Hurriyya Insaniyya Wa Cilm
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Genres
والفروض في الطريقة العلمية التي أصبحت طراز العصر، وكلها أمور احتضنها منذ بدء حياته الفلسفية، وغني عن الشرح أن اللاحتمية العلمية أو بالأدق، الانشقاق على الحتمية العلمية، يكمن من وراء كل هذه القضايا، وفي صلبها.
ولكن لنلاحظ أننا حتى الآن ما زلنا قبل عام 1925، أي أن المجتمع العلمي لم يعتمد بعد مبدأ اللاحتمية، أو أنه لا يزال مبدأ وافدا، مجرد إرهاص بما يحمله المستقبل، وقد يبدو وكأنه بدعة، وأشد البدع ضلالة، ونظرا لهذه الظروف التي لم تتوطد بعد لللاحتمية العلمية، فإن جيمس لم يأخذها كمسلمة انتهينا إليها، بل كقضية فلسفية أفضل من معارضتها، وأصوب، ويكفينا أنه أتى في وقته واتخذها بحماس فلسفي منقطع النظير كاشفا بهذا عن استباق للعصر، ومقدرة على استيعاب الأفكار الواردة واستشراف مستقبلها الخصيب، لم يتوجس جيمس من اللاحتمية خشية كما فعل كثيرون من معاصريه، ولا يزال يفعل بعض من معاصرينا، بل آمن به وآمن بتدخل عنصر المصادفة في بنية العالم، ورأى أنا الاطراد نفسه ليس إلا إحصائيا، وإذا كانت القوانين الصغرى تفترضه مقدما فإن الطبيعة لا يمكن أن تكون مطردة إلا بصورة تقريبية جدا.
48
هكذا رفض جيمس الحتمية رفضا جذريا، وأخرج كتابه
The Dilemma of Determism «معضل الحتمية» ليوضح تناقضها مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، بل ومع طبيعة الوجود، والطرق المغلقة أمامها، مثبتا أن بعض التركيبات الفلسفية المعينة (المقصود الحتمية) نزوات شخصية تنم عن الهوى، عبقة بالذوق الفردي في حين أن بعض التركيبات الأخرى، تلك التي تعمل بالعناصر المحسوسة، وبالتغير، باللاحتمية ... هي أكثر موضوعية، وأكثر تشبها بجبلة الطبيعة نفسها،
49
ذلك هو موقفه الفلسفي الصريح، ولكن - كما ذكرنا - ظروف عصره لم تكن تسمح له بوصفه عالما مسئولا بالتسليم باللاحتمية العلمية كقاعدة للبحث العلمي؛ لذلك جاء ليقول: «علم النفس على أية حال، من حيث إنه يجب أن يكون علما لا بد وأن يماثل أي علم آخر فيسلم بالحتمية الكاملة في وقائعه، ثم يستخلص بعد هذا آثار الإرادة الحرة، وذلك ما سأفعله في هذا الكتاب، وليكن معلوما على أية حال، أن هذا الإجراء على الرغم من أنه حيلة منهجية يبررها الاحتياج الذاتي لترتيب الوقائع في صورة بسيطة وعلمية، لا يحسم القول بطريقة أو بأخرى في الحقيقة النهائية لبحث حرية الإرادة».
50
إذن فلندع علم النفس يقر صراحة بأنه يمكن أن ينادي بالحتمية من أجل أغراضه العلمية، ولن يستطيع أحد أن يجد خطأ في هذا الزعم، ولكن إذا انقلب الأمر فيما بعد، بحيث تصبح هذه الدعوى فقط ذات أغراض نسبية ومن الممكن أن تواجهها دعاوى معارضة، فلا بد وأن نعيد تقييم الموقف، وها هنا يصبح الفرض الحتمي محض فرض منهجي مؤقت، فكل العلوم الخاصة تتناول معطيات مليئة بالغموض والتناقض ولكن يمكن تجاوز هذه المثالب من زاوية أغراضها؛
51
Unknown page