قال هذا وتقدم نحوي فوضع فمه على أذني، وقال لي: «ها هنا رجل غريب في أطواره يدعي معرفة كل شيء، وهو يجهل القراءة والكتابة، وما أحاديثه وتدخله في كل موضوع إلا فكاهة لمن يسمع، فانتبه قليلا؛ فإني سأثير ثائر أخلاقه، وأجعله يدخل موضوعا غريبا، مؤكدا أنك ستنشق من الضحك.»
وصاح صديقي الذي استأنست به كثيرا بالخادم، طالبا فنجاني قهوة لي وله، وكنت فعلا قد انتبهت وطار من عيني كل أثر للنعاس، أما صديقي فدخل في حديث القوم قائلا: «بأي شيء تتحدثون؟»، فأجابه إلياس شدراوي: «كان الحديث عندما دخلت عن الحكومة الإنكليزية في مصر و«داعيك» كنت أحكي لهم عما اختبرته بنفسي في ذلك القطر بعد حادثة عرابي؛ فإن الإنكليز استعملوا الشدة الهائلة فيه حتى استطاعوا أن يجعلوه جنة عدن.»
ومن الغرائب أن هذا الرجل كان يحكي بلغة سوريا عندما ابتدأ قبل أن نعست؛ لأن الكلام كان عن سوريا، وأما الآن فلما صار الكلام عن مصر صار يتكلم بلغة المصريين ولهجتهم؛ ولهذا أنصت إلى حديثه أيما إنصات لأعرف كيف ينتهي وبأية اللغات، زد على ذلك ما أخبرني عنه صديقي من أنه آية من آيات الدهر بالتحشر في كل شأن وموضوع.
أما خطابه فكان طويلا جدا، وقد لذ لي تعرجات حديثه؛ فطورا كان يلم بسياسة مصر فينتهي بالفراعنة القدماء ، وطورا يتجه نحو الاحتلال الإنكليزي فيذيله بحادثة مكتبة الإسكندرية على عهد عمر بن الخطاب، وكل ذلك بلغة المصريين ولهجتهم كأنه خلق في مصر وجاء منها في ذلك اليوم. ولا أطيل على القارئ فأذكر كل ما سمعت مما كان يضحك كثيرا، بل أقتصر على آخر حكاية أوردها المذكور قال: «في مصر يدفع كل محكوم عليه بالشنق جنيها مصريا ثمن الحبل، ولا قوة تحت الشمس تخلصه من هذه الضريبة.»
ضريبة ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن إلياس شدراوي يحكي للقوم اختباراته في تلك البلاد، وأنا ككل من كان حاضرا تنسمت هواء مصر وأنا في الباخرة، عندما رست في مياه الإسكندرية أثناء قدومي إلى هذه البلاد؛ ولهذا سكت متعجبا إلا أن أحد القوم لم تهضم معدته هذه القصة، فسأل المتكلم بملء العجب وقال: «ولكن إذا لم يكن مع المحكوم عليه ثمن الحبل فماذا يصنعون به؟»، أما إلياس شدراوي فأجابه في الحال بلغة أهل مصر: «لا يشنقوهوش.»
ولا تسل أيها القارئ كيف انتهت الجلسة؛ فإن الضحك كاد يحدث شللا في أحناك كل سامع، ومن الجملة أنا وصديقي، ولما أفقت وأفاقوا وضعت يدي على رأسي كمن كان في عالم الغيبوبة، وقلت لصديقي أن يأذن لي بالانصراف إلى النزل، فرافقني إليه وعلى الطريق أخبرته أن أول ما سمعت إلياس شدراوي في أول التئام الجلسة كان قوله عن جهل السوريين الفاضح بما يعتقدون وجوده في أميركا، وأنه كان يبرهن لسامعيه أن الغربة هي التي أنارت بصائر البعض منهم، وكيف انتهى في ذكر حكايته الأخيرة، مدعيا أنها من اختباراته الشخصية.
قلت هذا وودعت الصديق صاعدا سلم النزل، أما هو فأجابني: «نشكر الله أن حكايته كانت من اختباره الشخصي، فلو أنها بالسمع كما يسمع السوريون في سوريا عن أمجاد أميركا ويبالغون فيها لكان المحكوم عليه بالإعدام في مصر يشنق الخديوي مكانه إذا أبى دفع ثمن الحبل.»
في الدرجة الثانية
كثيرون من الناس لا يعرفون لماذا عيسى الباشق لم ينجح في هذه البلاد مع أنه هاجر سوريا وهو في التاسعة عشرة من عمره، شاب قوي الإرادة جميل الطلعة، ذكي الخاطر متوقد الذهن، يحسن ثلاث لغات قراءة وكتابة، وقد كان الأول من بني جنسه الذين وصلوا إلى أميركا بالدرجة الثالثة من البواخر، أما هو فقد ركب الدرجة الثانية ولبس البرنيطة منذ ودع أهله في بيروت إلى الباخرة.
والحق أن نيويورك شاهدت بعيسى الباشق أول شاب سوري عليه مسحة التمدن الظاهري، وفيه كنه الأدب الداخلي، ولكنه - يا للأسف - هو اليوم ابن خمسين سنة ولا يزال في الحالة التي قدم بها من بلاده منذ ثلاثين سنة ونيف.
Unknown page