حاولت أن أخبرك قليلا عن عالم ما قبل الحرب؛ ذلك العالم الذي وجدت عبقه عندما رأيت اسم الملك زوجو في الصحيفة، ولكني لم أخبرك شيئا؛ فإذا كنت تتذكر عهد ما قبل الحرب فأنت إذن لا تحتاج إلى من يخبرك عنه، وإذا كنت لا تتذكره فلا طائل من إخبارك عنه. حتى الآن لم أتحدث إلا عن أشياء حدثت لي قبل أن أتم عامي السادس عشر؛ وحتى ذلك العمر كانت الأمور على خير حال مع عائلتي. قبل عيد ميلادي السادس عشر بقليل، بدأت أفهم بعضا مما يطلق عليه الناس «الواقع»، الذي اكتشفت أن معناه التعاسة.
بعد نحو ثلاثة أيام من رؤيتي لأسماك الشبوط الكبيرة في منزل بينفيلد، أتى أبي وقت الشاي وهو يبدو عليه القلق الشديد حتى إنه بدا أكثر كآبة وشحوبا عن العادة. أكل بطريقته المهيبة وشرب الشاي ولم يتحدث كثيرا. في تلك الأيام، كانت له طريقة في تناول الطعام تنم عن أن ثمة ما يشغل باله كثيرا، وكان شاربه دائم التحرك لأعلى وأسفل في حركة جانبية؛ لأنه لم يكن قد تبقى في فمه الكثير من الأسنان الخلفية. وكنت قد قمت لتوي من أمام الطاولة عندما ناداني قائلا: «انتظر دقيقة يا جورج يا بني. لدي شيء أريد أن أقوله لك. اجلس فقط لدقيقة. سمعت يا حبيبتي ما أريد قوله ليلة أمس.»
كانت أمي خلف إبريق الشاي البني الكبير، طاوية يديها على حجرها وقد بدت عليها التعاسة. استأنف أبي حديثه، وكان يتحدث بجدية بالغة كان يخفف كثيرا من وقعها محاولته إخراج فتات الخبز المستقر في مكان ما فيما تبقى من أسنانه الخلفية، وقال: «جورج يا بني، ثمة شيء أريد أن أخبرك به. كنت أفكر مليا في الموضوع، المتمثل في الوقت الذي ستترك فيه المدرسة. للأسف، ستضطر إلى أن تبدأ في الذهاب إلى العمل الآن وأن تكسب بعض المال لترجع به إلى المنزل لأمك. وقد كتبت للسيد ويكسي ليلة أمس، وأخبرته أنني يجب أن أخرجك من المدرسة.»
بالطبع كان الأمر معدا سابقا تماما، أعني كتابته للسيد ويكسي قبل أن يخبرني؛ فقد كان الآباء في تلك الأيام بطبيعة الحال يرتبون دائما كل شيء يتعلق بأبنائهم دون استشارتهم.
استكمل أبي حديثه بمزيد من التمتمة وتعبيرات القلق؛ فلقد «مرت عليه أوقات عصيبة مؤخرا»، وكانت الأمور «صعبة بعض الشيء»، والمحصلة كانت أنه يجب علي أنا وجو أن نبدأ في كسب قوتنا. في ذلك الوقت، لم أكن أعلم أو أهتم كثيرا بما إذا كان ثمة مشكلة في عمل أبي بالفعل أم لا؛ ولم يكن لدي حتى ما يكفي من النزعة التجارية التي تمكنني من رؤية الأسباب التي تجعل الأمور «صعبة». الحقيقة كانت أن أبي هزم في منافسة؛ إذ كان آل سارازينز، وهم من كبار تجار الحبوب بالتجزئة ولهم فروع في كل أقاليم البلاد، قد حطوا أرجلهم في لوير بينفيلد. لقد استأجروا قبل ستة أشهر متجرا في السوق؛ وبالغوا في تزيينه بالطلاء الأخضر الساطع، والأحرف المطلية بالذهب، مع طلاء أدوات البستنة بالأحمر والأخضر، وعمل إعلانات عملاقة عن البازلاء العطرية بحيث تجذب انتباهك على مسافة مائة ياردة. كان آل سارازينز، بجانب بيعهم لحبوب الزهور، يصفون أنفسهم بأنهم «متعهدو أعلاف دواجن عالميون»، وفضلا عن القمح والشوفان وغيرهما من الحبوب، كانت لديهم خلطات أعلاف دواجن مسجلة باسمهم، وحبوب طيور معبأة بأناقة، وبسكويت كلاب بجميع الأشكال والألوان، وأدوية ، ومراهم، ومساحيق ترطيب؛ كما تفرع نشاطهم لأشياء مثل مصائد الفئران، وسلاسل الكلاب، وحاضنات البيض، والبيض الصحي، وكل ما يخص رعاية الطيور، والمصابيح الكهربائية، ومبيدات الأعشاب الضارة، والمبيدات الحشرية؛ حتى إنهم في بعض فروعهم كان لديهم قسم خاص للأرانب والفراخ الصغيرة في عمر يوم. لم يستطع أبي، بمتجره القديم الذي يملؤه الغبار ورفضه لبيع أغراض جديدة، أن يخوض ذلك النوع من المنافسة، ولم يكن يرغب في خوضها. أما التجار من أصحاب عربات الخيول والمزارعين الذين يتعاملون مع تجار الحبوب بالتجزئة، فقد حاولوا تجنب مواجهة آل سارازينز؛ ولكن في غضون ستة أشهر، تجمعوا حول أبناء الطبقة العليا الصغيرة في الحي، الذين كانوا في تلك الأيام يملكون العربات الكبيرة والصغيرة. هذا يعني خسارة كبيرة لأبي ولتاجر الذرة الآخر، وينكل. لم أع أيا من ذلك في وقته؛ فقد كنت أتصرف كالصبية تجاه كل شيء، ولم يكن لدي أي اهتمام قط بالتجارة، ولم أقف في متجر قط أو بالكاد وقفت؛ وفي الأحيان النادرة التي كان أبي يريد مني فيها أن أؤدي مهمة أو أساعده في شيء ما، كرفع أجولة الحبوب إلى العلية أو إنزالها منها، كنت دائما أتهرب منه كلما أمكنني. لم يكن الأولاد في مدرستي يتصرفون بطفولية كأولاد المدارس العامة؛ فقد كانوا يقدرون قيمة العمل والنقود، لكن بدا من الطبيعي أن يرى الابن أن عمل أبيه أمر ممل. وحتى ذلك الوقت، كانت قصبات الصيد والدراجات وشراب الليمون الفوار وغيرها من الأشياء تبدو لي أكثر واقعية من أي شيء يحدث في عالم الكبار.
كان أبي قد تحدث بالفعل مع العجوز جريميت، البقال، الذي كان يريد فتى ذكيا للعمل معه وكان على استعداد في أن أبدأ عملي في متجره على الفور. في تلك الأثناء، كان أبي سيتخلص من الصبي الذي كان يساعده في المتجر، وكان جو سيبقى في المنزل لمساعدته في المتجر حتى يحصل على عمل. كان جو قد ترك المدرسة قبل ذلك، ولم يكن يفعل شيئا سوى التسكع منذ ذلك الحين. وكان أبي يتحدث أحيانا عن إلحاقه بقسم المحاسبة في مصنع الجعة؛ حتى إنه كان يفكر قبل ذلك في جعله يعمل بائع مزادات. ولكن العملين كانا مستحيلين تماما؛ فقد كان خط يد جو في سن السابعة عشرة سيئا كخط صبي يجر ماشية الحرث، ولم يكن يحفظ جدول الضرب. في ذلك الوقت، كان من المفترض أن يكون قد «تعلم صنعة» في متجر دراجات كبير بضواحي وولتن. إن تصليح الدراجات يناسب جو، الذي كان كمعظم الحمقى يميل بعض الشيء إلى الأعمال الميكانيكية؛ ولكنه كان غير قادر على الإطلاق على العمل بانتظام، وقضى كل وقته في التسكع مرتديا رداء العمل المليء بالشحم، ومدخنا للسجائر، ومنخرطا في المشاجرات، ومنهمكا في شرب الخمر (التي كان قد بدأ في شربها في ذلك الوقت بالفعل)، و«مواعدة» الفتيات الواحدة تلو الأخرى، والإلحاح في طلب النقود من أبي. كان أبي يشعر بالقلق والحيرة والاستياء الغامض. ما زلت أراه والطحين على رأسه الأصلع، والشعر الأشيب القليل حول أذنيه، ونظارته، وشاربه الرمادي. لم يستطع أن يفهم ما كان يحدث له؛ لسنوات ظلت أرباحه تعلو ببطء وبوتيرة منتظمة؛ عشرة جنيهات هذه السنة، وعشرون جنيها في تلك السنة، ثم فجأة هبطت هبوطا مروعا. لم يستطع فهم الأمر؛ فلقد ورث العمل عن أبيه، وتاجر بأمانة، وعمل بجد، وباع بضائع جيدة، ولم يغش أحدا، ولكن أرباحه كانت في هبوط. قال عدة مرات، وهو يمصمص أسنانه ليخرج من بينها فتات الطعام، إن الأوقات كانت عصيبة؛ إذ بدت التجارة شديدة الكساد، ولم يستطع أن يفهم ما حدث للناس، فكما لو أن الخيول لم تعد تأكل. ربما كان السبب هو انتشار السيارات، هكذا قرر في النهاية. علقت أمي قائلة: «تلك الخردة النتنة!» وكانت أقل قلقا، وتعلم أنه كان عليها أن تكون أكثر قلقا. ومرة أو مرتين أثناء حديث أبي، كانت ثمة نظرة غائبة في عينيها، وكنت أرى شفتيها تتحركان. كانت تحاول أن تتخذ قرارا إذا ما كانت ستطهو غدا لحم البقر بالجزر أو ساق ضأن أخرى. وباستثناء الأحيان التي يكون فيها شيء تهتم به يحتاج إلى بعد نظر، كشراء البياضات أو القدور، لم يكن تفكيرها في الواقع يمتد لما هو أبعد من وجبات الغد. لم يكن المتجر يعمل بشكل جيد وكان أبي قلقا؛ هذا تقريبا كل ما كانت تراه في الأمر. ولم يدرك أحد منا أي شيء عما كان يحدث. مرت على أبي سنة سيئة وخسر ماله، ولكن هل كان حقا خائفا من المستقبل؟ لا أظن ذلك. أتذكر أنه كان العام 1909، ولم يكن يعلم ما كان يحدث له؛ فلم يكن قادرا على إدراك أن آل سارازينز سيبيعون بأثمان أرخص منه ويدمرونه ويقضون على تجارته. كيف يمكنه أن يدرك ذلك؟ فلم تكن الأمور تسير بتلك الطريقة في شبابه؛ وجل ما عرفه هو أن الأوقات كانت عصيبة، وأن التجارة شديدة «الكساد» وشديدة «البطء» (كان يكرر هذه العبارات مرارا وتكرارا)، ولكن الأمور ربما «تزدهر عما قريب».
سيكون من الجيد إن كان باستطاعتي أن أقول إنني كنت مصدر عون كبير لأبي في محنته، وإنني وجدت نفسي فجأة أتصرف كالرجال، وأظهرت صفات لم يتوقعها مني أحد، وما إلى هذا، كما يحدث في الروايات الأخلاقية التي كنت تقرؤها منذ ثلاثين سنة. أو أقول بدلا من ذلك إنني أعلنت عن استيائي وألمي الشديد لاضطراري إلى ترك المدرسة، وأن عقلي الشاب الطموح والشغوف بالمعرفة والتهذيب أراد تجنب العمل الميكانيكي عديم الحس الذي كانوا يدفعونني إليه، وما إلى ذلك، كما في الروايات الأخلاقية التي تقرؤها اليوم. ولكن كلا الادعاءين سيكونان هراء صريحا؛ فالحقيقة هي أنني كنت سعيدا ومتحمسا لفكرة الذهاب إلى العمل، خاصة عندما علمت أن العجوز جريميت سيعطيني أجرا حقيقيا، اثنا عشر شلنا في الأسبوع، ويمكنني أن أحتفظ منه بأربعة شلنات لنفسي. أسماك الشبوط الكبيرة في منزل بينفيلد، التي استولت على تفكيري في الأيام الثلاثة الماضية، تلاشت تماما منه، ولم يكن لدي اعتراض على ترك المدرسة بضع فصول دراسية مبكرا. حدث الأمر نفسه مع أولاد آخرين في مدرستنا؛ إذ كنت دائما تجد ذلك الولد الذي «سيذهب» إلى جامعة ريدينج، أو يدرس ليصبح مهندسا، أو «سيذهب للعمل» في لندن، أو سيترك عائلته ليصبح بحارا؛ وفجأة بعد إخطاره المدرسة بيومين يختفي، وبعد ذلك بأسبوعين تقابله وهو على دراجته يوصل الخضراوات. بعد خمس دقائق من إخبار والدي لي أن علي ترك المدرسة، كنت أفكر في البدلة الجديدة التي سأرتديها للذهاب إلى العمل؛ وطلبت على الفور «بدلة كبار» بمعطف على الطراز السائد في ذلك الوقت، أعتقد أنهم كانوا يقولون عنه «معطفا مفتوحا من الأمام». بالطبع صدم كل من أمي وأبي، وقالا إنهما «لم يسمعا قط عن شيء كهذا». لسبب ما لم أسبر أغواره جيدا قط؛ كان الآباء في تلك الأيام يحاولون دائما منع أبنائهم من ارتداء ملابس الكبار قدر الإمكان. وكانت في كل عائلة مشاجرة قبل أن يحصل الصبي على أول ياقة عالية، أو قبل أن تربط الفتاة شعرها لأعلى.
بذلك تغيرت دفة الحوار من مشاكل عمل أبي، وانحدر إلى نوع من الجدال المتذمر الطويل، الذي زاد فيه غضب أبي بالتدريج، وأصبح يكرر مرة تلو الأخرى - بطريقته المنفعلة حيث كان يتحدث بلهجة أبناء الطبقة العاملة عندما يكون غاضبا - «خلاصة القول، لا يمكنك ارتداؤه. فلتخرجه من رأسك، لا يمكنك ارتداؤه.» لهذا لم أحصل على المعطف، ولكنني ذهبت إلى العمل لأول مرة في بدلة سوداء جاهزة الصنع وياقة عريضة، بدوت فيهما أخرق وأكبر من عمري. إن أي سوء شعرت به تجاه أمر العمل برمته كان في الحقيقة نابعا من ذلك. أما جو فقد كان أكثر أنانية مني؛ فقد استشاط غضبا عندما اضطر إلى ترك متجر الدراجات، وفي الفترة القصيرة التي ظل فيها في المنزل، لم يكن يفعل شيئا سوى التسكع، وكان مصدر إزعاج ولم يساعد أبي في أي شيء.
عملت في متجر العجوز جريميت لست سنوات تقريبا. كان جريميت ذا مظهر جيد؛ فقد كان من كبار السن منتصبي القامة ذوي اللحية البيضاء، وهو نسخة أكثر ضخامة بعض الشيء من عمي إيزيكيال، وكان كذلك كعمي إيزيكيال ليبراليا مخلصا. ولكنه كان أقل ثورة وأكثر احتراما لدى أبناء البلدة . كان قد عدل مواقفه أثناء حرب البوير، وكان عدوا لدودا للنقابات العمالية، وقد طرد أحد مساعديه ذات مرة؛ لأنه كان معه صورة لكير هاردي؛ كما كان «منشقا عن كنيسة إنجلترا» - في الواقع كان شخصا مهما، حقا، في الكنيسة المعمدانية، المعروفة محليا باسم تين تاب - بينما كانت عائلتي «تابعة لكنيسة إنجلترا» في حين كان عمي إيزيكيال غير مؤمن. كان العجوز جريميت عضو مجلس محلي، ومسئولا في الحزب الليبرالي المحلي. كانت لحيته البيضاء، وحديثه المتصنع عن حرية الاعتقاد والرجال الكبار العظماء، ورصيده الكبير في البنك، والصلوات المرتجلة التي قد تسمعه أحيانا يطلقها عندما تمر بتين تاب، تجعله بعض الشيء يبدو كبقال منشق أسطوري في القصة، التي أتوقع أن تكون قد سمعت بها من قبل: «جيمس!» «نعم يا سيدي!» «هل وضعت الرمل في السكر؟» «نعم يا سيدي!» «هل خففت دبس السكر بالماء؟» «نعم يا سيدي!» «إذن، فلتأت للصلاة.»
سمعت هذه القصة همسا في المتجر مرات لا تحصى. كنا بالفعل نبدأ اليوم بالصلاة قبل فتح الأبواب. لا يعني ذلك أن العجوز جريميت كان يضع الرمل في السكر؛ إذ كان يعلم أن ذلك لن يفيد، ولكنه كان رجلا صارما في عمله، وكان يورد كل أغراض البقالة عالية الجودة للوير بينفيلد وما حولها؛ وكان يعمل تحت يده ثلاثة مساعدين في المتجر إلى جانب الصبي الذي كان يرسله في مهمات خارج المتجر، وسائق الشاحنة، وابنته (التي كانت أرملة) التي كانت مسئولة عن الأمور المالية. كنت أنا صبي المهمات في أول ستة أشهر من عملي معه؛ ثم غادر أحد المساعدين كي «يرتقي بحاله» في ريدينج، وانتقلت أنا للعمل في المتجر وارتديت أول مئزر أبيض في حياتي. وهناك تعلمت ربط الطرود، وتعبئة أكياس الزبيب، وطحن البن، وتقطيع شرائح اللحم المقدد والمدخن، وسن السكاكين، ومسح الأرضيات، ونفض الغبار عن البيض دون كسره، وبيع السلع الرديئة على أنها جيدة، وتنظيف النوافذ، ووزن رطل من الجبن بمجرد النظر، وفتح صناديق التعبئة، وتقطيع لوح من الزبد إلى أشكال، وتذكر أماكن التخزين، وهو ما كان المهمة الأصعب إلى حد كبير. لا أتذكر كثيرا من التفاصيل عن البقالة كما أتذكر عن الصيد، ولكني أتذكر قدرا لا بأس به عنها؛ فحتى يومنا هذا، لا أزال أتذكر كيف أقطع خيطا بأصابعي، وإذا وضعتني أمام آلة قطع اللحم المقدد، فسأعمل عليها أفضل مما أعمل على الآلة الكاتبة. يمكنني أن أسرد لك بعض النقاط المهمة عن طرق معرفة درجات الشاي الصيني، وطريقة صنع السمن النباتي، ومعرفة متوسط وزن البيضة، وسعر ألف كيس ورقي.
Unknown page