل بحرية هو أن تفعل ما تفعله؛ لأنك تريد أن تفعله ونقيضة التلقائية ليست الحتمية بل القسر أو الإرغام
Compulsion ، أما حرية استواء الطرفين فتعالج الحرية من خلال القدرة على أن تفعل غير ما تفعله، إنها إذن الحرية القائمة في أي تأويل لها على فكرة البدائل التي لا تأتي إلا في العالم اللاحتمي؛ لذلك فحرية استواء الطرفين نقيضتها الحتمية.
18
حرية استواء الطرفين رفضها جميع أنصار الحتمية سواء الصارمة أو الرخوة، بل ودأبوا منذ ديكارت على اعتبارها أحط أنواع الحرية؛ لأنها قائمة على جهل يؤدي إلى استواء الطرفين في نظر الفاعل على أساس أن المعرفة أو العلم يرسم دوما الطريق اليقيني المحتم، ولنتذكر أنهم كانوا يعتبرون الجهل مرادفا لللاحتمية، لقد اعتبروا حرية استواء الطرفين أحط مراتب الحرية، في حين أنها يستحيل أن تتحقق في عالم البشر، لا في العالم الحتمي ولا في العالم اللاحتمي، فأين هما الكفتان اللتان تتوازنان تماما؟ وهي في الآن نفسه الحرية الوحيدة التي يمكن أن تنسب لله جل شأنه، فليس ثمة أي طرف يمكن أن يفرض عليه تعالى أكثر من الآخر، وهذا تناقض صارخ من تناقضات الحتمية الجمة.
حرية التلقائية لا يصعب التوفيق بينها وبين الحتمية، ولا هي ستهتك ضرورية القوانين الفسيولوجية والسيكولوجية، إذ سيكون الفعل حرا حين يؤديه الفاعل تلقائيا، أي عن رغبة، والفعل غير حر حين تنتفي هذه التلقائية، ويكون الفاعل مرغما على أدائه، أو واقعا تحت تهديد أو تعاطي عقار أو مرض نفسي كجنون السرقة، إذن التفرقة بين الفعل الحر والفعل غير الحر ليست في أن الأول معلول والثاني غير معلول، فكل الأفعال معلولة كما تنص الحتمية، ولكن على أساس نوع العلة التي يصدر عنها الفعل،
19
فإذا كانت هذه العلة هي الدوافع السيكولوجية السوية وخصائص وبنية الشخصية وبالتالي العواطف والاتجاهات والقرارات والأفعال التي تصدر عن هذه الخصائص والبنية، كان معلولها صادرا تلقائيا عن الذات وبالتالي هو فعل حر مسئول، و«بدا لأقطاب الحتمية الرخوة أنهم بهذا أنقذوا الحرية الإنسانية وأنه من الممكن أن نكون حتميين وفي الوقت نفسه إنسانيين، فاستطاع مل أن ينادي بالحتمية، وفي الآن نفسه بالمسئولية الخلقية، وبمشروعية رغبة الإنسان في أن يطور شخصيته وأن ينزع إلى مستقبل أفضل، وهذا ما تنفيه الحتمية الصارمة».
20
فهل نجحوا حقا في إنقاذ الحرية؟ الإجابة بالنفي، فكما قال راسل، نحن نفعل ما نرغب، ولكننا لا نستطيع أن نرغب فيما نرغب فيه، لأنه محتوم بالقوانين الحتمية، وليست تعني الحتمية السيكولوجية إلا أن التلقائية هذه حيثية من حيثيات الحكم بأن الشعور بالحرية مجرد وهم؛ لذلك فالرخاوة لم تصب الحتمية، بل أصابتهم هم وأصابت موقفهم الفلسفي، «فهم لم يعتنوا بتوضيح العلاقة بين الدوافع السيكولوجية والأفعال كما صنع دعاة الحتمية الصارمة الذين لم ينكر أحد منهم أن الرغبات والجهود الإنسانية تحدث تغييرا في سياق الأحداث، فيمكنهم أن يقولوا لأصحاب الحتمية الرخوة: إنكم على حق في التمسك بأن الأفعال معلولة للرغبات ولكنكم لم تتعقبوا المسألة إلى ما فيه الكفاية، بل توقفتم توقفا تعسفيا عند الرغبات، وهذا خطأ، إذ يجب أن تستأنفوا الطريق وتسألوا: من أين وكيف أتت هذه الرغبات؟ وإذا كان ثمة حتمية فمن الواضح أنها هي التي أتت بها».
21
إذن فقد حق حكم برلين عليهم بأنهم لم يحلوا المشكلة، بل أزاحوها خطوة إلى الوراء، وأن نظريتهم ببساطة متغير من متغيرات الحتمية الكونية العامة التي تستبعد الحرية المسئولية، تماما كما تستبعدها الحتمية الصارمة في أقوى متغيراتها؛ لذلك وصفها كانط بأنها خدعة بائسة، أما وليام جيمس، فقد وضع لها المصطلح الذي شاع لها عند أنصارها فيما بعد - أي الحتمية الرخوة
Soft Determinism
22 - وذلك لكي يسميها بأنها مستنقع للتملص والمراوغة.
23
فلنودع كل هؤلاء الحتميين، بعد أن رأيناهم يودعون الحرية الإنسانية، وإلى غير لقاء. ••• (16) «نفي الحرية»: إبعادها من دائرة الحتمية: نحن الآن بإزاء علية القوم وأعاظم الفلاسفة ذوي الخلق الفلسفي الرفيع الذي جعلهم يأبون أن يخدعوا الحتمية بحرية لا تنطلي عليها، أو العكس. وفي الآن نفسه أبوا أن يخدعوا العالم بأن يشككوا في خبر العلم، فتركوه أسيرا للحتمية العلمية، وراحوا يبحثون عن ملاذ خارج دائرة العلية يودعون فيه الحرية الإنسانية آمنة من غوائل الحتمية، بعبارة أخرى: هم باحثون عن نطاق يند من سطوة العلم، ولا تتطاول إليه قوانينه، وهي ذات اليد الطولى، فأين يا ترى يقع مثل هذا النطاق؟ إنه خارج نطاق الكون الفيزيقي الضام لأبعد نجوم السماء وأضأل حبات الرمال، والإنسان المحصور بين هذا وذاك، فلا يبقى إلا أعمق أعماق الإنسان فهذه منطقة مجهولة.
ومحاولات الفلاسفة لنفي الحرية، وإيداعها في هذه المنطقة العميقة السحيقة، أو الترانسندنتالية المتعالية، هي كبريات نظريات الحرية المقتولة بحثا ودراسة والمشهورة جدا في سائر الأوساط الفلسفية، فهي نظريات الحرية المنتسبة إلى عمالقة الميتافيزيقا، ومع هذا فإن أصلها مغمور، فقد أتت أولى محاولات الفرار بالحرية من عالم العلم الحتمي، لفيلسوف إيطالي من عصر النهضة، لا يرد ذكره كثيرا، إلى أن جاء أرنست كاسيرر ليكشف النقاب عن دوره العظيم في مسيرة العلم والفلسفة على السواء، إنه الكونت جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا
(1463-1494)، ويكشف إنتاج بيكو الغزير عن معرفة شاملة، وهو شاعر له قصائد باللغتين اللاتينية والإيطالية فضلا عن إتقانه اللغات العربية واليونانية، وأيضا العبرية التي تعلم بها النزعة القبلانية، أي الإيمان بأن الكتاب المقدس محض رموز خرساء من الضروري تأويله تأويلا صوفيا ملغزا، أخلص بيكو ديللا ميراندولا للنزعة القبلانية، وأخرج جهودا كبيرة فيها، وهو ينتمي أيضا لأصحاب الأفلاطونية المحدثة التي سادت في بيئته لتجمع بين فيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، مروجة لاتجاهات روحانية سرية، وفي الآن نفسه تدعو للعلم الطبيعي، ومع هذا دافع بيكو بحماس عن المدرسيين وتراث العصور الوسطى؛ ذلك أن جوهر شخصيته الفلسفية هو النزعة التوفيقية التي جعلته متحررا من أية مدرسة معينة ويعتبر نفسه فوق الجميع، يأخذ من كل اتجاه ما يختار، لإيمانه بأن أي مذهب فلسفي أو ديني على وجه الإطلاق يحوي جانبا من الصواب، وبالتالي يشارك فيما آمن به بيكو من حقيقة كونية، ولعل محاولته للتوفيق بين المسيحية وسائر الأديان، هي السبب في إهدار دمه على الرغم من إيمانه العميق بالمسيح.
وكان بيكو إنساني النزعة، لدرجة فاق بها كل أقرانه، فهم دأبوا على تصور هيراركي (أي هرمي) للكون، عادة ما يتم عبر ثلاث درجات: الملائكية ثم السماوية ثم العنصرية، أما بيكو فقد اعتبر الإنسان بذاته عالما رابعا،
24
وكتابه الأساسي «الخطاب
Oration » القطاع الأعظم منه موسوم باسم «خطاب في كرامة الإنسان
Dignity of Man »، تمثلت كرامة الإنسان عند بيكو في كل ما يصدر عنه من خلق وإبداع، بفعل إرادة حرة نابعة من الفرد ذاته،
25
وهذا جعل بيكو مؤرقا بقضية الحرية، ولكن أرقه هذا جاء عبر ليالي القرن الخامس عشر، أي حينما كانت الحتمية العلمية تبدأ أولى خطواتها نحو موقع الهجوم الساحق الماحق على حرية الإنسان، إنها الخطوة الفلكية الخارجة من أعطاف التنجيم، من هنا جاء هجوم بيكو الضاري على التنجيم، الذي يستخلص قدر الإنسان من النجوم، ويجعله بذلك مشدودا إلى حتمية لا فكاك منها، وكان هذا الهجوم إنقاذا للحرية من براثن العلم الناشئ حديثا، وهو إنقاذ لم يزد عليه أحد حتى يومنا هذا مثقال ذرة، فكيف فعل بيكو هذا؟
لقد بدأت نظرية بيكو من أنه في محاولته المستميتة للتوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، قد تجاوز كليهما بالتفرقة بين الوجود في ذاته
Being Itself
والوجود المشارك
موضحا أن الله وحده هو الطبيعة الروحية التي تكون في ذات الهوية مع الوجود في ذاته، ومتعال عن الوجود المشارك،
26
ثم سهل عليه الخروج من هذه التفرقة بين الوجود في ذاته والوجود المشارك إلى التفرقة بين مجال الضرورة ومجال الحرية، فكل ما يتم بالطبيعة الفيزيائية محكوم بمبادئ الضرورة وقوانينها في حين أن كل ما يتسم بالطبيعة الروحية يظل متصفا بالحرية ويمكن فهمها في إطارها.
27
وأية نظرية تحاول إثبات الحرية إيجابا في العالم الحتمي، حتى ولو كانت من تلك النظريات العظمى التي تعودنا نحن - دارسي الفلسفة - أن نحني الهام إجلالا وتكرمة لها، وأن نتفانى في محرابها ... أية منها لا تخرج قيد أنملة عن هذه التفرقة التي وضعها بيكو ديللا ميراندولا بين مجال الحرية ومجال الضرورة، ومهما اتخذ هذان المجالان، خصوصا مجال الحرية، من أسماء متحذلقة يجفل منها ذوو العقول المتواضعة: الجوهر المفكر عند ديكارت ومونادا ليبنتز وأنا فشته، ومطلق شلنج، وإرادة شوبنهاور العمياء ... وعلى رأسها بالطبع نومينا كانط ... إنه فصم العالم إلى عالمين، أحدهما للضرورة الفيزيقية العلية والحتمية العلمية، والآخر للحرية الإنسانية والمسئولية والجدة. ••• (17) فصم العالم إلى عالمي بيكو - ذلك المفكر المتواضع المغمور - موقف لن يتعداه فيلسوف، في الشرق أو في الغرب ... في الشمال أو في الجنوب ... يحاول إثبات الحرية إيجابا في العالم الحتمي، غير أن الفلاسفة الألمان على وجه الخصوص، قد برعوا في صنعة الفصم والقسمة هذه، وحذقوا فنها حذقا شديدا، فهل من تفسير؟
أجل! فقد وجدت التفسير في أن «تأثر الفلسفة الألمانية بالمتصوف جاكوب بوهيمه أمر معترف به»،
28
فماذا عن هذا؟
الإسكافي يعقوب بوهيمه
Jacob Boehme (1575-1624) متصوف ألماني، وعندا في عقلانية الفلسفة المدرسية وضع بلغة رمزية أسطورية نظريته في: اللا-أساس
Unground ، تعبيرا عن رؤية أو حدس إشراقي أصيل. وعلى الرغم من مسيحية بوهيمه، فقد تمسك بأن اللا-أساس مستقل عن الرب وأسبق منه، يمكن القول إن اللا-أساس هو إله اللاهوت السلبي، ومع هذا فهو ضرورة لإدراك ماهية الرب. وكما يقول بوهيمه: «هناك شيء في الرب، وينبغي أن يدرك في الله باعتباره هاوية لا قرار لها، وهذا الشيء هو الذي نطلق عليه لفظ اللا-أساس»،
29
إنه إذن ذو طبيعة إلهية دينية أما إذا تساءلنا: ما هي حقيقة اللا-أساس، وكيف يمكن فهمه أو إدراكه؟ فإنه لا توجد أية لغة لاهوتية أو ميتافيزيقية قادرة على وصفه أو شرحه بل إن محاولة الشرح أو التفسير العقلي تعد في حد ذاتها محاولة مستحيلة. اللا-أساس مستعص على كل فهم أو إدراك عقلي أو برهان منطقي، وإذا حاولت أن تجعله معقولا، فإنه يتوقف عن أن يصبح إلهيا، ومن ثم فإنك متى حاولت أن تقترب منه، لكان عليك أن تنحي العقل جانبا، والشيء الوحيد الذي يمكنك أن تنطق به، لا يعدو أن يكون مجرد تأكيد لسره المستعصي على كل فهم، فأنت لا يمكن أن تصفه بصفة كما تصف باقي الأشياء؛ إذ إنه ليس بشيء على الإطلاق لكي تقارن غيره به، ومتى توهمت أنك تعرفه أو تدركه فمعنى ذلك أنك قد حددته، وهو لا يتحدد أنه - كما يقول نيقولا بيرديائيف - الأساس الذي لا عمق له والسر اللاعقلاني.
30
لم يعد الوجود إذن يمثل الأساس المطلق لكل شيء فثمة مبدأ آخر: لا-أساس، يسبق هذا الأساس؛ لأنه يسبق انبثاقة الوجود نفسه، والآن، إذا ما أردنا التعرف على طبيعة الحرية لكان علينا أن نتجه مباشرة إلى ذلك المبدأ: اللا-أساس، وعندئذ فقط يمكن أن نقترب من الحرية ونلم بها، لندرك أن الحرية ليست وجودية الطابع، بل هي عدمية منبثقة عن العدم، والوجود يحددها، بل يخفيها كلية، الرب يمثل الحرية المتجمدة، ولكن الحرية في حقيقتها غير ذلك، إنها تقف على النقيض مع الوجود على طول الخط.
31
ومن عجائب الأمور، أن هذا الخطل الفارغ من لغو القول، سرعان ما أصبح عنصرا خصيبا في الميتافيزيقا الألمانية حتى - بل وخصوصا - الاتجاهات العقلانية العتيدة منها، وإن كانت قد اتجهت إلى محاولة عقلنته، مناقضة بهذا نفسها، واللا-أساس أيضا، وعلى أية حال امتد تأثير اللا-أساس إلى جل فلاسفة الألمان، ولعل تفسير هذا في أن الميتافيزيقا الألمانية، في تقابلها مع الفكر اللاتيني اليوناني، ترى مبدأ لا عقلانيا يكمن في المنبع الأول للوجود باعتبار أن ما يغمر العالم بالنور ليس هو العقل وإنما الإرادة، وتعمق هذا مع بوهيمه، حين أكد أن العقل يمنحنا الطبيعة الخارجية فحسب، أما الحياة نفسها، فإنها بعيدة عن العقل كل البعد، إنها في اللا-أساس الذي هو مرآة الروح، وباللا-أساس، وليس بالعقل، يستطيع الإنسان أن يكتشف نفسه، عن طريق النشاط الحي للإرادة والذي من خلاله تبرز العمليات النفسية في الطبيعة الخارجية، وبهذا كان العقل عند بوهيمه، خادما للإرادة، يطيعها دون أن يسأل شيئا،
32
وأحسب أن هارتمان وشوبنهاور رددا هذا، ربما ترديدا ببغاويا، المهم الآن، أنه من هذا المنطق الديني: اللا-أساس تبدت لأول مرة في الفكر الألماني إمكانية قيام فلسفة تتخذ من الحرية دعامة لها، وتنطلق بصفة مبدئية من أولوية وأسبقية الحرية على كل شيء، حتى على الوجود نفسه، بل وعلى الرب نفسه، لقد تعلم الألمان من بوهيمه كيف «تكون الحرية موضع التقابل والتعارض الصريح مع الطبيعة»،
33
إنها تقف على النقيض من الوجود، وعلى طول الخط.
بهذا الدرس الذي تشربت به العقلية الألمانية، شحذ فلاسفتها نصالهم، كي تكتسب حدة ونفاذا، في أداء عملها المبجل: شطر العالم إلى شطرين: الأساس واللا-أساس، أو الحتمية العلمية والحرية الإنسانية.
وها هنا يجب أن نتوقف لنحاول استطلاع الصورة البانورامية الكاملة لدراما الشيزوفرينيا التراجيدية والاغتراب التي تخلفت عن نكبة الحتمية العلمية من حيث نفيها للحرية، وامتدت آثارها الوبيلة حتى تغلغلت في الفكر والفلسفة المعاصرة، فليس عبثا أن هذه النظريات الفصامية هي كبريات نظريات الحرية في الفلسفة. ••• (18أ) «آثار وبيلة»: هي الآثار التي توالدت وتكاثرت فامتدت ربما حتى اللحظة الراهنة، وقد خلقها معضل الحرية في عالم العلم الحتمي - العلم من القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر، والذي كان حتميا كأصلب ما تكون الحتمية، حتمية ميكانيكية ... هذه الآثار الوبيلة يتأتى استطلاعها بصور بانورامية شمولية، بأن ننظر بعيدا لنلاحظ كيف أن الاغتراب - وهو آفة مستشرية في البنية الحضارية المعاصرة - يعود أساسا إلى الانفصام، الشيزوفرينيا.
34
فسواء أكان الاغتراب غربة أو انعزالا عن الذات، أو فقدانا أو استلابا لها، أو تخارجا منها، أو تناقضا معها ... فإن كل هذه المسميات أو الصور لا تعدو أن تكون وجوه ثنائية مرضية أو ازدواجية موبوءة، إنه انفصام الذات عن ذاتها لتغترب عنها، أو انفصام الذات عن عالمها لتغترب عنه كآخر!
الشيزوفرينيا إذن أم الاغتراب، أو هي المرض وأعراضه شتى مظاهر الاغتراب.
وعلى هذا يمكن أن ندرك كيف خلقت الحتمية العلمية اغتراب الإنسان عن العالم حين جعلته غير متوافق مع قدس أقداس التجربة الإنسانية: الحرية، عالما غير صالح لحياة الإنسان، ولا يليق إلا بالجماد: تروس الآلة الكونية العظمى. باختصار هذا العالم/عالم العقل والعلم ليس هو عالمنا، لا ننتمي إليه ولا ينتمي إلينا، كلانا غريب عن الآخر ومغترب عنه، لكل هذا نوهنا في مدخل الكتاب إلى خطورة أن تتعارض الحرية الإنسانية مع العلم.
كانت المشكلة: كيف نوفق بين العلم والحرية؟ إنهما ينيان ولا يلتقيان البتة، والتوفيق محال، فلا بد من إحداث الشدخ في العقلية التي تعي هذا الكون بواسطة العلم - أعظم إيجابياتها فعالية فينفصل عن هذا العلم بحتميته جزء من العقل فيه متسع للحرية، كنومينا كانط ومونادا لينتز وأنا فشته ومطلق شلنج ... كلها عوالم أخرى غير هذا العالم، وكلها تمثيلات للشيزوفرينيا التي كانت مآل فلسفة تبحث عن الحرية في عالم أفتى العلم بأنه حتمي.
وفي الوقوف على أصل هذه الثنائية يمكن الإمساك بطرف الخيط، وذلك بأن نلاحظ كيف أن جاليليو - أحد الآباء العظام للعلم الحتمي - قد فرق بين الصفات الأولية التي يدركها العقل العلمي وبين الصفات الثانوية التي تدركها الحواس، وهي تفرقة سرعان ما اعتمدتها الفلسفة الحديثة في شخص أبيها ديكارت الذي شطر العالم بأسره والكيان الإنساني ذاته إلى شطرين لا معبر بينهما، أو بينهما معبر واه مضحك: الغدة الصنوبرية، وهما العقل «للحرية» والمادة «للحتمية»، إنه الرائد فاندفعت الفلسفة الحديثة وراءه في هذا الطريق الذي شقه للثنائية، فيندس الفاصم الثنائي من أولى بدايات الفلسفة الحديثة، وحتى نهاياتها الموصولة بالفلسفة المعاصرة.
بمرور الأعوام بعد ديكارت، كان سلطان الحتمية العلمية يتعاظم، فيتعاظم الاهتمام بمشكلة الحرية؛ وتغدو هذه الثنائية شيزوفرينيا تستصرخ طلبا للعلاج ولا مجيب، حيث الحتمية العلمية سائرة من نصر إلى نصر أعظم، حتى أفضت بالشيزوفرينيا إلى ذروة ذراها بفلسفة النومينا والفينومينا عند كانط شيخ الفلسفة الحديثة وأمير فلاسفة العلم الحتمي والذي أكد استفحال مرض الشيزوفرينيا ووصوله إلى الحد الذي لا برء منه، وذلك بحماسة لكل من العالمين على قدم المساواة، بالعقلين العملي والنظري، فالعالم عالمان، والعقل عقلان! وكمثل العقل والمادة «ديكارت» والنومنيا والفينومينا «كانط»، ثمة الإرادة والتمثل «شوبنهاور» الأنا واللاأنا «فشته» العقلي والواقعي «هيجل»، الفكر والوجود، الروح والطبيعة، الذات والموضوع، العقل والعاطفة، النسبي والمطلق، الآلي والغائي ... إنها بعض من ثنائيات جمة دارت بين رحاها الفلسفة الحديثة في بحثها اليائس عن الحرية، كلها معا تجمعها بوتقة واحدة، إنها الثنائية الأم والأصل والأساس: الحتمية العلمية والحرية الإنسانية.
صيحة فاوست: روحان يقطنان في صدري،
يناضل كل للتخلص من توءمه.
35
ينقلها فالتر كاوفمان في مقدمة كتاب شاخت، «للتعبير عن الانقسام الذي هو مؤشر للاغتراب؛ إذ يحول دون شعور المرء بالتوافق مع ذاته، حيث إن كل روح ينظر إلى الآخر باعتباره غريبا»،
36
وأحسب أن هذه الصيحة تعبر عن مشكلة الحرية الإنسانية والعلم أكثر وأعمق من تعبيرها عن الوارد في مقدمة دراسة شاخت. (18ب) ولكن هل يمكن القول إن هذه الشيزوفرينيا ظاهرة جزئية مقصورة على العقلانيين التنويريين الذين أرادوا أن يجمعوا المجد من طرفيه، فيقرون بعقلانية العقل ومشروعية العلم، وفي الآن نفسه بحرية الإنسان، بحيث نفذ منها الفلاسفة الأقل طموحا والأكثر واقعية: الذين نفوا حرية الإنسان الأنطولوجية، وعلى رأسهم سبينوزا، وفي زمرتهم هوبز ولوك هيوم وفولتير وجون سيتوارت مل ... وسائر الفلاسفة المخلصين للنزعة العلمية؟ كلا ليس الأمر كذلك، فمن عجائب الأمور أنهم بعد أن نفوا الحرية الأنطولوجية أي الحرية على المستوى الأول باسم الحتمية العلية، وبهدف توحيد النظرة العقلية وعدم الانقسام على النفس، قد وقعوا في الشيزوفرينيا من مهوى آخر، حين عادوا ليدافعوا بحماس لا يجاريهم فيه أحد عن الحرية على المستوى الثاني، أي الحريات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والشخصية ...
ومن المعلوم كيف كان الحتميون العظام - خصوصا سبينوزا وفولتير ومل - من أعظم أبطال هذه الحريات في تاريخ البشر، كتاب سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» وكتاب مل «الحرية» معالم بارزة في تاريخ الحرية، الأول حرية الفكر والثاني الحرية السياسية، هذا على الرغم من أن سبينوزا فيلسوف الحتمية الأول بغير منازع، ومل أول من دعا لإخضاع العلوم الإنسانية والاجتماعية لمبدأ الحتمية العلمية، يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت الذي تمكن من إنجاز المشروع، أما فولتير فاسمه مرادف للدفاع المجيد عن الحريات الشخصية والدينية والاجتماعية والسياسية، وهو في الآن نفسه قد «أنكر أية حرية ميتافيزيقية وكان معنيا أساسا بنصرة العلم في صراعه مع الكنيسة، وانحاز بكل ثقله للعلم».
37
إنهم بتناقضهم بصدد مستويي الحرية: نفي الأول وإثبات الثاني، يناقضون أنفسهم تناقضا صارخا يكشف عنه التساؤل البسيط: ما دامت كل أحداث الوجود متسلسلة لا بد وأن تحدث حتما منذ أن حدث أولها، فما جدوى أن يكتسب الإنسان أيا من هذه الحريات الوضعية أولا ويكتسبها؟ فمثلا، جون ستيوارت مل في نظريته الليبرالية عن الحكومة النيابية، قد عارض بشدة النظرة الطبيعية في التنظيمات الشعبية أي التي تراها تنمو من تلقاء نفسها، وأكد مل أن هذه التنظيمات لا تأتي إلا كصنيعة للإنسان وأنها مظهر اختياره، أفلا يتناقض هذا مع دعوته الرائدة بإخضاع كل ظواهر الإنسان للمنهج العلمي التجريبي الكاشف عن حتميته النافي لأية حرية أو اختيار أمام الإنسان؟
على أن عمق شيزوفرينية هؤلاء يتبدى حين نلاحظ بنظرة أعمق وأشمل أن الدعوى بالحتمية الكونية وبالحرية الليبرالية ليستا منفصلتين، كلا في مجال، بل هما متجادلتان تجادلا عميقا، وإن لم يلاحظوه هم أنفسهم، ذلك أنهم جميعا - منذ سبينوزا حتى هيجل وماركس - حين دعوا إلى الحرية على المستوى الثاني دعوا إليها «لأن العقلانية تفترض أن الرغبة في السيطرة على الناس يجب أن تختفي أو تقل فاعليتها في المجتمع الكامل للكائنات العاقلة، والحقيقة لا تناقض الحقيقة، وسائر الحلول تتسق معا في كل قابل للتعقل فإذا كان العقل أو العلم يحكم العالم، فلسنا في حاجة للقسر، والحياة المخططة تخطيطا سليما ستمنح الجميع حرياتهم وأساسها حرية التوجيه العقلاني للنفس، وسيغدو الأمر كذلك، فقط إذا كان النظام الاجتماعي سليما - أي لو كان من ذلك النمط الفريد الذي يشبه وحده دون سواه، كل دعاوى العقل، وستكون قوانينه هي القواعد التي يمليها العقل، وإذا لعب كل فرد دوره الذي يحدده له العقل، فلن يكون ثمة صراع وسيصبح كل إنسان حرا موجها لنفسه في هذه المسرحية الكونية»،
38
ولما كانت الحتمية أساس النظر إلى المسرحية الكونية ككل واحدي قابل للتعقل بقانون واحد أو قوانين واحدة، يمكن ملاحظة أنهم في طريقهم للحرية قد انتهوا إلى نفس بدايتهم للحتمية وليس هذا غريبا على التفلسف من حيث كونه تفكيرا لا بد وأن تتلاقى عناصره، في حين أنهم كانوا يعتقدون أن القضيتين منفصلتين، وهذا أيضا طبيعي، فلو أنهم كانوا على وعي بكل تلك الشيزوفرينيا لما تركوا أنفسهم نهبا لها.
كان هذا الموقف المتناقض مع الذات أو المنقسم عليها هو السمة المميزة لمفكري السياسة والاجتماع وفي الفلسفة الحديثة، فهل كان توماس هوبز منقذا للبشرية من هذه الشيزوفرينيا على أساس أنه نفى الحرية على المستويين؟ كلا لأنه بعد أن فعل هذا راح يثبت كل الحرية للملوك، بحيث لا نملك إلا أن نسأله بدهشة: من أين سيأتي الملك بكل هذه الحريات ما دام يعيش في العالم الحتمي؟ فكأن هوبز لم يكتف برفع الملوك فوق مستوى البشر، بل وأيضا فوق مستوى الطبيعة والعالم الذي يحيون فيه، لعل الاستثناء الواحد هو الاجتماعيون الفرنسيون، فقد رأيناهم محافظين ينفون الحرية على كل المستويات: الحرية الأنطولوجية والحريات السياسية والاجتماعية معا، بعزم وجزم واتساق نادر، بيهم أنهم - أولا - أتوا في ذيول العصر الحتمي والعلم الحتمي، بعد أن كانت الشيزفرينيا قد استشرت ولم يعد يجدي الرجوع، وثانيا: هم علماء واقعون - مهما فعلوا - في تناقض العلم ذاته بصدد الحرية، فماذا عن هذا؟ (18ج) ينفي العلم أولى مستويات الحرية، الحرية الأنطولوجية أو الميتافيزيقية، في حين أنه يصادر على الحرية من مستوى آخر، فليس مبالغة، الحكم بأن العلم هو الذي علم البشرية حقيقة، حرية العقل والفكر والعمل والقول، يتم البحث العلمي عبر مرحليات مفتوحة تنتهي إلى وضع النظرية أو القانون. «من هذه المرحليات المفتوحة، أمكن للفكر الإنساني أن يتخلص نهائيا من أية عبودية ذاتية أو موضوعية، فلم يعد التأمل الأرسطي هو الطريق للكشف عن القانون العلمي، كما لم تعد للسلطات الزمنية والروحية القدرة على التصدي لتيارات الحرية الفكرية الجارفة، هذه التيارات ما لبثت أن امتدت لتشمل - عدا عن الفكر العلمي - مختلف ميادين الفكر الإنساني، بحيث اتخذت من الحرية ذرائعية، للتصدي لأي اتجاه من شأنه أن يطمس الفردية في المذاهب الاجتماعية المختلفة».
39
هكذا كان العلم الحتمي محررا للمعرفة من سلطة الكنيسة وأرسطو وكل وأي سلطة، «فأخلاقياته تصون الحرية من عبث الدوجماطيقية ومن عدوان الاستبداد»،
40
وكانت الحرية دائما في مواجهة جميع المشكلات هي نفس قانون العلم، فبينهما - أي بين الحرية والعلم - وحدة لا تنفصم عراها،
41
وكما يقول العالم الحتمي ألبير باييه: «العلم متضمن لثلاث فكرات: الأولى: أن إقدام الفكر وجرأته الفاتحة هما صميم الكرامة الإنسانية، والثانية: أن الحرية هي الشرط الضروري لكل رقي، والثالثة: أن العلم طريقة لائتلاف العقول، إذ إنها جميعا تتقبل نتائجه، إذن فكرامة الذهن والحرية وائتلاف البشر، هي كلمات السر الثلاث لأخلاق العلم».
42
ويعبر كلود برنار - الذي يمكن اعتباره أنموذجا أمثل على مدى سيطرة الحتمية على العلم والعلماء في عصره - عن هذا، وبصورة تبرز التناقض المذكور بوضوح وجلاء، فيتيه زهوا بطابع العلم الذي لا يطأطئ رأسه أبدا، على حد تعبيره، وبأن المنهج العلمي هو المنهج الذي يطالب بحرية الذهن والرأي، ولا يكتفي بأن يزعزع النير الفلسفي واللاهوتي وحدهما، ولكنه كذلك لا يسلم بوجود سلطان علمي شخصي، ويردف برنار هذا بأن استقلال الفكر وحريته هما على الدوام الشرطان الجوهريان لكل ما ستحققه الإنسانية من تقدم،
43
ولكنه يأتي في النهاية ليصر على أن حرية الذهن تنعدم بإزاء مبدأ الحتمية،
44
وبالطبع الفهم الحقيقي لمبدأ الحتمية هذا يؤدي بالضرورة «الحتمية» إلى انعدام حرية الذهن وكل حرية، بإزاء هذا المبدأ وبإزاء كل المبادئ وكل شيء.
هكذا جعلت الحتمية العلم متناقضا مع ذاته بصدد مستويات الحرية، فلا غرو أن يقع هذا التناقض على رأس الإنسان المتوج بتاج العلم.
ثم نجد العلم الحتمي قد أوقع الإنسان في التناقض من مهوى ثالث: من تناقض حصيلة الفعالية العقلية مع الفاعلية الواقعية، بدأ هذا مع نبي العلم الحديث فرنسيس بيكون الذي علمنا أن كل ضرورة فهمت إنما هي في الواقع ضرورة تم التغلب عليها،
45
طبعا، ولكن أوليست كل ضرورة تفهم هي في سياق الحتمية الكونية تأكيدا لنفي الحرية الإنسانية، لقد صحب تقدم العلم تساوق أو تناسب طردي بين تعزيز العلم لمبدأ الحتمية النافي لحرية الإنسان، وبين تعزيز حريته على مستوى آخر يأتي من تطبيقات العلم العملية التقنية، التي جعلت العلم بلا جدال تحريرا للإنسان من أعداء عتاة قساة لحريته: من الجهل والمرض والجوع والفقر والعجز أمام قوى الطبيعة الغاشمة.
على أن تحرير العلم للإنسان لا يقتصر على العلوم الطبيعية فحسب، التي يبدو دورها في هذا الصدد غاية في الجلاء والوضوح، بل يمتد إلى كل نسق العلم بسائر أفرعه: العلم البيولوجي والاجتماعي والسيكولوجي، فلا عائق أمام الحرية كأمراض النفس وشذوذاتها وتوتراتها، وحتى في علم التاريخ الذي يذيل نسق العلم ويصعب إدراك دوره في تحرير الإنسان، تعرض بندتو كروتشه لهذه القضية في مقال له بعنوان «علم تدوين التاريخ بوصفه تحريرا من التاريخ»، فأوضح أننا بدلا من أن نحلل الأمراض الاجتماعية بدقة وعمق، ننزع إلى أن ننحو باللائمة على النزعة التاريخية بتحبيذ القدرية والقيم المطلقة وبتقديس الماضي وقبول الوقائع على فظاظتها لأنها هي الوقائع ... نحن منتج للماضي نعيش مغمورين فيه، إنه يحاصرنا، فكيف نستطيع الحركة، وكيف نخلق أنشطة جديدة بغير أن نستخرجها من الماضي وأيضا بغير أن نضع أنفسنا فوق الماضي، ولكن كيف نضع أنفسنا فوق الماضي إذا كنا فيه وهو فينا؟ ليس هناك طريق غير الفكر، والفكر لن يحطم العلاقات بالماضي، ولكن يرتفع فوقه بصورة مثالية: يحوله إلى معرفة. يجب مواجهة الماضي برده إلى مشكلة عقلية، يمكن أن نجد حلا لها في قضية هي المقدمة المثلى لنشاطنا الجديد وحياتنا الجديدة، فهذا هو ما نفعله في حياتنا حين نمحض ما حدث ونحلل أصوله ونتتبع تاريخه، فنحدد ما يجب الاضطلاع به عن طيب خاطر، إننا نفعل هذا بدلا من أن نبقى فريسة للهم والغيظ، وبدلا من أن ننتحب على ما حدث ونخجل من أخطاء ارتكبناها، الإنسانية دائما «تتصرف على هذا النحو حين يواجهها ماضيها الكبير المتنوع، فكتابة التاريخ - كما لاحظ جوته - تحررنا من التاريخ، من العبودية للأحداث وللماضي»،
46
كل هذه الحرية تنساب من بين جنبات الكيان الذي ألقى على الوجود أقسى حتمية!
هكذا كان العلم يعطي حرية بيمناه، ويسحب بيسراه أخرى هي الأساس، خالقا بهذا وجها من وجوه التناقض وثنائية الاغتراب، روعة العلم العقلية النظرية والعملية التطبيقية «جعلت الرأي الذي يميز عقيدة التنوير المتفائلة مؤداة أن العلم الإنساني والحرية سوف يتقدمان متآزرين معا ليدخلا منطقة من إمكانية الكمال الإنساني غير المحدود»
47
وأحسب أن سعي التنويريين قد خاب، فهما لم يتآزرا قط، بل تناقضا من كل تلك الوجوه التي أدت إلى الشيزوفرينيا. ••• (19) فهل انتهت الشيزوفرينيا أو توقف نموها السرطاني بانتهاء عصر التنوير مع مطالع القرن التاسع عشر؟ كلا أيضا، بل سارت حتى وصلت إلى سدرة المنتهى حين تمخضت عن الحركة الرومانتيكية التي امتدت حتى أواسط ذلك القرن، وهي المقدمة المباشرة لمأساة الاغتراب المعاصرة، فقد كانت الرومانتيكية أساسا رفضا للعقلانية التنويرية، للعلم المتعملق بصورة ألحقت الضرر بإنسانية الإنسان وهددت الروح وخنقت الحرية التي هي قوام الفن والفنان.
أدركت الرومانتيكية فداحة الثمن المدفوع: حرية الإنسان، مقابل ذلك النجيب المعجز للعقل: العلم الحتمي، فلم تتردد هنيهة في نفي العقل ذاته، هكذا ببساطة! لكي تفسح الوجود للحرية، ولكن أيهما أفدح ثمنا: الحرية أم العقل؟ أيا كانت الإجابة، فإن إهدار أي من الجانبين انفصام ومقدمة للاغتراب. كانت الشيزوفرينيا التنويرية انفصام الإنسان عن الكون، أو انفصام العقل عن العالم، أو انفصام جزء من العقل عن جزء من العالم، كما أقر كانط مثلا بعجز العقل عن فهم النومينا، ومثله شوبنهاور الذي أقر بعجزه عن فهم الإرادة وسائر السائرين في هذا الطريق الثنائي. إن الاغتراب التنويري، اغتراب عن آخر، أما الرومانتيكية فهي انقسام أو اغتراب العقل عن العقل، اغتراب عن الذات، والاغتراب عن الذات هو المريض بالشيزوفرينيا، وقد وصل إلى مرحلة الاحتضار؛ لذلك ليس بدعا ما اشتهر به شعراء الرومانسية من تمجيد للموت، هياما وافتتانا به وعشقا له.
48
فبعد أن بسط العلم سلطانه على مجمل هذا الوجود، وجدوا في آفاق المجهول المترامية خلف الموت ملاذا أوحد لتحقيق أهدافهم المنشودة: إفناء العقل الواعي والهروب من العالم الحتمي الآلي واللياذ بعالم أحلامهم ... عالم آخر لا أثر فيه للعقل ولا العلم ولا الحتمية، وبالتالي هو عالم لا مكان له في هذه الحياة، والأمل الوحيد في عالم الحرية مطروح بعد الموت.
هكذا كان الرومانتيكيون هم المغتربون حتى النخاع، كان الله في عونهم! حيث الرومانتيكية حيث أفجع صور الاغتراب، فليس جزافا أن الأدب الرومانسي خصوصا المسرح الفرنسي في القرن التاسع عشر هو أدب العويل والصراخ والنحيب والدم والهم والغم، أما في القرن العشرين فقد أصبح، كأعمال كوكتو وأندريه جيد ثم الأدب الوجودي حيث لن يتحفنا الأدب بعمل يجسد مأساة الاغتراب مثل رواية الأديب الوجودي ألبير كامي «الغريب» ... أصبح هذا الأدب أدب الحرية الخاوية الهوجاء بل والمخبولة، أوليست الحرية اللامعقولة؟
وها هنا نضع الإصبع على بؤرة الداء، فقد ضاعف من خطورة الأمر وقوة المقدمات المفضية إلى الاغتراب أن هؤلاء الرومانتيكيين المغتربين عمدا مع سبق الإصرار والترصد عن العقل - عن جوهر إنسانية الإنسان - اعتبروا أنفسهم المتحدثين الرسميين باسم الحرية، فكانوا بهذا إعلانا أشد وضوحا من شمس النهار عن الشيزوفرينيا: إما العقل وإما الحرية، إما العلم وإما العالم، وكانت للرومانتيكية خصوبة وفعالية في ميادين عدة، أهمها الفن والتاريخ وإنماء الشعور القومي، فتلقفتها الفلسفة المعاصرة بلهفة، وهي تتلقف بؤرة المرض لتزرعه في قلب الفكر في القرن العشرين خصوصا.
وإلا، فلنتساءل: من هم جند الصف الأول من جيش الحرية المستبسل في فلسفة القرن العشرين؟ أوليسوا الوجوديين ومعهم برجسون، لقد عهدناهم وإياه يطابقون بين الحرية وبين الوجود الإنساني، السابق على الماهية في الوجودية، فيدافعون عن الحرية دفاع الأبطال المستميت، ويقيمون دونها الحصون والقلاع، فلا يتطاول إلى عرشها المجيد لجاج العلميين السائرين إلى مآل العبيد المجبورين، تروس الآلة الكونية العظمى، وما البرجسونية والوجودية إلا ذروة المسار الرومانتيكي المغترب عن العقل: اللامعقول؛ لذلك نجد القاسم المشترك الأعظم بين كل بحوثهم الثرية الخصيبة الدافقة عن الحرية هو إنكار استطاعة العقل تفهمها واستيعابها وإثباتها أو إنكارها، وبالتالي استحالة تعريفها باعتبار أنها لا يمكن أن تكون موضوعية أو موضوعا، عند كارل ياسبرز مثلا: «وجود الحرية لا يندرج مطلقا تحت النظام العقلي الموضوعي»
49
طبعا أوليس حتميا ؟
إذن فالحتمية جعلت الحرية مرادفة للعفاريت، فهي التي لا تندرج مطلقا تحت النظام العقلي الموضوعي، واعتبر برجسون «الحرية مرادفة للتلقائية غير المعقولة، فالمعقول ينفي الحرية واللامعقول هو الميدان الأوحد لها»،
50
فهل أتى هذا اللامعقول من شيء إلا من معقولية العلم الحتمي؟! لذلك عمل برجسون «أولا على أن يتحرر هو نفسه من التصور العلمي الآلي قبل أن يعين لنا بعد ذلك طبيعة الحرية ومعنى الفعل الحر»،
51
فكأن الخلاص من بلوى العلم والعقلانية هو الخطوة السلبية الأولى والأساسية لأي حديث عن الحرية الإيجابية، أما السارترية التي تسلمت من البيرجسونية عرش الفكر الفرنسي في أواسط القرن العشرين، فقد بلغت لامعقوليتها مبلغا مأسويا مفجعا في الاغتراب، فأساس السارترية القطيعة «الانفصال» والتلاشي «العدمية»، يقول سارتر: «إذا كان السلب يأتي إلى العالم بواسطة الآنية، فهذه ينبغي أن تكون موجودا يستطيع أن يحقق قطيعة معدمة «انفصال ملاش» مع العالم ومع ذاته، وقد قررنا أن الإمكان المستمر لهذه القطيعة هو والحرية شيء واحد»
52
أي أن الحرية هي أن تنقطع الذات عن ماضيها ومستقبلها وعالمها ومجتمعها وقيمها، وتعدم كل هذا وتلاشيه، فتبقى منعزلة مهجورة وحيدة قلقة تعاني الحصر والعي والغثيان، على الإجمال، مغتربة تنعى جدها العاثر.
وعودا على بدء، نتساءل كيف وصلت الوجودية إلى كل هذه الدرجة من الاغتراب؟ ذلك لأنها بدأت مع أبيها سورين كيركجارد برفض شهادة العلم؛ لأنها تشاؤمية تسد الطريق على الحرية، ولما كان كيركجارد
53
قد أسس الوجودية بالتأكيد على نفي أو تعديل أو هجران كل ما يعارض شعور الإنسان الذاتي بالحرية، فقد رفضوا تدخل العلم، «وكأن الوجوديين في عدم ترحيبهم بكل ما يحط من شأن دليل خبرتهم الذاتية بالحرية على عناد مع هيوم وكانط في عدم ترحيبهما بكل ما يحط من شأن شهادة العلم الطبيعي في عصرها»،
54
الرومانتيكية والعقلانية، كل كائن في شطر من الشطرين اللذين انقسم إليهما العقل «إبستمولوجيا » والعالم «أنطولوجيا»، ألم نقل عودا على بدء؟
وأخيرا إذا كان الاتجاه السائد الآن بين المفكرين المعاصرين هو العزوف عما يعنينا في هذا البحث، أي عزوف عن الخوض في أساس الحرية أو الحرية الأنطولوجية، والاهتمام فقط بتمثيلاتها العينية الجزئية البعدية، كالحرية السياسية والاجتماعية ... إلخ؛ فذلك لأن إحكام قبضة العلم على العالم، قد أفقدهم أي أمل في البحث عن أساس الحرية فيه، لقد جعلهم هذا مغتربين، من حيث جعل الحرية الأنطولوجية كائنا أشد غربة من كل الغرباء.
وبعد، كان هذا تتبعا للآثار الوبيلة لمعضل الحرية الإنسانية/العلم، والذي تخلق مع الفلسفة الحديثة المواكبة للعلم الحتمي، وقد انتهى الأمر بشيزوفرينيا جعلت الحرية قرينة اللاعقلانية، أوليست الحتمية هي صلب العلم ... تاج العقلانية، من المستحيل إذن أن ننظر إلى هذا العالم نظرة عقلانية ونقر بالحرية الإنسانية، إما أن نكون لاعقلانيين غير معترفين بالعلم وأحكامه ورؤاه! وإما أن نكون محض تروس في الآلة الكونية العظمى.
إن الاقتران بين الحرية الإنسانية وبين الاتجاهات اللاعقلانية، كالرومانتيكية والوجودية والبيرجسونية ... هذا الاقتران الذي يعد سمة مميزة للفكر والفلسفة منذ أواسط القرن العشرين هو في حقيقته من مخلفات الفلسفة الحديثة وآثارها، وفي الوقت نفسه قصور عن تتبع تطورات العلم الثورية التي حدثت في القرن العشرين ذاته.
ولكننا على أية حال في هذا الفصل وفي الفصل التالي أيضا، ما زلنا في العصر الحتمي، أي في زمان الفلسفة الحديثة التي كانت المنشأ والمنبت والمرعى الخصيب لتلك الشيزوفرينيا.
الفصل الرابع
خطوة فرنسية على الطريق
(20) ظلت الشيزوفرينيا الصريحة باقية وماثلة في فلسفة القرن العشرين، خصوصا مع جوزيا رويس
J. Royce (1855-1916) في أمريكا، وبيرجسون في أوروبا، إلا أن هذا استمرار لأصل قد كان، ووصل إلى ذروته بنهاية القرن الثامن عشر، كما أوضحنا في الفصل السابق.
وعلينا الآن أن نركز الأنظار على هذا الأصل، لنجد أن عملية الفصم في زعمها بأن العقل أو الروح أو الإرادة، خارج دائرة الحتمية العقلية، قد لقت سندا قويا يتمثل في أن أعماق النفس ودخيلة الإنسان مجال لم يغزه العلم بعد، وستظل ذروة هذا الفصم وأنضج صورة في النومينا والفينومينا عند كانط، وحتى عصر كانط - أي حتى بداية القرن التاسع عشر - لم يفكر أحد تفكيرا جديا في فكرة العلوم الإنسانية والأخلاقية، أي في إمكان أن تخضع هذه الظواهر للدراسة العلمية.
1
ولكن، إذا دلفنا إلى قلب هذا القرن - التاسع عشر - فسنجد الاجتياح الحتمي وقد عم وشمل، وأصبحت بحوث علم النفس والاجتماع علوما تسعى نحو المثال الحتمي المنشود، ففقدت القسمة الشيزوفرينية بريق سندها في أعين العقلانيين الباحثين عن الحرية في هذا العالم، والذي لم يعد ثمة عالم سواه؛ بعبارة أخرى، لم يعد ثمة مجال تنفى إليه الحرية أنطولوجيا، فلم يبق إلا الوجه الآخر للعملة: الإبستمولوجيا.
ولما كانت فرنسا هي التي شهدت أقوى صورة للحتمية في العلوم الإنسانية مع وضعية أوجست كونت، وهي في الآن نفسه الأمة الحريصة على جعل الحرية خاصة من خصائص شخصيتها، فقد ظهر في هذا البلد المستنير، وكرد فعل لسيطرة الوضعية على الفلسفة الفرنسية ومحاولة تحقيق شيء من التوازن معها، ظهرت طائفة من فلاسفة الحرية، يقرون تماما بفاعلية وجدوى ومشروعية العلم الوضعي، شريطة التخلي عن حتميته الصارمة التي سحقت الحرية الإنسانية، إنهم باحثون عن الحرية الأصيلة غير المفارقة ولا المتعالية، فكرسوا جهودهم من أجل هذا لا في النيل من العلم ذاته - وإلا لما كان لنا لقاء معهم - وإنما في النيل من حتميته.
إنهم تيار يكافح ضد سيطرة الحتمية العلمية، يمكن تسميته بحركة نقد العلم، فهي حركة أو محاولة لتعيين حدود العلم؛ بعبارة أدق، لتعيين حدوده الإبستمولوجية، وتقليم أظافره الأنطولوجية؛ بغية ردع حتميته التي طغت. وبقليل من التعسف، يمكن التمييز بين فرعين التقيا في هذا التيار.
الفرع الأول: وضعية ميتافيزيقية أو روحية: متأثرة بالوضعية، وبمين دي بيران
Main De Biran (1766-1824) بإقراره أن الواقع الحق ليس الجوهر النفسي الديكارتي، بل هو الحياة الروحية الباطنية، أي الحياة النفسية والنشاط الروحي المستور، وأن العلامة المميزة للحياة الإنسانية هي معرفة الذات للذات، أي الشعور، والواقعة الأولية للشعور هي الأنا بوصفه العلة والقوة والإرادة والفعل.
2
وفي الشعور بالجهد أو المجهود توجد بالتضمن معان أولية هي شروط الفكر وأصول العلم، هذه المعاني هي الوجود والجوهر والوحدة والذاتية والقوة والعلة، وأهمها «معنى الحرية متجليا في معارضة الإرادة للنزوع».
3
أما الفرع الثاني الوضعية النقدية: فهو الأقوى والأهم، متأثر بالوضعية وبالكانطية على السواء، وعلى الرغم من أن عماد الحرية عندهم هو الرفض البات للتصور النومينالي الكانطي المفارق؛ لأنهم رأوا «أن ذلك المطلق المطرود من الوجود لا ينتج غير مشاحنات كلامية»،
4
وعلى الرغم أيضا - وبالتالي - من رفضهم البات لما رآه كانط من حتمية علية شاملة لكل الظواهر، فإنهم كانطيون، يفخرون بانتسابهم لكانط، وبأن ينعتوا بأصحاب النقدية المثالية المحدثة، هم نقديون مثاليون إبستمولوجيون مثل كانط، ولكن حداثتهم تجعلهم يرفضون حتميته الشاملة للظواهر، ونفيه للحرية من هذا العالم: عالم الظواهر.
مع هذا التيار بفرعيه، اتخذ نقد العلم أو محاولة تعيين حدوده، صورة حملة شعواء على الحتمية العلمية، وكانت مع الفرع النقدي أقوى؛ لأنها متسلحة بالمنهاج الكانطي، فراحوا يؤكدون الدور الإيجابي للعقل بالنسبة للحواس، وحجتهم في هذا أنه لا علم بغير فرض، وهذا معناه أنه ليس ثمة علم إذا لم نقر بشيء لا يقاس ولا يحسب ولا يوزن ... وأن فكرة الاحتمالية تلعب دورا كبيرا في العلم، ولا ينبغي رد الأعلى (الحياة) إلى الأدنى (المادة) كما تفعل الميكانيكية، والقوانين الطبيعية ليست نسخا من الواقع، وليست سلاسل تفرض علينا من خارج، إنها تؤلف لغة ذات كمال لا شك فيه، بيد أن هذه اللغة تنتسب إلى ميدان المعقول؛ ولهذا لا ينبغي أن نبدأ من الواقعة، بل من الفكرة،
5
ولم تكن فلسفات الحرية العديدة في هذا التيار بفرعيه إلا تنويعات مختلفة لهذه النغمة: إنهم يثبتون الحرية بأن يبدءوا منها كفكرة. ••• (21) «الفرع الأول: الوضعية الروحية»: ويعتبر فليكس رافيسون
Felix Ravisson (1813-1900) رائدا لهذا التيار من حيث كونه فلسفة للحرية على أساس الشعور أو الفكرة، وخصوصا في هذا الفرع البيراني أو الروحي، واستنادا إلى مين دي بيران، يبرز رافيسون التأثير الكبير الذي للعادة، العادة
6
بمعنى الاستعداد والفضيلة، ويقرر أنه في الشعور بالمجهود تتجلى الشخصية لنفسها على شكل نشاط إرادي ، فالمجهود ليس فقط الشرط الأول، بل هو أيضا النموذج الكامل والموجز للشعور.
على هذا نلاحظ أن «العادة» عند رافيسون ليست البتة العادة بالمفهوم السيكولوجي أو المعنى المتعارف عليه، بل المقصود بها الإشارة إلى استعداد معين يتميز وينفرد به كائن حي. إنه الاستعداد للتغير الذي يتولد ويتخلق في الكائن الحي، عن طريق استمرار وتكرار هذا التغير نفسه، وبالمجهود المبذول في هذا الصدد، المادة الجامدة التي هي ميدان التجانس التام والتشابه المطلق لا تعرف البتة العادة - أي الاستعداد للتغير - على العكس من الحياة التي يقوم جوهرها على هذا، من هنا كانت العادة التي هي مستحيلة على المادة أمرا خاصا بالكائن الحي، مميزا له. هي إذن ميدان الفردية والتميز، وفيها - في العادة أو في الاستعداد للتغير - تتجلى الإرادة والحرية. إن ميدان الحياة هو ميدان التغير والدوام، ميدان العادة، ميدان الإرادة والحرية، رافيسون إذن يجعل العادة (الاستعداد للتغير) تفتح لنا الباب على مصراعيه للخروج من غياهب الحتمية الميكانيكية، إلى رحاب الحرية والاختيار، والإيمان أيضا، فقد أكد أن الإرادة تبحث دائما عن الرب.
إن القائلين بالحتمية يبدءون بالمادة أي بالطبيعة الفيزيقية الخاضعة للحتمية، ومنها يخرجون إلى الإنسان ويخضعونه للحتمية نفسها، ربما لأنه من الأيسر والأسلس أن نبدأ بالبسيط أي المادة، ونتدرج منه إلى الأكثر تعقيدا ... إلى ظاهرة الحياة ثم الإنسان، ولكن هذا التيار الروحي رفض هذا، رفض البدء من المادة وأكد على العكس تماما، على البدء من الروح والوجدان، فيصل إلى الحياة، ومنها أخيرا إلى المادة.
وطبعا رافيسون الرائد قد أكد على هذا، بل وتوغل فيه حتى عمل على إذابة الفلسفات الوضعية والتجريبية في الفلسفة المثالية الروحية، كي تستوعب الروحية الواقع بأسره، حتى الواقع المادي. بل وأكد رافيسون أن المادية سطحية قاصرة، غير قادرة على الاستقلال أو الاستمرار ما لم ترد إلى الروحية، وأخرج عام 1867 كتابه «تقرير عن الفلسفة الفرنسية»، ليثبت أن كل فلاسفة فرنسا بلا استثناء، حتى أولئك الذين يبدون مسرفين في المادية وفي الإيمان بالحتمية وعلى رأسهم أوجست كونت، يفترضون مبدأ الروح الميتافيزيقي ضمنا، أو على الأقل يعودون إليه، ثم جعل رافيسون من هذه الفرضية أساسا لتأريخ الفلسفة بجملتها، وليست فقط الفلسفة الفرنسية.
وعلى هذا النحو يؤكد رافيسون اتصال الروح والمادة، خلافا لما يذهب إليه ديكارت، وسائر أتباعه الشيزوفرينيين من انفصال بينهما، وواقعيته الروحية ستنسخ الفرضية القائلة إن المادة الآلية الميكانيكية هي الأصل والحياة ظاهرة لاحقة، بل ستجعل الأصل الحياة، والغائية هي التي تستخدم الآلية وتسخر العلية ... فطالما أن الحياة أصل والمادة فرع، والحياة مبدؤها الغائية والمادة مبدؤها الآلية، فستغدو الغائية هي الأصل المنظم للوجود، والآلية عنصرا من عناصر الغائية، هكذا تستخدم الغائية الآلية.
رافيسون إذن يجري على وتيرة هذا التيار من معارضته للمنهج الميكانيكي الذي يرد الأعلى إلى الأدنى، وهدفه تمييز الحياة عن المادة البحتة، فأكد أن هذا التمييز يلاحظه جميع الفلاسفة والعلماء حين يتعمقون في دراسة طبيعة الحياة، مما يؤذن بقيام مذهب جديد هو الواقعية الروحية، التي تتصور الوجود على مثال الوجدان، إنها مقولة الحياة، التي أصبحت بفضل رافيسون عنصرا خصيبا في كل فلسفات الحرية، يتجلى هذا خصوصا عند بيرجسون، أخلص تلاميذه، وبصفة عامة انفصل رافيسون انفصالا نهائيا عن التجريبية، ثم أصبح رائدا للنزعة اللاعقلانية المنتشرة في الفلسفة المعاصرة من حيث هي فلسفات للحرية.
وكمثل رافيسون، نجد شارل سكريتان
Charl Sacretan (1815-1895). إنه لا ينتمي لحركة نقد العلم، ولا لأية وضعية، ولا حتى لفرنسا، فهو من سويسرا الفرنسية، ولكنه يدخل في زمرتهم لأنه كتب بلغة فرنسية ولأنه نابع لمين دي بيران، وبذل جهدا فائقا من أجل الحرية، أكد أن المطلق حرية مطلقة و«أنا أريد ما أريد» والواقع والروح والإرادة والنشاط مترادفات،
7
على أن سكريتان تحمس للحرية لأن الأخلاق لا تستغني عنها، ومن الضروري البحث عن مبدأ أعلى يكون أصلا وقانونا لها، فأعرض عن العلم وعالمه، وأقام فلسفته للحرية على اللاهوت المسيحي؛ لينتهي إلى أن الرب هو الحرية المطلقة يريد الخليقة لذاتها لا لذاته وهذه هي المحبة، ويريدها كغاية، إذن يريدها حرة، والأخلاق لتحقيق الحرية.
8
وبطبيعة هذه الحركة، يبدأ جول لكي
Goul Laquier (1814-1862) من الفكرة، من الحرية كفكرة، ليؤكد أنها شرط المعرفة، أو أنها الحقيقة الأولى التي نوفق إلى اكتسابها حين نبحث: كيف نحدد الغاية ونقاطع المألوف والمعتاد، إنه يريد إثبات الحرية بحرية؛ لأن ذلك هو السبيل الأوحد الذي لا سبيل سواه، فإن بدأت بالضرورة أو مع الضرورة، لن أصل أبدا إلى الممكن، ولا إلى أية حرية حقيقية بأية صورة من الصور.
على أن جول لاشيليه
Goul Lachelier
أبرزهم، إنه رائد عظيم لهذا التيار، جمع بين تأثير مين دي بيران وتأثير كانط، وبالطبع، بدأ من الفكرة ومن أن «الامتداد بحكم طبيعته لا يمكن أن يوجد في ذاته، إنه لا يوجد في الشعور لأن الشعور وحده يمكن أن يكون هو ما هو، إنه كل معطى في ذاته قبل أجزائه، وأجزاؤه تقسمه لكنها لا تقومه،
9
وحقيقة الشعور بمنأى عن الشك».
ولاشيليه أكثر أعضاء الفرع البيراني تحملا لمسئولية المواجهة الصريحة مع الحتمية العلمية، فقد سعى إلى البرهنة على أن العلم من صنع العقل وليس نسخة من الواقع؛ لأنه يتوقف على عناصر قبلية وكل واقعة ممكنة عرضية ... وعلى العكس، القانون تعبير عن ضرورة مفترضة، عن طريق الاستنتاج من الوقائع إلى القوانين، إنه استنتاج من الجزئي إلى الكلي ومن الممكن إلى الواجب ومن المحتمل إلى الضروري، فمن المستحيل إذن أن نعد الاستقراء عملية منطقية.
10
بعبارة أخرى: يهاجم لاشيليه الحتمية عن طريق الإطاحة بأساسها الميثودولوجي الذي يؤدي إلى قانون علمي حتمي، وهذا في الواقع موقع وجيه للإطاحة بالحتمية العلمية.
11
وكان موضوع رسالة لاشيليه للحصول على الدكتوراه: «في أساس الاستقراء» انتهى فيها إلى أن الاستقراء بوضعه مع الحتميين بلا أساس البتة، وهذه مسألة معروفة في فلسفة العلم، ومنذ أيام ديفيد هيوم، ولكي ينقذ لاشيليه الاستقراء، أدخل العلة الغائية على العلة الفاعلة، وأيضا لكي يجعل الكل ينتج وجود أجزائه، ولكي ينتهي إلى أن التجريبية ليست كافية، وأن الشك أو نفي العلم ثمرة متجددة لها، ومثلها - أي مثل التجريبية - نظريات الجوهر التي هي تلاعب لغوي، ولم يبق غير حل واحد: في الفكر وعلاقته بالظواهر نبحث عن أسس الاستقراء وعن وجود العلل الفاعلة والعلل الغائبة، الأولى حتمية وفي الثانية حرية إنسانية؛ لينتهي إلى أن ما نسميه حريتنا هو الشعور بالضرورة، وهي التي تحدد الغاية التي يتصور عقلنا في سلسلة أفعالنا، وجود الوسائل التي يجب بدورها أن تحدد وجودها.
12
هكذا لست أرى لاشيليه انتهى إلى حرية حقيقية، بل إلى موقف في ظاهرة الحتمية الرخوة، والتي اتفقنا على أنها في جوهرها الحتمية الصارمة.
وإلى مثل هذا انتهى أيضا ألفريد فوييه
Alfred Fouillee (1838-1912) على أن ناموس التيار: «البدء من الفكرة» قد أصبح معه أقوى وأعنف من كل ما سبق، حتى إنه جعل من «الفكرة-قوة» وهذا هو اسم نظريته
Idea-Force
التي حاول بها تشييد التركيب النهائي المنظم للعلم المعاصر له، وفي الآن نفسه إنقاذ الحرية عن طريق دعوته إلى فلسفة للشعور، وليس فلسفة للاشعور، رفض فوييه اعتبار الظاهرة الوجدانية عرضا طارئا على التغير العصبي، كما يقول الماديون، فإنها لو كانت كذلك، لكانت عديمة النفع للحياة وأن قليلا من التأمل يرينا أن الفكرة (أي الظاهرة الوجدانية) هي قوة تبعث فكرات أخرى، وتدفع إلى العمل، أجل إن كل فكرة هي قوة وميل للحركة يتحقق من تلقاء ذاته، إذا لم تعارضها فكرة أخرى، فلا ينبغي التمييز بين عقل وإرادة، أو بين فكرة معلومة فحسب وفعل يحققها.
13
ولتطبيق «الفكرة/القوة» على الحياة النفسية يصل فوييه إلى علم نفس تركيبي، وبتطبيقها على الاجتماع يصل إلى أن «الأفكار» أشكال للشعور الاجتماعي حاضرة في الشعور الفردي، وبتطبيقها على الوجود بأسره وصل إلى تطورية دارونية، على أن عوامل التطور نفسية لا آلية، ولما كانت الأفكار قوى فما علينا إلا أن نجعل الحرية فكرة لتصبح قوة، أي أن نؤمن بها فتصير أمرا واقعا، وبهذا تصبح الحرية «وليدة اعتقادنا بالحرية وحبنا لها»
14
على اعتبار أنها تنحصر في شعورنا في فعل هذه الفكرة (فكرة الحرية) في نفوسنا، وما يستتبع ذلك من عمل على تحقيق تلك الفكرة تدريجيا في الحياة الشخصية، والحرية بهذا مثل أعلى ينبغي العمل على بلوغه في تقدم مطرد.
15
تصور فوييه أنه بهذا أنقذ الحرية والأخلاق والحياة الروحية، غير أنه في الحقيقة لم يفعل شيئا وانتهى مثل رائده لاشيليه إلى نفس الموقف: الحتمية الصارمة؛ حتى يمكن الحكم بأن نظريته أضعف نظرية في هذا التيار بفرعيه، برغم أنه أكثرهم إنتاجا، ولكنه أيضا أقلهم دقة، فهو أولا واحدي روحي، والواحدية أفضت وكان لا بد وأن تفضي به إلى الحتمية، وهو ثانيا: اصطفائي توفيقي «على الرغم من نزعته الروحية الصريحة، يؤمن بإمكان قيام توفيق متعدد الجوانب بين المثالية والوضعية، بين العيانية والنزعة العقلية، الفلسفة والعلم، وبين الحتمية والحرية»، فأقر بحاجتنا المطلقة إلى حتمية في المعرفة وإلى نوع من اللاحتمية في العمل، ولم تكن نظريته إلا محاولة للتوفيق بين الحتمية والحرية كما ينص عنوان كتابه «الحرية والحتمية» سنة 1872، وذلك هو المحال، والذي انتهى به إلى حرية هي عينها اللاحرية، أو كما قال هو نفسه حرية علية معقولة للذات تتجلى وتعبر عن نفسها في حتمية معلولاتها وآثارها، أعني في آلاتها وأعضائها (وسائلها) وتتجلى أولا كفكرة ثم كرغبة ثم كمحبة، على هذا الشكل الأخير تكون حقا الروح الحية لهذا الجسم الباطن، وفي المحبة تكون الضرورة مشمولة بالحرية،
16
والحرية مشمولة بالضرورة، ولا حرية حقيقية؛ ولهذا كان جول لكي أفضل منه، بل وأفضل من لاشيليه حين أدرك أن الحرية لا تثبت إلا بحرية، وقصارى ما نستطيع استخلاصه من فوييه هو أنه رأى ببساطة غريبة ومرفوضة - طالما لم يأت بمبررات - أن الإبستمولوجيا للحتمية والأنطولوجيا للحرية.
إنه إذن يكاد يكون من زاوية ما مجرد تعميق للشيزوفرينيا، يضع الإبستمولوجيا والأنطولوجيا في موقف التعارض الصريح!
على أن إميل بوترو
Eimlle Boutroux (1845-1921) لم يقل ذلك ببساطة، فجهوده للإطاحة بالحتمية الإبستمولوجية رصينة وعميقة، وكانت رسالته للدكتوراه عام 1874 في «إمكان قوانين الطبيعة» ترمي إلى إثبات ما أكده بعد هذا أكثر وأكثر في بحثه «القانون الطبيعي في الفلسفة المعاصرة» سنة 1895، أي إثبات أن الضرورة العقلية لا تتحقق في الأشياء كما يزعم الحتميون الآليون؛ وذلك لأن قوانين العلم كما يرى بوترو مجرد مناهج للملاءمة بين الأشياء وبين عقولنا، إنها تعبر عن طريقنا في النظر إلى الأشياء، بعبارة أخرى هي كيانات إبستمولوجية فحسب ولا شأن لها بالواقع الأنطولوجي، وهذا اتجاه هام أو فرع أساسي في فلسفة العلم هو الاتجاه الأداتي، كانت فرنسا - بشكل عام - موطنا ومرتعا له وقد تعاظم شأنه في القرن العشرين.
17
وبالتالي فإن القوانين الطبيعية ليست مستكفية بذاتها بل ذات علل أرفع منها، والواقع أن هناك من القوانين بقدر ما هناك من درجات الوجود، وفي هذه الدرجات المترتبة من الأقل كمالا إلى الأكمل والأكمل كل درجة ممكنة بالإضافة إلى الدرجات السفلى، هذا في حين أن الآلية الميكانيكية تقوم على وحدة مادة الوجود وعلى الدرجات، درجات تركيب هذه المادة وقواها لا أكثر، والحقيقة أنه لا معادلة بين الجسم وعناصره وبخاصة إذا أخذنا في اعتبارنا الجسم الحي من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان.
18
وعنى بوترو عناية شديدة بتبيان تميز الكائن الحي عن المادة؛ لأن ذلك الخلط بين درجات الوجود يؤدي إلى التصور الحتمي الذي هو خاطئ وإلى الرد الميكانيكي: رد الحياة إلى المادة.
الواقعية الروحية التي أينعت مع هذا الفرع من التيار جعلت بوترو يؤمن بأن سلم الموجودات يرينا أن الحرية تنمو شيئا فشيئا على حساب الآلية، حتى إذا ما تركنا الوجهة الخارجية التي تبدو فيها الأشياء، وكأنها موجودات جامدة محددة، ولكي نلج إلى أعمق أعماق أنفسنا وندرك ذاتنا في منبعها - إن أمكن هذا - وجدنا الحرية قوة لا متناهية، ونحن نشعر بهذه القوة كلما عملنا حقا، أي كلما نزعنا إلى الخير والحياة الخلقية.
19
وسار بوترو بعد ذلك في مقولة الإمكان إلى أقصى حد، إلى حد أن بحثها في ذات الرب وذلك في رسالة له بعنوان «الحقائق الأزلية عند ديكارت».
والرأي عندي أن بوترو يتربع على عرش الفرع الوضعي الروحي؛ ذلك لأنه دونهم جميعا فيلسوف عظيم من فلاسفة إمكانية العلم، وبالتالي لا حتميته، وبالتالي حرية الإنسان، فضلا عن أنه فيلسوف علم من فلاسفة الأداتية التي تصر على أن تنزع عن العلم أية دلالة أنطولوجية أصلا، وهو تيار لا نأخذ نحن به في هذه المعالجة أصلا، ونتمسك بالرأي المقابل أي الواقعية التي تؤكد أن العلم له دلالة إبستمولوجية وأنطولوجية معا، ولكن مهما يكن الأمر فإن موقف إميل بوترو في حد ذاته موقف متسق. ••• (22) «الفرع الثاني: الوضعية النقدية أو الكانطية»: أهم كثيرا، فهو أقوى باعا وأطول ذراعا في النيل من الحتمية العلمية، وبما لا يقارن، حتى إنه تمكن تماما من الإطاحة بإبستمولوجية الحتمية، جملة فلاسفته علماء ورياضيون، أمدتهم الرياضيات بمنهاج حاسم لإثبات أن كل الأنساق الإبستمولوجية لاحتمية، وبالتالي لن يصعب عليهم إثبات الحرية الأنطولوجية، يأتي في مقدمتهم الرياضي أنطوان أوجست كورنو
A. A. Cournot (1801-1877) الذي يمكن اعتباره أكثرهم وضعية، وهو رائد عظيم لحركة نقد العلم أكد أن الفلسفة لا يمكنها الاستغناء عن العلم الوضعي والعكس صحيح «فالفلسفة بدون علم جوفاء، والعلم بدون فلسفة أعمى».
20
وكان كورنو أحد الآباء الكبار لعلم حساب الاحتمال، وأول من صاغ نظرية موضوعية للمصادفة في الفكر الحديث ولحساب احتمالها بالمعنى الموضوعي السليم، أي أنها نظرية تحسب احتمالية الحدوث الفعلي لبدائل عدة لواقعة من وقائع الطبيعة، فلا تعتمد الاحتمالية على الذات العارفة ولا تطورات علمها وانحسار جهلها،
21
ولكنه مع هذا شأنه شأن كل أقطاب تيار حركة نقد العلم، لم يتطاول على أنطولوجية الحتمية بل أكد أنها ضرورية لقيام العلم، وأنها أساس كل علم،
22
فكانت موضوعية الاحتمال عنده تقوم على مصادرة مؤداها أن الحوادث التي تنشأ عن ترابط أو التقاء ظواهر تنتمي إلى سلاسل مستقلة في نظام العملية، هي تلك الحوادث التي نسميها بالحوادث العشوائية، أو التي هي نتيجة للمصادفة،
23
وبهذا تحدث المصادفة في قلب الحتمية والعلية الطبيعية ... ففي داخل الضرورة العقلية الرياضية يتحقق نوع من الالتقاء بين سلاسل مستقلة من الظواهر، ويتم بهذا الالتقاء واقعة نسميها بالمصادفة،
24
ويمكن اعتبارها مصادفة مستقلة عن الذات العارفة، ومعتمدة على وقائع الكون الموضوعية.
وهو أيضا شأن كل أقطاب التيار النقدي، حقق لاحتمية إبستمولوجية على الوجه الأتم، فقد أقنعه حساب الاحتمال بالطبيعة النسبية للمعرفة، واستحالة إدراك المطلق وكان شد ما أخذه كورنو على كانط هو أنه بحث عن اليقين، واليقين وهم «لأنه الاحتمال جزء لا يتجزأ من كل العلوم، وحتى الفلسفة ينبغي عليها الاكتفاء بالاحتمالات العالية»،
25
وليست اللاحتمية البادية هي التي ينبغي تفسيرها تفسيرا ذاتيا، أي بوصفها حتمية مجهولة، بل العكس هو الصواب، الحتمية البادية هي التي ينبغي تأويلها ذاتيا، العلم بصميم طبيعته لا يمكن أن يصل إلى اليقين المطلق أبدا فكيف يزعم بشمولية الحتمية وكيف ينفي الحرية، الحرية هي الأصل وإمكانية أو احتمالية أو لاحتمية العلم هي النتيجة.
أما العالم الرياضي شارل رينوفيه
Charl Renouvier (1815-1903) فهو من أهم فلاسفة الحرية بصفة عامة، أقام فلسفته على أسس ثلاثة: التناهي - النسبية - الحرية.
بدأ بدراسة رياضيات اللامتناهي، لينتهي إلى أنه ممتنع، فسلسلة الأعداد الطبيعية 1، 2، 3، ... لا تفضي إلى أي عدد لا متناه في النهاية، وبالتالي التناهي هو الحقيقة، العالم ككل له حدوده المتناهية، ولكن هذه الحدود تستعصي على المعرفة، وهنا تتمثل النسبية التي تتنافى مع الإطلاقية ومع الشيء في ذاته ومع الجوهر الواحد، وبالتالي تتنافى مع الواحدية التي هي صورة الحتمية، من هنا جعل التناهي من رينوفيه فيلسوف التعددية المفرطة وبالتالي اللاحتمية.
أما عن الحرية فيقول رينوفيه: «الضرورة والحرية كلتاهما لا تقبل البرهان، ولكن تعتمد احتمالات كبيرة من الناحية التحليلية البعدية للظواهر لصالح الحرية، وهي في جوهرها تنتسب إلى الغريزة الإنسانية والعقل العملي، والحرية شرط لأخلاقية الأفعال وهي وحدها التي تفسر وجود الخطأ في العالم، وتقرر الإمكان الأخلاقي لبلوغ الحق، بالتطبيق المثاب لشعور مستيقظ دائما، والحرية أخيرا - إذا كنت أؤكدها - فلأنها حياة شخصي وحياة العلم الذي أسعى لتحصيله.»
26
هكذا رفض رينوفيه الحتمية رفضا قاطعا، ولم تلهه اهتماماته الميتافيزيقية الرياضية والعلمية حتى عن الحتمية التاريخية، بل بذل جهدا كبيرا لدحضها، ووضع نظرية تحليليلة للتاريخ، تصل إلى الدور الهائل الذي تلعبه الحرية في حياة الإنسانية، وحماية للحرية يعمم رينوفيه الإمكان واللاحتمية إلى أقصى درجة ويذهب إلى حد القول «إن الحرية تقوم في النظام الخارجي للأشياء وإنها لا تتحدد كلها بسوابقها ومقدماتها.»
27
ورينوفيه كسائر أقطاب هذه الحركة، ليس خصما مطلقا للوضعية، بل أقر معها بأن الغرض الأول من بحث الظواهر هو معرفة قانون الأشياء ووظائفها وأن النظام الموضوعي ترتيب لظواهر وترتيب لقوانين، وموضوع العلوم - منظورا إليها في مجموعها - هو التشييد التدريجي لهذه التركيبات، ولكنها كما ذكرنا حركة نقد الحتمية وتعيين حدود العلم؛ وعلى ذلك فقد نقد رينوفيه النزعة العلمية المتطرفة
Scientism ،
28
بل اتخذ منها موقف العداء الصريح؛ لأن العلم لا يكفي بمفرده، طالما أنه «لا يفحص المبادئ والمعاني الأساسية ويقتصر على استخدامها، لتسجيل العلاقات بين الظواهر»
29
وحين نفحصها سنجد الحرية، وفي تعيين حدود العلم سعى رينوفييه إلى بيان أن العلم الدقيق محدود، وأنه لا يشمل أبدا، أو أنه يكاد يبلغ كحد أقصى، وجود الوقائع الأولى وأن موضوعه الكلي يتحدد تحت كل المقولات، ولكنه غير معين بالنسبة إلينا، وأنه ينبغي علينا أخيرا أن نتخلى عن ذلك الادعاء بالامتلاك الكامل للظواهر والقوانين الجزئية الناجم عن تعيين العام أو النظام الكلي،
30
الحتمي بالطبع، ولا ينبغي أن نقول العلم بل العلوم، ويتضح خلوص إبستمولوجيته في قوله الشهير: «ليس هناك يقين بل موقنون»؛
31
لأن اليقين مجرد حالة عقلية وفعل من أفعال الإنسان، يرفض رينوفيه الحسية التجريبية على أساس أن الظاهرة تقوم على الامتثال الذي لدينا فحسب، ولا تمتثل إلا بالقدر الذي يكون به لدينا شعور عنها، بعبارة أخرى الواقعة الأولية للشعور هي القوة الخلاقة حقا،
32
هي الحرية.
والحرية عند رينوفييه، مرادفة لمقولة الشخصية؛ ذلك أنه قد وضع نسقا للمقولات شبيها بنسق كانط، وإن كان يرفض اعتبار النقائض غير قابلة للحل، ومن أجل الحرية أدخل الغائية مع العلية - مثله مثل لاشيليه - في قائمة مقولاته، كما أدخل الشخصية. ويختم تعريفه للحرية بتأكيد أنها الجوهر الأصفى للشخصية الإنسانية، أو هي بمثابة مبدأ الفردانية في الشخصية،
33
ويقدم في كتابه «بحث في علم النفس العقلي» الأساس السيكولوجي للحرية الإنسانية، وبالاستناد إلى رافيسون يؤكد رينوفييه أن تطور الإرادة هو الانتقال من التلقائية البسيطة إلى التلقائية الحرة التي تؤذن ببزوغ الشعور الإنساني في حضن الطبيعة.
34
نظرية رينوفييه من النظريات الشامخة في تاريخ فلسفة الحرية، وقد بعث إليه وليام جيمس أعظم تلامذته يقول : «إليك يرجع الفضل في أنه أصبح لدي ولأول مرة مفهوم واضح معقول للحرية، إنني أكاد أتقبل هذا المفهوم كلية»،
35
وعلى الرغم من هذا، ومن جهوده الرياضية والعلمية من أجل الحرية فإنها معه لم تحرز أي توفيق حقيقي بينها وبين العلم، وظلت أولا وأخيرا نظرية ميتافيزيقية، بل ومدرسية على حد تعبير جيمس نفسه، وإليه أهدى كتابه: «بعض مشكلات الفلسفة» حيث يقول: «أظن أن رينوفييه وقع في أخطاء، والرأي عندي أن طريقته إسكولاستيكية [أي مدرسية] إلى أقصى حد.»
36
وكان رينوفييه يفضل دائما كتاب «علم الأخلاق» من بين مؤلفاته جميعا؛ لأنه يرى نفسه أساسا فيلسوفا أخلاقيا، وبهذا يتضح أن لاحتميته لم تكن نزيهة بل مغرضة، إنها من أجل إزاحة معضل الأخلاق في العالم الحتمي.
على أن التالين لرينوفييه من هذا الفرع الوضعي النقدي، كانوا أكثر إخلاصا لقضية الحتمية واللاحتمية العلمية، بل وبصرف النظر عن ارتباطها بالحرية، فثمة جبرييل تارد (1843-1904)، الذي رفض متأثرا بكورنو تلك الحتمية التاريخية والاجتماعية والنفسية، بل وفي محاولته لجعل هذه العلوم عملية أكثر، دعا إلى تفسير ظواهرها بالتدخل العرضي لأفكار صغيرة، وثمة أيضا الشاعر بوكس بورل (روني الأكبر) الذي أخرج كتابه «الكثرية» أو «التعددية» ليفند الواحدية والحتمية وفكرة الضرورة المطلقة في القوانين، وليسهم إسهاما مفيدا في تعيين حدود العلم وتأكيد المصادفة والاحتمال واللاحتمية، وسيبقى الرياضي جول تانري (1848-1910) صاحب أفضل الأبحاث عن مشكلة حدود المعرفة العلمية، وقد أكد أنها ستظل دائما نسبية، واستحق تانري بجدارة لقب الخصم اللدود للحتمية العلمية والميكانيكية، ومثله الرياضي إميل بورل، الذي أخرج عام 1914 كتابه «المصادفة» يثبت فيه أن التفسير الميكانيكي غير كامل ولا بد من إكماله بتفسيرات إحصائية، ويأتي الرياضي جاستون مليو (1858-1918) لينزع - بتأثير بوترو - الحتمية عن قوانين الطبيعة، وخصوصا الحتمية السيكولوجية؛ لأنه يستحيل أن يقوم عليها برهان، أما أرتور هانكان (1856-1905) فقد كرس جهوده لإثبات أن الفرض الذري روح العلم وأساس كل العلوم، حتى الرياضة، وأن «المعرفة التي يعطينا إياها الفرض الذري لا تنطوي على دقة مطلقة، ولا يمكن أن تكون إلا معرفة تقريبية»
37
وبالتالي لا يمكن أن يكون العلم إلا لاحتميا. ••• (23) ألا ما أعظم هذه الحركة الفرنسية التي بوركت بثورة العلم اللاحتمية التالية لها مباشرة بل والموصولة بها، ولا شك أن دور هؤلاء الرياضيين الأجلاء كان جوهريا في فتح الطريق المظفر أمامها، وتنقيته من الشوائب الحتمية - لقد علمونا أن الحتمية العلمية ليست «تابو» الاقتراب منه حرام.
ولكن جهودهم كانت إبستمولوجية صرفة وهي أصلا - على حد تعبير بيري - محاولات «لتقليم أظافر العلم» بحيث يمكن استئناسه وتدجينه دون تعريض الروح للخطر
38
ولم يستطيعوا النفاذ من الإبستمولوجيا إلى الأنطولوجيا، بل وصل الأمر معهم إلى حد رفض أية دلالة أنطولوجية للعلم، وهو لهذا وربما لهذا فقط لاحتمي؛ لذا يمكن القول إن اللاحتمية معهم يحق عليها تفسير الحتميين الذاتي لها، لتكون نتيجة لعجز العقل عن الاقتراب من الواقع الأنطولوجي، وانحصاره عن نفسه، لقد أصبحوا ضامين لهنري بوانكاريه وبيير دوهيم، أي للفلسفة الاصطلاحية أو الأداتية في تفسير طبيعة العلم والتي لا بد وأن ننحيها جانبا؛ وذلك لأنها تصك على العلم ختام القوقعة الإبستمولوجية.
لقد ظلت الحرية معهم سابحة في الأجواء الإبستمولوجية بل والعقلانية الميتافيزيقية، ولست أراهم وقد استطاع أحد منهم إحراز هدفهم من جلب الحرية من النوميا الكانطية المفارقة إلى هذا العالم حقيقة، وهذا طبيعي طالما أن اللاحتمية العظيمة معهم ظلت إبستمولوجية فقط.
لقد كانت محاولاتهم الجادة لقهر معضلات الفلسفة الحتمية، وإزاحة واحديتها، وإرساء التعددية - خصوصا تعددية رينوفييه - وفي إزاحة وهم اليقين، وفي نقد الميكانيكية والنزعة الآلية، وفي نظريات الاحتمال ... إلخ، كانت هذه المحاولات عناصر أساسية في فلسفة اللاحتمية والحرية المعاصرة، ولكنهم كفلاسفة للحرية كانوا يحاولون تشييد لاحتمية فقط بالجهود الذاتية وبمنأى عن الواقع الأنطولوجي فلا كانت لاحتميتهم تلزم العلم، ولا كانت حريتهم تلزم الفلسفة.
هم على أية حال، خطوة واسعة على الطريق، وليس ينقص جهودهم الرائدة العظيمة إلا الاعتماد الرسمي لمبدأ اللاحتمية الكونية: أي اللاحتمية الأنطولوجية على أساس من اللاحتمية الإبستمولوجية، ذلك هو ما أحرزته ثورة العلم المعاصر بعد بضع سنين، أما بغير اللاحتمية الأنطولوجية فإما أن نصل إلى حرية بيرانية «نسبة إلى مين دي بيران» كحرية لاشيليه وفورييه، أي حرية في حقيقتها حتمية صارمة، وإما إلى حرية كانطية مفارقة كحرية رينوفييه الميتافيزيقية المجتثة الجذور بالواقع الأنطولوجي.
الفصل الخامس
نظريات الحرية في العالم اللاحتمي
(24) كفانا دورانا في الدائرة المفرغة أو نفخا في قربة مثقوبة، كما يقول العوام. المسألة أبسط من أن تستحق كل هذا سواء نظرنا من اليمين أو من اليسار، فلا حرية في العالم الحتمي. وإذا أردنا إثبات الحرية إثباتا متسقا مع العلم ومع العقل حتى ننفذ من طرفين كليهما مر: إما اللاحرية، وإما الانقسام على العلم والعقل وعلى النفس وعلى الواقع ... وإذا أردنا ذلك فإنه لا خروج البتة من بين طرفي أو قرني هذا المعضل، إلا بنفي أصلهما: نفي الحتمية الكونية.
بعبارة أخرى: لا حرية أنطولوجية إلا مع اللاحتمية، شريطة أن تكون لاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية في آن واحد، وليست لاحتمية إبستمولوجية فقط كتلك اللاحتمية الفرنسية.
ولكن، من أين وكيف نجيء بمثل هذه اللاحتمية؟ إنه الأمل المفقود مع العلم الحديث الكلاسيكي أو النيوتوني، والذي تحول إلى واقع أنطولوجي في العلم المعاصر ... علم النسبية والكوانتم، الحرية لا تأتي إتيانا حقيقيا إلا حين يكون الواقع أنطولوجيا لاحتميا، والعلم به إبستمولوجيا لاحتميا، فها هنا الحرية الحقيقية والحديث المشروع عنها، وعن كل أبعادها وإيجابياتها وعلى رأسها المسئولية الخلقية والجدة والإبداع.
لقد انتهى الفصل السابق بنهاية القرن التاسع عشر، معنى هذا، أنه يمكننا الآن أن نحط الرحال في القرن العشرين حيث نجد الطريق إلى الحرية الأنطولوجية معبدا ممهدا، إنه التمهيد الذي تكفل به تمهيد الكتاب أو المدخل الذي أوضح كيف انتقل العلم من الحتمية إلى اللاحتمية. ••• (25) سنستضيف الآن وطبعا بمزيد من الترحاب والتفصيل، أهم فلاسفة الحرية في العالم اللاحتمي، وتفرض طبائع الأمور أنهم فلاسفة القرن العشرين الآتي في إثر مد عقلي جعله يظفر باللاحتمية الأنطولوجية المؤسسة عقلانيا تأسيسا راسخا مكينا على لاحتمية إبستمولوجية، هذا حق ولكن ثمة طبيعة أخرى للأمور لا تقل حقيقية، وهي أنه لا شيء ينبت من فراغ والبحث عن الأصول التاريخية مهمة أساسية في كل بحث فلسفي متكامل.
وهذه على أية حال مهمة لن تصعب علينا؛ إذ نجدها في صفاء بلوري مع، وفقط مع، أبيقور وبصورة معجزة، حتى إن أساسها اللاحتمي يبهر العلماء المعاصرين، والحرية فيها واقعة أنطولوجية أكيدة، ولم يلق أبيقور إلا الاستخفاف والاستهانة إن لم نقل الازدراء، فقبع في زاوية مهملة من تاريخ الفلسفة وراحت الحرية في غياهب الليل الحتمي الطويل، والذي فصلنا الحديث عنه فيما سبق أيما تفصيل.
وبعد أبيقور نغادر الأصل التاريخي، لنقبل على إشراقة اللاحتمية في القرن العشرين، فيأتي أهم فلاسفة الحرية وليام جيمس المخضرم الذي عاش حياته في قلب مرحلة الانتقال من الحتمية إلى اللاحتمية العلمية، إنه فيلسوف عظيم وعالم في الوقت نفسه، أخلص للفلسفة إخلاصه للعلم، وأبدع فيها وأسدى إليها وأضاف إليها، حتى إنه بفضله قد أصبح ثمة أخيرا كيان مستقل ذو شخصية متميزة تماما ألا وهو الفلسفة الأمريكية؛ لكل هذه العوامل أوليته عناية كبيرة.
وبتوديع وليام جيمس، نتوجه إلى قلب القرن العشرين إلى عصر اللاحتمية، ولما كان العلم هو صاحب الفضل في هذه اللاحتمية، ولما كنا علميين نبحث عن الحرية من المنظور العلمي، ولما كنا قد أهملنا - إلى حد ما - العلماء خصوصا الفيزيائيين طوال حديثنا السالف عن الحرية وبعد أن تعاهدنا وتعاقدنا معهم في مقدمة البحث على أن يكون لهم حق الحديث أولا ونحن لا نريد أن ننسخ العقد ولا أن ننقض العهد ... لهذه العوامل سنعرض لنظريتين فلسفيتين للحرية في العالم اللاحتمي هما لعالمين فيزيائيين عظيمين، ذوي اهتمامات فلسفية لا تقل عظمة، إنهما آرثر إدنجتون وهولي كومتون، ثم نردف هذا بالنظرية العامة للحرية في العالم اللاحتمي، غير المقترنة بفيلسوف معين، إنها الاتجاه الفلسفي الموسوم باسم
Libertarianism
الذي وضعت له ترجمة لم أجد أفضل منها هي: مذهب الحريين، وقد تناولته بصورة واسعة بحيث لا يعود مذهبا أخلاقيا فحسب، بل مجرد اتجاه يعبر عن الاعتراف بالحرية في - وفقط في - العالم اللاحتمي، ويبدو هذا وكأنه مسلمة فلسفية أو أصل من أصول التفكير الفلسفي بغير الاقتران بأي اتجاه . ••• (26) «في الأبيقورية»: «تنحرف الذرة أيسر انحراف؛ لكي توجد الأجسام والكائنات الحية والمصادفة فلا تضيع إرادتنا الحرة» كما يقول بلوتارخ، وقد كان إمامها أبيقور
Epicurus (341-270ق.م.) أول فيلسوف في التاريخ حاول إدخال عنصر المصادفة الموضوعية في بنية الطبيعة؛ لكي يكسر الحتمية الفيزيقية والضرورة الكونية فيستطيع إثبات حرية الإنسان، فقد أدرك أولا الأهمية القصوى لمقولة الحرية، وأنها واقعة معاشة جياشة في الصدور، وأن أي «مذهب في فلسفة الأخلاق لا بد وأن يضع مصادرة حرية الإرادة كي ما يصبح فعالا»،
1
وأدرك ثانيا: «أننا لكي نصون حرية الإرادة لا بد وأن نقرها في صميم أساس العالم الفيزيقي»،
2
أدرك إذن الارتباط اللزومي بين الحرية الإنسانية وبين اللاحتمية الأنطولوجية فاستطاع أن يحل الإشكالية بفرض أسماه الانحراف الذري
Atomic Swerve ، وأبيقور بهذا الفرض، صاحب الفلسفة الطبيعية الوحيدة في الفكر القديم التي استطاعت الوصول إلى اللاحتمية فانحل معها معضل الحرية، وقد سبق أن استضفنا إمام الذرية ديموقريطس في المدخل إبان الحديث عن تاريخ الحتمية العلمية ورأينا مدى تمثيله المعجز لها، يبدو إذن أن الفلسفة الذرية الإغريقية بتمهيدها للعلم تحمل أكثر مما قد يبدو للوهلة الأولى، فتماما كما كان العلم الذري صاحب الفضل الأول في كسر الحتمية الفيزيقية التي ورثها عن العلم النيوتوني وذرية دالتون، نجد أن الذرية الهلينستية/ذرية أبيقور هي صاحبة الفضل في كسر الحتمية الفيزيقية التي ورثتها عن ذرية ديموقريطس والفلسفة القبل سقراطية، فهل يمكن أن نعتبر مبدأ الانحراف الذري لأبيقور مناظرا لمبدأ اللاحتمية في الفيزياء المعاصرة؟ ولم لا؟ لقد كان هذا الأخير أصلا من أجل النسق الفيزيائي إبستمولوجيا؛ فأدى تحققه الموضوعي إلى صورة أنطولوجية تحل معضل الحرية، وقد كان، الأول هكذا إلى حد ما، ولئن بدا لنا ساذجا فجا فلأنه في عصر فيه كانت الفيزياء بأسرها ساذجة وفجة، وكما أشارت الدكتورة أميرة مطر، أننا إذا نظرنا إليهم بمنظار عصرنا كنا أحق، ولكن لو نظرنا إليهم بمنظار عصرهم سنكون أعدل، وأردفت هذا بالدعاء: «رباه اكتبني من العادلين.» فلنكن عادلين وننظر إليهم بمنظار عصرهم.
والذي يهمنا الآن أن المشكلة المطروحة - وأيضا حلها - قد تراءت لأبيقور بوضوح ناصع، ولدرجة تمكننا من أن نعده رائدا لكل الفلاسفة المعاصرين المعنيين بهذا. ••• (27) وقد يفاجأ البعض بتخويل مثل هذه الريادة لأبيقور؛ لأنه فيلسوف شاهت صورته في نظر العامة حيث نجد الأبيقورية سبة ووصمة بالتسيب والانحلال، وقد يعود ذلك إلى حاقدين راموا الإساءة إليه، وعلى رأسهم تيموقريطس
Timocrates
الذي كان تلميذا له ثم طرده، فترك مدرسته حانقا عليه، وأيضا الرواقيون؛ فلأنهم خصومه الفلسفيون فقد عملوا على تأكيد أن فلسفة أبيقور ضعيفة فلسفيا ولاأخلاقية، فشاعت صورة خاطئة مفادها أن الأبيقورية فلسفة سطحية ومريضة لأنها تدعو إلى الإقبال على اللذة، والحق أنها ليست هكذا.
كل ما في الأمر أن أبيقور رفض قول أنتستيز الكلبي: «إني أوثر أن أبتلى بالجنون على أن أشعر باللذة.»
3
ورفض دعوة الكلبية بوأد الذات وتعذيب النفس بالحرمان والتقشف؛ لذلك تلحق الأبيقورية عادة بمربع الذين يناهضون الكلبية، أي قورنائية أريستبوس، والحق أن المدرسة القورنائية هي التي لها فعلا هذا الشأن، شأن الفلسفة السطحية المريضة التي تدعو للرثاء؛ لأن مفهوم الحياة عندهم تقلص في اللذة الحسية الوقتية، ووظيفة الفلسفة تركزت في الدعوى إلى الإقبال الشبقي عليها.
أما الأبيقورية فبعيدة عن هذا، إنها فلسفة مستنيرة متبصرة، لم تر التمتع بطيب الحياة مستحقا في حد ذاته للعداء، بل فقط للتنظيم والمفاضلة، صحيح أن أبيقور قد أقر باللذة الحسية؛ لأن الإنسان كالحيوان من حيث إنه بفطرته يتجنب الألم ويطلب اللذة، وإن استخدم عقله في هذا، وإنه اعتبر كل لذة خيرا ما لم تقترن بألم، إلا أن أبيقور قد توخى اللذة التي تدوم، أي دعا إلى الحياة السعيدة، فرأى أن يحرص الإنسان على ألا تستعبده رغبة شخصية أو لذة فردية وأوجب أن يسيطر على شهواته ويتحكم في أهوائه، وآثر اللذات الروحية والعقلية على لذات الحس، وزاد فرفع الصداقة وحب البشر والتسامح فدعا إلى حسن معاملة الرقيق، وأوصى بعتق جميع عبيده، وعلم عبده موسى
Mouse
الفلسفة، حتى برز فيها فأعتقه، تسامحه النفسي هذا جعل العبيد ينضمون لمدرسته بل وحتى الغواني، فتمكن خصومه من التشهير به، بأنه يرافقهن.
لقد وضع صورة للحكيم الأبيقوري وهو يتطلع إلى حالة الأتراكسيا: أي حالة الخلو من الألم والسعادة المتصلة والطمأنينة الدائمة، مستمدا إياهما من باطن نفسه، ومستخفا بالظروف الخارجية حتى ولو كان - بتعبير أبيقور - فوق آلة التعذيب، وحريصا على البشاشة والبساطة والاعتدال والتعفف،
4
وأيضا حريصا على الإقلاع عن اللذات الكمالية، فقد قسم أبيقور اللذات الحسية إلى: ما هو طبيعي وضروري كالأكل، وما هو طبيعي وليس ضروريا كاللذة الجنسية، ثم ما هو لا طبيعي ولا ضروري كالرغبة في مأكل أو ملبس معين وهذه ينبغي الزهد فيها،
5
والزهد أيضا في المال والصيت والطموح وكل ما من شأنه أن يجلب الهموم، كالزواج والمناصب السياسية.
6
وعلى هذا النحو كانت دعوة أبيقور للإقبال على الحياة متبصرة ومعقولة بل ولا تخلو من عنصر الزهد، ثم إنه هو نفسه كان رجلا فاضلا متعففا بأتم ما في الكلمة من معان، أخذ على نفسه بالزهد في المأكل والملبس ولم يتخذ زوجة، وكان يقنع بالخبز الجاف والماء، وكتب إلى صديق له يطلب قطعة جبن حتى يجد مأكلا حسنا حين يتوق إلى ذلك، عذبه المرض طويلا فاحتمله برباطة جأش وصبر؛ لهذا أقامت له مدينته عشرين تمثالا من البرونز، وأكد ديوجين - المؤرخ الثقة لسير الفلاسفة القدامى - أن التهم التي وجهت له كاذبة،
7
إنه بحق الفيلسوف المفترى عليه.
وثمة سبب قوي واحد لذلك التشهير الذي لحق به، هو إصراره على التخلص من الآلهة، وسلبها أية قدرة على توجيه العالم والحياة الإنسانية؛ لذلك لقبه رجال الكنيسة منذ بلوتارخ وحتى لوثر بلقب: الفيلسوف الملحد بالمعنى الآثم،
8
وساعدوا على إذكاء هذا التشهير طوال العصور الوسطى. ••• (28) ولكن حتى في هذا لو تلمسنا طبيعة العصر وطبيعة الديانات وطبيعة الفلسفة في عهد أبيقور لتمكنا من ناحية أن نلتمس العذر له، ومن الناحية الأخرى الدخول في جوهر ما يعنينا من فلسفته، وهو بالطبع ليس الدفاع عن شخصه، وإنما عن رؤيته المتكاملة للمشكلة القائمة بين الحتمية الكونية والحرية وعن التلازم القائم بين اللاحتمية والحرية.
فقد كان العصر الهلينستي عصرا هائجا مضطربا، تميز بانعدام الأمن والعنف والقلق، فالتمس الناس الخلاص في عبادة آلهة الحظ والبخت (التوخا والفوتونا)، وأصبح الباعث على التفلسف الرغبة في الهروب من متاعب الحياة وشرورها؛ لذلك أراد أبيقور نفي الآلهة لما تثيره من مخاوف كمفاجآت القدر وتوجس الحساب والعقاب، ولكيلا توجد قوة تضمر للإنسان شرا ولا خيرا فتثير قلقه.
ومن أجل هذا عمد أبيقور إلى تفسير الكون تفسيرا ماديا محضا باستبعاد الآلهة، فتصبح «الطبيعة حرة تسير من تلقاء نفسها بلا سادة متحكمين وفي غير حاجة لمعونة الآلهة»،
9
واستبعد أيضا الغائية والعلة الخارجية من كل شيء حتى من تفسير نشأة الحياة وتطور الكائنات الحية فرأى أنها نشأت على الأرض، بحيث بقي منها الأصلح واندثر غير الصالح،
10
إن الكون في رؤية أبيقور مادة خالصة، وكل شيء فيه مادي، له علة مادية وأقر بأن المجموع الكلي للأشياء لا يزداد بإضافات جديدة، وأن كم المادة لا ينقص بخسارة مطلقة، فالشيء المنفرد لا يتحطم نهائيا بل ينحل إلى الذرات المكونة له، وهذه هي الفكرة المعروفة حديثا باسم مبدأ بقاء المادة.
11
ولتشييد مثل هذه الفلسفة المادية، استفاد أبيقور من مادية الأيونيين،
12
وأخذ بذرية ديموقريطس القائلة إن الكون يتكون أساسا من عنصرين: الذرات والخلاء، وكل الموجودات الأخرى مركبة منهما فانتهى إلى أن الكون أزلي فلا يوجد شيء من العدم ولا ينتهي شيء إلى العدم، وأن هناك عددا لا نهائيا من الأكوان تتكون وتفنى من عدد لا نهائي من الذرات المتحركة في خلاء لا نهائي،
13
وعلى الرغم من أن الذرات جميعها في حركة دائمة فإن مجموعها يبدو وكأنه يقف بلا حركة، وهي تبدو لنا هكذا لأن الذرات تقع بعيدا عن مدى حواسنا،
14
وهي لهذا مجردة في حد ذاتها من كل الصفات الحسية، مجردة من لون وحرارة أو برودة وأصوات أو روائح أو طعوم؛ على ذلك فما يبدو محسوسا هو في حقيقته لا يعدو أن يكون مكونا من ذرات غير محسوسة،
15
الخاصة الوحيدة التي ينسبها أبيقور إلى الذرات هي الثقل والوزن.
وإذا كان من المستحيل الشك في الوجود الحقيقي للروح
Soul
فينا وفي الآخرين، فإن أبيقور لم يدع هذا يخل بماديته، فاستهل أبحاثه بتقرير أن الروح جسد، وافترض أنها مثلها مثل كل الموجودات الأخرى مركبة من الذرات والخلاء، ووضع خطوطا مادية للتفسيرات السيكولوجية وتفسير الإحساس، وزاد شارحه لوكريتوس بتوضيح أن الروح تبعث الحركة في الأطراف، وهذا لا يمكن أن يحدث بغير اتصال، والاتصال يتضمن جسدا، والروح أيضا تعاني مع الجسد، على كل هذا يجب أن تكون الروح ذات طبيعة جسدية أو مادية، ووصل أبيقور لذروة التفسير المادي باستنتاج أن الروح تفنى مع الجسد، فما دامت الروح مجرد مركب ذري، فلا بد وأنها كالجسد تماما تفنى، ولا يمكن أن يكون لها وجود من أي نوع بعد الموت.
16
هكذا لم يصعب على الأبيقورية تفسير الروح أو النفس تفسيرا ماديا، ولا هي ابتدعت بدعة في هذا؛ ذلك لأن ثمة «فكرة خاطئة سادت الفكر القديم ولا تزال عالقة باللغة حتى اليوم»، وهي أن النفس هي النفس (من التنفس) فكانت سائر الكلمات القديمة التي أطلقت على النفس تعني في أصلها الهواء أو التنفس، كما هو الوضع في اللغة السنسكريتية، والذرية القديمة لها أصل هندي، وفي اللغة العربية، وأيضا في الإنجليزية الحديثة كلمة
Expire
تعني يزفر الهواء، وتعني أيضا يسلم الروح، ولما كان هذا النفس هواء وكان الهواء مكونا من ذرات فإن النفس مكونة من ذرات.
17
على أن الفكرة الإغريقية عن الروح كانت واسعة وشاملة إنها تتضمن من ناحية عنصرا لاعقلانيا هو روح المبدأ الحيوي الذي يهب الجسم الحياة وهو مكمن الانفعالات السلبية واللاعقلية التي تصنف معا تحت اسم الإحساسات، ومن الناحية الأخرى تتضمن الروح مبدأ عقلانيا هو الذهن مكمن الحركات الفعالة للتفكير والإرادة، معظم الفلاسفة قد فرقوا بين هذين الجزأين أو الجانبين، على الأقل من الناحية النظرية، وأبيقور بدوره قد فعل هذا بتوضيحه أن الروح منفعلة وفعالة بقدرتين تملكهما، هما التفكير والإرادة، وبالنسبة للتفكير قد أثبت أبيقور أنه حركة في الذهن تخلق صورا جديدة بواسطة الربط والمقارنة بين الصور السابقة الموجودة ومادة الموضوع
Subject Matter - أي موضوع التفكير، وهي مختلفة عن مادة موضوع الظن
Opinion
لأن الظن لا يعنى بتفسير معطيات الحس، بل عليه أن يخلق معطياته الخاصة.
والعقل الفعال له وظائف أخرى غير التفكير، فهو موضوع لعواطف الفرح والخوف والحب والكراهية، وكلها تنشأ عن العقل الكائن في الصدر، وتتميز هذه العواطف المركبة عن العواطف السلبية المنفعلة - وهي اللذة والألم - بأن هذه الأخيرة موضوع للحس الفوري والموضعي.
18
ولكن الأبيقورية تمسكت بما لم يره ديموقريطس رائد الذرية الإغريقية، تمسكت بأن الذرات تسقط بحركة أبدية عبر المكان اللامتناهي، هذا في حين أن ديمقريطس نفى الثقل عن الذرات، ولم يعين الذريون القدامى اتجاها لحركتها، فلم يروا في الوزن خاصية أساسية لها، الخاصية الأساسية هي فقط الحركة الأبدية، أما الوزن والحجم والشكل فمجرد خصائص ثانوية، على أن الأبيقورية قد استنتجت أن الذرات ذات ثقل، وحركتها في خطوط مستقيمة متوازية من أعلى إلى أسفل «فنشأت معها مشكلة لم تنشأ في الذرية القديمة، وهي كيفية تفسير تلاقي الذرات لتتكون الأشياء».
19
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى نجد أن المادية الأيونية والقبل سقراطية على العموم، والذرية الديموقريطية على أخص الخصوص قد أفضت إلى حتمية كونية لا سبيل إلى الخروج منها، وفي هذا يقول أبيقور: «أن نتبع أساطير الآلهة، أفضل من أن نصبح عبيدا لقدر الفلاسفة الطبيعيين.»
20
لقد شعر بخطورة الحتمية الكونية على الحرية الإنسانية، والتي لم يشعر بها ديموقريطس؛ حيث إنه - كما يقول سبريل بيلي - لا يترك في مجال الأخلاق آثارا تدل على أنه قد أدرك متضمنات نظريته الفيزيائية التي تأخذ بصرامة العلية والضرورة، من حيث إنها تؤدي على التو إلى الصراع بين الحتمية وبين الإرادة.
21
راح ديموقريطس بكل حتميته الصارمة ينادي في فلسفته الأخلاقية بحرية الإرادة والفعل ومسئولية الفاعل، فكأنه بهذه الشيزوفرينيا يكمل تمثيله لأصول الفكر العلمي الحتمي بجملة مزاياه ومآسيه.
هذا بينما حقق أبيقور - أو حرص على أن يحقق - التكامل والاتساق المفروض بين أرجاء النظرة الفلسفية، حين أراد أن يصون الحرية في عالم يبدو كنتيجة محتومة لقوانين العلة والمعلول، فجعل نظريته الفيزيائية ونظريته الأخلاقية واحدة واحدة تفسر كل منهما الأخرى، وذلك بأن أرسى في أسس العالم الفيزيقي عنصر التلقائية والمصادفة، الذي يجب أن نعتبره استثناء، بل رفضا للعلية الصارمة ولحتمية القوانين الطبيعية. ••• (29) «وكان سبيله إلى هذا مبدأ الانحراف الذري»: انحراف الذرات وميلها عن مساراتها، إنه مبدأ يفسح المجال للحرية الإنسانية، وهو أصلا يحل المشكلة الفيزيقية البحتة، مشكلة التقاء الذرات.
أما عن المشكلة الفيزيقية، فإن الذرات تنحرف لكي تتلاقى، ولولا هذا الانحراف غير المعين أو اللاحتمي لظلت الذرات إلى الأبد في خطوطها المستقيمة إلى أسفل عبر المكان الفارغ، ولن تتجمع في أشياء، وبالتالي ما كانت الطبيعة لتخلق أي شيء
22
على هذا فالحركة الطليقة للذرات والتي لم تتراء لديموقريطس، يحدث فيها انحراف أو ميل، فطالما أنها تسقط إلى الخلاء في أوقات لامحتمة
Undetermined
فإنها تندفع قليلا عن مسارها، مما يجعلها تغير اتجاهها، وهذا الميل أو التغيير في الاتجاه يسبب تصادما مع ذرات أخرى، فيتغير اتجاهها لهذا التصادم، والمحصلة الفورية هي اضطراب حركة الذرات في كل مكان، فينشأ عن هذا اتحادها في مركبات وتكوين العالم الفيزيقي المحسوس.
هكذا حل المبدأ المشكلة الفيزيائية، ولكن كيف حل مشكلة أو معضل الحرية؟ لقد حلها كالآتي: العقل مرتكز في الصدر على شكل مجموع الذرات اللطيفة
Fine atoms
التي تكونه، ومثلها تلك التي تنتشر خلال الجسم مكونة المبدأ الحيوي (نلاحظ الجمع بين مبدأي الروح الإغريقية).
23
ومجموع الذرات اللطيفة (الذهن) يوجهه الخيال إلى الحركة، سواء أتى هذا التخيل من أشياء خارجية أو أثاره توقع في الذهن ذاته، ولنفترض أنني في هذه اللحظة قد أتت أمام ذهني صورة لنفسي سائرا، فطالما أن ذرات الذهن نفسها قد أثيرت فسوف يتحرك المبدأ الحيوي وستتحرك ذرات الجسد بدورها؛ وبالتالي أسير، ولكن قبل أن يحدث كل هذا ثمة عملية أخرى لا بد وأن تحتل مكانها، إنها عملية الاختيار الإرادي الحر، فصورة السير في حد ذاتها لا تحرك الذرات حتى أسير، فقد أقبلها وقد أرفضها فأقرر أن أسير أو لا أسير، فكيف نفسر عملية الاختيار الحر هذه بخطوط مادية بحتة؟ يجيب أبيقور عن طريق انحراف الذرات اللطيفة التي تكون الذهن، والحركة العرضية اللاحتمية للذرات المفردة في الخلاء هي التركيب الواعي للذهن، والذي يترجم إلى فعل إرادي مقصود.
24
ولنلاحظ أن الانحراف الذري حركة تلقائية محض ميكانيكية، يمكن أن تقوم به أية ذرة في أي مكان، وفي أية لحظة؛ لذلك ففي مجموع
Aggregate
ذرات الروح يحدث الانحراف الذري كنتيجة للإرادة الواعية، ولكن لم يفترض أبيقور أي وعي أو إرادة حرة في انحراف الذرة المنفردة، ولو كان قد فعل لكان قد نقض الأسس المادية لمذهبه نقضا بينا؛ لأنه كان سيقحم عنصرا فائقا للطبيعة في حركة أبسط أشكال المادة، ولكنه لم يفترض حتى أي إحساس في الذرة، وانحراف الذرات المنفردة ليس واعيا على الإطلاق، إنه على وجه الدقة حرية ميكانيكية تناظر الحرية النفسية للإرادة.
25
ولسنا الآن بإزاء أية قوى خارجية، بل فقط صميم الصورة الأنطولوجية التي رسمتها الفيزياء الأبيقورية للعالم، والتي حافظت على أبعاد فلسفته المادية، وحققت هدفها في نفي كل ما يثير المتاعب، ثم استطاعت إفساح المجال لحرية الإنسان، لقد حل أبيقور المشكلة الفيزيقية ومعضل الحرية بتحطيم الحتمية عن طريق افتراض اللاتعين والمصادفة في الانحراف غير المتوقع، أي عن طريق اللاحتمية، أفليس لنا الحق في أن نعده الرائد؟! ••• (30) وبعد أبيقور نجد تابعه الوفي الشاعر الروماني تيتوس لوكريتوس كاروس (99-55ق.م.) الذي وجد في فلسفة أبيقور اقتناعه العقلي التام، وطمأنينة نفسه المضناة بنوبات الجنون، فتعهد بعرضها عرضا خلابا، ودافع عنها بحماس وكال لها وعلى خصومها الحجج والأسانيد، وذلك في قصيدة خالدة من الشعر اللاتيني العذب بعنوان «في طبائع الكون» أو في طبائع الأشياء (وثمة ترجمة إنجليزية جيدة لها واردة في الهامش)، تعد المرجع الأول للمدرسة الأبيقورية، وفي الآن نفسه تعطينا أكمل صورة يمكن أن يعطيها الفكر القديم بظروفه المعرفية الضحلة لمبدأ اللاحتمية ولكيفية حله لمعضلة الحرية.
كانت الحتمية عند لوكريتوس أعمق من فرض الانحراف الذري؛ فقد رسم صورة أبيقورية للوجود تجعله تعدديا والعرضية صفة قائمة في صلبه وأحداثه، ومن ثم فكل الأحداث في هذا الكون عرضية ولا ضرورة إلا للجسم والمكان، أو للذرة والخلاء، وهذه العرضية تستبعد الآلهة والشياطين والغائية عن العملية الطبيعية الحرة، فتؤكد طبيعة الوجود؛ لأنها لاحتمية، الحرية الكائنة في الصدور، يقول لوكريتوس: «لو كانت كل حركة دائما مرتبطة ارتباطا داخليا بغيرها، وكانت الحركة الجديدة تنشأ عن الحركة القديمة في نظام محتم، وكانت الذرات لا تنحرف أبدا لتنشأ عنها حركة جديدة تنفصم معها قيود القدر والسلسلة الأبدية للعلة والمعلول، فما هو إذن مصدر حرية الإرادة التي تملكها الأحياء على هذه الأرض؟ وإني لأعيد القول: ما هو مصدر قوة الإرادة المنتزعة من الأقدار والتي تجعلنا نخرج عن سبيل مقرر أو نتبع سبيلا في مكان وزمان لامحتمين؟ لا ريب أنه في مثل هذه الأحداث تصدر حركات الأطراف عن إرادة الفرد.»
26
على الإجمال عرف لوكريتوس كيف يأتينا بلاحتمية فيزيائية، إبستمولوجية وأنطولوجية ينحل معها مأزق الحرية، بيد أن كل ما قاله لوكريتوس أولا وأخيرا لا يعدو أن يكون الفلسفة الأبيقورية وإن كانت متبلورة ومدعمة.
مرة أخرى أوليس لنا الحق في أن نعد أبيقور الرائد؟! ••• (31) أحسب أن لنا هذا الحق على الرغم من النقد الوبيل الذي انهال من الأقدمين والمحدثين على أبيقور وعلى مبدأ الانحراف الذري.
فهذا جون بيرنت يندد بالأبيقوريين بسبب ضحالتهم الفلسفية وافتقارهم للأصالة والسمة العلمية؛ مما جعلهم لم يتمكنوا من استغلال الأيونية استغلالا سليما، وأنهم لم يعنوا بدراسة الرجل الذي يدينون له بالكثير - أي ديمقريطس - لأنهم كانوا نافرين من الدراسة الجادة من أي نوع، وربما لم يعتنوا حتى بنسخ كتاباته؛ لأنها أعظم بينة على الافتقار للأصالة الذي يميز مذهبهم.
27
ونعترض على هذا؛ أولا: لأنه الافتقار إلى الأصالة وإلى السمة العلمية الحقيقية شامل لكل هذا العصر الهلينستي الذي اختفت من فلسفته الروح العلمية الخالصة والرغبة في طلب الحقيقة لذاتها، فكيف نطالب أبيقور بالذات بالشذوذ عن روح العصر الذي أنجبه؟ - ولنتذكر دعاء د. أميرة مطر العذب: «رباه اكتبني من العادلين.» - وماركس نفسه قد أخطأ حين قال دفاعا عن أبيقور إنه حاول تنوير أذهان معاصريه؛ وذلك لأن المسائل الذهنية برمتها لم تكن مطروحة في هذا العصر ولم تكن الفلسفة هادفة للوعي والتنوير، بل لمعاونة الإنسان على تحقيق السعادة السلبية، وهذا ما هدف إليه أبيقور، وكرس له جهوده، وقد استطاعه عن طريق معالجته الشاملة، لما أسماه بحالة الأتراكسيا
Atraxia .
لا شك أن ديموقريطس ذو أصالة فكرية ونزعة علمية أرجح من أبيقور، ولا شك أيضا أن أبيقور من نواح عديدة كان مجبرا على تبسيط الصعوبات، ولكن هذا الحكم لا ينبغي تعميمه وإطلاقه فثمة تحفظات معينة؛ أهمها شيزوفرينية ديموقريطس في مقابل نجاح أبيقور في تحقيق أبسط بسائط التفلسف - بغض النظر عن ظروف أي عصر - أي تكامل واتساق المذهب وبواسطة فرض الانحراف الذي الذي ابتدعه ابتداعا.
ولئن انهال القدامى بالنقد على هذا الفرض فلنتذكر ما أثبته المدخل من صعوبة استقبال وقبول القدامى لمبدأ اللاحتمية، فقد أسماه شيشرون «الاختراع الصبياني السخيف»، ورأوا فيه تخليا من أبيقور عن موقعه الذري، تخليا غير محترم لأن هذه الحركة الطليقة للذرات تعارض قوانين الطبيعة التي يقوم عليها مذهبه، وهي خرق واضح لمبدئه الأول: لا شيء يخلق من لا شيء، ولقوانين العلة والمعلول؛ إذ إنه يقر بقوة أننا لا نستطيع أن نضع للانحراف الذري علة.
وهذا يعني أن ذلك الانحراف مقحم على بنائه الفيزيائي بغير علة على وجه الإطلاق،
28
أما إذا قلنا إن الذرات من طبيعتها أن تنحرف، فكأننا وضعنا الطبيعة بدلا من إله الآلة
Deux de Machina
29
الذي يأتي فجأة ليفعل ما لا يستطيع سواه أن يفعله،
30
فيحل المشكلة في التراجيديا الإغريقية، ومعنى هذا أن أبيقور حاول أن يتخلص من الحتمية العلمية فأتانا بجبرية دينية!
فهل هذا صحيح؟ وهل حقا أن انحراف الذرات وافتراض اللاحتمية مبدأ أقحمه أبيقور إقحاما؟ إن الإجابة عن هذا بالنفي، فلو عاودنا مراجعة الصفحات السابقة لوجدنا الانحراف الذري في صلب نظرية أبيقور الفيزيقية، وفي الآن نفسه صلب حله لمعضل الحرية، بحيث إنهما يدوران معا وجودا وعدما، فكيف يكون مقحما؟ وكما يقول سيريل بيلي: «أبدا لم يعتبر أبيقور مبدأ الانحراف الذري نقطة ضعف، بل اعتبره ذا أهمية أساسية في مذهبه، وليس في الأمر أي جبرية أو ما يشبه إله الآلة؛ إذ يقول الفيلسوف الفرنسي جان ماري جويو
Jeau Marit Guyau (1854-1888) إن ذلك الانحراف الذري في الطبيعة اللاعضوية - والذي هو المصادفة والعرضية - يهتك الضرورة الحتمية الصارمة في العالم الحي واللاحي على السواء، وبغير أن يعاود تقديم عنصر المعجزة الذي كان هم أبيقور الأول إبعاده؛ لأن المعجزة تتضمن فعل قوى خارجية تعوق القوانين الطبيعية وتغيرها.
31
فضلا عن هذا يجب أن ننتبه إلى طبيعة العلة وطبيعة المصادفة عند أبيقور، فصحيح أنه مثل ديمقريطس يجعل مبدأ العلية والدوام
نقطة البداية، فلا شيء يخلق من العدم أو من اللاشيء، ولكنه خلافا لديمقريطس - ولننتبه إلى هذا - لا يجعل افتراض العلية في سلطة المركز الذي يدعم بقية الفروض، بل يدعمه بحجة، ها هنا نعالج المدرك والقابل للإدراك على حد سواء، فالمشكلة كلية ولا يمكن أن تعالج مباشرة بالحواس ولكن علينا أن نسأل ما إذا كانت الحواس تعطينا أية شارة لتدعيم مبدأ العلية أم أنها تناقضه. ويجد أبيقور هذه الإشارة في النشأة المنظمة للأشياء في العالم المدرك، فلا شيء يخلق من العدم؛ لأنه إذا أمكن هذا لأمكن أن يخلق كل شيء بغير احتياج للبذور،
32
أي للذرات، ومن شأن هذا أن يهدم مادية أبيقور الصارمة، على هذا نلاحظ أن العلية تزحزحت كثيرا عن هيلمانها الديموقراطي.
أما عن المصادفة، فقد اعتبرها أبيقور مجرد علة غير معينة تحكم فقط أشياء معينة في العالم، وهي أشياء مشتتة ومتباعدة عن بعضها،
33
وهي بهذا تختلف عن تلقائية حركة الدوامة عند ديمقريطس من حيث إنها أصل كل شيء، فلا تكون المصادفة مقحمة لحل مشكلة الحرية، بل هي مصادرة أساسية لفلسفة آلت على نفسها أن تمزق جدران الحتمية.
يقول جان فال إن الكثيرين قد دأبوا على الإطاحة بنظرية أبيقور في الحرية، على أساس أن المصادفة حين يتم تحليلها أو يتحقق العلم الشامل بظروفها سوف تختفي، ثم إنها ترجع في النهاية كما أثبت أرسطو إلى عمل علل آلية، وكل ما في الأمر أنها علل مجهولة،
34
وهذا الأساس المزعوم لا يعدو أن يكون حيلة الحتميين البائدة في مواجهة كل مصادفة واحتمال ولاحتمية بالتفسير الذاتي، أي بالإرجاع إلى جهل الذات عن إدراك العلل المحتمة.
وبهذا تتبلور حقيقة كل النقد السالف لأبيقور: إنه يدور في متاهات الحتمية، وعجز عن الخروج من بين قضبانها، التي ترين على صدورهم وعقولهم، بينما استطاع أبيقور أن يقوضها منذ أكثر من ألفين من السنين؛ ولهذا فقط - أي لأنه فيلسوف اللاحتمية - استضفناه على الرحب والسعة، ومن غير المعقول أن نستمر في الدوران حول الحتمية بعد كل ما بذلناه في الفصول السابقة.
بالتحرر التام من وثن الحتمية ننتهي إلى أن مبدأ الانحراف الذري، صورة الأبيقورية، غير مقحم على فلسفته بل متسق معها واتسقت هي معه، فهو مصادرة أساسية لها إما عن المبدأ في حد ذاته من حيث كونه بلا بينة أو برهان مقنع، ففي الرد على هذا نسأل: لماذا ندعي أن الذرات تتحرك أصلا وأن من طبيعتها تلك الدوامة التي قال بها ديمقريطس؟ وليس ثمة ضرورة في تكون حركة الذرات مستقيمة ولا حتى ثمة براهين على هذه الاستقامة والتي لم يعترض عليها أحد في حد ذاتها، فلماذا يعترضون على الانحراف الذري؟ ولماذا لا يكون كالحركة نفسها، أي مبررة بغير علة؟ وما الفارق بينه بين قول الرواقيين مثلا إن كل الأشياء تتجه نحو المركز؟ وبالمناسبة، لوكريتوس ما فاته الدحض التام لأمثال هذه المبادئ المناقضة لفيزيائهم،
35
إن الانحراف الذري فرض ناجح متسق لا يستحق كل هذا الهجوم، ما لم يكن الهجوم نابعا من أن المبدأ يخل بالحتمية المقدسة، أي ينادي بلاحتمية!
وأخيرا، إذا كان شيشرون يراه اختراعا صبيانيا، فإن علماء وفلاسفة علم معاصرين لهم رأي مناقض؛ فقد لاحظوا أنه قبل روبرت براون بتسعة عشر قرنا كانت صورة الحركة الجزيئية التي اكتشفها «الحركة البراونية» قد رسمها من قبل خيال لوكريتوس، في قصيدته الخالدة بالتفصيل،
36
وهم يبدون دهشتهم من مدى حصافة فرض الانحراف الذري، وكان إدنجتون قد أوضح أن الكون، لا يكون في حالة توازن ثابت من حيث إن أبسط اضطراب يحدث فيه يؤدي إلى بدء حركة تتمدد وتفضي إلى التطور الذي يدوم اثني عشر ألف مليون من السنين، كما تقول قوانين الفيزياء الفلكية. وبعد فترة التطور يصل الكون مرة أخرى إلى حالة التوازن، ولكنه يكون ميتا؛ نظرا إلى التدهور الميكانيكي الحراري، وهذا معناه أن التوازن ثابت وأن الاضطرابات البسيطة لا تؤدي إلى تغيير هام في الكوزموس اللاحتمي، وكما يقول رايشنباخ: «الواقع أن هذه الصورة مشابهة إلى حد يدعو إلى الدهشة لنظرية ديمقريطس
37
وأبيقور في الذرات التي ظلت تتحرك بانتظام في الفضاء زمانا لا متناهيا حتى حدث اضطراب بسيط أدى عن طريق سلسلة من ردود الأفعال إلى تحويل الحركة المنتظمة إلى خليط مضطرب، تطورت منه التركيبات المعقدة لعالمنا، ويبدو أن الفيزياء القائلة باللاتحدد تقبل افتراض أبيقور الذي يقول بحدوث اضطراب بسيط لا سبب له، وهو الافتراض الذي قوبل في كثير من الأحيان بهجوم من أنصار الحتمية الدقيقة.»
38
لم نغال إذا حين قلنا إن فرض الانحراف الذري ممهد أو مناظر للاحتمية في العلم المعاصر.
وطالما اعتمدنا من أبيقور الأساس الأنطولوجي أي اللاحتمية فإن معضل الحرية ينحل من تلقاء نفسه كما اتفقنا وكما بينت نظرية أبيقور. ••• (32) «وليام جيمس»: لأن المفكر الأمريكي وليام جيمس
William James (1842-1910) فيلسوف حق وفي الآن نفسه عالم متمكن من العلوم الطبيعية بالإنسان: الفسيولوجيا، فإن نظرية الحرية جاءت معه لتمثل تقدما وانفراجا ملحوظا للأزمة المستعصية،
39
فقد ارتكزت على لاحتمية فلسفية أنطولوجية واثقة وعنيدة، ثم حتمية علمية متقلصة إلى الحد الأدنى الميثودولوجي الصرف كمحض فرض تنظيمي للوقائع بأضيق المعاني المنهجية التي لا ضرر منها ولا ضرار على المشكلة الأنطولوجية أو حتى الإبستمولوجية، فاقتربت الحرية معه كثيرا من الصورة المنشودة دوما ولا طائل، وإذا تذكرنا فلاسفة الحرية الفرنسيين بدا واضحا كيف جاءت نظرية الحرية مع جيمس متأصلة في بنية هذا الوجود ومتسقة معه، ومكملة له.
البرجماتية هي منهاج جيمس، فأمدته بمنهاج إقامة الدعوى بالحرية، وهو منهاج لتحسين هذا العالم وتقليص نطاق الشر فيه، والتعددية، الرافضة جدا للواحدية، هي هندسة بنائه الأنطولوجي اللاحتمي حتى الصميم والذي شمل العالم كله، فلا مجال لنفي الحرية، وتنغلق متاهات المطلق والشيء في ذاته والنومينا ... وتغدو الحرية واقعة كائنة في صميم العالم، أما التجريبية الراديكالية فهي التي أعطت جيمس مادة هذا البناء فوجد فيها مادة اللاحتمية والحرية.
هكذا كان جيمس في طليعة أنصار الحرية، وفي طليعة أنصار اللاحتمية، بيد أن لاحتميته ما كانت ترقيعا لإيمانه بالحرية، ولا كانت الحرية ترقيعا لإيمانه باللاحتمية، فقد «كانت فلسفته دائما مجموعة وثيقة التركيب من المعتقدات التي وفقت بينه وبين الحياة، والتي نادى بها ودعا إليها، كما يبشر صاحب الدعوى بسبيل الخلاص»،
40
وسنلاحظ فيما يلي كيف تتكاتف وتتجادل جوانب فلسفته، لتأتي بهدفنا الأول، أي إثبات الحرية الأنطولوجية للإنسان طالما أن العالم لاحتمي، ثم الهدف الأبعد والمترتب على هذا، في القضاء على ثنائيات الشيزوفرينيا التي أتت من استحالة إثبات الحرية في العالم الحتمي. ••• (33) وقد كان لجيمس أسفاره العديدة، وصلاته الشخصية الحميمة ومراسلاته مع أقطاب الفكر في عصره، ولكننا نجد شتاء (1872-1873) فصلا هاما في حياته كمعلم، وبدء تراسله مع شارل رينوفييه أعظم المؤثرين عليه بلا جدال، منه تعلم التعددية وكان ذروة ما أخذه منه، بعد أن أتم قراءة الجزء الأول من محاولاته، هو ما سجله في مذكراته اليومية بتاريخ 30 إبريل 1870: «أول عمل لي من أعمال الإرادة الحرة هو أني سأؤمن بالإرادة الحرة».
41
من الناحية الأخرى، استفاد جيمس من علاقته بتشارلز ساندرز بيرس
Ch. S. Pierce (1839-1914)، وهو في طليعة فلاسفة العلم التقدميين المنشقين على عقيدة الحتمية العلمية انشقاقا بائنا، من منظور قضية الحتمية واللاحتمية العلمية يعد بيرس أعظم فيلسوف علم لأنه الوحيد الذي تفرد بالإقرار باللاحتمية العلمية - إبستمولوجيا، مع الاعتراف بصدق نظرية نيوتن، وبغير أن أو قبل أن يتسلح بانهيار الميكانيكية الكلاسيكية؛ لأنه لم يدرك زمانيا نظرية الكوانتم، وتبوءها السيادة في الفترة 1925-1927، ولأن بيرس بلاحتميته كان سباقا لعصره، فإن معاصريه لم يهتموا به وكان الإهمال والغبن الذي لاقاه في حياته أمثولة.
في عام 1892 جاهر بيرس بأن نظرية نيوتن حتى ولو كانت صادقة فإنها لا تعطينا أي مبرر للاعتقاد في الحتمية الشاملة، لقد اعتقد مع كل الفيزيائيين في عصره أن العالم ساعة مهيبة الانتظام، تسير وفقا لقوانين نيوتن، وعلى الرغم من هذا، رفض اعتباره هكذا حتى أدق تفاصيله ، فأشار إلى أننا لا نستطيع أن نعرف مثل تلك المعرفة التي يدعيها الحتميون، ومن ثم استنتج بيرس أننا أحرار في أن نحدس وجود لاتعين ما أو عدم اكتمال في هذه الساعة، فليس العالم في نظر بيرس محكوما فقط بقوانين نيوتن الصارمة، لكنه أيضا محكوم في أحايين معينة بقوانين المصادفة والعشوائية واللانظام، وعضد بيرس هذا بالإشارة الصائبة إلى أن كل الأجسام الفيزيائية خاضعة لحركات الجزيئات المماثلة لحركة جزيئات الغاز، هكذا كان بيرس أول فيزيائي وأول فيلسوف يأتي بعد نيوتن ويجرؤ على أن يقر بعنصر المصادفة واللاحتمية،
42
وقد فعل هذا لكي تكتمل إبستمولوجية اللاحتمية.
ولكي تكتمل أنطولوجية اللاحتمية أقر بموضوعية المصادفة، مؤكدا أن استقلال الوقائع أساس طبيعي لها. شن حربا شعواء على تفسير الحتميين الذاتي لها، فقال إن اعتبار المصادفة نتيجة للجهل أكثر فلسفات المصادفة شيوعا لأنها أكثرها ضحالة، يقول بيرس: «إنني لست في حاجة إلى أن أضيع جهدا في أشد محاولات التحليل ضعفا تلك التي تجعل المصادفة تتألف من جهلنا.» المصادفة إذن ليست اسما نخفي به جهلنا كما يقال، بل لها حقيقتها الموضوعية التي تقوم عليها كثير من النظريات العلمية مثل النظرية الحركية للغازات ونظريات الاقتصاد السياسي، والتي لا تتعارض مع قيام الانتظام بل قد تساعد على قيامه،
43
وفي النهاية جاء تحليله الفلسفي للمصادفة ليعد أرقى تصور للمصادفة الموضوعية، قبل النتائج الأخيرة لنظرية الكوانتم في القرن العشرين،
44
وفضلا عن هذه اللاحتمية العلمية الإبستمولوجية والأنطولوجية معا نجد بيرس مؤسس الديانة الرسمية لجيمس أي البرجماتية.
45
وأيضا أخذ جيمس من صديقه تشونسي رايت التأويل التالي للعلم: النظام المادي للطبيعة إذا أخذ ببساطة كما أصبح العلم يعرفه، لا يمكن حسبانه من حيث هو كاشف عن أي مقصد أحادي روحي متناغم كما تتصور الحتمية، ولكن مجرد جو كوني - كما أسماه رايت - في حالة تفاعل موصول ترتيبا وتفككا دون نهاية .
46
على أن الفضل الأساسي في اهتداء جيمس للاحتمية، لا يعود إلى أحد من هؤلاء أو من غيرهم، بقدر ما يعود إلى ظروف موضوعية أشمل وأعم، فقد قدر لجيمس أن يحيا في العصر الذي شهد تفاقم أزمات الحتمية العلمية فلم يصعب عليه نزع هيلمانها الطاغي وتقليم أظافرها، لقد كان الأمر اتجاها معاصرا يشترك فيه جيمس مع الآخرين، وله بالطبع أصول تاريخية، فجاء جيمس في كتابه «البرجماتية»، 1907، وأضاف إلى عنوانه «اسم جديد لمنهج قديم في التفكير».
وكما يوضح الفيلسوف الأمريكي بيري، سبب هذه الإضافة أن جيمس لم يخترع هذه الطريقة، وأن جذورها ليس فقط يمكن اقتفاء أثرها إلى الماضي البعيد وإنما تمثل اتجاها معاصرا يتضمن المنطق الحديث بتوكيده على الوظيفة الأدائية للأفكار؛ لتمييزها عن الوظيفة التمثيلية لها، ويتضمن مذاهب التطور والنسبية التاريخية التي تؤكد أهمية التغيير والمرونة والتكيف في المعرفة الإنسانية، وتشمل أيضا موضة الاحتمال.
47
والفروض في الطريقة العلمية التي أصبحت طراز العصر، وكلها أمور احتضنها منذ بدء حياته الفلسفية، وغني عن الشرح أن اللاحتمية العلمية أو بالأدق، الانشقاق على الحتمية العلمية، يكمن من وراء كل هذه القضايا، وفي صلبها.
ولكن لنلاحظ أننا حتى الآن ما زلنا قبل عام 1925، أي أن المجتمع العلمي لم يعتمد بعد مبدأ اللاحتمية، أو أنه لا يزال مبدأ وافدا، مجرد إرهاص بما يحمله المستقبل، وقد يبدو وكأنه بدعة، وأشد البدع ضلالة، ونظرا لهذه الظروف التي لم تتوطد بعد لللاحتمية العلمية، فإن جيمس لم يأخذها كمسلمة انتهينا إليها، بل كقضية فلسفية أفضل من معارضتها، وأصوب، ويكفينا أنه أتى في وقته واتخذها بحماس فلسفي منقطع النظير كاشفا بهذا عن استباق للعصر، ومقدرة على استيعاب الأفكار الواردة واستشراف مستقبلها الخصيب، لم يتوجس جيمس من اللاحتمية خشية كما فعل كثيرون من معاصريه، ولا يزال يفعل بعض من معاصرينا، بل آمن به وآمن بتدخل عنصر المصادفة في بنية العالم، ورأى أنا الاطراد نفسه ليس إلا إحصائيا، وإذا كانت القوانين الصغرى تفترضه مقدما فإن الطبيعة لا يمكن أن تكون مطردة إلا بصورة تقريبية جدا.
48
هكذا رفض جيمس الحتمية رفضا جذريا، وأخرج كتابه
The Dilemma of Determism «معضل الحتمية» ليوضح تناقضها مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، بل ومع طبيعة الوجود، والطرق المغلقة أمامها، مثبتا أن بعض التركيبات الفلسفية المعينة (المقصود الحتمية) نزوات شخصية تنم عن الهوى، عبقة بالذوق الفردي في حين أن بعض التركيبات الأخرى، تلك التي تعمل بالعناصر المحسوسة، وبالتغير، باللاحتمية ... هي أكثر موضوعية، وأكثر تشبها بجبلة الطبيعة نفسها،
49
ذلك هو موقفه الفلسفي الصريح، ولكن - كما ذكرنا - ظروف عصره لم تكن تسمح له بوصفه عالما مسئولا بالتسليم باللاحتمية العلمية كقاعدة للبحث العلمي؛ لذلك جاء ليقول: «علم النفس على أية حال، من حيث إنه يجب أن يكون علما لا بد وأن يماثل أي علم آخر فيسلم بالحتمية الكاملة في وقائعه، ثم يستخلص بعد هذا آثار الإرادة الحرة، وذلك ما سأفعله في هذا الكتاب، وليكن معلوما على أية حال، أن هذا الإجراء على الرغم من أنه حيلة منهجية يبررها الاحتياج الذاتي لترتيب الوقائع في صورة بسيطة وعلمية، لا يحسم القول بطريقة أو بأخرى في الحقيقة النهائية لبحث حرية الإرادة».
50
إذن فلندع علم النفس يقر صراحة بأنه يمكن أن ينادي بالحتمية من أجل أغراضه العلمية، ولن يستطيع أحد أن يجد خطأ في هذا الزعم، ولكن إذا انقلب الأمر فيما بعد، بحيث تصبح هذه الدعوى فقط ذات أغراض نسبية ومن الممكن أن تواجهها دعاوى معارضة، فلا بد وأن نعيد تقييم الموقف، وها هنا يصبح الفرض الحتمي محض فرض منهجي مؤقت، فكل العلوم الخاصة تتناول معطيات مليئة بالغموض والتناقض ولكن يمكن تجاوز هذه المثالب من زاوية أغراضها؛
51
وعلى هذا نتجاوز عن مثالب وتناقضات الحتمية العلمية؛ لأجل الأغراض المنهجية الخاصة بعلم النفس أو غيره من العلوم.
هكذا كان تقليص وليام جيمس لفرض الحتمية العلمية نظريا إلى الحد الأدنى المنهجي. ••• (34) وقد أردف هذا التقليص النظري بتقليص تطبيقي لنجد الحرية معه نظرة وظاهرة، أو فكرة وواقعة، أي كائنة في هذا العالم الذي نحيا فيه، ونحاول فهمه بواسطة العلم، فلا هي منفية بالسلب ب «لا » ولا هي منفية خارج دائرة العلم والعالم.
وآية ذلك، أنه أتى في قلب العلم الذي تناوئه الحتمية، ووضع نظرياته التي تسير في ركابه وتدفعه إلى الأمام، وفي الآن نفسه تفسح لحرية الإنسان المجال، ليس فحسب، بل تعيها وتفهمها، فإذا تذكرنا أن الحتمية السيكولوجية أخطر ضروب الحتمية العلمية على حرية الإنسان؛ لأنها الحتمية المباشرة في نقضها للحرية، فسنجد جيمس يطرح دراسة علمية سيكولوجية للحرية متمثلة في الإرادة وذلك في كتابه «مبادئ علم النفس» سنة 1890، حيث يعالج علم النفس كعلم طبيعي، هذا الكتاب من أمهات الكتب ومن المعالم البارزة في تاريخ علم النفس، برغم التطورات التي أحرزها العلم بعده.
وكان جيمس قد سبق له أن نشر له عام 1862 مجلدا من الدراسات التجريبية عن إدراك الحواس، وبدأ يلقي محاضرات علم النفس كعلم طبيعي بعد أن تشرب بالاتجاهات الحديثة في أوروبا، ثم تبعها بدراسات فسيولوجية من لدنه، وأصبح واحدا من أوائل المعلمين الأمريكيين الذين اعترفوا بوجود علم النفس كعلم مستقل،
52
وهنا أيضا تبدو براعته في مصارعة الحتمية العلمية؛ لأن علماء النفس الأوروبيين الذين استقى جيمس من كتاباتهم إلى أكبر حد، كما يتجلى ذلك في الاستشهادات والمراجع المذكورة في كتاب «مبادئ علم النفس» هم سبنسر وهلمهولتز وفنت وبين، وجملتهم حتميون ينفون حرية الإنسان غير أن جيمس استخدمهم وأفاد منهم ونبذهم في آن واحد.
53
ثم أخرج ذلك الكتاب، الذي يقف على قمة المرحلة الثانية من تطور علم النفس، فقد كانت المرحلة الأولى من علم النفس التي ارتبطت بهيوم وستوت ترد الحياة النفسية إلى انطباعات تتلاقى بالتداعي عن طريق قوانين الترابط فتصبح أفكارا، فكأن العقل قابلية لا فاعلية أو صفحة بيضاء كما قال لوك، لا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما المرحلة الثانية فقد ربطت بين العقل وبين الحياة الفسيولوجية، وهذه هي المرحلة السيكوفيزيقية التي يبلورها كتاب جيمس.
على هذا الأساس السيكوفيزيقي يرفض جيمس فرض النفس؛ لأنه لا قيمة له، ويلحق به فرض العقل فلا يعود كيانا أو جوهرا، بل أداة فعالة نشيطة مهمته هي مهمة أي عضو آخر من أعضاء الكائن الحي، وهي أن يكون أداة موائمة بينه وبين بيئته، موائمة تعين الكائن الحي على البقاء إنه أداة لا تنفك، تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون العقل مجرد كلمة نسمي بها نمطا معينا من السلوك الحي النشط المفيد، وبهذا يزول الحاجز بينه وبين الجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربا من السلوك فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هناك آمر ومأمور أو حاكم ومحكوم بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحو معين، وإذا كان الأمر هكذا، فقد تحطمت الثنائية التي شقت الإنسان - والكون بصفة عامة إلى جانبين عقل وجسم، أو نفس ومادة وهي التي سادت الفلسفة الحديثة.
54
وسار جيمس في هذا الطريق حتى توصل إلى واحدية محايدة،
55
فنشر مقالا بعنوان «هل الشعور موجود؟»، يقول فيه إن العالم مادة أولية واحدة إذا استخدمنا كلمة شعور فإنها تدل على ضرب من الأداء لأعلى كيان مستقل قائم بذاته، فهناك أفكار تتصل ببعضها مكونة المعرفة، لكنها ليست من مادة تختلف عن المادة التي تتكون منها الأشياء في عالم الطبيعة المادية،
56
بهذا وضع جيمس الأساس للنظرية المعاصرة التي تسمى الواحدية المحايدة وهي النظرية التي تطورت تطورا عظيما بعده، خصوصا مع راسل، لتقضي على ثنائيات جمة، هكذا أفضت اللاحتمية بجيمس إلى النتيجة الطبيعية لها أي قهر الشيزوفرينيا.
وبعد هذا يسهل على جيمس إرساء الوجه الثاني، أي الحرية، على أساس أن «العقل يمارس نشاطه مع معطيات تجربتنا، فينتقي منها ويعدل فيها ويختزل، حسبما يتلاءم مع اختيارنا ويتفق مع ما نؤثره ونرغب فيه».
57
بهذا تصبح الحرية ظاهرة تمثل موضوعا لدراسة علمية تجريبية، أجرى جيمس مثل هذه الدراسة تحت مصطلح «الإرادة»، والإرادة هنا مثلها مثل النفس والعقل ليست ملكة مطوية في أعماق مجهولة ولا كائنة في عالم مفارق، بل هي إيجابية وفعالية، وعنصر من عناصر السلوك الإنساني تجعله متميزا بأنه حر مراد، فكانت دراسة جيمس للحرية أو الإرادة، هي دراسة الحركات المتميزة عن ردود الأفعال الأوتوماتيكية الانعكاسية بأن الفاعل ينتويها قبل أن يفعلها مع تمام العلم المسبق بما سوف تصبح عليه.
58
يجعل جيمس من الفعل المنعكس أنموذجا لكل فعل، يقول: «لا ريب أن ثمة اختلافا جوهريا بين الحركات التي تصدر عن النخاع وتلك التي تصدر عن المخ؛ ذلك أننا نستطيع أن نتنبأ تنبؤا منتظما بالحركات، حالما نعرف طبيعة المثير الخارجي، بينما تتنوع الحركات الصادرة عن المخ تنوعا يتعذر معه التنبؤ بصددها؛ لأنها ترتبط بذكريات الفرد وأفكاره، إلا أننا لو أسقطنا جدلا هذا الاختلاف بين هذين النوعين من الحركات، لتبينا أن الآلية فيهما واحدة، فهما بمثابة استجابة لإثارة تقع على الحواس من موضوع في العالم الخارجي».
59
فضلا عن أن جيمس يطرح دراسة علمية مستفيضة عن الانتباه
Attention
كما لو كان محتما تماما بالظروف العصيبة على أساس أن النظام العام للأشياء التي ننتبه إليها محدد بهذه الشروط أو الظروف، فليس ثمة أي موضوع يمكن أن يستأثر بانتباهنا إلا بواسطة الجهاز العصبي.
وحتى الآن نجد أنفسنا بإزاء حتمية علمية تبدو وكأنها سوف تنفي حرية الإنسان، وكأن جيمس وقع في براثن الفرض المنهجي، لكنه يعود في النهاية، ليوضح أن كم الانتباه الذي يستأثر به الموضوع بعد أن يجذب انتباهنا عن طريق منافذ الجهاز العصبي ... هذا الكم مبحث آخر، فقد يبذل العقل مجهودا أكبر أو أقل حسبما يختار، وإذا لم يكن هذا الشعور خداعا، وكان جهدنا قوة روحية لامحتمة فإنه يشارك الظروف الدماغية في الوصول إلى النتيجة، والحق أن هذا الجهد الإرادي يمكن أن يكون قوة أصلية، وليس مجرد معلول، يمكن أن يكون لامحتما في مقداره.
وعلى الرغم من أن هذا الجهد الإرادي لن يقدم أو لا يمثل فكرة جديدة، فإنه قد يعمق أو يطيل من أمد الوعي بموضوع الانتباه؛ على هذا قد يقتصر دوره على إضافة ثانية قد تكون حاسمة وعليها يتوقف الفارق بين عقلية أو بين شخصية وشخصية، وكانت دراسة جيمس العلمية لسيكولوجية الإرادة، توضح أن مجمل دراما الحياة الإرادية يتوقف على كم الانتباه الأقل قليلا أو الأكثر قليلا الذي قد تتلقاه الأفكار الدافعة المتنافسة.
60
وهكذا نعى الإرادة الحرة بغير أن يصارعها أو يصرعها الفرض الحتمي المنهجي.
وأول نقطة يجب أن نفهمها في سيكولوجية الإرادة هو أن الحركات الإرادية وظائف ثانوية لا أولية للأعضاء، أما الحركات الانعكاسية والغريزية والعاطفية، فكلها مهام أولية، وأول المتطلبات القبلية للحياة الإرادية إنما هو مدى الأفكار عن الحركات المختلفة التي هي ممكنة، تخلفها في الذاكرة خبرات عن أداءاتها الإرادية، وهذه الأفكار على نوعين فقط، إما مقيمة في موضوعها وإما بعيدة عنه،
61
ولا تحتاج الأفعال الإرادية لأي شيء آخر سوى هذا المدد.
وإذا حللنا الميكانيزم العصبي للفعل الإرادي فسنجد بفضل مبدأ الاقتصاد في الوعي، أن الشحنة الدافعة له يجب أن تكون خلوا من الإحساس؛ لأنها تؤدي الحركة بدقة تامة، فيكفيها أن تطبع فورا رمزها
clue
العقلي الخاص بها، وأن يكون هذا الرمز غير قادر على إثارة أية حركة أخرى،
62
وهنا نلاحظ التطابق بين القرار الحر والفعل الحر.
يرى جيمس أن الإنسان يتخذ قرارا حرا في أعقاب فعل من أفعال التعمد الإرادي، ويحدد خمسة أنماط أساسية للقرار:
أولا: النمط العقلي، حين تكون حجج في صالح أو ضد فعل متاح، قد استقرت في العقل بطريقة تدريجية وغير محسوسة تقريبا، لتنتهي بأن تخلف وراءها توازنا واضحا في صالح أحد البدائل، وهو بديل سوف يتخذ بغير جهد أو قسر، وقد يبدو أن القرار هنا نابع من طبائع الأشياء، ولا يدين بشيء إلى إرادتنا، بيد أننا نملك على أية حال، إحساسا تاما بأننا أحرار، من حيث إننا نخلو من أي إحساس بالقهر.
في النمطين التاليين، لا يبدو سبب يحدد أيا من الفعلين، كل منهما يبدو جيدا، فيضنينا إحساس بالتردد وعدم الحسم حتى نشعر بأن القرار السيئ أفضل من عدم اتخاذ أي قرار، وتحت هذه الشروط قد تنشأ ظروف عارضة تقلب هذا التوازن في اتجاه أحد البديلين، وفي النمط الثاني يكون القرار نابعا من هذه الظروف العارضة، أما في النمط الثالث، فإن تحديد القرار أيضا أمر عارض، بيد أنه يأتي من الداخل لا من الخارج، من الجهاز العصبي نفسه، الذي يندفع إلى أحد البديلين.
في النمط الرابع أيضا ينهي العقل فعل التعمد فجأة، كما حدث في النمط السابق، وهو يأتي حين ينتقل من أحد البديلين إلى الآخر، على إثر تجربة خارجية أو تغير داخلي لا يمكن تفسيره، وفي النمط الخامس، نشعر بأن الدليل غائب تماما أو حاضر تماما، وفي أي اختيار نشعر بالحرية الكاملة،
63
هذه الحالة تناظر ما أسماه الفلاسفة بحرية استواء الطرفين.
نخلص مع جيمس إلى أن الإرادة علاقة بين العقل وأفكاره، وأن الجهد الإرادي جهد للانتباه، ويبدو دور الإرادة الحرة فيه أساسيا بتحديد كم الانتباه، وأكد جيمس أن «كم الانتباه هو الظاهرة الأساسية للإرادة».
64
ولكن جيمس كان يدرك جيدا أن مشكلة الحرية أوسع كثيرا من أن يحيط بها علم النفس،
65
وأعمق كثيرا من مجرد كم الانتباه، وإلا كان جيمس لم يزد شيئا على القديس توما الإكويني الذي انتهى إلى القول بأن: «حريتنا تنحصر في سيطرتنا على أحكامنا، وسيطرتنا على أحكامنا تنحصر في سيطرتنا على انتباهنا.»
66
والحق أن هذه المعالجة السيكولوجية، لم تكن إلا ركنا في رحاب نظرية الحرية الفلسفية التي تخلقت واكتملت في ذهن جيمس قبل شروعه في هذه الدراسة السيكولوجية. ••• (35) على هذا لا بد أن يأتينا من جيمس الفيلسوف فيه ليكمل جهد العالم، فتكتمل معالجة الحرية في العالم اللاحتمي، وكان طريق جيمس لإنجاز هذا، يتلخص في مناهضة الواحدية باعتبارها صورة الحتمية النافية للحرية والجدة، والانتصار للتعددية باعتبارها صورة اللاحتمية المثبتة للحرية والجدة.
إذا كانت الظاهرة الأساسية للإرادة من الناحية السيكولوجية هي كم الانتباه
Amount of Attention ، فإن الظاهرة الأساسية لها من الناحية الفلسفية هي الجدة والإبداع والفعل المبتكر (فقرة 12)، وجيمس هنا يذكرنا بصديقه هنري بيرجسون الذي عني كثيرا بارتباط الحرية بفكرة الخلق والإبداع، ولكن لأن بيرجسون وقع في براثن الحتمية وأصيب بالانفصام، فإنه قد جعل الحرية برفقة الجدة والإبداع كائنة في الديمومة، كمتميزة عن العلم الحتمي العلمي القائم في الزمان ، أما جيمس فلأنه لاحتمي والحرية معه ليست منفية، فإنه مثلما أقام الحرية في هذا العالم فقد أقام فيه أيضا الجدة والإبداع.
يقول جيمس إن إحساسنا بالحرية يفترض أن بعض الأشياء على الأقل تتقرر هنا والآن، وأن اللحظة الجارية قد تنطوي على بعض تحديد وقد تكون نقطة بدء طريفة للأحداث وليس مجرد ناقلة بالدفعة من مصدر ما، نحن نتخيل في بعض الظروف أن المستقبل قد يكون منطويا في الماضي ولكنه قد يكون في الواقع منضافا إليه على هذا النحو أو ذاك، والواحدية تخرج من نطاقها كل هذا التصور للإمكانيات، وتضطر إلى القول بأن المستقبل والماضي مرتبطان فلا يمكن أن يكون ثمة ابتكار حقيقي في أي مكان،
67
إن الابتكار لا ينفصل عن الحرية التي تستلزم عالما لاحتميا.
الحتمية = الواحدية = استحالة الجدة والابتكار = نفي الحرية.
اللاحتمية = التعددية = إمكانية الجدة والابتكار = إثبات الحرية.
وكما أوضحت تحليلاتنا السابقة، فإن هذا حكم موضوعي عام، يصدق من أية نظرة فلسفية معقولة سواء أكانت جيمسية أم لا جيمسية، غير أن جيمس على رأس من أدركوا هذا بوضوح ناصع، وأدرك أن «النزاع بين التعددية والواحدية أعنف مآزق الفلسفة كلها بالرغم من أنه لم يتضح بتميز إلا في أيامنا هذه»
68
والمقصود طبعا أيامه تلك حيث بدأ النزاع بين الحتمية واللاحتمية، ولما كان جيمس رافضا للحتمية مثبتا لللاحتمية، كان رافضا للواحدية مثبتا للتعددية، وأصل كل هذا إثبات الحرية عن طريق إثبات لاحتمية أنطولوجية.
لم يخص جيمس قضية بجام غضبه، مثلما فعل بالواحدية، من حيث كونها فلسفة حتمية تزعم أن العالم محكم التماسك «يجب أن يكون وحدة متينة، يحدد الكل كل عضو فيه على ما هو عليه، وأقل بادرة من بوادر الاستقلال تقضي عليه فورا».
69
لقد أحس جيمس أن الواحدة «تسعى إلى نظرة محيطة بجميع الأشياء وإلى نظام مغلق على الأجناس، يتحكم سلفا في فكرة إمكان ابتكار جوهري».
70
ويستأثر جيمس الحتمية العلمية بالذات، التي هي علية، بجريرة نفي الجدة والإبداع، بقوله: «إن كل لحظة من لحظات العالم يجب أن تحتوي على جميع علل المعلولات، التي تشملها اللحظة التالية ولكن إذا كانت القاعدة تؤيد أن كل ما في المعلول يجب أن يكون أولا على نحو ما في العلة.» يترتب على ذلك أن اللحظة التالية لا يمكن أن تحوي شيئا طريفا على الحقيقة وأن الابتكار الذي يبدو منبثا في حياتنا انبثاثا لا ينقطع، لا بد وأن يكون وهما معزوا لضحولة وجهة النظر،
71
فيوضح تهافت الحتمية العلمية بقوله: «على ذلك فالمرحلة الأخيرة للمنهج العلمي هي في قاع المبدأ الإسكولاستيكي: «العلة تساوي المعلول» وقد وضع في بؤرة أدق، وصور تصويرا محسوسا، هذا المبدأ واحدي تماما في أهدافه وإذا استخدم تفصيلا فإنه سيحول العالم الواقعي إلى عملية من الهوية الأبدية، ندرك مظاهرها إدراكا حسيا، تحدث كنوع من الإنتاج بالتبع، لا تعلق عليه أهمية ما، وفي أية حال ليس ثمة نمو واقعي ولا ابتكار حقيقي يدخل في الحياة.»
72
وبعد هذا الهجوم الساحق الماحق، يأتي جيمس بهدوء أكثر، ليأخذ المآخذ التالية على الواحدية: (أ)
لا تفسر وعينا المتناهي، فهي ترى أن الذهن يعرف كل شيء بفعل واحد من أفعال المعرفة بجانب معرفته لكل شيء آخر، وفي حين أن الأذهان متناهية تعرف أشياء دون الأخرى. (ب)
تخلق مشكلة الشر، فالشر في نظر التعددية يمثل فقط مشكلة عملية يمكن التخلص منها، أما مع الواحدية فقد دخل في ذات الهوية مع الكون. (ج)
تناقض طابع الحقيقة الواقعية، كما تدرك في التجربة، فالتغيير والابتكار في عالمنا وفي التاريخ عنصران جوهريان. (د)
إنها قدرية، فالإمكانية المتميزة عن الضرورة من جهة وعن الاستحالة من جهة أخرى تبدو معها مجرد وهم.
73
ويمكن ملاحظة أن المأخذ الاول إبستمولوجي، والثاني أخلاقي برجماتي، والثالث أنطولوجي أما الرابع فيضم الوجوه الثلاثة معا، وهذه الوجوه بدورها تضم وجوه الحتمية النافية للحرية.
وعلى أساس نفي الواحدية، يأخذ جيمس بتعددية مفضية إلى لاحتمية حقيقية: لا حتمية أنطولوجية فأخرج كتابه «عالم متكثر
» حيث نجد العالم كله يتألف من عدد لا حصر له من الموجودات الفردية وكل من هذه الموجودات له وجوده الواقعي المستقل، ولكن كلا منها أيضا له صلاته بغيره، ومن هنا تستقيم شبكة من الأفراد، ثناياها العلاقات والارتباطات؛ على هذا، فوحدة العالم ليست أمرا مكتملا منذ البداية وإنما هي عملية متصلة تنحو نحو التوحيد، وتنمو شيئا فشيئا،
74
إن العالم التعددي عالم مرن لدن لأنه لاحتمي، عالم بأبواب ونوافذ مفتوحة، وبإمكانية لا تقبل الضبط من قبل، بل يأتي بابتكار جديد، بفعل حر، والإرادة الحرة لا تعني إلا الابتكار الحقيقي، على ذلك فالتعددية تتقبل فكرة الإرادة الحرة»،
75
وكما يقول جيمس: «كوننا أنفسنا قد تكون أصحاب ابتكار عبقري جديد ومبتكر، فهذه هي قضية مذهب حرية الإرادة».
76
ليست التعددية إلا تمثيلا عينيا للعالم اللاحتمي، وكلتاهما - التعددية واللاحتمية - أسس أنطولوجية لا تعني على المستوى الإنساني إلا الحرية، إمكانية الاختيار بين بدائل؛ لذلك ستضع الحرية مع اللاحتمية مع التعددية في بوتقة واحدة، لنجدها عند جيمس ترتكز على أساسين:
أولا:
التجريبية الراديكالية، وانعدام تعاطفه مع المثالية.
ثانيا:
مذهبه البرجماتي.
فالتجريبية الراديكالية: ترى أن الحقيقة لا يمكن أن تكون محددة على ذلك الوضع الحتمي في سياج تصوري، وهي تنبذ ادعاء نظرة شاملة،
77
إنها تنتقل من الأجزاء على أنها أساسية في نظام الوجود وفي نظام المعرفة (أي أنطولوجيا وإبستمولوجيا بمصطلحاتنا)، والأجزاء في التجربة الإنسانية هي المدركات الحسية، تتحول إلى كليات بإضافاتنا التصورية، والمدركات الفردية تتغير دون انقطاع، ولا تعود أبدا إلى ما كانت عليه تماما، وهذا يحمل إلى تجربتنا عنصرا من الابتكار الملموس، والطبيعة كلها معطاة في تيار الإدراك الحسي، بيد أن هذا التيار وإن كان مستمرا من تال إلى تال فإن أجزاءه غير المتجاورة تفصلها أجزاء تتداخل بينها، ومثل هذا الانفصال يبدو في حالات متنوعة عاملا على التفرقة الإيجابية،
78
هذا الاستقلال النسبي للأحداث لا تتيحه إلا اللاحتمية فقط أما الحتمية الواحدية فلا تجيز - كما يؤكد جيمس - أن يكون هناك موجودات فردية منعزلة ما دام وجود كل موجود مرهونا بما بينه وبين الموجودات الأخرى من علاقات، وبدون ذلك لا يستقيم له كيان.
وهنا نتبين هول الفارق بين التصورين: في عالم الواحدية يسبق الكل الأجزاء ويتسلط عليها ويتحكم فيها؛ ليحفظ لها جميعا نظاما مكتملا محددا منضبطا، فهنا عالم ترتبط أجزاؤه ارتباطا وثيقا، ولكل جزء عمله المحدد، ومهمته المرسومة، فلا مجال إذن للحرية أو الاختيار بين بدائل، أما في عالم التعدد، فعلى العكس من هذا الأجزاء تسبق الكل، والكل في نمو متصل واكتمال مطرد ولم يتم بعد، نموه مرهون بانضياف أجزاء إليه،
79
وفي هذا الانضياف تتجلى الحرية الإنسانية.
إن التجريبية الراديكالية مثلما أقامت التعددية، تقيم أيضا بقية قرائنها من لاحتمية وحرية بما تتضمنه من مسئولية وجدة وابتكار، فيؤكد جيمس أن التجربة تظهر لنا أن الدور المنوط بالإنسان في الحياة لا يمكن أن يكون دور مشاهد سلبي لا يملك أن يفعل شيئا، وإنما دوره الأول أن يثبت وجوده ويعزز كيانه في عالم معقد متشابك تصطرع فيه قوى متعددة متباينة، وعلى الإنسان أن يجاهد ليفرض مثله العليا على هذا العالم، وفي وسعه أن يختار فيؤثر الخير وينبذ الشر،
80
والتجريبية الراديكالية تشهد أيضا بأن الحقيقة لا وجود لها في العقل، وإنما هي قائمة في التجربة الحية، وفي الحاضر الماثل، وفي ذلك الميدان الذي أمارس فيه نشاطي، فأقبل وأرفض وأعارض وأوافق، وأتردد وأقرر وأغامر وأضيف جهودي إلى تاريخ العالم، وفي كل لحظة يتقرر واحد من الإمكانيات العديدة التي تعرض لي ويتم لي تحقيقه، فيتحقق شيء جديد في العالم، وهذه هي النقطة التي ينحني عندها خط الأحداث المستقبلة، ويتجه اتجاها معينا دون آخر، هذه اللحظات التي يتبدى فيها الاختيار واضحا ليست حالات استثنائية ولا نادرة تطرأ على مجرى الأشياء بل هي في صميمها تطبيق لقاعدة عامة، هي قاعدة العالم وقاعدة الحياة، ففي كل زمان ومكان ثمة اختيار،
81
وبهذا لا تجعل التجريبية الراديكالية الحرية مرهونة بلحظة شاذة غريبة، أو عالم مفارق، بل تجعلها في صميم بنية العالم من حيث هو لاحتمي، فتمهد للقضاء المبرم على الشيزوفرينيا، والذي وطد له جيمس بمعالجته لسيكولوجيا الإنسان/إنسان يملك إرادة تحدد كم الانتباه، الحرية ليست كائنة، أو بالأحرى منفية إلى نومينا أو روح مطلق أو أنا متعال، بل هي كائنة في نفس هذا العالم الذي نحيا فيه، ويمر بخبرتنا تعدديا لاحتميا، أي غير مصبوب في قالب نهائي بل يحمل مستقبله أكثر من إمكانية، وفي تعيين وتحقيق إحداها فعل حر، ذو جدة وموضع للمساءلة.
أما من الناحية البرجماتية، فثمة ارتباط بين ميتافيزيقا تعددية لهذا الكون، وبين البرجماتية التي سبقتها إلى ذهن جيمس، حتى يمكن أن يكونا وجهين لعملة واحدة، فالبرجماتية تطبيق للتعددية، ويمكن أن يكون العكس أيضا صحيحا، فالمنهج البرجماتي والمعيار البرجماتي للحقيقة يطبقان مرارا وتكرارا في البرهنة على التعددية وعلى رفض الواحدية، والتعددية أيضا تطبيق للبرجماتية، بمعنى أن التفسير البرجماتي للمعرفة يهيئ حالة خاصة للميتافيزيقا التعددية.
82
ثم إن التعددية ترتبط ارتباطا متينا بالأشياء كما هي في تنوعها واختلافها، وتلتحم بالصراع المحتوم في ميدان الحياة، كل فرد منا في هذا الخضم البرجماتي ينبغي أن يواجه العالم ويتصدى للحياة، فيؤدي دوره ويختار مصيره.
83
وإذا تساءلنا لماذا؟ أو بتعبير برجماتي أدق: ما فائدة التعدد واللاحتمية وحرية الإرادة الإنسانية؟ لكانت إجابة جيمس: لكي نقهر الشر. نزعة جيمس العملية والعلمية التجريبية والواقعية الجديدة، تفرض عليه الاعتراف بحقيقية الشر وواقعيته وبجدوى الجهود الإنسانية المبذولة لقهره أو تقليصه إلى أضيق نطاق ممكن، من أجل حياة أسعد، عارض جيمس بشدة الطلاق الأفلاطوني للخير من حيز الوجود، وأصر على أن المثل الأعلى والواقع مطردان مستمران باتصال ديناميكي، إلا أن جيمس لم يكن أقل معارضة من جورج سانتيانا لأي اختزال للمثالي إلى الواقعي، المثل الأعلى شكل مفضل للحياة شيء يتحول إلى واقع عن طريق طاقة الإرادة.
84
وها هنا نتبين جدوى الحرية، وأفضلية عالمها اللاحتمي التعددي، إنه سيظل دائما في دور التشكيل والتقويم بينما عالم الواحدية ثابت لا يتغير، يعتقد جيمس أن هذا العالم إذا خلا من الشرور واستجاب لجميع مطالبنا، لما كان لنا (أو بالأصح لما كان ثمة فائدة برجماتية) من أن نعترض على أن يكون موضوع ضرورة - مطلقة - غاية الإطلاق، ولما كان لنا الحق في الحرية، فغاية ما نصبو إليه في عالم اجتمعت له كمالات إلهية هو أن نتأمل وحدته في سموها ونعمل على صونها، كما يفعل الحتميون، ولكن الأمر يختلف في هذا العالم الذي نمارس فيه فعلا تجربة الحياة ويحاول العقل فهمه، من الأكيد أنه في حاجة إلى الإصلاح والتعديل، وهذه حاجة تنفيها الحتمية، أما جيمس فيعلن بلا حتميته أن العالم يمكن أن يكون أفضل، وهذا الإمكان ليس تصوريا فحسب، بل هو واقعي وعملي، ويتضمن واقعتين؛ أولا: نحن متأهبون، بما اجتمع لنا من مثل عليا وما تحمله الحرية من مسئولية بإزائها، للنضال من أجل تحقيقها، ويقتضي منا هذا أن نتدخل تدخلا فعالا في مصير العالم، وثانيا: هذا العالم ليس كتلة صارمة وإنما هو جماع من عناصر مستقلة، بحيث يمنعنا من أن نعزل جانبا ما يتراءى لنا شرا.
85
وكان هذا الدافع البرجماتي وراء قول جيمس إن اللاحتمية بتعدديتها هي الوسيلة الوحيدة لتحطيم هذا الكون إلى أجزاء خيرة وأجزاء شريرة، تمهيدا لمناصرة الأولى ضد الثانية.
وأخيرا بقيت ملاحظة أن جيمس أحاط تماما بهذا التبرير البرجماتي لقضية قهر الشر؛ فلم يفته وجهها المقابل للحتمية الفيزيقية أي الوجه الثيولوجي، من المعروف أن الشر والإله ذا القدرة الشاملة ينجم عنهما معضل: فلو كان هناك مثل هذا الإله الشامل القدرة للزم أن يكون مسئولا عن كل ما يقع، والشر بعض ما يقع، فإما أن نقول إن الرب عندئذ مسئول عن الشر أو إنه عاجز عن درئه، وجيمس يفضل البديل الثاني والعجز هنا معناه أن الرب لا يحيط بكل شيء في الوجود، بل هناك إلى جانبه سائر العقول والإرادات، وهي أدنى منه وأصغر غير أنها موجودة ومسئولة عما تصنع،
86
وبهذا لا يجعل جيمس من وجود الرب دحضا للحرية، ولا دحضا لجدوى الكفاح من أجل قهر الشر.
على هذا النحو تتوطد الحرية الأنطولوجية تماما، خصوصا من حيث هي وسيلة لتحسين العالم
Meliorism ؛
87
لذلك قلنا في البداية، إن الحرية مع جيمس مكملة لهذا العالم.
وقد نرفض التبرير البرجماتي، بل والمنهج البرجماتي بأسره؛ لأنه لا يعنى بأبسط مهام منهج التفكير، أي إقناع العقل ليتصرف على أساس هذا الاقتناع، وليس العكس كما تدعي البرجماتية بدائرية غريبة،
88
ومع هذا لا نستطيع إلا التسليم بأن المنهج البرجماتي بمذهب التحسين، يبلور الحجة الأخلاقية للحرية ، أي جدوى الثواب والعقاب، والذي يقينا من مصير حيوانات السيرك الذي نئول إليه إذا ما سرنا مع سكينر وأقرانه من علماء النفس الحتميين، وهذا ما عبر عنه جيمس بقوله: «إن المسألة الوحيدة في العواقب المترتبة على قضية حرية الإرادة، إنما هي مذهب التحسين، والذي تجعله اللاحتمية ممكنا».
على أية حال، عرف جيمس كيف تؤتى الحرية في العالم اللاحتمي، وإذا حذفنا كل العناصر البرجماتية بمعنى النفعية، فلن يتأثر تناوله السليم للمشكلة، وقد راعينا أن نفعل هذا، فأتى العنصر البرجماتي في نهاية الحديث، حتى لو حذف لما تأثرت المعالجة كثيرا، ولظلت الحرية محصلة منطقية لعالم لاحتمي أنطولوجيا، وواقعة مجدية فعالة في عين هذا الوجود، لا تتناقض بأية حال من الأحوال - بل تتسق تماما - مع محاولة العقل العلمي لفهم هذا الكون واستكناه طبيعته بما فيه ومن فيه.
طالما تخلصنا من الحتمية وجدنا العلم قبل غيره يؤكد أن الإنسان حر يمارس ألوانا من الاختيار، وبين هذه الألوان من الاختيار - كما يؤكد جيمس - تتضح سمات الحقيقة الواقعية، وتستبان خصائص العلم، الاختيار يمضي من الماضي وينفذ خلال الحاضر وينطلق إلى المستقبل، وفي كل اختيار إشارة إلى إمكانيات مستقبلية، سيتقرر مصيرها أيضا باختيار جديد، وكطبيعة الحرية تلقي على كاهل الإنسان مسئولية ضخمة، فهي لا تجعله مجرد حلقة في سلسلة قد تقرر مصيرها بفعل علل خارجة عنه وخاضعة لضرورة مطلقة لا يد له فيها، إنما تتمثل المسئولية في العالم اللاحتمي، ففيه فعالية للإنسان، وفيه مقدرة على الخلق والتجديد والإبداع.
89
الإنسان حر الأفعال، يستطيع أن يقدم الجديد إلى العالم، وبهذا الجديد يتحدد المستقبل، الحرية تنقذ التاريخ من الهبوط إلى محض تكرار مستقيم،
90
الإنسان حر، وتاريخه حاصل قراراته وأفعاله الحرة. ••• (36) إدنجتون، آرثر ستانلي
Eddington S. A. (1882-1944): أعظم عالم فلك في القرن العشرين، يقف في الصف الأول من فيزيائيي نظرية النسبية، هو راهب من رهبان المعرفة، نذر حياته الهادئة من أجلها، من أجل العلم والفلسفة، فكان غزير الإنتاج في كليهما، وطبعا في العلم أكثر وأقيم، ولكن له اهتمامات فلسفية عميقة جدا، ونسق يوسم بأنه ملغز غامض يقوم على نوع من المثالية المعرفية، ويسلم بمبادئ قبلية شبيهة بالمقولات الكانطية، بعبارة أخرى، هو فيلسوف من طراز كانط كما يحلو له أن يصف نفسه.
يدفعنا إليه ويدفعه إلينا، إنه آمن باللاحتمية العلمية المعاصرة وبانفراج معضل الحرية على أساسها، كما لم يؤمن بأية قضية فلسفية أخرى، وكان أسعد حظا من وليام جيمس فقد عاش في الزمن الذي شهد اللاحتمية العلمية، بفضل يعود إلى جيله، أي جيل إدنجتون من العلماء، فتمكن من الانتقال إلى قضية الحرية الأنطولوجية انتقالا أسلس فلسفيا.
البعض يرى إدنجتون واقعا في براثن المثالية المتطرفة، خصوصا لتدخل عناصر صوفية حدسية في فلسفية.
ولما كنا تعاقدنا في المدخل على تنزيه معالجة القضية من مثل هذه العناصر التي تثير جلبة الرافضين، فلا بد وأن توضح بادئ ذي بدء أن معالجة إدنجتون لقضية اللاحتمية العلمية والحرية الإنسانية بمنأى عن هذه العناصر، وخصوصا معالجته لقضية اللاحتمية، إنه عالم فيزيائي أولا وقبل كل شيء فلا ينبغي أن نخشى كثيرا من مثاليته الفلسفية، وإن لم نلق الموضوعية مع علماء الفيزياء، فأين نجدها؟! ولكنها ليست الموضوعية المطلقة المستحيلة التي تراءت لأوهام الحتميين، والتي انتهينا منها يوم أن انتهينا من المطلق، بل الموضوعية المعاصرة علميا وفلسفيا والتي قد يطلق عليها مصطلح
Inter-subjectivity
البين ذاتية أو التشارك بين الذوات، لا ينبغي أن نخشى مما يوصم به إدنجتون من ذاتية متطرفة، وأوضح الأدلة على تبرئته من هذا إلى حد كبير، واقعة معروفة مؤداها أن مبدأ هيزنبرج كان مطروحا في البداية تحت اسم مبدأ اللايقين
بما يحمله هذا الاسم من دلالة إبستمولوجية محضة، بل ذاتية من حيث تجعله واقعا تحت طائلة تفسير الحتميين الذاتي لكل لاحتمية، وكان إدنجتون هو المسئول عن التسمية الشائعة له الآن، أي اللاتعين
Indeterminacy ،
91
بما تحمله من دلالة موضوعية، تجعله إبستمولوجيا وأنطولوجيا في آن واحد.
وبالنظر إلى حركة العلم المعاصر إبان انقلابه على الحتميين خصوصا في عشرينيات القرن العشرين، يتضح أن إدنجتون على رأس من تحمسوا لكشف العلم المعاصر عن الطبيعة اللاحتمية للكون، ورحبوا بانهيار الحتمية، لقد بدت اللاحتمية أمامه بوضوح رؤية صاف، قل أن تمتع به علماء آخرون من جيله، سخر علمه الغزير من أجل قضية اللاحتمية، وسخر اهتماماته الجادة ليوضح أن: «أن هذه التطورات الأخيرة حملت معها انسحاب العلم تماما من موقف العداء الصريح للإرادة الحرة، حتى إن هؤلاء الذين يتمسكون بالنظرة الحتمية للنشاط الذهني يجب أن يتمسكوا بها على أساس دراستهم للعقل ذاته أو كنتيجة لهذا، وليس لأنهم بهذه الحتمية يجعلون العقل متوافقا مع معرفتنا التجريبية بقوانين الطبيعة اللاعضوية».
92
على أن هذا الحتمي لا بد وأن يكون واقفا بمعزل عن التطورات الفيزيائية، فكما يقول إدنجتون: «لقد انزاحت الحتمية من موقعها الفيزيائي الذي بدا لا يتقهقر، ونحن طبعا نتشكك كثيرا في دعاويها لكي تضمن موقعا في مجالات الخبرة الأخرى».
93
لم تعد الفيزياء كما كانت، ملاذا أرحب للحتميين بما تسبغه على الكون من حتمية كاملة، لن ينفصم عنها العقل والفعل الإنساني، وهو جزء من كل، وطبعا، إذا كان للعقل أن يتحرر من الحتمية، فلا بد وأن يتحرر منها العالم الفيزيقي أولا، وكما يؤكد إدنجتون: «الآن لم يعد ثمة عائق أمام هذا التحرير فبعد أن وقفنا على الطبيعة اللاحتمية للكون يمكن أن نقتنع تماما بأن الإرادة الحرة أصيلة وحقيقية.»
94
النظرة العلمية الشاملة الموحدة، المنشودة من الجميع، سواء حتميين أو لاحتميين، جعلت الحتميين يرون أن الأفعال التي تبدو محكومة بالإرادة الحرة هي في الحقيقة أفعال انعكاسية محكومة بالعمليات المادية في المخ، وأن أفعال الإرادة محض ظواهر فرعية متآنية مع الظواهر الفيزيقية، لكن أوليس أساس هذا الافتراض أن نتائج تطبيق القوانين الفيزيائية على الذهن حتمية تماما، وبعد أن انهارت حتمية القوانين الفيزيائية، تنهار الدعوى بأن سلوك الدماغ بجملته ميكانيكي حتمي تماما، ويغدو لغوا بغير معنى القول بأن سلوك الذهن الذي هو الدماغ الواعي هو على وجه الدقة نفس سلوك الدماغ الميكانيكي،
95
وطالما أن القوانين الفيزيائية ليست علية صارمة، فقصارى ما يمكن قوله إن سلوك الذهن أو الدماغ الواعي واحد من سلوكيات محتملة للدماغ الميكانيكي، والواقع، أن هذا هو الأمر، وبمنتهى الدقة، والقرار الذي نفصل به بين السلوكيات المحتملة (أي بين بدائل السلوك المطروحة)، بحيث نسلك واحدا منها فقط، وهو ما نسميه بالاختيار الإرادي الحر.
96
يوضح إدنجتون أن الانقلاب اللاحتمي للعلم المعاصر يريحنا تماما من المتاعب الآتية من الشقة القائمة بين علوم المادة الجامدة وعلوم المادة الحية، إن لم يكن قد أزالها، على الرغم من هذا فإنه - وهو الذي يوصم بالذاتية - يرفض بتبصر رائع محاولات المماثلة البلهاء بين قفزة الإلكترون وحرية الإنسان الواقعة في أسر النزعة البدائية التشبيهية بالإنسان.
يقول إدنجتون: «قد يثار التساؤل: وهل قفزة الذرة قفزة معينة من قفزات الكوانتم المحتملة أمامها، يتم أيضا باختيار إرادي؟» والواقع أن هذه المماثلة بجملتها مرفوضة ولا أصل لها، كل ما في الأمر هو أنه لا يوجد شيء في العالم الذي نعرفه بقراءة مؤشرات الأجهزة العلمية الكاشفة، يحتم سلفا قفزة الذرة، ولنقل جدلا، قرارها بهذه القفزة بالذات، وهذه واقعة في العالم الفيزيقي لها نتائجها في المستقبل ولكن ليس ارتباطات علية بالماضي.
أما في حالة الدماغ فلدينا تبصر بدخيلة العالم الذهني الكامن من خلف عالم قراءة المؤشرات، ومن هذا العالم نظفر بصورة جديدة عن حقيقة القرار الذي يجب أن يؤخذ،
97
والأساس المشترك هو أنه ليس ثمة شيء اسمه العلية، لا في قفزة الذرة ولا في قرار المخ، بعبارة أخرى، إنها الطبيعة اللاحتمية لبنية هذا الوجود بكل ما فيه ومن فيه.
هذه اللاحتمية تعني مجالا لعدم إمكانية التنبؤ، إنه المجال القائم في الأنساق الفيزيائية، وأيضا في حركات الأجسام الإنسانية، ويبقى التساؤل: هل عدم إمكانية التنبؤ في المجال الإنساني واسعة كما هي في حالة ذرة الراديوم، أم أنها صغيرة يمكن إهمالها كما هي في حالة حركة الكوكب؟
98
يترك إدنجتون جانبا هذا التساؤل العسير، الذي لم تجب عنه العلوم الإنسانية بعد، ويفترض أن ثمة عاملا لاحتميا واسعا ، عاملا فيزيقيا، يتحكم في سلوكنا، ربما كان مجاله خاضعا لعوامل عقلية خالصة بصورة تنفي الحرية، ولكن العوامل العقلية الكائنة قبل حدوث الحدث معطيات مشروعة للتنبؤ في العلوم الإنسانية، مثلا جريمة القتل التي سوف أرتكبها في الشهر القادم، قد تتحتم بصورة جزئية بالنزوع إلى القتل الموجود الآن في عقليتي، شريطة أن يكون هذا النزوع قابلا للتحديد والتعريف بصورة أخرى، غير أنه من المحتمل أن أرتكب جريمة قتل وقد يتحدد هذا بأعراض عقلية معينة، أعراض من قبيل تلك التي يعرضها أولئك الذين يرتكبون فيما بعد جريمة قتل، فهل يعني هذا أن ثمة حتمية عقلية تنفي الحرية الإنسانية، بعد أن استرحنا من معضل الحتمية الفيزيقية؟
يدحض إدنجتون هذا، أو على الأقل يرفضه على أساس أن ثمة تعقيدا لا مبرر له حين أن نصادر على الحتمية بالنسبة للعمليات العقلية، واللاحتمية بالنسبة للعمليات الفيزيائية، وأنه من الصعب أن نتبين كيف يمكن تطبيق حتمية عقلية مماثلة لحتمية الفيزياء الكلاسيكية، التي هي الأصل في كل دعوى حتمية الآن؛ لأنه ليس ثمة مماثلة بين إمكانية التنبؤ في أنساق هذه الفيزياء، والحالات والكميات العقلية بصميم طبيعتها ليست معطيات للتنبؤ الدقيق،
99
يرمي إدنجتون إلى إثبات أن الحتمية العقلية يصعب عليها أن تأتي بأية أسانيد مستقلة، بعد أن انهارت الحتمية الفيزيقية.
إن اللاحتمية الفيزيقية قد أصبحت مسلمة الآن، ويرى العالم الإنجليزي إدنجتون أن التسليم بلاحتمية تصرفاتنا الجسدية هو في حد ذاته الخطوة الحاسمة في إطلاق حرية الذهن
Mind
التي عادة ما تختلط بالتساؤل حول حرية الإرادة،
100
فحتى المؤثرات الفيزيقية للإرادة يجب أن تضم أعدادا واسعة من الذرات (الخلايا)، وبالتالي علينا أن نقر بلاحتمية بدرجة أعلى من تلك التي نقرها في أي نسق مماثل لاعضوي.
101
الحتمية الفيزيقية أو الكونية كانت هي المعضل، وبانفراجه أي باللاحتمية تنفرج كل المشاكل الأخرى، وفي نهايتها الشيزوفرينيا الآتية من غربة الكون الفيزيقي عنا وغربتنا عنه، لكن اتضح أن نسيجه لم يعد «يختلف عن نسيج الروح».
102
فيقول إدنجتون إنه من المتعذر علينا الآن أن نسلم بنظرية تجعل الحياة والروح أكثر آلية من الذرة الفيزيائية نفسها.
103 ••• (37) «كومتون»: من العلماء المبرزين الذين أدلوا بدلوهم في هذا الصدد، عالم الفيزياء الأمريكي آرثر هولي كومتون
A. H. Compton (1892-1962) وهو صاحب الكشف الفيزيائي المهم الموسوم باسمه: تأثير كومتون
Compton Effect ، والذي يعد من أهم تعزيزات نظرية الكوانتم، أو بدقة أكثر تعزيزات تطبيق آينشتين لها في دراسته للتأثير الكهروضوئي، واكتشافه الفوتون كوحدة أولية للضوء، وجاءت نظرية كومتون كأوضح البراهين، وكإثبات حاسم لوجود الفوتون، وأيضا دراسة القوانين تلك الظاهرة الجديدة بصورة غاية في الدقة وطرح تفسير لها، جاء «تأثير كومتون» نتيجة لدراسة تلك الظاهرة الكهروضوئية، والتأثير الكهروضوئي حينما ينتج عن أشعة إكس، ليثبت أن هذه الأشعة بدورها تتكون من وحدات فوتونية خاضعة للكوانتم، وكان من المعروف أن الأشعة إذا اصطدمت بجسم معدني، فإن جزءا من هذه الطاقة يتشتت في كل الاتجاهات على صورة أشعة مبعثرة،
104
وقد درس كومتون أشعة إكس وأشعة إكس المبعثرة، ووضع عام 1923 نظريته «تأثير كومتون»، ومفادها: «اختزال أو تخفيض طاقة فوتون كنتيجة لتبادله الفعل مع إلكترون حر»، ذلك أن جزءا من طاقة الفوتون ينتقل إلى الإلكترون (الإلكترون المرتد أو إلكترون كومتون) وجزء يتوجه ثانية بوصفه فوتون الطاقة المختزلة هو بعثرة
Scatter
كومتون،
105
وكما توضح السمة الكوانتمية فإن تأثير كومتون من المعاول التي انهالت على حتمية الفيزياء الكلاسيكية، وأحد معالم الخروج النهائي من العالم الحتمي.
وفوق هذا، انشغل كومتون انشغالا عميقا بمشكلة الحرية، وأخرج كتابيه «حرية الإنسان» و«المعنى الإنساني للعلم»، وكان - قبل مبدأ هيزنبرج - يقلقه جدا الكابوس الحتمي، يقلقه لأنه نظام مغلق تتفاعل عناصره مع بعضها تبعا لقوانين محددة لا تسمح إطلاقا بتدخل عناصر أخرى كالإرادة الحرة، ومن ثم أدرك أنه من العبث الحديث عن أية حرية مع التسليم بالحتمية العلمية، وبالتالي بدا له أن التطورات العلمية المعاصرة ينحل معها المأزق، ويعبر في كتابه «المعنى الإنساني للعلم» عن الارتياح العميق تجاه هذه التطورات، فيقول: «بتفكيري الخاص في هذا الموضوع الحيوي، فإنني في حالة عقلية أهدأ من أية حال يمكن أن أكون فيها في أية مرحلة سابقة من مراحل العلم .» فإذا افترضنا أن عبارات القوانين الفيزيائية صحيحة، فقد كان علينا أن نفترض - كما فعل معظم الفلاسفة - أن الشعور بالحرية وهم، وإذا اعتبرنا الاختيار الحر فعالا، فإنه لا يصح الاعتماد على قوانين الفيزياء وكان هذا المعضل مرهقا جدا، أما الآن، فلم يعد ثمة أي مبرر لاستعمال القانون الفيزيائي كدليل ضد الحرية الإنسانية.
106
من أجل هذا كان انتصاره لقضية اللاحتمية العلمية، بعد أن ترجمها أبلغ وأعظم ترجمة بكشفه الفيزيائي المذكور، بل ودفعه انشغاله الفلسفي الجاد بقضية الحرية إلى أن يقول «اللاحتمية الفيزيائية لا تكفي، يجب أن نسلح أنفسنا بإيمان عميق باللاحتمية.»
107
كقضية فلسفية مطلقة.
وسار كومتون في اتجاه اللاحتمية تقريرا للحرية إلى أبعد حد، حتى بدا وكأنه قد تطرف؛ فقد كان من الذين اتخذوا من نماذج الكوانتم النظرية تصميمات تفسر - أو على الأقل توضح - إمكانية الحرية الإنسانية، والنموذج يستخدم لا تعيين الكوانتم، وعدم إمكانية التنبؤ بقفزة الكوانتم، كنموذج لقرار إنساني عظيم الأهمية، إن النموذج يتكون من تعظيم لأثر قفزة منفردة؛ بحيث إنها إما أن تسبب انفجارا، وإما أن تحطم الوضع الضروري لإحداث الانفجار، وبهذا تصبح قفزة الكوانتم المنفردة، مكافئة لقرار عظيم.
108
اعترض الفيلسوف الكبير كارل بوبر على هذا، قائلا إنه ليس في الأنموذج تماثل مع أي قرار عقلاني متبصر، إنه بالأحرى نموذج لنمط صنع القرار الذي يحدث حينما يعجز الناس عن اتخاذ القرار، فيلجئون إلى رمي قطعة نقود، والواقع أن مجمل جهاز تعظيم قفزة الكوانتم يبدو بغير ضرورة، فرمي قطعة النقود، واتخاذ القرار على أساس نتيجة الرمية يفعل هذا بالمثل، وقد يقال إن بعض قراراتنا مثلها مثل رمية النقود، قرارات خاطفة تتخذ بغير تدبر وتعمد، طالما أننا في بعض الأحيان لا نملك الوقت الكافي للتدبر والتعمد كما في حالة قيادة السيارة أو غيرها، وبالتدريب تأتي القرارات صائبة بما يكفي، ونموذج قفزة الكوانتم نموذج لقرارات من هذا النوع، قرارات خاطفة. ويعترف بوبر بأنه من المعقول أن شيئا ما مثل الأثر العظيم لقفزة الكوانتم قد يحدث بالفعل في أذهاننا، إذا كنا نتخذ قرارا خاطفا ، ولكن هل القرارات الخاطفة مهمة؟ أو أنها مميزة للسلوك الإنساني العقلاني؟ يجيب بوبر بالنفي، منتهيا إلى أننا لا يجب أن ننساق كثيرا مع قفزات الكوانتم؛ لأنها تجعل عالم الصدفة المحضة هو بديل عالم الحتمية الكاملة كما قال الحتميون من مدرسة هيوم وشليك.
109
وليس الأمر حتمية شاملة ولا هو صدفة محضة، بل هو عالم من ثوابت يتدخل فيه عنصر المصادفة، ليضع أكثر من احتمال داخل نظام العالم، فيمكن أن نختار بقرار إرادي حر أيا من هذه الاحتمالات، دون أن تخل بالنظام، وما دام الأمر هكذا، فإن كومتون في واقع الأمر لم يشتط كثيرا، وإذا كان قد صمم بالفعل أنموذج الكوانتم، فإنه لم يحبذه كثيرا، والتعلل بقفزة الإلكترون لا يخل من معالجة مشكلة الحرية؛ لأنه لا علاقة له بالحرية التي هي كائنة طالما أن العالم لاحتمي، إن أنموذج قفزة الإلكترون كان لحل مشكلة أخرى، هي مشكلة العقل والمادة، والعلاقة بينهما وبين بعض النظريات في هذا والتي يقبلها كومتون (كما سوف نشير في الفقرة القادمة) تومئ بأن عقولنا تؤثر على أجسامنا بواسطة قفزات الكوانتم، وكأنها بهذا إعادة صياغة عصرية متطورة، لحل ديكارت لمشكلة العقل والمادة عن طريق الغدة الصنوبرية (وقد مال إدنجتون إلى مثل هذا)، كومتون لا يرفض هذه الحلول، لكنه لا يميل إليها، إنه لا يرفضها من أجل فرض واحد هو: توضيح أن اللاحتمية الإنسانية (الحرية) لا تتعارض مع فيزياء الكوانتم
110
كما تعارضت من قبل مع فيزياء نيوتن مكونة ذلك المعضل العسير.
إن انشغال كومتون العميق بمشكلة الحرية أدى به إلى الانشغال بمشكلة تأثير العناصر الإنسانية البحتة على العالم الفيزيائي البحت، أي تأثير الأغراض والتعمدات والخطط والقرارات والنوايا وسائر المقولات الإنسانية على العالم الفيزيقي الذي نحيا فيه، بعبارة أخرى، انشغل بمشكلة تأثير المعنى على السلوك، مثلما انشغل بمشكلة العقل والمادة والعلاقة بينهما.
111
ورأى كومتون أن حل هاتين المشكلتين يعتمد على مصادرة الحرية، وقال في هذا: الحل يجب أن يفسر الحرية ويجب أن نفسر أيضا كيف أن الحرية ليست فقط الصدفة، بل هي بالأحرى التداخل ذو الدهاء بين شيء ما عشوائي يشبه التحكم المقيد أو الانتقائي - كهدف أو معيار - وهذا الأخير بالقطع ليس ضربة لازب حديدية،
112
هكذا كانت الحرية عنده اختيارا بين إمكانيات، وبين التزامات متعارضة، إنها حرية مرتبطة بالتحكم، التحكم المرن
كمقابل للتحكم الحديدي
Iron Control Cast - الذي يأتي مع الحتمية وانتفاء إمكانيات الاختيار،
113
ارتباط الحرية بالتحكم، هو صميم مصادرة كومتون عن الحرية.
بهذا يوضح لنا كومتون هو الآخر كيف أن العالم المنظم أي الكوزموس اللاحتمي الذي نحيا فيه هو موطن للأحرار المسئولين، لا معتقل للمجبورين. ••• (38) «النظرية العامة للحرية في العالم اللاحتمي»: والواقع أن كينونة الحرية في العالم اللاحتمي تكاد تكون مسلمة فلسفية عامة، ولعله قد اتضح الآن أنها نتيجة منطقية تكاد تلزم من محض تحليل الحدود: تحليل حد الحرية وحد العالم، بصرف النظر عن مشكلة العقل والمادة، ومشكلات أخرى كثيرة، إذا نظرنا إلى الحرية الإنسانية في حد ذاتها فهي بطبيعتها كائنة في، وفقط في، عالم يتميز بقدر من اللاحتمية، ولكن إذا كانت المذهبية ووضع البطاقة الاصطلاحية دأب الفلسفة بما هي فلسفة، فيمكن أن ندرج هذه الحرية العميقة الأصيلة الكائنة بصفة أنطولوجية أساسية في العالم اللاحتمي تحت اسم مذهب قديم ومعروف، هو مذهب الحريين
Libertarianism ، ولست أقتنع إطلاقا بأي ارتباط لزومي بينه وبين الحرية الأنطولوجية، ولا بينها وبين أي مذهب أو اتجاه أو فيلسوف معين، وأيضا لست أقتنع بأية قوة معينة في مذهب الحريين، وعلى الرغم من هذا فإنه لا بد من تقدير بحثهم الشغوف عن أي لاحتمية من أجل الحرية.
مذهب الحريين - ببساطة - مذهب أي فيلسوف رأى الإنسان مختارا حرا، بغير حاجة لخداع النفس، ولا للفرار من هذا العالم ولا لوأد العقل أو العلم والإنصات لهواجس المشاعر وخفقات القلوب الرومانتيكية المراهقة، وقد ظل هذا المذهب أو الاتجاه طوال تاريخه وطوال تاريخ الفلسفة من أضعف ما يكون، حتى شاع نعته بأنه مذهب غريق، وأية محاولة لإنقاذه بدت يائسة، وسوف نرى أنه لم يعد هكذا بفضل اللاحتمية العلمية المعاصرة.
مذهب الحريين يتسع لأي اتجاه يرى الحرية الإنسانية هي المقولة الأساسية وكل ما عداها يتكيف تبعا لها، بدءا من الحرية الميتافيزيقية حتى الحرية السياسية، حيث نجد مذهب الحريين أشد تطرفا في تمسكه بالحرية من مذهب الليبرالية
Liberalism ،
114
ولعله أساسا مذهب أخلاقي، بدأ مع الأخلاقيين بحيلة ساذجة لتفادي الأثر الأخلاقي الوبيل الناجم عن الحتمية، فقالوا إن الإنسان حر لأنه مسئول، وهذا بالطبع وضع للعربة قبل الحصان، فالمفروض أن الإنسان مسئول لأنه حر أو غير مسئول لأنه غير حر، وليس العكس؛ لأن الحرية هي الأساس الأنطولوجي والمسئولية هي النتيجة العينية البعدية المترتبة عليها.
لقد فعلوا هذا لأنه قبل التطورات المعاصرة للفيزياء لم يكن ثمة أية حجة قبلية للاحتمية إلا هذه الحجة الأخلاقية، «وما كان باستطاعة أحد أن يجرؤ على اقتراح أية حجة بعدية أو برهان تجريبي على وجود أحداث خارج الذهن البشري ليست محتمة تماما».
115
ولكن كما يقول موريس كوهين، يجب أن تتخلى تماما عن الحجة البلهاء القائلة إن الإنسان حر لأنه مسئول، أو لأنه يعاقب ويثاب، والسبب بسيط هو أننا لا نستطيع إثبات أي شيء عن طريق حجة مؤداها أنه إن لم يوجد فلن نجد تبريرا لما نريد أن نبرره، إنهم يقولون ما كانت الإنسانية ستحمل أي شخص مسئولية ما لم تعتقد في الحرية، وعمومية هذا الاعتقاد تؤدي إلى افتراضات قبلية في صالحه، ولكن هذه العمومية لا تصدق من الناحية التاريخية، فمعظم الجبريين كالهندوس والجبريين الإسلاميين والكالفينيين المسيحيين، لم يترددوا في تحميل الإنسان مسئولية أفعاله، ولم تكن الخطيئة في الوعي البدائي دائما فعلا للإرادة الحرة، بل وإن أبشع الخطايا قد ترتكب بغير قصد، مثلا لمس تابوت العهد القديم اعتبرته السماء مستحقا للعقاب، والكاثوليك يعلمون أن الطفل غير المعمد يحرم من البركة.
على هذا، فلا تعارض دائما بين انتفاء الحرية والمسئولية وبين استحقاق الثواب والعقاب،
116
والأدهى أن حجتهم الأساسية كانت ملقاة على قارعة الطريق، إنها «الحس المشترك وحدسه القوي الفوري الذي يستشعره البشر جميعا بأن حرية الاختيار حقيقة واقعة»،
117
وفي محاولة تعميقها، يربطون الحس المشترك بالتجربة الوجودية الحية، وكانت أقوى محاولة لتأسيس مذهب الحريين على حجته المأخوذة من الحس المشترك، هي تلك التي قام بها تشارلز كامبل، على أنه يرى في الأخلاق المجال الأوحد للحرية، فأوضح أننا لا بد وأن نأخذ في الاعتبار دليل الخبرة الداخلية للفاعل الأخلاقي ذاته، أي من منظور مشاركته الفعلية في الفعل عينه، حيث يمر بخبرة حرية الاختيار وإمكانية أن ينساق للإغراء أو يقاومه ويخضع للواجب، الفاعل يمر بخبرة القرار والفعل الأخلاقي بوصفه نشاطا مبدعا، وهو على هذا حر،
118
والخلاصة أن تحليلات كامبل الفينومينولوجية لظاهرة الإرادة الحرة في الأخلاق، قد انتهت به إلى الآتي: «التفكير في فعل القرار الأخلاقي حينما يقبض عليه بجمع اليدين من المنظور الداخلي، يؤدي بالفاعل إلى إدراك إمكانية ثالثة بمنأى عن الضرورة، وذلكم هو النشاط الخلاق، حيث لا يحدد الفعل شيء إلا فعل الفاعل له.»
119
وهكذا تؤكد لنا خبرة الحس المشترك أن الإنسان حر.
ولكن هل يصلح الحس المشترك كحجة يقوم عليها مذهب فلسفي؟ إنه حتى ولو كان هكذا كما رأى جورج مور وكامبل وسواهما، فإنه - كما أثبتنا آنفا - إن كان يحدس الحرية، فإنه أيضا يحدس الحتمية الفيزيقية فيفسح المجال للنقيضين، مؤكدا الوقوع في الازدواجية والشيزوفرينيا التي نهيب بحرية المذهب أن تبرئنا منها، وعلى أية حال، كنا قد انتهينا في (الفقرة 10) من أية محاولة لإثبات الحرية على أساس الحس المشترك.
هكذا كانت بداية مذهب الحريين ضعيفة، والمذهب ذاته أضعف، وأي تحليل له يؤدي إلى نتائج ليست فقط لا يمكن الدفاع عنها، بل أيضا متناقضة مع ذاتها ومع مسلمات لا يمكن الإعراض عنها.
ومنطوق هذا المذهب يقوم على أن الإنسان يمكن أن يثاب أو يلام على الفعل، فقط إذا كان يستطيع أن يختار، وبالتالي يستطيع أن يتصرف بطريقة أخرى، وتقريبا كل الفلاسفة أيا كانت مشاربهم يتفقون على أن إمكانية التصرف بطريقة أخرى هي المقدمة الشرطية الضرورية للمسئولية الخلقية.
120
ومن هنا يقرر هذا المذهب ببساطة أن الإنسان حر؛ لأنه يستطيع أن يفعل غير ما يفعله، بمعنى أن ثمة بديلا آخر متاحا له ومفتوحا أمامه، والفاعل قد اختار بفعل إرادي حر واحدا من هذين البديلين (أو أكثر من اثنين)، الخلاصة: طالما أن الإنسان مسئول يثاب ويلام، فلا بد وأنه حر مختار بين بدائل متاحة له.
إذن قد بات واضحا لماذا كان هذا الاتجاه ضعيفا غريقا، وكانت الحرية بأسرها هكذا، فتلك هي النتيجة المتوقعة من صراعه اليائس مع جبروت الحتمية التي تشكل المعضل الأخلاقي (راجع فقرة 11)، وتحكم بأن كل حدث ضروري وسواه مستحيل فتنتفي تماما إمكانية البدائل تلك، وهي الشرط الأساسي لمذهب الحريين، ولكل حرية، الحتمية العلمية تقرر ببساطة، وبيقينها المطلق دائما، أن أحدا لا يستطيع أن يفعل غير ما يفعله، «وإذا كان كل فعل لكل فاعل يعتمد بظروفه الخاصة على شرط فيزيائي معين قد تم تحققه، وكانت الأفعال الإنسانية ككل لا يمكن أن تتحرر من قانون المعلولات الفيزيائية والعلل المحتمة تماما»،
121
كان التناقض الإبستمولوجي، فضلا عن التناقض المنطقي
122
قائما بين الحتمية العلمية وبين مذهب الحريين، وإقرارهم بإمكانية فعل بديل غير ما فعل.
ولما كان الحريون لا يملكون إلا اعترافا بأن العالم الفيزيقي هو بلا جدال الإطار الذي تحدث داخله الأفعال الإرادية،
123
كانت الحتمية العلمية تلزمهم - كما تلزم سواهم - بالاعتراف بأن مثل ذلك البديل ليس البتة متاحا أمام الفاعل، فيظل المذهب مجرد أحلام طوباوية، فمن أين السبيل إلى الواقع، والواقع حتمي؟ عادة ما يتلمس الحريون ذريعة مؤداها أن «الحتمية الكونية نسبية، وحرية الاختيار أيضا نسبية»،
124
وأنا حر في الحالات العادية التي لا يوجد فيها مانع خارجي يحول بيني وبين تحويل اختياري للبديل إلى فعل «ولست حرا في الحالات الأخرى»،
125
فصحيح أن الأحداث والأفعال السابقة قد تحتم فعلا وبصورة كاملة تلك اللاحقة، ولكن يمكن أن نجد بعض أحداث أو أفعال غير محتمة تماما بسوابقها، وها هنا فقط تقع الحرية والمسئولية،
126
ولكن أين يمكن أن نجد مثل هذه الأفعال؟ يجيب الحريون: إنها تقع في المستقبل، فقد ميزوا بين «يمكن» على وجه العموم وبصورة أنطولوجية، وبين «يمكن أن يفعل» بصورة عينية على وجه الخصوص، التي تخص الفاعل المعين في الموقف المعين، هذه تعني «يستطيع»، وتحليل يستطيع هو بالضبط تبيان لكل عمله الذي لم ينجز بعد،
127
أي القائم في المستقبل؛ وعلى هذا نجد أن النطاق الملائم للفعل الحر والإرادة لا يطابق بحال أي شيء في العالم الفيزيقي، إنه فقط يؤثر عليه.
لذلك فالعالم بخصائصه العلية، مهما كان حتميا هو بالنسبة لنصير هذا المذهب ملائم تماما لتأكيد أنه لا شيء في هذا العالم يحتم تماما الغايات النهائية والمواضيع والمثل التي يعمد الفاعل الحر - إذا ما كان حقيقة حرا - إلى تغييرها في العالم.
128
وهذه حجة واهية، فالحتمية المهيمنة على كل ما يحدث داخل الإطار الفيزيقي هي كل لا يعرف نسبية ولا أجزاء، وليست فقط منطبقة على ما هو كائن، بل هي أساسا تحتم لزوم ما سيكون عنه، أي تحتم المستقبل بصورة كاملة كوليد شرعي للماضي؛ لذلك، فمثل هذا التذرع بالمستقبل لإجراء ذلك التغيير الإرادي وتحقيق تلك الغايات الحرة، لا يعدو أن يكون قصورا في الرمال، بل في الهواء، ولكن هل يفلت حتى الهواء من بين فروج أصابع الحتمية؟!
هكذا نتبين أن مأساة المذهب هي ذاتها مأساة أو معضل الحرية في العالم الحتمي، خصوصا البعد الأخلاقي للمعضل، وكانت مجمل مناقشات أقطابه محاولات يائسة لمهادنة الحتمية على العموم والحتمية العلمية على الخصوص، والتملص من بعض نيرها،
129
بعبارة أخرى سبب ضعف المذهب وعجزه عن الاعتراف القوي الواثق بالحرية هو في جوهره وخلاصته وعماده، أن المذهب في حاجة شرطية لزومية إلى اللاحتمية، ولكن من أين يأتي بها؟ لا مجال لهذا التساؤل الآن بعد أن أهدانا العلم المعاصر لاحتمية مكينة.
وتماما كما أن المذهب يتناقض منطقيا مع الحتمية العلمية وعالمها الذي يلغي الحرية، فإنه يتسق منطقيا مع - وفقط مع - اللاحتمية العلمية وعالمها الذي يتسع للحرية، ليس فحسب، بل وأيضا يلزم عنها - فقط عنها - لزوما منطقيا، فإذا تذكرنا أن فكرة البديل هي أساس مذهب الحريين، كما هي في الواقع أساس أية حرية أنطولوجية، لوجدنا أن الطبيعة الاحتمالية لأحداث العالم اللاحتمي، بنفيها لدرجة 100٪ عن أي حدث، تحمل معها دائما وبالضرورة المنطقية احتمالا آخر له، حتى ولو كان 0,0001٪ فإنه تعني أن مقولة البديل قائمة، ولا حدث مفروض بالضرورة الكونية المطلقة؛ فتتوافر إمكانية الاختيار أمام الفاعل، ليصبح حرا مسئولا .
على أن الخوف من المسئولية والخوف من اللاحتمية، يفصح عن وجهه الواحد في صورة اعتراض على هذا التساوق القائم بينهما، والذي يطرح الحرية بثقة واتساق، يفصح عن وجهه في صورة التساؤل الآتي: اللاحتمية تحمل في سياقها العشوائية
Randomness
فأيهما أفضل، أن تجيء الأفعال الإنسانية عشوائية أم أن تأتي بوصفها ناشئة عن شخصية الفاعل؟ وبالطبع البديل الثاني أفضل، ويجمل بنا الأخذ به، لننتهي إلى أن الأفعال الإنسانية محددة بعوامل البيئة والوراثة التي شكلت شخصية الفاعل، أو حتى محددة فقط بخصائص شخصيته، وها نحن ذا قد وقعنا من جديد في براثن الحتمية وبالتالي لم نفعل شيئا، وعلينا أن نعود من حيث بدأنا.
وليس الأمر هكذا وأبدا لن نعود للحتمية، وكثيرون من فلاسفة الحرية العلميين، منذ أبيقور ولوكريتوس حتى راسل وإدنجتون، قد تفادوا هذا بحجة مقنعة، مفادها أن الفارق فيزيقيا بين الأحداث العشوائية وغير العشوائية يعود إلى غياب أو توافر عنصر معين من عناصر التحديد، بطرحه على الأفعال الإنسانية نتوصل إلى أن الفارق بين الأفعال القصدية والعشوائية لا يرجع بالطبع إلى أن الأولى حتمية والثانية لاحتمية، بل يرجع إلى عنصر الإرادة الحرة في الأول وغيابه في الثاني،
130
لتأتي الأولى متعمدة أي قصدية، والثانية عفوية، وبهذا نعود إلى ما لاحظناه في إبستمولوجية العلم اللاحتمية خصوصا الفروع الإنسانية من العلم، أي الإقرار بالحرية كعنصر هذا العالم، ولا فهم سليما له إذ نحن تجاهلنا هذا العنصر الأنطولوجي الجوهري الأصيل: الحرية الإنسانية، إذن فقد ارتدت سهامهم إلى صدورهم وجعلونا نأتي بتأكيد أعمق لأنطولوجية الحرية، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، يسهل تبيان تهافت هذا الاعتراض وأنه محض دوران منطقي حول الحتمية، حيث إن العشوائية هنا تأتي بقصد إضفاء اللامعقولية على الأفعال اللاحتمية، مثل هذا الاعتراض كثيرا ما يثار في صورة أخرى، وذلك حين يقال إن التصرف أو الاختيار المحدد بين الاحتمالات سوف يصبح مع اللاحتمية لامعقولا طالما أنه لا يوجد شيء يعين هذا الاختيار دون سواه، ولكننا نتساءل أولا ما الذي يمكن أن يعين الاختيار الذي هو اختيار ويجعله معقولا ومسئولا، إلا الحرية الإنسانية الواعية المعقولة والمسئولية؟ ونتساءل ثانيا: «ما الذي يعنيه القول إن التصرف الحر أو اللاحتمي معقول؟» إذا كان يعني «إبستمولوجيا» أن الحدث لا يمكن من حيث المبدأ الاستدلال عليه استدلالا يقينيا، طالما أنه لا يتبع بالضرورة مقدمات أخرى، لكان هذا يعني أن الحتمية أو التفسير الحتمي في ذات الهوية مع المعقول،
131
وهذا ما انتهينا من دحضه في المدخل، أما إذا قلبنا العملة إلى الوجه الأنطولوجي وقلنا إن اللامعقولية هنا تعني أن الفعل لا يتبع بالضرورة شيئا ما آخر، فإن هذا ليس نقدا للفعل الحر أو اللاحتمي بل بالأحرى وصفا له.
من غير المعقول الاستمرار في الدائرة المفرغة القائلة إن الحتمية هي ذاتها المعقولية، وهي فقط المعقولية، وقد حطمناها بالوقوف على اللاحتمية في العلم المعاصر.
الوضع السليم الآن، كما أثبت تطور العلم على مدار القرن العشرين، أن اللاحتمية هي المعقولية، وتصحب معها الحرية التي تعين اختيار سلوك محتمل دون سواه.
هكذا يتجلى إنقاذ اللاحتمية العلمية لمذهب الحريين:
فقد اتضح أن محاولات تفنيده عجز عن تخلص العقل من الحتمية، فيجعلها مرادفة للمعقولية، بالتالي يتصورون أن الأفعال إما عشوائية وإما حتمية، وبالطبع الأفضل أن تكون حتمية، وأحسب أن التحليلات السابقة والآتية للحتمية واللاحتمية العلمية تجعلنا ندرك مدى افتقار هذا الاعتراض الدائري للنضج العقلي، فقد أدركنا أن العالم اللاحتمي، ليس كما يتصوره المتخلفون زمانيا وعقليا، أي ليس عالما من العشوائية المحضة والفوضى، إنه عالم ذو معينات (وليس محتمات) مثل عوامل البيئة والوراثة، والشروط الفيزيقية والاجتماعية والتاريخية للموقف، وسائر العناصر التي تخرج عن فعل وفعالية اختيار الإنسان، هذه العوامل لا تعني إلا الحدود التي يمارس الفاعل داخلها حريته واختياره الإرادي ليكون التعيين النهائي للموقف، وبدون تلك الحدود لا موقف وبالتالي لا حرية، بل ولا عالم، ومن سياق هذه العناصر التي تعين - لكن لا تحتم - تتواتر الأحداث، وكل أحداث الكون لاحتمية، ولكن ليس معنى هذا أنها جميعا عشوائية، بالمعنى الذي يجعلها تنبثق فجأة كنبت شيطاني، ثمة فئة معينة من الأحداث سوف يتحقق واحد منها، وليس أي حدث على وجه الإطلاق، هكذا بصورة خزعبلية إبستمولوجيا وأنطولوجيا.
ومعنى هذا أن كل حدث يمكن أن يكون له بديل آخر - أو بدائل أخرى - بغير أن يتهدم العالم وتتحطم سلسلة أحداثه وتقوم القيامة، أي أن الإنسان حر، يمكنه اختيار أي من البدائل أو من الاحتمالات أو من الإمكانيات المطروحة أمامه، على أن يتحمل في النهاية المسئولية، وإذا أخطأ لا يلومن إلا نفسه.
وإذا عدنا إلى أخلاق التساهل التي رفعت الحتمية لواءها لقلنا للحتميين إن الأمر ليس إشباع عقد نفسية وشذوذات سادية بالترفع عن المخطئين والنيل من المجرمين أو صرعهم - كما قال ألبير باييه - اللاحتميون أكثر من الحتميين - ألف مرة - إدراكا أنه لا أحد معصوم، وأن تكوين وخصائص شخصية القديس أو شخصية الأثيم كأية عوامل في هذا الوجود، معينات للموقف لا تحتم أي شيء بعينه، بل تحمل أكثر من إمكانية، وحرية الإنسان تتدخل كعامل لتحديد أية إمكانية ستحدث.
المسألة أن اللاحتمية هي الواقع وهي المثال؛ لذلك ففيها التفسير المعقول للأمر الواقع وللمثال المنشود من أن الإنسان يتحمل ولا بد أن يتحمل مسئولية ما جنت يداه وألا يلقي بالملام على كيان وهمي اسمه سلسلة العلل الفيزيائية والسيكولوجية والاجتماعية.
إنه الالتزام بالموقف الوجودي الذي تمليه اللاحتمية على الإنسان حين تخبره أنهم خدعوه لما قالوا له إنه مجرد ترس الآلة الكونية العظمى، ولما اتضح أن الكون ليس هكذا ... ليس آلة، انتهينا إلى أن الإنسان ليس هكذا ... ليس ترسا، بل هو فاعل حر ومبدع ومسئول.
الفصل السادس
انفراجة المعضل في عالم العلم المعاصر
(39) لو كان ثمة الكثير لكي نقوله هنا، لما كان ثمة داع لكل الحديث السالف، المسألة أصبحت الآن أوضح من أن تحتمل جدالا. (أ)
الحرية الإنسانية تعني إمكانية الاختيار بين بديلين أو أكثر. (ب)
حتمية العلم الحديث جعلت كل حدث محتوما، أي أن سواه مستحيل، فلا بدائل، وبالتالي لا حرية. (ج)
لاحتمية العلم المعاصر، تجعل كل حدث احتماليا بنسبة، مهما كانت عالية، فثمة إمكانية مهما كانت ضئيلة فهي قائمة ، إنها إمكانية لبديل واحد على الأقل، إن لم يكن أكثر. (د)
ولما كانت بدائل الأحداث قائمة، فإن حرية الإنسان كائنة.
بكل هذه البساطة تنحل أزمة الحرية، ويئين للعقل البشري أن يهدأ بالا من معضل العلم/الحرية، الذي أتاه بالوبال.
على أنها ليست حرية استواء الطرفين أو اللامبالاة كما وصمها الحتميون، فلا استواء أبدا في العالم اللاحتمي، إنها حرية توافر الطرفين فحسب، التي تحمل المسئولية المرهقة، وتتطلب مبالاة ضخمة، لحسبان حساب كل من الطرفين أو الأطراف؛ تمهيدا للاختيار بينهما، والعوامل المرجحة لا تحتم شيئا طالما أن البديل الآخر قائم، وهذا ما تشهد به التجربة العينية الحية، كثيرا ما يختار الإنسان طرفا مبرراته أضعف، وقد يصيب فتأتي إصابته نافذة، وقد يخطئ، والخطأ هو الثمن المدفوع للحرية، وهو أيضا سبيل للتعلم، كما يشهد تاريخ العلم البحت من ناحية، وكما تقر مناهج التربية وعلم النفس من الناحية الأخرى.
أتى المعضل من أن الحرية مضادة للعلة الكافية، أو لمبدأ العلية، وقد اندثرت العلية من عالم العلم، وكان اندثار العلية، والحتمية إجمالا، اندثارا للتناقض بين العلم وبين إنسانية الإنسان، هذا هو فضل العلم المعاصر الذي يمكن أن يؤدي بلاحتميته إلى التقريب بين وجهات نظر، طالما تصارعت وتناقضت باسم المرحلة السابقة من العلم ... المرحلة الحتمية.
في العالم اللاحتمي الذي نبذ العلية، لا تكون المقدمة (أو العلة جدلا) متبوعة بنتيجة واحدة أو جدلا بمعلول واحد محتوم، بل بعدد من الاحتمالات، «فلتتصوروا أن حالة معينة من حالات العالم الجامد، ولتكن «أ» يمكن أن يتبعها أي من الحالات المختلفة، مثل ب، ج، د، ... وكلها تؤدي إلى حالات مختلفة للعالم في المستقبل، في العالم اللاحتمي لا يوجد سبب بارز يجعل من الضروري أن تكون «أ» متنوعة بالحالة «ب» بدلا من «ج» أو «د»، ولنفترض أنه في بعض الحالات التي تعرض للعقل البشري، يكون للعقل بعض القدرة على توجيه بعض النواحي الدقيقة من العالم إلى أي من الحالات: ب أو ج، حسب اختياره، بحيث تتفق كل الانتقالات: أ ← ب، أ ← ج، أ ← د ... مع قانون بقاء الطاقة وكمية الحركة، أعني مع أن الكون كوزموس منتظم، فسوف يكون لدينا عقل يؤثر على المادة بدون أن يبذل قوة مادية أو تحولا للطاقة، وهو يشكل الكون إلى حد ما وفق اختياره،
1
ويظل كوزموس قابلا للتعقل العلمي الرفيع. ••• (40) «إنها اللاحتمية العلمية»: فقد حطت رحال العلم على شطآن اللاحتمية المرهقة والمقلقة ولكن الرحيبة والواعدة، وانقطعت كل صلة بينه وبين الحتمية الميكانيكية البائدة، لقد انتزعت اللاحتمية مقاليد السلطة من الحتمية، فكان انقلابا من النقيض إلى النقيض، فكل ما تعنيه اللاحتمية أن الحتمية كاذبة، إنها سلب أو نفي لها ولافتراض أن كل الأحداث محددة سلفا بدقة مطلقة، وبكل تفاصيلها اللامتناهية في الصغر أو في الكبر، تنفي اللاحتمية هذا، لكنها لا تعني ما عناه هيوم من أنه ليس ثمة أية حادثة ترتبط بالأخرى، بل تعني أن القوانين التي تربط هذه الأحداث ليست حتمية، فحتى لو كان ثمة حدث يشترط آخر كظرف أساسي أو أولي له، أو كان بينهما علاقة وثقى فليس يعني هذا علية، فضلا عن أبدية المبدأ العلي، أو أن ذلك الحدث فضلا عن كل الأحداث محتمة سلفا.
مع النظرة اللاحتمية الأبسط والأرحب والأصدق، والمتخلصة من كافة النزوعات اللاعلمية، نجد عدة عوامل تؤدي علاقاتها ببعضها إلى عدة احتمالات، كلها ممكنة وحدوث أي منها أو عدم حدوثه لن يهدم العلم، ولا العالم، ولن يحيله إلى فوضى، إنه تعاقب الأحداث اللاحتمي لا تسلسلها الحتمي، وتتابعها وفقا للقوانين الاحتمالية لا العلية، والأحداث في كلتا الحالتين مترابطة ومنتظمة، وقابلة للتعقل والتفسير القانوني والنسقي، ولكن شتان ما بين التفسيرين.
حلت اللاحتمية محل الحتمية، فحل الترابط الإحصائي بين الأحداث محل الترابط العلي، والاتجاه المحتمل محل الاتجاه الضروري، واحتمالية الحدث محل حتميته، لم يعد حدوثه ضروريا ولا حدوث سواه مستحيلا، فأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث، وليس كشفا عن القدر المحتوم، ومن ثم انقطعت كل همزة وصل بين العلم وبين الجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف المطلق الذي انكشف لما تصدعت تصورات الزمان والمكان المطلقين والثوابت المطلقة، فاختفى المثل الأعلى للعالم بالحقيقة المطلقة كشيطان لابلاس الذي يعلم كل شيء ويتنبأ بكل شيء، لما اختفى المثل الأعلى للعالم الذي يدور كما تدور الساعة المضبوطة، والنتيجة: أن ارتدع العلماء عن الغرور الأهوج المريض الذي أكسبتهم إياه الحتمية. إنهم أدركوا سذاجة وسطحية تصور العمومية لقوانينهم، بحيث لا تخرج من بين يدي أي منها ولا من خلفه صغيرة ولا كبيرة، لا في الأرض ولا في السماء.
على هذا انتهينا إلى أن اطراد الطبيعة، الذي يبرر العلية وهي تبرره، مثله مثلها افتراضات بلا أساس، كما أثبت تحليلات سابقة، أما ما أضافته ثورة العلم اللاحتمية، فهو أنه لم يعد ثمة مبرر لبقائهما، ولا حاجة لهما، إن الفيزيائي المعاصر الذي يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف عن قوانين انتظام الطبيعة، لا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم حدود الدقة، ويدرك جيدا عبثية وصعوبة أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تماما، إلا داخل حدود معينة من اللاتعين وبالتالي للخطأ المحتمل، إنه الآن لا يبحث عن اطراد الطبيعة وأحداثها، ويكفيه انتظامها القائم على أساس إحصائي، لا علي، ليبحث عن احتماليتها، أي ترددها بنسبة مئوية معينة، مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي، ويفترض أنها سوف تسري تقريبا على المستقبل. لقد استرحنا أخيرا من العلية والاطراد، ومن دورانهما المنطقي الشهير، انهارا معا حين تحققنا من دخول عنصر المصادفة في بنية الطبيعة، فاكتسبت المصادفة ثوبا قشيبا، وتخلصت من الأدران الجائرة التي طالما لحقت بها في عصور يقين العلم الحتمي، أما اليقين فلا حديث عنه سوى أنه تبخر من دنيا العلم حتى شاع قول دارج الآن: العوام على يقين من كل شيء، ويكفي أن العلماء ليسوا على يقين من أي شيء. فقد كانت أبرز معالم الثورة العلمية وأشهر إنجازاتها، في أنها جزمت - منطقيا - من أن أية قضية إخبارية بما هي إخبارية احتمالية ونقيضها ممكن، ولا يقين إلا في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون إخباري وهي قضايا المنطق الصوري والرياضة البحتة ؛ وعلى هذا، إذا كانت السمة الرياضية بينة للحتمية فإنها أيضا وبنفس الدرجة بينة لللاحتمية، غير أنها في الواقع لا تصلح بينة لأي منهما، فالرياضيات محايدة تماما، محض رموز تعبر بها عن مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون سواء افترضناه حتميا أم لاحتميا، على أن رياضيات الإحصاء وحساب الاحتمال المعقدة النامية حديثا، هي ألف باء للعلم المعاصر، ومنطق الاحتمال عموده الفقري، بعد أن كانت العلية هي العمود والعماد والعمدة، إنه ذلك التطور المفاجئ الذي حل بمفهوم المصادفة، فحلت موضوعية الاحتمال محل ذاتيته، خصوصا بعد نشأة ونجاح الميكانيكا الموجية البارعة، ومعنى حلول موضوعية الاحتمال محل ذاتيته أن اللاحتمية أصبحت طبيعة العلم والعالم، إبستمولوجيا وأنطولوجيا.
أما التصور الأنطولوجي للحتمية الميكانيكية فقد أضحى أثرا بعد عين، خصوصا بعد النظرية النسبية، ولا تبقى إلا المادية الكلاسيكية، التي كانت الأمينة كل الأمانة على كل ما يقول به العلم، وهذه المادية البليدة الساذجة قد أصبحت في نظر علماء الطبيعة المعاصرين نموذجا على التفكير الذي راح عهده وتجاوزناه، إنه تفكير متخلف منحصر في الكتل الصلبة التي تصطدم بها القدم حينما تتعثر في الطريق، وقد استحالت المادة على أيدي العلم المعاصر إلى كائن أكثر شفافية من أي كيان تحدث الروحانيون عنه.
وإذا قارنا هذا بعناصر الحتمية التي عرضها المدخل - في التعريف بها - اتضح كيف اندثرت الحتمية وتهاوت أوثانها. ••• (41) فيالخيبة أمل لابلاس والحتميين جميعا! حقق العلم المعاصر حلمهم فنزع القشرة الخارجية للعالم بل وللذرة، ولكنه - لوكسة الحتمية - لم يكتشف وراءها آلة ميكانيكية هائلة، بل «اكتشف كل ما يثبت خطأ التفسير الميكانيكي لفيزياء نيوتن وخطأ الزعم بأن كل الظواهر خاضعة لقوانينها، الآن ومنذ بداية هذا القرن [العشرين] تم رفض هذا التفسير نهائيا، واتضح مدى سذاجة تصوراته العينية لمفاهيم الكتلة والقوة».
2
ضاع مرام الحتميين في التحديد الفردي لمسار وموضع كل جسيم، وكثوابت مطلقة تظل كما هي بمنأى عن أية تغيرات متوقعة، فتصلح مقدمة للعلم الشامل.
وسبحان مغير الأحوال، لقد انقلبت الأوضاع الآن، «واللاحتمية التي كانت حتى عام 1927 قرينة الجهل والإظلام، أصبحت هي الطراز المسيطر ».
3
والمعلم الحقيقي على عصرية السمة العلمية، أما الحتمية التي كانت المثال الأعلى وقدس الأقداس فقد أصبحت الموضوع الأثير لسخرية العلماء، فيقول عنها العالم الفرنسي جان لويس دتوش
J. L. Destouches
إن قيمتها «لا تزيد عن قيمة الرأي القائل بأن الحركة معدومة، أو بأن الأرض منبسطة.»
4
أما إدنجتون فيرى أن نصيبها من الصحة «لا يزيد عن نصيب الفرد الروكفوري - أعني الفرض القائل بأن القمر مصنوع من جبن الروكفور».
5
وسواء انسقنا مع التيار السائد بين العلماء الشبان بالهزء والسخرية من الحتمية، أو تجملنا بأن نرحم عزيز قوم ذل، فإننا قد أقبلنا على مرحلة جديدة من التطور، وأصبح لزاما علينا توديع «ذلك العصر السعيد المليء بالثقة، الذي يفترض أنه من الميسور وصف الماضي واكتناه المستقبل، إذا عرفت لقطة واحدة من لقطات الماضي».
6
كان عصرا سعيدا تسوده آراء سعيدة قيل عنها باستخفاف إنها «أملت في بناء عالم من كرات تافهة».
7
لا نقصد الحط من قدر العلم الكلاسيكي، وليس فينا من يفعل هذا، فقد حقق نسقه الجليل الذي ظل هكذا حتى اليوم، إنما المقصود الحط من شأن حتميته البائدة، والتي اتضح أنها فكرة عن العالم على شيء كبير من السذاجة، فكرة عن عالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم فعن طريق علماء الغد».
8
لقد ظنوا أن كل تغيير يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان وفي مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد وأن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، وسيتم هذا الوصف تماما بواسطة معادلات تفاضلية أو مشتقات جزئية تتيح لنا تتبع موقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته! توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة،
9
إنها الواحدية الشاملة، لكن تأكدنا الآن من «أن الأمل في التمكن من تفهم العالم كله عن طريق جزء صغير منه لا يمكن أبدا أن يدعم منطقيا».
10
ولم تكن الحتمية إلا حلما من أحلام اليقظة، حلما بالعلم الشامل، الذي يغدو أكثر حقيقية بكل تقدم تحرزه الفيزياء، حتى أصبح يبدو وكأنه كابوس مرعب لا يمكن الهرب منه.
11
وارتهن التحرر من هذا الكابوس باقتحام العالم الميكروسكوبي، لقد حاصرت الحتمية الفيزياء؛ لأنه على طوال مدى الظواهر الماكروسكوبية كانت عدم القابلية للتنبؤ صغيرة بدرجة يمكن إهمالها، فبدت الصياغة العلية الصارمة وكأنها أوضح وأبسط أسلوب للتعامل معها، وبالنسبة لسائر الأغراض العلمية، وفقط حين تعرضنا للظواهر الميكروسكوبية أدركنا أن الصياغة العلية غير دقيقة ولا يمكن أن تكون أساسية، وأنه من المستحيل الوصول للنبوءة بدقة ويقين،
12
حتى ولو وجد عقل لابلاس الفائق، وكان الإحباط العنيد لجهودنا من أجل إدخال المعرفة بهذا العالم الميكروسكوبي في قلب الخطة الحتمية إيماءة بأن نبدل هذه الخطة، فقد ثبت أننا نهدف إلى مثال زائف وخاطئ، مثال الوصف الكامل للعالم، وبأنه من الضروري البحث عن إبستمولوجيا جديدة لتلائم هذه الظروف،
13
فلما كانت الإبستمولوجيا الحتمية - قائمة كمفهوم علمي - على أن مبادئ الميكانيكا بديهيات أولية مبرهنة بذاتها غير قابلة للتحدي، فإنها قد انتهت بنشأة الميكانيكا اللانيوتونية، وأدركنا أن مبادئها الأولية كمبادئ أي فرع آخر من فروع الفيزياء، عرضية اتفاقية، أي ليست مشتقة من قوانين المنطق المطلقة، وأن نقائضها فروض محتملة، بل وأن صياغة نيوتن للجاذبية غير دقيقة في بعض الأركان والأبعاد، وليست المسألة مسألة قانون فيزيائي معين، بل مسألة الدقة المطلقة للفيزياء الكلاسيكية التي اهتزت بالأعمال التجريبية في الحركة البراونية والنشاط الإشعاعي وظواهر الطاقة،
14
وسائر ما أوضحه المدخل عن أزمة العلم الحتمي وأيضا عن ثورة العلم المعاصر والكوانتم والنسبية ... بهذا تحطمت الأسس الراسخة للعلم وأصبحت لا يقبلها عقل، الزمان والمكان والمادة والأثير والكهرباء والنزعة الميكانيكية والعضوية، المظهر البادي والنمط والبيئة والوظيفة ... كل هذه المفاهيم تتطلب إعادة التفسير،
15
وإذا كان هذا ممكنا فإنه يتضمن كارثة لتلك الأسس، هي إنكار الحتمية.
لم تكن الحتمية مبدأ قبليا، ومع هذا لم يكن إنكارها متصورا للعقول، ليس فحسب بل وأيضا أملاها العلماء كأمر واقع، وبوصفها نظرية مهيبة، ولكن هذا المرسوم العلمي قد انقلب في النهاية إلى اقتراح لا تجيزه الوقائع،
16
وكان من الصعب على اللاحتمية أن تشق طريقها في الفيزياء ، إلى أن تطور التقنيات والأساليب الفنية للتعامل مع عالم لاحتمي، وقبل هذا كانت اللاحتمية عاجزة عن منافسة الحتمية كأسلوب لوضع وقائع الخبرة في نظام.
17
وكنتيجة لتقدم نظرية الكوانتم، لم تعد الفيزياء رهينة النظام أو الخطة الحتمية الموهومة للقوانين، وتوقفت الحتمية تماما عن أدنى مساهمة في الصياغات الأخيرة للفيزياء النظرية،
18
بدأ الأمر بلامبالاة تجاه الحتمية أو إهمال لها في المرحلة الأولى لنظرية الكوانتم، على أساس أنه حتى ولو كان ثمة خطة علية صارمة تكمن خلف الظواهر، فإن البحث عنها لم يعد أسلوب عمل مجديا، وثمة مثل أخرى من الأجدى تعقبها، لقد أدرك الجميع أن العلية فقدت دورها، البعض ندموا وأملوا في أن تعود يوما ما، وكان هذا مواقف شخصية والموقف المعتمد هو اللامبالاة تجاه الحتمية أو أن أحدا لم يعد ينشغل بها، وبعد أن حدث التطور الأعظم في نظرية الكوانتم الجديدة التي بدأت عام 1925 وتم اعتمادها عام 1927 حين ظهر مبدأ اللاتعين لهيزنبرج انقلبت هذه اللامبالاة تجاه الحتمية إلى عداء صريح لها، وجهود موجهة بتعمد من أجل الخلاص النهائي منها،
19
فقد توصلنا إلى نقطة هامة جدا، وهي أن اللاحتمية في الفيزياء المعاصرة ليست البتة مجرد فشل للحتمية، كما لو كنا نصادر على استئذان لفشلنا في اكتشاف العوامل المؤدية للحتمية، وكأن هذه العوامل موجودة فعلا، لقد أصبحت اللاحتمية - خصوصا بعد مبدأ هيزنبرج - تعميما كميا دقيقا، تماما كقوانين الطبيعة، وكأي من تلك التعميمات التي كانت تشكل ما كنا نعتقد فيه من قانون علي،
20
بعبارة أخرى، لم يعد الأمر مقصورا على أننا لم نعرف بعد أن الحتمية صادقة، بل بالأحرى لقد عرفنا أنها كاذبة.
21
فكان الانتصار الساحق للاحتمية، وتوطد نهائيا بفعل عوامل كثيرة، أهمها أن الانتصارات العظمى للتنبؤات في الأوقات المتأخرة تقوم على قوانين إحصائية صريحة، ولا تستند البتة إلى أي أساس علي، والأهم من ذلك، أن القوانين الكلاسيكية المقبولة حتى الآن، والتي ظهرت في البداية على أنها علية، قد أثبت البحث الدقيق أنها ذات طبيعة إحصائية.
من هنا حلت اللاحتمية محل الحتمية في كل موضع، فأحرزت الفيزياء - ولا تزال تحرز - تقدما سريعا؛ لأنها لم تعد تضع الخطة العلية كهدف عملي،
22
بعبارة أخرى بسبب التحرر من وهم الحتمية، أي الظافر باللاحتمية، وبالتالي الظفر بعلم ليس ينفي الحرية الإنسانية، بل يتسع تماما لها. ••• (42) «الحرية الإنسانية في عالم العلم المعاصر»: إذا كان العلم الراهن (وهو أقصى مد عقلي) يمكن أن يعلمنا كيف تكون العقلانية والنسقية، يحمل عالمه كل هذه اللاحتمية، فكيف تبرز إذن تلك التصورات التي ترى الحرية من مخلفات عصور الجهالة كيانا أهوج، عالمها اللاحتمي عماء وفوضى، كل شيء فيه جائز ولا نظام له، ولا علاقة بين أحداثه؟!
يعلمنا العلم المحدث علم النسبية والكوانتم، كيف أن العالم اللاحتمي كوزموس منتظم، بل وذو ثوابت عتيدة تذوي بجوارها الثوابت الحتمية، تعني اللاحتمية حدودا معينة للاحتمال، ومجالا محددا للإمكانيات، بعبارة أخرى ثمة أوضاع معينة ولكنها ليست محتمة، وهذه الأوضاع المعينة هي التي تمارس الحرية من خلالها، عن طريق الاختيار بين البدائل والسبل المطروحة للسلوك، وليس أي سلوك أو تصرف على الإطلاق، مثل ذلك العالم الذي يمكن لأي شيء فيه أن يصبح أي شيء، والذي يتوقع من أي شخص فيه أي سلوك أو أي تصرف ... مثل هذا العالم لا يتراءى لغير عقول مريضة يعوزها العلاج النفسي، وهو عالم ليس يصلح للحرية ولا للحتمية، بل إنه لا يصلح للوجود أصلا، فضلا عن الوجود المتعقل المعاش.
عوامل البيئة والوراثة والدوافع السيكولوجية، ومعها الجينات أو المورثات، لا تنفي أهمية الفوارق الفردية، وليست تحركنا كما تحرك الخيوط الدمى، بل تسهم في طرح احتماليات معينة للسلوك المعين في الوقت المعين، وقد تجعل لواحدة من الإمكانيات احتمالية أعلى من سواها، ومهما كانت عالية، فليس ثمة حتمية لا فرار منها، إنها تسهم في تشكيل الموقف الذي تمارس الحرية من خلاله، وطبعا كثير من العوامل التي تشكل الموقف ربما لم يخترها الفاعل، ولا يمكنه أن يختارها، ولكن مهما كان فيها من عسف وظلم - كأن يبلى دونا عن الجميع بمصيبة أو عاهة - فإن الحرية الأنطولوجية كائنة، تمكنه من مواجهة المصيبة بأكثر من تصرف؛ ليكون المجال العيني لإثبات عزم الإرادة وقوة الحرية، أما عن الظلم في حد ذاته، فليس يتعلق بقضية الحرية الإنسانية، بل ربما بقضية العدالة الكونية.
رأينا - في المدخل - كيف ينتظم الكون الفيزيقي في نظامه البديع بقوانين كلية إحصائية، بمعنى أنها ليست ضربة لازب أو قضاء محتوما على الجسيم المنفرد، بل يظل الجسيم المنفرد - في العالم اللاحتمي التعددي - يحتفظ بشيء من الفردانية داخل القانون، أجل، كلنا ننشد أن تصل العلوم الإنسانية إلى درجة التقدم الباهر التي أحرزتها الفيزياء وحين يصل علم الاجتماع إلى هذه الدرجة، سيظل كل فرد في المجتمع محتفظا بشيء من الفردانية ... من الحرية ... داخل القانون الإحصائي الدقيق.
إن الفيزياء المعاصرة تتنبأ بالحدث، وبدرجة احتماليته ودرجة اللاتعين الكائنة فيه بمنتهى الدقة، فهل سيستطيع علم النفس هذا يوما، فيتنبأ بالسلوك الإنساني ودرجة الحرية الكائنة فيه؟ هذا أمل علمي بحت، وليس يهم الفلسفة كثيرا، فكما أوضحنا الحرية الأنطولوجية، إما أن تكون أو لا تكون، إما منفية وإما مثبتة، وقد سحب العلم حتميته التي تنفيها، إنها إذن غير منفية.
وليست الحرية غير منفية فحسب، بل يمكن جعلها مثبتة إيجابيا، إنها اختيار بين عدة أحداث، لاحتمية العالم تجعلها كلها ممكنة، ولا تفرض أيا منها، ولكن واحد فقط هو الذي سيحدث، وربما يحدث فيزيقيا كمصادفة موضوعية، ولكن إذا كان الموقف على مستوى السلوك الإنساني وتدخل عنصر إنساني فعال، فأحدث هذه الإمكانية دون سواها، مع أن سواها كان يمكن أن يحدث لو لم يتدخل هذا العنصر بالذات، فإن هذا العنصر أو العامل الفعال، هو ما نسميه بالحرية الإنسانية، إنها إمكانية أو قوة الاختيار المتعمد وهي سلوك إرادي موجه، وبهذا يحمل الفعل الإنساني طابع الجدة، وتصبح المسئولية كائنة: فهل هذا الاختيار الموجه يتناقض مع المعايير والمبادئ الأخلاقية التي يسلم بها الفاعل؟
مع اللاحتمية يختلف موقف اللص عن موقف المصاب بجنون السرقة، الأخير وعيه غير سوي، ومرضه ينفي أو يضعف احتمالية السلوك السوي المتسق مع المبادئ الأخلاقية، فلا مسئولية، أما مع اللص فقد انتفى هذا النفي، لتصبح المسئولية كاملة، سطحية الحتمية أفضت إلى ضم الإنسان والحيوان والجماد في نسق العالم الواحد مما يرفع المسئولية عن الإنسان على أساس أنه خاضع لنفس حتمية الحجر الساقط على رأس شخصه فقتله، ولما كان من غير المعقول أن نلوم حجرا، كان من غير المعقول أن نلوم أي قاتل، أما خصوبة ورحابة وفعالية التصور اللاحتمي الذي يعني التعامل مع متغيرات أكثر، فيمكنه أن يضيف عنصر الوعي والجهد الإرادي المتعمد كعامل متميز في دراسة وفهم الإنسان، فيتحمل مسئولية ما فعل دونا عن الحجر الساقط غير ذي الوعي.
تلك هي النتيجة المتوقعة من انهيار التصور الميكانيكي الذي يرد كل شيء إلى كتل المادة الصلبة الساذجة، بل وانهيار الكتل الساذجة ذاتها وانحلالها إلى جسيمات وموجات، والذي لا خلاف عليه الآن، أنه قد اتضح أن مكونات المادة لا تشابه بأية حال الكريات الصغيرة والحبيبات الدقيقة التي كانت متصورة كمكونات للمادة في العالم الحتمي، أو كمكونات للعالم الحتمي ذاته، ومن المؤكد أن انهيار هذا المفهوم الحتمي للمادة، يمكن أن يكون فاتحة سبيل قد يفضي إلى قهر الثنائية الكبرى: العقل والمادة، ومن المؤكد أكثر أنه بالتكوين الجديد للمادة والنسيج الجديد للعالم الفيزيقي، يمكن أن يتحقق نسق العلم الواحد المنزه عن قهر إنسانية الإنسان والذي يرسم صورة لعالم نحن لسنا غرباء عنه كما كنا غرباء عن عالم العلم الحتمي بافتراضه التعسفية الجائرة، العالم اللاحتمي أصبح أقل قسوة وفظاظة، ومن الممكن التصالح معه، والبرء من الشيزوفرينيا الأليمة.
وكيف لا نبرأ منها؟ وقد أتى تصور الإنسان الفاعل الحر المسئول من قلب البناء الأنطولوجي المستقي من الدلالة الإبستمولوجية للعلم، أي التفسير العقلاني للكون، المتوج بحلم أن يحرز العلم ككل وكفروع أقصى درجات التقدم، وبعد أن ودعنا مرحلة الشيزوفرينيا ومبرراتها، أصبح كل تقدم للعلم اللاحتمي ظفر للإنسانية من كل الوجوه، وبكل أبعادها، فلم يعد العلم ليمضي في طريق إنكار الحرية الإنسانية، ولم يعد يملك حججا ضد معايشتنا الفطرية للحرية والاختيار. ••• (43) والحق أن في هذا القول تواضعا مجافيا للواقع، فالعلم المعاصر لا يقتصر على سحب إنكاره للحرية، بل أن يستلزمها، عرف علم النفس الفلسفي الإرادة الحرة بأنها الاختيارات التي نقول عنها إنها غير ذات حتمية ضرورية من قبل الجهاز العصبي، أو من أية علة فيزيائية أخرى،
23
فرفضها علم النفس الحتمي، على أساس أن العلل الفيزيائية لن تترك شيئا بغير أن تحتمه، فكانت الإرادة الحرة معبرة عن اللاشيء عن الوهم، ولكن الفيزياء المعاصرة علمتنا أن العلل الفيزيائية لا تحتم شيئا، وأن ذلك التحديد هو الوهم الباطل، فاستطاع علم النفس المعاصر، المعاصر جدا، أي علم النفس المعرفي
Cognitive Psychology «أن يستوعب هذا الدرس ويدرك أن الوهم الباطل في الحتمية السيكولوجية، التي تتصور الناس وكأنهم ينظرون من ثقوب الأبواب، منحصرين في صناديق، يستجيبون للمنبهات أو تعميهم الغرائز».
24
وكما تتعامل الفيزياء المعاصرة مع الاحتمال واللاتعين والمصادفة ... أي مع اللاحتمية بوصفها واقعا أنطولوجيا أكيدا، يتعامل علم النفس المعرفي مع الحرية الإنسانية كواقعة أنطولوجية أكيدة لكي يصل إلى صورة أدق للنفس البشرية، ألا وهي صورة الكائن العضوي النشط، الذي يتعلم الكثير عن بيئته وعن نفسه ويتفاعل مع خبراته المعرفية ويفعلها وهو بسبيله إلى الاستكشاف واتخاذ القرارات والتصرف، إن التخيل والتفكير والتذكر تحررنا من البيئة المباشرة، ليكون ثمة قدر من الحرية، ونحن ندفع ثمن هذه الحرية بإمكانية الوقوع في الخطأ، فمن الممكن أن نتصور أشياء ليست حقيقية وأن نتذكر أشياء لم تحدث قط، لكننا نكتسب إمكانيات النظر في بدائل جديدة.
25
إذن بعد أن كانت الحتمية السيكولوجية تحديدا هي الحلقة المفضية مباشرة إلى معضل الحرية في عالم العلم، أصبح علماء النفس المعاصرين ليس فقط يعترفون بالحرية الإنسانية، بل يجعلونها مقولة أساسية بغية فهم أعمق وأفضل لموضوعهم! فكيف حدث هذا؟
إنها الثورة اللاحتمية في علم النفس: علم النفس المعرفي، الذي يوضح أن المد اللاحتمي في العلوم الإنسانية قد وصل في علم النفس إلى حد الثورة ، من حيث إن علم النفس هو الذي يتعامل مع ظواهر الحرية الإنسانية والإرادة، وكانت محاولته لإلغائها - وهي واقعة أكيدة - انسياقا مع الحتمية العلمية، من أهم أسباب ما تردى فيه من التواءات وعجز عن التوصل إلى نتائج علمية مرضية، وكما أشرنا آنفا، كان المد الحتمي في علم النفس قد تمخض عن عدة مدارس، أسفرت عن اثنتين سادتا الميدان بفضل قوة امتثالهما للحتمية وإلغاء الحرية، وهما تحليلية فرويد وسلوكية واطسون ثم سكينر خصوصا هذه الأخيرة؛ بسبب افتقار الفرويدية للسمة العلمية الوضعية الصارمة، وبطريقة جعلت نفسانيين جادين يتبرءون ويبرئون علم النفس منها، وبعد أن سادت المدرسة السلوكية ذات المنزع الحتمي الصارم، حتى كادت أن تصبح مرادفة لعلمية علم النفس، حدث في منتصف خمسينيات القرن العشرين ما يشبه الزلزال، وذلك حين انصرف علماء النفس إلى دراسة ظواهر الاختيار والإرادة محققين في علم النفس الثورة اللاحتمية الموسومة باسم الثورة المعرفية: أي التي تدرس الظواهر المعرفية والعمليات العقلية التي هي مظاهر الحرية والاختيار، فكان علم النفس المعرفي والعلاج النفسي المعرفي كطريقة ثالثة للنظر إلى الطبيعة الإنسانية، ومنافسة للتحليلية والسلوكية،
26
إنها الثورة التي يسميها جيروم برونر
Jerome Bruner
باسم الثورة بعد الصناعية، أي المتجاوزة للثورة الصناعية بمثالها الميكانيكي الحتمي، ويؤرخ لها بعام 1956.
أدرك علماء النفس أن أتباع سكينر قد تأثروا بما شاهدوه من سهولة التصرف في السلوك الحيواني، فافترضوا أن الأفعال الإنسانية جميعا - حتى الأفكار واللغة والدوافع والسمات الشخصية - يمكن تفسيرها بنماذج متشابهة، وإن تكن أشد تعقيدا، بيد أن الجيل الجديد من النفسانيين المعرفيين رفض هذه النظرية الآلية محتجا بأن هناك تراكيب وعمليات للعقل لا سبيل إلى إحالتها إلى أخلاط من الاستجابات المدعمة،
27
فنظروا إلى القيود التي وضعتها السلوكية في نصف القرن الأخير، بوصفها قيودا عقيمة وأنها كانت للأسف الشديد مصوغة على أساس تصور للعلوم الفيزيائية عفى عليه الزمان.
28
كذلك لم يكن السلوكيون مهتمين بالمعرفة أي بعمليات التفكير، ولم يأخذوا مأخذ الجد إمكانية أن تكون الطريقة التي يتصور أو يفكر بها الناس مهمة بالنسبة للأفعال والتصرفات، وكانت جذور فكرتهم المتمركزة حول الدافع، تمتد راسخة في عدم الثقة بالتفكير فيما يدور بالعقل، ورأوا التجريب المعملي وحده هو الذي يمكن أن يؤدي إلى معرفة يعتمد عليها، وترتب على هذا أن العمليات النفسية ينبغي أن تنزل إلى القاسم المشترك الأصغر للحياة الحيوانية، وكتب سكينر عن سلوك الكائنات العضوية، في غلو عنيف، مقترحا أن تنطبق مبادئه السلوكية على الحياة الحيوانية جميعا، بل على المخلوقات الحية جميعا.
29
أما الثورة المعرفية اللاحتمية، أو ذلك التغير الدرامي الذي أصبح واضحا وبدأ يفرض ذاته منذ ستينيات القرن العشرين، فهو يعني التخلي التدريجي عن هذه النظرة القاصرة، أو على الأقل إضعافها، لقد جددوا الاهتمام بأفكار الناس ومعرفتهم بوصفها عوامل سببية في الشعور وفي الفعل، وفي الطرائق المختلفة التي يقومون بها الحوادث،
30
وفي هذه النظرة الجديدة، لم يعد الإدراك الحسي أو الذاكرة وما يشبه ذلك يحال إلى نمط التعلم، بل أصبح يتطور على أنه أمثلة لحل مشكلات، والكائنات البشرية بهذا تفكر ولها حياة عقلية.
31
والذي يهمنا أن جميع اتجاهات علم النفس المعرفي، تلتقي عند شيء أساسي هو: الحرية الإنسانية، «فهي جميعا تتفق - ضمنا على أقل تقدير - على أن الناس يختارون الكثير مما يعرفونه، وهذه الاختيارات تتم بطرق شتى خلال الانتباه الانتقائي، أو تطبيق الإستراتيجية المعرفية أو اكتساب المهارات المعرفية»،
32
إن الإدراك الحسي والتخيل كغيرهما من الأنشطة النفسية الأخرى، تتضمن جميعها الاختيار، فهناك بوجه عام من الأشياء أكثر مما نستطيع أن نشاهد، وأكثر مما نستطيع أن نستمع إليه،
33
ولكننا لا نشاهد كل وقائع البصر ولا نسمع كل وقائع الصوت، بل ثمة انتقاء قوي يجعل وقائع معينة دون غيرها تدخل في حيز الإدراك، وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسية، بل الضروري أن تكون هي الوقائع التي توجهت نحوها الحرية والاختيار والجهد الانتقائي، المثال الشهير في الأم التي راحت في نوم عميق، حتى إن جلبة ضوضاء خارج نافذتها لن توقظها، مع هذا فأقل همسة أو بادرة بكاء من طفلها الرضيع كفيلة بأن تجعلها تهب من نومها، والنفسانيون المعرفيون يطلقون على الاختيار الإدراكي الحسي الذي أشبعوه دراسة - اسم الانتباه الانتقائي
Selective attention ، اللغة أيضا تخضع لهذا الاختيار الانتقائي، «فنحن نحدث بعضنا بعضا بالحقيقة وبالأكاذيب أو بلا شيء ، إن ثمة اختيارا للكلام، كما أن هناك اختيارا للإدراك الحسي، ونحن لا نستطيع أن نتجنب تلك الاختيارات، مثلما لا نستطيع أن نتجنب اللغة نفسها لأننا بشر».
34
هكذا يقوم علم النفس المعرفي على أن الإدراك والتخيل واللغة، وغيرها من الأنشطة النفسية تقوم أساسا على حرية، على نوع من الاختيار الذي لا نستطيع تجنبه لأننا بشر، فلم يعد البشر في نظر علم النفس المعاصر «لعبة في يد الغريزة العمياء كما أنهم ليسوا عبيدا للتدعيم المتكرر، فالناس يستطيعون أن يروا أو يتعلموا ويفهموا، هذا ما نعرفه دائما عن أنفسنا، يبدو أنه ما من نظرة أخرى لعلم النفس قد أضفت طابع الشرعية على هذه المعرفة أو حاولت تعميقها»،
35
قبل هذه النظرة اللاحتمية المعاصرة التي هي تقدم إبستمولوجي حقيقي وملموس في علم النفس، وانعقدت الآمال عليها ليحقق هذا العلم قدرا أكبر من التقدم نحو فهم طبيعة النفس البشرية، وبعد أن طال تعثره، انطلق علم النفس المعرفي على قدم وساق، وتتوالى منجزاته البحثية وتسير قدما.
ولئن كان علم النفس هو الذي يتعامل مباشرة مع واقعة الاختيار وظاهرة الحرية الإنسانية، فإن الأمر لا يقتصر عليه، والنظرة اللاحتمية تتغلغل الآن في العلوم الاجتماعية الشتى.
والمسألة بجملتها - كما أوضح المدخل - أن الفيزياء بحكم عموميتها وشمول موضوعها لمسرح الظاهرة العلمية، هي الأصل وصاحبة القول الفصل، وكما كانت العلوم تهرول نحو مثالها الحتمي، فإنها الآن أصبحت تهرول نحو مثالها اللاحتمي، وكما سهل عليها اتباع الفيزياء في الحتمية وإنكار الحرية، يسهل عليها أكثر اتباعها في اللاحتمية وإثبات الحرية، خصوصا وأن فلسفات العلوم المعاصرة بذلت جهدا جهيدا للوقوف على أنه في مبدأ اللاحتمية طريق التقدم، وهو كفيل بالإسهام في حل مشكلة العلوم الإنسانية وتضييق الفوارق بينها وبين العلوم الطبيعية، التي كنا نظنها تعمل بموضوعية مطلقة، مستحيلة على الباحث في العلوم الإنسانية.
وعلى أية حال، فإن ما فعله علم النفس المعرفي، فعلته بدرجات متفاوتة أحدث الفروع في شتى التخصصات، فمثلا قام المؤرخان الألمانيان إدوارد ماير وماك فيبر بدراسة جادة للاحتمال الموضوعي في التاريخ، أي تصور ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، وإنه تصور علمي يعين على فهم أعمق للحاضر، فهذه الإمكانيات ليست أشباحا لما كان البشر يأملون فيه، ولكنها الإمكانيات التي فشلنا في تحقيقها، أساسا لأننا كنا نفتقر إلى المقدرة العقلية على إدراك الاحتمالات الموضوعية لما فيه الخير.
36
ولأن التاريخ مجال إنساني صرف، فإن مجال الإمكانية فيه هو مجال الإرادة الحرة والجدة ... الفعل الجديد؛ ولذلك لا بد وأن يأخذ المؤرخ عامل الحرية في اعتباره، واهتمام المؤرخ بالحرية هو اهتمام بمحض لاتعين
Undeterminacy
في عملية التاريخ، بمعية نهاية مفتوحة في جانب التاريخ الإنساني الذي يناقض الأنظمة الحتمية الميكانيكية المغلقة، ولنتذكر ثورة الحتميين العارمة على البعد الأخلاقي للتاريخ - في الفقرة 11أ - لنلاحظ أن عامل الحرية يعني أيضا الاهتمام في كتابة التاريخ بالبعد الأخلاقي المناقض لمجرد التساؤلات الفنية التقنية التي نثيرها حول الآلات الميكانيكية،
37
إذا كانت الفيزياء قد رفضت النموذج الميكانيكي مثل ذلك الرفض البات، فما بالنا بالتاريخ؟!
وظهرت لاحتمية قوية، واعتراف بحرية الإنسان وإيجابيته في ميدان الجغرافيا المعاصرة أيضا، تحت اسم مدرسة الإمكانيات
، تقوم على أساس الدور الإيجابي الذي يؤديه الإنسان على سطح الأرض وضمن حدود بيئته، وبالتالي تنادي بقدرة الإنسان وإمكانياته في تذليل عقبات البيئة،
38
وكان العالم الفرنسي لوسيان فيفر
L. Fedvre
هو أول من وضع المصطلح «مدرسة الإمكانيات»، وذلك في كتابه «مقدمة جغرافية للتاريخ»، ولكنها كانت قد ارتبطت بشكل قوي بكتابات أستاذه فيدال دي لابلاش
Vidal De Leblache
وكارل ساو
Karl Sawe
وكذلك بومان
Bowman (1845-1918) في الولايات المتحدة، ويرى لابلاش أن هناك دورا ينبغي أن يوكل للإنسان بوصفه عاملا جغرافيا، فالنشاط البشري يعمل على تعديل الظواهر العضوية وغير العضوية على سطح الأرض؛ لذلك فالإنسان شريك للطبيعة في دورها في تشكيل الحياة، أما فيفر فيبالغ في دور الإنسان ويرى أن تقتصر الجغرافيا على دراسة أثره، أو على الأقل تهتم كثيرا بهذا، وقد عبر عن مبدأ اللاحتمية بقوله: «لا توجد في الطبيعة ضروريات أو حتميات، بل هناك دائما إمكانيات، وبما أن الإنسان سيد الإمكانيات، فإنه هو الذي يحدد ما يستعمله منها».
39
تطورت هذه الثورة اللاحتمية في علم الجغرافيا حتى بلغت ذروتها في نشأة فرع حديث هو: علم الجغرافيا الإرادية، قيل عنها إنها جهد مستقبلي تأملي وضع في خدمة العلم، فهي تفترض معلومات يستغلها فريق عمل مزود بالأدوات التي تمكنه من تجاوز المعطيات العددية المباشرة، والتنبؤ بوجود التطور الدينامي ونتائجه، إن تحليل الجغرافي يتقاطع مع تحليلات الأنظمة التي تدرس العالم الحديث مثل علم الاقتصاد وعلم السياسة، ويتممها؛ لأنه يعتمد على مواجهة دائمة بين البيئة الطبيعية وبين المجال المشخص والجماعات البشرية الموزعة في تشكلات قوية، في نظام فضفاض أو في مركز،
40
وأساس المواجهة، أو أساس هذا العلم هو الجهد الإرادي والحرية الإنسانية؛ لذلك فهو علم مبشر بالكثير، وأخيرا، فإن الجغرافيا الإرادية تسهم في إعداد اختيارات واضحة، لصالح الحريات الجديدة، حرية العمل وحرية الراحة وحرية شغل أوقات الفراغ
41 ... إنه التساوق الفلسفي بين اللاحتمية العلمية والحرية الإنسانية، وقد تمت ترجمته ترجمة عينية.
هكذا أصبح العلم من رأسه حتى أخمص قدميه لاحتميا، وأصبحت الحرية الإنسانية من الظواهر أو العوامل التي تدرسها العلوم الإنسانية؛ بغية فهم أفضل لموضوعها، إقرارا منها بأن الإنسان فاعل حريد مريد مختار ... هذا هو الإنسان الذي تدرسه أحدث فروع العلوم الإنسانية، بعد أن طال تعثرها وهي متشبثة بالنموذج الحتمي الميكانيكي.
فهل من إثبات أكثر من هذا على أن الصراع بين العلم والحرية الإنسانية بات مرحلة قابعة في التاريخ، وأنه قد انتهى تماما، وأسدل الستار على المشهد الأخير منه، أو على أبسط الفروض ينبغي أن يحدث هذا.
لقد فصلنا الحديث عن معضل الحرية في عالم العلم الحتمي، وكانت كل فقرة تضع الإصبع على مثلمة، الحمق الصراح تركها كائنة في البنية العقلية، وبعد إثبات الحرية في عالم العلم المعاصر، لم يعد ثمة أي مبرر لاتخاذ الحرية ذريعة لشن حرب شعواء على العلم، والانقسام على العقل الذي أنجبه والفرار من عالمه إلى عوالم موهومة أو متخيلة أو متصورة، وتصح هذه مقدمة تخرج منها تنظيرات للحرية في مستواها الثاني العيني البعدي، تنظيرات لأوجه التحرر المنشود تحقيقها، بمنجاة من الشيزوفرينيا والاغتراب.
وما أيسر هذا الآن فقط الآن بعد أن رسمت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة صورة أنطولوجية لعالم يصلح للأحرار المسئولين، لإنسانية الإنسان، عالم العلم به لا ينفي الحرية الإنسانية، ولا يحيله إلى آلة عظمى ومعتقل للمجبورين بل على النقيض تماما من هذا؛ إنه التناقض المنطقي بين الحتمية واللاحتمية.
في عالم العلم الحديث كانت الحرية حلما تنأى عنه الحقيقة، ومثالا يهدره الواقع وفي الآن نفسه تطبيقا يفتك به التجريد، وممارسة يخل بها التنظير، أما في عالم العلم المعاصر فقد أصبحت الحرية كما ينبغي لها أن تكون، إنها الحلم والحقيقة، الواقع والمثال، التجريد والتطبيق، الممارسة والتنظير.
الخاتمة
(44) في الفصل الأول من الكتاب، حين الإجابة عن التساؤل ما الحرية، اتضح أنها ليست مقولة هلامية فضفاضة منذرة بالتشتت وأوراق اعتمادها ضائعة، إذ يمكن جعلها لا تقل تحديدا عن أية مقولة فلسفية أخرى، وذلك بالفصل بين مستويين، الأول: الحرية الأنطولوجية، حرية الإنسان بوصفه موجود في هذا الوجود وهي حرية مطلقة، إما أن تكون أو لا تكون، وهي تساؤل يجيب عليه العقل بشتى إمكانياته، إنها مشكلة فلسفية بحتة، والحرية في مستواها الثاني هي الحريات البعدية العينية الجزئية النسبية، وهي مرهونة بوجود المفكرين والدعاة والمصلحين لتحقيق قدر أكبر أو أقل: إنها حرية الإنسان بوصفه كائنا في جماعة أو مجتمع معين، يخضع لمتغيرات عدة، على أنه اتضح أن البحث في/أو/عن هذه الحريات أو بدقة أوجه التحرر من دون الحرية الأنطولوجية هو تناقض أو انفصام، لا بد من إثبات الحرية الأنطولوجية أولا، ثم أوضح الفصل الثاني كيف أنه يستحيل إثباتها في عالم العلم الحتمي.
إن الحريات في عالم العلم الحتمي معضل، أو قرنا إحراج لا مخرج منهما، إما العلم وإما الحرية، وبالطبع من منظورنا العلمي يكون الرد: إنه العلم ولا حرية، فماذا فعل الفلاسفة إزاء مصاب الحرية الفادح؟ كانت الإجابة في الفصل الثالث الذي أوضح أن الفلاسفة لم يفعلوا، ولم يكن يمكن أن يفعلوا أكثر من: نفي الحرية، إما نفيها بمعنى السلب واللاحرية، وإما نفيها بمعنى إبعادها وطردها من عالم العلم إلى عوالم أخرى موهومة أو متصورة أو متخيلة كعالم النوميا أو الأنا والمطلق ... إلخ.
وتلك هي نظريات الحرية الميتافيزيقية العظمى في تاريخ الفلسفة، على أنها في حقيقتها لا تخرج عما فعله الرائد المغمور بيكو ديلا ميراندولا، الذي فصم العالم إلى عالمين هما عالم المادة للعلم الحتمي، وعالم الروح للحرية الإنسانية، وكانت الفلسفة الألمانية قد وجدت تعميقا لهذا الفصم في تشربها بنظرية الإسكافي يعقوب بوهيمه الصوفية في اللا-أساس، كأساس الحرية.
من هنا كانت الشيزوفرينيا الصريحة واغترب الإنسان عن العلم وعالم العلم، واكب أزمة العلم الحتمي (التي أوضحها مدخل الكتاب) زمانيا، حركة فرنسية تدرك أن العلم - خصوصا بعد وضعية أوجست كونت - قد غزا الإنسان وأعماقه، ولم يعد ثمة مجال لنفي الحرية إليه أنطولوجيا، فلم يبق إلا الوجه الآخر للعملة أي الإبستمولوجيا، وكانت هذه الحركة الفرنسية تتلمس إثبات الحرية الإنسانية عن طريق نقد العلم وتقليم أظافره الحتمية إبستمولوجيا، شنوا حربا شعواء على الحتمية العلمية في محاولة لجلب الحرية إلى نفس هذا العالم، ولكن كانت محاولاتهم لإثبات الحرية قائمة على لاحتمية إبستمولوجية، ولم يجرؤ أحد منهم على القول بلاحتمية أنطولوجية، فكانت الحرية الفرنسية - وهي موضوع الفصل الرابع - خطوة عرجاء بساق واحدة، ولكنها على أية حال خطوة واسعة، آن بعدها الأوان لكي يستقيم السير إلى الحرية بلاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية معا، خصوصا وأننا بهؤلاء الفرنسيين قد ودعنا القرن التاسع عشر وأقبلنا على مشارف القرن العشرين، الظافر دون سواه بلاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية معا، فكان الفصل السادس مكرسا لعرض نظريات الحرية في العالم اللاحتمي، الحرية الحقيقية، غير المنفية إلى عوالم أخرى موهومة أو متصورة.
بدأ اللقاء بأبيقور الرائد العظيم لللاحتمية وللحرية، كأصل تاريخي، ثم انتقلنا إلى واحد من أشد فلاسفة اللاحتمية والحرية حماسا وهو الفيلسوف المعاصر وليام جيمس، وهو من الفلاسفة ذوي المنزع العلمي الواضح، ولكن كان ينبغي أن ندع للعلماء أنفسهم حق الحديث، فكان الحديث لإدنجتون ثم كومتون ونظريتيهما في الحرية، وأخيرا كان مذهب أو بالأصح اتجاه الحرية
Libertaranism ، بوصفه مذهب كل فيلسوف آمن بالحرية في قلب العالم الذي نحيا فيه، أوضح عرضنا ومناقشاتنا أنه مذهب كان إلى حد ما غريقا، واللاحتمية العلمية المعاصرة دون سواها هي القادرة على إنقاذه، على أني آمنت إيمانا عميقا، بأن مقولة الحرية في العالم اللاحتمي تكاد تكون مسلمة فلسفية عامة، تكاد تفرضها قواعد التفكير، ولا ترتبط بفيلسوف أو اتجاه معين.
وعلى أية حال كان الفصل الأخير حول هذا لينتهي الحديث بأن الستار قد أسدل تماما على أي تناقض أو صراع بين العلم والحرية الإنسانية، هذا الصراع انتهى تماما وأضحى مرحلة قابعة في التاريخ.
بالطبع الحرية الأنطولوجية كائنة، والإنسان حر قبل العلم المعاصر وبعده، ولكن فضل العلم المعاصر في أنه خلص النظرة إلى الكون من افتراض الحتمية التعسفي، حين أدرك خطأه وقصوره، وأنه مرحلة متخلفة وجب تجاوزها ومواجهة العالم كما هو.
يقول هربرت ماركيوز عن المنهج الجدلي، الذي ينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مركب شامل يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما، إنه يحرز التماسك الذي يتعلق بموقف الفكر نحو الحقيقة، وبهذا وجدنا أن الأمر فيه جدلية واضحة، لقد بدأ الإنسان حرا، وهذه هي القضية الأولى، وبفعل من أفعال الحرية انتقل إلى تصور حتمية شاملة تكفل تشييد صرح العلم، فكان النقيض المباشر للقضية الأولى، والآن وصل إلى مرحلة تجمع خير ما فيهما وتتجاوزهما، ربما أسفر التقدم فيما بعد عن مرحلة جديدة تماما، ولكن مهما حدث من تقدم وتغير، فلن تعود الحتمية أبدا، كما أثبتت تطورات العلم المعاصر، طالما كانت اللاحتمية تماما كالقول بأن الأرض ليست قرصا مسطحا ... أو بلا أدنى مجاز: هي ليست آلة ميكانيكية.
انتهى الحديث بأن العلم لا ينفي الحرية، ليس ذلك فحسب، بل إن العلوم الإنسانية المعاصرة تستلزم الحرية من أجل فهم أفضل وأعمق للظواهر الإنسانية، في مقابل العلم الحديث الذي كان إنكارا للحرية في بحثه عن العلل الحتمية، فكان الهروب منه ومن عالمه من أجل الحرية، أما الآن فإن الهروب من العلم هو ذاته الهروب من النظرة العقلانية المجدية للحرية، فلم الانشقاق على العقل والعلم وعالمه؟
وبعد ...
بل قبل، قبل كل شيء، منذ بدء البداية، من مجرد عنوان الكتاب بدا واضحا أننا اخترنا لهذه الرحلة الفلسفية طريق العقلانية، أولم ينص على تناول مشكلة الحرية الإنسانية من خلال المنظور العلمي؟ والعلم هو نجيب العقل الأثير ودرة العقلانية وآية الإيمان بالعقل، وكان الهدف أن ننتهي إلى عقلنة الحرية الإنسانية.
وقد رأينا كيف أن العلم ذاته لا سواه هو الذي خلق بمبدئه الحتمي مشكلة الحرية الإنسانية، أو بالأدق جعل منها معضلا غير قابل للحل، معضل: العلم/الحرية، الذي تبلور تماما في النصف الثاني من القرن الثامن عشر المسمى بعصر التنوير: عصر الإيمان المتطرف بالعقل والعلم، وبقدرتهما، هما فقط لا سواهما على فض كل مغاليق الوجود.
وفي أعقاب الحديث عن مواجهة الفلاسفة للمعضل، رأينا أن هذا الفصام بين العلم والحرية، قد تبناه رسميا واعتباريا وشرعيا الفلاسفة التنويريين، شيوخ الميتافيزيقا، وأئمة فلاسفة الحرية، في مذاهبهم الشامخة التي تحمل كبريات نظريات الحرية، وكلها كما رأينا لا تعدو أن تكون إقرارا بهذا الانفصام.
وقد كان هذا نقطة تحول خطيرة في تاريخ الفلسفة، سواء الخطورة بمعنى الأهمية، أو الخطورة بمعنى الأثر الوبيل، فقد أصبح السبيل الوحيد إلى الحرية الإنسانية التي لا تطاردها أية حتمية، إنما يكون فقط بالإعراض عن العلم وعن العقل الذي أنجبه، وعلى قدر ما يكون النيل من العقل والعلم، على قدر ما يكون الظفر بالحرية الإنسانية!
روعة العلم الحديث النظرية والتطبيقية ألهت التنويريين، ولكن كرد فعل متوقع لعقلانيتهم المتطرفة، تمخض عصر التنوير عن الحركة الرومانتيكية التي شغلت النصف الأول من القرن التاسع عشر، لتتطرف في الاتجاه المقابل، وتعمل على إحياء العاطفة والخيال والإحساس على حساب العقل والمنطق والعلم، فتحاول التأكيد على حرية الإنسان، في مقابل حتمية العلم.
والرومانتيكية وإن كانت أساسا رؤية فنية ونزعة أدبية، فإن جذريتها وشموليتها وتواتر شعرائها العظام وأقطابها المتمكنين، أمثال: كولريدج وشيلي ووردزورث ووليم بليك وتوماس كارليل وأيضا العملاق جوته ... هذا جعلها تخرج بمعان ورؤى لمقولات الفلسفة الأساسية: الحق والخير والجمال، ومن ثم انسحبت من الأدب إلى الفلسفة أيضا ، وهي في الأدب والفن تمثل الاتجاه المقابل للكلاسيكية، وفي الفلسفة الاتجاه المقابل للعقلانية.
وقد قامت الرومانتيكية بالتأكيد على الحرية عن طريق العداء المتأجج للعقل وأحكامه والعلم وتحليلاته، والارتكان إلى العاطفة ومشاعر القلب وحدس الوجدان، وإطلاق الموقف الفردي والاستقلال عندا في القانون العام، والبحث المشبوب عن الجدة والإبداع واللامتناهي، والاشتياق إلى كل ما هو متميز وفريد وأصيل يأتي على غير مثال، والأنفة من المعتاد والمألوف والرتيب، والرفض البات لكل ما هو نمطي صوري نسقي ... منبع كل هذا إحساس الرومانتيكية الدافق بالحياة الخفاقة في الصدور، لا المتجردة في العقول كما تصورها قوانين العلم الخاوية وأنساق الفلسفة العقلانية الباردة، التي كانت مغلولة بأحابيل الحتمية.
هذه الرومانتيكية، أو بعبارة أخرى هذا الاتجاه اللاعقلاني كأقوى ما تكون اللاعقلانية، أصبح هو الحامل للواء الحرية الإنسانية، وكل فلسفة تريد أن تنادي بالحرية لا بد أن تلجأ إليه بصورة أو بأخرى، وعلى قدر جنوحها صوب لاعقلانية الرومانتيكية، يكون إقرارها بالحرية الإنسانية! والاستثناء الوحيد كان تلك الحركة الفرنسية التي شغلت الفصل الرابع، ولكنها كما رأينا كانت خطوة متعثرة، وفرنسا ذاتها هي التي شهدت هنري بيرجسون
H. Bergson (1889-1941) وهو واحد من أقدر من استطاعوا تأكيد الحرية الإنسانية على هذا الأساس اللاعقلاني أو الرومانتيكي، وظل بيرجسون متربعا على عرش الفكر الفرنسي، حتى جاءت الوجودية لتتربع هي على هذا العرش في أواسط القرن العشرين.
على أنه في القرن الأسبق القرن التاسع عشر، في تلك الأجواء وفي ذلك الزمان والمكان الذي أنبت الرومانتيكية، كان الميلاد الرسمي للفلسفة الوجودية مع أبيها سورن كيركجورد
S. Kiergard (1813-1855)، وهي فلسفة قامت على حرية الإنسان وفردانيته من حيث هو جزئي عارض عيني متشخص لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية، فكل شخص له تجربة وجودية فريدة لا سبيل إلى تكرارها، فضلا عن إخضاعها لقانون عام؛ لأنه حر لا يمكن التملص من حريته.
وثمة عوامل عديدة، يعود بعضها إلى شخصيات الفلاسفة الوجوديين في القرن العشرين ومواهبهم الأدبية ويعود معظمها إلى الظروف التي صاحبت أواسط ذلك القرن، حيث نلقى جيلا شهد أوزار حربين عالميين ، وفقد الثقة في العقل والهيئات النظامية ... هذه العوامل جعلت الوجودية تتفجر في الواقع المعاش، وتشارك في الثقافة بل والزاد اليومي للجماهير، وتحوز شهرة لم تحزها من قبل أية فلسفة أخرى، باستثناء الماركسية.
ومنذ بداية الأربعينيات وحتى بداية الستينيات من القرن العشرين، كان يندر في أوروبا أن يلتقي اثنان، دون أن يسأل أحدهما الآخر: هل أنت وجودي؟ ولحقتها هذه الشهرة في كل مكان في العالم، وكما هو معروف في الستينيات، كان ثمة اهتمام واضح بالفلسفة الوجودية في المكتبة العربية، كما كان في كل مكان.
صالت الوجودية وجالت وطبقت الآفاق، ليرسخ في أذهان الجميع أن الحرية الإنسانية قرينة اللاعقلانية.
وعلى الرغم من انحسار الموجة الوجودية وانتهائها كبدعة شعبية، وانتشار الفلسفة البنيوية التي تناقضها على خط مستقيم، وما تلاها، ظلت الحرية الإنسانية قرينة اللاعقلانية، يعزف عنها العقلانيون والعلميون، وكان هذا الانقسام والانفصام مؤشرا من مؤشرات الاغتراب المستشري في الحضارة المعاصرة، وسبق أن أشرنا لكل هذا حين تتبع الآثار الوبيلة لمعضل الحرية في عالم العلم الحديث - الذي كان حتميا.
على هذا نحط الرحال في خاتمة رحلتنا الفلسفية، ونحن على بينة من أن تطورات العلم المعاصر فتحت طريق الخلاص من هذه المتاهات الوبيلة، فقد انتهت الرحلة إلى عقلنة الحرية ... أمسكنا عليها بجمع البدين، ونحن نبحث عنها من خلال، وفقط من خلال المنظور العلمي لهذا العالم الذي نحيا فيه، بغير حاجة إلى انفصام تنويري أو فرار رومانتيكي.
لنغدو عقلانيين، وأيضا أحرارا مسئولين في الآن نفسه، أو بالأحرى في العالم نفسه.
المضمون
(1)
مشكلة الحرية فضفافة، ثمة حريات شتى فأية حرية نبحث عنها؟ (2)
تحليل فيلولوجي للفظة الحرية وأصولها وتاريخها: (أ)
في اللغات الأوروبية. (ب)
في العربية يفيد جدا لكن لا يضع حدودا. (3)
التعريف الفلسفي للحرية، نافذ وصائب، لكنه ينطبق على كل وجوه الحرية ولا يضع حدودا. (4)
تحديد مقولة الحرية المطروحة للبحث، حرية أنطولوجية، مستوى أول، وأساس لبقية الحريات لاتي هي مستوى ثان. (5)
الحتمية العلمية انقضت على الحرية الأنطولوجية لتلغيها. (6)
العلية تستبعد الحرية. (7)
حجج الحتمية العلمية لنفي الحرية الإنسانية . (8)
إما العلم وإما الحرية، وطبعا إنه العلم ولا حرية. (9)
الحتمية السيكولوجية الخطر المباشر رأسا على الحرية الإنسانية. (10)
لكن الحس المشترك يدرك الحرية بالاستبطان، تفنيد هذا. (11)
الحتمية العلمية تطيح بالأخلاق والمسئولية من حيث تطيح بالحرية، وبالاتجاهات التفاعلية، وبمشروعية القوانين، ويرفع العلماء خصوصا علماء الاجتماع أخلاق التساهل والتسامح. (12)
وتطيح أيضا بالجدة والإبداع. (13)
هكذا جعل العلم الحتمي العالم غير صالح للبشر، فماذا فعل الفلاسفة؟ (14)
إما أن ينفوا الحرية بمعنى السلب واللاحرية، وإما أن ينفوها، بمعنى إبعادها وطردها إلى عوالم أخرى متصورة أو موهومة. (15)
نفي الحرية (لاحرية): (أ) الحتمية الصارمة، (ب) الحتمية الرخوة، هما سواء، الأولى أسلم فلسفيا. (16)
نفي الحرية إلى عالم آخر هو نظريات الحرية العظمى في تاريخ الفلسفة، ومع هذا لا تخرج عما فعله بيكو دي ميراندولا، حين فصم العالم إلى عالمين، عالم للحتمية الفيزيقية والعلم، والآخر للحرية والإنسان. (17)
الألمان برعوا في صنعة الفصم لتشرب فلسفة الحرية الألمانية بنظرية الإسكافي بوهيمه الصوفية في اللا-أساس. (18)
إنها شيزوفرينيا صريحة، مرض وبيل. (19)
والنتيجة غربة الإنسان ذي العقل والعلم، عن الحرية، لا بد من تدارك هذا. (20)
فصم قطاع من العالم للحرية الإنسانية استند إلى أن أعماق الإنسان منطقة لم يغزها العلم بعد، لكنه غزاها في القرن 19 لا سيما بوضعية كونت، فظهرت في فرنسا فلسفة للحرية وهي حركة نقد العلم، تكافح ضد سيطرة حتميته، إنه تيار ذو فرعين. (21)
الفرع الأول: وضعية روحية متأثرة بمين دي بيران، لم تحقق الكثير. (22)
الفرع الثاني: وضعية نقدية متأثرة بكانط، تمثل الفرع الأهم وأفادت في تحطيم الحتمية العلمية إبستمولوجيا. (23)
لكنها لم تجرؤ على إرساء لاحتمية أنطولوجية فلم تحقق هدفها في جلب الحرية من النومينا الكانطية المفارقة إلى هذا العالم. (24)
المسألة أن الحرية لا مندوحة لها عن لاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية أيضا.
أهم نظرياتها (25)
أبيقور الرائد. (26)
صورته شاهت ظلما. (27)
فلسفته مادية ذرية. (28)
نشأ عنها مشكلة فيزيقية: كيف تتلاقى الذرات فتتكون الموجودات، وأيضا مشكلة نفي حتمية الماديين الكونية لحرية الإنسان. (29)
أبيقور يضع فرض الانحراف الذري الذي يحل المشكلة الفيزيقية ويصون الحرية الإنسانية. (30)
لوكريتوس يجيد استيعاب الدرس الأبيقوري. (31)
نقد ورد. (32)
وليام جيمس أعظم فلاسفة الحرية واللاحتمية. (33)
عوامل كثيرة مكنت للاحتميته. (34)
سيكولوجية الإرادة الحرة. (35)
نظرية جيمس: فلسفة الحرية في العالم اللاحتمي، الجدة والمسئولية في عالم تعددي، أسانيد التجريبية الراديكالية والبرجماتية. (36)
نظرية إدنجتون. (37)
نظرية كومبتون. (38)
النظرية العامة: مذهب الحريين، كان غريقا، واللاحتمية العلمية المعاصرة تنقذه بل وتفرضه. (39)
الحرية الإنسانية كائنة في عالم العلم المعاصر. (40)
لأنه أصبح لاحتميا، إبستمولوجيا وأنطولوجيا. (41)
وليس فقط لأن الحتمية لم يثبت صدقها، بل لأننا اكتشفنا كذبها، إذن اللاحتمية العلمية اكتشاف إيجابي في الطبيعة. (42)
وبالتالي عالم العلم المعاصر يتسع تماما للحرية الإنسانية. (43)
وأحدث فروع العلوم الإنسانية تقر بالحرية بغية فهم أفضل لموضوعها. (44)
إذن يمكن عقلنة الحرية الإنسانية، بدلا من تركها نهبا للاعقلانية، كما حدث نتيجة حتمية وميكانيكية العلم في مرحلته النيوتونية السابقة، بكل الآثار الوبيلة لهذا.
ثبت المراجع
أولا: مراجع عربية
مؤلفات (1)
د. إبراهيم بيومي مدكور، يوسف كرم، دروس في تاريخ الفلسفة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1953. (2)
أبو بكر الكلابازي، التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980. (3)
أبو حامد الغزالي، منطق تهافت الفلاسفة المسمى: معيار العلم، تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1969. (4)
أحمد هاشم الشريف، الحتمية والحرية في القانون العلمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972. (5)
أميرة حلمي مطر، فكرة الطبيعة في الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، رسالة ماجيستير غير منشورة، إشراف د. أحمد فؤاد الأهواني، جامعة القاهرة - الآداب، 1960. (6)
د. أميرة حلمي مطر، الفلسفة عند اليونان، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1968. (7)
د. أميرة حلمي مطر، دراسات في الفلسفة اليونانية، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1980. (8)
د. توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطورها، دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1967. (9)
جميل م. منيمنة، مشكلة الحرية في الإسلام، جزآن، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974. (10)
حبيب الشاروني، بين بيرجسون وسارتر: أزمة الحرية، دار المعارف، القاهرة 1963. (11)
د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر، القاهرة، ط3 ، 1972. (12)
د. زكريا إبراهيم، كانط أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، القاهرة، 1972. (13)
د. زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مكتبة الأنجلو، القاهرة، ط2، 1980. (14)
د. زكي نجيب محمود، حياة الفكر في العالم الجديد، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1982. (15)
د. عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أغسطس، 1981. (16)
د. عبد الرحيم بدر، الكون الأحدب، قصة النظرية النسبية، دار العلم للملايين، بيروت، د. ت. (17)
د. عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1981. (18)
د. عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث، دراسة تحليلية وتاريخية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سنة 1983. (19)
د. عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مكتبة الأنجلو، القاهرة، ط6، 1969. (20)
د. عثمان أمين، ديكارت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط6، 1969. (21)
د. فؤاد زكريا، سبينوزا، دار التنوير، بيروت، ط2، 1981. (22)
د. فؤاد زكريا، نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1977. (23)
د. فؤاد زكريا، العلم والحرية الشخصية، مجلة الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، المجلد الأول، العدد الرابع، 1971. (24)
د. محمد فتحي الشنيطي، وليام جيمس، مكتبة القاهرة الحديثة، 1957. (25)
محمد عزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1972. (26)
محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، سنة 1972. (27)
د. محمد مجدي الجزيري، الحرية والحضارة عند بيرديائف، رسالة دكتوراه غير منشورة، إشراف د. أميرة حلمي مطر، جامعة القاهرة، كلية الآداب، 1980. (28)
د. محمد وقيدي، الإبستمولوجيا الوضعية عند أوجست كونت، مقال بمجلة عالم الفكر، المجلد الثالث عشر، العدد الأول، الكويت، 1982. (29)
محمود أمين العالم، فلسفة المصادفة، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1970. (30)
يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967. (31)
د. يمنى طريف الخولي، العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987. (32)
د. يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، منهج العلم ... منطق العلم، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
المترجمات (1)
آرثر لفجوي، سلسلة الوجود الكبرى، ترجمة د. ماجد فخري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1964. (2)
أ . ج. بنروبي، مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي.
الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1980.
الجزء الثاني، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1967. (3)
مجموعة من الباحثين، الجديد في علم النفس، ترجمة فؤاد كامل، ملف العدد «8»، من مجلة الثقافة العالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1983. (4)
أزفلد كولبيه، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1942. (5)
ألبير باييه، دفاع عن العلم، ترجمة د. عثمان أمين، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1946. (6)
جان فال، طريق الفيلسوف، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، مراجعة أبو العلا عفيفي، سجل العرب، القاهرة، 1967. (7)
أولف جيجن، المشكلات الكبرى في الفلسفة اليونانية، ترجمة د. عزت قرني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1976. (8)
إيرفين شرودنجر، الطبيعة والإغريق، ترجمة عزت قرني، راجعه د. صقر خفاجة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1962. (9)
برتراند راسل، الفلسفة بنظرة علمية، عرض وتلخيص د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1960. (10)
برتراند راسل، حكمة الغرب، جزآن، ترجمة د. فؤاد زكريا، سلسلة المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير، ديسمبر، 1983. (11)
بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد زكريا، نهضة مصر، القاهرة، (ب ت). (12)
جان بول سارتر، الوجود والعدم: دراسة في الأنطولوجية الظاهراتية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، 1966. (13)
ج. برونوفسكي، العلم والبداهة، ترجمة د. أحمد عماد الدين أبو النصر، مراجعة وتقديم د. حسين سعيد، دار النهضة العربية، القاهرة، 1961. (14)
جورج جاموف، واحد ... اثنان ... ثلاثة ... لا نهاية، ترجمة إسماعيل حقي، مراجعة وتقديم د. مرسي أحمد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958. (15)
جورج مونو، المصادفة والضرورة: محاولة في الفلسفة الطبيعية لعلم الحياة الحديث، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975. (16)
جون كيمني، الفيلسوف والعلم، ترجمة د. أمين الشريف، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، 1969. (17)
جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة جعفر رجب، دار المعارف، القاهرة، 1981. (18)
جيمس كولمان، النسبية في متناول الجميع، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. فهمي إبراهيم ميخائيل، دار المعارف، القاهرة، 1969. (19)
جيمس كونانت، مواقف حاسمة في تاريخ العلم، ترجمة د. أحمد زكي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1963. (20)
رالف بارتون بيري، أفكار وشخصية وليام جيمس، ترجمة د. محمد علي العريان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965. (21)
روجيه جارودي، النظرية المادية للمعرفة، ترجمة إبراهيم قريط، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية، (ب ت). (22)
ريتشارد شاخت، الاغتراب ، تقديم أرنولد كاوفمان، ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980. (23)
رينيه مونيه، البحث عن الحقيقة: وجوهها، أشكالها، وعلاقتها بالحرية، ترجمة هاشم الحسيني، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966. (24)
د. زكي نجيب محمود، الجبر الذاتي، ترجمه عن الإنجليزية د. إمام عبد الفتاح إمام، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1973. (25)
سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم د. حسن حنفي، مراجعة د. فؤاد زكريا، الهيئة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971. (26)
فرانز روزنتال، مفهوم الحرية في الإسلام، ترجمة وتقديم د. معن زيادة، ود. رضوان السيد، معهد الإنماء العربي بليبيا، فرع بيروت، 1978. (27)
د. فوريس وأ. ج. ديكستر هوز، تاريخ العلم والتكنولوجيا، ترجمة د. أسامة أمين الخولي، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967. (28)
فيرنر هيزنبرج، المشكلات الفلسفية للعلوم النووية، ترجمة د. أحمد مستجير، مراجعة د. عبد المقصود النادي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1972. (29)
كلود برنار، مدخل إلى دراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، 1944. (30)
لويس دي بروليه، الفيزياء والميكروفيزياء، ترجمة د. رمسيس شحاتة، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967. (31)
هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، القاهرة، ط1، 1968. (32)
هنتر ميد، الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 1969. (33)
وليام جيمس، بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، مراجعة د. زكي نجيب محمود، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، (ب ت). (34)
مجموعة من المؤلفين، رجال عاشوا للعلم، ترجمة د. أحمد شكري سالم، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، دار القلم، القاهرة، (ب ت). (35)
مجموعة من الباحثين، الحرية والتنظيم في عالم اليوم، ترجمة تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة، والإرشاد القومي، دمشق، 1977.
ثانيا: مراجع أجنبية (1)
Encyclopedia for philosophy, Macmillan co., New York, London, 1968 . (2)
Bailey. Cyril, The Creek Atomism and Epicurus, Clarendon Press, Oxford, 1928 . (3)
Berlin, Isaiah, Four Essays on Liberty, Oxford University Press, 1975 . (4)
Berlin, Isaiah, Concepts and Categories, Oxford University Press, 1980 . (5)
Broad. C. D., Ethics and The History of Philosophy, Routledge & Kegan
. (6)
Broad C.D., & Eddington A.S. & Braithwaite R.B., Ineterminacy and Indeterminism, in: Indeterminism, Formalism and Value, Aristotelian Society, Suplementary volume X, Harrison and sons. L.T.D., London, 1931 . (7)
Burnet John, Greek Philosophy: Thales to Plato, Macmillan st. Martin press, New York, 1968 . (8)
Burt. John. R. & Goldinger. Milton, Philosophy and Contemporary Issues, third edition, Macmillan publishing Co., New York, 1976 . (9)
Burtt E. A., The Metaphysical Foundations of Modern Science, Routlege & Kegan Paul, London, 1980 . (10)
Campbell. C., Libertarianism, in: Razil Abelson & Marie-Louis Friquegnon (eds.) Ethics for Modern Life, ST. Martion
. (11)
Terms, Adam’s & Co. Peterson, 1959 . (12)
Cohen. Marris R., Reason and Nature: An Essay in the Scientific Method, Dover
1978 . (13)
Collingwood R.G., The Idea of Nature, Vlarendon Press, Oxford, 2nd edition, 1945 . (لهذا الكتاب ترجمة عربية، ولكنني كنت أوثر دائما الرجوع إلى النص بلغته الأصلية كلما تمكنت من الحصول عليه). (14)
Croce. Benedetto, History as the Story of Liberty, tran. By: Sylvia Sprigge, Henry Regenecy Co., Chicago, 1970 . (15)
De Broglie Louis, The Revolution in
trans by: Ralph Niemeyer, Routedge & Kegan Paul, LTD, London, 1954 . (16)
Deway. John, Freedom and Culture, A Mintor Book, G.P. Putnams sons, New York, third impression, 1963 . (17)
Freud. Sigmund, Psychopathology of Everyday Life, trans. by: A. A. Brill, A Mentor Book, New American of Everyday Library, New York, no date . (18)
Green. Marjori (ed.), Spinoza, Anchor press, New York, 1973 . (19)
Hampshire. Stuart, Spinoza, Pelican press, London, 1953 . (20)
Hampshire. Stuart, The Age of Reason, A Mentor Book, New York, 1956 . (21)
Hook. Sidney, The Hero in History, Secker & Warburg, London, 1945 . (22)
Hook. Sidney, Polotical Power and
edition, 1958 . (23)
Hook. Sidney (ed.), Determinism and Freedom in The Age of Modern Science, Collier Books, New York, 5th edition, 1979 . (24)
Hondrich, Ted (ed.), Essays on Freedom of Action, Routledge & Kegan
. (25)
Hull. L.W, History and Philosophy of Science, Longman, London, 1960 . (26)
Huttan. Ernest H., The Ideas of
1967 . (27)
James. Jeans, The Mysterious Universe, Cambridge University Press, 1933 . (28)
James. William, Pragmatism, Longman, Green & Co., New York, 1949 . (29)
James. William, The Principles of
L.T.D., London, no date . (30)
Kirk G. S., The Nature of Greek Myths, Penguin Books, London, 1970 . (31)
Korner. Stephen, Fundamental Questions of Philosophy, Penguin books, London, 1971 . (32)
Lucritues, The Nature of The Univerise, trans, by: R.E.Latham, Penguin books, penguin Classics, London, 1981 . (33)
Mecgil F.N. & Mcgreen I.p. (eds.), Masterpieces of world philosophy, Harper, New York, 1961 . (34)
Margenau. Henry, The Nature of physical Reality, McGraw Hill books Co., New York, 1950 . (35)
Rearl. Leon, Four Philosophical,
York, 1963 . (36)
Mir Publisher, Moscow, 1973 . (37)
An Evolutionary Approach, 4th impression, Routledge & Kegan Paul, London, 1976 . (38)
Refutations: the Growth of Scientific knowledge, Routledge & Kegan paul, London, 1976 . (39)
Reichenbach. Hans, Relativity Theory and Apriori knowledge, trans. & edited with introduction by Maria Reichenbach, University of California Press, 1958 . (40)
Russell. Bertrand, The Scientific Outlook, George Allan & Unwin, L.T.D., London, 1934 . (41)
Russell. Bertrand, Mysticism and Logic, penguin books, L.T.D., London, 1953 . (42)
Russell. Bertrand, Problems of
1973 . (43)
Ryan, Allan (ed.), The Idea of Freedom, Oxford University Press, 1979 . (44)
Ryddnik, V.,A.B,C of Quantum Mechanics, trans by: George Yaukovsky, Peace
date . (45)
Smith. Norm Kemp, The Philosophy of David Hume, Macmillan Co., London, 1990 . (46)
Spinoza B., Ethics: proved in Geometrical order, trans. By: A Boyle, introduced by: G. Santyana, Everyman’s Library, London, 1950 . (47)
Stebbing. Suzan, Philosophy and
1958 . (48)
Weiss. Paul, Nature & man, Southern Illions press, 1967 . (49)
Weiss. Paul, man’s Freedom, Southern Illions press, 1967 . (50)
Whitehead A.N., Science and Modern World, Collins Fontana Books, Glasgow, 1975 . (51)
Whitely. C. H., Mind in Action: an Essays on Philosophical psychology, Oxford University Press, 1973 . (52)
Wittgenstien. Ludwig, On Certainity, edited by G.E. Anscomb & C. H. von Wright, Harper Tarchbook, New York, 1972 . (53)
Wolf Susan, The Importance of Freewill, mind, vol. XC, 1981 .
Unknown page