Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
ولكن الإنسان الذي يحكمه العقل يحصل على وجبة أكثر إشباعا؛ لأن رغبته في المعرفة تأخذه إلى مجال أهم وأقيم . وبالعودة إلى مثال الكهف، فقد وجد هذا الإنسان طريقه إلى النور حتى رأى حقيقة الأشياء؛ لذا فهو يعرف حق المعرفة ما يعود عليه بالنفع، فالإنسان ليس كالبهائم، حيث إن لديه جانبا أسمى يحقق الفضيلة التي تجلب بدورها السعادة الدائمة.
بعد ذلك يقوم أفلاطون بإدخال سقراط في رحلة خيالية مع الرياضيات يسعى فيها بغرابة إلى إثبات أن الملك الفيلسوف أسعد من الطاغية بسبعمائة وتسع وعشرين مرة. ويفضل عدم التعرض بكثير من القول لهذه الفرضية (حيث إن الحساب الرياضي في حد ذاته غير دقيق، فمن المفترض أن تكون نتيجة تلك الحسابات الرياضية هي أن الملك الفيلسوف يفوق في سعادته الطاغية باثنتي عشرة مرة ونصف). وتختتم «الجمهورية» بهبوط في وتيرة الأحداث يتمثل في مناقشة لمصير الروح البشرية، علاوة على التحول إلى موقف عدائي غريب تجاه بعض أنواع الشعر. وعند هذه المرحلة يكون الجزء المهم في «الجمهورية» قد انتهى. •••
إن ما يمكن أن نستفيده من قراءة «الجمهورية» هو اكتشاف المدينة الاستثنائية وملوكها الفلاسفة المثاليين. ويستخدم أفلاطون هاتين النقطتين وسيلة لنقل فكرته. ويقول بعض نقاد القرن العشرين - الذين كتبوا في ضوء ما عاصروه من فاشية هتلر وشيوعية ستالين - إن دولة أفلاطون تتسم بالشمولية البغيضة؛ فهي الأولى من نوعها الفاسد.
ولكن أفلاطون يستحق تقييما أفضل من ذلك. أولا يجب الأخذ في الاعتبار أن هدفه الأساسي لم يكن وضع تصور لدولة على الإطلاق، بل كان توظيفا للمقارنة بين المدينة والروح من أجل تكوين صورة متكاملة عن العلاقة بين العدالة والسعادة. فتحليله للطغيان على سبيل المثال كان بهدف إلقاء الضوء على نفسية الإنسان الفاسد، كما أن الملوك الفلاسفة هم نماذج مثالية تناقض نفسية الطاغية تماما. إن الدرس الحاضر دائما في أطروحته هو أن العدالة والسعادة في أفضل صورهما موجودتان معا في مملكة العقل، أما ما دون ذلك في الكتاب فهو ذو قيمة هامشية بشكل أو بآخر. ومع اقتراب الكتاب من خاتمته، يعلن سقراط صراحة أن أفضل حال هو أن يخضع الجميع لحكم العقل «النابع من النفس لا المفروض من قبل الغير.» وبعبارة أخرى، فالنظام المدني للمدينة الفاضلة بحكامها المنضبطين المدربين بعناية هو في الواقع ثاني أفضل خيار، وهو ينفذ فقط حال فشل الناس في السيطرة على نفوسهم بشكل سليم. ومن المهم التأكيد على أن «المدينة الفاضلة» الواردة في «الجمهورية» ليست بالنموذج المثالي لأفلاطون على الإطلاق. فهو يقول إن ما يحث عليه في الواقع لا يزيد عما يمكن أن ينتهجه أب حكيم في تربية أبنائه:
إننا لا نمنح الحرية للأطفال إلا بعد زرع قيم فيهم - تماما مثل وضع الدستور في مدينة ما - عن طريق ربط أفضل ما فيهم بأفضل ما فينا حتى نمدهم بحارس وحاكم بداخلهم ليحل محلنا، وعندها فقط نمنحهم الحرية.
في ضوء مبادئه، فإن من المفترض أن يشعر أفلاطون - لو كان بيننا اليوم - بالرضا الكامل عن الترتيبات الدستورية للديمقراطية الحديثة - أي تحرير الشعب - بشرط أن تكون تلك الترتيبات قادرة على تحقيق العدالة والسعادة.
ومن الواضح أن موقف أفلاطون من الديمقراطية في عصره يختلف عن الموقف التاريخي الأصلي لسقراط. ورغم أن سقراط لم يتكبد عناء تقييم أنواع الدساتير المختلفة بشكل صريح؛ فقد علمنا أنه كان مخلصا لديمقراطية أثينا، بينما رأى أفلاطون من خلال شخصية سقراط - التي تعد لسان حاله - في تلك الديمقراطية مجرد فوضى غير هادفة وبذور لطغيان في غاية السوء. وبالنسبة للفكر المعاصر فقد أخطأ أفلاطون في تصوره للحرية الدستورية. فحتى إن لم يكن أفلاطون يدافع عن أي نظام سياسي محدد، وحتى إن كانت المدينة التي يتحدث عنها ثاني أفضل خيار بالنسبة إليه وحسب، فمن الواضح أنه لم يقدر مخاطر منح إحدى النخب ذلك القدر الكبير من السلطات. كما يبدو أنه لم يقدر فكرة أن الناس قد يرغبون في البحث عن السعادة بأنفسهم بدلا من توجيههم إليها من خلال «حراس» يرعونهم، شأنهم في ذلك شأن البالغين الذين لا يرضون بأن يعاملوا كأطفال. باختصار، يبدو أن أفلاطون لم ينتبه إلى قيم الاختلاف والفردية التي تثمنها النظم الديمقراطية الغربية المعاصرة.
ولا يقف الأمر بأفلاطون عند تجاهل هذه التعددية بل يهدف تناوله للديمقراطية إلى الحكم عليها بشكل مباشر من خلال تصويرها على أنها بلا نظام أو تمييز، وأنها مرضية من الناحية الشكلية فقط. فإذا تركت الحرية للناس كي يسعوا خلف أي هدف تصادف اختيارهم له فسينتهي بهم الأمر عبيدا لكل نزوة عابرة. وبغض النظر عن كونهم متحكمين في مصائرهم من عدمه، فسوف يقعون - حسب اعتقاده - تحت رحمة جميع أنواع التأثيرات غير الملائمة والأيديولوجيات المضللة. وبالنسبة للحراس الذين يتحدث عنهم، يذكر أفلاطون منتقديه أن تدريبهم سيجعلهم «خبراء محنكين في الحرية المدنية». لذا فلا داعي للقلق من احتمال إساءة استخدامهم النفوذ. كما يرد على الاتهام بأنه لا يوجد أناس على قدر كاف من الحكمة والثقة للقيام بهذا الدور قائلا إنه يعلم ذلك جيدا وإنه قد أوضح بالفعل أن هذه الطبقة الأرستقراطية الحكيمة هي عرضة للانهيار عاجلا أو آجلا. ومن خلال لفت انتباهنا إلى أنها مجرد نظريات عن بعض المثل يستطيع أفلاطون أن يفلت من بعض الاتهامات العملية الموجهة إليه، على الأقل إلى حين.
ولكن المثل ذاتها محل شك. فعندما يعلن أفلاطون أن «الوحدة هي أعظم نعمة تنعم بها الدولة»، يصبح من الصعب التغاضي عن الدفع بأنه قد بالغ في إبراز الجانب الجيد وضحى بالتعددية في مقابل النظام. وكما يقول أرسطو: «سيصل الأمر إلى مدى تنشأ عنده نتيجة لذلك التوحد خلف شخص بعينه دولة أسوأ بكثير؛ فالأمر يشبه اختزال التناغم في التوحد، واختزال الإيقاع في وحدة إيقاعية واحدة.» فالاعتماد على الملوك الفلاسفة لضبط الإيقاع العام - مهما بلغت درجة إتقانهم - قد يشكل خطرا على المدينة. وكما يوضح أرسطو، فإنه حتى وإن كان الملوك الفلاسفة أكثر حكمة من الجماهير، فقد يصبح الشعب «عند توافقه خيرا من القلة الصالحة إذا نظرنا للأمر في مجمله وليس على المستوى الفردي، تماما مثلما أن الوليمة التي يشترك فيها عدة أشخاص خير من العشاء الذي يقدمه فرد واحد.» وقد يقع المواطنون في كبوة (رغم اتحاد خطاهم) كان من الممكن تفاديها إن أخذت مشورتهم بعين الاعتبار بين الحين والآخر. ألا يمكن أن يكون اختلاف رؤية الملوك الفلاسفة - بوصفهم مصممين للمدينة - عن رؤية أهلها هو عين المشكلة؟ يوضح أرسطو أن «هناك بعض الفنون التي لا يمكن الحكم على منتجاتها بشكل فردي أو من قبل الفنانين أنفسهم ... فساكن البيت يحكم عليه بشكل أفضل من بانيه.» وربما يكون فن السياسة من ضمن هذه الفنون.
قد يرد أفلاطون مرة أخرى بالدفع بأننا نتصور أن الملوك الفلاسفة المفترضين قد وصلوا إلى حد المثالية في حكمتهم وصلاحهم؛ لذا ينتفي النقد الموجه إليهم. ولكن هل الخير المطلق والحكمة الكاملة مفهومان حقيقيان؟ يرجع جزء من المشكلة إلى تصور أفلاطون وجود نموذج «للخير» وإلى استخدامه مثالي الشمس والكهف، بما يوحي بأن هذا النموذج يتيح في النهاية للملك الفيلسوف أن يرى الحقيقة واضحة كضوء النهار. ربما يكون تشبيه الخير بالشمس في غير محله، وربما يكون من غير الممكن إدراك الخير بمجرد اتخاذ الموقع الصحيح منه. ماذا إذا لم تكن هناك حقيقة واحدة شاملة بشأن ما هو أفضل للإنسان؟ وحتى إن كانت موجودة، كيف لنا أن نتأكد من وصول أي شخص أو شريحة من الناس إليها؟ إن أي شكوك حول هذه التساؤلات سيؤدي من ثم إلى تشكيك في إمكانية اعتبار مدينة أفلاطون ثاني أفضل خيار. فهي تعطي الكثير من السلطات إلى قلة من الناس الذين قد لا يتمكنون من إدراك الأفضل بالشكل الذي يظنه أفلاطون. ربما توجد الحكمة ولكن لا توجد حكمة مطلقة، وربما يوجد الخير ولكن لا يوجد «نموذج محدد للخير».
Unknown page