وبمعنى آخر: فإن فكرة خلق حواء من ضلع الرجل مثلا ترد منحدرة من التراث السومري اللاسامي، متبدية في التراث السامي عند الورثة البابليين والحيثيين، منتقلة إلى الكنعانيين الفينيقيين، متبدية في أسطورة الإله «موت» السورية الكنعانية.
فكان أن نقلها العبريون إلى أسطورة الخلق أو سفر التكوين، وكذلك طوف بها الكنعانيون وطليعتهم البحارة الفينيقيون إلى الحضارة الإيجية، ومنها دخلت هذه الجزئية إلى التراث الهيليني اليوناني، ثم الروماني - فيما بعد - ثم اللاتيني في العهد المتأخر.
وبشكل مجمل يمكن القول بأن أسفار التكوين الأحد عشر الأولى تنتمي بكاملها إلى الميثولوجيا الكنعانية المتوارثة مباشرة من الحيثيين والبابليين.
ومن هذه الأفكار: خلق العالم، وتوحد الخالق بالماء، وإقدامه على خلق العالم عن طريق رسله الثلاثة، ثم فكرة خلق الإنسان الأول «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله»، وهو ما تتميز به أساطير الخلق السامية على تراث العالم أجمع، ومنها خلق المرأة من ضلع الرجل وتوحدها بالحية التي توحدت بدورها بالشيطان، ثم الخطيئة الأولى، وكذلك تمشي الإله في الجنة عند هبوب الريح كقرين للريح، وعري آدم عقب الخطيئة، وعقاب الإله للخطاة الثلاثة: آدم وحواء والحية الذين حسدهم إبليس أو الشر وأضلهم، فكان أن طردوا من الجنة إلى الجحيم - الأرض - وكان أن دخل الموت إلى العالم «فإن الله خلق الإنسان خالدا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم»، وما توالى بعد هذا من عقاب للمرأة، مثل إدماء حواء الشهري (الحيض) وتسود الرجل عليها، «تكثيرا أكثر أتعاب حملك وبالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك».
وكان أن قهرت المرأة وسلب سلطانها خلال توالي هذا التراث الأبوي البطرقي، الذي سود أول ما سود الرجل الذكر على المرأة الأنثى، وألحق بها وزر الخطيئة الأولى، «فمن المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت جميعا»، ثم يعقب هذا سلسلة الأنساب المفقودة أو المفتقدة لحين مولد الجبابرة أو العماليق أو النماردة ملوك بابل والشام، فمن المعتقد أن أولئك الجبابرة البائدين أو المندثرين هم بذاتهم الذين حاربهم العرب والعبريون على السواء.
ومن المفيد التعرض بتفصيل قليل لهذا التراث.
فلقد أصبحت أفكار القسمة والنصيب - وما يستتبعهما من قدرية ودهرية ووعيدية - بمثابة الملمح الأول لتراثنا العربي، ويعني هذا أنه أصبح في مقدور أي باحث أو جامع في أي منطقة من العالم الرجوع بأي فكرة أو عبارة تعترضه عن النصيب والقدرية إلى موطنها الأصلي الأم، وهذا الموطن الأم هو التراث العربي، الذي أصبحت مثل هذه الأفكار حقيقته الأولى، والملمح الجوهري لتراثه.
بل إن أغلب تصوراتنا عن الحية والعفاريت وأم الشعور والنداهات والهواتف والرؤى؛ منحدرة عن أصول سومرية، منها سكنى العفاريت الخرائب التي كشف عنها النص السومري المعروف ب «جلجاميش وأنكيدو وشجرة الصفصافة»، ومنها أغلب الطلاسم والرقى والتعاويذ والمنفرات التي تستعمل لطرد الأوبئة، مثل: الحمى ولدغ العقارب والحيات، كما أن من هذه المنفرات ما كان الغرض منه اتقاء الحسد وشرور العين والنفس؛ أي النفس الخالق، ذلك المحيي المميت الذي وهب الإله به الإنسان فأحسن تكوينه، حين نفخ من حلقه فخرج من دبره، وهو ذاته النفس القاتل المميت، ويوصف المريض والمعلول بأنه «منفوس». كما قد يقولون: عائن وعيون، وهو ما تبدى عن السومريين في أحد النصوص التي تدور حول عشتروت وابنها الإله الممزق تموزي، الذي أردته قتيلا حين «أسلطت عليه نظرة الموت»، وهو ما تبدى في التلمود الأورشليمي في عين الإلهة الحاسدة العقيم سارة، حين سلطتها على إسماعيل «أبو العرب» العدنانيين، فكادت أن ترديه قتيلا.
بل إن أغلب مفاهيمنا الجماعية عن أبواب جهنم السبعة، وكذا السموات السبع، ومنه تعبير السماء السابعة المتواترة إلى اليوم، ثم فكرة خلق الإنسان من طين أو صلصال لازب، وارتباط المصير الإنساني بالولادة كما جاءت به أسطورة خلق الإنسان الأول.
ولعلني في هذه الإلمامة حول المنابع والأصول الأولى لتراثنا العربي السامي، سأحاول التوقف عند السمات المميزة التي تسهم في تحديد أكبر قدر من التميز لهذا التراث السامي، مثل: أسطورة الخلق، وخلق حواء من الضلع السادس للرجل؛ نظرا لصداها داخل رقعة الفولكلور العربي، وأخصه الحكايات الخرافية المنقصة في كل حالاتها للمرأة.
Unknown page