88

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

لا يوجد إنسان طالح بمحض إرادته، ولكنه يصبح كذلك بسبب علة في جسده وسوء تعليمه ... حيث تعاني الروح من شر الجسد. وتتجمع الأحماض والسوائل اللزجة والأخلاط الأخرى في الجسم ولا تجد مخرجا أو مهربا إلا أن تكون مكبوتة داخله وأن تمتزج أبخرتها مع الروح التي تسري في الجسم ، هنا تنشأ كل أنواع الأمراض ... مسببة عددا لا حصر له من سوء الطباع والكآبة والتهور والجبن وكذلك النسيان والغباء.

تعد نظرية «الأخلاط شبه السائلة» هذه - كما نشرها أفلاطون - واحدة من العناصر العديدة في فكر طيمايوس التي حفرت نقشها في وعي العالم في وقت كان الحوار فيه هو مصدر التعلم الأساسي. إن التأثير واسع النطاق الذي أحدثته محاورة طيمايوس قد ضيق الخناق على سمعة أفلاطون حينما جاء الوقت الذي محيت فيه صورة العالم القديم والعصور الوسطى من أذهان الناس. فأيا كانت المعتقدات التي آمن بها الناس، فإن سببها هو أفلاطون. ولذا حينما يخطئ الناس، يتحمل أفلاطون الخطأ وحده. كتب جورج سارتون أحد مؤرخي العلوم المعاصرين قائلا: «إن تأثير طيمايوس كان عظيما وضارا في آن واحد» وإنه يظل إلى يومنا هذا - كان ذلك عام 1952م - «مصدرا للغموض والخرافة.» ويقصد هذا الكاتب من لفظ «الخرافة» علم التنجيم الذي اكتسب شعبيته بسبب أفلاطون؛ الأمر الذي يلومه عليه الكاتب كل اللوم. هناك بالتأكيد قدر كبير مما قد يعتبر هراء خياليا في محاورة طيمايوس، ولكن لا دهشة في ذلك لأنه كتب منذ حوالي 2400 سنة. إن محاورة طيمايوس حوار أدبي مكتوب معظمه بلغة الأساطير، ويمكن قبول العديد من التفسيرات له، كما أنه يحتوي على الكثير من الأفكار الثانوية المثيرة للجدل التي تتحرك بكثافة في فلك الموضوع الرئيس، والتي قد تشتت الانتباه عنه وتصل بفهم القارئ إلى طرق مسدودة، ومع ذلك يمكن رد العديد من أوجه القصور في محاورة طيمايوس إلى إصرار أفلاطون على إيجاد الهدف من الطبيعة ونظامها ووظيفتها. وقد جاءت في وقت لاحق نسخة أرسطو من هذا المشروع محسنة وخالية من الرموز الأسطورية إلى حد ما لتصحيح مسار كل ما هو خاطئ في مرحلة ما قبل العلم الحديث.

وهنا يبرز سؤال: ما كم المضار التي يعد الصانع الأكبر مسئولا عنها؟ الشيء الذي يمكن أن يقال في صالحه - أو بالأحرى في صالح مفهوم الطبيعة الذي يمثله - هو سعيه الدءوب نحو اكتشاف تفاصيل العالم الدقيقة والمترامية. وليس من محض الصدفة أن يكون أرسطو، الذي حاول إيجاد الغاية من وجود العالم الحي (على الرغم من كون هذه الغاية غير سماوية)، أكثر المحققين التجريبيين نجاحا في عصره. لقد أطلق عليه «داروين» لقب «أبو علم الأحياء» وقارنه بغيره من العلماء قائلا: «إن لينيوس وكوفييه بمثابة إلهين بالنسبة لي ... ولكنهما مجرد تلامذة مقارنة بأرسطو.» كما أنه من الصعب تصديق أن أرسطو كان ليتحمل عناء استكشاف أمعاء بعض الكائنات - مثلا - لو لم يعتقد أن هناك آليات معقدة وهادفة تقف خلف عملها. وعلى النقيض تماما نجد موقف الذين أصروا على أن الطبيعة تسير مندفعة دون بصيرة أو غاية. كثيرا ما هاجم لوكريتيوس (حوالي 99-55ق.م.) من يعتنقون آراء طيمايوس اعتقادا منهم أنه يجب فهم الظواهر الطبيعية من حيث هدفها وغايتها، حيث قال:

هناك خطأ في هذا الصدد نود لو تتفاداه ... لا تفترض أن نور العينين - أي البصر - مخلوق لإدراك ما يعرض أمامنا، أو أن نهايات الساقين والفخذين متصلة ببعضها البعض ومرتكزة على أساس القدمين حتى نستطيع أن نخطو بهما إلى الأمام فقط، أو أن الساعدين المثبتين بقوة في الذراعين واليدين المثبتتين في نهاية الساعدين مصنوعان لقضاء ما هو ضروري من حوائج الدنيا فقط. إن هذه التفسيرات وما يشابهها مبنية على أسس منطقية مغلوطة.

ربما يكون هذا التوقع لطرق التفكير الحديثة صحيحا من الناحية الفلسفية، ولكن الجدير بالذكر أن لوكريتيوس لم ير أي ضرورة لاستكشاف مزيد من الحقائق حول العينين والساقين والفخذين والساعدين. فإذا كنت مثل أرسطو تؤمن بما آمن به أفلاطون أن الطبيعة يجب أن تتجزأ إلى أجزاء صغيرة لمعرفة الغاية منها، فسيكون لديك الحافز الفلسفي لفحص هذه الأجزاء فحصا مفصلا بهدف الوصول إلى الغاية من وظائفها المعقدة. وإذا كنت مثل لوكريتيوس تبغي في المقام الأول دحض أية خرافات وأفكار لاهوتية؛ فليس هناك جدوى من تحمل مشقة طريق البحث؛ إذ إنك ستجد في نهايته مجموعة هائلة من الظواهر الفلسفية المعقدة التي لا يمكن تفسيرها. وفي الوقت الذي لم تكن فيه النظريات الجدية التي تشرح عمليات الطبيعة المعقدة (مثل نظرية داروين) قائمة، وجدت فرضية «الصانع الأكبر» سواء أتخذت على نحو حرفي أو مجازي أرضا خصبة لتشجيع البحث العلمي.

ظل الوضع على هو عليه - إلى حد ما - خلال العصور المسيحية؛ حيث كانت البحوث التجريبية تعمل على إثبات - ومن ثم تمجيد - ما جاءت به الكتب السماوية. فعلى سبيل المثال، ساهم اكتشاف ويليام هارفي للدورة الدموية في القرن السابع عشر في تأكيد فرضية التصميم الإلهي الذكي لجسم الإنسان. كما ذكر روبرت بويل الكيميائي العظيم أنه سأل هارفي عما دفعه لتقديم هذه الفكرة الاستثنائية:

أجابني أنه عندما لاحظ أن الصمامات الوريدية ... في معظم أجزاء الجسم صممت خصوصا لتسمح بحرية مرور الدم نحو القلب وتمنع تدفقه في الاتجاه العكسي، كان هذا بمنزلة دعوة ليتصور أن الطبيعة لم توجد هذا الكم من الصمامات دونما قصد أو غاية، ولم تكن هناك غاية أنسب من «الدورة الدموية».

صدق حدس هارفي؛ فقد نجحت فكرة الصانع الأكبر وتصميماته العقلانية وكانت لها استخداماتها، حتى لو لم يكن لهذا الصانع وجود.

كما ألهمت محاورة «طيمايوس» بعض الفيزيائيين في القرن العشرين، ليس فيما يتعلق بفكرة التصميم أو الغاية وحسب، بل في جعلها الرياضيات في مركز الكون. قال فيرنر هايزنبرج (1901-1976م) إن نظرية الجسيمات الهندسية التي وضعها طيمايوس لعبت دورا مهما في تطويره لأفكار نظرية الكم، كما أنه لم يكن وحده الذي وقع على أوجه تشابه بين نظرية أفلاطون للحساب الرياضي للمادة ونظرية ميكانيكا الكم الحالية. كما أضاف السير كارل بوبر (1902-1994م) أن أعظم إنجازات أفلاطون الفلسفية تتمثل في النظرية الهندسية للعالم التي يعتبرها القاعدة العامة التي قامت عليها أعمال كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر ونيوتن وماكسويل وأينشتاين. ربما نكون قد أطلنا البحث في هذا الصدد؛ ذلك لأن العديد قد أوجزوا البحث فيه أكثر مما ينبغي. لقد اعتمد كثيرون على بعض الحكم التقليدية المتوارثة عن أفلاطون - التي تبدو غير مبنية على قراءة أعماله - في دفعهم بأن أفلاطون رفض قضية المعرفة العلمية للكون باعتبارها قضية ثانوية قياسا بمعرفة الأشكال الثابتة. اعتقد أفلاطون أن الأشكال هي أهم النظريات على الإطلاق - بوصفها مركز كونه العقلي - تماما مثلما رأى نيوتن ذو الصبغة الدينية لاحقا أن الرب هو الأهم في نظرته للكون. ومع ذلك لم يرد أن أحدهما قد أهمل قضية العلم. وتؤكد محاورة «طيمايوس» على أن «الإنسان يمكنه أحيانا أن يضع تأملاته حول الأشياء الخالدة جانبا وأن يحاول الإبداع من خلال النظر في الحقائق القائمة في عصره ... عندئذ سيجد متعة لن يندم عليها ... وتسلية هادئة تتخللها الحكمة.» كما أن أفلاطون كان سيجد في نفسه حرجا من كتابة «طيمايوس» إذا لم يكن قد اتفق بينه وبين نفسه سابقا حول آرائه فيها. •••

وبتسليط الضوء على ما يبدو أنها الاستنتاجات الرئيسة التي خرج بها أفلاطون من أهم محاوراته (الجمهورية وطيمايوس)، يمكننا أن نتعرف على القناعات الأكثر عمقا التي كانت لدى أفلاطون. ولكننا في الوقت ذاته قد نرتكب خطأ طمس الجزء السقراطي في شخصية أفلاطون التي طالما جعلت له مكانة خاصة دون بقية المفكرين. فعلى طريقة معلمه سقراط، اعتقد أفلاطون أن الحقائق تظهر من خلال التحاور فقط؛ فالظاهر أمامنا أن كل أعماله كانت في صورة محاورات فيما عدا عملين اثنين - من بينهما محاورة «طيمايوس» - جاءا في صورة مناقشات استكشافية في الأساس. كما عمل أفلاطون عند اتباعه للنهج السقراطي على ألا يحط من شأن القانون وألا يكون دوجمائيا.

Unknown page