Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
9
فالفرض الذي تتفق نتائجه مع الوقائع يحفظ المظاهر، أعني الأشياء المحيطة بنا كما تظهر، ولا شك أن هذه الفكرة مرتبطة في المحل الأول بعلم الفلك لدى الفيثاغوريين المتأخرين، وبوجه خاص بفكرة النجوم السيارة أو الكواكب، فحركتها الظاهرية غير منتظمة، وهي سمة لا تتلاءم مع مقتضيات البساطة الميتافيزيقية، ومن هنا كانت الحاجة تدعو إلى فرض بسيط يحفظ المظاهر.
فإذا لم تتفق النتائج مع الفرض، وجب التخلي عن هذا الأخير، وأصبح علينا أن نجرب فرضا آخر، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظته هو أن الفروض ذاتها تظل بغير إثبات. وليس معنى ذلك أن المرء يختار نقاط بدايته اعتباطا، وإنما يعني أن على المرء أن يبدأ عند تقديم برهان ما، بشيء يقبله جميع المشتركين، إن لم يكن عن اقتناع، فعلى الأقل من أجل مواصلة الجدل. أما البرهنة على الفروض فهي شيء مختلف كل الاختلاف؛ فهنا ينبغي أن نبدأ من نقطة بداية أعلى نستطيع أن نثبت أن الفرض موضوع البحث يمكن أن يكون نتيجة لها. وهذه بالضبط هي مهمة الديالكتيك كما تصورها سقراط. فعلينا أن نهدم الفروض الخاصة لمختلف العلوم، بمعنى استبعادها من حيث هي خاصة، ففي النهاية يكون هدف الجدل هو الوصول إلى نقطة البداية الواحدة العليا، وهي صورة الخير، وربما بدا لنا ذلك أملا يستحيل تحقيقه، ومع ذلك يظل من الصحيح أن العلم النظري يتحول دائما في اتجاه المزيد من التعميم وتوحيد الميادين التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقة. والأمر الذي كان يحرص عليه الفلاسفة الرياضيون على وجه التخصيص هو توحيد الحساب والهندسة، وهي المشكلة التي استطاع ديكارت أن يقدم لها آخر الأمر حلا عبقريا بعد حوالي ألفي عام من الفترة التي نتحدث عنها.
ولقد رأينا من قبل أن سقراط لم يكن أول من استخدم البرهان الذي يبدأ بوضع فرض، فقد سبق أن استخدم الإيليون هذه الطريقة في صراعهم الفكري مع القائلين بأن الأشياء كثيرة، ولكن هدفهم كان في مجمله هداما. والجديد في حالة سقراط هو فكرة المحافظة على المظاهر، أي إن المشكلة هي تقديم وصف إيجابي اللوجوس
Logos
للوقائع كما نلاحظها، وبتقديم هذا الوصف نفسر الوقائع من خلال الفرض. وينبغي أن نشير إلى أن هذه الطريقة تنطوي على فكرة أخلاقية ضمنية هي أن الواقعة المفسرة أفضل على نحو ما من الواقعة غير المفسرة. ولعلنا نذكر رأي سقراط القائل بأن أسلوب الحياة الذي لا يخضع للفحص والاختبار لا يستحق أن يعاش، وهذا كله يرتبط آخر الأمر بالأخلاق الفيثاغورية التي تذهب إلى أن البحث العلمي خير في ذاته. وفضلا عن ذلك فإن الاتجاه إلى تحقيق المزيد من التوحيد بالتدريج، حتى يندرج كل شيء آخر الأمر ضمن مثال الخير، يشير إلى المضمون الإيجابي للمذهب الإيلي.
ذلك لأن مثال الخير والواحد عند الإيليين يشتركان في أنهما يتضمنان توجيها إلى الطريق الذي يسيء فيه العلم النظري.
ولقد كان أفضل تعبير عن فكرة الفرض والاستنباط هو ذلك الذي تضمنته محاورة «فيدون»، ولكن من الغريب أن سقراط لم يتنبه أبدا على ما يبدو إلى عدم الاتساق العجيب بين هذه الفكرة وبين نظريته في المعرفة والظن؛ ذلك لأن نظرية الاستنباط من فروض تقتضي كما هو واضح أن تكون المظاهر التي يتعين المحافظة عليها واضحة بصورة لا تخطئها العين، وإلا لما أمكن المقارنة بينها وبين نتائج الفرض. غير أن المظاهر من جهة أخرى تدرك بالحواس، والحواس يقال عنها إنها تنتج ظنونا، أي إنها معرضة للخطأ، وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا نظرية الفرض والاستنباط مأخذ الجد وجب علينا أن نتخلى عن نظرية المعرفة والظن، وهذا يؤدي بطريق غير مباشر إلى هدم نظرية المثل بقدر ما ترتكز على التمييز بين المعرفة والظن، وهذا ما فعله المذهب التجريبي.
وهناك مسألة لم نعرض لها على الإطلاق، هي كيفية التوصل إلى الفرض في المحل الأول. وتلك مسألة لا نستطيع أن نقدم عنها إجابة عامة. فليس ثمة «وصفة رسمية» تضمن النجاح في البحث العلمي، وربما كان من الدلائل على عمق بصيرة سقراط أنه لم يحاول حتى أن يثير السؤال، فليس ثمة شيء اسمه منطق الاختراع.
من الواضح أن محاورة «فيدون» هي وثيقة تاريخية بنفس المعنى الذي كان به «دفاع سقراط» وثيقة من هذا النوع. وهي بهذا الوصف تعرض علينا سقراط وهو متمسك بموقفه من الحياة حتى آخر لحظة فيها؛ فهو يهتم بشئون الآخرين، ويخفر بنفسه دون غرور، وهو شجاع رابط الجأش، وهو يرى في التعبير المتطرف عن الانفعالات أمرا غير جدير بالاحترام، ويعنف أصدقاءه الذين يبدو أنهم على وشك الانهيار بتأثير التوتر السائد في اللحظات الأخيرة التي سبقت تجرعه للسم. وهو يشرب السم بعدم اكتراث وتجرد عظيمين، ويرقد في انتظار الموت، وكان آخر طلب له هو الذي وجهه إلى صديقه كريتون
Unknown page