Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
وحتى لو لم يكن هؤلاء بالسوء نفسه الذي يتسم به السفسطائيون في «مصنع المنطق» الذي ابتدعه أرسطوفان، فمن المحتم أنه كان هناك بعض الشخصيات السيئة بين السفسطائيين الحقيقيين. وحتى أجل المعلمين لا يمكن أن يسأل عن أفعال تلاميذه؛ فقد أصبح أحد الشباب الذين سعوا إلى مرافقة سقراط على الأقل طاغية وسفاحا بعد ذلك. وعبثا قال سقراط: «لم أشجع أبدا أي عمل مناف للعدالة يصدر من أي شخص بما في ذلك من يعتبرهم بعض الناس تلاميذي بدافع من الحسد.» وفي ظل عدم سيطرة السفسطائيين على زملائهم أو أتباعهم كان عملهم خطيرا وقد يؤثر على سمعتهم. وقد كان أفلاطون مدركا لتلك المشكلات فقال:
عندما يبدأ الشباب في اكتساب حس المجادلة يسيئون استخدامه وكأنه نوع من الرياضة، ويستخدمونه باستمرار من أجل الجدل. وعندما يتغلبون على الآخرين ويغلبهم الآخرون فسرعان ما يفقدون ثقتهم فيما كانوا يؤمنون به وتكون النتيجة تشويه سمعتهم وسمعة الفلسفة ككل.
ولإنقاذ سمعة الفلسفة بشكل عام وسقراط بشكل خاص، كان على أفلاطون أن يفصل بين سقراط والحركة السفسطائية، وهو ما فعله بالفعل بتعظيم الفروق بينهما. لقد كان سقراط رجلا فاضلا بينما كان السفسطائيون قوما فاسدة أخلاقهم أو على الأقل يسببون الضرر ويجلبون الأذى أينما حلوا، وكان سقراط يسعى وراء التساؤلات الفكرية الحقيقية على عكس السفسطائيين الذين اختلف سعيهم عن ذلك كثيرا. كان أفلاطون يقر أن بعض السفسطائيين مثل بروتاجوراس وجورجياس كانوا صادقين إلا أنه قال إنهم أيضا قد ضلوا الطريق في بعض الجوانب، وإن مذهبه كان في مجمله سيئا. لقد نجح أفلاطون في عرض نقاط الضعف في بعض ما قالوا إلا أنه أغلق عينيه عن نقاط القوة لديهم وعن أن كبار السفسطائيين كانوا يبحثون عن الحقيقة كما كان هو نفسه يبحث عنها، كل ما في الأمر أنهم كانوا يبحثون عنها في مكان آخر. •••
وكما يمكن أن يتوقع المرء من وضعهم المهني، كان للعديد من السفسطائيين مذهب علمي في المسائل العقلية أكثر من المفكرين الآخرين؛ فلم يكن لديهم ما يكفي من الوقت لما اعتبروه نظريات وتأملات عبقرية ولكن غير مقنعة وغير مثمرة. فمن يمكنه تحديد ما إذا كان العالم كتلة من المياه أم حشدا من الأرقام أم جسما تكون من اندلاع حريق أم مزيجا من العناصر أم عاصفة من الذرات؟ لم تكن أي من هذه النظريات أقوى بصورة قاطعة من نظيراتها، ولم يحدث الاختيار بينها أي فارق في الحياة اليومية. ألم ينكر العديد من الفلاسفة وجود الحياة اليومية نفسها؟ ومن كان يمكنه أن يصدق حجج بارمنيدس التي ساقها ليثبت أنه لا شيء يتغير بينما يثبت كل حدث في كل يوم عكس ذلك؟ ولم تكن فلسفة النظرية الذرية بأفضل منها حالا؛ لأنها أيضا ألغت عالم الخبرات اليومية بوصفه حجابا قبيحا يواري الحقيقة الجوهرية ل «الذرات والفراغ».
بالنسبة للعقل السفسطائي يبدو أن ثمة خللا حدث في مجال التعليم؛ فقد بدا العقل والجدل واللغة كأنها سرقت، وبدا أن المنطق السليم قد ضاع خلسة. وهناك مقالة عبقرية لجورجياس تقول إن اللغز يتنكر في صورة جدال، ويمكن اعتبارها محاولة لتوضيح سخافة الأمر برمته؛ فهي تدعي إثبات ثلاثة أشياء؛ أولها: أنه لا شيء كائن على الإطلاق، وثانيها: أنه حتى إن وجد شيء فمن المستحيل فهم طبيعته ، وآخرها: أنه حتى إذا أمكن فهم طبيعته فمن المستحيل مشاركة ذلك مع الآخرين.
وربما كان جورجياس نفسه سيتحير أمام لغزه ولو شيئا يسيرا، وإن لم يتحير، فحري به أن يفعل. لم يكن ليستطيع تحديد المغالطات في اللغز على وجه الدقة، حيث إن المفردات النقدية في ذلك الوقت لم تكن معقدة بدرجة تكفي للقيام بذلك، ولكنه بالتأكيد لم يقبل هذا الشذوذ المنطقي على عواهنه. وربما أراد أن يحرج به أي فيلسوف ينقصه من الحكمة ما يجعله ينكر العالم اليومي، وذلك ببيان أن هذه الأفكار قد تفاقمت سريعا، أو ربما أراد أن يبين أن ما يدعى «الحقيقة» يمكن لأي خطيب ماهر مثله أن يضعفها حتى ولو بدت مؤكدة، أو ربما كان يسلي به نفسه وجمهوره؛ إذ كان الإغريق يحبون الألغاز الكلامية. وأيا كان الغرض فالمحصلة واحدة؛ فقد كان اللغز تذكيرا بأن هناك ما يثير الشك في الطريقة التي كان يتحدث بها الفلاسفة ويجادلون بخصوص الحقيقة المطلقة. ومن الممكن أن يتحول حديثهم هذا إلى فيض جارف من السخافات.
ولا نحتاج إلى استقصاء تعقيدات لغز جورجياس، كما أن إدراكه الذاتي المنمق لا قيمة له. ففي الجزء الثالث من اللغز الذي يتحدث عن المشاركة مع الآخرين، عقد جورجياس مقارنة بين «الكلام» وبين «ما يوجد حولنا». لقد أدرك الفجوة الكبيرة بينهما، كما أدرك قدرة اللغة على صياغة نظرة الإنسان للعالم. وقد كتب في موضع آخر أن «تأثير الكلام على بناء الروح يشبه تأثير المخدرات على حالة الجسد»، وأضاف أن «الإقناع عند امتزاجه بالكلام يمكن أن يخلف أي انطباع تريده على الروح.» وكما يرى جورجياس وبعض السفسطائيين الآخرين، استخدم العديد من قدماء الفلاسفة اللغة لخلق صورة غير مجدية وغير صحيحة عن العالم، وما نهدف إليه الآن هو خلق صور مجدية بدلا منها.
كان هدف هؤلاء السفسطائيين هو الوصول إلى فلسفة تشمل خبرات الحياة اليومية، إلا أن هذا الهدف وضعهم وجها لوجه مع أفلاطون في ساحة الفلسفة. فكما رأينا، كانت نظرة أفلاطون للمعرفة حبلى بكثير من شعائر الديانة الأورفية والفيثاغورية. وبالنسبة له ولأسلافه من المفكرين كانت مهمة الفلسفة أن تفتح الطريق إلى ما وراء عالم الحياة اليومية لتنقية حقائق العقل. أما السفسطائيون فقد أرادوا السير في الاتجاه المعاكس؛ فبالنسبة لهم كان الهدف إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها الفوضوية كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ولكن الأفعال تختلف عن الأقوال، فما هي التجربة التي تصلح أن تكون وسيلة الوصول إلى الحياة المنشودة؟ فالعالم يمثل رؤى متصارعة تختلف باختلاف البشر. إن الإدراك المتباين هو المشكلة التي حاول ديموقريطس أن يقف لها على حل حينما رفض الأحكام الذاتية عن الحلو والمر والساخن والبارد وغير ذلك لأنها محض اعتقادات، وقدم بديلا موضوعيا لها وهو «الذرات والفراغ». أما بروتاجوراس فقد قدم الحل للمشكلة نيابة عن السفسطائيين في صورة فكرة مختلفة وصادمة؛ إذ تمسك بالذاتية بدلا من رفضها، فما أدركه هو حقيقة بالنسبة لي وما تدركه أنت هو حقيقة بالنسبة لك، فقال إنه لا توجد حقيقة واحدة للعالم المادي ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد حقيقة له على الإطلاق، بل على العكس فهناك كم من الحقائق لكل شيء في الوجود لأن ما يدركه كل فرد هو حقيقة بالنسبة له. وهذا ما قصده بروتاجوراس عندما قال مقولته المشهورة: «إن الإنسان مقياس كل شيء.»
يعرف هذا النوع من وجهات النظر بالنسبية؛ لأنها تقول إن الحقيقة نسبية في نظر كل مؤمن بها كما تعني حاليا أن الحقيقة نسبية في نظر كل مجموعة ممن يؤمنون بها. إنها وسيلة لإعادة المعرفة إلى الناس. وبدلا من أن تكون الحقيقة خفية يصعب اكتشافها فهي متناثرة في كل مكان مثل طعام المن من السماء يحصل كل إنسان على قدر منه. ويبدو أن بروتاجوراس هو أول من وضع مفهوم النسبية الذي نوقش بالتفصيل فيما بين بعض السفسطائيين وخصومهم وعلى رأسهم أفلاطون، ومنذ ذلك الوقت ظهر لها العديد من الصيغ. ويعزى كثير من الزخم للنسبية الحديثة إلى كانط (1724-1824م) وهو ما لم يكن ليسعد به كانط نفسه؛ فقد آمن كانط بوجود حقائق مطلقة وثابتة ، ولكنه فتح الباب دون قصد أمام النسبية بسبب الطريقة التي فسر بها تلك الحقائق، حيث قال إن الخصائص المتعددة لصورة العالم في أذهاننا يفرضها العقل البشري، وبما أن كل العقول البشرية متماثلة في جوانب مهمة فإن تلك الحقائق متماثلة بالنسبة للجميع. وتبنى العديد من المفكرين بعد كانط فكرته أن الحقيقة تتحدد جزئيا عن طريق العقل البشري، ولكنهم رفضوا افتراضه القائل بأن كل العقول متماثلة؛ فكانت النتيجة ازدهار النسبية؛ إذ إن كل الصور المرسومة للعالم تعكس الأدوات المفاهيمية التي استخدمها أصحابها، إلا أن أيا من هذه الصور ليست أصح من أختها.
وتظهر النسبية نفسها في صور وأشكال عدة، بعضها أوسع نطاقا من الآخر، فيرى بعض الناس أن القيم الأخلاقية نسبية بحيث يعتمد الصواب والخطأ على المجتمع أو الحقبة محل النقاش، بينما يؤمن آخرون أن النسبية لا تنطبق على القيم الأخلاقية، بل على النظريات العلمية أو ربما كل «الحقائق». وبشكل عام تظهر قيود التفكير النسبي في هذا العصر في كتابات علم الإنسان وعلم الاجتماع والنقد الأدبي أكثر من كتابات الفلاسفة. وبينما تبدو المعرفة الموجودة بتنوع المعتقدات والعادات الإنسانية مشجعة على التعاطف مع النسبية، يميل الفلاسفة إلى الحذر من الالتباس والمفارقات التي تكمن وراء العديد من صورها. لنأخذ على سبيل المثال النسبية الأخلاقية، حيث تقول إحدى نسخها المباشرة إنه من الخطأ انتقاد قيم الثقافات الأخرى؛ لأن كل ما تؤمن به كل ثقافة هو الصواب بالنسبة لها. ولكن هذه الأطروحة المسالمة المتسامحة تناقض نفسها في الحقيقة. فما هي المعايير الأخلاقية التي تقضي بأنه من «الخطأ» انتقاد قيم الآخرين؟ فإذا كانت إحدى الثقافات ترى أنها أفضل أخلاقيا من الثقافات الأخرى فالنسبية الأخلاقية ذاتها تستلزم أنه من الصواب أن تنتقد هذه الثقافة نظيراتها .
Unknown page