الحكاية رقم «1»
الحكاية رقم «2»
الحكاية رقم «3»
الحكاية رقم «4»
الحكاية رقم «5»
الحكاية رقم «6»
الحكاية رقم «7»
الحكاية رقم «8»
الحكاية رقم «9»
الحكاية رقم «10»
الحكاية رقم «11»
الحكاية رقم «12»
الحكاية رقم «13»
الحكاية رقم «14»
الحكاية رقم «15»
الحكاية رقم «16»
الحكاية رقم «17»
الحكاية رقم «18»
الحكاية رقم «19»
الحكاية رقم «20»
الحكاية رقم «21»
الحكاية رقم «22»
الحكاية رقم «23»
الحكاية رقم «24»
الحكاية رقم «25»
الحكاية رقم «26»
الحكاية رقم «27»
الحكاية رقم «28»
الحكاية رقم «29»
الحكاية رقم «30»
الحكاية رقم «31»
الحكاية رقم «32»
الحكاية رقم «33»
الحكاية رقم «34»
الحكاية رقم «35»
الحكاية رقم «36»
الحكاية رقم «37»
الحكاية رقم «38»
الحكاية رقم «39»
الحكاية رقم «40»
الحكاية رقم «41»
الحكاية رقم «42»
الحكاية رقم «43»
الحكاية رقم «44»
الحكاية رقم «45»
الحكاية رقم «46»
الحكاية رقم «47»
الحكاية رقم «48»
الحكاية رقم «49»
الحكاية رقم «50»
الحكاية رقم «51»
الحكاية رقم «52»
الحكاية رقم «53»
الحكاية رقم «55»
الحكاية رقم «54»
الحكاية رقم «56»
الحكاية رقم «57»
الحكاية رقم «58»
الحكاية رقم «59»
الحكاية رقم «60»
الحكاية رقم «61»
الحكاية رقم «62»
الحكاية رقم «63»
الحكاية رقم «64»
الحكاية رقم «65»
الحكاية رقم «66»
الحكاية رقم «67»
الحكاية رقم «68»
الحكاية رقم «69»
الحكاية رقم «70»
الحكاية رقم «71»
الحكاية رقم «72»
الحكاية رقم «73»
الحكاية رقم «74»
الحكاية رقم «75»
الحكاية رقم «76»
الحكاية رقم «77»
الحكاية رقم «78»
الحكاية رقم «1»
الحكاية رقم «2»
الحكاية رقم «3»
الحكاية رقم «4»
الحكاية رقم «5»
الحكاية رقم «6»
الحكاية رقم «7»
الحكاية رقم «8»
الحكاية رقم «9»
الحكاية رقم «10»
الحكاية رقم «11»
الحكاية رقم «12»
الحكاية رقم «13»
الحكاية رقم «14»
الحكاية رقم «15»
الحكاية رقم «16»
الحكاية رقم «17»
الحكاية رقم «18»
الحكاية رقم «19»
الحكاية رقم «20»
الحكاية رقم «21»
الحكاية رقم «22»
الحكاية رقم «23»
الحكاية رقم «24»
الحكاية رقم «25»
الحكاية رقم «26»
الحكاية رقم «27»
الحكاية رقم «28»
الحكاية رقم «29»
الحكاية رقم «30»
الحكاية رقم «31»
الحكاية رقم «32»
الحكاية رقم «33»
الحكاية رقم «34»
الحكاية رقم «35»
الحكاية رقم «36»
الحكاية رقم «37»
الحكاية رقم «38»
الحكاية رقم «39»
الحكاية رقم «40»
الحكاية رقم «41»
الحكاية رقم «42»
الحكاية رقم «43»
الحكاية رقم «44»
الحكاية رقم «45»
الحكاية رقم «46»
الحكاية رقم «47»
الحكاية رقم «48»
الحكاية رقم «49»
الحكاية رقم «50»
الحكاية رقم «51»
الحكاية رقم «52»
الحكاية رقم «53»
الحكاية رقم «55»
الحكاية رقم «54»
الحكاية رقم «56»
الحكاية رقم «57»
الحكاية رقم «58»
الحكاية رقم «59»
الحكاية رقم «60»
الحكاية رقم «61»
الحكاية رقم «62»
الحكاية رقم «63»
الحكاية رقم «64»
الحكاية رقم «65»
الحكاية رقم «66»
الحكاية رقم «67»
الحكاية رقم «68»
الحكاية رقم «69»
الحكاية رقم «70»
الحكاية رقم «71»
الحكاية رقم «72»
الحكاية رقم «73»
الحكاية رقم «74»
الحكاية رقم «75»
الحكاية رقم «76»
الحكاية رقم «77»
الحكاية رقم «78»
حكايات حارتنا
حكايات حارتنا
تأليف
نجيب محفوظ
الحكاية رقم «1»
يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية. ومثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية، أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا، وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة، وها هي التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة، والنوافذ مغلقة، فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر.
وأحيانا يلوح في الحديقة ذو لحية مرسلة، وعباءة فضفاضة، وطاقية مزركشة، فنهتف كلنا: «يا درويش .. إن شاالله تعيش.»
ولكنه يمضي متأملا الأرض المعشوشبة، أو يتمهل عند جدول ماء، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلي. - من هؤلاء الرجال يا أبي؟ - إنهم رجال الله.
ثم بنبرة ذات معنى: ملعون من يكدر صفوهم!
ولكن قلبي مولع بالتوت وحده.
وينهكني اللعب ذات يوم، فأجلس على الأرض لأستريح ثم أغفو. أستيقظ فأجدني وحيدا في الساحة، حتى الشمس توارت وراء السور العتيق، ونسائم الربيع تهبط مشبعة بأنفاس الأصيل. علي أن أمرق من القبو إلى الحارة قبل أن يدلهم الظلام. وأنهض متوثبا، ولكن إحساسا خفيا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أهيم في مجال جاذبية لطيف، وأن ثمة نظرة رحيبة تستقر على قلبي، فأنظر ناحية التكية. هناك تحت شجرة التوت الوسيطة يقف رجل. درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبل. طاعن في الكبر، مديد في الطول، وجهه بحيرة من نور مشع. عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء، وفخامته فوق كل تصور وخيال. ومن شدة حملقتي فيه أثمل بنوره، فيملأ منظره الكون، وخاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان وولي الأمر، وإنه ودود بخلاف الآخرين. أقترب من السور ثم أقول بابتهال: إني أحب التوت.
فلم ينبس ولم يتحرك، فأتوهم أنه لم يسمعني، أكرر بصوت أعمق: إني أحب التوت!
يخيل إلي أنه يشملني بنظرة، وصوته الرخيم يقول: «بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد .»
ويخيل إلي أنه رمى إلي بثمرة، فأنحني نحو الأرض لألتقطها، فلا أعثر على شيء، ثم أستقيم فأجد مكانه خاليا، والظلمة تغشى الباب الداخلي.
وأقص القصة على أبي فيرمقني بارتياب، فأؤكدها له فيقول: تلك الأوصاف لا تكون إلا للشيخ الكبير، ولكنه لا يغادر خلوته!
فأحلف له على صدقي بكل مقدس، فيسألني: ترى ما معنى الرطانة التي حفظتها؟ - سمعتها مرارا ضمن تراتيل التكية.
فيصمت أبي مليا ثم يقول: لا تخبر بذلك أحدا.
ويبسط يديه ثم يتلو الصمدية.
وأهرع إلى الساحة فأتخلف وحدي بعد ذهاب الصبيان، أنتظر ظهور الشيخ فلا يظهر، أهتف بصوتي الرفيع: «بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.»
فلا يجيب، أعاني بلاء الانتظار وهو لا يرحم لهفتي.
وأتذكر الحادثة في زمن متأخر، أتساءل عن حقيقتها، هل رأيت الشيخ حقا أو ادعيت ذلك استوهابا للأهمية ثم صدقت نفسي؟ هل توهمت ما لا وجود له من أثر النوم ولكثرة ما يقال في بيتنا عن الشيخ الكبير؟ هكذا أفكر، وإلا فلماذا لم يظهر الشيخ مرة أخرى؟ ولماذا يجمع الناس على أنه لا يغادر خلوته؟ هكذا خلقت أسطورة وهكذا بددتها. غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت في أعماق نفسي، كذكرى مفعمة بالعذوبة. كما أنني ما زلت مولعا بالتوت.
الحكاية رقم «2»
شمس الضحى تسطع والسماء صافية، من موقفي فوق السطح أرى المآذن والقباب، وأرى غرابا واقفا على وتد مغروز في سور السطح، مربوط به حبل الغسيل، أرمق السطح الملاصق فيتحلب ريقي. تحدثني نفسي بأن أذهب إلى ست أم زكي، لأحظى بشيء من الحلوى. وأعبر السور. أمضي نحو المنور، أطل من نافذة فيه مخلوعة الزجاج، أرى تحت المنور مباشرة ست أم زكي عارية تماما، تجلس على كنبة تتشمس، تمشط شعرها، عارية تماما .. منظرها غريب وباهر! وهي في ضخامة بقرة، وأهتف: يا تيزة!
ترتعب، تنظر إلى فوق، لا تلبث أن تضحك، تصيح بي: يا عكروت .. انزل!
أهبط بسرعة ثم أقف عند الباب بحذر مبهم وأتساءل: أدخل؟
وتسمح فأدخل، أقترب من مجلسها فترمقني بنظرة باسمة وتقول: وقعت يا بطل!
وتستلقي على بطنها وتقول: دلك لي ظهري.
أشمر عن ساعدي، أدلك ظهرها بحماس ورضا، أشم رائحة جسد بشري معبق بالصابون والقرنفل، وهي تتمتم: تسلم يداك!
ثم بمزاح: أنت عفريت من الجنة!
ثم وهي تضحك: الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح.
ويزداد حماسي في العمل، فتقول: ارفع يدك لفوق يا شيطان، هل ستخبر أمك؟ - كلا.
فتضحك وتقول: وعارف أيضا أنه يوجد ما لا يقال، حقيقة إنك شيطان، هل تعلمت التدليك في الكتاب؟ ماذا تدرس في الكتاب؟ - الفاتحة وألف باء. - ربنا يحفظك وأشوفك ماشطة، ماذا ستأكل اليوم؟ - بامية. - عظيم سأتغدى عندكم.
زياراتها لبيتنا ندوات للبهجة والمرح، تنثال الملح من فيها بلا حساب، وكذلك النكات المكشوفة، فتحاول أمي أن تبعدني ولكني أرجع، وتشير لها إشارات خفية محذرة، فأتشبث بالبقاء وتتمادى هي في الدعابة، وتسألها أمي معاتبة: متى تصلين وتصومين؟
فتجيب: في آخر شهر قبل يوم القيامة.
في الخمسين، مهذارة مرحة طروب، ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجارا في حارتنا فسار بين الناس مرفوع الرأس، وهي تدمن التدخين والقهوة وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، في كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا الحافلة بالمشاحنات. •••
وتتنهد أمي ذات يوم وتقول: مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاك ويشفيك!
تتوعك صحتها، وتأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثقبت، يترهل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، وتخيب في شفائها كافة الوصفات، وتفتي حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضا من الأمراض المعروفة، ولكنه فعل من أفعال «الأسياد» وألا شفاء لها إلا بالزار، ويجيء اليوم المشهود، فيكتظ بيت جارتنا بالنساء، ويعبق بالبخور، وتتسلط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهن الغموض والأسرار، وأطل برأسي من المنور فأرى صديقتي في مشهد جديد، تجلس على عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، متوجة الرأس بتاج من العاج، تتدلى منه عناقيد الخرز مختلف الألوان، منقوعة القدمين في وعاء من ماء الورد، تستقر في قعره حبات من البن الأخضر. وتدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج القاعة بالحركات، وتتوهج بالتأوهات، وتذوب الأجساد في الأرواح، وها هي أم زكي تتلوى بعنف، كأنما ردت إلى جنون الشباب، وعن فيها المزين بالأسنان المذهبة يصدر صفير حاد، ثم تركض دائرة حول العرش، ويتحول ركضها إلى اندفاع رهيب، وتدور حتى تترنح من الإعياء وتتهاوى مغشيا عليها.
وجلجلت زغرودة وارتفع صوت مبتهلا: ليشهدنا خاتم الرسل الكرام. •••
وها هي الأيام تمر.
وصحة صديقتي لا تتحسن.
لا تمزح الآن ولا تضحك، وتتساءل في جزع: ماذا جرى لي؟ .. ماذا جرى لي يا رب؟! أين أنت يا أم زكي؟!
ويضطر المعلم زكي أخيرا إلى نقلها إلى قصر العيني. وتودع عيناي الدامعتان الكارو وهي تتأرجح بها. وتلمحني واقفا فتلوح لي بيدها وتقول: ادع لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار.
فأرفع عيني إلى السماء وأتمتم: «يا رب .. رجع لنا تيزة أم زكي.»
ولكن كأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق الواق.
الحكاية رقم «3»
اليوم جميل ولكنه يعبق بسر.
أبي ينظر إلي باهتمام يبتسم لي برقة وهو يحتسي قهوته. وهو يهم بالذهاب يداعب شعري ويربت على منكبي بحنان ثم يمضي.
وأمي تقوم بعملها اليومي بعصبية، تغضي عن عبثي وتقول لي مشجعة: العب يا حبيبي.
لا نظرات تهديد ولا زجر ولا وعيد!
وأصعد إلى السطح بعض الوقت، ولما أرجع أجد أمامي جارتنا الشامية أم برهوم. أعدو إلى المطبخ لأخبر أمي، ولكني لم أجدها، وأنادي عليها بلا جدوى، فتقول لي أم برهوم: نينتك ذهبت في مشوار، وأنا معك حتى ترجع!
فأقول محتجا: ولكني أريد أن ألعب في الحارة. - وتتركني وحدي وأنا ضيفتك؟
وأصبر متضايقا.
ويدق الباب فتومئ لي بالانتظار وتذهب، تغيب دقيقة وإذا بعم حسن الحلاق ومساعده يدخلان باسمين، فقلت لهما من فوري: أبي خرج!
فقال العجوز: نحن ضيوف! سنريك لعبة فريدة.
وجلس على كنبة وهو يبسمل، ثم قال وهو يخرج من حقيبته أدوات بيضاء لامعة: يسرك بلا شك أن تتعلم كيف تستعمل هذه الأدوات.
وأهرع نحوه متملصا من ارتباكي!
ويجيء مساعده بمقعد فيجلسني عليه أمام المعلم قائلا: هكذا أفضل.
وإذا بيديه تكبلانني من الذراعين والساقين بقوة وإحكام، فكأنها ألصقت بالغراء والمسامير، فصرخت غاضبا: ابعد عني.
واستغثت بأم برهوم ولكنها كانت فص ملح وذاب!
ولم أفهم شيئا مما يحدث حتى بدأت العملية الرهيبة، ها أنا أعاني هجمة وحشية طاغية لا أستطيع لها دفعا ولا منها مفرا، وها هو الألم الحاد القاسي ينشب أظافره الشوكية في لحمي وينساب بمكر شيطاني إلى أطراف جسمي وصميم قلبي، وها هو صراخي يدك الجدران ويجتاح أرجاء حارتنا. •••
لا أدري ماذا يدور مدة من الزمن، أغوص في الماء بين اليقظة والنوم، تمر بي أجيال من الألوان والمخاوف والأحزان.
وعند نقطة من الزمن، تلوح لي أمي بوجه يرنو بالاعتذار والتشجيع.
وقبل أن أفتح فمي محتجا أو متهما تضع بين يدي هدايا الشيكولاتة والملبس.
وأعيش أياما بين ذكريات أليمة، وكنوز من الحلوى بألوانها البهيجة .. ويمتلئ البيت بالإخوة والأخوات.
وأنتقل من مكان إلى مكان مفرجا بين فخذي، مبعدا بيدي الجلباب عن جسدي.
الحكاية رقم «4»
وأنا ماض نحو القبو، ينفتح باب بيت القيرواني تاجر الدقيق، وتبرز منه بناته الثلاث. منبع نور يتدفق فيبهر القلب والبصر، بيضاوات ملونات الشعر والأعين، سافرات الوجوه، ينفثن ملاحة نقية، الدوكار ينتظرهن، فأتسمر أنا بين الدوكار وبينهن. ويرين ذهولي فتضحك وسطاهن، وهي أشدهن امتلاء، وأغلظهن شفة، وتقول: ما له يسد الطريق!
لا أتحرك فتخاطبني مداعبة: أفق يا أنت!
وأقول متأثرا بدفقة حياة مبهمة: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.
فيغرقن في الضحك وتقول الكبرى: إنه درويش.
فتقول الوسطى: إنه مجنون!
وألقي بنفسي في ظلمة القبو، فأمضي مهرولا حتى أخرج إلى نور الساحة أمام التكية، وفي رأسي حماس، وفي قلبي نذير نشوة البراعم قبل أن تتفتح.
صورهن الباهرة مستكنة في متحف الأعماق.
بذور حب لم يتح لها أن تنمو؛ لأنها غرست قبل أوانها.
الحكاية رقم «5»
اليوم سعيد.
سأذهب في صحبة أمي إلى زيارة حرم المأمور.
هطلت الأمطار في الصباح الباكر، ولكن الجو رق وصفا عند الضحى، وأشرقت الشمس، المياه تغمر فجوات الطريق، وتخدد جوانبه، ولكنني سعيد بزيارة حرم المأمور.
امرأة عملاقة، سمراء دكناء، في نقرة ذقنها وشم، ونبرتها ريفية غريبة، وضحكتها عالية، وقطتها غزيرة الشعر، نقية البياض، ودائما تسبح بذكر الله.
وتعانق أمي مرحبة وأنا أنتظر، تلتفت نحوي ضاحكة وهي تعبث بشعر رأسي، ترفعني بين يديها فأرتفع فوق الأرض عاليا، تضمني إلى صدرها فأغوص في أعماق طرية، وأشعر ببطنها مثل حشية وثيرة ينبعث منها إلى جوارحي دفء مؤثر.
أسير وراءهما وأنا أسوي ما تشعث من شعري وملابسي، ولما أفق من نفحة الدفء.
وتقول لأمي: بت أومن بأن القبو مسكون بالعفاريت.
فتبسمل أمي، فتقول الأخرى: إنهم يخرجون عقب منتصف الليل.
فتقول لها أمي محذرة: إياك وأن تنظري من النافذة.
وألاعب أنا القطة حتى تتوارى تحت الكنبة، أنظر إلى رأس ثور مثبت في الجدار فوق سيفين متقاطعين، متمنيا الوصول إليه. المضيفة تقدم لي قطعة هريسة فأتناولها. أمني النفس بحضن دافئ آخر عند انتهاء الزيارة.
ويطول الحديث ويتشعب.
وتشعل المرأة المصباح الغازي المدلى من السقف.
تدور حول المصباح فراشة.
أتساءل متى تجيء لحظة الوداع الواعدة بالدفء؟
الحكاية رقم «6»
على حصيرة واحدة نقعد صبيانا وبنات في الكتاب، نتلو الآيات بصوت واحد، ولا تفرق مقرعة سيدنا بين قدم صبي وقدم بنت. وقت الغداء يتربع كل منا مستقبلا الجدار بوجهه، يفك الصرة ويفرش منديله، كاشفا عن الرغيف والجبن والحلاوة الطحينية.
تسترق عيناي النظر إلى درويشة وهي تقرأ أو تأكل.
في الطريق أتبعها حتى تميل إلى الزقاق المسدود، ثم أسير إلى بيتي حاملا لوحي وصورتها.
وفي موسم القرافة، أضيق بالمكوث في الحوش فأمرق إلى الخارج، فنتلاقى - أنا ودرويشة - بين القبور المكشوفة بلا تدبير.
وأشطر فطيرتي فأعطيها النصف، نأكل ونتبادل النظر. - أين تلعبين؟ - في الزقاق.
هي تلعب في الزقاق المتفرع من الحارة، وأنا لا أجرؤ على التسلل إليه في النهار، يمنعني إحساس خفي ولكنه غير بريء، ونتواعد بالنظر وبلا كلام، ومع المساء أدخل الزقاق فأجدها واقفة على عتبة الباب.
نقف شبحين صامتين يكتنفنا الذنب والظلام. - نجلس؟
ولكنها لا تجيب.
أجلس على العتبة وأشدها من يدها فتجلس، أتزحزح حتى نتلاصق، يغمرني شعور بسرور غريب ذي أسرار، أمد يدي إلى ذقنها فأدير وجهها إلي، أميل نحوها فأقبلها، أحيط خاصرتها بذراعي. أصمت وأهيم وأذوب في دفقة إحساس مبهمة، فأعرف السكر قبل الخمر.
وننسى الوقت والخوف.
وننسى الأهل والحارة.
حتى الأشباح لا تفرقنا.
الحكاية رقم «7»
في ليالي الصيف نسهر فوق السطح، نفرش الحصيرة والشلت، نستضيء بأنوار النجوم أو القمر، تلعب من حولنا القطط، يؤنسنا نقيق الدجاج، وتنضم إلينا في بعض الأحيان أسرة جارنا الحاج بشير، وهي أسرة شامية مكونة من أم وثلاث بنات، كبراهن في العاشرة، يحلو لهن في أوقات السرور أن يغنين معا أغنيات جبلية، فأتابع بشغف يقارب شغفي بالبشرة البيضاء، والأعين الملونة، أهيم بالأم وبناتها، وألح في طلب السماع، ويستخفني الطرب، فأشارك في الغناء، وأحرز في ذلك نجاحا وإعجابا، حتى تقول جارتنا: ما أحلى صوتك يا ولد!
وأجد في مجتمع الليل فرصة للكشف عن موهبتي الصوتية، كما يجد فيه قلبي الصغير نشوته في حضرة البهاء الأنثوي، ويصبح الغناء هوايتي، وسماع أسطوانات المهدية قرة عيني، أما أغنيات الجبل فينشدها قلبي وحنجرتي معا.
وتقول جارتنا لأمي ذات يوم: الولد له صوت جميل.
فتقول أمي بسرور: حقا؟ - لا يجوز إهماله! - فليغن كيف شاء، فهو أفضل من العفرتة. - ألا تودين أن يكون ابنك مطربا؟
فتؤخذ أمي ولا تجيب، فتواصل الجارة: ما له سي أنور وسي عبد اللطيف؟ - إني أحلم أن أراه يوما موظفا مثل أبيه وإخوته. - المغني يربح أكثر من مصلحة حكومية.
وأصغي باهتمام وأنا جالس على حجر الجارة مزهوا بالدفء والمجد. •••
ولا تدوم أيام السعادة والفن طويلا، فذات يوم أرى أمي تهز رأسها بأسف وتتمتم: يا للخسارة!
فأسألها عما يؤسفها، فتقول: جيراننا الطيبون راحلون إلى بر الشام.
ينقبض قلبي بالرغم من أنني لا أحيط بأبعاد الخسارة وأسأل: أهو بعيد؟
فتجيب بحزن: أبعد مما نستطيع أن نبلغه.
أود من صميم قلبي أن أغير الواقع، أن أرجع الزمن إلى أمس، ولكن كيف؟
وأودعهم للمرة الأخيرة وهم يستقلون الحانطور، وأقبل يد الحاج بشير، وأتبع الحانطور نظري حتى يخفيه منعطف النحاسين. وأبكي طويلا وأعاني مذاق الفراق والكآبة والدنيا الخالية.
الحكاية رقم «8»
مراسم القرافة تعد من أسعد أيامي البهيجة.
نشرع في الاستعداد لها مع العشي بإعداد الفطير والتمر، وفي الصباح الباكر أمضي بين أبي وأمي حاملا الخوص والريحان، تتقدمنا الخادمة بسلة الرحمة.
يسرني تدفق تيارات الخلق، وطوابير الكارو، وأعرف باب الحوش كصديق قديم، ويجذبني القبر بتركيبه الوقور المنعزل وشاهديه الشامخين، وسره المنطوي، وبإجلال والدي له، كما تجذبني شجيرة الصبار، وتحت قبة السماء تنطلق مني وثبات فرح، ودفقات استطلاع لا يكدرها شيء، ثم تتم المسرات بمراقبة المقرئ الضرير، وجماعات الشحاذين المتكالبين على الرحمة.
وتتغير الصورة بدخول همام في إطارها.
تجيء أختي وابنها للإقامة عندنا فترة من الزمن، همام في الرابعة أو يزيد عليها قليلا، أجد فيه رفيقا ذا حيوية وجاذبية، يخرجني بمؤانسته من وحدتي، جميل خفيف الروح، يلاعبني بلا ملل ويصدق أكاذيبي وأوهامي.
وأجده ذات يوم راقدا وصامتا، أدعوه إلى اللعب ولكنه لا يستجيب، وأخبر بأنه مريض!
ويطبق على الجو اهتمام وحذر، ويتفشى فيه ضيق وكدر، وأتلقى أحاسيس مبهمة وغير سارة، ويزيد من تعاستي قلق أمي وجزع أختي ثم حضور زوجها.
وأسأل عما يحدث، فأبعد عن المكان، ويقال لي: لا شأن لك بهذا .. العب بعيدا.
ولكني أشعر بأن حدثا غير عادي يحدث.
إنه خطير حتى إن أمي تبكي، وأختي تصرخ، وألمح من بعيد صديقي مغطى فوق الفراش مثل وسادة. لم يترك له متنفس، وأخيرا يتردد اسم الموت من قريب، وأفهم أنه فراق يطول، فأبكي مع الباكين، ويتألم قلبي أكثر مما يجوز لسنه.
لا تعود زيارة القبر من أيامي البهيجة، ويتغير وقع منظره، أود أن أطلع على خفاياه، وأتلقى الكآبة من صمته، ولا أتغلب على لوعة الفراق مع كر الأيام، إنه الحزن والحب الضائع، والخوف والذكرى القاسية، وإرهاق أسرار الغيب.
الحكاية رقم «9»
خبر يتردد في البيت والحارة.
تقول إحدى الجارات لأمي: أما سمعت بالخبر العجيب؟
فتسألها عنه باهتمام فتقول: توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب! - ما لها كفى الله الشر؟ - توظفت في الحكومة! - توظفت في الحكومة؟ - إي والله .. موظفة .. تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال! - لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنها من أسرة طيبة .. وأمها طيبة .. وأبوها رجل صحيح! - كلام .. أي رجل يرضى عن ذلك؟ - اللهم استرنا يا رب في الدنيا والآخرة! - يمكن لأن البنت غير جميلة؟ - كانت ستجد ابن الحلال على أي حال!
وأسمع الألسن تلوك سيرتها في الحارة، تعلق وتسخر وتنتقد، وكلما لاح أبوها عم رجب أسمع من يقول: اللهم احفظنا! - يا خسارة الرجال!
توحيدة أول موظفة من حارتنا، ويقال إنها زاملت أختي الكبرى في الكتاب، ويحفزني ما سمعته عنها إلى التفرج عليها حين عودتها من العمل، أقف عند مدخل الحارة حتى أراها وهي تغادر سوارس، أرنو إليها وهي تدنو سافرة الوجه، مرهقة النظرة، سريعة الخطوة، بخلاف النساء والبنات في حارتنا، وتلقي علي نظرة خاطفة أو لا تراني على الإطلاق، ثم تمضي داخل الحارة، وأتمتم مرددا كالببغاء: يا خسارة الرجال!
الحكاية رقم «10»
أم عبده أشهر امرأة في حارتنا.
في قوة بغل، وجرأة فتوة، حتى زوجها سواق الكارو يتراجع أمام عنفها.
ولها بنتان جميلتان، دولت وإحسان.
في أي موقع من حارتنا تحظى بالتودد، من التاجر والعامل والبائع والصعلوك، كل أسرة لها عمل وأجر، هي الوسيطة والشفيعة والخاطبة والدلالة والماشطة، وعند الخصومة فهي القوة التي تبطش بالخصم.
وتزور أمي أحيانا فتحكي لها عن أحوالها، وقد يقتضي الأمر تمثيل ما وقع في آخر مشاجرة شاركت فيها، فيرتفع صوتها ويتهدج بالغضب والسب والقذف، حتى يتوهم السامع أن التمثيل مشاجرة حقيقة!
وهي تجاملنا في المواسم، فتجيئنا بالكارو لتمضي بنا إلى زيارة المغاوري وأبي السعود طبيب الجراح.
وأنا الرسول الذي يوفد إلى بيتها عند الحاجة، أذهب إليه بقلب طروب يتوق إلى رؤية الحمار المربوط إلى وتد في الفناء، ويتوق للقرب من دولت وإحسان.
دولت فتاة طيبة، تفك الخط، وتحفظ بعض سور القرآن، يحبها شاب متعلم من حارتنا فيتزوج منها متخطيا الفوارق ومجازفا بمصاهرة أم عبده.
إحسان صورة مصغرة من أمها في أخلاقها، ولكنها باهرة الجمال، مطبوعة على العنف والجرأة والبذاءة، تتحدى أمها نفسها، فتنشب بينهما المعارك المثيرة، ويطلب يدها فتيان كادحون، ولكنها ترفضهم تطلعا لفرصة فريدة كما حدث لأختها دولت، وإني صديقها رغم فارق السن، غرائزي الكامنة ترسل إنذارات خفية تمتزج في عيني بأشواق مبهمة، يبهرني حجمها المترامي، وأعضاؤها الثرية المتراقصة، وتدعوني أحيانا لأساعدها وهي تغسل في الفناء، أحمل إليها صفيحة الماء من عارضتها الخشبية، وأمضي كالمترنح من ثقلها، أجلس قبالتها لأتسلم منها الملابس بعد عصرها لأكومها في الطشت، في أثناء ذلك تتلصص عيناي، وهي ترامق تطلعاتي باسمة.
وتقول لي ذات مرة: خذ منديلي واذهب به إلى الشيخ لبيب.
وأذهب إلى الشيخ لبيب في مجلسه قبيل القبو، يتربع على فروة بجلبابه المزركش، وطاقيته البيضاء، مكحول العينين، مزجج الحاجبين، أعطيه المنديل ومليما وقطعة سكر، فيشم المنديل ويتفكر مليا، ثم يقول: عما قريب يمتلئ الكراز ويغني العصفور.
وأرجع إليها وأنا أردد ما سمعته لأحفظه، ويسعدني دائما أن أؤدي لها خدمة من الخدمات.
ويطلب يدها صاحب محل فراشة، غني في الخمسين، ذو زوجة وأولاد، فتتزوج منه، تعاشره عامين ثم تختفي من بيته ومن الحارة جميعا، مخلفة وراءها ضجة وعارا، وإصابة في كبرياء أم عبده. •••
وفي ذات ليلة من ليالي الزمن الجاري الذي لا يتوقف، أجدني وجها لوجه مع إحسان، ترقص وتغني:
عومي على الميه
يا بت يا شاميه
وتراني فيشع من عينيها نور العرفان، أقف ذاهلا ولكنها تتلقاني ببساطة وبابتسامة مشجعة. تقبل نحوي، فتأخذني من يدي إلى حجرتها، ثم تغلق الباب وتغرق في الضحك، وتقول لي بعد أن جلسنا: الدنيا واسعة ولكنها في النهاية كالحق.
وأتفرس في وجهها فتسألني عن أمها قائلة: كيف حال أم عبده؟ - عال. - ودولت أختي؟ - بكريها في المدرسة. - ووالدتك وأخواتك؟ - بخير.
فتقول بمودة: زرني كثيرا.
وأسألها بعد تردد: كيف جئت إلى هنا؟
فتضحك وتقول ساخرة: من نفس الطريق التي جئت منها أنت!
الحكاية رقم «11»
نقف في فناء المدرسة الابتدائية جماعات، ننتظر نتيجة القبول، أنهينا مرحلة الكتاب، وأدينا امتحان القبول، وها نحن ننتظر إعلان النتيجة.
ويخرج ضابط المدرسة من حجرة الناظر، ويمضي في تلاوة الأسماء من كشف بيده، ثم يقول: ليبق منكم من سمع اسمه، وليرجع الآخرون إلى بيوتهم.
لم أسمع اسمي، تشيع في نفسي فرحة شاملة، أعتقد أن سقوطي هو نهاية علاقتي بالتعليم وعصي المدرسين، وأنني سأستقبل من الآن فصاعدا حياة ناعمة خالية من الكدر.
ويسألني أبي عن النتيجة فأجيبه بارتياح: سقطت، ورجعت إلى البيت. - إخص .. تصورتك أفضل مما أنت!
فأقول بسرور: لا يهم. - لا يهم! - إني أكره الكتاب وأكره سيدنا الشيخ وأكره الدروس .. فالحمد لله على أنني تخلصت من ذلك كله!
فيقطب أبي متسائلا: أتظن أنك ستمكث في البيت؟ - نعم، هذا أفضل. - لتلعب مع الأوباش في الحارة، أليس كذلك؟
فنظرت إليه بقلق، فقال بحزم: سترجع إلى الكتاب عاما آخر، والفلقة كفيلة بمعالجة غبائك!
وأهم بالاحتجاج فيقول: استعد لعمر طويل من التعلم، ستتعلم مرحلة بعد مرحلة حتى تصير رجلا محترما.
ولم أنعم بفرحة السقوط إلا ساعات!
الحكاية رقم «12»
ماذا يحدث للدنيا؟
يجتاحها طوفان، يقلقلها زلزال، تشتعل بأطرافها النيران، تتفجر بحناجرها الهتافات.
الميدان يكتظ بالآلاف، لم يقع ذلك من قبل، هديرهم يرج جدران حارتنا ويصم الآذان، إنهم يصرخون، وبقبضات أيديهم يهددون، وحتى النساء يركبن طوابير الكارو ويشاركن في الجنون!
وأحملق فيما يجري من فوق سور السطح، وأتساءل عما يحدث للدنيا!
وتتلاطم الأحاديث مشحونة بكهرباء الوجدان، وينهمر سيل من الألفاظ الجديدة السحرية: سعد زغلول، مالطة، السلطان، الهلال والصليب، والوطن، الموت الزؤام.
الأعلام ترفرف فوق الدكاكين، صور سعد زغلول تلصق بالجدران، إمام المسجد يظهر في شرفة المئذنة ويهتف ويخطب.
وأقول لنفسي إن ما حدث غريب، ولكنه مثير ومسل شديد البهجة.
غير أنني أشهد مطاردة.
يندفع أناس داخل حارتنا، يرمون بالطوب، يتحصنون بالأركان.
يقتحم الحارة الفرسان بقبعاتهم العالية، وشواربهم الغليظة، تنطلق أصوات حادة مخيفة تعقبها صرخات، أنزع من مكان المراقبة إلى الداخل، فتطالعني وجوه مذعورة وهمسات تقول: إنه الموت.
نرهف السمع وراء النوافذ المغلقة، لا شيء إلا أصوات متضاربة، وقع أقدام، صهيل خيل، أزيز رصاص، صرخة موجعة، هتاف غاضب.
يتواصل ذلك دقائق في الحارة ثم يسود الصمت.
ويتردد الهدير ولكن - هذه المرة - من بعيد .. ثم يسود صمت مطلق.
وأقول لنفسي إن ما يحدث غريب ومزعج ومخيف.
وأعرف بعض الشيء معاني الألفاظ الجديدة: سعد زغلول، مالطة، السلطان، الوطن، وأعرف بوضوح أكثر الفرسان البريطانيين والرصاص والموت.
تزورنا أم عبده في غاية من الانفعال، تحكي حكايات عن الضحايا والأبطال، وتنعي إلينا علوة صبي الفران، وتؤكد أن جياد الفرسان حرنت أمام سور التكية وألقت الفرسان عن متنها!
وأقول لنفسي إن ما يحدث حلم مثير لا يصدق.
الحكاية رقم «13»
مهذب ذكي العينين، قصير القامة في مطلع الشباب، قيل لي: ابن عمك صبري.
أعرف أباه - عمي - معرفة سطحية، فهو لا يبرح الريف إلا نادرا، أما صبري فإنه يرى القاهرة لأول مرة، وأعرف أيضا من أحاديث الليل أن عمي أرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى مدارسها الثانوية، بعد أن ترامت أنباء نشاطه الثوري في موطنه إلى مراكز الأمن.
أسأله وأنا أرمقه بشغف: أنت من شبان المظاهرات ويحيا سعد؟
فيبتسم ولا يجيب .. إنه يبدو أعمق من سنه.
ويقول له أبي: هذا بيتك، وأنت الآن آمن، ولكن كن على حذر.
وأقول لأبي: ولكنك يا بابا أضربت مع الموظفين؟
فينهرني: لا تتدخل فيما لا يعنيك.
ويمارس صبري حياة تلميذ مجتهد ذي طاقة كبيرة في العمل.
غير أن القلق يلوح في عينيه الذكيتين ذات مساء، فأسأله عما يقلقه، فيسأل بحذر: ماذا دعاك إلى السؤال؟ - لست كعادتك.
فيدعوني إلى المشي في الحارة. نتسكع في الحارة وفي ميدان بيت القاضي حتى يهبط الليل، ويهمس في أذني: تستطيع ولا شك أن تحمل ورقة إلى هذا أو ذاك من الناس؟ - ولكن لماذا أفعل ذلك؟ - لا تفعله إذا كان يضايقك.
وأوافق ليعهد إلي بمهمة أيا تكن.
وأمضي لأوزع أوراقا على أصحاب الحوانيت والمارة، يتناولونها بدهشة، يلقون عليها نظرة سريعة، يبتسمون ثم يواصلون العمل أو المشي .
وأرجع إليه عند رأس الحارة فيسألني: مبسوط؟
أعرب له عن سروري الذي لا حد له فيقول محذرا: إياك أن تخبر عمي أو امرأة عمي.
ولا أعلم أنني كنت أوزع منشورات سياسية إلا بعد مرور فترة غير قصيرة.
الحكاية رقم «14»
يبدأ هذا اليوم بمظاهرة هزلية، من عجب أنهم يهزلون في الفترات القصيرة التي تفصل بين المصادمات الدامية، ها هي مظاهرة ضخمة تسوق في مقدمتها حمارا بقماش أبيض نقش عليه بالأحمر: «السلطان فؤاد».
ابن بلد يمتطي الحمار واضعا على رأسه قبعة بريطانية، والهدير يصطخب:
يا فؤاد يا وش القملة
من قالك تعمل دي العملة
وتستقبل كالعادة بالهتاف والزغاريد.
وأحمل لأبي خبرا من الحارة أثار خيالي، فأقول له: يقولون إن اسم سعد يرى منقوشا على البيض بعد خروجه من الدجاج.
فيضحك أبي، ويضحك ضيف يجالسه، ويقول الضيف عن سعد: كان أعداؤه يتجنبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديا للشعاع الحاد الذي ينطلق منهما.
ويطرب أبي للكلام ويتمتم: إنه هدية السماء إلينا.
فيقول الضيف متحمسا: انتهت سنون النحس وبدأت أيام السعد.
ويتنهد أبي قائلا: يا أسفي على الرجل الشيخ المريض في منفاه.
فأذهل وأسأل: سعد مريض، كيف هذا يا بابا؟
ولا يعيرني التفاتا فأصر قائلا: سعد لا يمكن أن يمرض.
ثم بيقين أشد: لم يبق إلا أن تقول إنه سيموت مثل همام ابن أختي!
الحكاية رقم «15»
ويزور أبي جماعة من الأصدقاء فيدور الحديث عن الثورة، لا حديث هذه الأيام إلا عن الثورة. حتى حديثنا نحن الغلمان يرطن بلغة الثورة، ولعبنا في الحارة مظاهرات وهتافات، وتصبح دوريات الإنجليز منظرا مألوفا لدينا، نمعن في الجنود النظر بذهول، ونقارن بين ما نسمع عن وحشيتهم وما نرى من جمال وجوههم وأناقتهم ونتعجب.
يدور الحديث بين الزوار عن الثورة. - من يصدق هذا كله أو بعضه؟! - إنه الله الرحمن الرحيم. - يخلق الحي من الميت. - الفلاحون والعمال والطلبة والموظفون والنساء يقتلون ويقتلون. - الفلاح يحمل السلاح ويتحدى الإمبراطورية. - انقطعت المواصلات تماما، أصبحت مصر دويلات مستقلة! - والمذابح؟ - مذبحة الأزهر. - مذبحة أسيوط. - العزيزية والبدرشين . - الحسينية. - لا أنا ولا أنت، ليحيا سعد! - إي والله، ليحيا الساحر العظيم! - ولكن الأموات يفوقون الحصر. - أحياء عند ربهم.
وينبري رجل ليقص سيرة سعد كما يعرفها، ومواقفه مع الإنجليز والخديوي قبل الثورة.
وألمح أبي تغرورق عيناه بالدموع.
أراقبه بذهول محتقنا بانفعال صامت وفيض من الدموع ينهمر على خدي.
الحكاية رقم «16»
سلومة أول شهيد من أبناء حارتنا، حقيقة إن علوة صبي الفران أول من قتل في حارتنا ولكنه في الأصل من أبناء كفر الزغاري، وعم طلبة - أبو سلومة - بياع يسرح بعربة غزل البنات، وكان سلومة يعاونه، وينام على مقدم العربة إذا أنهكه التعب.
وتخترق مظاهرة ميدان بيت القاضي فينضم إليها سلومة بتلقائية دون أن ينتبه إليه أبوه. وتنقض على المظاهرة قوة إنجليزية في خان جعفر، وتطلق عليها النار، يصاب سلومة برصاصة في رأسه ويسقط قتيلا.
وينتشر الخبر في الحارة، فيجتاحها حزن، ويهزها الفخار والإكبار، ويقبل الناس على عم طلبة يعزونه وينثرون بين يديه لآلئ الكلمات، ورغم حزن الرجل وتهالكه؛ فإنه يمارس إحساسا جديدا لم يعرفه من قبل، يرى نفسه لأول مرة محوطة بأهل الحارة من كافة الطبقات، يفوز بإكبار من لم يبالوا من قبل برد تحياته، وتنهال عليه نفحات الموسرين من التجار والمعلمين.
وتكون جنازة سلومة أعظم جنازة تشهدها حارتنا، تصغر إلى جانبها أي جنازة سابقة من جنازات الفتوات والأعيان ورجال الدين، سعى وراء النعش المكلل بالعلم جميع الذكور، وحياه النساء من النوافذ والأسطح، وانضم إلى المشيعين مئات من الحواري المجاورة، فبلغت الحسين في ضخامة مظاهرة وجلالها.
وتصير الجنازة حديث الناس، ويمسي سلومة اسما ورمزا، ويحظى الأب الكادح المصاب بمكانة مرموقة، وينوه المعلقون بعجائب الحياة المغيرة للقيم في لحظة من اللحظات الساحرة.
الحكاية رقم «17»
استيقظت ذات صباح فأجد في بيتنا امرأة وفتاة.
وتقول أمي: تعال سلم على عمتك وبنت عمتك سعاد.
أسلم بحياء من يراهما لأول مرة، المرأة تشبه أبي حقا، الفتاة غاية في الجمال.
وتسألني عمتي: في أي سنة دراسية يا حبيبي؟ - الثانية الابتدائية.
وأفتن بالفتاة فتملؤني بسحر لطيف وأحلام عذبة.
وأعرف أن عمتي جاءت مع ابنتها من المنيا لتجهزها، وأن زفافها وشيك، وتشغل أيامهما المعدودة بالقاهرة بالتردد مع أبي على محال الأثاث والنجارين والمنجدين.
وفي أوقات الراحة تتبدى سعاد في ثوب أنيق وزينة جذابة، تتألق بألوان العرائس وتعبق بشذاهن.
وأختلس منها النظرات بقلب حنان وشوق غامض.
وتقول لي وهي تنظر إلى الحارة من خصاص النافذة: حارتكم مسلية جدا. - تعالي أفرجك على أزقتها والقبو والتكية.
تتجاهل دعوتي، تتسلل نظراتي إلى عنقها وأسفل ساقيها، أتوق إلى تلاق غامض، وإشباع مبهم ومغامرة مجهولة، أريد أن ألمس خدها المتورد، لا أريد أن أصدق أنها سترحل بعد أيام، وأن قلبي لن يجد من يؤنسه.
وأستجمع شجاعتي وأقول: أتعرفين؟
وينقطع الصوت والتفكير، فتتساءل هي بنبرة محرضة على مواصلة الحديث: أتعرفين؟
ألوذ بالصمت فتسألني: لماذا تنظر إلي هكذا؟ - أنا؟! - نعم، رأيتك، لا تنكر.
وتضحك ضحكة قصيرة ثم تقول: أنت ولد شقي.
وينقبض قلبي من الشعور بالذنب. •••
وأرى أمي وعمتي ذات يوم وهما يتناوبان النظر في صورة فوتوغرافية لسعاد، وتقول عمتي: أصر العريس على رؤية الصورة. - وأبوها وافق؟ - يعني.
ويترامى إلينا صوت أبي من حجرته: تصرف غير لائق!
فتقول أمي: الزمان غير الزمان!
وتقول عمتي: ما هي إلا صورة، والعريس لقطة وابن ناس.
فيقول أبي بنبرة لا تخلو من احتجاج: على خيرة الله.
أتابع الحديث بحزن خفي، تطالعني من ثناياه نذر الفراق الأبدي، ووجه الكآبة في الأفق.
وتمر أيام الزيارة بسرعة فائقة وأنا عاجز عن إيقافها.
وتجيء لحظة الوداع.
وأرنو إلى خد سعاد المورد كرغيف خارج لتوه من الفرن.
وتذهب الأسرة كما ذهب آل بشير من قبل.
وتضحك أمي من لوعتي دون أن تفطن إلى عمق أشجاني.
الحكاية رقم «18»
الفرحة ترقص في القلوب، والنشوة تشتعل في النفوس، يوم عودة سعد.
أبي يرجع من الخارج كأنما هو راجع من خناقة، زر طربوشه مفقود، عقدة رباط عنقه غائصة في ثنية الياقة. جاكتته تنضح بالعرق والتراب، صوته مبحوح كأنه سعل دهرا، ولكن عينيه تتألقان بنور ظافر، يستلقي على الكنبة ويقول : هتفت حتى ضاع صوتي، نسيت نفسي تماما.
ثم بارتياح عميق: تجمعت الدنيا كلها في ميدان السيدة، سبحانك يا ربي، ما أكثر عبادك!
ويجتاح الحارة إحساس غامض بالنصر، ويعتقد كل قلب أن الحرية تدق الأبواب، وتطبق المظاهرات على حينا لا تريد أن تنتهي. سعد .. سعد .. يحيا سعد! وتلهب حرارة الهتافات خيالي، وآسف على أن المظاهرات لا تدخل حارتنا شبه المسدودة التي لا مخرج لها من طرفها الآخر إلا الممر الضيق المحاذي للتكية، والمفضي إلى القرافة.
وأسأل أمي: سيرحل الإنجليز؟
فتجيبني بيقين: إلى غير رجعة.
وفي الليل تحتفل حارتنا بعودة الزعيم احتفالا خاصا، تضاء الكلوبات في هامات الدكاكين. ترتفع الأعلام، تدوي الزغاريد وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة، تقيم سدتها في الوسط أمام الوكالة، يحف بها تختها، ترص الكراسي أمامها، وعلى أنغام العود والقانون والناي والرق يرقص الرجال، وتغني هي:
ليالي الأنس عادت بالليالي
وتغني أيضا:
يا بلح «زغلول» يا حليوة يا بلح
وتختم بأغنية ضاحكة مطلعها:
يا واد يا أللنبي كان جرى لك إيه يا بن المرة
جه الاستقلال غصبا عنك وعن إنجلترة
وتكتظ البوظة بالسكارى وتشتعل الغرز بنيران المجامر، وحتى المجاذيب والمتشردون واللصوص يسهرون ويفرحون، ويشارك عم طلبة أبو الشهيد في الحفل، والشيخ لبيب يحضره.
وأسهر أنا في النافذة، وقوى مجهولة تشحن قلبي الصغير بحيوية سحرية.
الحكاية رقم «19»
أبي ينظر إلي نظرة غامضة ويسألني: ماذا فعلت؟
فأجيبه بسرور وزهو: اشتركت في المظاهرة الكبرى. - كان يمكن أن تدوسك الأقدام. - كان الصغار كثيرين.
ويداري أبي ابتسامة ويسألني بنبرة ممتحن: الآن سعد زغلول هو رئيس الوزراء، فلم تضربون؟ - أضربنا لتأييده في موقفه ضد الملك. - من قال لك ذلك؟ - رئيس الطلبة، قال إن سعد زغلول قدم استقالته احتجاجا على موقف الملك من الدستور، وأننا ذاهبون لتأييد الزعيم. - هل عرفت وجه الخلاف بين سعد والملك؟
وأتوقف عن الاسترسال مرتبكا، فيضحك أبي ولكني أبادره: نحن مع سعد وضد الملك! - عظيم، وماذا كان هتافكم في عابدين؟ - سعد أو الثورة. - ما معنى ذلك؟
وأتفكر قليلا ثم أقول: معناه واضح ، سعد أو الثورة!
وهو يبتسم: عظيم، ومن الذي انتصر؟ - سعد، وهتفنا: عاش الملك ويحيا سعد.
ثم أقول بحماس: الاشتراك في المظاهرة أمتع من أي شيء في الدنيا.
فيبتسم أبي ويقول: بشرط ألا يشترك فيها الإنجليز!
الحكاية رقم «20»
يحيى مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا، وصديقي المفضل في المدرسة الابتدائية.
أجده يوما يقرأ كتابا في الفسحة فأسأله: ما هذا؟ - ابن جونسون .. الحلقة الأولى من مسلسلة بوليسية جديدة.
ويعيرني الكتاب بعد فراغه فأقرؤه بسعادة لم أجد مثلها من قبل، وأواظب على قراءة السلسلة، ثم أنتقل من سلسلة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر، ثم أدمن القراءة.
وأصير مع الزمن بطلا من أبطال القراءة، أما صديقي فيهجرها سريعا ثم يتربع على عرش الكرة.
الحكاية رقم «21»
إبراهيم توفيق مقترن في ذاكرتي بالتهريج والتحدي، خفيف الروح نصف مجنون، بطل هواة لعب الكرة «الزلط» في فناء المدرسة، ننتقي عادة من كوم التراب وراء السبيل زلطة في حجم الجوزة لتقوم مقام الكرة، نخوض بها مباراة يومية في فسحة بعد الغداء، والمباراة «الزلطية» ممنوعة رسميا، ولكن يغضى عنها عادة، وتمارس بعنف في أثناء تناول الضباط طعامهم، ويكف عنها فورا عند مرور الناظر، أما عواقبها الوخيمة على الأحذية فيدفع ثمنها الآباء.
وفي الفسحة القصيرة يضغط إبراهيم توفيق طربوشه حتى يصير مثل طاقية، ويرتدي جاكتته بالمقلوب، ويحاكي مشية شارلي شابلن ذهابا وإيابا على إيقاع تصفيقنا، ثم يختم لعبه بإنشاد مونولوج:
يا عديم الخال يا قليل المال
رفعتك محال في زمن الأندال
ويوما يتباهى بالمقالب التي يدبرها لزوج أمه فيقول له أحدنا: أتحداك أن تأكل قرن فلفل حامي!
والتحدي يستفزه لمصارعة المحال فيهتف: آكل عشرة!
ويتراهن فريقان، نبتاع من بياع الفول عشرة قرون فلفل حامية، وتحلقناه في حماس!
يتناول إبراهيم القرن الأول ويأكله مبديا ثباتا واستهانة.
ويتناول الثاني محافظا على ثباته واستهانته.
ويتناول الثالث فلا يتغير من مظهره شيء إلا أنه ازدرد ريقه بصورة ملموسة.
ويتناول الرابع فيسعل سعلة مكتومة.
ويتناول الخامس فتدمع عيناه رغم قوة إرادته، ويسعل بشيء من العنف .
وعقب تناول السادس يبدو كأنه يقاوم عدوا مجهولا اندس في أعماقه، وتفيض عيناه بالدمع!
وهو يأكل السابع يسيل الماء من أنفه ويصطبغ أنفه بحمرة عميقة .. ويصيح بعض ضعاف القلوب: أوقفوا الرهان!
ولكنه يرفض بحركة من رأسه دون أن ينبس وكأنما لا يستطيع النطق.
ويلتقي ماء عينيه بماء أنفه في مجرى على ذقنه وعنقه، وينتابه سعال متقطع.
ويستحيل وجهه قرمزيا وتنتفخ شفتاه، ولكنه يلتهم القرون حتى آخرها وسط التهليل والتصفيق، ويربح!
ولكن لعله لا يشعر للنصر بلذة، إنه صامت محتقن زائغ البصر، وعلى هذه الحال ندخل حصة الدين، والشيخ يطارده بالتسميع لما هو معروف عنه من الإهمال والشقاوة، يقول له: إبراهيم توفيق، سمع
تبارك الذي .
ويلبث إبراهيم صامتا مغمورا بهمومه الخفية، فيصيح به الشيخ: قف يا ولد وسمع.
ولكن إبراهيم لا يتحرك، على حين تصدر من الأركان همهمة يظنها الشيخ لعبة متفقا عليها فيصيح: الأدب يا أولاد الكلاب، قم يا مجرم .. قم لا بارك الله فيك ولا فيمن أنجبك!
ويقترب الشيخ منه في مجلسه في آخر الحجرة، فيهوله منظر وجهه، فيتوقف متسائلا: ماذا بك؟ .. لماذا تبكي؟
عند ذاك يتكلم عنه كثيرون فيسمع الشيخ ويتعجب ويقول: أعوذ بالله .. يا أولاد الأبالسة، كلكم مجرم وابن مجرم.
ويذهب بإبراهيم إلى الخارج ليسعف في حجرة الطبيب .. ولكن إبراهيم لا يكف أبدا عن التهريج والتحدي!
الحكاية رقم «22»
هاشم زايد يجلس إلى جانبي على قمطر واحد.
طويل القامة، مفتول العضلات، ولكنه وديع خجول، وطيب وحسن السلوك، أمه أرملة غنية تملك بيوت زقاق برمته، وشريكة أكبر عطار في الحارة، لذلك نخصه بنظرة تجمع بين الإعجاب والحسد، تتهادى إليه نكات إبراهيم توفيق من وراء، فلا يملك إلا أن يضحك، فيراه المدرس دون الفاعل الحقيقي فينال جزاءه صفعة أو لكمة أو ركلة باستسلام التلميذ المؤدب.
ويفشل هاشم في المدرسة فيتركها، وتموت أمه فيصير من أكبر أعيان الحارة في لحظة واحدة. وتفرق بيننا السبل، أراه أحيانا مستقلا الكارتة أو جالسا في ملابسه البلدية وسط هالة من المريدين، إنه يتحول إلى شخصية غريبة فأتجنب حتى مصافحته، إنه يتكبر ويتعالى ويستثمر قوته في العدوان وفرض إرادته على العباد، كيف يتحول الصبي الخجول الطيب إلى وحش شرس؟ إني أتفكر وأتخيل دون جدوى!
لا يمر يوم في حياته بلا معركة، اللكمة عنده أسرع من الكلمة، والنبوت مفضل على اللكمة، ويحل بالمكان فيتجنبه الناس كأنه وباء!
لو امتد زمن الفتوات إلى زمانه لفرض نفسه فتوة، وهو يزعج القسم كما يزعج الحارة، ويبيت أياما بسجن النقطة، ولكنه يرشو المخبرين وشيخ الحارة.
تحف به دائما بطانة ولكن لا صديق له، ولم يتزوج رغم ثرائه، ولا يعرف عنه أي ولع بالنساء. وعلاقته بذكرى أمه مثيرة محيرة، يتذكرها أحيانا بحزن عميق ويتنزل على روحها الرحمات، وأحيانا ينتقدها بمرارة وسخرية، يقول: كانت بخيلة شحيحة، تهمل نفسها لحد القذارة، وتعامل الخدم بقسوة جنونية.
ويغالي مرة في الحملة عليها، ثم - فجأة - يجهش في البكاء، ينسى نفسه تماما ويجهش في البكاء، ثم ينتبه لضعفه فيضحك، ولكنه يصب غضبه على جميع من يشهد دموعه، ويبدو أنه يضمر لهم أو أنه سيضمر لهم السوء!
ويختفي هاشم زايد من الحارة ومن البيت.
وتطول غيبته حتى يذوب رويدا رويدا في ظلمة النسيان.
وتسمع من يقول إنه هاجر، وتسمع من يهمس بأنه قتل وأخفيت جثته.
الحكاية رقم «23»
ذات صباح تدهمني اليقظة بعنف، أستيقظ مجذوبا من عالم الغيب بقبضة مبهمة، يلفني تيار من الطنين، أنصت فيقف شعر رأسي من ترقب الشر، أصوات بكاء تتسلل إلي من الصالة، تغرز أفكار السوء أسنانها في لحمي، ويتخايل لعيني شبح الموت.
أثب من الفراش مندفعا نحو الباب المغلق، أتردد لحظة ثم أفتحه بشدة، لأواجه المجهول.
أرى أبي جالسا، أمي مستندة إلى الكونصول، الخادمة واقفة عند الباب، الجميع يبكون!
وتراني أمي فتقبل علي وهي تقول: أفزعناك .. لا تنزعج يا بني!
أتساءل بريق جاف: ماذا؟
فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول .. البقية في حياتك!
فأهتف من أعماقي: سعد!
وأتراجع إلى حجرتي.
وتتجسد الكآبة في كل منظر.
الحكاية رقم «24»
القطة الأم مستلقية على جنبها مترعة الحلمات ، والصغار تتلاطم مغمضات الأعين في حضنها، أنا وحيد في الحجرة، أتابع المنظر باهتمام، فجأة تتردد أنفاس على كثب مني فألتفت فأرى سنية، هي بكرية جارنا ساعي البريد، دقيقة القسمات خفيفة الروح، مليئة بالحيوية والمرح، تكبرني ببضعة أعوام، تنظر إلى القطة بشغف وتهمس: ما أجملها!
أوافق بإيماءة من رأسي فتقول: أحب القطط، وأنت؟
أجيب وشعوري بتوحدنا يغمرني: وأنا ...
وتقترب لترى بوضوح أكثر، فأحس مس صدرها لكتفي، تواصل الحديث فلا أتابعها، إني أضطرم فيلتهم اللهيب حيائي، أستدير فأضمها إلى صدري، وتبدأ علاقة وطيدة، مفعمة من ناحيتي بالسرور والندم.
أزداد بها معرفة، جميلة جسورة بقدر ما هي حريصة، رغم سكراتها المنغومة، فبيننا حدود لا يمكن تخطيها، ألبي إشاراتها، أهرع إلى ظلها، أما هي فلا تعرف النجوى ولا الحلم ولا البراءة، تجذبني إلى حديقة الورد، ثم تضرم فيها نيران الجحيم، لا نعرف السكينة ولا الأمان، نقطف الثمار في رعدة من الرقباء، نجري في حومة الحب خطافين نشالين مجانين، نراوح بين الصراع المكتوب والنعاس المفتوح العينين، وتنقلب الحياة أغنية مجنونة تتفجر بالعذوبة والعذاب.
وتتزوج سنية عقب عامين من حبنا.
ونلتقي بعد أعوام وأعوام من زواجها.
أجدها مفرطة في البدانة، غافية النظرة، رزينة، جليلة، راسخة الاستقرار والوقار، نتصافح ونتبادل حديثا روتينيا عن الأحوال والناس، لا بسمة ذات معنى، ولا إشارة إلى عهد انقضى. سيدة مصونة ورمز حي للأمومة، ومثال للتدين والورع.
وأتخطى الحاضر راجعا إلى عهد صباها النضير، وهي فراشة متعددة الألوان، تفاحة طازجة، وردة فواحة، ينبوع متدفق.
تلك الأيام السعيدة.
الحكاية رقم «25»
فتحية، الأخت الصغرى لسنية، تماثلني في العمر.
مثال للهدوء العذب والرصانة والعمق.
نظراتنا تتسلل في استحياء فيستحوذ علي أمل خلاب، أمد يدي فأقبض على راحتها فتسحبها بلطف، وبرقة تقول لي: لا أحب العبث.
وأضيق بجديتها فأقول: إنك لا تعرفين الحب.
فتقول بأسى: أنت الذي لا تعرفه.
وتقول معاتبة: أثبت لي أنك تعرفه مثلما أعرفه.
ليست قطرات الندى مثل ذوب الشمع المحترق، ويصرفني اليأس، فأتعزى بالزهد، أمضي مصمما على النسيان، ولكن ترجعني الأشواق أو رسالة عتاب، أو لقاء غير متوقع، فأجد نفسي مرة أخرى حيال قلب محب وعاطفة طاهرة وإرادة لا تلين.
وطريقي شاقة وطويلة، وفتاتي محبوبة كثيرة الخطاب، يقول لها أبوها: معنى الرفض أن تنتظري عشرة أعوام.
ثم يقول بحزم: القلوب تتغير بعد عشرة أعوام.
ويصر على تزويجها من رجل مناسب، فتزف إليه كسيرة القلب، وتنجب أطفالا، وترعى بيتا يعد مثالا للحياة الزوجية الموفقة.
وتغيب عن عيني وخيالي دهرا طويلا.
وألتقي بها في مأتم وهي في الستين من عمرها، أرملة منذ عشرة أعوام، فنتصافح وتطالعني بنظرة صافية، تتألق فيها بسمة ذكريات قديمة، يتحرك في أعماقي شيء غامض، تجتاحني موجة من التذكر والأسى، وشعور فادح بطول الزمن المطروح ورائي.
وأعلم بأنها تعيش وحيدة بعد زواج بناتها مع خادم عجوز، وأجدني أحادثها رغم كل شيء بجرأة مستمدة من ضآلة ما يتبقى من العمر، وأعزم على زيارتها، وأتخيل، وأسباب الابتسامة والمرارة تتجاذبني، ثم أبتهل في خشوع إلى أشجان الوداع.
الحكاية رقم «26»
ست نجية امرأة وحيدة.
عهدي بها وحيدة دائما، في بيتها وحيدة، مقطوعة من شجرة، يرد اسمها بلا لقب، لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت، ولكنها معروفة بأنها امرأة غنية.
صورتها لا تنسى، قصيرة جدا، مطبوعة بطابع كساح يتجلى في تقوس ساقيها وبروز ذقنها، ولها أنف كبير مثل أذن حمار، دميمة ولكنها غير منفرة؛ لخفة روحها وسخريتها اللاذعة من نفسها ومن الناس.
تجيء معها في زيارتها لنا بالمرح والضحك، فلا نهاية لنوادرها وقفشاتها، وأتصورها دائما أسعد الناس.
بيتها مزرعة قطط وكلاب، تولد وتنشأ في عزها مكرمة مدللة، لكل اسمه وخدماته الغذائية والصحية والرياضية، هي مولعة بهن، وهن مولعات بها، وفي رحابها المترعة بالرحمة والسخاء تنمحي الخصومة الغريزية بين الكلاب والقطط؛ فهن يعشن في إخاء ومودة.
تسألها أمي: لم نرك من مدة يا ست نجية؟
فتقول: كانت نرجس متوعكة المزاج.
أو تقول: كانت بركة تلد.
ودائما تتحدث عن عفريت من الجن يؤاخيها، وتحكي عن علاقتهما الخاصة باعتزاز وتنوه بنوادره.
تقول بجدية: أمس شعرت بأنفاسه تتردد على وجهي قبيل الفجر .. أو تقول: وجدت بلاص العسل فارغا، فقلت له بالهنا والشفا!
بالصدق والجدية تتكلم، لعلها لا تتخلى عن المزاح إلا حين الحديث عن أخيها الخفي.
وتزعم أيضا أن الكلاب والقطط تخاطبها بلغاتها الخاصة وأنها تفهمها، ولكي تثبت صحة كلامها تمضي في محاكاة اللهجات القطية والكلبية فنغرق في الضحك.
ولها خبرة راسخة في قراءة الفنجان، والورق، وتفسير الأحلام، وتتهم أحيانا بممارسة السحر والشبشبة حتى إن أم عبده لعنتها جهرا في الحارة عقب اختفاء ابنتها إحسان، ولكن طيبتها خصلة يشهد لها بها أكثر الناس.
لا يكاد يطرق بابها أحد، لكثرة الكلاب يتجنب الناس زيارتها، حتى الخدم لا يطيقون خدمتها، فهي وحيدة في بيتها، ولكن تؤنس وحدتها الكلاب والقطط والعفريت المؤاخي!
تقول لها أمي وهي بصدد الحديث عن وحدتها: على الإنسان أن يعمل حسابه لساعة الأجل.
فتجيبها جادة وهي تبتسم: ستنبح الكلاب حول جثتي وتموء القطط، ويحضر أخي ليغمض عيني، ثم يفعل الله ما يشاء!
الحكاية رقم «27»
تقول ضيفة لأمي: نظلة، الله يسامحها!
فتسأل أمي عن الأخبار فتقول الضيفة: ما زالت بالجدع حتى أوقعته فتزوجها، رعاها وجعلها من أسعد نسوان الحارة، وها هي الفاجرة تهجره عندما أعجزه المرض!
وتسأل أمي عن حاله فتواصل المرأة: طريح الفراش، وحيد، يبصق دما ويسعل حتى تنخلع ضلوعه، يتمنى الموت، ولما أزوره يقول لي: «انظري يا امرأة خالي ما فعلته نظلة» فأشجعه وأواسيه وقلبي يتقطع!
وأتخيل أنا المريض والدم والمرأة الفاجرة.
ويمضي زمن ثم تزور الضيفة أمي وتقول: شوفي العجائب، لم يكد يمر شهر على وفاة المرحوم حسن حتى أوقعت الفاجرة شقيقه خليل فتزوجها!
فتهتف أمي: نظلة؟! - ومن غيرها يفعل ذلك؟ إلهي ينتقم منك يا نظلة يا بنت أمونة!
وأتخيل أنا الميت والعاشق والفاجرة.
ويمضي زمن، ها أنا أذاكر دروسي في حجرتي، فيترامى إلي صوت أمي وهي ترحب بضيفة قائلة: أهلا بك يا ست نظلة.
وأتساءل باهتمام ترى أهي الفاجرة؟
وأتسلل إلى الصالة محتميا بظلمتها وأرسل الطرف إلى حجرة الاستقبال، فأرى امرأة - بين الأربعين والخمسين - بضة الجسم حسنة التكوين أنيقة الملبس، أعترف بأنها امرأة مثيرة، وأنها تستحق أن تعشق، وأعرف عنها معلومات جديدة، منها أن زوجها الثاني - خليل - توفي أيضا بعد أن أنجبت منه ولدا، وأنها تركت شقتها قبيل القبو لتقيم في شقة صغيرة في بيت قريب هنا، وأدرك أيضا أن أمي لا ترحب في أعماقها بزيارتها لنا، وأقول: إنها شريرة!
ولكن أمي تقول بحذر: الله وحده هو المطلع على الأفئدة! - تعطفين عليها رغم أنك لا ترحبين بها. - سمعت الكثير ولكني أرى امرأة ضعيفة، وأما لولد لا رجل لها ولا مال!
وأراقبها من النافذة كلما سنحت فرصة، وتخيم علي ذكريات المرحوم حسن وخليل ولكني لا أبالي. وأشعر بأنني مقبل على مغامرة أخطر من جميع ما مر بي من مغامرات، ولكن القصة لم تبدأ.
ذات صباح، تهز حارتنا صرخة مدوية.
ينتشر خبر بأن جارة ألقت على وجه نظلة ماء نار، متهمة إياها بمحاولة خطف زوجها.
تفقد نظلة سحرها إلى الأبد.
تضطر إلى العمل في حمام الحارة.
يشتد بي الحزن فترة من الزمن، وأردد ما سبق أن قالته أمي: الله وحده هو المطلع على الأفئدة!
الحكاية رقم «28»
يزورنا كثيرا.
أحبه لأنه يكاد أن يكون صورة متقنة لأبي؛ من أحاديثه المكررة في إلحاح أبدي أن يخاطب أبي قائلا: أيرضيك حالي هذا يا خالي؟
فيقول له أبي: يا محسن، اعتمد على الله وعلى نفسك. - يؤلمني أنني غني بما أملك من مال في الأوقاف، ولكني عاجز عن صرف مليم واحد منه. - هذا حال كثير من المستحقين.
ويضطر إلى أن يعمل كاتبا بثلاثة جنيهات شهريا في وكالة الأخشاب بحارتنا، وتحاصره ظروفه القاسية فيتزوج من سوسن بنت نعمات الدلالة العاطلة من الجمال والمال، ويتقدم به العمر دون أن ينجب، فيمضي حياته متحسرا، وتضرع زوجته إلى الله ألا يحل عقدة الوقف، وتقول لأمي: لولا الفقر لفجر، لولا الفقر لطردني!
لا حديث له إلا الوقف، الوقف يا خالي، الوقف يا امرأة خالي، وأسمعه يردد بحرارة: يا رب، نفسي في لقمة حلوة ومسكن نظيف وملبس لائق وأنثى، أنثى حقيقية لا تمثال خشبي في هيئة امرأة، يا رب نفسي في ولد أو حتى في بنت!
وتتقدم به السن أكثر، وتدمع عيناه أحيانا وهو يرثي نفسه حتى ينال مني التأثر.
وتندفع الأحداث فتغير من إيقاع الزمن ورؤيته وتنحل عقدة الوقف!
ويرقص ابن عمتي من الفرح فأسأله: ما مقدار البدل الذي سيصرف لك؟
فيقول بزهو: أربعون ألفا من الجنيهات!
يدور رأسي، أتفرس في وجهه بعجب، إنه يدنو من السبعين، أبيض الرأس، ضعيف البصر، هزيل الجسد، ليس فيه سنة ولا ضرس، أسأله: ماذا ستصنع بثروتك؟
فيقول متهللا: قلبي يحدثني بأنني سأمرح في نعمته عز وجل.
ثم يستطرد: سأشتري بيت عيوشة الحكيمة، وأركب طاقم أسنان، وأتزوج! - تتزوج؟ - وسأنجب أيضا، سوف ترى!
ويجدد نفسه بتصميم كما يجدد الحياة من حوله، أبقى على سوسن، ولكنه يتزوج من توحيدة بنت بياع الطرشي، وهي بنت جميلة دون العشرين.
ويخبرني ذات يوم قائلا: ولي العهد يتكون بإذن الرحمن.
ويفرط في الطعام بنهم لا يناسب سنه، ثم يلزم الفراش عقب ستة أشهر من الزواج.
وأعوده فيقول لي بصوت خافت: لست نادما، أبدا، الحمد لله رب العالمين!
وكان قد بنى مقبرة جديدة وجميلة.
الحكاية رقم «29»
علي البنان صاحب محل البن في حارتنا صديق، يموت أبوه فيحل مكانه وهو في طور المراهقة.
وذات يوم يسألني وأنا أجالسه في المحل: هل تعرف أنيسة بنت أمينة الفرانة؟
فأجيبه ورائحة البن الصارمة تسيطر على حواسي: أعرفها طبعا، حارتنا كلها تعرفها! - ما رأيك فيها؟ - بنت فائقة الجمال وهي تشارك أمها في العمل. - ماذا تعرف عن أخلاقها؟
فأضحك قائلا: ما أكثر ما يقال! - ولكنني متأكد من الكثير!
ويحكم العمامة فوق رأسه، ويقول: أعرف أنها سقطت أول ما سقطت مع حمدان صبي الفران.
أهز رأسي موافقا، فيمضي هو قائلا بنبرة اعترافية ثقيلة: ضبطت أيضا مع الحنفي صبي محل الطرشي تحت القبو. - إنك تتكلم بلهجة حزينة أكثر من الضروري! - وقيل كلام أيضا عن علاقتها بخفير الدرك!
فأسأله ضاحكا: هل تنوي كتابة سيرة لها؟ - وأيضا مع حسنين السقاء!
فأغرق في الضحك وأقول: إنه لسلوك يستحق التأمل. - ولعل ما خفي كان أعظم. - من يدري فلعلها ليست الوحيدة في حارتنا!
فيتنهد قائلا: ولكنها الوحيدة التي أحبها!
فأخرج دفعة واحدة من جو المرح وأسأله: أتريد أن تنضم إلى طابور العشاق؟
فينظر إلي طويلا ثم يقول: كلا، لقد قررت أن أتزوجها! - لا أصدق!!
فيقول بجد وتجهم: إنه قرار اتخذ بعد عذاب طويل، ولا رجعة فيه، ولا يهمني ما يقال!
وينفذ علي البنان قراره.
الحكاية رقم «30»
يشب بطريق الحموي فيجد نفسه متزوجا.
كان أبوه مقاول بناء أميا، فأراد أن يفرح بآخر العنقود في حياته، فاختار له بنتا وزوجه منها وهو تلميذ في الرابعة عشرة من عمره.
يسعد التلميذ باللعبة الجديدة، فيجعل منها حكاية يشعل بها قلوب أقرانه المتلهفة وأخيلتهم المحمومة.
وينجح «بطريق» في حياته المدرسية، ويتفوق فيكمل تعليمه العالي، ثم يبعث إلى إنجلترا عامين. وعقب عودته يتعذر عليه التوافق مع ماضيه، زوجته خاصة، يتنافران في كل شيء، يضيق بجهلها وخرافاتها، يتهاوى في الغربة والفشل، ويقول لخاصته: لا يمكن أن تمضي الحياة هكذا!
ويتخذ قرارا حاسما وقاسيا، من خلال معاناة طويلة، فيطلقها.
ويلهج كل لسان في الحارة بلعنه ومروقه، ولكنه يلقى المد المعادي ببرود، بل ويتحداه أكثر فيرجع ذات يوم بزوجة جديدة أجنبية، يزعم أنها فرنسية، ويصر أهل حارتنا على أنها رومية من بين السوريين!
ويذهبان ويجيئان معا وهي تشع سفورا ونورا، ترمقهما الأعين بازدراء واستنكار، ويترحم المترحمون على المعلم الحموي.
وتتطاير تساؤلات محرجة عن سلوك الزوجة الجديدة واختلاطها بالرجال، وما يقال عن إدمانها الخمر، وعن صحة عقيدتها الدينية، هل يعتبر إسلامها حقيقيا؟ هل تنشئ أبناءها نشأة إسلامية سوية؟
يعاني بطريق الحموي ذلك كله، ويتصدى له بما يستطيع من قوة واستهانة.
ولكن ثمة متاعب جديدة من داخل بيته تهب عليه بلا رحمة، ها هي زوجته تضيق بالحارة وأهلها، وعاداته الأصيلة تتعرض لمؤاخذتها وسخريتها، وهو كلما تهاون في حق طولب بالمزيد من الاستسلام، حتى يسلم في النهاية بأنه غارق في التعاسة حتى أذنيه .
ويقال له: طلقها وأمرك لله!
ولكنه يجيب بإصرار: محال أن أسلم بالهزيمة!
أما هي فتقترح الطلاق من ناحيتها، ولكنه يرفضه بإباء.
وإذا بها تهجره ذات يوم، فتغادر الحارة والوطن.
وتمضي الأعوام وبطريق الحموي أعزب لا يفكر في الزواج.
يقترح عليه إخوته أن يرد زوجته الأولى، فيقول ساخطا: هذا سخف! - هل تعتزم استرداد الثانية؟ - إنه الجنون نفسه.
ثم يقول برزانة وتأمل: لا بد من الزواج، وعاجلا أيضا، لم تضع التجربة هباء، فإني على الأقل الآن أعرف ما أريد!
الحكاية رقم «31»
من قصص الحب المؤثرة في حارتنا قصة سيدة كريم.
ينشأ حب عفيف مستور في خفاء بينها وبين إدريس القاضي ابن الجيران، رغم التكتم والحياء تفضحهما النظرات وأحوال العاشقين، ينشب خصام بين الشيخ كريم مدرس اللغة العربية وعم حسنين القاضي بياع الحلوى: أدب ابنك، ابني مؤدب، كلمة من هنا وكلمة من هنا، فيوشك الكلام أن يتحول إلى فعل، لولا تدخل أهل الخير، ولكن يستيقظ الرقباء وتحد الأعين فيعاني العاشقان في صمت وقهر، وعندما ينتهي إدريس من المرحلة الثانوية يقنع أباه بأن يخطب له سيدة، فيمضي الرجل على مضض إلى الشيخ كريم، طالبا يد ابنته، ولكن الشيخ يقول له بجفاء: ابنك تلميذ وبنتي لا يمكن أن تنتظره.
ثم يقول الشيخ لبعض خلصائه: كيف يطمع في مصاهرتي ذلك البياع الحقير؟!
ويتقدم ابن الحلال المناسب لطلب يد سيدة.
ولكن سيدة ترفضه! ليس الرفض بالأمر الهين ولا المألوف، إنه في الواقع ثورة غير متوقعة أذهلت الشيخ والجيران، وزلزلت الأسرة بالغضب والعنف والتأديب، ولكن سيدة تصر على الرفض، وتصارح أباها بأنها تمارس حقها الديني!
وكالعادة المرذولة في حارتنا تغمغم الألسنة بالشائعات والشكوك وتختلق الأوهام، ويتناهى ذلك إلى الشيخ كريم، فيركبه حزن ثقيل حتى ينوء به كاهله فيختطفه الموت وهو يلقي درسه في الفصل.
وتتحمل سيدة مسئولية موت أبيها أمام الأسرة والناس، تصبح ملعونة، شؤما، متهمة، متجنبة كالمرض المعدي.
وتتزحزح الأعوام فلا يتقدم لها خاطب.
وينجح إدريس في دراسته العالية فيتقدم إلى عم حبيبته طالبا يدها!
ولكن لا يلقى إلا الرفض والتجهم، حتى الأم لا توافق!
وتمر الأعوام، ثقيلة عند المعاناة، خفيفة لدى العد والإحصاء، سيدة شبه سجينة لا يطلبها أحد، وإدريس موظف يثير التساؤلات بإعراضه عن الزواج، ولا يشك أحد من المقربين إليها أو المقربين إليه في صمود الحب، وإصراره وتحديه المتواصل لكافة العراقيل.
ويندب إدريس للعمل في بعض البلاد العربية، وتنقطع أخباره أعواما، على حين تجاوز سيدة ربيع الشباب، ويغيض رونق صباها، وتتلبسها صورة تعاسة مجسدة.
ويرجع إدريس من غربته رجلا في منتصف الحلقة الخامسة. لم يعد أحد يذكر قصته، ولم تعد القصة تثير أي اهتمام عند من يتذكرونها.
وتعرف حقيقة غير مألوفة في حارتنا وهي أن إدريس ما يزال أعزب، لم يدخل دنيا ولم يمارس أبوة.
ويمضي إدريس إلى أم سيدة يطلب يد ابنتها!
ويدهش كل من يعلم بالخبر، معلقا عليه بأن سيدة لم تعد عروسا تسر الحبيب.
ويتم الزواج متوجا حياة منصهرة بالعذاب والإصرار والوفاء.
الحكاية رقم «32»
سنان شلبي يعمل في مطحن الغلال فيما يلي السبيل القديم، تلوح منه نظرة نحو النافذة في البيت القائم أمام المطحن، فيلمح وجها أسر فؤاده وسيطر على أقداره، يأسر فؤاده ويستحوذ على إرادته بقوة لم يكن يتصور وجودها بحال، وقال لنفسه: «لقد جننت يا سنان وما كان كان.»
والجميلة لا تغادر البيت فيما يعلم، ولكن أم سعد هي التي تتصدى للمعاملة والتسوق، وهي امرأة معروفة في الحارة، والعلاقة بين أم سعد والجميلة غامضة، عرضة لشتى الاحتمالات، فالأسرة لا تزور ولا تزار، فمن يكون سعد؟ أين هو؟ والمرأة أهي أم الجميلة؟ قريبتها؟ خادمتها؟ ثم تنتشر أقوال تسيء ولا تسر.
يقول سنان شلبي: أريدها، إني مجنون بها، بالحلال أو بالحرام أريدها، ولو دفعت حياتي الغالية ثمنا لها!
ويوثق سنان علاقته بأم سعد في ترددها الدوري على المطحن، ويلمح لها عن رغباته الخيالية، ولكنها تتجاهله وتشجعه في آن، فينفحها بالهدايا الصغيرة التي يطيقها من اللبان والحنتيت والسكر، وعند ذاك تقول له: الجوهرة غالية، وأنت رجل على قد حالك!
فيقبض الفقر قلبه ولكن الجنون يبسطه فيقول: ربنا يقدرنا.
ويدرك لتوه أن الجميلة تحترف الحب ولكن ذلك لا يثنيه عن سعيه؛ فإن جنون العشق يتسلط على إرادته بعنف ويأسره، فلا يترك له اختيارا أو مجالا للتردد.
وتقول له أم سعد: الأمر ليس يسيرا، يوجد حراس لا تراهم، وغاية ما أستطيعه أن أدلك على الطريق!
وتمد له يدها بحركة ذات مغزى فيضع لها فيها قطعة فضية من ذات الخمسة القروش، ولكنها تردها بإباء ولا تقبل بأقل من عشرة قروش، أو عشر أجر سنان في شهر كامل! وتقول له: أتعرف المعلم حلمبوحة؟ قل له إنك حاضر من طرفي، إنه راعيها وولي أمرها، وهو الذي جاء بها إلى حارتنا من المجهول!
فيقول سنان بضيق: ظننتك ستوصلينني بغير وسيط! - لا أملك إلا أن أدلك على الطريق!
ويذهب سنان إلى حلمبوحة في دكانه الصغير الذي يبيع فيه الدخان والمنزول، يجده كما يعهده عجوزا أعمش جاف الخلق، فيحييه ويقول له همسا: إني قادم من طرف أم سعد.
فيرمقه بازدراء ويقول باقتضاب حاسم: جنيه مصري!
فيقول سنان بارتياع: إنه مبلغ جسيم يا معلم!
فيعرض عنه قائلا: وفر نقودك واذهب لحالك.
لا شيء يمكن أن يثني سنان عن مطمحه، إنه يبيع خاتمه الفضي الموروث عن أبيه بجنيه، ويهبه لحلمبوحة مسلما أمره للمقادر. يتفحص الرجل الجنيه، يدسه في جيبه، ثم يقول لسنان: لم يبق إلا هريدي الحملاوي، تعرفه؟
يغوص قلب سنان في صدره ويسأله: ما شأنه؟ - إنه خطيب البنت، ولا يرضى بأقل من جنيهين.
فيتأوه سنان قائلا: إنها ثروة، ثم إنها سلسلة بلا نهاية! - هريدي ختام السلسلة. - ولكن من أين لي بالجنيهين؟ - خذ نقودك واذهب!
ويرد إليه الجنيه بحدة، يتناول سنان الجنيه بقلب طافح باليأس، ثم يمضي بلا هدف، وتقوده قدماه إلى البوظة، فيسكر حتى يقول لنفسه: سأبلغ مناي ولو طرت إليه فوق سحابة!
ويذهب من توه إلى أم عليش بياعة البيض بحجرتها الخشبية فوق سطح أم علي الداية، فتقول له مستاءة: إني لا أتعامل مع الزبائن في حجرتي!
فيرمي بثقله فوقها فجأة ويكتم أنفاسها ولا يتخلى عنها إلا وهي جثة هامدة. •••
إنه يعي تماما ضرورة أن يهرب في الحال قبل أن تكشف الجريمة، لا يشك أن كثيرين رأوه وهو يتخبط في الحارة، ثم وهو يتسلل إلى بيت أم علي الداية. إنه يعي تماما ضرورة الهرب، ولكنه لا يفكر إلا في الحب.
ويذهب إلى المعلم حلمبوحة فينقده الجنيه ثم يمضي إلى هريدي الحملاوي بالجنيهين، فيصحبه الحملاوي إلى بيت أم سعد. •••
يقول الرواة إن سنان دخل حجرة محبوبته كمن يدخل الملكوت، وفي نشوة الخمر ارتمى على قدميها في هيام، وما يدري إلا وهو يبكي من الوجد، واجتاحته لحظة ثراء، فأشرق وجدانه بالصراحة والصدق فقال: لقد قتلت!
ولم تفهم المحبوبة كلمة، ولم يقدم هو على الفعل.
وانطرح الزمن خارج وعيه حتى هل أول شعاع للضياء.
وارتفعت من الطريق جلبة، ودقت الأرض أقدام ثقيلة، فتلقى سنان أول إشارة خفية، واستسلم بأريحية للمقادر.
الحكاية رقم «33»
مرت فترة بحارتنا يمكن أن تسمى بعصر زينب.
الأب بياع فاكهة، والأم بياعة بيض، وزينب آخر عنقود مثقل بالذكور، وهي جميلة، فلتة رائعة من الجمال، وفي جمالها تتلخص حكايتها.
في طفولتها كانت لعبة تتخاطفها الأيدي، في صباها تألقت تباشير الفتنة، في الشباب استوت آية من البهاء والأبهة.
ويقول زيدان الأب لزوجه: البنت يجب أن تحجب في البيت.
فتوافق الأم كارهة؛ إذ إنها تفضل بطبيعة الحال لو كان في الإمكان أن تسعى زينب لرزقها.
ويتكالب الخطاب عليها، فترتبك الأسرة حيال الطلاب، وتقول الأم: من العدل أن يكون حظها في قوة جمالها!
لذلك ترفض يد ابن أختها سواق الكارو، فتتمزق أواصر الأخوة، وتنشب معركة بين الأختين تتفرج عليها الحارة، ما بين شامت ومتعجب ولاعن.
ويتقدم لها في وقت واحد تقريبا حسن «صبي طرابيشي» وخليل «صبي جزار» فيجران إلى معركة عنيفة يخرجان منها بعاهتين مستديمتين.
وإذا بفراج الدري المدرس يطلب يدها، أفندي محترم وموظف حكومة، ويعتبر بالقياس إلى بيئة زينب حلما من الأحلام، وتقول الأم: هذا من نرحب به.
ولكن علي بياع القلل يعترض سبيل المدرس ذات يوم ويهمس في أذنه: إن تكن تحب الحياة حقا فابعد عن زينب!
ويستعين المدرس بقريب قوي من أهل التحرش والتحدي، فيعتدي الرجل على بياع القلل، ولكن بياع القلل يضطغنها في نفسه ويتربص لفراج أفندي ثم يفقأ عينه!
عند ذاك يجفل المحترمون من أبناء حارتنا إيثارا للسلامة ولا يبقى إلا الحرافيش.
وتهتف الأم المغيظة: يا ميلة البخت!
وتحتدم المنافسات، وتتعدد الاعتداءات، وتتساقط التهديدات، ويلتزم آل زيدان الحياد التام خوفا من العدوان، ورغم بلواهم وكربهم تلفحهم أنفاس الحاسدين وألسنتهم، حتى يقول زيدان لبعض أصدقائه: لقد حلت بنا نقمة اسمها الجمال!
وتتكرر الخناقات وتكثر الإصابات، وتمضي زينب وأسرتها لعنة مجسدة تستقطب الكراهية والحقد والحسد ورغبة خفية في الانتقام.
عم زيدان لا يجد فرصة ليتنفس في هدوء، ويخاف أن يغدر غادر بزينب نفسها.
ويطلع صباح فلا نقف لآل زيدان على أثر، ويتفشى الوجوم والكدر، وأمنى بخيبة لا يدري بها أحد، وبحزن أتساءل: ألا يتيسر للجمال أن يهنأ بالبقاء في حارتنا؟
الحكاية رقم «34»
هنية بنت علوانة الدلالة من بطلات الحب في حارتنا.
أتساءل كثيرا عن سر حبها لحمام صبي الخياط البلدي، إنه فتى سيئ الصورة والسمعة، شرس الطباع، تعكس عيناه نظرة تحد وعدوان، يرتدي جلبابه على اللحم ويمضي حافي القدمين، ثم إن هنية بنت متعلمة، مكثت في الكتاب ثلاث سنوات، تفك الخط وتجمع الأرقام وتحفظ جزء عم، وأمها ميسورة الحال، ووقت الغداء تفوح رائحة القلي من مطبخهم.
وهنية ترفض يد حامد المراكيبي بياع المراكيب عندما يتقدم لخطبتها، وتبكي الأم بحرارة وهي تحكي مأساتها لأمي: تصوري، حامد المراكيبي الرجل الكامل صاحب القرش.
فتتساءل أمي: كيف وبنتك عاقلة وحافظة كلام ربنا؟ - قالوا لي إنه معمول لها عمل، فذهبت إلى الشيخ لبيب، وزرت الأضرحة ونذرت النذور.
ولكن هنية تصر على رفض يد حامد، وتغضب أمها وتلطمها على وجهها وتصيح بها: تفضلين عليه المجرم؟ بعدك، ولكن مكتوب عليك الشقا.
ويتراجع حامد المراكيبي ويتلاشى، ويبدأ حمام جادا في التفكير في أعباء الزواج وما يقتضيه من التزامات جديدة نحو مظهره وسلوكه، غير أنه يتهم في هذه الأثناء بجريمة السرقة مع الإكراه، فيقبض عليه ويزج في السجن عامين.
تبتهج علوانة الدلالة بالحل الذي جادت به السماء، وتقول لهنية: أرأيت؟ سبحان الله الذي لا يعلو على برهانه برهان.
ولكن هنية تصر على رفض حامد المراكيبي، وتغرق في حزن عميق، حتى يشفق عليها الغاضبون، ويقول كثيرون إنه لا حيلة لها في الحزن، وإن حمام لا يقتلع من قلبها بلا أثر. ولكنها تصر على الرفض حتى يمر العامان ويرجع حمام إلى الحارة، وتدب الحياة من جديد في هنية ويجن جنون أمها. ويلقى حمام صعوبة في العودة إلى عمله الأول أو الالتحاق بأي عمل آخر، ثم يرى سارحا بلحمة رأس وطبلية، ويتساءل كثيرون: من أين جاء برأس المال؟ ولا يعلم إلا فيما بعد أن هنية هي التي أمدته بأسورة ذهبية.
وتثور علوانة ثورة عنيفة، وتستعدي على ابنتها القريب والجار، غير أن هنية تعقد قرانها بحمام في القسم، وتحت حماية الشرطة.
وأشهد بأنها زيجة موفقة، فهنية تشاركه في العمل وتدبره له بحكمة يعجز عنها عقله المشتت حتى ينجح - أو بالأحرى تنجح هي - في فتح دكان له، أما الذكريات القديمة، فلم يعد من المهم أن يذكرها أحد.
الحكاية رقم «35»
في موسم القرافة نزور أحيانا حوشا غير بعيد من حوشنا، أرى رجلا يقيم في حجرة المواسم إقامة دائمة، كما يستدل من وجود الفراش والكنبة والصوان، أسأل أمي عن هويته فتقول: ابن عمة أبيك رضوان أفندي. - لماذا يقيم في الحوش؟
تتجاهل وقتها سؤالي، وألاحظ خلو الحجرة من الرجل في عام تال، وأعلم أنه انتقل من الحجرة إلى القبر، ثم أسمع قصته فيما بعد لمناسبة لا أذكرها.
أسرة رضوان أفندي تتكون منه ومن حرمه ومن صبي وصبية، الأم تشغف بالصبي، على حين يشغف الأب بالصبية، يناهز الأخوان البلوغ، فيمارس الأخ قوته في معاملة أخته باسم الغيرة والرجولة، حتى تضيق به وبالحياة فيغضب الأب لها، وتسوء العلاقات بينه وبين ابنه، أو على قول أمي: سكن الشيطان بينهما!
يتطور النزاع إلى خصام أغبر، تأديب من ناحية الأب بلا رحمة، وتمرد من ناحية الابن بلا حذر، حتى تفصل بينهما الكراهية العمياء، فيتمنى كل للآخر الهلاك والفناء جهرا وبلا تحفظ.
وفي ختام المرحلة الثانوية يمرض الشاب بالسل، ثم يفارق الحياة عقب اكتشاف المرض بستة أشهر، موت قاس مطوي على المكر والخديعة والسخرية، فانهارت الأم وتلاشت آمالها في الحياة وزلزل الأب زلزال الخوف والندم، ويقول رضوان لأبي: إنها عملية نشل، والخجل يمنعني من مواجهة أمه.
وبعد مرور عام واحد لوفاة الابن تمرض أخته بنفس المرض.
وذات ليلة يجيئنا رضوان أفندي وهو يجري حافيا من أقصى الحارة، مشعث الشعر دامي العينين فتهب الأسرة نحوه متسائلة وهي على يقين مما تتساءل عنه، يقول الرجل وهو يلهث ويطالعهم بعينين انطفأ فيهما نور الحياة: انتهى كل شيء!
يصفي الرجل بعد ذلك تجارته، يهجر بيته إلى حوش القرافة، ويقيم هناك على مقربة من قبر الفقيدين، وتصر حياته على الامتداد حتى يوافيه الأجل.
أما الأم فهي تواظب على زيارتنا، وأراها وأتصل بها وأنا صغير وهي عجوز، يبدو أنها لا تذكر الماضي، وتحب التسلية باستقراء الكوتشينة عن البخت، أتذكر جلستها وراء الأوراق المفندة وتكومي أمامها في تشوف، وهي تشير إلى صورة وتقول: في سكتك واحدة ليست من دمك.
وتبتسم كثيرا فأقول لأمي: تيزة وليدة خفيفة وتحب الضحك.
فتتمتم أمي: ربنا معها ومع كل جريح.
الحكاية رقم «36»
في إحدى ليالي الأرق أرى من نافذتي هذا المنظر.
أرى شبح رجل يترنح، يتلاطم مع الجدران، يتعثر فيقع ثم يقوم بمشقة، تندلق من فيه السائب أغنية «أنا أبله كنت هبلة» ثم يندفع فاقد التوازن كأنه ثور يتوثب للنطح، وبعد مغالبة للقوى المجهولة ينطرح كالقتيل.
يراه بعض أهل الخير فيحمله أحدهم - لعله فران - ليطرحه على لوح عجين، ثم يتعاون مع آخرين على رفعه، ويمضون به!
يصادفهم على بعد خطوات سكران آخر يترنح ويتعثر ويقوم ويقع، وإذا بالسكران الأول يضحك من فوق لوح العجين ويصيح بالآخر: إخص، حقيقة إنك مرة، تسكر حتى تقع من طولك وتضحك عليك الناس؟ اسفخص.
في زمن متأخر، وفي ظروف غاية في الجدية، يعاودني ذلك المنظر حاملا إلي معاني جديدة لم تخطر لي على بال من قبل حين رؤيته.
الحكاية رقم «37»
عم ينسون الصرماتي كهل لا تشوب سمعته شائبة، يموت ابنه رمضان عقب مرض لم يمهله طويلا. يحزن الكهل كالمتوقع، ولكنه يقدم على فعل غريب يجعل منه أحدوثة الحارة قبل أن تجف دموعه، ما ندري إلا وهو يعقد زواجه على دليلة خطيبة ابنه المتوفى، يعقد زواجه عليها ولما يمر على الوفاة شهر واحد! هل جن الرجل؟
وعلى فرض جنونه، ألا يسعه أن ينتظر عاما أو بعض عام؟
وكيف توافق دليلة وفارق السن بينهما أكثر من أربعين عاما؟
ولكن الخبر حقيقة لا شك فيها، وها هي دليلة تنتقل إلى بيت عم ينسون لتعيش فيه مع زوجته وبقية أسرته.
وتتلوى الألسنة هامسة، كان شيء بين المرحوم رمضان ودليلة، يسره الزواج الوشيك، والثقة بغد لم يأت، وتدخل الموت فقلب الميزان، وتبدد الأمان، فسقطت دليلة في مأزق بلا حماية ولا أمل.
وتقف أمها على السر، تفضي به إلى أم رمضان، وترمي به هذه على زوجها المحزون، مصيبة جديدة، مصيبة بكل معنى الكلمة، ولكن لا يمكن تجاهلها بحال، البنت في مأزق، الجاني هو الابن الذي يسأل له الرحمة، ويفكر ويفكر ثم يعزم، ثم يقدم على أعجب زواج شهدته حارتنا.
تصبح دليلة زوجته، وتلد في بيته وليدها.
وثمة أناس باركوا فعل الرجل ودعوا له بحسن الجزاء.
وآخرون في غفلة وبراءة رموه بالحماقة والجنون.
أما غواة السخرية فيشيرون إليه ثم يتهامسون: هذا هو أبو حفيده.
الحكاية رقم «38»
وأنا ألعب في الحارة تنطلق زغرودة من بيت الديب.
أكثر من صوت يتساءل: خير إن شاء الله!
فيبشرنا أحدهم قائلا: قرئت فاتحة نعيمة السقاف على شيخون الدهل.
يتناهى الخبر إلى فتحية قيسون وهي تغسل ملابس في طست أمام مسكنها، تنتتر واثبة كالملدوغة، تفك عقدة جلبابها، تربط منديلها حاشرة ما تبعثر من شعرها تحته بلهوجة، تتناول ملاءتها من فوق حجر، فتتلفع بها بسرعة مجنونة محركة طرفيها كجناحي طائر كاسر، تلوح بقبضتها مهددة، ترجع رأسها إلى الوراء متوثبة ثم تندفع في طريقها على يقين من هدفها وهي تصيح: والنبي ومن نبى النبي لأسود حظه وأطين عيشته وأشوه وجهه حتى إن أمه نفسها لن تعرفه.
وتمضي مخلفة وراءها توقعات خطيرة، ورغبة محمومة في الاستطلاع، وعواطف تتراوح بين الإشفاق والشماتة.
الحكاية رقم «39»
صبري الجواني يثير دائما عاصفة من التساؤلات.
من بيئة كادحة، يعمل في دكان خردوات، ثم يندب للجولان بشتى الخردوات في الأحياء المجاورة، يتغير جلده بسرعة تفوق كل تقدير، تتحسن صحته ويكتسي بحلة النعمة الزاهية، ينتقل إلى مسكن جديد، يرى وهو راجع حاملا ورقة لحمة وفاكهة الموسم، يجلس مساء في المقهى يدخن البوري، ويحتسي الزنجبيل، ويقضي بعض السهرات في غرزة المواويلي.
ويتزوج من بنت ناس، ويرتدي البدلة بدلا من الجلباب، وتنطق ملامحه بالرضى والثقة والأمان. وفي ليلة دخلة صديقه الحلاج يسكر ويرقص ويغني ويبدي من فنون الانبساط ما لا يتصوره عقل.
وعقب الزفة يغادر الفرح ليرجع إلى بيته، ولكنه لا يرجع إلى بيته.
يختفي فلا يقف له على أثر أو خبر.
الحكاية رقم «40»
يجلس وراء نافذة مصفحة بالقضبان، يحملق في لا شيء، تتحجر في عينيه نظرة لا معنى لها، رأسه صغير أصلع، يغمغم بين آن وآن: أين أنت يا حبيبتي!
نرمقه من بعيد بحب استطلاع، نتجنب إثارته كما نبه علينا، نتهامس: انظر إلى عينيه! - ماذا يعني؟ - إنه مجنون.
كان يرى قديما هائما صامتا، يتابع امرأة محجبة باهتمام، يعترض طريقها فيفصل بينهما أهل المروءة.
ويقال إنه رأى في حلم بنتا جميلة شغف بها أيما شغف، وأن الحلم يتكرر، وأنه يمضي باحثا عنها.
ويفقد الصبر فيأخذ في التهجم على النساء، ويهم بجذب النقاب، ويتعرض بذلك للزجر والضرب والعنف، ويؤمن أهله بأنه ممسوس فيطوفون به على الأضرحة والشيخ لبيب، ولكنه لا يبشر بشفاء.
ويقولون لأبيه: المستشفى لأمثاله وسلم للمقادر.
ولكنه يحبسه في الحجرة ويصفح النافذة بالقضبان.
ويقبع نهاره وراء النافذة، يحملق في لا شيء، ويتقدم في السن، ويغمغم من آن لآن: أين أنت يا حبيبتي؟
الحكاية رقم «41»
إبراهيم القرد أضخم بناء إنساني تشهده عيناي، لا أتصور أن يوجد بين البشر من هو أطول أو أعرض منه، مئذنة، يتحسس طريقه بنبوت رهيب، تحمله قدماه حافيتان كأنهما سلحفاتان، يقول أهل حارتنا إنه من لطف الله أن يخلق إبراهيم القرد ضريرا.
وهو الشحاذ الوحيد في حارتنا، فمنذ احترف التسول لم يتجرأ شحاذ آخر على ترديد «لله يا محسنين!»
يقعد الساعات متربعا عند مدخل القبو، معتمدا على نبوته، يصمت طويلا، ينفجر بصوت كالرعد «يا أكرم من سئل»، يجيئه الطعام في أوقاته، تتراكم الملاليم في جيبه، يتبادل التحيات مع السابلة.
وبسبب من حدة التناقض بين قوته الخارقة وبين حرفته المستضعفة، فإنه مثار للابتسام، ولكن بلا حنق أو حقد، فحسبه أنه ابن حارتنا، وحسبه أنه لا يستثمر قوته في العدوان.
ويشاء الحظ أن أشهد معركته الكبرى.
ففي أحد المواسم يهبط حارتنا زلومة - شحاذ ضرير أيضا - من القبو راجعا من القرافة مثقلا بالفطير والتمر، فيختار مجلسا غير بعيد من القرد ليستريح من عناء يوم مظفر.
ها هما الشحاذان الضريران يجلسان على جانبي مدخل القبو كأنهما حارسان، ويتلقى القرد بأذنيه الحادتين رسائل خفية من حركات شفتي زلومة، كما يتلقى أنفه رسائل مغرية من جراب الأغذية، يتجه رأسه نحو الرجل باهتمام وتساؤل وتحفز.
ويهتف زلومة في غبطة: يا حسين يا حبيب النبي يا سيد الشهداء .. مدد.
فيقطب إبراهيم القرد ويتساءل بغلظة: من؟
فيجيبه زلومة ببراءة: سائل على وجه الكريم! - وماذا جاء بك إلى هنا يا بن الزانية؟
فيسأل زلومة بحدة: أملكت أرض الله؟ - ألا تراني؟ - إني أرى بنور القلب.
فيتمتم إبراهيم القرد: عظيم.
يتمطى بنيانه قائما ويمضي نحو زلومة وكأنما يراه، يقبض على منكبه، لا أدري ماذا يفعل به ولكني أرى الرجل وهو يصرخ ويتلوى ويستغيث.
ويتجمهر أناس كثيرون، يخلصون بينهما بعناء شديد، يبدر من البعض كلمات غاضبة: افتراء وظلم. - أنت وحش. - أنت لا تخاف الله!
ويصيح إبراهيم القرد: عليكم اللعنات.
ويغضب أحدهم فيرميه بسلة محطمة ملقاة .
ويثور القرد، أجل يثور ثورة أكبر من ثورة مظاهرة زاخرة، كأنما هرست له دملا، يجن جنونه، يهدر بأقذع الشتائم، يشهر نبوته ويدور به ويضرب به كل مكان فيرتطم بالجدران والأشياء، ينشر الفزع في دائرة آخذة في الاتساع، يتفرق الرجال، يركضون، يتلاطمون، يعثرون فيسقطون، يصيحون، يستغيثون، القرد ينقلب قوة عمياء مدمرة تجتاح الحارة، يلوذ الناس بالأزقة الجانبية، تغلق الدكاكين، تتحطم الكراسي والسلع وتنقلب السلال والمقاطف.
وتتدفق قوات الشرطة على الحارة، يذهل الضابط عندما يدرك أن المعتدي ما هو إلا شحاذ ضرير، ثم يأمر جنوده بإلقاء القبض عليه.
وتتجدد المعركة بين القرد والجنود، يخوضها الجنود، عزلا من السلاح بأمر من الضابط ولكنهم لا يلبثون أن يتطايروا في الهواء كاللعب، إنه قوة لا تغلب.
ويتجمع الغلمان في الأطراف ويشجعون القرد بهتاف صاخب، الحق أنني لم أر رجال الداخلية من قبل على حال من التعاسة كما أراهم الآن، ويصيح الضابط من داخل بدلته البيضاء ذات الشريط الأحمر: يا قرد، ستضرب بالرصاص إن لم تسلم نفسك في الحال.
ولكن القرد يتمادى في التحدي منتشيا بثورة القوة والنصر، ويرحمه الضابط فلا يأمر باستعمال هراوة أو بندقية، ولكنه يستدعي بعض رجال المطافئ.
ويتدفق الماء من الخرطوم كالشلال، فينصب بقوته التي لا مفر منها على القرد، يرتبك القرد ويتعثر ويدور حول نفسه مترنحا منهزما حانقا قاذفا بسيل من السباب المقذع، ثم يتهاوى فوق أديم الأرض بلا حول، فينقض عليه الجنود بالأغلال.
ويغيب القرد عن حارتنا فترة من الزمن، ولكنه يرجع ذات يوم ببنيانه الضخم وهامته المرفوعة فيلقى استقبالا حميما وتحيات حارة .. فيواصل حياته السابقة متعملقا عند مدخل القبو مثل أسطورة.
الحكاية رقم «42»
البرجاوي منهمك في عمله بدكان الطعمية.
يمر به الكفراوي فيطلب منه شربة ماء، تتملك البرجاوي نزوة مزاح فيشير إلى حوض الماء الذي منه تسقى الحمير والبغال ويقول: إليك الحوض فاشرب.
ويضحك أناس من الزبائن، فيغضب الكفراوي ويصيح به: أنت جبان وقليل الأدب.
فيغضب البرجاوي بدوره ويصيح به: ملعون أبوك وأجدادك!
وتتبادل قذائف من السباب ويتجمع مشاهدون من أعمار متفاوتة، ويسعى إمام الجامع لفض الموقف ولكن أحدا لا يلقي إليه أذنا فينسحب مستاء.
ويتصاعد النضال فيتناول الكفراوي طوبة يقذف بها الدكان، فتحطم المصباح الغازي الكبير المدلى من السقف، ويفقد البرجاوي أعصابه فيقبض على يد طاسة الطعمية ثم ينقض على الكفراوي فيضرب بها وجهه ورأسه ولا يتركه إلا جثة هامدة.
ويهرع إلى مكان الحادث أهل الكفراوي وأهل البرجاوي فيخوضون معركة دامية يستعمل فيها الطوب والعصي والسكاكين، فيقتل من يقتل، وينتهي مصير الباقي إلى السجون.
وأعيش عمرا فلا أرى في داري البرجاوي والكفراوي إلا نساء وبنات يسعين في السواد، يحزنني ذلك بطبيعة الحال وأعلق عليه بما يناسبه.
غير أن كثيرين من أهل حارتنا يفخرون بذكريات الغضبات الهادرة والملاحم الدموية، ويتشرفون جهرا بالسجون والمشانق.
الحكاية رقم «43»
حواش العداد من أصحاب المزاج في حارتنا.
في ليلة عيد يقرر أن يحيي سهرة كبرى في بيته، يلبي دعوته كثيرون من الصحاب والمعلمين والمطربين والعوالم والراقصات، وتلعب الأوتار وتتهادى الأنغام في جو من العربدة يهيج أشواق المحرومين، ويثير استهجان أهل التقوى والورع.
ويتواصل الطرب والعربدة حتى قبيل الفجر بقليل، ثم يخلد الجميع لنوم عميق.
وعند ضحى اليوم التالي، والحارة ثملة بأفراح العيد، تصدر عن بيت حواش العداد ضجة غريبة وصيحات فزع كأن صاعقة انقضت عليه.
ويهرع الناس نحو البيت وهم يتساءلون، ثم تنتشر أخبار لم يسمع بمثلها من قبل.
يقول الرواة إن الداعي والمدعوين استيقظوا فوجدوا أنفسهم مبعثرين في عالم خراب شامل لا يتصور ولا يوصف، إنهم يتذكرون كيف أن النوم سرقهم من بين أحضان المسرات وهم على خير ما يحبون، ولكنهم فتحوا أعينهم على عالم لا يرى إلا في أعقاب زلزال مدمر، فالأثاث النفيس قد تحطم إربا، الكنب والدواوين والمقاعد والموائد تتفتت أكواما ونثارا، الشلت والمساند والستائر والأغطية قد تهتكت وتمزقت، وتطاير حشوها ندفا، والقوارير والكئوس والأطباق والمواقد والجوز قد تكسرت وانتشر كسارها، كذلك المصابيح والتحف، وحتى السجاد والأبسطة والملابس. ماذا حدث، لماذا حدث، كيف حدث؟!
وتحضر الشرطة فتعاين وتسجل وتستجوب، ولكن التحقيق لا يسفر عن شيء، ويقال هنا وهناك إن خلافا دب بين السكارى فانقلب معركة حامية لم تبق على شيء، وأن رجالا من ذوي الجاه توسطوا عند المأمور فغطى على الحادث بالحفظ، ولكن لم يسمع أن أحدا من المدعوين جرح جرحا عميقا أو أصيب بعاهة.
ويقال أيضا إن أعداء لحواش العداد دسوا لهم منوما حتى ناموا ثم دمروا كل شيء بتصميم شامل ودقة ووحشية بالغة، ولكن ألم يكن من المنطق أكثر أن يوجهوا انتقامهم إلى الأشخاص أنفسهم؟
وعلى ذلك فلم يكن يصدق أحد هذا القول.
ويذاع كلام أيضا عن أن ما حاق ببيت حواش إنما جاء نتيجة لغضب من الله استحقه باستهتاره وفسوقه وعربدته وأن الداعي والمدعوين هم الذين خربوا دارهم وهم ذاهلون في غيبوبة، ثم تداعوا نياما شبه أموات.
وهذا تفسير يلقى عادة أذنا مصغية في حارتنا، ومثله ما قيل عن دور العفاريت في الأمر نتيجة لنذر نذره حواش ولم يوفه.
وتمر أيام وأعوام فلا يذكر أحد من حارتنا حادث ليلة العيد بدار حواش العداد حتى يبسمل ويحوقل ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
الحكاية رقم «44»
هذه حكاية تروى عن عهد قديم لم أشهده.
كانت الزاوية حديثة البناء وكان إمامها وقتذاك الشيخ أمل المهدي، صعد الشيخ إلى شرفة المئذنة ليؤذن الفجر، فانتبه إلى صوت يصدر عن البيت المواجه للزاوية، مد بصره نحوه فرأى امرأة تفتح النافذة، ورجلا يطبق يده على فيها ليمنعها من الاستغاثة، ثم يجذبها إلى الداخل تحت المصباح الغازي المضيء، ثم ينهال عليها ضربا بشيء في يده حتى تهاوت ساقطة. عرف المرأة كما عرف الرجل، أما المرأة فهي ست سكينة، أرملة صاحب مقلى، وأما الرجل فهو المعلم محمد الزمر صاحب وكالة خشب. تسمر الشيخ أمل المهدي في مكانه متدثرا بالظلام، مرتعد الفرائص من الرعب حتى أغلق المعلم النافذة، وراح يتمتم: لقد قضى على المرأة.
وخانه صوته فلم يستطع أن يؤدي الأذان.
جريمة قتل، ماذا أوجد المعلم في هذه الساعة ببيت الست؟ توجد أكثر من جريمة، ارحمنا يا رب السماوات والأرض!
وهبط السلم الحلزوني بمشقة، ثم جلس على الأرض راكنا إلى المنبر ظهره، وجاء أوائل المصلين فهالهم منظره وسأله بعضهم: لم لم نسمع صوتك يا شيخ أمل؟
فأجاب لاهثا: بي مرض والله أعلم.
وكان المعلم محمد الزمر هو من تبرع ببناء الزاوية، وهو الذي اختار الشيخ إماما لها، ورتب له أجره، تذكر الشيخ ذلك فقال يخاطب نفسه: يا له من امتحان عسير من رب العالمين!
ورقد الشيخ في بيته ثلاثة أيام ولم يفتح فمه.
وانتشرت أنباء الجريمة في الحارة فعرف كل من هب ودب أن الست سكينة وجدت قتيلة في حجرة نومها وهي بجلباب النوم، وبدأ التحقيق، واستدعي فيمن استدعوا الشيخ أمل المهدي.
سأله المحقق: ألم تسمع صرخة أو صوتا ملفتا للسمع وأنت تؤذن؟
فأجاب: كنت مريضا فلم أؤذن تلك الليلة. - أنت جار للقتيل، ألا تعرف شيئا عن علاقتها بأحد؟ - كانت سيدة فاضلة ولا علم لي بشيء.
وغادر الشيخ حجرة المحقق وهو يقول لنفسه: «إني لمن الهالكين.»
وجعل يبكي بشدة من الحزن والعجز.
واكتشف في أثناء التحقيق سرقة بعض قطع من الحلي فحامت الشبهات حول صبي كواء كان يتردد على البيت، وفتش مسكنه فعثر على الحلي، وبذلك وجهت إلى الشاب تهمة القتل.
وبدا ذلك كله منطقيا إلا عند الشيخ أمل، تابع الشيخ أنباء الجريمة باهتمام جنوني، مضى يحترق في صميم أعماقه، وينهار عصبا بعد عصب، كان ورعا تقيا، ولكن شجاعته كانت دون ورعه وتقواه.
ومن شدة القلق والحزن تهدم ودب الضعف في أعصابه.
والتقى ذات يوم بالمعلم محمد الزمر أمام السبيل القديم، فشد على يده كالعادة، وعند ذاك انتفض كأنما مس ثعبانا، وحدق فيه بقوة غريبة حتى تساءل المعلم: ما لك يا شيخ أمل؟
فوجد نفسه يقول: لقد رآك الله!
فدهش الرجل وسأله: ماذا تعني؟ .. أنت مريض؟
فهتف به: اعترف بجريمتك يا قاتل!
ثم هرول إلى الزاوية فأغلقها على نفسه بالمفتاح والمزلاج، لبث في سجنه يومين كاملين لا يستجيب لأهله ولا لأحد من الناس.
وعند مغرب اليوم الثالث فاجأ أهل الحارة بظهوره في شرفة المئذنة، ولكن أي ظهور كان؟ تطلعت إليه الأبصار بذهول وراحوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله! - الرجل الطيب عار تماما. - يا شيخ أمل وحد الله!
ومضى يدور في الشرفة متبخترا ويغني بصوت متحشرج:
أما انت مش قد الهوى
بس تعشق ليه؟
الحكاية رقم «45»
بحارتنا عامل بالسرجة يدعى عاشور الدنف، متزوج، أب لعشرة، في الأربعين من عمره، يتميز بقوة شديدة وملامح خشنة وفقر مدقع، يتواصل عمله من الضحى حتى منتصف الليل، لا يعرف الراحة كما لا يعرف الشبع، يحتقن بالحسرات إذا رأى الناعمين في المقهى أو تطايرت إلى أنفه رائحة التقلية، وهو يغبط حمار الطاحونة في السرجة كما يغبط العطار أو صاحب وكالة الخشب.
ويقول ذات يوم لسيدنا إمام الجامع: الله يخلق الرزق ولكنه ينسى أبنائي.
فيغضب الإمام ويصيح به: لقد بات سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعض لياليه رابطا على بطنه حجرا ليسكن به جوعه، اذهب عليك اللعنة. •••
ويرجع عاشور الدنف عند منتصف ليلة من السرجة يشق الظلماء فيتهادى إليه صوت هامس ناعم يقول: يا عم عاشور!
يتوقف متلفتا أمام نافذة مغلقة في دور أرضي ببيت الست فضيلة الأرملة المستحقة في وقف الشنانيري، ويتساءل: من ينادي؟
فيجيبه الصوت: أريد منك خدمة فادخل.
المكان مظلم، حتى شبح التمساح المحنط فوق الباب لا يرى، يمرق من الباب ويمضي نحو المنظرة مهتديا بضوء يلوح في شراعة بابها، يرى السيدة فضيلة متربعة على كنبة تركية، فيقف بين يديها ناشرا في المكان رائحة عرقه الفظة النافذة. - أريد زيتا وكسبة.
تقولها ببلاهة، بلاهة تفضح مكرا ساذجا، وتنضح بشرتها باعتراف قرمزي، ويلمح في جفنيها المسبلين معجزة الرضى والاستسلام، ولكنه ليس الاستسلام الذي تبادر إلى خياله، فما تزال حصينة وعاقلة ومدبرة، ويغادرها بعد أن يوقن بأنها تريده في الحلال! •••
ويلبث دهرا لا يصدق، يتوهم أنه يتعامل مع حلم من الأحلام، ولكنه يتزوج من الأرملة الغنية، ويجري ذكره في الحارة نادرة من النوادر، ومثالا من الأمثلة، لا يبالي طبعا أن يترك لها العصمة في يدها، ويترك عمله بالسرجة كما شرطت عليه، ثم يطالع الناس في زي جديد وجلد جديد وهالة جديدة أضفاها عليه النعيم، وبمشيئة ست فضيلة لا يطلق زوجته القديمة، وترتب لها ولأولادها ما يكفيهم، فيباركون الزواج من أعماق قلوبهم، هكذا يعيش عاشور أحلامه القديمة، فيشبع ويسعد. •••
وست فضيلة سيدة جميلة وكاملة، تحبه وتسهر على راحته وتعيد خلقه من جديد.
وهي لا تفرط في شيء منه، ناعمة مهذبة وفية ولكنها لا تفرط في قيراط منه، ومنذ اللحظة الأولى يشعر عاشور بأنها حريصة على ملكيته ملكية كاملة، ظاهره وباطنه، أصله وظله، حتى فكره وأحلامه، فهو يعيش بين يديها، في الحديقة أو المنظرة، وحتى الساعة التي يقضيها في المقهى يرى شبحها وراء خصاص النافذة يطل عليه، ولكنه ينعم رغم كل شيء بالحب والراحة والشبع. •••
وعندما يعتاد عاشور الطيبات، عندما تطوي العادة معجزات الهناء، يتسلل إلى روحه التثاؤب. يتوق إلى ساعة يخلو فيها إلى نفسه، يهيم على وجهه، يمازح صديقا، يرتكب حماقة بريئة، ولكنه يشعر دوما بأنه مراقب، خاضع، مطارد.
الحق أنه لا ينقصه شيء ولكنه سجين، ثمة أغلال من حرير تحز عنقه مكان الأغلال الحديدية القديمة، ويتدفق في روحه التثاؤب.
ويجد الزمن طويلا، ويجد الزمن ثقيلا، ويجد الزمن عدوا.
ويقول لها ذات يوم: افتحي لي دكانا.
فتقول له: لديك ما تشتهيه النفس، ماذا ينقصك؟
فيقول متشكيا: كل رجل يعمل حتى الشحاذون.
ويوقن بأنها تخاف أن يستغني عنها بالعمل أو يستقل عنها بالنجاح، وهو لا يريد من العمل إلا أن يهيئ له قدرا من الحرية، بعيدا عن نظرتها المستقرة. •••
ويرتد عاشور الدنف إلى التجهم والاحتجاج.
ويردد لسانه ألفاظ التذمر والظلم ونوادرهما.
ويغلي غضبه ويفور، فيقرر أن يفعل ما يشاء، فتجتاح رياح الشقاق هدوء البيت السعيد.
ويتمادى في غضبه فيلطمها على خدها الأسيل، فتطرده من الجنة فيذهب متحديا. •••
ويتعرض في تشرده لمتاعب كثيرة، يلتقط رزقه بعناء، يتورط في أعمال مريبة، يجلد مرة في القسم.
وتحن الست إليه فتعرض عليه الصلح بشروطها، ولكنه يرفض، يصر على الرفض، يمضي في سبيله المحفوف بالمتاعب والمخاطر.
يستحق عند ذاك أن يكون نادرة من نوع جديد في حارتنا.
الحكاية رقم «46»
كنت أعود سعد الجبلي في مرضه الأخير عندما ترامت إلى الحجرة من الحاكي أغنية:
ما هو إنت اللي جايبه لروحك بإيدك يا قلبي
فتنهد سعد وابتسم وتمتم: إي والله، بإيدك يا قلبي.
وتبادرت نظرة نطقت بتذكرنا لحياته المغامرة الحافلة بالمسرات والآلام. •••
سعد الجبلي كاتب حسابات بدكان الرهونات بحارتنا، طموح بعيد الأحلام فيبيع أرضا يمتلكها ويستقيل من عمله ثم يتاجر في الروائح العطرية، يربح أرباحا كثيرة، يصير من أثرياء الحارة، ولكنه لا يتمتع في الواقع بأخلاق التجار الاقتصادية.
كل ليلة يدعو إلى بيته نخبة من الصحاب، يقدم الطعام والشراب، يعود بأوتار العود، يغني من له صوت مقبول، تمتد السهرة حتى منتصف الليل.
ثم يخيب تقديره في صفقة كبيرة، لا يجد لديه من المدخر ما يسد به العجز، يشهر إفلاسه.
يجد نفسه هو وقبيلة مكونة من زوجة وأبناء وأخوات على باب الله!
تمر به أيام قاسية شديدة، تؤذي صحته وكبرياءه معا، ولكنه يبدو دائما رجلا قويا راسخ الأركان، يرجع إلى عمله الأصلي في دكان الرهونات، يعطي دروسا خصوصية في الحساب، يعيش عيشة التقشف.
وإيمانه قوي عميق.
أجل يشرب كثيرا، لا يلتزم بالفرائض، ولكنه مؤمن حقا، يعتقد بأن لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه لا مفر من المكتوب.
ولا يقعده عن العمل إلا المرض فيلزم الفراش.
وأفكر بحال أسرته فيملؤني الأسى.
وأشير إلى من يلعب في الحجرة من الصغار وأقول: ربنا يشفيك من أجل هؤلاء!
فيقول باستسلام: أما الصحة فقد انتهت.
ثم يستطرد بثقة: أما الأولاد فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ويرفع إصبعه إلى فوق ويقول: الخوف كفر بالله، أعوذ بالله من الخوف.
ثم بنبرة ساخرة: أحسبت أن حياتي أطعمتهم حتى تخاف أن يجيعهم موتي؟
أتمعن إيمانه منبهرا من قوته.
غير أن سعد الجبلي لا ينسى الدعابة حتى وهو في أعماق المحنة، فما أن يردد الحاكي:
ما هو إنت اللي جايبه لروحك بإيدك يا قلبي
حتى يتمتم باسما: إي والله، بإيدك يا قلبي!
الحكاية رقم «47»
وشلبي الألايلي له حكاية تستحق الرثاء.
لطيف ومحبوب ولكن ثمة لحن مميز في حديثه هو الإعجاب بأبيه، والفخر بالآباء شعار مألوف في حارتنا، ولكن المغالاة فيه لا تخلو من دلالة، ولا يسلم على المدى من تهكم، وأبوه كان كاتبا في دكان الخردوات، وكان طويلا عريضا، والرجال يقيمون بالطول والعرض في حارتنا.
يقول لي شلبي وهو يتنهد: طالما رأيت أبي بعيني طفل أو من خلال عيني أمي أيضا!
فأقول له: هذا حال كثيرين منا. - ولكن الطفل يكبر ثم يعمل عادة في حرفة أبيه فيتسنى له أن يراه على حقيقته، أما أنا فدخلت المدرسة وواصلت تعليمي فظل أبي في خيالي أسطورة. - أي أسطورة يا شلبي؟ - أسطورة الجلال والثراء!
ثم يواصل بعد صمت قصير: ومات الرجل فهتك الستر من ورائه عن عالم غريب. - عالم غريب؟ - لم يترك مليما واحدا، كانت صدمة، وقلت إنه الكرم قد أهلك ثروته!
ويمضي في قصته، أو في اعترافه، فيقول إنه توظف، وطمح ذات يوم إلى الزواج من كريمة تاجر الغلال، وأراد أن يزكي نفسه عنده فأخبره أنه ابن الألايلي. - ودهمني الرفض، تحريت عن السبب بإلحاح شديد حتى عثرت عليه في ذكريات أبي! - هكذا؟ - تصور حالي إن استطعت.
ويجري لاهثا وراء مزيد من التحريات ينبش بها قبر الراحل فتتكشف له حقائق مريرة خافية، أخطرها بلا شك اتهامه في شبابه بالسرقة والحكم عليه بالسجن عاما، وقد قبل تاجر الخردوات بتوظيفه كاتبا عنده لصداقة قديمة بينهما.
شلبي الألايلي يجتر همومه وحده، حتى أمه لا تدري شيئا، وهو يفشي أسراره الدفينة، لا ليجد شريكا يبثه همه، ولكن لتوهمه أن سيرة أبيه أصبحت نادرة على كل لسان.
وتحدث الحقائق المكتشفة آثارا قاسية مناقضة في حياته، فها هو يلتزم بحياة مستقيمة نقية بل مثالية في عمله وحارته، وها هو يتحرر بالفضيحة من سيطرة آراء الناس عليه، فيعمل الصواب دون مبالاة بالآخرين، ويعدل عن طموحه إلى الزواج الممتاز، ويثابر على التنويه بمآثر أبيه!
ويقول لي مرة بصراحة صلبة: أهم شيء في هذه الدنيا أن نعرف الحقيقة.
ويغمغم بثقة وأسى معا: الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة!
الحكاية رقم «48»
الأب موظف حكومي صغير وذاك أمر - على أي حال - نادر في حارتنا، لذلك ينشأ الابن - صقر الموازيني - محسودا بين أقرانه، ولكنه يقول لي ذات يوم: لو كان أبي صعلوكا ما عرفت الهم أو الغم!
ويتوظف صقر مثل أبيه، وبعد عام من توظيفه يتوفى أبوه موظفا صغيرا فقيرا، لا يورثه إلا أسرة مكونة من أم وعمة وأختين في سن الزواج وكلبة، كما يورثه أيضا تقاليد راسخة تتعلق بالكرامة وتطلعات جامحة نحو الحياة الجميلة.
وأكثرية النساء في حارتنا يرتزقن، أما في أسرة الموازيني وأمثالها فمقضي عليهن بالانتظار، واجترار الأحلام، ومقضي على صقر وحده أن يعمل بمرتب ضئيل ليعول أربع نساء وكلبة.
وتمضي الحياة ثقيلة مغلقة النوافذ، ولا فرجة له إلا المقهى حتى منتصف الليل.
ويجد راحته في الشكوى، فيقول: لن تتزوج أختاي أبدا، فنحن لا نرضى بالصعاليك، وأولاد الناس لا يرضون بنا، ومن ثم فلن يتاح لي الزواج أبدا.
أسرة تعاني الأشواق والحرمان، حتى الأم والعمة لم يجاوزا الخمسين.
وصقر شاب مستقيم رغم حيويته، ذو استعداد شديد للحياة الزوجية ويحن لها حنينا:
بيت صغير وزوجة وأبناء، تلك هي الجنة!
ويتنهد وتذوب نظرته حسرة وأحلاما. •••
وتضطرب جوانحه بعنف الكبت، فيطفر في صفحة وجهه الشحوب والشرود، وبمضي الأيام يتفجر الحرمان سخطا على الأهل والنفس والناس، ثم ينطبع البيت بطابع الشحناء ومرارة الملاحاة.
والنساء مجبرات على البقاء في البيت - إلا لضرورة - منعا للقيل والقال، تحبسهن التقاليد، يجمعهن الحرمان، يعذبهن الفراغ، يتسلين بالنقار.
أسرة في صراع دائم مع الحرمان والأهواء واليأس، ونضال خفي مع حارسها الذي لا يقل عنها يأسا وعذابا.
حتى الكلبة تضطرب في جنبات البيت مختنقة، ممنوعة من الانطلاق خوفا من القذارة، تلاعب الضيف بعنف، تنقض على ساقه تتمسح بها، يجن جنونها لدى سماع نباح يترامى. •••
ويتقدم العمر، صقر يغط في عزوبته، وهن يذبلن ويغصن في الماء، ويتسربل الجو بالقتامة. والشاب بقدر ما يثير من عطف، بقدر ما يستوجب من ازدراء، لا علة واضحة لذلك، ربما لأنه يصبح مثالا للإذعان، والانحناء حيال المصير المحتوم، ومرآة للاصطلاحات والأساليب النسوية المقتبسة من البيت.
ويوما أرى كلبته في الطريق وقد تدلت بطنها وانتفخت، فأرمقها بابتسام وإعجاب:
الكلبة وحدها وهبت حارتنا ذرية جديدة.
أما صقر فبات يمقت أسرته، ويقول عنها: أسرة لا تعرف الموت، كما لا تعرف الحياة!
الحكاية رقم «49»
أمنية كل صغير في حارتنا أن يطوف به في منامه زائر الليل.
إنه شخصية حقيقية بلا ريب، ولكن مملكتها المضيئة تستقر في القلوب البريئة، في ليالي المواسم الأعياد يقولون لنا: استحم وادخل فراشك، فاقرأ الفاتحة، وتمن ما تشاء، واستسلم للنوم فربما أسعدك الحظ بمجيء زائر الليل ليحقق لك أمانيك!
وتتابعت تمنياتي خلال مراحل متلاحقة من العمر، ابتهالات يزفرها القلب بين يدي زائر الليل. - يا زائر الليل أغلق الكتاب وخذ سيدنا. - يا زائر الليل افتح لي باب التكية واملأ حجري بالتوت.
يا زائر الليل جدد مباني حارتنا القديمة.
يا زائر الليل نجنا من الفقر والجهل والموت. •••
وفي صباي شهدت موكبا فخما يشق حارتنا، يتوسطه رجل بالغ الروعة، اكتظت الحارة بالرجال وسدت النوافذ بالنساء، جلجلت الزغاريد والهتافات، صدحت المزامير والطبول.
زار الدكاكين دكانا دكانا، والوكالة والسرجة والفرن والحمام والكتاب والمدرسة والسبيل الأثري والقبو والزاوية والساحات، حتى البوظة والغرزة والقرافة طاف بها.
بهرني منظره فانبعثت في قلبي فرحة لا حدود لها، وانتفض وجداني عن عقيدة راسخة «إن هذا الرجل الرائع هو زائر الليل» وأنه جاء أخيرا استجابة لابتهالاتي في هدأة الليل.
وهتفت بصوتي الرفيع الذي لم يناهز البلوغ: ليحيا زائر الليل!
وحدث ما لم أتوقعه أبدا، فقد وجم الناس، وتقلصت وجوههم، كأنما اندلق في أفواههم عصير الليمون المالح، وقرص إمام الزاوية أذني وصاح بي: يا لك من ولد قليل الأدب!
وأمر صاحب الوكالة أحد خفراءه قائلا: أبعد هذا الولد الشقي!
ودفعتني الأيدي إلى بيتي وأنا من القهر والمهانة في نهاية.
وجلست واجما محزونا دامع العينين حتى قال لي أبي: إنك أحمق، أنسيت أن زائر الليل لا يجيء إلا في المنام؟!
الحكاية رقم «50»
في زمن مضى لم أدرك منه إلا ذيله كانت الفتونة هي القوة الجوهرية في حارتنا، هي السلطة، هي النظام، هي الدفاع، هي الهجوم، هي الكرامة، هي الذل، هي السعادة، وهي العذاب!
جعلص الدنانيري فتوة خطير، ومن أشد الفتوات تأثيرا في حياة حارتنا، يجلس في المقهى كالطود أو يتقدم موكبه مثل بنيان ضخم، وأنظر إليه بانبهار فيشدني أبي من يدي قائلا: سر في حالك يا مجنون.
وأسأل أبي: أهو أقوى من عنترة؟
فيقول باسما: عنترة حكاية، أما هذا فحقيقة والله المستعان.
وهو عملاق مترامي الأطراف طولا وعرضا، ذو كرش مثل قبة جامع، ووجه في حجم عجيزة ست أم زكي، يتمايل فوق صهوة حصانه كالمحمل، ولكنه سريع الانقضاض كالريح، ويلعب بالنبوت في رشاقة الحواة، وعند القتال يقاتل بنبوته ورأسه وقدميه وأتباعه.
لا يسمع صوته إلا مزمجرا أو هادرا أو صارخا، ودائما قاذفا سيلا من الشتائم، يخاطب أحباءه بيا ابن كذا وكذا، يسب الدين وهو ذاهب للصلاة أو راجع منها، لا يرى باسما أو هاشا حتى وهو يتلقى الإتاوات ويصغي إلى الملق، يستوي في ذلك عنده صاحب الوكالة وحمودة القواد، وعلى مسمع ومرأى من وجهاء الحارة وأعيانها يضرط أو يكشف عن عورته!
يعجز مرة أحد التجار عن دفع الإتاوة فيستمهله أسبوعا، ولكنه لا يقبل فيضطر الرجل إلى البقاء في بيته مع الحريم حتى يجيئه الفرج.
ويعاقب ناظر المدرسة ابن أحد أتباعه فيعترضه لدى مغادرته المدرسة، ويأمره بأن يخلع ملابسه ليذهب إلى بيته عاريا، يتوسل إليه الناظر أن يعفو عنه ويستحلفه بالحسين وقبر الرسول، وجعلص متجهم متوثب ينتظر تنفيذ أمره، ويضطر الناظر إلى أن ينزع ملابسه قطعة فقطعة وهو يبكي، يتوقف عندما لم يبق إلا السروال، فيزمجر الدنانيري، فيرتعد الرجل ويخلع سرواله ثم يستر عورته بيديه ويجري نحو مسكنه مشيعا بقهقهات العصابة.
وهو يهزأ من التقاليد الراسخة، فلا يتردد عن إجبار شخص على تطليق زوجته ليتزوجها، وهو كثير الزواج والطلاق، ولا يجرؤ أحد على الزواج من إحدى مطلقاته فيلقين الحياة وحيدات يتسولن أو ينحرفن.
ويمرض يوما، فيلازم الفراش أسبوعا، ويخبره أحد قراء الغيب بأن ما أصابه إنما أصابه نتيجة لدعاء بعض أهل الحارة عليه، فلما يبرأ من مرضه يأمر بألا يحتفل أحد بعيد الفطر المبارك، حتى زيارة المقابر حرمت علينا، وتمر أيام العيد والحارة خالية والدكاكين مغلقة والبيوت صامتة ويغشانا ما يشبه الحداد.
أيامه أيام رعب وجبن وذل ونفاق، أيام الأشباح والأنات المكتومة، أيام الشياطين والأساطير المخزية، أيام التعاسة واليأس والطرق المسدودة.
ولكنه يرعب أيضا الحارات المجاورة، ويسحق فتوات الحسينية والعطوف والدراسة، فتمضي زفة العريس من حارتنا بلا حراسة، ويتجنب الناس وقع خطانا اتقاء لتجهم المقادر. •••
ويقدر لهذا الجبل الشامخ أن ينهار فيما يشبه اللعبة.
يدعى إلى فرح في الدرب الأحمر، وعند مدخل البيت يتقدم منه غلام ويقول له: يا عم.
فينظر إليه من عل باستغراب ويسأله: ماذا تريد يا ولد؟
وبسرعة البرق.
أجل بسرعة البرق يخرج من جلبابه سكينا فيطعنه في أعلى الكرش، ثم يشد السكين وكأنه يتعلق بها حتى المثانة!
بسرعة البرق وقع ذلك.
ويتجمد جعلص الدنانيري كأنما دهمه نوم، وتنحط معدته خارج جسمه، ثم يتهاوى كعمارة بكل ما يتضمن من قوة وإقدام ووحشية وثقة في النفس والدنيا.
ويتبين أن الغلام ابن أحد ضحاياه من كفر الزغاري، دربته أمه وأعدته لتلك اللحظة. •••
ويجتاح الخبر حارتنا كالنار المستطيرة، نذهل ونفزع ونبكي ونصرخ.
ونتمعن الخبر ونتبادل النظر فيتسلل إلى جوانحنا استرخاء وأمان وامتنان وفرح.
ويستقر بنا الحال، فنؤمن بأن علينا أن نحزن رغم أننا فرحون، وأن علينا أن نغضب رغم أننا راضون، وأن علينا أن ننتقم رغم أننا شاكرون.
ويضر بنا موته كما أضرت بنا حياته، وتكفهر الحياة بلعنات الشياطين.
الحكاية رقم «51»
ألعب أمام البيت مبتهجا بشمس الشتاء.
في الناحية المقابلة يلعب عبده ابن الجيران.
وهو ذو نظرة حالمة وصوت عذب وملامح آسرة، ويعجبني صوته وهو يغني:
عجايب والله عجايب
ما يصحش يا منصفين
تهجرني وتعشق غيري
وعواذلي مهنيين
وفجأة يصمت عبده، وتعرب ملامحه عن حزن بلا سبب ظاهر، ويخيل إلي أنه يرمقني باهتمام. - ما لك يا عبده؟
ولكنه لا يرد، أو بالأحرى لم يسمع، وكأنما يشرع في الضحك، ولكنه لا يضحك، وتند عنه صرخة ثم يسقط على وجهه، يتصلب عوده وترتعد أطرافه ويطفح الزبد من شدقيه.
ويحمله أهل الخير إلى داخل بيته.
وأقص على أمي ما رأيت فهتفت بحرارة: الله معه ومع أمه المسكينة.
وأسمع همسا أنه ممسوس، وأنه لا يوجد له دواء عند أهل الأرض.
وتسوء حاله ويسيطر عليه البله.
ويوما يرجع جعلص الدنانيري من القرافة في موكبه فتقف له الحارة على الصفين ويركبها الهول، إلا عبده، فإنه يعترض سبيل الفتوة بلا مبالاة، ويقول: إني ألعنك وطظ فيك!
وأقول لنفسي جزعا: لقد هلك عبده.
ولكن الجبار يبتسم، بل ويتأبط ذراعه، ويمضيان معا في سلام.
لم يرحم الجبار أحدا في حارتنا إلا عبده.
وتعلمني الخبرة مع الأيام أن حارتنا تقدس طائفتين: الفتوات والبلهاء.
وتحوم أحلام صباي حول الطائفتين.
أحلم حينا بالفتونة وجلالها.
وأحلم حينا بالبلاهة وبركاتها!
الحكاية رقم «52»
يقف زيان صبي مبيض النحاس بين يدي فتوة حارتنا السناوي مبتهلا، فيقول له الفتوة: إن كنت صادقا فدعني أجربك.
فيقول زيان بحماس: تحت أمرك يا سيد المعلمين.
فيقول السناوي بهدوء: اقتل أم علي الداية.
ثم يأمره بالانصراف فينصرف قبل أن يفيق من ذهوله.
ويغوص زيان في هاوية من الاضطراب ويتمتم لنفسه: إنها لمصيبة لم تجر لي في خاطر! •••
قبيل ذلك اللقاء، كان زيان فردا مغمورا من أهل حارتنا، ومن الشبان الكادحين في سبيل لقمة العيش.
وكان يطوي قلبه على حب مضطرم لأم علي الداية، بالرغم من أنها تكبره بعشرين عاما.
ويفكر في حاله فتراءى له طريقه مسدودا، ورزقه محدودا، وأنه لن يروق في عيني أم علي إن لم يقلب حاله رأسا على عقب بضربة سحرية.
لذلك حلم بالانضمام إلى عصابة السناوي ليثب فوق حاجز الحظ وثبة موفقة.
ويتشفع لدى الفتوة بصديق لأبيه هو ميمون الأعور، فيزكيه الرجل عند السناوي ويقدمه إليه، غير أن اللقاء لم يستغرق إلا دقيقة واحدة أمره في ختامها أمره المرعب: اقتل أم علي الداية! •••
ويهيم زيان على وجهه في الساحة أمام التكية، ولكن الله لم يهده إلى مخرج، ويتسلل إلى ميمون الأعور ليلا في الغرزة، فيقبل يده ويقول له: يا معلم، إني خجلان، ولكنني لا أستطيع قتل أم علي الداية.
ويظن ميمون أن عجزه راجع إلى قلة الحيلة، فيقول له: ليس أسهل من ذلك، فهي تدعى عادة إلى البيوت في أواخر الليل.
فيقول يائسا: أمنيتي أن أتزوج منها ذات يوم.
فيقول ميمون باستهانة: اقتلها لتثبت جدارتك ثم تزوج من غيرها، فالنسوان في حارتنا أكثر من الذباب! - ولماذا أم علي بالذات؟ - هذا أمر المعلم ولا مناقشة فيه، وهو يريد أن يجربك، بل لعله علم برغبتك في المرأة.
فيقول متنهدا: الحق أنني لا أستطيع القتل!
فيغضب ميمون ويصفعه ثم يقول: أحسبت الانضمام للعصابة لهوا؟! - أعرف الآن أنني لا أستحق هذا الشرف. - فات الوقت! - فات الوقت؟ - لن يغفر لك تراجعك ولن تحلو لك الحياة في الحارة.
ويمضي زيان وهو يعد نفسه في الضائعين.
ويفضي بهمه إلى أمه فتنصحه بالهرب، وتحثه عليه، وقبيل الفجر يغادر زيان بيته حاملا بقجة ملابسه وخمسين قرشا، هاجرا بيته وحارته وعمله، مستقبلا العناء والمجهول.
وكان فارق الزمن بين سعيه إلى الفتونة وبين ضياعه عشرين ساعة من عمر حارتنا.
الحكاية رقم «53»
ومن فتوات حارتنا حمودة الحلواني، ويحكى أنه الوحيد بينهم الذي عمر حتى بلغ التسعين من عمره، كما أنه الوحيد الذي اعتزل الفتونة بحكم العجز والكبر.
وقد تاب وحج ولزم المسجد في آخر أيامه.
ومما يؤثر من سيرته أنه جلس مع الإمام ذات مساء يتسامران عقب درس العصر، فقال للإمام: كثيرون يسيئون الظن بالفتوات ولكن أولاد الحلال بينهم كثيرون!
فابتسم الإمام وقال متهكما: إنك على رأس أولاد الحلال.
فقال حمودة بإيمان: حصتي من الخير لا يستهان بها. - عظيم، أعطني مثلا يا معلم حمودة؟ - أتذكر رجل الفل الذي اشتهر بمغازلة الزوجات المصونات؟ أنا الذي دبرت مصرعه ! - ولكنها جريمة يا معلم. - أبدا، وأنا الذي قتلت سمعة الدنش الذي قتل ابن زوجته. - ولكن ذلك لم يثبت وقد برأته المحكمة! - طظ في المحكمة، كان قلبي دليلي وهو أصدق الحاكمين!
ثم بعد استراحة قصيرة؛ إذ كان الكلام يرهقه في أواخر عمره: ومن حسناتي أنني قتلت فهيمة الآلاتية القوادة المعروفة!
فقال الإمام بازدراء لم تره عينا العجوز الضعيفتان: قيل وقتها لأسباب لا علاقة لها بحرفتها! - لا تصدق كثيرا مما يقال!
فضحك الإمام وقال: زدني علما بحسناتك! - وقتلت أيضا يمني الخيشي. - وماذا كان ذنبه؟ - العجرفة، كان يسير في الحارة كأنه خالقها. - تعني أن نفسه سولت له أن يقلد فتوته! - إنك عنيد ولا تريد أن تعترف لي بفضل. - لا تغضب وزدني علما بحسناتك!
فضحك حمودة عن فم لم يبق فيه ناب واحد ولا ضرس ثم قال: حوادث القتل الباقية لا تعد من الحسنات وقد تاب الله علي والحمد لله.
فقال الإمام بعد تردد: ولكن أعجب ما سمعت من حوادث القتل ما ذاع عن مقتل قرقوش العبد؟!
فضحك حمودة واستغفر الله، فقال الإمام بإلحاح: حدثني بخبره يا معلم حمودة.
فقال الرجل الذي لم يبد قط أن ذكريات جرائمه تؤرقه: كنت جالسا في داخل المقهى عندما جاء قرقوش العبد ليدخن البوري، لم يكن بيني وبينه شيء على الإطلاق، فدخن البوري وشرب قهوته، ثم قام لينصرف وهو يقول لصاحب المقهى «غدا سأكون عندك في مثل هذا الوقت بالدقيقة والثانية كما اتفقنا فلا تنس»، وما أدري إلا والغضب يجتاحني فقررت في الحال قتله، ولم يطلع عليه الصبح! - أذلك كل ما كان؟ - بلا زيادة ولا نقصان! - ولكن ما الذي أغضبك؟ - لا أدري، حتى اليوم لا أدري. - ولكن لا بد من سبب! - ربما أحنقتني ثقته البالغة في نفسه وفي غده، كان يتكلم بثقة وطمأنينة! - ولكن لا بد من سبب غير ذلك؟ - قل إنه قتل بلا سبب!
فتعجب الإمام ورمق الرجل بغرابة وذهول، وكان الكبر قد أهزله فلم يبق منه إلا هيكل عظمي.
الحكاية رقم «55»
ومما يحكى أنه كان بحارتنا شاب صعلوك، يدعى عباس الجحش، لم يكن يوفق أبدا في إتقان حرفة ولا يمكث في دكان أكثر من أيام، ثم يطرد شر طردة، وذات يوم رأى عباس عنباية المتولي بنت بياع الدندورمة، فأترع قلبه برحيق الحب المسكر، ولم يجد سبيلا مشروعا إليها، فتفتق عقله عن حيلة، أن يتآمر مع صحبه من الصعاليك على أن يمثلوا مع الفتاة دور المتحرشين، وعلى أن يمثل هو دور ابن البلد الشهم، وخرجت عنباية لتتسوق في ليلة عاشوراء فحاصرها الصعاليك متظاهرين بالعربدة، فوثب عباس الجحش من مجلسه على سلم السبيل، فانقض عليهم كالوحش، صرعهم واحدا في إثر واحد حتى طرحهم أرضا، ثم تقدم من البنت وهو يلهث قائلا: مصحوبة بالسلامة.
فشكرته ومضت معجبة بقوته الخارقة، وجعلت من مغامرته حكاية تتناقلها النساء والرجال.
وصادف ذلك وقتا خلت فيه الحارة من فتوة - ولم تكن الفتونة قد زالت بعد - فتساءل أناس ترى هل آن لحارتنا أن يكون لها فتوة؟
ورأى أحدهم عباس وهو يحوم حول بيت بياع الدندورمة، فهتف به: أهلا بالجحش فتوة حارتنا!
واهتز عباس بالهتاف، ولعبت برأسه الأحلام، وتحت سطوة المخدرات قال لنفسه: فلنجرب هذه اللعبة!
وجمع أصحابه، ومضى على رأسهم نحو المقهى بعد أن فرش طريقه بالدعاية المناسبة، وكانت الحارة في حاجة ملحة إلى فتوة لتحفظ ذاتها وكرامتها بين الحواري المتصارعة، فاستقبلت عباس الجحش وصحابه بزفة وبايعته فتوة لها، وتحول الصعاليك إلى عصابة، وانهالت عليهم الإتاوات، فتحسنت أحوالهم، وازدهتهم الخيلاء، فخطروا في الأرض كالجمال، ورويدا رويدا صدقوا أوهامهم.
وطلب عباس الجحش يد عنباية المتولي فقال له أبوها بوجه طافح بالبشر: بشرى لنا يا معلم!
وعقد القران.
أما الدخلة فلا تتم إلا بعد الزفة.
وتنبه عباس متأخرا إلى أن زفة الفتوة يجب أن تطوف بالحي كله، وأنها الاختبار الرهيب للفتوة، تجابهه فيها تحديات الأعداء، فيرجع منها إلى شهر العسل وعرش الفتونة أو يمضي إلى القرافة.
لا بد مما ليس منه بد، وماذا يمنع الحظ من أن يخدمه مرة أخرى؟
وسكر وسكر أصحابه.
ومضت الزفة على أنغام المزامير وأضواء المشاعل، وسار فيها رجال الحارة.
وعند باب زويلة.
عند باب زويلة اعترض الطريق فتوة العطوف ورجاله.
رآه عباس فطارت الخمر من رأسه.
ولعب فتوة العطوف بنبوته بخفة بهلوان، فسقط قلب الجحش حتى ركبتيه.
وهتف أهل حارتنا في حماس وبراءة، فاضطر عباس إلى أن ليعب بنبوته كذلك.
لا يمكن تأجيل القضاء إلى ما لا نهاية.
وتقدم خطوات في سكون ثقيل، فتقدم فتوة العطوف في غاية من الحذر.
واندفع عباس نحو خصمه حتى ذهل أصحابه.
وفجأة.
وفجأة وبسرعة البرق انحرف نحو عطفة الحنفي، ثم انطلق في ظلماتها مثل رصاصة، لائذا بالفرار!
ووجم الجميع دقيقة لا ينطقون ولا يفهمون.
ثم هدر المكان بالضحك والقهقهات والصياح.
ولم ير عباس بعد ذلك في حينا كله، وظل قرانه معقودا حتى سقط بمضي المدة.
الحكاية رقم «54»
الويل لنا عندما يشتد النزاع بين الحارات، عندما تتصارع التحديات بين الفتوات.
نتوقع في الليل أن تجتاحنا هجمة غادرة، نتعرض في تجوالنا في الحي لتحرشات مباغتة، تنقلب أفراحنا إلى معارك دامية، يسود وجه الحياة ويكفهر.
ويغدو الانطلاق إلى الميدان محفوفا بالمخاطر، أما التسلل عن طريق القرافة فيتهدده الشياطين وقطاع الطرق، فننحصر في حارتنا كالفئران في المصيدة.
ذاك ما رواه الرواة عن فترة من حياة حارتنا الماضية. •••
ويقترح بعض أهل الحكمة هدم جزء من السور الشرقي، يقولون: لا بأس من هدمه لنتسلل منه إلى صحراء الجبل، ومنها إلى أطراف الأحياء البعيدة التي نتعامل معها ونحن في مأمن من الأخطار المحدقة بنا.
والسور العتيق يكون الجناح الشرقي للحارة، ويقع على مبعدة يسيرة من سفح المقطم، وتطيب الفكرة لنا فنعهد إلى أحد المقاولين من أبناء حارتنا بتنفيذ الفكرة، ويتساءل أناس: ألا يمكن أن يهتدي العدو إليها فيباغتنا منها؟
فيجيب أصحاب الفكرة: الوصول إليها عسير، فبينها وبين العمران صحراء لا تدوسها قدم، فضلا عن أنه من اليسير حراستها!
ويشرع العاملون في العمل، ويتهيأ لنا ممر إلى الصحراء نطلق عليه «ممر السبيل»، حيث إنه يبدأ من نقطة تقع وراء السبيل الأثري مباشرة، هكذا نخلق ممرا سريا للعالم الخارجي متجنبين طريقي الميدان والقرافة اللذين يحدان حارتنا من طرفيها.
ويتحدث مدرس الجغرافيا ذات مساء في المقهى فيقول: نحن نتوهم أننا حققنا الأمان لأنفسنا وأنه لم يعد ثمة ما نخافه!
فيتعجب السامعون لقوله، فيقول: كأن معاركنا مع الحارات المجاورة هي جملة ما يهدد سلامتنا!
فيزداد تعجب الناس من قوله وادعائه، أما هو فيمضي قائلا: هنالك خطر هائل لا يفطن له أحد ولكنه كفيل بالقضاء على حارتنا كلها بضربة واحدة.
ولما يسألونه عن الخطر المزعوم يجيب: الممر الذي شق في السور الشرقي. - ممر السبيل؟ - لو ينهمر من السماء سيل فيكتسح السفح وينقض على الممر فيغرق الحارة!
وتتجمع في أعينهم أمارات الذهول والسخرية، ويقولون: إنها لا تمطر في العام إلا مطرة واحدة وهي مطرة خفيفة كالدعابة.
ولكنه يستطرد غير مبال باعتراضهم: الجبل فوقنا ونحن نربض عند قدميه، وحارتنا منخفضة في الوسط.
ويضحك الجماعة ويقولون ساخرين: يريد منا أن نستهين بخطر داهم عاجل لاتقاء خطر وهمي لا يقع إلا في خياله. •••
وتمضي أعوام والحارة منهمكة في صراعها اليومي، المدرس يكرر تحذيره بين آونة وأخرى، فلا يلقى إلا هازئا حتى أطلق عليه «الأستاذ مسيلمة». •••
وتربد السماء ذات شتاء فتتراكم السحب وتسود وتهبط فوق المآذن، وتهب عاصفة تدك العلالي فوق الأسطح وتلعب بأشجار التوت في التكية.
وينهل المطر كأنه أنهار تتدفق من عل.
ويتواصل انهلاله ثلاثة أيام كاملة.
حدث كوني لم نعرفه من قبل، غضبة فلكية كاسرة، وينصب من الجبل طوفان، فيندفع نحو الممر بسرعة قطار صاخب، ويزمجر في هدير شامل تحت التماعات البرق الخاطفة وهزيم الرعد المجعجع.
وتختفي أرض الحارة تحت طبقات من المياه المركزة المحصورة، وتأخذ المياه في الارتفاع فتغرق البدرومات وتكتسح الدكاكين والوكالات والأدوار السفلية، وباحة السبيل وفناء المدرسة، وتجعل من القبو خزانا، ومن الساحة بحيرة، ومن الممر الضيق بين التكية والسور نهرا زاخرا، ثم تجتاح المياه المقابر فتجرفها وتقذف بالعظام والجثث في أخاديد لا حصر لها، تغطيها الأكفان والخرق البالية.
وتنهدم بيوت وتنقلب الأسقف مصافي وثقوبا، فيهجر الحارة أهلها مذعورين وينتشرون في الصحراء لاجئين مشردين، والخراب يحيط بهم وارثا الأرض وما عليها.
محنة لا تنسى.
وذكرى مبللة بالدموع.
الحكاية رقم «56»
لعب الطموح بقلب عبدون الحلوة العامل بالوكالة، فقرر - كما فعل زيان في زمن أسبق - محاولة الانضمام إلى عصابة «الدقمة» فتوة حارتنا، واسترشد بأحد كبار العارفين فقال له: احذر أن تقترب منه بهذه السحنة أو هذه الرائحة أو هذا الجلباب المزيت، كن مثل الماء الصافي النقي ثم جرب حظك.
وقال له أيضا: فتوتنا يحب الجمال والنقاء، وهو طراز وحده في سلسلة فتواتنا، فافهم ذلك جيدا.
واقتنع عبدون بأن الطريق إلى الدقمة ممهد ميسور، فذهب إلى الحمام ليغير جلده في المغطس، وأعد جلبابا ومركوبا جديدين، وفيما هو منهمك في تجديد نفسه سأله صاحب له: ماذا هناك يا عبدون؟ هل تفكر في الزواج؟
فباح له بسره، وكان الآخر صاحبا أمينا، فقال له: ليست النظافة وحدها هي ما تهم الدقمة، إنه أيضا يحب الحكايات. - الحكايات؟ - عنترة وأبو زيد وغيرهما، فإن لم تعرف السير تعذر عليك أن تواصل الحديث دقيقة واحدة مع الدقمة. - ولكن تحصيل ذلك يطول! - عندك الراوي في المقهى فلا تضيع وقتا إن كنت صادق الإرادة حقا!
ثم قال له وهو يمضي عنه: تغير الزمن يا عبدون، في بادئ الأمر كان الدقمة يرحب بأي رجل يروم الانضمام إليه، أما اليوم فهو يستوي على عرش القوة دون منازع.
وتفكر عبدون في الأمر مليا، وكان عبدون رجلا عاقلا، قال لنفسه إنه من الحكمة أن يأخذ الأمور بالهوادة والصبر والإتقان، وألا يتكالب على هدفه تكالبا يفسده عليه، لبث في الوكالة يعمل بهمة، وتزوج، وواظب على السهر في المقهى يتلقى الحكايات على أنغام الرباب. لم تعد الحياة يسيرة أو مريحة، فالعمل في الوكالة شاق، وأعباء الأسرة لا يستهان بها، ومتابعة الحكايات مع استيعابها جهد متواصل، ولكنه كان يهادن متاعبه بتخيل حلمه العذب يوم يمثل بين يدي الدقمة في نقاء الماء وثراء الرباب.
وذاع سره، وعرف كل من هب ودب أن عبدون الحلوة يعد نفسه للفتونة .
وانبرى له كثيرون من أهل الخير والنصح، فقال له أحدهم: النظافة مهمة، والحكاية مهمة، ولكن الشجاعة عند الدقمة أهم من الاثنين. - الشجاعة؟ - أجل، واحذر في الوقت نفسه أن تستثير غيرته، فيحنق عليك بدلا من أن يرضى! - وكيف أوفق بين هذا وذاك؟ - تلك هي مشكلتك وعليك أن تحلها بالفطنة يا عبدون يا ابن الحلوة!
وقال له آخر: والقوة مهمة أيضا، عليك أن تثبت قوتك، عليك أن تثبت أنك قادر على توجيه الضربات الحاسمة، وأنك قادر أيضا على تحمل الضربات مهما اشتدت .. وعليك أن تثبت له أيضا أن قوتك لا توزن بحال بقوته. - ولكن كيف يتأتى لي ذلك كله؟ - تلك هي مشكلتك يا عبدون!
ساورته الحيرة، ولكنه أراد أن يطمئن نفسه فقال: أهل الخبرة يقولون إنه يحب الجمال والنقاء والخير، أشهد أن معاملته للبان تقطع بميله الأصيل للخير!
فتساءل الآخر في حذر: وماذا عن معاملته للسقاء؟
فانقبض قلب عبدون لحظة، ولكنه قال بإصرار: أخبرني أبي ذات مرة أنه يحب الفقراء. - بوسعي أن أعد لك عشرة على الأقل من أفقر فقراء حارتنا قد نكل بهم وشردهم.
خرج عبدون من الأحاديث معتما مهموما حائرا، حتى العدول عن الطريق خطر له، ولكن الحلم كان قد سيطر على روحه فلم يسعه النكوص، وتشعبت أهداف الحياة بين الوكالة والزوجة والرباب وتجارب القوة والشجاعة ومغامراتهما، ومضى - رغم صلابته - ينوء بالعبء، وتنزلق قدمه، وتتراخى قبضته، تبدد وقته وتشتت عقله، وارتكب حماقات متلاحقة، وتمادى في طرقه المتشعبة بجنون حتى فقد السيطرة على حياته، وانتهى دأبه بالخيبة فطرد من الوكالة، وطلق - عقب مشاحنات كثيرة - زوجته.
لم يكترث لذلك كثيرا وظن أن الوقت أزف للقاء الدقمة الذي لم يبق له غيره.
وتفحصه الفتوة مليا ثم سأله: ماذا تريد؟
فأجاب عبدون: أن أصير من خدامك. - أترى نفسك أهلا لذلك؟
فأحنى رأسه ليخفي زهوه بمنظره الأنيق وقال: عندي ما يريد معلمي وزيادة!
فقال الدقمة بجفاء: لست في حاجة إليك.
فذهل عبدون وقال بضراعة: في سبيلك فقدت أسباب حياتي جميعا.
فقال الدقمة بلا اكتراث: أعرف ذلك. - وتطردني رغم ذلك؟
فقال الرجل بنفاد صبر: بل أطردك بسبب ذلك!
وبات عبدون الحلوة نادرة تروى.
الحكاية رقم «57»
زغرب البلاقيطي من فتوات حارتنا المعدودين، وهو خاتم الفتوات الكبار، فمن بعده لم تقم للفتونة قائمة تذكر.
رشيق، مديد القامة، أبيض الوجه، غزير الشارب، خفيف الحركة بالنبوت، لعيب، ولولا إيمانه - وهذا حقيقة - بأن هيبة الفتونة لا ترسخ إلا بالنصر ما خاض معركة قط، ويصادفه التوفيق في معاركه فيضرب فتوة الدراسة ويصرع فتوة العطوف، ثم يمتد ظله فوقنا كالشجرة السامقة بالفخر والطمأنينة، ونحبه جميعا ونتغنى بانتصاراته وننعم بأبوته اللطيفة، وهو يجلس كثيرا في المقهى ليتابع الحكايات، ويقرب إليه أهل النكتة والمنشدين والزجالين، أحييه على صغر سني فيرد التحية بذوق يبعث في أعماقي النشوة والأمل، وسلوكه معنا فريد غير مسبوق بشبيه، يفرض على جميع أعوانه أن يكسبوا رزقهم بعرق الجبين لا بالبلطجة، حتى هو نفسه يعمل تاجر جملة للمخدرات، ولا يطالب بإتاوة إلا للضرورة القصوى. •••
ولكن الفتونة هي الفتونة على أي حال.
فكلمة زغرب البلاقيطي هي الأولى والأخيرة في أي أمر من الأمور، والتحكم مر ولو كان طول العمر نتيجته، إنه يحذر الرجال من العربدة، ويمنع النساء من الزينة المفرطة، ويقيد حرية الغلمان في لعبهم.
ويغالي في التدخل فيما لا يعنيه حتى يحمل شاعر الرباب على التحيز لبطولة أبي زيد، ويبطل الزواج الذي يراه غير متكافئ، والطلاق الذي لا يعجبه وإن رضي به الطرفان، ولم يكن أحد يتجرأ على طلب الكراوية أو الأنيسون عند وجوده في المقهى لنفوره منهما.
وفي كلمة كبلنا بالأغلال رغم حسن نواياه وطيبة خلقه، وزاد من حرج الموقف تكاثر المتعلمين في حارتنا يوما بعد يوم، وشدة حساسيتهم، وحدة ألسنتهم. - اللعنة .. لم يبق إلا أن نتنفس بأمره. - إنه مستبد ولكنه عادل. - مستبد يعني أنه غير عادل.
يسمع ما لم يكن يسمع بحارتنا، لأول مرة نعاصر حملة على الفتونة في ذاتها، وبصرف النظر عن مزاياها، لأول مرة يقال إنه نظام بال، وإنه آن للشرطي أن يحمي العباد، لأول مرة يلعن الفتوة الطيب كما كان يلعن الفتوة الشرير.
ويترامى التهامس إلى زغرب البلاقيطي فيغضب ويصيح: أهذا جزاء من يعدل ويرحم يا أبناء الزنا!
ويتجهم وينذر بالعنف. •••
وتتوجه قلوب نحو هجار الأقرع.
عملاق ورع وفيه شيء لله، إذا اقتنع بخير أقدم عليه ملقيا بالعواقب جانبا.
وهو يقبع في الليالي في الساحة أمام التكية يردد الأناشيد ويحدث نفسه، يتسلل إليه في الظلماء رجل داهية، ويهمس بصوت حنون: أتريد يا هجار أن ترضي ربك؟
فيعتقد هجار أنه يسمع هاتفا من الغيب فيقول: لبيك!
فيهمس الرجل: لقد أعطيت القوة والبأس فحطم الأغلال! •••
وينطلق هجار في الحارة بحماس من يحمل رسالة مقدسة.
وتوقع الطيبون أن ينهار سجن الأغلال.
ويلوح هجار المارد بنبوته، وفجأة يضرب إمام الزاوية، ويثني بامرأة ماضية في الطريق. وينهال بنبوته على تجار وعمال وتلاميذ!
وهاجت الحارة وماجت، وتصايح الناس: جن الأقرع! - اقبضوا عليه! - حاصروه واضربوه!
ورمي بالطوب من كل موقع حتى سقط مضرجا بدمه. •••
لم نفقه لما حدث معنى، وظن كثيرون أن الرجل لم يفهم الرسالة أو أنه أساء فهمها، أو أن في الأمر سرا ما زال خافيا.
ولكن التذمر من زغرب البلاقيطي يتزايد، ويجهر كثيرون بما يضمرون، ويعتدي الفتوة على أناس فيقابلون العدوان بالمقاومة، وتسري في الحارة روح تمرد لا عهد لنا بها من قبل.
وتتتابع أحداث مؤسفة ودامية، ولكنها تقضي في النهاية على تراث خطير، وتفتح الأبواب لعصر جديد.
وتستعاد حادثة هجار الأقرع في ضوء جديد من الإدراك فيصبح رمزا للحياة الجديدة.
الحكاية رقم «58»
يجيء ربيع ونحن على شفا هاوية من الهلاك، في الحارة عصابات متخاصمة، وبين الحارات المتجاورة خصام مستعر، ويغلي الحقد الأسود، وتمج القلوب كراهية وتتكاثر حوادث الاغتيال، وينذر الغد بكارثة.
وعند الظهيرة من يوم مشرق يقع في مسرح الكون حدث غامض.
ثمة تجمعات من السحب القاتمة تنتشر في الأفق، غريبة في غير زمانها، ثم تنتشر بكثافة متصاعدة مقبضة للنفس، وتتطاول نحو كبد السماء وتنداح فتخفي إحداها الشمس وتواري الضوء المنير.
وتمضي التجمعات في التكاثر والتقارب، وتتصل وتتلاصق فتتحول إلى تكتلات شاسعة، في بطء ولكن في ثبات وإصرار، حتى تشكل في النهاية سقفا غليظا من السواد العميق.
وتشخص الأعين نحو السماء متسائلة، من الطريق والدكاكين والنوافذ والأسطح تشخص الأعين نحو السماء.
وتدب في السقف الأسود حركة متوترة، فيبدو متموجا متصارعا متلاطما كأنه محيط من الظلمات مشتبكا في نضال ضار.
ويهرع الناس من البيوت إلى الحارة، يتابعون الأسرار الغامضة، لا يدرون عم تتمخض؟ ويتوقعون مزيدا من الإثارة المقلقة.
ويمضي الجو يتشرب بلون رمادي غامق، يزداد قتامة وتجهما، ويمضي بحر السواد يقطر نتفا سودا، تنتشر في الجو ثم تزحف هابطة في هدوء مخيف.
ويهجر الناس الحارة إلى الميدان، كذلك يفعل أهل الحارات المجاورة، ينشدون في الانطلاق والتجمع البشري ما يفتقدون من أمان.
وتنفذ إلى حواس الشم رائحة ترابية مثيرة للأعصاب، ويأخذ الكون في الاختفاء، وتتخايل الأشباح، ثم يغرق كل شيء في ظلام دامس.
وترتفع الأصوات المتهدجة: يا ألطاف الله! - ارحمنا يا رب العالمين!
وتشملنا ساعة من التوقع المتوتر لأي خطر داهم لم يجر لنا في خيال من قبل.
وتتلاحم الأيدي في الظلام لا تدري يد في أي يد توضع.
الحكاية رقم «59»
غنام أبو رابية له قصة طريفة.
من ناحية الأصل يعد من فقراء حارتنا، تفوق في المدرسة وعين بوزارة الداخلية، وترقى في درجاتها حتى شغل منصب المشرف المالي على الأموال السرية.
يتميز على صعاليك أسرته بالمسكن النظيف، والزوجة الجميلة، والغذاء الطيب، وله في مظهره هيبة، وفي مجلسه قطب يقصده ذوو الحاجات. •••
ويختفي ذات يوم غنام أبو رابية فلا تراه عين.
يتردد السؤال عنه في البيت والمقهى، بين المعارف والأقارب والحساد، لا يظفر أحد بجواب حاسم، ثمة غموض يكتنف الموضوع ويثير الحيرة والريب، ليس الرجل مريضا ولا على سفر ولا صلة له بالسياسة مدها وجزرها، ولا خصوم له على الإطلاق، فلم يبق إلا أن تحوم الظنون حول أمور غاية في الحساسية، وأن تختلف فيها الآراء تبعا للنوايا والعواطف الشخصية، فنسمع حينا أنه هرب، ونسمع حينا آخر أنه قتل.
ويظهر غنام أبو رابية ذات يوم فجأة، كما اختفى فجأة، ويتزاحم المهنئون في داره، ويفسر الرجل سر غيابه بخصام احتدم بينه وبين كبير مسئول في الداخلية، تطور إلى اعتداء من جانبه باليد على الكبير المسئول، فقبض عليه، ولكنه أصر على موقفه حتى أفرج عنه.
ويصدق الناس ذلك، ويعدونه بطولة، ويحال غنام أبو رابية على المعاش قبل ميعاده القانوني بعشرة أعوام، فيعتبر شهيدا، والناس ذوو استعداد فطري لسوء الظن بالداخلية. •••
ومع الأيام تناقل الناس حكاية جديدة عن غياب غنام أبو رابية، لا أدري كيف نشأت، ولا من كان أول ناشر لها، ولا مدى ما تنطوي عليه من صدق، ولكنها رغم ذلك كله تنتشر وترسخ وتنضم إلى تاريخ حارتنا.
يقال، والله أعلم، إن غنام أبو رابية استغل مركزه كمشرف مالي على الأموال السرية، فاختلس منها عشرة آلاف جنيه من الجنيهات، وقيل أكثر من ذلك، وأنه ضبط وحقق معه واعترف، كان الموقف غاية في الدقة والحرج، فالرجل محيط بأسماء من توزع عليهم الأموال السرية في جميع المواقع، وبوسعه أن يثير فضيحة شاملة تعصف بجميع العملاء وتنزع الثقة من جهاز الأمن بغير رجعة، فما العمل؟ طالبوه برد المبلغ في نظير العفو الشامل عنه، ولكنه رفض، ألقوا القبض عليه لإرهابه ولكنه لم يبال، لم يعثروا للمبلغ على أثر، وتجنبوا تقديمه للنيابة حتى لا يبوح هناك بأسراره، وكرروا المحاولة للاتفاق معه دون جدوى، أدرك منذ بادئ الأمر أنه في الموقع الأقوى وتلقى كافة التهديدات بسخرية، وقال لهم: ألوف وألوف وألوف تنفق كل يوم على أوغاد بلا خلق، فما الجريمة في أن أنال قروشا لنفسي وتراب حذائي أشرف من أكبر رأس فيهم؟ إني أرفض رد مليم واحد وأطالب بتقديمي للنيابة العمومية.
ولم يكن في وسعهم أن يعتقلوه إلى الأبد، ولا أن يتحملوا مسئولية القبض عليه دون تقديمه إلى النيابة أكثر من ذلك، فاتفقوا معه على أن يلتزم بصون أمانة المهنة لقاء ألا يسأل عما اختلس مع إحالته على المعاش في الوقت نفسه.
وقد اشترى الرجل خرابة وشيد فيها عمارة، واعتبر منذ ذلك الوقت من أعيان حارتنا.
الحكاية رقم «60»
حليم رمانة من شباب حارتنا العاملين في نقش الأواني النحاسية، يغيب فجأة عن الدكان بلا اعتذار، ويرى هائما على وجهه في الساحة أمام التكية، لا يعرف أحدا ولا يعرف نفسه، وسمعت أمه بالخبر، فمضت إليه ولكنه لم يعرفها، نادته باسمه فبدا وكأنه يسمعه لأول مرة، إنه غريب تماما، وكأنما ولد لساعته.
واتجهت الظنون إلى المخدرات ولكن ذهوله طال، تجاوز اليوم، ويوما بعد اليوم، ثم استقر كحال جديدة ثابتة، أصبح رمانة وعاء خاليا من الذكريات والعلاقات البشرية، أصبح جثة غير هامدة، وقيل - كالعادة في حارتنا - إنه ممسوس، وعولج بوصفات شتى من الطب الشعبي المناسب، كالبخور وزيارة الأضرحة والزار، ولكنه لم يبرأ فسلم الأمر فيه إلى الرحمن. •••
وذات صباح تقرأ أمه في عينيه نظرة جديدة، نظرة متألقة تعكس شخصية غائبة كأنما هي ترجع فجأة من سفر طويل، يخفق قلب الأم بالأمل وتهتف: رمانة!
فينظر رمانة إلى شعاع الشمس الهابط من نافذة البدروم ويقول بجزع: تأخرت عن الدكان.
ويمضي مسرعا إلى الدكان وأمه تجهش في البكاء.
ويقبل على معلمه قائلا: غلبني النوم فمعذرة يا معلم.
ويرمقه الرجل في صمت وارتياب، ولكنه يتركه يزاول عمله وهو يحدس بفراسة صادقة ما طرأ على الشاب، وينظر رمانة فيما حوله باهتمام، ولما لا يجد ما يبحث عنه يسأل: أين بيومي؟
بيومي صديقه وقرين طفولته، توقع أن يراه كالعادة قبالته، ولكنه لا يوجد، ولا يريد أحد أن يعير سؤاله عنه اهتماما. •••
ويعلم رمانة رويدا أنه غاب عن الوجود أشهرا كاملة، يتلقى هذه الحقيقة بنعومة وأناة، ومع ذلك لا يدري كيف يهضمها، ويعود للسؤال عن صديقه بيومي فيقال له: البقية في حياتك!
فيصرخ: بيومي مات! - بل شنق! - شنق؟! - اتهم بقتل زينب بياعة الحلي الزجاجية!
ويتمتم بذهول: بيومي قتل زينب! •••
قليلون جدا الذين عرفوا أن رمانة فقد صديقه الوحيد وحبيبته الوحيدة، وأولئك قالوا أيضا: وهو يعلم الآن أنه فجع في الحب والصداقة أيضا!
وقالوا: لقد ذهبا مخلفين له الخيانة والخواء. •••
وعانى رمانة تغيرا في الشخصية. لم يرتد إلى الغيبوبة، لكن تسلل إلى صميم روحه الخمول وخيم عليه الصمت، عاش محتجا رافضا كارها، يذبل ويهزل، حتى مرض مرضا أقعده عن العمل، واسود الأفق في عينيه.
وأرادت أمه أن تعزيه فقالت: لست فريدا في مصابك فمصائب الدنيا لا تعد ولا تحصى!
فغادر المسكن من فوره قاصدا قسم الجمالية، مثل بين يدي المأمور وقال بهدوء: أنا قاتل زينب بياعة الحلي الزجاجية.
الحكاية رقم «61»
ابن عيشة صعلوك من صعاليك حارتنا، يعيش بالتسول وخفة اليد، تسلل ليلة إلى بيت ست ماشاالله عندما ثبت له غيابها في فرح، ولسبب ما رجعت ماشاالله مبكرة على غير توقع، فما يدري إلا وهي مقبلة نحو حجرة النوم، فانذعر واندس تحت الفراش وهو يرتعد.
أشعلت المرأة المصباح، رأى ابن عيشة قدميها وأسفل ساقيها وهي تذهب وتجيء، وسمعها وهي تترنم بحنان:
لك علي لما تيجي تبقى ليلة أبهة
ترى متى يتاح له الهرب بأمان؟!
وغابت ست ماشاالله دقائق، ثم رجعت بأربع أقدام! ثمة طرف جلباب مقلم ومركوب أخضر، فانقبض صدر ابن عيشة، وأيقن أن حبسه سيطول!
قالت المرأة: آنست ونورت.
فقال صوت غليظ: لا يتصور أحد إلا أننا في الفرح.
وتناهى إلى أذن ابن عيشة صوت مدغم بقبلات وهمسات مرحة.
قالت المرأة: لن يتخيل مهما تخيل أنني أفلت من زحمة الفرح.
فقال الصوت الغليظ: سيقتلنا يوما إن لم نقتله!
وطالت المطارحة الغرامية وهو قابع تحت الفراش، وبدأ تأثير المنزول ينمل حواسه ويزحف نحو جهازه التنفسي، وينتشر في روحه منذرا بعواقبه المألوفة.
وسبح ابن عيشة في بحر لا شاطئ له، ثم مضى يطير في الفضاء بتؤدة وهيمان، حتى بلغ ذروة عالية نظر منها إلى حجرة ست ماشاالله فرآها بشيء من الوضوح على ضوء المصباح، رأى العاشقين، وحتى الرجل المختفي تحت الفراش رآه، تبدت المرأة عارية متموجة في سحابة من دخان رمادي على حين مضى الرجل - كقرد - يثب بين غصون شجرة فارعة، وترامى اللعب بلا نهاية، غير أن عاصفة اجتاحت المكان المتواري، فتطاير الدخان وتلاطمت الأوراق، وأكثر من صوت نادى بالدم، وتتابعت أصوات الارتطام والدق، وتبودلت ضربات غاية في العنف والقسوة، وأقبلت قوات جديدة من قلب الظلام فلم يعد للحب أثر.
وقرر ابن عيشة أن يواصل طيرانه في الفضاء مبتعدا ما أمكن عن كوابيس الأرض، ولكنه ارتطم بشيء أو لعل شيئا ارتطم به.
وبمشقة استطاع أن يتملص من قبضة وأمكنه أن يحرك عنقه، وأن يرى الضوء.
وجر جرا من تحت الفراش.
وقف مترنحا في الحجرة ينظر في الوجوه المحدقة به بذهول.
وقال شيخ الحارة لضابط النقطة: هذا ابن عيشة .. نشال يا فندم.
فقال الضابط: أخيرا تعلم كيف يقتل.
وقبض عليه.
ولكن التحقيق لم يسفر عن إدانته بتهمة قتل ست ماشاالله وعشيقها، ثم قبض على القاتل في أثناء التحقيق.
وكان ابن عيشة يحكي قصته مرة كل ساعة، وقد أصابه لطف في آخر أيامه، وكان يقال إن الدروشة هبطت عليه تحت فراش ست ماشاالله.
الحكاية رقم «62»
كان الحاج علي الخلفاوي من أغنياء حارتنا، عرف بالطيبة والصلاح أكثر مما عرف بالثراء، يعطف على المظلومين، ويعين الفقراء، ويبر ذوي القربى، ومع الأيام ازداد ورعا وتقوى ورحمة، ولكنه خص آل مهران برعاية شاملة لم يظفر بمثلها أحد ممن يظلهم عطفه، وكان آل مهران قوما فقراء، وبسبب الفقر انحرف كثيرون منهم فتورطوا في الجنح والجرائم واشتهروا بالعنف والبلطجة.
ولما شعر الحاج علي بدنو الأجل استدعى إليه أكبر أبنائه، وقال له: لقد رأيت حلما.
فرمقه الابن بعطف واستطلاع فقال الحاج: آن لي أن أزيح عن صدري جبل الهم الأكبر.
فسأله ابنه: ما الحلم؟ وما الهم الأكبر؟
فاستغفر الحاج ربه وقال: بخلاف الظاهر يا بني كانت حياتي مريرة! - لم يا أطيب الناس؟
فقال الحاج وهو يتنفس بمشقة: أريد أن أحدثك عن آل مهران. - إنهم أناس يأخذون منك أكثر مما يستحقون، بل الحق أنهم لا يستحقون إلا العقاب.
فأسبل الحاج جفنيه وقال: إنهم يستحقون كل ما نملك!
ثم اعترف الحاج لابنه بأنه كان شريكا لمهران الأب في شبابه الأول، وأن الوفاة حضرت الرجل وهما في سفر ، فسرق ماله. - المال الذي استثمرته فصرنا به إلى ما نحن فيه وصار آل مهران بفقده إلى ما هم فيه.
قال الابن باضطراب: إنك لا تعني ما تقول يا أبي. - إنها الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان.
وغمرهما صمت مشحون بالقلق والاختناق، حتى قال الحاج: كانت الحياة مريرة، أريد أن أجنبك اللعنة، أريد أن يرد المال لأصحابه.
فتساءل الابن محتجا: هل نعترف بأننا لصوص؟!
فقال الأب بضراعة: هذه هي مشكلتك يا بني. - بل هي مشكلتك أنت يا أبي. - إني أتردى في حضرة الموت.
فتساءل الابن بجفاء: ولم لم تفكر في التكفير من قبل؟!
وأغمض الحاج عينيه كأنما تلقى لطمة، وغمغم: اللهم مد في عمري حتى أهيئ نفسي للقياك.
ولكنه مات قبل ذلك، بل إن رواة القصة يتهمون ابنه بالعبث بدوائه ليعجل بنهايته.
هكذا تروى الحكايات، وبدقة في التفاصيل لا تتاح إلا لمن شهدها.
ولكن هكذا تروى الحكايات في حارتنا!
الحكاية رقم «63»
بذرت الكراهية بين شلضم وقرمة في ضفاف الصبا، في أحد الأعياد مزق شلضم جلباب قرمة الجديد فاشتبكا في خناقة حامية، فضرب قرمة شلضم بمقدم قبقابه، فقطع حاجبه، وسجل في وجهه أثرا باقيا.
منذ ذلك التاريخ القديم عششت عاصفة صفراء ضاربة للسواد في أعماقهما، ويجمعهما اللعب مع الصبيان والاختلاط في المناسبات، ولكن الجرثومة الشرهة تظل رابضة ونفاثة للحنق، ويظل منظر أحدهما قوة غادرة ومتحدية للآخر.
في الكتاب يتبادلان الغمز واللمز، يتحرش أحدهما بالآخر ويحرض عليه سيدنا الشيخ عند أية فرصة سانحة.
ومات أبو شلضم، وأقيم سرادق العزاء كالعادة، ووقف قرمة فوق سطح غير بعيد وراح يغني:
حود من هنا
وتعال عندنا
ولما خطب شلضم بنت الفسخاني حاول قرمة خطفها منه، بالحيلة وبتسويء سمعته عند أهلها، وفي خلال ذلك تشاجرا بعنف، فقطع شلضم قطعة من أذن قرمة وترك به أثرا باقيا كالذي تركه بوجهه من قبل.
وتزوج كل منهما وأنجب، وتفرقت بهما سبل العمل، وتقدم بهما العمر شوطا، ولكن العقدة الكامنة لم تنحل، حتى إنهما تبادلا السباب مرة في أثناء صلاة الجمعة، وحتى صاح بهما الإمام: لعنة الله على الشيطان وصحبه.
وصارا في حارتنا نكتة، تستثير الضحك من بعيد، وتنذر بشر متجدد.
وتحسنت أحوال قرمة، ظهرت عليه النعمة، فتح دكانا للدخان بأنواعه، لمع الذهب في أصابعه وأسنانه، وادعى أمام الخلق أنه ربح ورقة نصيب فاستثمر ربحها، ولكن شلضم راح يحلف بالطلاق أنه اغتال أموال معلمه، وأنه لص لا أكثر ولا أقل.
وتوهم شلضم أنه قادر على أن يشق سبيله مثله، فامتدت يده إلى مال معلمه، ولكنه ضبط وحكم عليه بالسجن بضع سنين، وغادره مفلسا ضائعا يرى غريمه في عداد الأعيان فجن جنونه، ولم يجد بابا مفتوحا إلا باب البلطجة، فولجه بعنف ورغبة متصاعدة في الانتقام، وجعل هدفه الأول المعلم قرمة، حتى أثار مخاوف الرجل على نفسه وعلى أولاده، لم يعد قرمة صعلوكا كما كان من قبل، إنه يملك الآن مالا وبنين وأسرة وجاها ويريد أن يحافظ عليهما جميعا، وأن يتمسك بالحياة من خلال تمسكه بها، ولو تجشم في سبيل ذلك مهادنة شلضم وشراءه حتى يتحين له فرصة للقضاء عليه.
واستجاب شلضم لسياسة خصمه ليبتز ماله وليتمادى في ذلك بلا نهاية وبلا حياء، واستحر الموقف، وأصبحت الحياة لا تطاق ولا علاج لها إلا الموت.
ودبر قرمة خطة لقتل شلضم بوساطة رجل ممن يؤجرون للقتل، وتوجس شلضم خيفة فقرر أن يقتل قرمة قبل أن يقتله.
وتربص له بليل ثم قتله.
ولكنه لم ينعم بالحياة بعده إلا ساعات، إذ قتله القاتل المأجور ليستوفي بقية مستحقاته من أرملة قرمة.
هكذا قتل الرجلان في ليلة واحدة. •••
ويقول أبي بعد أن يحكي هذه الحكاية: الكراهية من الشيطان يا بني ولكن الإنسان مثير للدهشة.
الحكاية رقم «64»
عرف الخفير سلامة بالضمير الحي .. كان من القلة النادرة التي تقدس القانون في حارتنا التي لم تتعود بعد على احترام القانون لحداثة تحررها من الفتونة وتقاليدها المتحدية الاستفزازية، ولاستقامته أثار دهشة أهل الحارة واستحق عن جدارة احترام المأمور والضباط. وتزوج سلامة أرملة تكبره في السن ذات ابن يافع اشتهر بالفساد فوجد نفسه في محنة لم تخطر له على بال، وأكد الشاب - ويدعى برهومة - المحنة بسطوه ليلا على أحد الحوانيت، وضبطه متلبسا الخفير الساهر اليقظ سلامة، وأعاد الخفير المسروقات وغطى على الخبر مكتفيا بضرب ابن زوجته ضربا مبرحا، وأفاق بعد حين قليل فأدرك أنه خسر جوهره الذي ميزه بين الناس، وشعر بالخزي وخامره حزن عميق، وتمادى برهومة في فساده فثار غضب سلامة وجعل ينهال عليه بالضرب حتى ضاق به الشاب، وقال له مرة: لا تضربني .. إني أحذرك!
فانقض عليه ليؤدبه ولكنه تراجع إلى ركن وصاح به: سأعترف، سأذهب إلى القسم وأعترف بكل شيء، وأعترف أيضا بتسترك علي! إن ضربتني مرة أخرى فسأعترف!
وذهل سلامة، وسأله وهو يكتم فيضان غضبه: أنت تهددني بعد كل ما فعلت من أجلك؟ - لا تضربني وإلا اعترفت.
فصاح به: إذن أقلع عن فسادك.
فهتف وهو يفر من وجهه: أنا حر!
وقال سلامة لنفسه محسورا: إني أفقد كل يوم شيئا ثمينا لا يعوض.
ولاحظ كثيرون أن الخفير سلامة قد تغير، وأن شائبة قد شابت استقامة قامته، وهو من ناحيته شعر أن الناس يتغيرون أيضا، ينظرون إليه باستهانة ما، يجاملونه ولكن نظراتهم لا تخلو من سخرية، لقد أوشكوا يوما مع إعجابهم به أن يحقدوا عليه لصلابة أخلاقه، أما اليوم فهم يعطفون ويسخرون. •••
وأنهى سلامة عذابه بأن ذهب إلى المأمور واعترف.
وتأثر المأمور، أمر بالقبض على برهومة، وقال لسلامة: قدم استقالتك كيلا ترفت، إني أعطيك هذه الفرصة إكراما لتاريخك. •••
ولم يهمل سلامة بلا عمل طويلا، فاستخدمه صاحب مخزن الغلال خفيرا عنده.
وعد سلوكه مثالا طيبا عند أناس، كما اعتبر نوعا من البله عند أناس آخرين.
الحكاية رقم «65»
الشيخ لبيب وجه عتيق في حارتنا، تراءى لعيني معلما من معالم الحارة مثل التكية والقبو والسبيل، كان يتخذ مجلسه قبيل مدخل القبو، على فروة يجلس، وبين يديه مبخرة تنفث رائحة دسمة مخدرة، ذو جلباب أبيض وطاقية خضراء، مكحول العينين ضعيف البصر، يطوق عنقه بمسبحة طويلة تستقر شرابتها في حجره.
تتقاطر النسوان على مجلسه، يجلسن القرفصاء صامتات، يرمين بمناديلهن وينتظرن كلمة تخرج من فمه، يغمغم ويتثاءب ثم يتمطى، ينطق بكلمة مفردة مثل «تفرج» أو بمثل من الأمثال مثل «يا رايحين ربنا يكفيكم شر الجايين» فتفهم المرأة ما تفهم، فيتهلل وجهها فرحا أو يغمق كآبة، ثم تدس المقسوم تحت طرف الفروة وتمضي.
عاش الرجل دهرا رزقه يجري، وكراماته تروى، واسمه يتردد على شفاه ذوي القلوب الكسيرة وما أكثرهم في حارتنا. •••
ويطعن الشيخ لبيب في السن وتتغير الأحوال.
يندر تردد الزائرات عليه حتى ينقطع أو يكاد، ويتكاثر التلاميذ ممن لا يرعون له حرمة، ويطاردونه بالسخريات والأزجال العابثة، ويهتف الشيخ: ملعونة المدارس المفتوحة لكم.
وتسوء حاله، وصحته أيضا، ويتوعد الناس والزمان بعقاب الآخرة، ويتحسر على أيام الطيبين الذاهبين. •••
وأخيرا يسلم للزمن، يتسول، يمضي هاتفا مادا يده
كل من عليها فان .
الحكاية رقم «66»
وراء قضبان بدروم يلوح وجه صبي صغير، إذا رأى عابر سبيل أليف المنظر هتف به: يا عم!
فيقف العابر ويسأله عما يريد فيقول: أريد أن أخرج. - وماذا يمنعك؟ - باب الحجرة مغلق. - ألا يوجد أحد معك؟ - كلا. - أين أمك؟ - أغلقت الباب وذهبت. - وأبوك؟ - سافر من زمان.
ويدرك العابر الموقف على نحو ما فيبتسم إليه مشجعا ويذهب، ويلوح وجه الصبي الصغير وراء القضبان وهو يتطلع بشوق إلى الناس والطريق.
الحكاية رقم «67»
عبده السكري ابن أحد حملة القماقم والمباخر، أسرة فقيرة كثيرة العدد تضمها حجرة واحدة. كان عبده آخر العنقود، فأدخله عم السكري الكتاب فأحرز التفوق من أول يوم، ونصحه سيدنا الشيخ بإلحاقه بالمدرسة الابتدائية، فتردد الرجل مليا بين إرساله إلى معلم ليحترف حرفة وبين طريق المدرسة الطويل، ثم قرر في النهاية إلحاقه بالمدرسة، كان قرارا صعبا، يعني أن يعيش عبده عالة عليه دهرا طويلا بدلا من أن يعينه بيوميته، ولكن تفوق عبده أنساه متاعبه ونفخ جناحيه بالفخر، وعند انتهاء المرحلة الابتدائية قال عم السكري بزهو: أصبح لي ابن من موظفي الحكومة!
ولكن عبده أصر على دخول المرحلة الثانوية، كان يمضي إلى المدرسة ببدلته القديمة المهترئة وحذائه المرقع وطربوشه المزيت، ولكن مرفوع الرأس بتفوقه، ويتكلم في السياسة أيضا، واستحق بعد ذلك أن يقبل بمدرسة المهندسخانة بالمجان، وأن يختار بعد ذلك عضوا بالبعثة بإنجلترا. من يومها أطلق على عم السكري «أبو المهندس»، وذاع صيته في الحارة، وضرب بذكاء ابنه المثل. كان حلم عم السكري في شبابه أن ينضم إلى عصابة فتوة أو ينتصر في خناقة، ولكن الزمن تغير ويأتي بالأعاجيب! •••
ويشغل عبده وظيفة مرموقة في الوزارة، وبفضله قام أول مصباح غازي في حارتنا.
الحكاية رقم «68»
من حكايات حارتنا التي لا تنسى حكاية عبدون اللاله.
الأب كان عاملا في البوظة والأم بياعة باذنجان مخلل، أما عبدون فيعمل صبيا في الفرن.
يجيء بالعجين ويذهب بالخبز، ولكنه شاب ولا كل الشبان، يحب سلمى بنت ونس الكناس فيتزوج منها ويمارس حياة زوجية سعيدة وهادئة.
نشيط ذو همة عالية، يعمل من طلعة الصبح حتى أول الليل، لا يرتاح ولا يهمد، لا يتذمر ولا يشكو، المعلم يقدره والزبائن يحبونه، يصلي العشاء في الزاوية، يحضر الدرس يؤاخي الإمام ويسترشد بآرائه فيما يعن له من مشكلات، نزهته الوحيدة سماع الشاعر في المقهى ثم يرجع إلى بيته متسوقا بطيخة أو خيارا أو سمكا مقليا.
وهو حليم يتحمل نزوات المعلم، وسخافات بعض الزبائن، وسخريات الأصدقاء بأدب وابتسام.
ما أعجبه في حارتنا، كأنه لا يسمع سبابها ولا يشهد منازعاتها ولا يتعامل مع أهل المعاصي والفتن من أهلها. •••
وذات يوم يظهر في الحارة بجلباب أبيض كالحليب وطاقية مزركشة ومركوب أحمر، وكلما التقى بصاحب عانقه أو بذي مقام قبل يده، وقد أضرب عن العمل، ولم ينطق في ذلك اليوم إلا بجملة واحدة قال: اقتربت الساعة.
ويختفي ساعة ثم يلوح فوق سطح القبو وهو يستقبل الحارة بوجهه صامتا، ويتعجب الناس ويتجمهرون عند القبو، كيف صعد عبدون إلى سطح القبو؟ ماذا يفعل في مرتع الثعابين ووكر العفاريت؟
ينادونه فلا يرد.
ثم يثب من أعلى السطح فيتهاوى حتى يرتطم بعنف بأرض الحارة.
وأقول لنفسي كلما تذكرت مصرع عبدون اللاله: أن أعرف لماذا أحيا أسهل كثيرا من أن أعرف لماذا عبدون انتحر!
الحكاية رقم «69»
نادرا ما يخرج إلى الحارة، وإذ يخرج لحاجة يمضي مهرولا، في عينيه حذر وتوجس، في أذنيه صمم يغلقهما دون اللعن ويفتحهما لما ينتفع به، لا يخترق القبو، لا يزور المقابر، يعيش وحيدا في بدروم، لم يتزوج، لم يذعن لنزوة، يقرض النقود بالربا، يدعى أبو المكارم.
ويلعنه الناس ولكنهم يقصدونه عند الضرورة.
وبلغ السبعين من العمر، يتجمع لديه مال وفير، ثم يكف عن العمل.
يتغير حاله، تظهر عليه أعراض غريبة، يرى من نافذة البدروم وهو متربع على الأرض مستقبلا الجدار بوجهه، تمضي الساعات وهو لا يتحرك.
ويذهب ذات مساء إلى الإمام فيقف أمامه صامتا حتى يسأله الشيخ: لماذا جاء أبو المكارم؟
فيقول بلا مقدمات: حلمت حلما.
فيسأله عنه فيقول: جاءني شخص في المنام وأمرني بأن أحرق مالي عن آخره!
فيبتسم الإمام ويقول: ربنا يجعله خيرا. - ولكنه يتكرر ليلة بعد أخرى! - ما شكل ذلك الزائر؟ - لا أدري، جفناي ينطبقان في حضرته.
فيسأله الإمام باهتمام: من نوره؟ - أظن ذلك! - هل أعلن عن هويته؟ - كلا.
فيصمت الإمام مليا ثم يقول: أتستطيع أن تتصدق بمالك على الفقراء؟
فيرمقه بريبة ثم يذهب.
وذات يوم من أيام الصيف، وأديم الأرض والجدران تشتعل بنار الشمس المحرقة، يتنبه الناس إلى دخان يتصاعد من نافذة بدروم أبو المكارم، يهرعون إلى النافذة فيرون أبو المكارم واقفا عاريا تماما والنار تشتعل في ماله. •••
ويهيم بعد ذلك على وجهه عاريا، يلتقط الطعام من أكوام القمامة، ثم يقبع في ظلمة القبو. ويعثر عليه يوما ميتا تحت القبو فيدفن في قبور الصدقة.
ويرى أحد الأعيان حلما، يزوره سيدنا الخضر، ويبلغه أن أبو المكارم ولي من أولياء الله، وأنه - العين - مكلف بإقامة ضريح فوق قبره.
ويقيم الرجل الضريح، وبمرور الزمن تتلاشى ذكريات أبو المكارم وتبقى له الولاية.
وأسأل أبي: وكيف عرف الوجيه أن سيدنا الخضر هو الذي زاره في المنام؟
فيجيبني: لعله صارحه بذلك.
فأسأل: لو كان أبو المكارم وليا حقا ألم يكن الأفضل أن يتصدق بماله على الفقراء؟ - في تلك الحال كنا نعده محسنا لا وليا!
ثم يستطرد بعد صمت: العبرة بالحلم، لقد من الله عليه بحلم، فهل تملك أنت حلما مثله؟
الحكاية رقم «70»
سحب الخريف تتراكم فتقطر قتامة على حارتنا، ها هم الباعة يترنمون بحلاوة الجوافة والبطاطا.
ويشير رجل نحو القبو ويهتف: يا ألطاف الله!
ينظرون فيرون رجلا خارجا من ظلمات القبو، عاريا كما ولدته أمه، يتأوه ويترنح، تخذله ساقاه فيقع على الأرض، ثم ينهض متشبثا بالجدران، يتلفت حواليه ويبكي.
يهرع إليه أهل الخير، يغطونه، يضمدون جرحا غائرا في رأسه، يسألونه: ماذا حدث لك؟
ولكنه لا يجيب فيسألونه: من أنت، ما اسمك؟
يواصل أنينه بلا جواب فيسألونه: من أين أتيت؟
لا جواب ولا أمل في جواب: أي مكان تقصد؟
وبالتخمين وحده يعرف على نحو ما ما وقع له، فيؤمن الجميع بأنه ضحية لقطاع الطرق.
ويندمل الجرح ولكن العقل يذهب فيصبح من أهل اللطف، ويعيش في الحارة لا يبرحها، آنسا إلى ما يلقى من ستر ورحمة، تطعمه الصدقات، ينام تحت القبو شتاء، وعند سور التكية صيفا، كلامه هذيان أو أصوات مبهمة، يضحك ويبكي لغير ما سبب، ويظل مجهول الاسم والأصل والهوية والهدف.
ولما كانت دواعي الإهمال والاحتقار هي نفس دواعي الإجلال والتعظيم في حارتنا، فإن عبد الله - هكذا سمي باعتباره اسم من لا اسم له - يحتل مع الأيام مكانة سامية وتتحلق حوله هالة مبهمة من القداسة، يحيونه، يلاطفونه، يتوددون إليه، يحيطونه بأسرار، يؤولون أصواته المبهمة يتوارون وراءه إزاء المصائب المجهولة والأقدار الخفية.
وأسمع ذات يوم رجلا يدافع عن «ولاية» عبد الله، فيقول: أي فرد منا لا تتيسر له الحياة إلا بفضل معرفته للأصل الذي جاء منه والهدف الذي يسعى إليه، أما عبد الله فقد تيسرت له الحياة وحظي ببركاتها مع جهله بكل ذلك، ومن ينعم بملكوت الحياة وهو يجهل أصله وهدفه ومعنى حياته جدير بالولاية والتقديس!
الحكاية رقم «71»
رجل غريب في المقهى.
الغريب في حارتنا يسترعي النظر، فمن أين جاء الرجل؟
جاء من ناحية القبو وهو ما يعني أنه جاء من ناحية القرافة غير مبارك الخطوات.
ويمضي الغريب إلى الزاوية فيسلم على الإمام وهو يقول: لا خاب من استرشد.
فيقول له الإمام: نهديك بما نعلم والهداية من الله. - إنما أريد معلومات عن يوسف المر؟ - لماذا يا أخي؟ - كلفني بذلك أناس طيبون وأنت سيد العارفين.
فأدرك الإمام أن الرجل ينشد المعلومات لحساب أهل فتاة يريد يوسف أن يتزوج منها، فقال: ولكنه متزوج! - الدين يسر والحمد لله! - عائلة المر قديمة في الحارة وحرفتهم العطارة. - وعمره! - في الثلاثين، يعمل في دكان أبيه، له ثلاثة أبناء. - يغيب أحيانا عن الحارة أسبوعا أو أكثر؟
فيبتسم الإمام ويقول: يبدو أنك تعرف عنه الكثير، ولكنه يغيب في رحلات تجارية.
ثم يتساءل الإمام: من الذي كلفك بالتحري؟
فيقول معتذرا: لست في حل من ذكره.
فيتضايق الإمام ويسأل بجفاء: وحضرتك من تكون؟ - أدعى عبد الآخر المقاول. - أي مقاولات؟ - كلا، إنه لقبي، أما عملي فطحان غلال.
ويودعه ثم ينصرف.
ويتناهى الخبر إلى يوسف فيدهش، فيحلف بالله على أنه لا يسعى لزواج جديد، وما خطر له ذلك على بال، وتكثر التساؤلات عن الغريب وسره، تحتدم مليا ثم تخف وتتلاشى.
وذات مساء يرى الغريب قادما من ناحية الميدان.
يشق الحارة بلا توقف حتى يختفي في القبو، ثم يميل إلى الممر الضيق بين السور العتيق وبين سور التكية ويمضي نحو القرافة.
ويعلم يوسف المر بخبره، فينطلق في أثره حتى يغوص في ظلمة القبو.
وتمضي ساعة فيقلق الأب، ويذهب في أثر ابنه حاملا فانوسا لينير له الطريق مصحوبا ببعض عماله.
في القبو تترامى إليهم تراتيل الأوردة الأعجمية، آتية من التكية، وفي الساحة، وعلى ضوء الفانوس، يعثرون على يوسف المر مطروحا على الأرض وقد فارق الحياة.
ومع أن الطبيب الشرعي قرر فيما بعد أن الرجل مات بالسكتة، إلا أن قراره لم يحترم لحظة واحدة في حارتنا.
يهزون رءوسهم ويتمتمون: الرجل الغريب!
ولكن من الغريب؟ ولم قتل يوسف المر؟
هنا تتبادل النظرات وتتناجى الهمسات وتنداح في الجو موجة من الأسرار الخارقة.
الحكاية رقم «72»
وعكلة الصرماتي حكايته حكاية .
كان أبوه صاحب سيرك، كان قويا وخلاقا، يشتهر علكة منذ صباه بالرشاقة الخلابة في الملعب.
يتوفى الأب فيهجر الابن السيرك بلا سبب مقنع، ينضم إلى عصابة فتوة، فيثبت صلابته وينال حظا من الثروة، وهو ذو رائحة خفية تجذب أشواق النساء، فيستوي على عرش الهوى فتنة للقلوب، ويوغر صدور الرجال حتى يقول له الفتوة: تأدب وإلا شوهت وجهك.
وكأن قلبه لا يعرف الحب الحقيقي، يهيم بالمرأة حينا ثم ينبذها، وتفوق غزواته كل خياله، ويؤمن أناس بأنه يؤاخي الشياطين ويستعمل السحر.
وفجأة يتزوج.
يتزوج من أرملة تكبره بأعوام لا جمال لها، ويستقر في بيت الزوجية استقرارا يبشر بالدوام.
ويزهد في الفتونة كما زهد في السيرك من قبل ويفتح دكان حلوى، ويربح ثروة لا بأس بها.
وبعد أعوام قليلة يسأم تجارته الرابحة فيصفيها، ويفتح مطعم لحمة رأس وكبدة، فينجح ويحقق ثروة أكبر من الأولى.
ويجتاحه حب المال، يحل من نفسه محل النساء والسيرك والفتونة، فيتاجر في المخدرات والأراضي، ويبتاع بيتا ودوكارا ويتحلى بالذهب.
ويقرر ذات يوم أن ينقل مقامه من الحارة إلى المدينة الكبيرة، يبني قصرا ويعيش عيشة الأكابر، ويشتري عزبة، ثم لا يرى في حارتنا إلا عند عقد الصفقات.
ويعشق الترحل، وما أن يجربه حتى يخلب لبه، فهو يوما بالإسكندرية ويوما في أسوان، ويزور البلاد العربية، بل ويغامر برحلات في أوروبا.
عندما تعجبه بقعة من الأرض يفتتن بها، ويصرح بأنه لن يبرحها حتى نهاية العمر، ثم يعتادها ويروم غيرها، ويعذبه عشق الأماكن كما عذبه عشق النساء والمال وغيرها من قبل، وبين كل رحلة وأخرى يرجع إلى حارتنا لرؤية الأصدقاء وعقد الصفقات.
ويجلس ذات مساء بين أصدقائه من تجار المخدرات فيتساءل: ماذا يمكن أن يصنع الإنسان أيضا؟
ويحدثهم عن رحلاته وهم يتابعونه بغير مبالاة، شأن من لا يغادر الحارة إلا لضرورة.
ويتساءل عكلة: ترى أين جبال الواق؟
ثم يتساءل مرة أخرى: وأين سور الدنيا؟ وإذا أطل الإنسان منه فماذا يجد؟ •••
وتترامى عنه أخبار وأخبار.
يقال إنه أدمن الشراب، يقال إنه يدمن المقامرة، يقال إنه يرتكب حماقات لا عد لها ولا حصر.
ويطول غيابه في الخارج حتى يظن أنه لن يرجع.
واعتبره الأهل مفقودا.
وتمضي السنون.
وذات صباح يعثر على جثة كهل في الساحة أمام التكية شبه عار.
ويتعرف أهل حارتنا فيه على عكلة الصرماتي، ينظرون إلى جثته ذاهلين متسائلين وهو معزول عنهم بالصمت الأبدي والسر المنطوي.
كانت حياته أسطورة، وموته لطمة.
الحكاية رقم «73»
مصطفى الدهشوري ابن سقاء، ولكنه من القلة الراسخة في العلم في حارتنا، وهو أحد المدرسين بمدرستنا وصديق لأبي.
يسأل أبي وهو يجالسه ذات مساء في بيتنا: ما معنى الحياة؟
يبتسم، ولما يجده جادا في سؤاله ومصرا عليه يحدثه بما يعلم عن الأصل والهدف، والحياة والموت، والبعث والحساب، فيقول الدهشوري: إذن فأنت واثق من كل شيء، من الحياة والموت وما بعد الموت، أعندك فكرة عما يحدث في القبر؟
فيحدثه أبي عن التلقين وحساب الملكين ومستقر الروح وشفاعة النجاة في الآخرة، وعند ذلك يقول الدهشوري: إليك قصة الجسد البشري ساعة بساعة من الوفاة حتى يستحيل هيكلا عظميا.
ويردد حديثا مرعبا ومقززا كأنه كابوس طويل، فيهتف أبي محتجا: كفى، ماذا تريد؟ - أريد أن أصور لك حقيقة لا شك فيها.
فيسأله أبي ساخرا: ألا تؤمن بالله؟
فيبتسم قائلا: بلى، لا حيلة في ذلك.
ثم يواصل حديثه: ولكنه لا يتصل بي وأنا عاجز عن الاتصال به، بيننا صمت قاتل وأرى في الحالة شرا لا تفسير له، وأرى في الطبيعة عجزا ونقصا، ولا أفهم لذلك معنى، فلم أشك في أنه - سبحانه - قرر أن يتركنا لأنفسنا، بلا اتصال وبلا عناية!
ويصارحه أبي بأنه يجدف تجديفا خطيرا، ولكن الدهشوري يستمر قائلا: وإذن فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بتجاهله لعالمنا، كما يقتضي منها الاعتماد الكلي على النفس وحدها.
وسأله أبي غاضبا: أتتخيل حال الناس لو آمنوا بفكرتك؟ - لن يكونوا أسوأ مما هم بحال من الأحوال، وثمة أمل بأن يكونوا أحسن.
ثم يشرح فكرته قائلا: لا تخش أن يأخذ الناس الحياة مأخذ العبث، إذ إنها أمانة ملقاة علينا، ولا مفر من حملها بكل جدية وإلا هلكنا، وإذا أمكن أن يوجد أحيانا أمثال الخيام وأبي نواس، فإنما يوجدون لا بفضل فلسفتهم ولكن بفضل الجادين الكادحين الذين يقومون بحمل الأمانة عنهم، ولو اعتنق الجميع مذهب العبث، فمن يصنع لهم الخبز والخمر والرياض؟ وإذن فلا تخش أن يأخذ الناس الحياة مأخذ اللهو إن وجدوا أنفسهم في عالم بلا إله، لا مفر من الجدية، ومن الإبداع، ومن الأخلاق، ومن القانون، ومن العقاب، وقد يستعينون أيضا بالعقاقير الطبية لمقاومة الضعف في السلوك والتفكير كما يستعينون بها في مقاومة الأمراض، وسيفعلون ذلك بإصرار، ولن تهون عزيمتهم بسبب أنهم يجدون أنفسهم في سفينة بلا مرشد في بحر بلا شطآن في زمن بلا بداية ولا نهاية، ولن تختفي البطولة ولا النبل ولا الاستشهاد.
ويتريث قليلا متسامحا مع غضب أبي وسخريته ثم يستطرد: وذات يوم سيحقق الإنسان نوعا من الكمال في نفسه ومجتمعه، وعند ذاك، وعند ذاك فقط، ستسمح له شخصيته الجديدة بإدراك معنى الألوهية وتتجلى له حقيقتها الأبدية.
ويتواصل النقاش حتى ينال منهما التعب، ثم يتساءل مصطفى الدهشوري باهتمام: كيف يمكن أن أنشر أفكاري في حارتنا؟
فيقول له أبي بحدة: أهل حارتنا غارقون في هموم الحياة اليومية، يطحنهم الفقر والجهل والبطش والعداوة. - ولكنها مشكلات لا تحل الحل الأمثل إلا بأفكاري؟ - أهل حارتنا لا يفهمون إلا لغة واحدة هي اللغة المشتقة من همومهم، الحاوية لعذاباتهم، المقدسة بأوراد الكائن المرجو عند الشدة الذي تريد أن تنزعه من قلوبهم.
ورغم حرص مصطفى الدهشوري، تنسب إليه أفكار خارقة تسيء إلى سمعته بين الناس، فيثير لغطا يفصل بسببه من وظيفته وتتجهمه الحياة في حارتنا.
الحكاية رقم «74»
الأعور يتأهل لموعد غرامي في الساحة أمام التكية، يعزم على إنعاش شجاعته بكم قرعة من البوظة، ولكنه يسترسل في الشرب حتى يفقد ذاته تماما.
يغادر الخمارة عقب منتصف الليل، فيذوب في الظلام، ويذوب في الحب، ولا يدري أين يتجه، يرتطم في الظلام بنؤنؤ المجنون، وهو يهيم على وجهه، حيث إن جنونه غير مؤذ، فيقبض على ذراعه دون أن يعرفه، ويقول له: أرشدني إلى طريق التكية.
فيتحرك نؤنؤ المجنون وهو يقول له: لا تترك ذراعي .. لماذا تريد التكية في هذه الساعة من الليل؟ - أتريد الحق؟ إني ذاهب للقاء حبيبتي. - عظيم .. وأنا ذاهب أيضا للقاء حبيبتي. - في الساحة مثلي؟ - بل في التكية نفسها. - ولكن الأسوار عالية. - لا مستحيل في الليل.
ويكاد الأعور أن يسقط من شدة الترنح فيقول متشكيا: نحن نسير منذ عام ولم نصل بعد؟ - لم يمض على سيرنا إلا أسبوع واحد.
فيعتذر الأعور عن خطئه فيقول: الزمن لا يرى في الظلام. - والمحبوبة هل ترى في الظلام؟
فيضحك السكران ويقول: إني لا أعتمد على عيني للتعرف على المحبوبة. - إذن فأنت مجنون! - ولكن أين التكية؟ - نحن لم نسر بشهادتك إلا أسبوعا واحدا. - ولكني أقطع الحارة نهارا في ربع ساعة. - في الليل تطول المسافة، ألا ترى أننا لا نتوقف عن السير؟
ويدوخ الأعور، وتعجز ساقاه عن حمله، فيسقط على وجهه، ويروح في سبات عميق لا يستيقظ منه إلا مع أول شعاع للشمس، ينظر فيما حوله بذهول فيجد نفسه أمام الخمارة لم يبتعد عنها خطوة واحدة. •••
ويقول راوي هذه الحكاية - صبي الخمارة - إنه كان يقف عند الباب، يسمع حوار السكران والمجنون، ويراهما وهما يدوران حول نفسيهما متوهمين أنهما يتقدمان.
ومن يومها والمثل يضرب بهذه الحكاية في حارتنا فيقال لمن يسترشد بمن لا يرشد: «أنت سكران وهو مجنون فكيف تصلان إلى التكية؟»
الحكاية رقم «75»
يدخل عمر المرجاني البوظة في غاية من الأبهة والأناقة.
جلبابه الأبيض يشع نورا، عمامته المقلوظة تتوج رأسه، مركوبه الأحمر يتألق، تحت إبطه خيزرانة رشيقة.
يحيي الحاضرين ببشر ويقول: لتمتلئ قلوبكم بالهنا والأفراح.
ويكرع أول قرعة فتتحرك النشوة في أعماقه ويبتسم.
وعقب القرعة الثانية تعانقه فرحة شاملة فيهتز طربا ويقول لمن حوله: صدقوني إن الحزن في هذه الدنيا ليس إلا وهما عابرا.
ويفرغ القرعة الثالثة في جوفه ويقول: ملعون من يلعن الدنيا، لقمة حلوة ومرة، حلوة وإيمان حلو، ماذا تريدون بعد ذلك؟
ويقف برشاقة فيلعب بعصاه ويقول: أنا سعيد يا جدعان!
ويرقص بخفة وبهجة!
وإذا بصوت خشن لم يحدد مصدره يهتف به: نريد الهدوء.
ولكنه يواصل الرقص، ويأخذ في الغناء أيضا:
شوفوا العجب حبيت فلاحة
فيعود الصوت الخشن قائلا: احترم نفسك واجلس!
ولكنه يستمر في معانقة الفرحة.
ويرتفع نبوت في الهواء ثم يهوي على رأسه!
عند ذاك يتوقف عن الرقص، يسكت عن الغناء، تتصلب سحنته نافضة عنها لآلئ السعادة .. ثم يتهاوى على الأرض.
الحكاية رقم «76»
بسرعة الشهب انتشر خبر يقول إن الحكومة ستهدم التكية ضمن مشروع للمرافق العامة، في لحظة يصير حديث البيوت والدكاكين والوكالات والغرز والبوظة والخرابات في حارتنا. - حارتنا ميمونة ببركة التكية. - الخضرة والأزهار لا ترى إلا في التكية. - والأغنيات الإلهية أين تسمع إلا في التكية. - وما المكان الذي لم يضمر أذى لإنسان إلا التكية.
وبالبحث والتحري تكشف حقيقة غريبة وهي أن صاحب المشروع هو المهندس عبده السكري ابن حارتنا!
ويقول عبده: التكية تعترض مجرى الحارة كالسد، وتحول دون انطلاقنا نحو الشمال.
فيقولون له: وهل علمت أننا متضايقون من ذلك؟ وألا يوجد أكثر من سبيل إلى الشمال؟ - لا تنسوا أن القرافة ستنقل عما قريب إلى صحراء الخفير وسيحل محلها عمران شامل. - طول عمرنا نسمع أن القرافة ستنقل. وها هي باقية لا تتحرك، فكيف هان عليك أن تقترح إزالة التكية المباركة؟
واشتد النقاش، وحمي الانفعال، وكتبت العرائض، وحل بحارتنا توتر وحزن لم تعرفهما من قبل.
ويرتفع صوت معتدل يقول: لا وجه للعجلة، فلننتظر حتى يتقرر بصفة نهائية نقل القرافة، ويشرع في ذلك بالفعل، عند ذاك يحق لنا أن نناقش مسألة هدم التكية.
وغلب هذا الرأي فتراجعت الوزارة وتأجل المشروع.
أما الأكثرية فقد رفضت الفكرة جملة وتفصيلا.
وأما القلة المعتدلة فهي تقول: فلتبق التكية ما بقيت القرافة.
الحكاية رقم «77»
أنور جلال جالس على سلم السبيل الأثري وهو يضحك عاليا، أنظر إليه فيخطر لي أنه سكران أو مسطول فأمضي نحوه وأجلس إلى جانبه ثم أسأله: ماذا يضحكك؟
فيجيبني وهو لا يكف عن الضحك: تذكرت أنني طالب بين طلبة متنافسين، في مدرسة تجمع بين طلبة الأزقة المتخاصمة، في حارة وسط حارات متعادية، وأني كائن بين ملايين الكائنات المنظورة وغير المنظورة، في كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لي عليها، والمجموعة ضائعة في سديم هائل، والسديم تائه في كون لا نهائي، وأن الحياة التي أنتمي إليها مثل نقطة الندى فوق ورقة شجرة فارعة، وأن علي أن أسلم بذلك كله ثم أعيش لأهتم بالأحزان والأفراح، لذلك لا أتمالك نفسي من الضحك.
فأضحك معه طويلا حتى يحدجني بنظرة ساخرة ويسألني: هل تضمن أن تشرق الشمس غدا؟
فأقول بثقة: أستطيع أن أراهن على ذلك.
فيقول وهو يضحك: طوبى للحمقى فهم السعداء.
الحكاية رقم «78»
عرفت الشيخ عمر فكري في بيتنا وهو في زيارة لأبي، هو كاتب محام متقاعد، فتح عقب تقاعده مكتبا للأعمال لمعاونة أهل حارتنا في شئون الحياة بعد أن توثقت أسباب الاتصال بين الحارة وبين المدينة الكبيرة، ويقع مكتبه فيما بين الزاوية والمدرسة، ويقدم خدمات متنوعة للقاصدين، مثل تأجير البيوت ونقل الأثاث وتجهيز الجنازات والسمسرة التجارية وشئون الزواج والطلاق.
سمعته وهو يقول لأبي بكل ثقة واعتزاز: من خبرتي الطويلة أستطيع أن أقدم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة!
تحركت في أعماقي رغبة قديمة كامنة فسألته: أتستطيع أن تقدم لي خدمة؟
فنظر إلي باسما وسألني: ماذا تريد يا بني؟ - أريد رؤية شيخ التكية الأكبر!
فضحك الشيخ عمر عاليا، وشاركه أبي، ثم قال: إن الخدمات التي أقدمها جدية وتتعلق بجوهر الحياة العملية! - ولكنك قلت إنك تقدم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة! - ولكن التكية خارج أسوار الحياة؟ - هي ليست كذلك في الواقع.
وقال لي أبي: أسمعه بعض ما تحفظ من أشعارها.
فرددت بسرور: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.
فقال الشيخ عمر فكري مخاطبا أبي: ما أكثر الذين يرددون هذه الأشعار بلا فهم، «ثم ناظرا نحوي» أتفهم معنى كلمة واحدة مما رددت؟
فهززت رأسي نفيا فقال: إنهم غرباء ذوو لغة غريبة، ولكن حارتنا مجنونة بهم.
فقلت له: إنك قادر على كل شيء.
فتمتم أبي: أستغفر الله العظيم.
وسألني الشيخ: وما أهمية رؤية شيخ الدراويش لك؟ - لأتأكد من تجربة مرت بي في طفولتي.
وقص عليه أبي قصتي القديمة فضحك الشيخ عمر وقال: أعترف لكما بأنني رغبت ذات يوم في رؤية الشيخ الأكبر. - حقا؟! - قلت لنفسي إن الحارة كلها تردد ذكره رغم أنه لا يكاد يزعم أحد أنه رآه، وولعت بفكرة رؤيته ولع الأطفال، ماذا يحول بيني وبين ذلك؟ ومضيت إلى التكية، طلبت مقابلة أي مسئول بها، ولكنهم لاقوني من وراء السور بتجهم وقلق، ولم يبدوا أي استعداد للتفاهم، تكلمت بالإشارة فأجفلوا وأوجسوا خيفة، حتى أسفت على ما أحدثت لهم من اضطراب، ورجعت معترفا بحماقتي، يائسا من تحقيق فكرتي بالاتصال المباشر، مقتنعا في الوقت نفسه بأن اقتحام التكية بالطريق المشروع متعذر أو مستحيل، وأن اقتحامها بالتسلل خرق للقانون لا شك فيه، لا يتوقع من رجل يقوم عمله في الحياة على احترام القانون. - هكذا عدلت عن رغبتك؟ - لم أعدل عنها كما ظننت، ولكنني جربت وسيلة ثانية، طفت بالطاعنين في السن من أهل حارتنا ممن عرفوا بالتقوى، فادعى بعضهم أنهم رأوه، ولكن لم يتفق اثنان منهم على وصف محدد له، اختلفوا لحد التناقض، وهذا يعني في نظري أن أحدا منهم لم يره.
فقلت بحماس: ولكني رأيته. - إنكم لا تكذبون ولكنكم تتخيلون. - وما وجه الاستحالة في رؤيته، ألا يخطر له أحيانا أن يتمشى في الحديقة مثلا؟ - ومن أين تعلم أن الذي تراه هو الشيخ الأكبر وليس درويشا من الدراويش؟ - وهكذا نفضت يدك من المسألة؟ - أبدا، كنت مجنونا أكثر مما تتصور، ذهبت إلى ديوان الأوقاف متحديا، حصلت على معلومات لا بأس بها عن أوقاف التكية وعن فرقتهم الصوفية، عن الدرويش المخصص لتسلم الريع، ولكن لم أعثر على كلمة واحدة تخص الشيخ الأكبر، فضلا عن كراماته التي تؤمن بها حارتنا.
فغصصت بالخيبة ورمقته بحنق، ثم قلت: توجد وسائل أخرى ولا شك؟
فقال باسما: يوجد العقل، هو الذي خلصني من رغبتي المحمومة، قال لي إننا نرى التكية والدراويش ، ولا نرى الشيخ الأكبر!
فسأله أبي: هل يصلح هذا دليلا على عدم وجوده؟ - إنه لا يقول ذلك، إنه يقرر حقيقة نعرفها جميعا وهي أننا نرى التكية والدراويش ولا نرى الشيخ الأكبر.
فقلت: ولكن توجد وسيلة ولا شك للتثبت من وجوده ومن رؤيته؟ - لن يتأتى ذلك بالطرق المشروعة فيما أعتقد، وإني كما تعلم لا أحيد عن القانون أبدا.
فضحك أبي وقال: اعترف أنه توجد خدمة واحدة على الأقل لا تستطيع أن تؤديها يا شيخ عمر.
فجاراه في ضحكه قائلا: ليكن، ولكن ما جدوى رؤية الشيخ الأكبر؟ ألم تكن رغبة مضحكة؟!
فسألته بحرارة: لم يغلقون في وجوهنا الأبواب؟ - التكية شيدت في الأصل في خلاء؛ لأنهم قوم ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، ولكن بمرور الزمن امتد العمران إليهم، وأحاط بهم الأحياء والأموات فأغلقوا الأبواب كوسيلة أخيرة لتحقيق العزلة.
وابتسم ابتسامة فاترة وقال: لقد مددتك بكافة المعلومات الممكنة، وهي وإن تكن غير مجدية في تحقيق رغبتك، إلا أنها قاطعة في أنه لا يمكن تحقيق الرغبة إلا بوسيلة غير مشروعة خارقة للقانون. •••
تلك ذكرى لا تنسى.
وحتى اليوم لم أجد الشجاعة الكافية لمخالفة القانون، ولكنني في الوقت نفسه لا أستطيع تصور تكية بلا شيخ أكبر.
وبمضي الأيام لم أعد أرى التكية إلا في موسم زيارة المقابر، فألقي عليها نظرة باسمة، وأستقبل ذكرى أو أكثر، وأحاول أن أتذكر صورة الشيخ أو من توهمت ذات مرة أنه الشيخ، ثم أمضي نحو الممر الضيق الموصل إلى القرافة.
Unknown page