وساءل نفسه: كيف نتملص من هذه اللعنة؟ وروت له مأساة عليات وسنية، وهو يتظاهر بالانتباه والاهتمام. وقال لنفسه: إنها شديدة المراس، ولكنها ستكون زوجة ممتازة، ولكن ماذا أبغي من ورائها؟ لا حنين إلى الأبوة ولا إلى الاستقرار، ولا إلى الخلود، ولكني أريد الحب! ورفع قدحه وهو يقول: في صحة زواجنا القريب!
21
في زيارة الفنانين للجبهة لم تسمح فتنة ناضر لمرزوق أنور بمفارقتها دقيقة واحدة. بدأت الرحلة مع الصباح الباكر. وتقرر السفر إلى بورسعيد لهدوئها النسبي بالقياس إلى بقية المناطق المتفجرة المشتعلة. واختار منظمو الرحلة طريق رأس البر - رغم طوله - لموقعه البعيد عن مرمى مدفعية العدو. واطمأن الجميع إلى أنهم سيستمتعون بسفر آمن وصحبة هنية. وسخرت فتنة في نفسها من أستاذها أحمد رضوان، الذي تخلف عن الرحلة، معتذرا بمرضه، متأثرا في الواقع بجبنه وإيثاره السلامة بأي ثمن. ووصلوا إلى بورسعيد في الظهيرة، فدعوا من فورهم للاجتماع بالمحافظ. وتبودلت كلمات الترحيب من جهة والحماس من الجهة الأخرى، ثم تقضت ساعات في زيارة بعض الثكنات في المدينة، وبعض المواقع في الجبهة. تلاقت الأيادي في مصافحات حارة. وتبودلت النظرات في إعجاب ومحبة. وأحاط الضباط والجنود بفناناتهم وفنانيهم المفضلين. وتذكرت فتنة شقيقها الفقيد فدمعت عيناها، كما تذكر مرزوق صاحبه إبراهيم عبده الذي يرقد في المستشفى بين الحياة والموت. ورجعوا إلى بورسعيد عند الأصيل، فتجمعوا في استراحة المحافظة. أما فتنة، فاقترحت على مرزوق أن يتجولا قليلا في النواحي القريبة من المدينة. سارا في شارع طويل عريض يبدأ من الميدان أمام مبنى المحافظة. وعقب دقائق معدودات انفصلا تماما عن الحياة التي يضج بها الميدان بما فوق سطحه من سيارات وجنود وموظفين. غاصا في خلاء شامل، وغرقا في صمت مروع. لا حركة ولا نأمة، ولا ظل لإنسان أو حيوان. العمارات والبيوت تقوم على الجانبين مغلقة النوافذ والأبواب كأن لم يطرقها حي، نائمة أو ميتة، أو هي هياكل ومشروعات لم تنفخ فيها الحياة بعد. وتاقت الأعين لرؤية أي شيء، وتلهفت الآذان على سماع أي صوت، نافذة مفتوحة أو باب موارب، أو غسيل يرفرف في شرفة، أو طفل يصرخ، أو قطة تموء، أو كلب ينبح، كلا ولا ورقة يدفعها الهواء، أو عقب سيجارة ملقى، أو قمامة مكومة تحت الطوار، أي شيء، أي شيء، أي أثر لإنسان. وهمست فتنة: إنه كابوس.
فردد مرزوق: نهاية العالم. - قلبي .. لا أدري كيف أصف مشاعري. - تجربة جديدة، ومشاعر جديدة. - يخيل إلي أني تعيسة أو سعيدة جدا، وأحلم بالرجوع إلى بطن أمي. - أشعر بأني حر، حرية كاملة، من الحضارة والتاريخ. - هل يمكن أن نجن فجأة؟ - وممكن أن نحادث الأرواح!
ووجدا نفسيهما أمام مدخل كازينو. مفتح الأبواب وبلا جليس، ووقف صاحبه - فيما يبدو - في مقدم التراس مرتديا بلوفر وبنطلونا ومشمر الساعدين. منظر مفاجئ مذهل ولا يصدق. - لعله مفتوح بأمر المحافظ. - لعله .
ونظرت فتنة إلى الرجل فحياها بابتسامة عرفان، فسألته: ممكن نشرب فنجال قهوة. - أو أي شراب ...
جلسا في أقصى عمق التراس بعيدا عن مرأى الطريق الخالي. وجاءت القهوة فراحا يحتسيانها بارتياح، وقالت: بقدر ما سعدت بين الجنود، بقدر ما جننت هنا! - حديثهم مؤثر ولهفتهم على القتال واضحة. - أجل، لا أتصور كيف يواجه الناس الموت! - إنه جو وعادة وعقيدة، وهذه هي المشكلة. - وراء ذلك هزيمة خاطفة لم تهضم بعد. - ولعلهم أفاقوا - مثلنا - كالمجانين! - ليجدوا كل شيء مثل هذا المقهى الخالي.
وكانت شاحبة الوجه. وذهبت إلى دورة المياه. ورجعت باسمة. وجدته يدخن سيجارة بعمق فقال لها: قرأت اليوم أن أخذ النفس بعمق سبب رئيسي في إصابة الشخص بسرطان الرئة! - أتصدق ذلك؟ - لم تعد لي ثقة بما ينشر في الصحف.
فسألته مداعبة: صف شعورك عندما تعطل مشروع زواجك؟
فسألها متظاهرا بالاستياء: أتسخرين من المصائب؟
Unknown page