Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
هذا في حين أن الجدة مفهوم ضروري تماما، مثل الأخلاقية والمسئولية وما إليه، أو على الأقل ضروري لكي يكون العالم إنسانيا متطورا وليس مخزن بضائع وأشياء متحركة، و«لكي يكون الكون متطورا تطورا حقيقيا، فلا بد وأن يظهر باستمرار شيئا جديدا كل الجدة، أعني أن التطور لا بد وأن يكون خلاقا، إننا ننظر إلى عالمنا على أنه عالم في دور التكوين، وإلى أنفسنا على أننا جزء منه في دور التكوين أيضا، إن حاضرنا ليس غير ساكن فحسب، بل هو حركة لا يمكن لها هي ذاتها أن تتكرر غدا».
67
تنفي الخطة الحتمية؛ هذا لأنها حددت كل شيء أزلا وأبدا، «وإذا كانت ماهية كل شيء محددة تحديدا قاطعا، فكيف يمكن أن يكون هناك تطور على الإطلاق، إن كل ما نتوقعه في هذه الحالة هو عالم سبينوزا الموجود منذ الأزل، ويبقى هو نفسه في سلسلة من التحولات، ولكن بلا جدة حقيقية».
68
لذلك لم يكن الإدراك العنيد للحرية، هو في حد ذاته الدافع الوحيد لاعتبار الحتمية كابوسا، بل وأيضا لأنها تنفي الجدة والخلق الأصيل والإبداع، كان هذا هو الذي دفع كثيرين من الفلاسفة المعاصرين، أمثال بيرس ووليام جيمس وبيرجسون ووايتهيد لشن حرب شعواء على الحتمية،
69
وفي هذا يقول كارل بوبر: «لقد وصفت الحتمية بأنها كابوس لأنها تنفي قوة الخلق، فكرة الإبداع والجدة تصبح معها وهما فارغا، مثلا كتابة هذه السطور لا يمكن أن يكون فيه أي شيء من هذا؛ لأن أي فيزيائي مزود بمعرفة تفصيلية كافية يمكنه أن يكتبه بمنهج بسيط للتنبؤ العلمي، بالمواضيع الدقيقة التي ستسود فيها الكلمات بواسطة النسق الفيزيائي المكون من جسمي وعقلي وأصابعي وقلمي، ولكي نستخدم مثالا أوقع نقول إنه لو صحت الحتمية الفيزيائية، فإن الفيزيائي الأصم «شيطان لابلاس» الذي لم يسمع في حياته أية موسيقى، يمكنه أن يكتب كل سيمفونيات موزارت وبيتهوفن، عن طريق منهج بسيط لدراسة الحالات الفيزيائية الدقيقة لأجسامها، فيتنبأ بالمواضيع التي سيضعان فيها علاماتهما الموسيقية في نوتتهما، بل ويمكن لهذا الفيزيائي الأصم أن يكتب ما لم يكتبه موزارت وبيتهوفن وكان يمكن أن يكتباه لو توافرت لهما شروط خارجية مختلفة كأن يأكلا لحما بدلا من الدجاج، أو يشربا قهوة بدلا من الشاي».
70
نفي الجدة يجعلنا ندور بين أطر الآلة في تسلسل ممل من الأحداث العقيمة، كلها نواتج - معلولات للعلل، ولا أصلة البتة، ولما كانت العلل والقوانين ثابتة، فالأحداث في حقيقتها التي يكشف عنها نور العلم الحتمي، كلها متشابهة، ألوانها كالحة، فيزيقيا وعقليا أيضا، فحتى مجرد الاعتقاد، اعتقاد أي إنسان في أية نظرية بأية لغة وفي أي شيء، «مسألة حتمية لا بد وأن تحدث، إذا ما وضع أي إنسان في الظروف الفيزيائية نفسها؛ لأن محض هذه الظروف، تحتم قول وقبول كل ما نقوله ونقبله، والفيزيائي الماهر الذي لا يعرف شيئا عن مبدأ الحتمية ولا عن اللغة الفرنسية، سيكون قادرا على أن يتنبأ بما سوف يقوله أيضا معارضو الحتمية؛ على هذا، فإذا تصورنا أننا نقبل الحتمية أو سواها، لأننا اقتنعنا بالقوة المنطقية لحجج معينة فاتخذنا موقفا جديدا، فإننا نخدع أنفسنا».
71
Unknown page