أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره؛ لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك إيسوسي، وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة، فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح؛ أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة.
والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة؛ لأنها تشمل الشريعة الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشئون حياة مصر الاجتماعية، فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل، وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج، وهو بنا أجدر وأخلق.
المقدمة الثانية
في كتاب «حكم فتاحوتب»
أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب: إن واضعه لم يترك بحثا اجتماعيا إلا وطرق بابه، ولم يدع موضوعا أخلاقيا إلا وخاض عبابه؛ فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث، ويصف كل مجادل، ويشرح ما ينبغي في حقه؛ كالإذعان لذي الحجة، أو الرد عليه بالتي هي أحسن، أو الإعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه، وتدعو إليه حاله، إذ هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام، وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم، ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصرا على تلك المسائل التهذيبية، بل تناول أهم المسائل الاجتماعية؛ فشرح ما يليق بالرجل نحو المرأة، وما يجب في حق الوالد على الولد، وأفاض في وصف معاملة الخدم، وأمر بالإحسان إليهم، والعطف عليهم، وذكر حقوق الأجراء والعمال على أرباب المال والأعمال.
وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعارا لمبدئه في الأخلاق، فلا نختار لذلك أفضل من قوله: «كن محبا للخير والناس تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.» ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة، وهو حب الخير لذاته؛ وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير، والتأدب في الحديث، والاعتدال في العيش، والإحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة.
وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان: «إنك إذا أطعت آباءك في صغرك، وولي أمرك في كبرك، وأحسنت السياسة في رئاستك، وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك، واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله؛ فإنك تنال رضى الملوك، وتبلغ أسمى الدرجات، وتكون لدى الله من المقربين.» ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعل الشر هو رادع مادي محض، أو هو من قبيل «اعمل تؤجر». وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي، وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير؛ لا لأنه أفضل منه، بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل؛ فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع، وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها؛ فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.
وقد يأخذ بعض النقاد على الحكيم فتاحوتب إغفاله ذكر أمور شتى؛ كالرفق بالحيوان، فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن، مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأمة المصرية، التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها، وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة، وانتحلت لذلك أسبابا وأعذارا شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب - واضع هذا الكتاب - على سطور منقوشة مؤداها: أنه كان يستدعي في كل صباح قردا وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها؛ إشفاقا منه عليها،
1
ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلا داحضا على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.
Unknown page