وكان هذا الضابط يدعى بوتمكين، وكان يختلف عن أورلوف من حيث تمدينه، وتوحش أورلوف؛ فقد كان رجلا مهذبا أنيقا في ملابسه، يحب الكتب، ويدير الحروب، بينما لم يكن في أورلوف من الصفات التي تحبها الإمبراطورة سوى جرأته ورجولته.
فأنعمت على أورلوف، وغمرته بألطافها، حتى تركها راضيا مسرورا، واستأثرت ببوتمكين. وتبين لها بعد أن عرفت بوتمكين، أن حبها الماضي لم يكن سوى شهوات متوثبة، أما هذا الحب فهو دائم متواصل، ذلك فيه حرقة الجوع وأنانية الطمع، أما هذا، فكله عطف واستسلام وحنان.
ولم تكن كاترين جميلة من حيث الجسم؛ فقد كانت ربعة، متناسبة أعضاء الوجه، الذي لم يكن فيه مما يفتن سوى حاجبين أسودين ثقيلين، يشتد ظهورهما؛ لأن شعر رأسها لم يكن فاحم اللون مثلبا. ولكنها كانت ذكية، لها قدم في الآداب، وكانت تكاتب فولتير، وكثيرا ما دعته إلى القدوم إليها فأبى.
وأحبت كاترين بوتمكين، وأنعمت عليه إنعام الإغداق، حتى بلغت ثروته بعد سنتين من معرفته بها نحو 9 ملايين روبل، وكان لا يعرف ضياعه، لكثرتها وسعة مساحتها، ولكنه هو نفسه كان أيضا مخلصا في حبه لها، فلم يكن يبالي أن يضيع هذه الثروة الضخمة لكي يرضيها أو يترضاها؛ فقد بنى لنفسه قصرا في بطرسبرج، وكان يدعوها إليه فيه، ويعقد لها الولائم الفخمة، تزري ولائم الملوك، وتذكر الناس أنطونيوس وكليوبطرة؛ فقد دخلت الإمبراطورة في إحدى زياراتها مكتبة بوتمكين، فوجدت من الكتب ما زين جلدته بالجواهر الثمينة، كالماس والياقوت، وفتحت بعض الكتب الأخرى، فوجدت الأوراق مؤلفة من البنكنوت الإنجليزي، وحدث أن الإمبراطورة أرادت أن تزور وادي نهر الدينيبر في صحبة بوتمكين، فلكي يسرها ويوهمها بعمار البلاد أمر فبنيت أكواخ على شط النهر من الخشب والقماش، كما تبنى على مسارح التمثيل. وأمر أناسا يقفون إلى جنب هذه الأكواخ، ويهتفون لها كلما مرت بهم.
وقد حارب بوتمكين الأتراك، ونال عدة انتصارات، اتسعت بها الإمبراطورية الروسية، ولكن كاترين لم تكن تحبه لهذه الانتصارات وإنما لشخصه، وما ترى فيه من شدة تعلقه بها وولائه لها، فكان إذا بعد عنها، ورافق الجيوش في الجنوب لمقاتلة الأتراك، لا تهتف إلا باسمه، وإذا كان في بطرسبرج فلا تفارقه.
ومات بوتمكين وهو في جنوب روسيا، وحزنت عليه كاترين أشد الحزن، وبقيت لا تذكره إلا باللوعة والأسى، حتى ماتت بعده بخمس سنوات.
خمس نسوة وبرنارد شو
توفي برنارد شو وله من العمر ست وتسعون سنة. وهذا الامتداد المسرف في عمره يجيز لنا أن نعالج ناحية الحب في حياته كما لو كان قد مات ودفن قبل سبعين سنة؛ لأن القسم الأكبر من حياته قد أصبح جزءا من التاريخ.
وبرنارد شو هو فيلسوف هذا العصر، وسوف يخلد الكثير من مؤلفاته التي انتفع بها معاصروه. ولكن حياته نفسها هي خير مؤلفاته؛ فإنه اختط لنفسه خطة في هذه الدنيا، واتخذ أسلوبا للعيش، وانفرد بميزات أخلاقية جمعت حوله الكثيرين، وجعلته موضع إعجاب الآلاف الذين يتسقطون أخباره ونوادره.
وكان مديد القامة، أشهب، أشهل، ولحيته حمراء قبل المشيب، وقد اقتصر على الطعام النباتي ومشتقات اللبن مثل غاندي منذ ثلاث وستين سنة. وهو أيرلندي الأصل، احترف الأدب، وعاش في لندن معدما إلى الأربعين تقريبا، حين انفتحت له أبواب الحظ، فمثلت دراماته على المسرح الإنجليزي والمسارح الأوروبية والأمريكية.
Unknown page