Hikmat Gharb
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Genres
على أن الماديين الفرنسيين كانوا أشد تطرفا بكثير في رفضهم لعقيدتهم. ولقد كان مذهبهم تطويرا لنظرية الجوهر كما قال بها ديكارت؛ فلقد رأينا كيف يؤدي «مذهب المناسبة
Occasionalism » إلى الاستغناء واقعيا عن دراسة الذهن إلى جانب المادة. فما دام العالم الذهني والعالم المادي يعملان بطريقة متوازية تماما، ففي وسعنا الاستغناء عن أي منهما. ونستطيع أن نجد أفضل عرض للنظرية المادية في كتاب لامتري
Lamettrie «الإنسان الآلة
L’homme machine » الذي رفض فيه ثنائية ديكارت، واحتفظ بجوهر واحد فقط، هو المادة. غير أن هذه المادة ليست جامدة بالمعنى الذي كانت تقول به النظريات الآلية القديمة، بل إن من سمات المادة في ذاتها أنها ينبغي أن تكون في حركة. وليس ثمة حاجة إلى محرك أول، كما أن افتراض أي إله هو، حسب التعبير الذي سيقول به لابلاس فيما بعد، افتراض غير ضروري. وتبعا لهذا الرأي تكون القدرة الذهنية وظيفة من وظائف العالم المادي. والواقع أن لهذه النظرية علاقة ما بتصور ليبنتس للمونادات، على الرغم من أنها لم تقل إلا بجوهر واحد في مقابل لا نهائية المونادات. ومع ذلك فإن القول بأن المونادات «نفوس» يشبه إلى حد ما الفكرة القائلة إن للمادة أحيانا وظيفة شبه عقلية. ولنذكر في هذا الصدد أن هذا هو المصدر الذي استمد منه ماركس النظرية القائلة: إن العقل ناتج من نواتج التنظيم الجسمي العضوي.
وعلى أساس هذه النظرية اتخذ هؤلاء الماديون مواقف مستقلة تماما عن الدين، الذي رأوا أن طريقة نشره تحمل أخطارا يشجع عليها الحكام والقساوسة تحقيقا لمصالحهم الخاصة، ما دام من الأسهل لهم أن يتحكموا في الجهلاء. وفي هذا أيضا كان ماركس مدينا للماديين عندما تحدث عن الدين بوصفه أفيونا للشعب. ولقد كان الهدف من حملة الماديين على التفكير الديني والميتافيزيقي هو دعوة الناس إلى طريق العلم والعقل الذي يمكن أن يؤدي إلى إقامة شكل من أشكال الفردوس على الأرض، وهم في ذلك يشتركون مع «الموسوعيين»، كما أن الاشتراكية الطوباوية عند ماركس تستلهم هذه الأفكار أيضا، ولكن يمكن القول إن الجميع كانوا في هذه الناحية ضحايا لوهم رومانتيكي. ومع الاعتراف بصحة الرأي القائل إن اتخاذ موقف مستنير من الحياة ومشاكلها يقدم إلينا عونا هائلا في سعينا إلى إيجاد حلول مناسبة نتغلب بها على صعوباتنا، فمن الواضح أن الحلول النهائية الدائمة لكافة المشكلات لا يمكن أن تنتمي إلى هذا العالم.
لقد كان ما حرص هؤلاء المفكرون جميعا على تأكيده هو أولوية العقل. ولكن بعد الثورة الفرنسية التي زعزعت أركان العقيدة السائدة، اخترع الناس «كائنا أسمى»، كان يخصص للاحتفال به يوم معين. وكان ذلك في جوهره تأليها للعقل، وفي الوقت نفسه لم تبد الثورة احتراما كبيرا للعقل في مسائل معينة أخرى، فقد حوكم لافوازييه، مؤسس الكيمياء الحديثة أمام محكمة ثورية في عهد الإرهاب، وكان قد اقترح قبل ذلك إصلاحات ضريبية مفيدة عندما كان مشرفا على شئون الزراعة، ولكن مجرد شغله منصبا في النظام القديم، جعلهم يتهمونه بارتكاب جرائم ضد الشعب. وحين قيل للمحكمة إنه من أعظم العلماء، ردت بأن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء، وهكذا قطعت رأسه بالمقصلة.
إن الموسوعة هي، في نواح معينة، رمز لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفيها ينصب الاهتمام على المناقشة العقلية الهادئة، بينما الهدف منها هو تحقيق مستقبل جديد أكثر سعادة للبشر، ولكن في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الموسوعة نمت حركة رومانتيكية معادية للعقل، كان من أبرز ممثليها جان جاك روسو (1712-1778م). ولم يكن روسو فيلسوفا بالمعنى الدقيق، إذا جاز لنا أن نستثني أعماله في ميدان النظرية السياسية والتربية، وهي الأعمال التي كان لها، بالإضافة إلى سائر جوانب نشاطه الأدبي الواسع، تأثير كبير في الحركة الرومانتيكية فيما بعد.
ويقدم إلينا روسو سجلا لحياته الخاصة في كتاب الاعترافات، وإن كانت القصة التي يرويها قد شوهت إلى حد ما بفعل المبالغات الشاعرية. وقد ولد روسو في جنيف، لأسرة كالفينية، ومات والداه وهو في سن مبكرة فربي على يد إحدى عماته. وبعد أن ترك المدرسة في الثانية عشرة جرب العمل في عدة مهن مختلفة، ولكن لم ترق له واحدة منها. وفي السادسة عشرة رحل عن بيته هاربا، وفي تورينو اعتنق الكاثوليكية لأسباب مصلحية، وظل يعتنقها بعض الوقت، ثم التحق بخدمة إحدى السيدات الشهيرات، ولكنه وجد نفسه مرة أخرى على قارعة الطريق حين توفيت هذه السيدة بعد ثلاثة أشهر، وفي هذه المناسبة وقعت حادثة مشهورة تكشف عن الموقف الأخلاقي للشخص الذي يعتمد على أحاسيسه وحدها. فقد تبين أن روسو كان يملك وشاحا سرقه من السيدة التي كان يعمل عندها. وزعم روسو أن خادمة قد أعطته إياه، فلقيت هذه الخادمة جزاءها على سرقتها. ولكن روسو يقول في «الاعترافات» إن ما دفعه إلى هذا العمل كان تعلقه بالفتاة مما جعلها أول من يخطر بباله حين طلب إليه أن يقدم تفسيرا. ولا تتضمن الاعترافات أية إشارة إلى أن ضميره أنبه. وهو لا ينكر بالطبع أنه أدلى بشهادة كاذبة، ولكن عذره، على الأرجح، هو أنه لم يفعل ذلك بنية سيئة.
وبعد ذلك ارتبط روسو بسيدة تدعى مدام دي فاران
M. de Warens
Unknown page