49

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Genres

قارن ذلك بكلمات ذكرت في كتاب علمي حديث وهو «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز الذي يبدؤه بإقرار شديد الشبه بما قاله لوكريتيوس فيقول: «لا حاجة لنا بعد اليوم إلى اللجوء إلى الخرافات كلما واجهتنا أسئلة معقدة مثل: هل للحياة معنى ؟ وما سبب وجودنا؟» ثم يصف كيف أن العلوم «تبين لنا كيف يمكن أن تتحول البساطة إلى تعقيد، وكيف أمكن للذرات غير المنتظمة أن تتجمع في أنماط أشد تعقيدا حتى انتهى بها المطاف إلى تكوين البشر»، ومن ثم «فلا حاجة بنا إلى التفكير في التصميم أو الغاية أو التوجه. وإذا ما استقرت مجموعة من الذرات ... في نمط ثابت فإنها ستنزع إلى البقاء على هذا الحال.»

وهكذا كسا العلم الحديث عظام ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس لحما، فهو يقدم سريعا تفاصيل تحول الفوضى الذرية إلى نظام وحياة تحولا طبيعيا بدون بارئ؛ مما يحقق لهم آمالهم. وقد أمسك داروين بأكبر خيط في لغز الحياة عندما قدم تفسيره من خلال نظرية التطور والانتخاب الطبيعي التي رأينا مبادئها الأولية في توقعات إمبيدوكليس المبهمة. فلا عجب إذن من أن رواية الذريين عن خلق الإنسان لاقت الرفض والارتياب اللذين لاقاهما داروين بعد ذلك في القرن التاسع عشر؛ فقد قال عنهم أحد المسيحيين المتحيرين في القرن الرابع عشر إنهم يعتقدون أن البشر «نشئوا من الأرض مثل الدود، بلا خالق ولا سبب.»

ولم يكتف ديموقريطس في قصته بما سماه تنيسون في قصيدة له عن لوكريتيوس «تلك البدايات العمياء التي جعلت مني رجلا»، بل طفق يقدم تفسيرا عن تطور الثقافة البشرية ونظرية عن سعادة البشر ونظاما متكاملا للأخلاقيات. ويقول في ذلك إن البشر الأوائل كانوا يتصارعون وحدهم من أجل البقاء في عالم عدواني، ثم بدءوا يتعاونون في مواجهة عدوهم المشترك من الوحوش الضارية، ثم سرعان ما هذبوا أصوات الخوار التي كانوا يصدرونها وبدءوا يتواصلون من خلال الاتفاق على معان لتقابل أوضح الأصوات التي يصدرونها. وبمرور الوقت علمتهم التجارب تحسين معيشتهم من خلال الإيواء إلى الكهوف وتخزين الطعام. ثم تعلموا الكثير بمحاكاة الكائنات الأخرى؛ ولذلك يقول ديموقريطس إن الإنسان تتلمذ على أيدي الحيوانات في أهم شئونه، فمثلا تعلم الغزل والرتق أول ما تعلمه من العناكب، وحاكى البلابل في غنائها، وأتى ببناء البيوت من طائر السنونو. إلا أن أغلى ملكات الإنسان هي ذكاؤه الطبيعي الذي يمكنه من تعلم نظام العالم عن طريق الخبرة. إذن اتضح في النهاية أن المعرفة «الزائفة» التي تقدمها لنا الحواس من الأهمية بمكان.

وحالما انتهى الإنسان من تعلم ما يكفيه لتلبية احتياجاته الضرورية بانتظام، استطاع حينها أن يلتفت إلى الهوايات في روية وأولها الموسيقى، كما استطاع أن يكرس نفسه للبحث عن السعادة. والسعادة عند ديموقريطس هي نتاج الاعتدال والاتزان وغياب الرغبات المشتتة التي تسعى إلى ما لا يمكن الحصول عليه أو إلى ما هو زائل. فإذا اهتز العقل أو الروح بفعل تلك المشاعر المزعجة فقدت ذراته نظامها واستقرارها. وتعكس هذه الفكرة الآراء التقليدية للطب الإغريقي التي تقول إن الصحة الجسدية هي عبارة عن توازن في عناصر الجسم. وبما أن العقل يتكون من ذرات مادية كالجسد كما يقول ديموقريطس فإن الصحة العقلية والسعادة تستلزمان مكونات الصحة الجسدية نفسها، ولا بد لها من الاتزان وغياب الإزعاج الناتج عن الصراع.

ولكي يكون المجتمع صحيا فهو يحتاج إلى المكونات نفسها من استقرار واعتدال ونظام. وتعتبر الحضارة - التي تعني المدينة لدى ديموقريطس - نتاجا إنسانيا محفوفا بالمخاطر يمكن أن ينزلق بسهولة إلى الهمجية مرة أخرى، فإذا ما اختل التناغم والانضباط اللذان تعتمد عليهما الحضارة فسرعان ما ستختفي الفنون والفلسفة بل والسعادة نفسها. ومن الواضح أن ديموقريطس قد أخذ تلك المخاطر على محمل الجد؛ فقد نادى بتطبيق حكم الإعدام على كل من يهدد بزعزعة استقرار المدينة، فالمجتمع لن يواصل ازدهاره إلا بتوريث الحكمة والسلوكيات المسئولة للأجيال القادمة بعناية فائقة. ويتناول الكثير من الأجزاء المتبقية من كتابات ديموقريطس مسألة التعليم؛ إذ اعتبرها مسئولية ثقيلة فكتب قائلا إن أسوأ شيء في الوجود هو التهاون في تعليم الصغار. ولا أحد يعرف إذا ما كان لديموقريطس أبناء أم لا. وأغلب الظن أنه لم يكن له أبناء، وإذا كان له أبناء فلا بد وأنه ندم على ذلك لاحقا؛ إذ نجده يقول:

أظن أن المرء الذي يريد أطفالا خير له أن يأخذ أحد أبناء أصدقائه، عندها يمكنه أن يختار الطفل على الشاكلة التي يريدها، ومن ثم يمكنه أن يختار ما يهواه عقله من بين الكثير، أما إذا أنجب المرء أطفاله بنفسه فسيواجه عدة مخاطر؛ إذ عليه أن يعيش مع من أتى به أيا كان.

بالنظر إلى إصراره الشديد على ترسيخ الفضيلة في أذهان الناس ونفوسهم لا بد وأنه كان يحاول أن يتعايش مع نفسه. ولم تكن القيم التي أراد أن يعلمها للناس كالعدالة والرضا بالنصيب والحكمة بقيم ثورية، بل كانت تعكس المثل التي كانت سائدة في عصره بعد أن عدلها لتتضمن التفسير الذري للعقل. إن أبرز ما ابتكره ديموقريطس في وعظه هو أنه حث رفقاءه على اتباع السلوك القويم لا إرضاء للآلهة أو لضمان حياة يرضون بها في الآخرة، وإنما لأن تلك الفضائل مهدت الطريق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه ليصل الإنسان للسعادة على الأرض؛ أي إن اتباع الفضائل مصلحة ذاتية. وقد طور أبيقور ولوكريتيوس لاحقا تلك الأخلاقيات التي لا تمت إلى الدين بصلة، وهو ما شق على المسيحيين الأوائل.

لقد تسببت فكرة اتباع أخلاقيات من صنع الإنسان في إثارة بعض الأسئلة المقلقة بين المفكرين من معاصري ديموقريطس. فكيف يمكن للمرء أن يمنع مصلحة الذات الحكيمة من التدني إلى الأنانية اللاأخلاقية؟ تخيل موقف شخص يملك من القوة ما يكفيه لأن يفعل ما يريد ويفلت من العقاب، ومن ثم لن يغرم من تجاهل القواعد الأخلاقية المتفق عليها. وإذا لم يبلغ إثم ذلك الرجل حد القضاء على استقرار المدينة وجعله ذلك السلوك راضيا عن نفسه فعلى أي أساس سيدينه ديموقريطس؟

لقد احتدمت مناقشة تلك الأسئلة في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد لدى حركة فكرية بأثينا تدعى السفسطائية. وقد كان أفلاطون مؤخرا شديد الهجوم على السفسطائيين ووصفهم بأنهم كانوا محتالين ساخرين يلوون فن الحجاج العقلي. ولم يكن أفلاطون الوحيد الذي قام بذلك، بل نجحت تلك الدعاية السلبية؛ حتى إن كلمة «سفسطة» أصبحت تستخدم هي وأشباهها بمعنى المنطق المضلل أو المراوغة أو التلاعب بالألفاظ. وكان هذا هو المعنى الذي يقصده دزرائيلي عندما وصف أحد خصومه السياسيين ويدعى جلادستون ب «خطيب سفسطائي أثملته غزارة إسهابه في الكلام.»

وبغض النظر عن حقيقة جلادستون فإن السفسطائيين الأصليين يستحقون ذكرا أفضل من ذلك. ومن أبرز آثارهم أنهم أثروا الحياة الفكرية في أثينا وقادوها نحو ما نعرفه اليوم باسم علوم الإنسانيات. وبينما قام بعض من ذكرناهم آنفا من الفلاسفة بتغيير التفكر في الطبيعة إلى بحث عن تفسيرات عقلانية، قام أصحاب العقول الفلسفية من السفسطائيين بالتفكير في الصراع بين الطبيعة والتقاليد أو القوانين التي وضعها الإنسان. وثمة عدة جوانب لذلك النزاع بين التقاليد والطبيعة؛ فقد توصل السفسطائيون إلى فكرة مشوقة عن المطالب المتناقضة لغرائز الإنسان الأنانية من ناحية ومتطلبات العدالة من الناحية الأخرى، وعن المشكلات التي طرأت على فكرة ديموقريطس حول مسألة المعرفة الموضوعية والتي تقول إن جل ما يدعي الإنسان معرفته ما هو إلا مسألة تقاليد وأعراف. فلنسترجع مقولة ديموقريطس في النظرية الذرية: «جرى العرف بأن يعد الشيء حلوا أو مرا أو ساخنا أو باردا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفراغا.» أما أبرز السفسطائيين فلم يكونوا ليقولوا بذلك، فقد توصلوا إلى استنتاج مختلف عن مدى المعرفة، ولكنهم كانوا سيدركون جيدا المشكلة التي يعاني منها ديموقريطس؛ ألا وهي التناقض بين الحقيقة الموضوعية والإدراك الذاتي.

Unknown page