وأجاب الإمام الشافعي فيما روي منه:
هناك مظلومة غالت بقيمتها
وها هنا ظلمت هانت على الباري
ثم إن قطع اليد في ربع دينار مثلا فيه حكمة الزجر للسارق نفسه عن معاودة السرقة، وردع أمثاله عن الإقدام عليها، وفي هذا عصمة لأموال كثيرة، وسد لمنفذ تتفشى منه المفسدة بطريق العدوى، والله لا يحب المفسدين.
ثانيها:
عقوبة من يخيف السبيل ويشهر السلاح لأخذ المال باطلا، وهو المحارب، قال الله تعالى:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، شرع الله في عقاب المحارب أربعة أنواع، أوكل أمرها إلى خيرة الإمام، فإما أن يقتل بدون صلب، وإما أن يصلب حيا ثم يقتل ويراق دمه على الخشبة التي صلب فيها، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو ينفى من الأرض، أي يبعث من بلده إلى بلد آخر، ويودع في السجن إلى أن ينتفي خبثه وتظهر توبته، وليس معنى نفيه إبعاده إلى بلد آخر مع تركه خالع العنان يمشي في مناكبها، ويجتني بها قطوف لذاتها، فإن هذا لا يمحق كيده، ولا يقطع ذيل فساده، فلا نأمن أن يسحبه مرة أخرى، ويلوث به بقاعا كانت آمنة مطمئنة، وأضيف التغريب في هذه العقوبة إلى السجن زيادة في الخزي والنكال؛ فإن من يبارح وطنه ويغادر مسقط رأسه يجد في نفسه حرجا، وفي خاطره ضجرا؛ لانقطاعه عن أهل تربى في حجورهم وليدا، وحنوا عليه بعواطفهم حقبة، ثم مفارقته لعشيرة شب على أخلاقهم وعوائدهم، واشتمل برداء عزهم من قبل أن يكبر عن الطوق، ومن ثم نبعت الغيرة على الوطن في صدور الطوائف، وأصبحوا يجلونه أعظم إجلال، فلو هاجر قومه الوطن الأول، وانتبذوا بدله مكانا قصيا، لتحولت غيرته معهم وخص بها المنزل الحديث، كما يخصه بالتشوق والحنين، وعلى هذا المعنى يحمل حديث: «حب الوطن من الإيمان.» على فرض ثبوته، فحب الوطن على هذا الوجه يدل على حسن العهد، ويدعو إلى التعاضد على البر والتقوى.
وقد يألف الإنسان بعض البقاع، فيجد في إحساسه ميلا نحوها زائدا عما تقتضيه قيمتها في نفسه، ويأبى أن يستبدلها بالذي هو خير، ولكن هذا الميل بعد أن نسلم أنه أثر طبيعي غير خيالي، فلا يعتد من العواطف المعتبرة في نظر الشريعة ومجاري عادات العقلاء حتى يستحق من أجلها صفة تمجيد، فمن تحيز عن أمته وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سما ناقعا، لا نصفه بصفة الغيرة والوطنية، وإن شغف بحب ديارهم وقبلها جدارا بعد جدار، ولا يراد بالتخيير هنا إلقاء العقوبة بيد الإمام يحد الجاني بأي نوع اتفق أو تعلقت به مشيئته، كالتخيير في خصال الكفارة، وإنما المراد فتح مجال الاجتهاد في هذه الأنواع من غير أن يخرج عن دائرتها، فيجب عليه النظر أولا، وبذل الوسع فيما هو الكافي لحسم هذا الفساد من أصله، وبعد تعديل الرأي وتنقيحه، يتعين العمل بما هو أصلح في الردع وأنفى لوباء الفتنة.
فمن المحاربين من لا يقاتل بنفسه، ولكن له دهاء ومهارة في المكر والتدبير، بحيث يستطيع حيلة أن يؤلف الجموع ويثير غبار الفتنة، فهذا يجب قتله، فإن كان للمبالغة في إشهار العقوبة وإيقاعها بمكان تشخص فيه الأبصار تأثير نافع في ردع العائثين وإرهابهم جمع بين صلبه وقتله، ومنهم من لا رأي له ولا تدبير، وإنما يقطع السبيل بقوة بدنه وشدة بطشه، فهذا يقطع من خلاف؛ ليكف شر يده التي يبطش بها، ورجله التي يفتن عليها، وأما من يعلم من حاله العفاف، وإنما صدر منه ذلك على وجه الفلتة والمساعدة لغيره مع توقع الندم منه، فهذا حكمه النفي، ولا يسوغ قتله ولا قطعه، وإنما كانت عقوبة المحارب أشد من عقوبة السارق؛ لأن الحرابة أعظم مفسدة وأوسع خرقا في النظام؛ لإفضائها إلى انتهاب الأموال وسفك الدماء عند المدافعة عنها، إذ يسوغ لصاحب المال المدافعة عن ماله بما يملك من الاستطاعة، كثيرا كان المال أو يسيرا، وله أن يقاتل بعد الإنذار والموعظة إذا لم يجد للدفاع طريقا سوى القتال.
وجعل الإمام الشافعي رضي الله عنه أنواع العقاب المقررة في الآية مرتبة على حسب حال اختلاف المحاربين بالنظر إلى ما صنعوا، فقال: إذا قتل المحارب ولم يأخذ مالا قتل، وإن أخذ المال وقتل وجب قتله وصلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، والنفي والحبس فيمن لم يبلغ جرمه إلى أن يستحق أكثر منهما.
Unknown page