حليم رمانة من شباب حارتنا العاملين في نقش الأواني النحاسية، يغيب فجأة عن الدكان بلا اعتذار، ويرى هائما على وجهه في الساحة أمام التكية، لا يعرف أحدا ولا يعرف نفسه، وسمعت أمه بالخبر، فمضت إليه ولكنه لم يعرفها، نادته باسمه فبدا وكأنه يسمعه لأول مرة، إنه غريب تماما، وكأنما ولد لساعته.
واتجهت الظنون إلى المخدرات ولكن ذهوله طال، تجاوز اليوم، ويوما بعد اليوم، ثم استقر كحال جديدة ثابتة، أصبح رمانة وعاء خاليا من الذكريات والعلاقات البشرية، أصبح جثة غير هامدة، وقيل - كالعادة في حارتنا - إنه ممسوس، وعولج بوصفات شتى من الطب الشعبي المناسب، كالبخور وزيارة الأضرحة والزار، ولكنه لم يبرأ فسلم الأمر فيه إلى الرحمن. •••
وذات صباح تقرأ أمه في عينيه نظرة جديدة، نظرة متألقة تعكس شخصية غائبة كأنما هي ترجع فجأة من سفر طويل، يخفق قلب الأم بالأمل وتهتف: رمانة!
فينظر رمانة إلى شعاع الشمس الهابط من نافذة البدروم ويقول بجزع: تأخرت عن الدكان.
ويمضي مسرعا إلى الدكان وأمه تجهش في البكاء.
ويقبل على معلمه قائلا: غلبني النوم فمعذرة يا معلم.
ويرمقه الرجل في صمت وارتياب، ولكنه يتركه يزاول عمله وهو يحدس بفراسة صادقة ما طرأ على الشاب، وينظر رمانة فيما حوله باهتمام، ولما لا يجد ما يبحث عنه يسأل: أين بيومي؟
بيومي صديقه وقرين طفولته، توقع أن يراه كالعادة قبالته، ولكنه لا يوجد، ولا يريد أحد أن يعير سؤاله عنه اهتماما. •••
ويعلم رمانة رويدا أنه غاب عن الوجود أشهرا كاملة، يتلقى هذه الحقيقة بنعومة وأناة، ومع ذلك لا يدري كيف يهضمها، ويعود للسؤال عن صديقه بيومي فيقال له: البقية في حياتك!
فيصرخ: بيومي مات! - بل شنق! - شنق؟! - اتهم بقتل زينب بياعة الحلي الزجاجية!
Unknown page