Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Genres
إن أفضل وسيلة لتفسير الطبيعة الخفية للأشياء هي أن نصف أجزاءها بأشكال تتماشى مع كل تأثيراتها، فلا أحد ينكر أن حموضة السوائل تتمثل في جزيئات مدببة، وكل التجارب تؤكد ذلك، فحالما تتذوقها تشعر بوخز في لسانك كذلك الذي تسببه بعض المواد حين تقطع إلى أسنان دقيقة.
لم يكن لدى ذلك الكيميائي أي دليل على ما قال أكثر مما كان لدى ديموقريطس، كل ما في الأمر أن هذا هو ما بدا له أنه التفسير الصحيح.
ويبدو أن السبب الرئيس الذي قاد ليوكيبوس وديموقريطس للذرة لم يكن دليلا أو برهانا وإنما مفارقات زينون بالأساس؛ فقد توصلا إلى استنتاج أن المشكلة في مفارقات زينون أو في بعضها على الأقل هي أنه افترض أن الأشياء المادية يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية. لقد افترض زينون بالفعل أنه إذا كانت المواد المعتادة موجودة فإنه يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية، ثم قال إن هذه الفكرة قد أدت في النهاية إلى نتائج عبثية، وهذا أحد أسباب إنكاره لعالم المنطق السليم. أما ليوكيبوس وديموقريطس فقد اعتقدا أن إمكانية تقسيم الأشياء إلى ما لا نهاية قد تكون هي نقطة الضعف في المفارقات، فزينون لم يقدم أي دليل عليها على أية حال بل افترضها فقط؛ ومن هنا انطلقت كل مفارقاته. وإذا افترضنا بدلا من ذلك أن المادة لا يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية؛ أي إن هناك ما يمثل أصغر مقياس للمادة والذي يستحيل تجزئته أو تقسيمه، عندها سيتوقف مسار فكر زينون، أو على الأقل هذا ما اعتقده ديموقريطس وليوكيبوس، وبناء على ذلك طرحا الذرة على أنها أصغر مقياس للمادة.
وهكذا بعد أن فند الذريون نظرية زينون جاء الدور على بارمنيدس. كان أحد اعتراضات بارمنيدس على فكرة الحركة هو أنها تحتاج إلى مساحة خالية، وإلا فلن يكون هناك متسع يتحرك فيه أي شيء. وبما أن المساحة الخالية عبارة عن «لا شيء» يرى بارمنيدس أنها مستحيلة الوجود، وإذا كانت المساحة الخالية مستحيلة فالحركة مستحيلة كذلك. وقد اختلف الذريون مع بارمنيدس في الرأي دون أن يوضحوا وجه اعتراضهم على دحضه للمساحة الخالية، فقالوا إنه يمكن أن يوجد ما يسمى ب «الفراغ»، وحال إيجاد ذلك الفراغ تهرع إليه الذرات المتحركة. كانت هذه هي حججهم إجمالا. فإذا قبلنا بوجود الفضاء فلا بد أن نقبل فكرة وجود أشياء كثيرة وليس الكينونة الواحدة فقط كما هو الحال لدى بارمنيدس؛ ذلك أن ثمة مساحة خالية توجد بين الأشياء المختلفة وتفصلها عن بعضها، ولكن لا توجد مساحة خالية داخل الذرات نفسها؛ ذلك أنه لو وجدت مثل تلك المساحة لما كانت الذرات صلبة ولصار ممكنا تقسيمها إلى أجزاء أصغر في حين أنها اصطلاحا تنفرد بعكس ذلك. وبما أن هذه الذرات لا تتكون من أجزاء فهي ليست عرضة للتغير أو التحلل؛ ولذلك فهي خالدة.
وهكذا بإزالة هذا الترس من عجلة بارمنيدس (أي دحض زعمه استحالة وجود المساحة الخالية) حول الذريون هذه العجلة لخدمة أغراضهم. وبصرف النظر عن حقيقة أن الذرات تتحرك وأن هناك الكثير منها، تتشابه الذرة لدى ديموقريطس والكينونة الواحدة الغامضة لدى بارمنيدس كثيرا؛ فكلاهما خالد للأبد ولا يتغير أبدا ولا يتكون من أجزاء ولا يحتوي على مساحة خالية داخله. بل وفي الواقع يبدو أن مليسوس، وهو أحد أتباع بارمنيدس، قد تنبأ نبوءة غامضة باحتمالية مرور آراء أستاذه بمثل ذلك التطور، وقال ذات مرة إنه إذا كانت هناك أشياء كثيرة فسيتضح للعيان أن كلا منها يشبه الكينونة الواحدة لدى بارمنيدس.
تجمع النظرية الذرية بين قليل من سمات الفيثاغورية وكثير من خصائص فلسفة بارمنيدس، فكل شيء في عالم فيثاغورس مبني من مجموعات من «وحدات» يزعم أنها بطريقة ما حقيقية أكثر من أي شيء آخر. ويرى الفيثاغوريون أن هذه الوحدات تتكون من أرقام، أما لدى ديموقريطس وليوكيبوس فهي أجسام مادية صلبة. ولم يرد في شروح النظرية الذرية القديمة ذكر أية أرقام أو حتى الرغبة في قياس أية كميات (لكن يفترض أن ديموقريطس قد كتب نحو عشرة كتب في موضوعات حسابية)، وهذا هو ما يرسم الخط الفاصل بين النظرية الذرية قديما وحديثا، ولم يزدهر ذلك المذهب في صورة مشروع علمي ناضج إلا عندما طور علماء الكيمياء والفيزياء طرقا معقدة لقياس الظواهر المادية.
ومع ذلك إذا لم يكن ممكنا في زمن ديموقريطس تحديد سمات الذرات المذكورة في نظريته؛ فإنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن هذه الذرات يمكن قياسها بدقة من الناحية النظرية، وهي المادة الصحيحة التي ينبغي على الرياضيات والفيزياء تناولها. لقد تحركت الذرات وكان لها أحجام وأماكن وأوزان وأشكال هندسية، وكان هذا أهم الحقائق عنها. ومن المؤكد أن السمات الأساسية للذرات لا تتضمن أيا من السمات التي تصاحب حواس الإنسان على وجه الخصوص كاللون أو الرائحة أو الطعم. ويرى ديموقريطس أن ألوان الأشياء العادية ونكهاتها ليست صفات موضوعية يتصف بها العالم الخارجي، وإنما يبدو أنها حالات لجسم الإنسان تنتج عن تدفق الذرات إليه. ولذلك عندما يقول مثلا إن ذرات الأشياء ذات المذاق الحلو مستديرة وكبيرة فهو لا يعني أنها حلوة في حد ذاتها ولكن استدارتها وكبر حجمها يسببان لنا الإحساس بالحلاوة.
وما دفعه إلى قول ذلك هو حقيقة أن الأحاسيس تختلف من شخص لآخر، حتى ولو لم يختلف الشيء المدرك. ويقول أرسطو: «إن الشيء نفسه يبدو حلوا لدى البعض ومرا لدى البعض الآخر، بل لا يشعر الفرد بالشيء بالطريقة نفسها طوال الوقت.» ويصيغ ديموقريطس ذلك قائلا: «جرى العرف بأن يعد الشيء حلوا أو مرا أو ساخنا أو باردا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفضاء.»
بعبارة أخرى، يمكننا القول إن ما تخبرنا به حواسنا عن الحرارة أو الطعم أو اللون أو غير ذلك كله مسائل ذاتية بحتة، وقد جرى العرف على أننا ننسب تلك الصفات للأشياء المادية نفسها وغالبا ما نتفق حول الصفات الموجودة في هذه الأشياء. والحقيقة أنه لا يوجد في تلك الأشياء سوى مجموعات من الذرات تسبح في الفضاء بأحجامها وأوزانها وما إلى ذلك. وهذا يذكرنا ببارمنيدس مرة أخرى؛ إذ قال إن الألوان وغيرها من الأشياء التي يؤمن بها الناس لأنهم بسذاجة يثقون في حواسهم ليست إلا «أسماء». وقد اتفق ديموقريطس مع بارمنيدس في عدم الثقة في الحواس، إلا أنه لم يتبعه إلى حد التغاضي عنها تماما. وقد ميز ديموقريطس بين المعرفة المكتسبة من خلال الفكر (أو العقل) والمعرفة المكتسبة من خلال الحواس فقال:
ويقر صراحة بأن «للمعرفة هيئتين: الهيئة الأصلية والهيئة الزائفة. أما الهيئة الزائفة فهي التي ينتمي إليها كل من البصر والسمع والشم والتذوق واللمس، وأما الهيئة الأخرى فهي أصلية ومتمايزة عن الهيئة الزائفة.» ثم استطرد قائلا: «ومتى عجزت المعرفة الزائفة عن رؤية ما هو صغير جدا أو سماعه أو شمه أو تذوقه أو إدراكه بلمسه، يضطر المرء للجوء إلى أداة أخرى أكثر دقة.» ولذلك فالعقل هو المعيار (الذي نميز به الحقيقة من الزيف).
Unknown page