Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
إن كل الحوادث الدنيوية تكمن في التفاعل بين العناصر الأربعة، وكل المواد في العالم تتركب منها كما قال إمبيدوكليس. وعلى المستوى الأدنى اقتبس أفلاطون بعضا مما عند أصحاب المذهب الذري ورصد خصائص كل عنصر ومادة في ضوء أشكال الجسيمات المكونة لها. لذلك فالنار مؤلمة عند اللمس بسبب الرءوس الحادة في رباعي الأسطح المنتظم المكون لها. ولكن جسيمات أفلاطون أقرب إلى الرياضيات من ذرات ديموقريطس؛ لأن الأخيرة جاءت في صورة مجموعة من الأشكال غير المنتظمة على عكس أشكال أفلاطون الخمسة المنتظمة. ويوجد اختلاف آخر يكمن في أن جسيمات أفلاطون ليست أولية وغير قابلة للانقسام؛ فهي بدورها تتكون من مثلثات، حيث تعزى التغيرات في العناصر إلى إعادة الدمج بين هذه القطع الفيثاغورية. ويبدو أن المثلثات ذاتها يمكن بدورها أن تتحلل إلى أرقام على طريقة فيثاغورس.
إن هذا الخيال الرياضي الغريب يبين الاختلاف الجوهري بين فكرة ديموقريطس وفكرة أفلاطون، على الأقل فيما يخص بنية المادة. فالوحدات البنائية في نظام أفلاطون لا توظف بالمعنى الحرفي لها على الإطلاق؛ فهي ليست مجسمات ولكنها أشكال رياضية مثالية. وهذا يعكس أن وظيفة الرب عند أفلاطون ليست خلق مادة جديدة من العدم - فلا يمكن لصانع أن يفعل ذلك - بل وظيفته تطبيق المثال وتنفيذه بشكل عقلاني مناسب. فهو يستخدم مواد أولية بلا شكل (وغير واضحة المعالم) ويكسبها شكلا رياضيا بطريقة ما لتصبح أشياء معقدة ومنتظمة. فالمثلثات والأجسام المنتظمة التي تحدث عنها طيمايوس ليست مواد البناء التي يستخدمها الرب ولكنها النماذج التي تتصورها خططه المعمارية.
إن عمل الرب من هذا المنظور عسير للغاية، وحتى بعد خلقه للعناصر، فهو لا يقدر على الخلط بينها حسب إرادته؛ فهو ليس مطلق القدرة، وعليه أن يواجه قوانين الطبيعة الثابتة والخصائص الجوهرية للأشياء. فيمكنه مثلا أن يخلق الهواء ولكنه لا يقدر على جعله يذيب التراب. يصف طيمايوس الرب - مجسدا للمنطق في الحوادث - بأن عليه ترويض القوى الطبيعية والقوانين الثابتة، والموازنة بينها. ويشار إلى هذا الجزء المتمرد من الطبيعة «بالضرورة» (أو أنانكي) وهي الكلمة التي استخدمها ديموقريطس ليعني الحتمية الآلية للأسباب الطبيعية التي تعمل بلا هدف. لقد أقر طيمايوس بوجود هذه الأسباب ولكنه اعتقد أن هذا ليس كل شيء: «فالعقل - أي القوة الحاكمة - يروض الضرورة ليصل الجزء الأكبر من المخلوقات إلى حد الكمال، وهكذا فقد خلق هذا العالم عن طريق إخضاع الضرورة لسيطرة العقل.» ونتيجة لنجاح العقل في ترويض الضرورة، فهي تستجيب - حينما تكون المرونة ممكنة - وتعمل بشكل يحقق النفع.
إن الصانع الأكبر ليس الكائن المقدس الوحيد في الكون، فالأجرام السماوية تعد مقدسة لأنها قائمة بذاتها لا تموت. وهناك أيضا الآلهة المساعدة التي خلقها هذا الصانع ويطلق عليها طيمايوس - بغير جدية وبنوع من الشك - أسماء زيوس وكرونوس وهيرا وغيرها. وتنحسر وظيفتهم في أخذ بعض الجرعات المخففة من «روح العالم» (التي بثها الصانع الأكبر ليمكن الأجرام السماوية من الحركة وصبغ العالم بالمنطق) وخلق الناس منها، وذلك عن طريق مزج الجوهر السماوي بالأجسام المادية التي يشكلونها وفقا لمواصفات الصانع الأكبر. ويخبر الصانع الأكبر وزراءه من الآلهة أنه يفضل ألا يقوم بمهمة الخلق بنفسه:
إن خلقتهم وأعطيتهم الحياة بيدي فسيكونون على قدم المساواة مع الآلهة. ولكن كي يكون مصيرهم الفناء عليكم أن تتحولوا - كل حسب طبيعته - إلى هيئة الحيوانات وأن تحاكوا قدرتي التي ظهرت في خلقي لكم. أما الجزء الذي يستحق الخلود والقدسية - ويكون بمثابة مرشد لهؤلاء الراغبين في اتباع العدالة واتباعكم - فسوف أغرسه بنفسي، وبعد أن أبدأ خلق ذلك الجزء المخلد، سأكلفكم باستكماله. عندئذ عليكم أن تمزجوا الخالد مع الفاني كي تقوموا بخلق الكائنات الحية ورزقها وإنشائها ثم قبضها إليكم بعد الموت.
في هذه الحالة يكون هناك ثلاثة «أنواع» لهذه الكائنات الحية: الرجال والنساء والحيوانات. ويدور كل نوع في عجلة التناسخ. ويكون الجيل الأول كله من الرجال، وهؤلاء الذين يعيشون حياة تشوبها الضعة الروحية مقارنة بأقرانهم يعودون ليصبحوا نساء أو طيورا أو وحوشا أو أسماكا (في أسوأ الأحوال). وبهذا يحظى الجانب ذا الصبغة الرياضية الأقل من التقليد الفيثاغوري بدور هو الآخر.
ولكل دورة في عجلة التناسخ سببها، فهؤلاء الذين كانوا رجالا في الجيل الأول «وكانوا جبناء أو عاشوا حياة فاسدة، من المنطقي افتراض أنهم قد تحولوا إلى طبيعة المرأة في الجيل الثاني.» هكذا يفسر التناسخ «الحقيقة» المفترضة أن النساء أقل شجاعة واستقامة من الرجال. وهناك تفسير مشابه لوجود الطيور، حيث «خلقت من أصل رجال سذج تخيلوا ببساطتهم - رغم أرواحهم الوثابة - أن أقوى الدلائل نتوصل إليها بحاسة البصر؛ حتى نما لهم ريش.» وبعبارة أخرى، فالطيور كانوا أناسا لم يتفهموا الإدراك المنطقي واعتقدوا أن أفضل طريقة لفهم الأشياء هي الصعود للنظر إليها. لذا فقد أرسل هؤلاء للتحليق في الفضاء بحيث يقتربون ماديا من العالم الخالد ولكنهم في حقيقة الأمر بعيدون تماما عن فهمه. أما الحيوانات فظهرت لأن هناك بعض الناس كانوا أبعد ما يكونون عن المعرفة، لدرجة أنهم «لم يفكروا إطلاقا في طبيعة السموات» و«نتيجة لهذا أصبحت أطرافهم الأمامية ورءوسهم مرتكزة على الأرض حيث تجذبهم إليها ميولهم الطبيعية.» وبالنسبة للأسماك يقول طيمايوس:
لقد خلقت من الناس الأكثر حمقا وجهلا الذين رأى المحولون (الآلهة المساعدون) أنهم لا يستحقون تنفس الهواء النقي لأن لديهم أرواحا لوثتها جميع الآثام، فبدلا من إعطائهم بيئة الهواء النقية، خلقوا لهم البحر العميق الموحل ... وهكذا نشأت الأسماك والمحار والحيوانات البحرية الأخرى التي تعيش في أبعد الأماكن عقابا على جهلهم وحمقهم.
تأتي ملاحظات علم الحيوان الأخلاقية هذه في نهاية المحاورة عندما يفرغ طيمايوس من حديثه (يلاحظ أن ما قاله عن المرأة لا يتماشى مع المساواة التي منحتها إياها المناقشات الأكثر جدية الواردة في الجمهورية). ويسبق هذه القصة الخيالية تفسير أكثر تفصيلا لنفسية الإنسان ووظائف الأعضاء لديه حيث استعرض أفلاطون آخر اكتشافات مدارس الطب في عصره وأشهر الملاحظات والاستنتاجات التي توصلت إليها، مضيفا إليها نظرته العقلانية للأشياء. يوضح أفلاطون أوجه الاستفادة من كل عضو في جسم الإنسان. فعلى سبيل المثال، يقول طيمايوس في معرض تناوله للعظام والنخاع والأوتار واللحم: «إن ثم غطاء رقيقا من اللحم يغطي جسم الإنسان. فقد اقتضى العقل ذلك حتى لا يعيق حركة الجسم وانثناءه.» أيضا من بين ما تناوله طيمايوس بالذكر تفاصيل حركة الأمعاء وما تحدثه أعضاؤها ووظائفها من تناغم بين التفكير والانفعالات والشهية. فالأمعاء الدقيقة تعمل على الاحتفاظ بالطعام لمدة معقولة من الزمن حتى لا يأكل الإنسان على الدوام دون انقطاع؛ «فالشراهة توقع العداوة بينه وبين الفلسفة والحضارة.»
على خطى نظيره ديموقريطس، يشرح أفلاطون الأحاسيس الإنسانية في ضوء المذهب الذري. فعلى سبيل المثال، يأتي الشعور بالبرد نتيجة لمحاولة العديد من جسيمات الرطوبة المحلقة في الهواء الوصول إلى جسيمات الرطوبة داخل جسم الإنسان مسببة بذلك الإحساس بالرعشة. وكما هو الحال في جميع الروايات المماثلة التي سردها أسلاف أفلاطون، تتشكل العلاقة الكاملة بين الظواهر النفسية والجسدية في صورة مفهوم مادي بدائي يتناول الروح والعقل؛ فالروح هي مادة معينة تتحرك في فلك الجسم. صحيح أن الروح غير مرئية وأنها أنقى من الجسم كله، ولكنها تتمتع ببعض الخصائص المادية التي تدل عليها مثل «خروج البخار». وهنا يشار إلى العيوب الأخلاقية والأحاسيس غير السارة في ضوء المبدأ المادي (وبطريقة تهدف إلى إيجاد بعض الحقائق في نظرية سقراط غير القابلة للتصديق التي تشير إلى أنه لا يوجد إنسان يفعل الخطأ عن عمد):
Unknown page