Al-ḥulal al-sundusiyya fī al-akhbār waʾl-āthār al-Andalusiyya (al-juzʾ al-awwal)
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Genres
قد ترك في أسبانية آثارا فاخرة، ومباني فخمة، كقصر الإسكوربال مثلا.
فالذين يقصدون إلى أسبانية من السياح لا تخيب آمالهم، ولا تذهل نفقاتهم سدى، وذلك لأن السائح الأوربي يجد دائما في أسبانية أشياء جديدة بالنسبة إليه.
فالبلاد كلها عبارة عن جزيرة يحيط بها البحر من جهاتها الثلاث، وتحيط بها جبال البرانس الشامخة من الجهة الرابعة، فهي معتزلة في مكانها، منتبذة من أوروبا زاوية خاصة بها، غير متأثرة بغيرها، محتفظة بجميع مميزاتها وخصائصها، لا هي شرقية تماما، ولا هي غربية تماما، بل هي متوسطة بين أوروبا وأفريقية، واصلة بين المشرق والمغرب، منطوية في أحناء وجودها هذا المستقل على أسرار لا يعرفها إلا من أكثر من التجوال فيها، وقرن السير بالنظر.
وهناك شعب شديد الخنزوانة قائم بذاته، لا يشبه غيره، ولا يريد أن يتشبه بغيره، وله مآخذ ومتارك لا ينزل عنها، وهو بفطرته لا يحب تقليد الشعوب الأخرى، بل هو من قديم الزمان مستمسك بأوضاعه، متعال عن السير وراء أقرانه، لا يرضى بما لديه بدلا، ولا يبتغي عما ائتلفه حولا.
نعم من جهة الصناعة وفن الرسم والتصوير قد يقلد الأسبانيول سواهم، بل يجد الناظر في كنائسهم وقصورهم آثارا للفن الإيطالي، الذي يدور على محاكاة الطبيعة. وكذلك يجد في رسومهم وتصاويرهم تأثير الفن الإفرنسي، والفلمنكي، بل ليس في أسبانية فن تصوير خاص بها، ولا فن بناء خاص بها، وإنما هي محاكاة للأمم الغربية الأخرى مع جزء فيها من الطبع الأسباني. وإذا كان السائح الأوربي لم يعرف بلاد الشرق، أو لم يقيض له أن يزور بلاد الإسلام، فإنه يجد في أسبانية آثارا عربية، تكفيه لأخذ صورة حقيقية عن المدنية الإسلامية، التي منها في الأندلس أمثلة كافية، وقطع تعد من أنفس وأرقى ما تركه العرب من الآثار في الأرض.
وأما السائح الشرقي فإنه يقضي سياحته في أسبانية متأملا، غائصا في بحار العبر هائما في أودية الفكر. كلما عثر على أثر عربي خفق له قلبه، واهتزت أعصابه، وتأمل في عظمة قومه الخالين، وما كانوا عليه من بعد نظر، وعلو همم، وسلامة ذوق، ورفق يد، ودقة صنعة. وكيف سمت بهم هممهم إلى أن يقوموا بتلك الفتوحات في ما وراء البحر في بحبوحة النصرانية، وملتطم أمواج الأمم الأوربية، وأن يبنوا فيها بناء الخالدين ويشيدوا فيها ألوفا من الحصون، وأن يملأوها أساسا وغراسا، كأنهم فيها أبد الآبدين، فلا يزال قلب السائح المسلم في الأندلس مقسما بين الإعجاب بما صنعه آباؤه فيها، والابتهاج بما يعثر عليه من آثارهم، وبين الحزن على خروجهم من ذلك الفردوس الذي كانوا ملكوه، والوجد على ضياع ذلك الإرث الذي عادوا فتركوه، وأكثر ما يغلب عليه في سياحته هناك هو الشعور بالألم، فهو لا يزال يسير بين تأمل وتألم، وتفكر، وتحسر، لكنه يريد مع ذلك أن يقتري هذه الآثار، وأن يمشي في مساكن أولئك الآباء، وأن يخاطب الأحجار، وذلك لأنه لهوى النفوس سرائر لا تعلم، من جملتها أنها تنزع إلى البكاء عند دواعي الوجد، كما ترتاح إلى الطرب عند بواعث السرور، وأنها قد تهتف بالأمرين معا، وتجمع الضدين شرعا، وأن كل ما هو حنين وتذكار، وولوع بعد الأعيان بالآثار، هو من سرائر البشرية، ومما هو غالب على النفس الناطقة. (1) العمران والفن في أسبانية
هذا وإذا حاولنا تحليل الإنشاء العمراني الذي يعول عليه في أسبانية وجدناه ينقسم إلى أربعة أدوار: روماني، وقوطي، وعربي، وأوربي متجدد، فالروماني أعظم آثاره متجلية في مدينة ماردة، قاعدة «لوزيتانيا» التي بناها أغسطس، ففيها الجسر الذي كانت له 81 حنية، وفيها القناتان المعلقتان، وفيها الملهى التمثيلي، وفيها ملهى التمثيل البحري وفيها الملعب العام، وفيها هيكل المريخ الذي تحول فيما بعد كنيسة وفيها قوس النصر الشهيرة، وغير ذلك من المباني الخالدة. وطركونة فيها عدة هياكل وملهى تمثيلي، وملعب وحمامات، وجميعها من أفخم المباني الرومانية التي يقيدها التاريخ لتلك الأمة العظيمة. وسقوبية
Segopice
هي ذات القناة المعلقة التي طولها 818 مترا، منها 266 مترا راكبة على طاقين من الحنايا، الواحد فوق الآخر، عدد قناطرها 119 قنطرة، وهو أكمل وأروع بناء روماني في أسبانيا.
وأما القوطي فأقدم آثاره في «أوبيط»
Unknown page