Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
ولا بد أن يضع القارئ في ذهنه أن الكتاب يحمل عنوان «حكمة الغرب»، أي إنه يتحدث عن الفلسفة أو الحكمة كما ظهرت في الحضارة الغربية. وهذه الحقيقة تفسر بعض السمات التي تميز هذا الكتاب، والتي قد يعترض عليها الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور.
ذلك لأن رسل يمجد الحضارة اليونانية تمجيدا مفرطا، ويرجع ظهور الفلسفة والرياضيات ومنهج الفكر المنطقي الاستدلالي إلى عبقرية الشعب اليوناني وحده. ولا شك أن المقام لا يتسع هنا لمناقشة تلك المشكلة المتشابكة؛ مشكلة العلاقة بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية السابقة لها، ولكن رسل يميل إلى الإقلال من أهمية ما تعلمه اليونانيون من الشعوب السابقة، على الرغم من أن كثيرا من الأبحاث الحديثة، المبنية على آخر ما وصل إليه علم الآثار والتاريخ القديم، تؤكد على نحو متزايد ضخامة الدين الذي كان يدين به اليونانيون للحضارات القديمة، مع عدم الإقلال بطبيعة الحال من عظمة الإنجاز اليوناني، وخاصة في الميدان النظري.
ومن ناحية أخرى، فإن موضوع الكتاب نفسه قد فرض على المؤلف ألا يعرض بأي قدر من التوسع للفكر العربي الإسلامي، فاكتفى بإشارات موجزة تخدم أغراضه في التركيز على «حكمة الغرب»، ولكن مما يحمد له أن هذه الإشارات جاءت منصفة لهذا الفكر ومقدرة للدور الذي قامت به الحضارة الإسلامية إلى حد بعيد. وربما لمس القارئ من آن لآخر قدرا من التعاطف مع الجماعات اليهودية، ولكن هذا شيء لا مفر منه في الجيل الذي ينتمي إليه رسل، والذي عانى من ويلات النازية، فكان رد الفعل الطبيعي لديه هو أن يتعاطف مع أعدائها، وعلى أية حال فإن المرء حين يقرأ ملاحظاته القليلة في هذا الصدد بتعمق يحس بأن المسألة ليست في الواقع تعاطفا مع اليهودية بقدر ما هي انتقاد لذلك الأسلوب الذي تكرر مرارا في تاريخ الغرب، وهو اضطهاد الأقليات الدينية بوصفه وسيلة لتنفيس عقد الحكام أو لإلهاء الشعوب.
وربما لاحظ المرء في بعض مواضع الكتاب اهتماما زائدا بالجوانب المنطقية والرياضية في الفلسفة، ولكن تعليل ذلك أمر ميسور إذا تذكرنا أن علاقة رسل الرئيسية بالفلسفة جاءت من جانب المنطق والرياضة، وعلى أية حال فإن هذا الاهتمام يؤدي إلى بعض الأحكام التي قد لا يوافقه عليها بعض مؤرخي الفلسفة، مثل تمجيده المفرط لأفلاطون وإقلاله من قيمة أرسطو؛ ذلك لأن رسل يبدي في هذا الكتاب انبهارا بالجوانب الرياضية في فكر أفلاطون، على حين أن أرسطو لم يكن يهتم أصلا بالرياضيات. وربما كان في هذا مثل ملموس لما قلته من قبل عن طريقة الفيلسوف في كتابة تاريخ الفلسفة، وكيف أن موقفه الخاص يتحكم أحيانا في رؤيته للفكر الفلسفي السابق. وعلى أية حال فيبدو لي أن حكمه هذا يتناقض مع ما قاله في دراسته المشهورة «التصوف والمنطق» وهي أول دراسة في الكتاب الذي يحمل هذا الاسم، حين صنف الفلاسفة إلى أصحاب ميول صوفية وأصحاب اتجاهات منطقية، وأدرج أفلاطون ضمن الفئة الأولى وأرسطو ضمن الفئة الثانية. ولكن يبدو أن رسل قد اكتشف دلالات أعمق للتفكير الرياضي في محاورات أفلاطون في الفترة التي ألف فيها كتابه هذا، والتي يفصلها عن كتاب «التصوف والمنطق» عدد كبير من السنين.
كذلك قد يختلف كثير من مؤرخي الفلسفة مع رسل في رأيه القائل إن سقراط كان صاحب نظرية المثل أو الصور، وإن محاورات أفلاطون التي كان سقراط هو المتحدث الرئيسي فيها كانت تعبر عن أفكار سقراط بالفعل، وإن أفلاطون لم يهتد إلى نفسه ويعبر عن فكره بطريقة مستقلة إلا في المحاورات الأخيرة التي لا تحتل فيها شخصية سقراط مكانة رئيسية، أو لا تظهر فيها على الإطلاق، فهذا رأي لم يدافع عنه إلا قلة من مؤرخي الفلسفة، على رأسهم «برون بيرنت
J. Burnet » الذي يبدو أن رسل كان متأثرا به في هذه المسألة إلى حد بعيد.
تلك بعض النقاط الخلافية في هذا الكتاب، الذي كان مؤلفه ذاته من أكبر الشخصيات الخلافية في هذا القرن، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن كتاب رسل هذا عن تاريخ الفلسفة، بكل ما يتضمنه من لمحات ذكية وأحكام عميقة ودعابات لاذعة، هو نتاج فكري ناضج يعبر عن آخر مراحل تفكير رسل في هذا الموضوع (طبع الكتاب لأول مرة في عام 1959م، حين كان رسل في السابعة والثمانين). وإذا كان الجزء الأول يقدم عرضا للفكر اليوناني وفكر العصور الوسطى الغربية في سياقهما الحضاري والاجتماعي، فإن الجزء الثاني الذي نأمل أن تظهر ترجمته في هذه السلسلة قريبا، يكمل الصورة بعرض لأهم ملامح الفلسفات الغربية الحديثة والمعاصرة، وبذلك يكتسب القارئ العربي رؤية ناضجة شاملة لأهم معالم تلك المغامرات الفكرية الشيقة التي امتدت عبر خمسة وعشرين قرنا.
الكويت، سبتمبر 1982م
أ.د. فؤاد زكريا
تقديم
Unknown page