132

Hikmat Gharb

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Genres

وربما كان أعظم مركب للفكر الوسيط هو ذلك الذي نجده في أعمال دانتي (1265-1321م)؛ ففي الوقت الذي كتب فيه الكوميديا الإلهية، كانت العصور الوسطى قد بدأت في الزوال. فنحن نجد لديه نظرة شاملة إلى عالم تجاوز نقطة ذروته، ترتد إلى ذلك الإحياء الأرسطي العظيم عند الأكويني، وإلى صراع جماعتي الجويلف

Guelfs

والجبليني

Ghibellines ، الذي استمر في دول المدن الإنجليزية. ومن الواضح أن دانتي قد قرأ أعمال توما الأكويني، كما كان على إلمام واسع بمظاهر النشاط الثقافي العام في عصره، وبالثقافة الكلاسيكية لليونان والرومان، بقدر ما كانت معرفة هذه الثقافات متاحة في عصره، وتبدو لنا الكوميديا الإلهية رحلة عبر الجحيم والمطهر والجنة، ولكنا نجد خلال هذه الرحلة عرضا شاملا للفكر الوسيط، على صورة استطرادات وإشارات. وقد نفي دانتي من بلدته فلورنسه عام 1302م، عندما استولى الجويلف السود على الحكم خلال الصراع المدني الذي لا ينتهي بين الأطراف المتنافسة. وقد ورد ذكر الكثير من هذه المراعاة السياسية في الكوميديا الإلهية، ومعه عرض لوقائع التاريخ القريب العهد، التي أدت إلى هذه الأحداث، ونظرا إلى أن دانتي كان في تصميمه من أنصار الجبلينيين، فقد كان شديد الإعجاب بالإمبراطور فردريك الثاني، الذي كان بأفقه الرحب وثقافته الواسعة نموذجا مثاليا للإمبراطور كما يريده الشاعر. والواقع أن دانتي واحد من الأسماء الكبرى القليلة في الأدب الغربي. غير أن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي جعله جديرا بالشهرة. الأهم من ذلك أنه صاغ اللغة الشعبية، بحيث جعل منها أداة أدبية عالمية كان في استطاعتها لأول مرة أن تضع معايير تتجاوز اختلافات اللهجة المحلية. وبينما كانت اللاتينية، حتى ذلك الحين، هي وحدها التي تؤدي هذه المهمة، أتدرك الإنجليزية الآن الوسيلة للتعبير بالنسبة إلى العمل الأدبي. ويمكن القول إن الإنجليزية، من حيث هي لغة لم تتغير إلا قليلا جدا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. وترجع البدايات الأولى للشعر في اللغة الإيطالية إلى الشاعر بيترو دلا فنا

وزير الإمبراطور فردريك الثاني. أما دانتي فقد انتقى اللهجة التي بدت له أفضل من بين عدد من اللهجات، وهي لهجته المحلية التوسكانية، وشيد حولها اللغة الأدبية لإيطاليا الحديثة. وفي الوقت ذاته تقريبا تطور اللسان العامي أو الشعبي في فرنسا وألمانيا وإنجلترا. وقد عاش تشوسر بعد دانتي بوقت قصير، غير أن لغة العلم ظلت لاتينية لوقت ليس بالقصير. وكان أول فيلسوف يكتب بلغته المحلية هو ديكارت، وحتى في هذه الحالة لم يكن يكتب بها إلا في مناسبات متفرقة. وأخذت اللاتينية تتدهور بالتدريج حتى اختفت في أوائل القرن التاسع عشر بوصفها وسيطا للتعبير بين المثقفين. ومنذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، أصبحت اللغة الفرنسية تضطلع بمهمة التواصل العالمي في ميدان الثقافة، بينما أخذت الإنجليزية في عصرنا تحل محلها.

كان دانتي في فكره السياسي نصيرا للسلطة الإمبراطورية القوية في وقت كانت فيه الإمبراطورية قد فقدت قدرا كبيرا من نفوذها الواسع. وكانت الدول القومية من أمثال فرنسا وإنجلترا في صعود، على حين أخذت فكرة الإمبراطورية العالمية تتوارى. ونظرا إلى أن نظرة دانتي كانت في عمومتها أقرب إلى العصر الوسيط، فإن هذا التغيير في مركز الثقل السياسي لم يكن في نظره هاما. ولو كان قد أدرك أهميته لكان من الجائز أن تتطور إيطاليا إلى دولة حديثة في وقت أقرب بكثير. وليس معنى ذلك أن التراث القديم لدولة إمبراطورية تضم كل شيء لم تكن له مزايا، وكل ما في الأمر أن العصر لم يعد يلائمه. وكانت نتيجة ذلك أن ظلت نظريات دانتي السياسية منعدمة الأهمية في ميدان السياسة العملية.

وتتضمن الكوميديا الإلهية بعض المشكلات العارضة المتعلقة بوضع القدماء، وهي مشكلات تبدو لنا غير ذات أهمية؛ فهو يرى أن كبار فلاسفة العصور الكلاسيكية القديمة لا ينبغي أن يعدوا مجرد وثنيين يستحقون العذاب الأبدي. ويستحق أرسطو «سيد العارفين» ثناء خاصا. ومع ذلك فمن المؤكد أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا مسيحيين؛ لأنهم لم يغمدوا. وهكذا يبحث دانتي عن حل وسط؛ فالفلاسفة الأقدمون من حيث هم وثنيون يستحقون الجحيم، وهذا بالفعل هو المكان الذي نجدهم فيه. غير أن هناك ركنا خاصا لهم هو أشبه بكهف مبارك وسط مكان كئيب. وهكذا فإن قيود العقيدة الجامدة كانت في ذلك الحين من القوة، بحيث كان الكاتب يشعر بأن تحديد المكان الذي يستحقه كبار الفلاسفة غير المسيحيين في الماضي هو مشكلة حقيقية.

لقد كانت حياة العصور الوسطى برغم مخاوفها وخرافاتها منظمة في جوهرها؛ فالمرء يولد في إطار مركز معين، ويدين بالولاء للسيد الإقطاعي الذي ينتمي إليه. والكيان السياسي مقسم ومرتب بطريقة منسقة إلى مراتب لا يمكن أن يغيرها شيء. وقد عمل مارسيليو وأوكام على هدم هذه التقاليد في ميدان النظرية السياسية. أما عن السلطة الروحية وهي المصدر الأول لتلك المخاوف التي قيدت حرية الناس، فإن تأثيرها بدأ يضمحل بمجرد أن ساد الاعتقاد بإمكان الاستغناء عن العقائد الجامدة. ولا يمكن أن يكون هذا ما قصده أوكام، ولكن من المؤكد أن هذا هو التأثير الذي مارسته تعاليمه فيما بعد على المصلحين، فلقد كان لوثر يكن لأوكام تقديرا يفوق تقديره لأي واحد غيره من المدرسيين، ولكن لا يظهر لدى دانتي أي أثر لهذه التحولات العنيفة. فلم تكن معارضته للبابا مبنية على أي خروج عن الخط الرسمي للكنيسة، وإنما كانت ترجع إلى تدخل الكنيسة في مسائل كانت تدخل في اختصاص الإمبراطور.

ولكن على الرغم من أن سلطة البابا كانت قد تقلصت كثيرا في أيام داشي، فإنه لم يعد في وسع أي إمبراطور ألماني أن يحتفظ بسلطته في إيطاليا، وبعد عام 1359م عندما نقل مقر البابا إلى أفينيون أصبح البابا يكاد يكون أداة في يد ملك فرنسا، وأصبح الخلاف بين البابا والإمبراطور صراعا بين فرنسا وألمانيا، أما إنجلترا فقد انحازت إلى صف الإمبراطورية الألمانية، وعندما أصبح هنري السابع أمير لوكسمبرج إمبراطورا في عام 1308م، بدا وكأن الإمبراطورية قد تستعيد قواها مرة أخرى، وتغنى به دانتي بوصفه منقذا، غير أن نجاح هنري كان ناقصا ووقتيا؛ فبرغم زحفه إلى إيطاليا وتتويجه في روما عام 1312م، عجز عن تأكيد سلطته إزاء نابولي وفلورنسه، ومات في العام التالي، أما دانتي فمات منفيا في رافينا عام 1321م.

ومع نهوض اللغات الشعبية، فقدت الكنيسة قدرا من سيطرتها على الأنشطة العقلية في الفلسفة والعلم، وفي الوقت ذاته حدث تفجر هائل للأدب الدنيوي، بدأ في إيطاليا وانتقل تدريجيا إلى الشمال. وأدى اتساع مجال البحث مصحوبا بقدر من روح الشك، ناتج عن الفجوة بين الإيمان والعقل إلى إبعاد أذهان الناس عن الأمور التي لا تنتمي إلى هذا العالم، وعلمهم أن يحاولوا تحسين أوضاعهم أو تغييرها على الأقل، كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتكشف في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ولكن دانتي لم يتنبأ بها، وإنما كانت عيونه تنظر أساسا إلى الوراء؛ إلى عصر فردريك الثاني، وبينما كان عالم العصور الوسطى يتسم من حيث المبدأ بالمركزية، فإن القوى الجديدة في عصر النهضة اتجهت إلى كسر طوق البناء الموحد للمجتمع الوسيط ، ولكن يبدو أن فكرة الحكم العالمي قد تعود إلى الظهور مرة أخرى في عصرنا هذا، وإن كان ذلك راجعا إلى أسباب مختلفة.

Unknown page