قال الأغاني: لما أهدر أهل بثينة دم جميل، وأباحهم السلطان قتله، أعذروا إلى أهله، وكانت منازلهم متجاورة، فمشت مشيخة الحي إلى أبيه، وكان يلقب صباحا، وكان ذا مال وفضل وقدر من أهله، فشكوه إليه، وناشدوه الله والرحم، وسألوه كف ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع، ثم انصرفوا، فدعا به وقال له: يا بني، حتى متى أنت عمه في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بنات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم إليك فتغرك بخداعها، وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلا وغرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة. إن هذا لذل وضيم، ما أعرف أخيب سهما، وأضيع عمرا منك، فأنشدك الله ألا كففت وتأملت أمرك، فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض. فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، فهل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع عن قلبه هواه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع بما قضي عليه. والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني، لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي، والإلمام بهم، ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه. وقام وهو يبكي، فبكى أبوه ومن حضر.
ويروى أنه على الرغم من هذه الأخطار التي كانت تحول دون لقاء بثينة بجميل، فقد التقيا وودعها، وانصرف من وادي القرى إلى مصر حيث مات!
وجميل من الشعراء الذين يمتازون بصدق اللهجة والإحساس، فكان نسيبه يعبر عن عاطفة صادقة لا رياء فيها، وكثيرا ما يحس الإنسان آلامه وهو يشكو. ومن أجمل ما نظم حين صدت عنه بثينة قوله:
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها
وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتجهمت
ولليأس إذ لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلا قبل بينها
وأبخل بها مسئولة حين تسأل
وكيف ترجي وصلها بعد بعدها
Unknown page