High Aspiration

علو الهمة

Publisher

دار القمة - دار الإيمان

Publisher Location

مصر

Genres

علو الهمة تأليف محمد أحمد إسماعيل المقدم عفا الله عنه دار الإيمان إسكندرية
علو الهمة ئأليف محمد إسماعيل المقدم عَفَا الله عَنُهُ دار القمة لتوزيع الكتاب والشريط والسي دي فاكس: ٥٤٥٧٧٦٩ ت: ٥٢٢٢٠٠٢ دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع إسكندرية ت: ٥٤٥٧٧٦٩

Unknown page

بسم الله الرحمن الرحيم ربَّنَا تَقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم رقم الإيداع ١٥٧١٨/ ٢٠٠٤ الترقيم الدولي (٥ - ٣٢٥ - ٣٣١ - ٩٧٧) جميع الحقوق محفوظة علو الهمة دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ١٧ شارع خليل الخياط - مصطفى كامل - إسكندرية تليفون وفاكس: ٥٤٥٧٧٦٩ ت: ٥٤٤٦٤٩٦

1 / 4

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، والشكر له على ما أولى من نِعَمٍ سابغةٍ، وأسدى، أحمده سبحانه، وهو الوليُّ الحميد، وأتوب إليه جل شأنه، وهو التواب الرشيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له شهاده نستجلب بها نِعَمَه، ونَستدفع بها نِقَمَه، ونَدَّخِرُها عُدَّةً لنا ﴿يَومَ لا يَنفع مَالٌ وَلَا بَنونَ إِلَّا مَنْ أتى اللَّه بقَلْب سلِيم﴾. وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، وصَفِيُّه من خلقه وخليلُه، صلى الله عليه، وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين. ورضي الله عن صحابته الأبرار الذين قاموا بحق صحبته، وحِفظ شريعته، وتبليغ دينه إلى سائر أمته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس. أمَّا بَعد ففي قرنٍ وبعض قرنٍ، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرضَ قوةً وبأسًا، وحكمة وعلمًا، ونورًا وهداية، فراضوا الأممَ، وهاضُوا الممالك، وركزوا ألويتَهم في قلب آسيا، وهامات أفريقية، وأطراف أوربة، وتركوا دينَهم، وشرعتَهم، ولغتَهم، وعلمَهم، وأدبَهم، تَدِينُ لها القلوب، وتتقلب بها الألسنةُ، وتَحقَّق فيهم الأنموذج الفريد،

1 / 5

والمثال الأعلى للبشرية باعتبارهم "خير أمة أخرجت للناس"، بعد أن كانوا فرائق بَددًا، لا نظام، ولا قوام، ولا علم، ولا شريعة. لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي سَهَم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقةٍ خارقة، وقوةٍ دافعة، كانوا إذن يدركون بكل دقة معالمَ الطريق كأن معهم "خارطة" مفصلة أودَعُوها "قوتهم العلمية"، وكان الوقود الذى يتزودون به لبلوغ غاياتهم هو "القوة العملية "، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذان هما سر عظمة المسلمين، وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: "العلم" و"الإرادة". أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك، والسياسات، والأموال، والأقلام، فمُلْك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علمٍ مِخراق لاعب، وقلم بلا علم حركةُ عابث، والعلم مُسَلَّط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شىء من ذلك على العلم. ولن نفيض في ذكر فضائل العلم فذاك حديث يطول، وكم صنف المتقدم والمتأخر في شرفه والحث عليه، ولكن المقصود من هذا المبحث إلقاء الضوء على قسيم العلم وشريكه في صناعة المجد، وإحياء الأمة، ألا وهو "القوة العملية" أو "الإرادة" أو "الهمة". ***

1 / 6

البَابُ الُأوَل المقدمَاتُ ما هي الهَمَة؟ الهَمُّ: ما هُمَّ به. من أمرٍ ليُفْعَل. والهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلوٍّ أو سفول. وفي "المصباح": الهمة بالكسر: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية. وقيل: علو الهمة: "هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور " (١). وقيل: "خروج النفْس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل" (٢). قال الجرجاني في "التعريفات": (الهم: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر).

(١) انظر: "رسائل الإصلاح" (٢/ ٨٦) للشيخ محمد الخضر حسين. (٢) "صيد الخاطر" لابن الجوزي ص (١٨٩) وقال في شرح معناه: (ينبغي لمن له أنفة أن يأنف عن التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلًا- تأتي بكسب، لم يجز له أن يقنع بالوَلاية، أو تصور أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صَحَّ له أن يكون مَلَكًا، لم يرض أن يكون بشرًا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل) اهـ. ص (٢٠٠ - ٢٠١).

1 / 7

والهمة: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق، لحصوله الكمال له أو لغيره) (١). وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": (و"الهِمَّةِ" فِعْلَة من الهمِّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالْهَمُّ مبدؤها، والْهِمَّة نهايتها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يقول: في بعض الآثار الِإلهية قول الله تعالى: "إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته". قال: والعامة تقول: قيمة كل امرىءٍ ما يحسن. والخاصة تقول: "قيمة كل امرىءٍ ما يطلب"، يريد: أن قيمة المرء همته ومطلبه. قال صاحب "المنازل": "الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفًا، لا يتمالك صاحبها، ولا يلتفت عنها". قوله: "يملك الانبعاث للمقصود" أي: يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك، و"صرفًا" أي: خالصًا صرفًا. والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا، فتلك هي الهمة العالية، التي "لا يتمالك صاحبها" أي: لا يقدر على المهلة، ولا يتمالك صبره، لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود "ولا يلتفت عنها" إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة: سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه

(١) "التعريفات" ص (٣٢٠).

1 / 8

العلائق، والله اعلم) (١) اهـ. وقال أيضًا: (علو الهمة: أن لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم: كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التى تصل إليهم، فإن "الهمة" كلما علت، بعدت عن وصوله الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان، فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء: عنوان فلاحه، وسفول همته: عنوان حرمانه) (٢) اهـ. والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: "همتك فاحفظها، فإن، الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال" (٣)، وعن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قال: (كان لي خال من "كلب"، فكان يقول لي: "يا عبيد هِمَّ؛ فإن الهمة نصف المروءة "). الهمةُ مولودةٌ مع الآدمي قال ابن الجوزي في: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد": (وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع

(١) "مدارج السالكين" (٣/ ٣ - ٤). (٢) "السابق" (٣/ ١٧١ - ١٧٢). (٣) "بصائر تربوية" ص (١٣٧).

1 / 9

بالدون، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّتْ سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلًا فسل الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة؟ أو حظي بغرض من أغراضه؟) اهـ. وقوله ﵀: "وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات" بسبب عجز أو كسل، أو ركون إلى وسوسة الشيطان، وركوب الهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير برضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه: عن عبد الله بن قيس، أبي أمية الغفاري قال: (كنا في غزاة لنا، فحضر عدوُّهم، فصِيحَ في الناس، فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأسُ فرسي عند عَجُز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: "أيْ نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلتِ لي: أهلُكَ وعيالُك فأطعتك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت: أهلُك وعيالُك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذكِ، أو تركك"، فقلت: لأرمُقنَّه اليوم، فرمقته، فحمل الناسُ على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدوَّ حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حُماتهم، ثم إن الناس حملوا، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو، وانكشف الناس، فكان في حُماتهم، قال: "فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنةً") (١).

(١) "صفة الصفوة" (٤/ ٤٢١).

1 / 10

لابُدَّ للسالِكِ مِن همةٍ تُسيَّرهُ، وتُرقَِّيهِ، وعلم يُبصِّرُه، وَيهدِيهَ قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: (إن الله ﷾ لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة، أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذى جعله سببًا موصِّلًا لهم إليه، وطريقًا واضحًا بَيِّنَ الدلالة عليه، من تمسك به؛ فاز واهتدى، ومن أعرض عنه؛ شقى وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم، والصراط المستقيم والنبأ العظيم، لا يُوصَل إليه أبدًا إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصوله إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحُه عليه، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين "همة تُرَقِّيه" و"علم يُبصِّره، ويهديه"،فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، أو من إحداهما: إما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالمًا بها، ولا تنهض همته إليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسًا، وقلبه عن كماله الذي خُلِق له مصدودًا منكوسًا، قد أسام نفسه مع الأنعام راعيًا مع الهَمَل، واستطاب لِقِيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رُفع له عَلَم فشمَّر إليه، وبورك له في تفرده في طريقه طلبه فلزمه، واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه

1 / 11

الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله. ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرفُ العلم تابعًا لشرف معلومه، كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها، ولا حياة له إلا بها؛ أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسنى، والحظ الأوفى؛ إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيًا، وأقامه على هذا الطريق هاديًا، وجعله واسطة يينه وببين الأنام، وداعيًا لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحدٍ منهم سعيًا إلا أن يكون مبتدئًا منه، ومنتهيًا إليه، ﷺ) (١) اهـ. أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية قال ابن القيم ﵀: [كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل (٢) وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا

(١) "مفتاح دار السعادة، ومنشور وَلاية العلم والإرادة" (١/ ٥٩). (٢) وفي الأثر: "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا، وارزقني اجتنابه"، فهؤلاء هم الذين رزقوا علمًا، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وبقوله سبحانه: ﴿أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثلُه في الظلمات ليس بخارج منها﴾ فبالحياة تنال العزيمة، وبالنور ينال العلم، وأئمة هذا القسم هم أولو العزم من الرسل.

1 / 12

والآخرة؛ إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- في قوله تعالى: ﴿واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار﴾ فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسم، فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. القسم الثاني: عكس هؤلاء، من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يُضيقون الديار ويغلون الأسعار، ولا يُستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار. القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمنِ الضعيف، والمؤمنُ القوي خير وأحب إلى الله منه. القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمُّا. وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول قال الله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾ فأخبر سبحانه أنهم بالصبر واليقين

1 / 13

بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين، وأقسم بالعصر -الذي هو زمن سعي الخاسرين والرابحين- على أن من عداهم فهو من الخاسرين، فقال تعالى: ﴿والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾] (١) اهـ. وقال أيضًا ﵀: (فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية يبصر الحقائق، ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب، ولا يتوقاها (٢)، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله. ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِد التشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر

(١) "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ص (٨٢). (٢) وفي مثله يصدق قول الشاعر: فليس يُزيح الكفرَ رأيٌ مسدَّدُ ... إذا هو لم يؤنَس برمي مُسددِ

1 / 14

والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يُرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد؟ ولا بماذا يعبده؟ فتارة يعبده بذوقه ووَجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين، وكشف رأس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنًا ما كان، وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد. فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحدٍ دينًا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرَّف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها. فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له. ومن كانت له هاتان القوتان؛ استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، "والوقت -كما قيل- سيف فإن قطعته، وإلا قطعك"، فإذا كان السر ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة؛ فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق) اهـ.

1 / 15

الهمَّة مَحَلهَا القلب الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةً من القيود التي تكبل الأجساد. إن يَسْلُب القومُ العِدا مُلْ ... ـكي وتُسْلِمْني الجموعْ فالقلب بين ضُلُو ... عِهِ لم تُسْلِمِ القلبَ الضلوعْ ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة: "ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوًّا، كالشعلة من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتَفاعًا" (١). همة المؤمن أبلغ من عمله قال ﷺ: "من هَمَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة" الحديث (٢). وقال ﷺ: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" (٣). وقال ﷺ فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: "قد أوقع الله أجره على قدر نيته" (٤).

(١) "عيون الأخبار" (٣/ ٢٣١). (٢) رواه البخارى عن ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷿. (٣) رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. (٤) رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وإسناده صحيح.

1 / 16

وقال ﷺ في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه: "إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر" (١). وقال ﷺ: "ما من امرىءٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومُه صدقةً عليه" (٢). فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه، ثم يصبح، وقد سبق الركب بعلو همته، وطهارة قلبه، وقوة يقينه، وشدة إخلاصه، وفي ذلك قيل: من لي بمِثل سيرك المدللِ ... تمشي رويدًا وتجيء في الأوَّلِ وما أحسن قول الشاعر مخاطبًا الحجيج، وقد انطلقوا للحج: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سِرْتم جُسومًا وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عُذْرٍ وعن قَدَرٍ ... ومن أقام على عُذرٍ فقد راحا وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بَيَّن ذلك الصادق المصدوق ﷺ في قوله: "سبق درهم مائة ألف"، قالوا: "يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟ "، قال: "رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عَرْضها مائة ألف" (٣). ...

(١) متفق عليه. (٢) رواه النسائي، وأبو داود. (٣) رواه أحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وإسناده حسن.

1 / 17

قوَّةٌ المؤًمِن في قَلُبهِ قال الإمام المحقق "ابن القيم" ﵀: (اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال تعالى: ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾، وقال: ﴿لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾، وقال النبى ﷺ: "التقوى هنا"، وأشار إلى صدره، فالكَيِّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية، مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق فإن العزيمة والمحبة تُذهب المشقة وتُطَيِّب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم؛ وصدق الرغبة، والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلامُ الإحسانَ، فأكمل الهدي هديُ رسولِ الله ﷺ، وكان موفيًا كل واحدٍ منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئًا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر) اهـ. حياة القلب بالعلم والهمة (إن ضعْفَ الإرادةِ والطلب من ضعفِ حياةِ القلبِ، وكلَّما كان القَلبُ أتمَّ حياةً، كانت همُّتُهُ أعلى، وإرادتُهُ ومحبتهُ أقوى، فإنَّ الإرادةَ

1 / 18

والمحبةَ تَتبَعُ الشعور بالمرادِ المحبوب، وسلامةَ القلبِ من الآفةِ التي تَحولُ بينَهُ وبينَ طلبِه لاِرإدتِهِ، فضعفُ الطلب وفتورُ الهمَّةِ إما من نقصانِ الشعور والإحساس، وإمَّا من وجودِ الآفةِ المضعفِة للحياةِ، فقَوةُ الشعورِ وقوةُ الإرادةِ دليلٌ على قوةِ الحياةِ، وضَعْفُها دليل على ضَعْفِها، وكما أنَّ علوَّ الهمةِ، وصدقَ الإرادةِ، والطلبَ من كمالِ الحياة، فهُو سبب إلى حصولِ أكملِ الحياةِ وأطيَبِها، فإِنَّ الحياةَ الطيبةَ إنَّما تُنالُ بالهمَّةِ العالية، والمحبةِ الصادقةِ، والِإرادةِ الخالصةِ، فعلى قَدرِ ذلك تكونُ الحياةُ الطيبةُ، وأخَسُّ الناس حياةً أخسُّهُم همَّةً، وأضعفُهم محبةً وطلبًا، وحياةُ البهائمَ خير من حياتِهِ، كما قيل: نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهوٌ وَغَفْلَة ... وَلَيْلُكَ نومٌ والرَّدى لَكَ لازِمُ وَتَكْدَح فيما سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ ... كَذلكَ في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ تُسَرُّ بما يَفْنى، وَتَفرَحُ بالْمُنَى ... كما غُرَّ باللَّذاتِ في النومِ حالمُ (*) لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ؟ (والسبب الذي يجعل كثيرًا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمَّة، فكلَّما صحَّ العلم، وانتفى الجهل، وصحَّت العزيمة، وعظمت الهمَّة؛ طلب الِإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همُّه لقمة يسدُّ بها جوعته، وشَربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهبٌ ذمَّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء

(*) "تهذيب مدارج السالكين" (٢/ ٩٤٥).

1 / 19

لَحَى (١) اللَّهُ صُعْلُوكًا (٢) مُنَاهُ وَهَمُّهُ ... مِنَ الْعَيْشِ أنْ يَلْقَى لُبُوسًا وَمَطْعَمًا يَرَى الْخُمْص (٣) تَعْذِيبًا وَإِنْ يَلْقَ شَبْعَةً ... يَبِتْ قَلْبُهُ مِنْ قِلَّةِ الهَمِّ مُبْهَمًا (٤) ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال طَرَفَة بن العبد)، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: "مطعمٌ شهيٌّ، وملبسٌ دفيٌّ، ومركب وطيٌّ" وقال أيضًا مبينًا غايته من الحياة: (وَلولا ثَلَاثُ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفتى ... وَجَدِّكَ (٥) لَمْ أحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي (٦) فَمِنْهُنَّ سَبْقي العَاذِلَاتِ (٧) بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ (٨) مَتَى مَا تُعْلَ بالمْاء تُزْبِدِ (٩) وَكَرِّي (١٠) إذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنَّبًا (١١) ... كَسِيد (١٢) الْغَضَا (١٣) نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ

(١) قَبَّحَةُ. (٢) فقيرًا. (٣) خلو البطن. (٤) خاليًا. (٥) الجدُّ: الحظ والبخت. (٦) جمع عائد من العيادة. (٧) جمع عاذلة، والعذل: الملامة. (٨) الكميت: اسم من أسماء الخمر فيها حمرة وسواد. (٩) الزَّبَد: الرغوة. (١٠) الكر: العطف. (١١) المحنب: الذى في يده انحناء. (١٢) السيد: الذئب. (١٣) الغضا: الشجر.

1 / 20

وَتَقْصِيرُ (١) يَوْمِ الدجنِ (٢) وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... بِبَهْكَنَةٍ (٣) تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ (٤) كثير من الناس همُّه من دنياه همُّ هذا الشاعر المسكين (٥)، شَربة خمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من النَّاس تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف المستجير. وقد يكون مسعى الناس ومطلبهم أمورًا يعدُّ طالبها سامي الهمَّة عالي القصد كحال امرىء القيس، عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانقلب جادًّا طالبًا إعادة هذا الملك: فَلَوْ أنَّ مَا أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أطْلُبْ قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مؤثَّل ... وَقَدْ يدْرِكُ الْمَجْدَ المؤَثَّل أمْثَالِي ولقد طال تطلابه للملك، حتى قضى نحبه في طلبه: بَكَى صَاحِبي لَما رَأى الدَّرْبَ دونَهُ ... وَأيقَنَ أنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا

(١) قصرت الشيء: جعلته قصيرًا. (٢) الدجن: إلباس الغيم آفاق السماء. (٣) البهكنة: المرأة الحسنة الخَلْق السمينة. (٤) المعمد: المرفوع بالعمد. (٥) وقد اقتدى به أبو نواس فقال: إنما العيش سماع ... ومدامٌ ونِدامُ فإذا فاتك هذا ... فعلى العيش السلامُ وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء يجيب من أمره بالجهاد في سبيل الله: يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ ... وأي جهاد غيرهن أريدُ لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ ... وكلُّ قتيل عندهن شهيدُ

1 / 21

فَقلت لَه لَا تَبكِ عَينكَ إنَّمَا ... نُحَاوِل مُلْكًا أو تَمُوتَ فَنُعْذَرا لقد ضيَّع حياته أولًا في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصِّل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده، طلبًا الملك والإمارة، فأعياهما الطلب) اهـ (١). بتصرف. وما أكثر الذين طلبوا الملك للرياسة، وألحوا في طلبه، فحامت حوله همتهم، وطافت به عزيمتهم: كان "الأبيوردي" يدعو عقب كل صلاة: "اللهم مَلِّكني مشارق الأرض ومغاربها" (٢)، وله في ذلك الأشعار الفائقة، التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي. وقيل ليزيد بن المهلب: "ألا تّبني دارًا؟ "، فقال: "منزلي دار الإمارة أو الحبس". وقال آخر: وعِش مَلِكًا أو مُت كريمًا، وإن تمت ... وسيفُك مشهور بكفِّك تُعْذَرِ ...

(١) "مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (٣٦٦ - ٣٦٨)، وهو من نفائس الكتب الجديرة بالمدارسة، لا يكاد يستغني عنه مسلم. (٢) "فكر ومباحث" للشيخ علي الطنطاوي ص (١٩٦).

1 / 22