فتحت عينها فجأة، كان الرجل يحملق فيها من وراء الصحيفة ، عيناه تخترقان الورق وتنفذان. - نعم كانت تحت المراقبة الدائمة. - بأمر من صاحب الجلالة؟ - ربما، أو ربما هو رئيسها في العمل، أو زوجها، استأجر رجلا يراقبها نظير مبلغ من المال، أو ربما هم الثلاثة لا أحد يعرف بالتحديد، لكن المراقبة كانت مستمرة، أربعة وعشرين ساعة في اليوم، رجل البوليس كان معهم بطبيعة الحال، يدور بالكرسي حول نفسه، ويدق على الآلة الكاتبة: «اجتمعت مع النسوة في الساعة السادسة والنصف دون الحصول على تصريح بالاجتماع، عادت إلى بيتها في الثانية إلا عشر دقائق، ساقت المركبة وحدها دون الاعتماد على سائق رجل، كل ذلك يشكل خطورة على نظام العالم، يستوجب السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وحمل الأثقال فوق رأسها، يستدعي الأمر بطبيعة الحالة فصلها من العمل وطلاقها من زوجها، وإن لم تكن متزوجة يمكن لصاحب الجلالة في هذه الحالة أن يفوض القاضي العام بإصدار الحكم بالإعدام.»
كان الفراش يهتز في العتمة كلما تقلب الرجل من جنب إلى جنب، يصدر عن ألواح الخشب أنين مثل قط يموء، يتشمم بأنفه رائحة الطعام، لم يكن ينبعث من المطبخ رائحة أكل، رءوس البصل راقدة في الحوض لا تزال، الموقد مطفأ، والوعاء الألومنيوم فارغ، يلمع قاعه تحت الضوء بوميض رمادي. - ألم تصرخي طالبة النجدة؟
ربما هي واحدة من الجارات، جاءت على الصوت، لم تكن هي صرخت على الإطلاق، أو صرخت لكن صوتها لم يطلع، كانت تريد أن تخفي الأمر في الصمت، وتركت جسمها ممدودا على الأرض، إحدى ساقيها ملفوفة بحزام الحقيبة، عارية تماما إلا من بقايا سروالها الممزق، يلتف حول قدمها كالخلخال، مطرز من الحواف باسمها واسم زوجها داخل دائرة مغلقة على شكل القلب.
تحت الضوء الشاحب رأت فخذيها كبيرتين ضخمتين كأنما كانت تنظر إليهما من خلال عدسة مكبرة، طويلتين ومسحوبتين بعيدا عنها، لا تكاد تراهما عبر المسافة البعيدة، كأنما هما فخذا امرأة أخرى.
وصعدت عيناها فوق جسدها تتسعان مع حركة الصعود، تتوقفان، كأنما مصعوقتان أمام رأسها المتدلي فوق العنق، مربوط بمنديل أسود، والوجه الأسمر يزداد سمرة في الضوء المعتم، تعلوه نقط سوداء كالنمش، وخطوط كالتجاعيد مرسومة بالقلم، تهبط من زوايا الجفون الملتهبة كالدموع السوداء، والرموش ساقطة، كأنما هي انتقلت من الشباب إلى الكهولة بحركة جانبية من عينها، انتفضت واقفة تشد عضلات ذراعيها وساقيها، تشد أعماق عقلها الباطن من جوف الأرض، تذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل، وعاشت هذه اللحظة في حياة سابقة، مشهد العقاب هذا هو الذي كانت تراه في أحلام اليقظة والنوم. - هذا مخجل لامرأة محترمة مثلها تبحث عن الإلهات.
وسمعت صوتها ينتحب، أريد أن أموت من الخزي على الأقل، ثم سكتت عن النحيب فجأة، وجاء صوت يشبه صوت امرأة من النسوة. - أجل، ما المشكلة إذن؟ إنه يضربني دائما وهو منتفخ بالكبرياء، لن يطلع الصبح حتى أكون قد فتحت الباب وخرجت، نعم أعرف، سأمضي غدا، فامسحي هذه الدموع السوداء، لن ينقلب العالم لأن امرأة رقدت مع رجل غريب في لقاء عابر.
كان صوتها يتبدل مع كل حركة من جسمها، وجسمها ينتقل من البرودة إلى السخونة وهي تنقلب من جنب إلى جنب، رائحتها تتضوع من عمق فيها لا يمكن لها أن تفهمه، رائحة اللحم الراقد في بطن الأرض، ربما أرادت أن تموت في تلك اللحظة، أو ماتت فعلا، ثم مس طرف أنفها طرف أنفه وهو ينسحب من فوقها، أدركت لحظتها فقط أن جسدها كالماء، وهي قطعة يابسة تغوص إلى القاع، وترسو بقدميها في بطن الأرض. - امرأة ساقطة إلى هذا الحد؟ - ماذا تعني؟ - ألا تعرفين ماذا أعني؟ - أتراقبني؟ - أجل، لولا ذلك ما رأيتك مع الرجل الآخر. - وأنا رأيتك، هل نسيت؟ - أجل، هذا طبيعي، ويعطيني الله بدل المرأة أربعة ألا تعرفين ذلك؟
كان واقفا يمط عنقه، مملوءا بالفخر، كلما زاد عدد النسوة في حياة الرجل يزداد عنقه طولا، كان عنقه يمتد إلى ما لا نهاية، مثل خط الأفق، مشهد يرعبها أكثر من الموت، يضعها هي والرجل في عالم يتأرجح، بيت قائم فوق الماء، ميزان تهتز كفتاه دونما عدل.
كان واقفا يتطلع إلى أعلى، عيناه تبربشان، يحاول إمساك السماء بعينيه ، كأنما هي الشيء الوحيد القابل للإمساك في مساحات من الوهم.
كانت راقدة في مكانها لا تزال، لامست بيديها خديها الملتهبتين بالصفعات، نظرت إليه بطرف عينها وهو واقف، كان بالقرب من الباب، لا يبعد عنها بضع خطوات، وبدا بعيدا جدا كأنما هو غائب. - كيف يمكن لرجل قريب إلى هذا الحد أن ينسحب إلى مسافة لا نهائية لمجرد حركة واحدة من طرف عينها؟ - أجل، هذا طبيعي، إن امرأة مثلك تتجاوز بإثمها الحدود يمكن برمشة عين أن تقلب النظام. - أهو نظام متهالك إلى هذا الحد؟
Unknown page