Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
والعرب أيضا عرفوا بالطبع فكرة القدر، لغويا يعني القدر: وضع الشيء في مكانه المناسب، وهو اسم للفعل قدر، وقدر: استطاع وحكم، ويعني في النهاية: العلم الإلهي المسبق، وهو أحد الصفات الإلهية، وقد عرفه العرب قبل الإسلام، فاللات، الوثن المشهور الذي ورد في القرآن الكريم هو إله القدر، وكانت عرب الجاهلية تستقسم به في مسائل السفر والاحتكام، بيد أن مفهوم القدر لم يتبلور تبلورا واضحا إلا مع عقول الإسلاميين، ومن القرآن الكريم قد نفهم أن القدر هو الإرادة الإلهية التي تتحقق عبر مشيئة كلية فاعلة في النظم الطبيعية، أو بمعنى: العلم الإلهي السابق للأفعال الإنسانية؛ لذلك فهم بعض الأقدمين أن القدر يعني الحتمية الفيزيقية الممثلة لوحدة النظام الكوني عبر القوانين الأساسية التي تتحكم في الظواهر، والتي هي موضوع العلم الإلهي الشامل، ويرمز إليها باللوح والقلم، على أنه لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإسلام يعني الإيمان بالحتمية، أو أن مبدأ اللاحتمية والذي سنرى رحال العلم في عصرنا هذا ترسو عليه يناقض القرآن الكريم؛ فثمة آيات كريمة تفيد اللاحتمية، منها:
يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (الرعد: 39)، فضلا عن أن الأشاعرة وهم أهل السنة والجماعة، وإمامهم الغزالي حجة الإسلام، والمتصوفة وهم أكثر عباد الله عبودية - أو عبودة حسب مصطلحهم الذي يدل على الدرجة القصوى - قد قالوا بلا حتمية صريحة، وأنكروا الحتمية بشدة؛ لأنها لا تبيح لله جل شأنه أن يعاود تدخله في مسار الأحداث بما ينقض القوانين الحتمية، فضلا عن أن الحتمية الفيزيقية تستلزم إنكار معجزات الأنبياء، وما ورد بشأن أحوال القبور وإحياء الموتى والحياة الآخرة.
والأهم من كل هذا أن آيات القرآن الكريم تتعالى عن أن تفصل القول في مثل هذه الأمور - كالحتمية أو اللاحتمية العلمية - المتروكة للجهد البشري، والخاضعة لمتغيرات العلم الكسبي. •••
والواقع أن ثمة نزوعا سيكولوجيا في الإنسان نحو خضوع الكون لحتمية صارمة، ومنذ فجر الإنسانية وهي تبحث عن الحتمية الشاملة للعالم الذي تحيا فيه؛ نشدانا للطمأنينة والأمان، للراحة وللسكينة، لعالم ليس فيه شذوذات مفاجئة أو طوارئ غادرة، عالم مساره محدد، نركن إلى أنه سيسير كما سار دائما، لا تعكر صفوه مصادفة، أو عارضة غير متوقعة.
وأيضا نشدانا للتبرؤ من المسئولية، فكما ذكرنا - وسنذكر مرارا - الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، وحين يخضع الوجود للحتمية الشاملة فلا مسئولية حقيقية تقع على الإنسان، طالما أنه لا حرية ولا اختيار أمامه فيما يفعل، فهو مجرد قطرة في تيار دافق، يسير وإياه في المسار المحتوم، ومن منا لم يتعز عن كارثة ألمت به، أو مصيبة أصابته أو أصابت واحدا من أحبائه، بأنها قضاء وقدر! وأيضا من منا لم يتبرأ من خطأ ارتكبه بأنه كان قدرا عليه أو أن الظروف دفعته دفعا؟! وهذا هو الجذر الشعوري الانفعالي، الذي طوره الفلاسفة وكسوه برداء العقلانية المهيب، حين جعلوه يتخذ شكل مبدأ الحتمية.
ليس فحسب، بل وأصبح مبدأ الحتمية هو صلب العقلانية بعينها، هو قضها وقضيضها، هو هيكلها وإطارها، لكل من رام فهما نسقيا للطبيعة ... وكان من يشكك فيها مثلا كالمتصوفة أو كالأب نيقولا مالبرانش
N. Malberanch (1638-1715) إنما يقطع الطريق أمام العلم، أمام كل دراسة مجدية لهذا الكون، فطوال عصور الفكر السابقة على القرن العشرين، كانت الحتمية مقولة أساسية وضرورية لدراسة الطبيعة، وللدراسة العلمية إجمالا، وحيث لا حتمية حيث لا استطاعة أمام البشر للتناول العلمي، أو حتى للتفكير العقلاني في الطبيعة، والعالم الذي نحيا فيه، إن أبطال الفكر العلمي في التاريخ هم الذين دانوا بالحتمية حتى النخاع.
ومن الناحية الأخرى، تطلعنا الدراسات التفصيلية الدقيقة لتاريخ الفلاسفة على أن المحاولات القليلة المتناثرة للخلاص من ربقة الحتمية الفيزيقية - باستثناء أبيقور كما سنرى - كانت متعثرة وشبه فاشلة، حتى ولو جاءت من أعاظم الفلاسفة كسقراط وأفلاطون، وأرسطو والإمام الغزالي.
إلى هذا الحد هيمن مبدأ الحتمية على الفكر البشري هيمنة طاغية، ولكن النقطة الحاسمة هي أن الفلسفة استطاعت عقلنته كمقدمة لعلمنته.
وصاحب الخطوة الأولى في هذا الطريق الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس
Unknown page