Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
The Nature of Physical Reality، p. 389-395 ) إثباتا لأن العلية بالنسبة للعلم عبث بلا جدوى! فليس أمامنا علل ومعلولات، أي أحداث سابقة ذات قوة خالقة موجدة لأحداث لاحقة، أمامنا فقط ظروف ملائمة للحدث، كأن يكون السل علة لموت شخص، أو جذب الشمس علة لحركة الأرض في مدار أهليلجي، أو أن النحات علة للتمثال، أو أن المثلث علة حقيقة مؤداها أن مجموع زواياه 180، وهذه أمثلة جامعة لشتى ضروب العلية العلمية، أو بالأحرى ما نتصوره علية، بينما هي في حقيقة الأمر تفسيرات وليست تعليلات، فكما أوضح وايتهد، ليس للطبيعة الميتة أن تقدم عللا!
ويسهب مارجينو في كتابه المذكور، بشأن المشكلات التي يثيرها اقتحام العلية في العلم، وينتهي إلى أن هذه المشكلات تتبخر ببساطة، إذا ما نفينا عن العلية أية حتمية! •••
ولكن هل يمكن تقبل هذا وسؤدد الحتمية قد أتى ببرهان دامغ هو تقدم العلم على مدى قرون أربعة من الزمان، وبلوغه الذروة بنظرية نيوتن التي أكدت الحتمية من حيث أكدت التفسير الميكانيكي للكون؟ ألم نر تواتر نشأة وتقدم بقية أفرع العلم على قدر ما استطاعت الامتثال للمثال الحتمي؟!
في هذا يمكن اقتباس فقرة من س. دي. برود في كتابه «علم الأخلاق وتاريخ الفلسفة» (
Ethics and History of Philosophy، p. 167 ) يقول فيها: «الدرس الرئيسي الذي ينبغي أن نتعلمه هو: في مراحل معينة من تطور المعرفة البشرية، قد يكون مربحا وأساسيا لأجيال من العلماء، أن يعملوا على أساس من نظرية قد تكون من الناحية الفلسفية محض مهزلة، ونجاح الإجراءات قد يعمي البشر قرونا طويلة عن حقيقة مؤداها أن افتراضهم يستحيل تصديقه إذا أخذناه على أنه كل الحقيقة، وليس شيئا إلا الحقيقة.» •••
فبعد كل ذلك السلطان، والهيل والهيلمان، الذي حازه المبدأ الحتمي في عالم العلم والعلماء، يواصل العلم تقدمه ليسحق معبودته الأثيرة - الحتمية ذاتها، ويمزق سذاجة السلسلة العلية الأبدية لتتناثر أشلاء وحطاما، ويغدو التصور الميكانيكي أنقاضا فوق أنقاض.
فقد فجر العلم المعاصر في القرن العشرين ثورته العظمى القائمة على الكوانتم والنسبية، وأحكم قبضته على العالم الأصغر أي عالم الذرة وما دون الذرة (الميكروكوزم) بفضل الكوانتم، وعلى العالم الأكبر (الماكروكوزم) بفضل النسبية، وعلى الاثنين معا بوصفهما عالما واحدا بفضل النسبية أيضا، كانت الكوانتم خروجا من العالم الحتمي، أما النظرية النسبية فهي تحطيم للعالم الحتمي ... تقويض للتصور الميكانيكي للكون ذي الثوابت المطلقة.
ثورة العلم المعاصر إذن أطاحت بالحتمية، فأثبتت أنه بلغ من العمر رشدا وقادر على الاستقلال، كان العلم الحديث - من القرن 16 حتى نهاية القرن 19 - مراهقا يشق طريق النمو والنضج، فكان في حاجة إلى راع وجده في مبدأ الحتمية، ولكن المبدأ أدى دوره، واستنفد مقومات وجوده، ثم أصبح يخلق المشاكل للعلم ويعرقل انطلاقته لمرحلة أبعد، ولمواصلة طريق التقدم.
يجمل عالم الطبيعة النووية فيتالي ريدنيك الموقف، في كتابه «ألف باء ميكانيكا الكوانتم» (
A, B, C, of Quantum Mechanism, p. 15 )، كالآتي: «مع نهايات القرن التاسع عشر أضحت الميكانيكا النيوتونية في موقف متأزم، وشيئا فشيئا اتضح أن تلك الأزمة تعني سقوط الحتمية الكونية التي تسمى علميا مبدأ الحتمية الميكانيكية، ولم يعد الكون بسيطا إلى هذا الحد ولا باقيا على حالة إلى الأبد، فلم تجلب ميكانيكا الكوانتم معها عرفانا جديدا فحسب، بل أعطتنا تفسيرا لظواهر العالم مختلفا اختلافا جذريا، ولأول مرة يعترف العلماء اعترافا كاملا بالمصادفة، ربما كان علينا أن ننحي باللائمة على الفيزيائيين لأنهم وقفوا موقفا حياديا، ولكن كان عليهم فقط أن يتخلوا تماما عن فكرة الحتمية الأبدية التي ابتدعوها بأنفسهم، فقد ظنوا أن مثل هذه الحتمية إن هي انسحقت فإن الفوضى المطلقة ستحكم الكون، ولن تعود الأشياء تطيع القوانين الدقيقة، ومضى ردح من الزمن قبل أن يجد الفيزيائيون مخرجهم من الأزمة.» وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، تمكن العلماء من التحرر التام من وثن الحتمية، ورفع لواء اللاحتمية.
Unknown page