Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
وعلى هذا نتجاوز عن مثالب وتناقضات الحتمية العلمية؛ لأجل الأغراض المنهجية الخاصة بعلم النفس أو غيره من العلوم.
هكذا كان تقليص وليام جيمس لفرض الحتمية العلمية نظريا إلى الحد الأدنى المنهجي. ••• (34) وقد أردف هذا التقليص النظري بتقليص تطبيقي لنجد الحرية معه نظرة وظاهرة، أو فكرة وواقعة، أي كائنة في هذا العالم الذي نحيا فيه، ونحاول فهمه بواسطة العلم، فلا هي منفية بالسلب ب «لا » ولا هي منفية خارج دائرة العلم والعالم.
وآية ذلك، أنه أتى في قلب العلم الذي تناوئه الحتمية، ووضع نظرياته التي تسير في ركابه وتدفعه إلى الأمام، وفي الآن نفسه تفسح لحرية الإنسان المجال، ليس فحسب، بل تعيها وتفهمها، فإذا تذكرنا أن الحتمية السيكولوجية أخطر ضروب الحتمية العلمية على حرية الإنسان؛ لأنها الحتمية المباشرة في نقضها للحرية، فسنجد جيمس يطرح دراسة علمية سيكولوجية للحرية متمثلة في الإرادة وذلك في كتابه «مبادئ علم النفس» سنة 1890، حيث يعالج علم النفس كعلم طبيعي، هذا الكتاب من أمهات الكتب ومن المعالم البارزة في تاريخ علم النفس، برغم التطورات التي أحرزها العلم بعده.
وكان جيمس قد سبق له أن نشر له عام 1862 مجلدا من الدراسات التجريبية عن إدراك الحواس، وبدأ يلقي محاضرات علم النفس كعلم طبيعي بعد أن تشرب بالاتجاهات الحديثة في أوروبا، ثم تبعها بدراسات فسيولوجية من لدنه، وأصبح واحدا من أوائل المعلمين الأمريكيين الذين اعترفوا بوجود علم النفس كعلم مستقل،
52
وهنا أيضا تبدو براعته في مصارعة الحتمية العلمية؛ لأن علماء النفس الأوروبيين الذين استقى جيمس من كتاباتهم إلى أكبر حد، كما يتجلى ذلك في الاستشهادات والمراجع المذكورة في كتاب «مبادئ علم النفس» هم سبنسر وهلمهولتز وفنت وبين، وجملتهم حتميون ينفون حرية الإنسان غير أن جيمس استخدمهم وأفاد منهم ونبذهم في آن واحد.
53
ثم أخرج ذلك الكتاب، الذي يقف على قمة المرحلة الثانية من تطور علم النفس، فقد كانت المرحلة الأولى من علم النفس التي ارتبطت بهيوم وستوت ترد الحياة النفسية إلى انطباعات تتلاقى بالتداعي عن طريق قوانين الترابط فتصبح أفكارا، فكأن العقل قابلية لا فاعلية أو صفحة بيضاء كما قال لوك، لا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما المرحلة الثانية فقد ربطت بين العقل وبين الحياة الفسيولوجية، وهذه هي المرحلة السيكوفيزيقية التي يبلورها كتاب جيمس.
على هذا الأساس السيكوفيزيقي يرفض جيمس فرض النفس؛ لأنه لا قيمة له، ويلحق به فرض العقل فلا يعود كيانا أو جوهرا، بل أداة فعالة نشيطة مهمته هي مهمة أي عضو آخر من أعضاء الكائن الحي، وهي أن يكون أداة موائمة بينه وبين بيئته، موائمة تعين الكائن الحي على البقاء إنه أداة لا تنفك، تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون العقل مجرد كلمة نسمي بها نمطا معينا من السلوك الحي النشط المفيد، وبهذا يزول الحاجز بينه وبين الجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربا من السلوك فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هناك آمر ومأمور أو حاكم ومحكوم بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحو معين، وإذا كان الأمر هكذا، فقد تحطمت الثنائية التي شقت الإنسان - والكون بصفة عامة إلى جانبين عقل وجسم، أو نفس ومادة وهي التي سادت الفلسفة الحديثة.
54
Unknown page