57

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

والواقع أن معظم الناس لا يتخذون موقفا نسبيا تماما في الخلافات حول العدالة والقيم الأخلاقية فضلا عن مواضيع أخرى يفترض أن تنطبق النسبية عليها، وإن التزموا بالنسبية فلن يكون هناك خلافات حقيقية. وتعتبر هذه الحقيقة ذاتها مشكلة في النسبية كما سيبين سقراط؛ فهو يوضح أن العديد من الناس بمن فيهم هو نفسه لا يتفقون على أن كل إنسان أو مجتمع هو مقياس كل شيء. ويرى كثير من الناس أن هناك بالفعل حقائق صحيحة بالنسبة لكل شخص، وطبقا للنسبية ذاتها يعتبر اعتقادهم صحيحا لأن النسبية تقول إن أحدا لا يخطئ فيما يؤمن به (ربما باستثناء المعتقدات المتعلقة بما هو نافع). وبناء عليه فإن النسبية لا تكون في أحسن الأحوال صحيحة إلا لمن يؤمن بها، فهي ربما تكون صحيحة بالنسبة لبروتاجوراس ولكن ليس بالنسبة لسقراط، ولكن لا يمكن لبروتاجوراس أن يقول إن سقراط أخطأ برفضها. وإذا كان رأي الأغلبية هو معيار الحقيقة؛ فعلى بروتاجوراس نفسه أن يقر بخطأ عقيدته لأن معظم الناس يختلفون معها. وبمساعدة سقراط وضع بروتاجوراس نفسه في موقف لا يحسد عليه.

ومع ذلك يجب ألا ننسى أن هذا محض خيال؛ فبروتاجوراس الحقيقي قد مات قبل كتابة محاورة أفلاطون «ثياتيتوس» بوقت طويل، ولا أحد يمكنه التأكد من كيفية رده على هذه الانتقادات، فضلا عن أننا نتناول حركة فكرية كانت نشطة في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تخمد أو تختفي فقط لأن شخصا آخر كان يستطيع القضاء عليها بالوسائل المنطقية، فربما كان بروتاجوراس - في مواجهة حجج سقراط الداحضة - سيجد غايته في لغز جورجياس. ألم يبين هذا - بقدر معرفة الناس آنذاك - أن الفيلسوف البارع يمكنه دحض أي شيء إن أراد ذلك؟ فمن الأفضل تجاهل هذه الحجج الداحضة إذن ومتابعة الطريق.

كانت فكرة بروتاجوراس القائلة إن الإنسان هو مقياس كل شيء - إضافة إلى كل أفكار البرجماتيين والنسبيين المستمدة من السفسطائيين - استجابة عملية لمشكلات عملية. لقد زاد إدراك الإغريق لتنوع المعتقدات والعادات الأخلاقية، وهو أمر كان السفسطائيون معتادين عليه نتيجة الترحال المستمر. وقد نتج عن هذا التنوع الأخلاقي مشكلة المظاهر المتناقضة كالتي تحدث عنها ديموقريطس وبروتاجوراس والمتعلقة بالحس والإدراك، فكما قد يجد شخص ما الرياح باردة بشكل غير مستحب ويجدها الآخر منعشة، قد يرى الإغريقي أن فكرة إحراق الموتى فكرة نبيلة بينما يراها بعض الأجانب فكرة بغيضة من الناحية الأخلاقية. ويذكر المؤرخ هيرودوت بعد أن لاحظ هذا التضارب في الأخلاق أنه «إن سأل أحدهم الناس جميعا عن أفضل العادات من بين المتاح للجميع، لاختارت كل أمة - بعد التفكير - عاداتها؛ لأن الجميع على اقتناع تام أن عاداته هي الأفضل على الإطلاق.» وأضف إلى هذا أنه ما من شيء أكثر حكمة وعقلانية من القول أن لا أمة في الحقيقة تمتلك «التقاليد الأفضل على الإطلاق» ولكن المعقول أن «تقاليد كل أمة هي الأفضل بالنسبة لها.»

وقد أثار هذا الأمر تساؤلا مهما بحث فيه السفسطائيون، فكيف يمكن أن تتباين القيم الأخلاقية والسياسية في المقام الأول؟ وقد أجاب السفسطائيون بالاستشهاد ببعض الاختلاف بين الطبيعة والتقاليد البشرية؛ فالتقاليد والممارسات والمعتقدات الأخلاقية البشرية لم تملها الطبيعة (ولا الآلهة التي تعد جزءا من الطبيعة) بل تطورت بشكل مستقل تبعا للظروف وما كان مناسبا لكل مجتمع. وهكذا قدم السفسطائيون تفسيرا لنشأة المجتمع كذلك الذي قدمه ديموقريطس، والذي يقول إن الأنظمة القانونية والأخلاقية ظهرت للحفاظ على الحضارة. وقد قبل أفراد المجتمع قواعد هذه الأنظمة بوصفها عقدا اجتماعيا ملزما، ويعود بالنفع على الجميع، وهي من النوع الذي تحدث عنه لوك وروسو فيما بعد في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكما قال أنيفتون - أحد كبار السفسطائيين: «إن القوانين البشرية عرضية ولكن قوانين الطبيعة حتمية، وقد وضعت القوانين البشرية بالاتفاق وليس عن طريق الطبيعة.»

ويرى السفسطائيون أن القوانين البشرية المقبولة طوعا تختلف اختلافا كليا عن قوانين الطبيعة الحتمية، إلا أن جل هذه القوانين تختلف في الواقع عن بعضها. وأحيانا ما تتعارض متطلبات الطبيعة مع القوانين البشرية. وقد شط أنتيفون بخياله بعيدا عندما قال: «معظم الأشياء العادلة من الناحية القانونية معادية للطبيعة.» كما قال أيضا إنه إذا اتبع الإنسان ما تمليه الطبيعة عليه فسيفعل ما يمكنه من النجاح وما فيه أكبر قدر من النفع. وإذا كان الإنسان سيفلت بفعلته فهذا شيء يرغب الفرد فيه ومن ثم ترغب فيه الطبيعة، إلا أن القانون يسعى غالبا إلى تقييد المصلحة الشخصية في سبيل مصلحة المجتمع ككل. وبهذه الطريقة أو بطريقة أخرى «تسبب التقاليد - التي تعتبر الطاغية البشري - الضرر للطبيعة» كما يقول هيبياس السفسطائي في إحدى محاورات أفلاطون.

ويوضح أنتيفون أنه حتى إذا كان الإنسان فاضلا ولا يجور على حق غيره؛ فإن الالتزام بالقوانين قد يضر بمصلحته الشخصية. فمثلا إذا ظلم رجل رجلا آخر يلجأ المظلوم إلى القانون بدلا من الانتقام ومعالجة الأمر بطريقة غير قانونية، وقد لا يعاقب المخطئ أبدا، وحتى لو عوقب فسيحدث ما يلي:

إذا أحيلت الواقعة للمحاكمة فلن يكون للمجني عليه أية أفضلية على الجاني؛ إذ عليه أن يقنع القضاة بدفوعاته أنه تضرر حتى يقتص لنفسه. وقد ينكر الجاني هذا الاتهام لأنه يمكنه الدفاع عن نفسه، ولديه الفرصة نفسها في أن يقنع القضاة أن المجني عليه هو من ارتكب المخالفة؛ وبذلك لا يكون النصر حليفا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل.

وهذه الجملة الأخيرة هي لب فلسفة السفسطائيين؛ ففكرة أن «النصر لا يكون حليفا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل» ليست بالضرورة دعوة سوداوية أو فاسدة للغش في النزاعات كما اعتقد أفلاطون وغيره من أعداء السفسطائية، بل يمكن اعتبارها إعلانا لحقيقة الأمور في المحاكم. وبما أن النصر يذهب فعلا إلى من يقدر على الإقناع (أو يوظف غيره لذلك)؛ فإن مهارات السفسطائيين يمكن أن تكون قوة في سبيل الخير والعدالة والحقيقة، وعندما تستخدم هذه القوة بشكل مسئول يمكن أن تعالج العيوب الموجودة في أي نظام قانوني. ومهما كانت رؤيتنا لفكرة السفسطائيين أن حسن الخلق محض تقليد إنساني، فلا يمكن إنكار أن إجراءات العدالة كما تطبق فعليا في أي مجتمع لا تصل إلى الكمال.

ويستطيع السفسطائي أن يوظف مهاراته ليدافع عن بريء أو يحاكم المذنب والعكس صحيح، كما يمكنه أيضا أن يساعد المجتمع على تحسين مفاهيمه بتنقيتها ونقدها. ولا ريب أن بعض السفسطائيين استخدموا قدراتهم بما ينافي الأخلاق، ولكن المبالغ الضئيلة التي حصلوا عليها ما كانت لتحتكر لهم الشر؛ فقد تخصصوا في الجدل الأخلاقي والسياسي إن لم يحتكروه، ويحسب لهم أنهم لم يستمتعوا بالفوز بالقضايا وتعليم الآخرين كيفية الفوز بها فحسب، بل تكلموا عن الأسس الأخلاقية كذلك.

وغالبا ما كانت أفكارهم هدامة؛ فقد خلفت الأسئلة التي طرحوها حول التعارض بين الطبيعة والتقاليد أفكارا سيئة وصادمة. فهل العدالة موجودة لحماية الضعفاء فحسب؟ وهل للقوي أن يتجاهلها إن استطاع؟ وهذا السؤال دائما ما طرحه أفلاطون. وإذا ظن بعض المحافظين من أهل أثينا أن السفسطائيين قد أخرجوا الثعابين من جحورها فقد أصابوا، ولكن إخراجها كان حتميا، فإذا لم تطرح السؤال على الأقل فلن تصل إلى الجواب. وقد أخذ أفلاطون بعد ذلك على عاتقه بناء الأخلاق على ما اعتقد أنه أساس متين؛ وذلك عن طريق السعي إلى المواءمة بين أفكار الطبيعة والتقاليد كما سنرى. وربما ما كان أفلاطون ليتحمل عناء القيام بذلك إن لم يزعجه السفسطائيون، كما أقر أفلاطون كذلك بأن أفضل السفسطائيين لم ينشروا الأفكار الهدامة بقدر ما أثاروا مخاوف كانت موجودة بالفعل لدى الناس بخصوص النظرية التقليدية للأخلاق. لقد كان واضحا في أعمال هسيود - التي كانت لب العملية التعليمية بجانب أعمال هوميروس - أنه في الوقت الذي كانت النظرية التقليدية للأخلاق ترتكز على طاعة الرغبات المفترضة للآلهة، اعتمدت هذه النظرية في الحقيقة على نوع من المصلحة الشخصية؛ فالمخطئون سيعذبون لأن زيوس يضمن عقابهم، ولكن إن لم يتمكن زيوس من فرض الأخلاق بتلك الطريقة وعاش المخطئون من ثم في نعيم؛ فلا فائدة ترجى من التحلي بالفضيلة. وكما يقول هسيود:

Unknown page