الهداية
إلى أوهام الكفاية
تأليف الإمام الشيخ جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي
المتوفى سنة ٧٧٢ هـ
دراسة وتحقيق وتعليق
الأستاذ الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم
20 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم إنا نحمدك على الهداية إلى ما شرعته، ونسألك القيام بالكفاية لما أودعته، ودوام الرعاية لما استرعيته، ونضرع إليك في الصلاة والسلام سرمدًا على سيدنا محمد المعصوم في القول والعمل، المحفوظ من الزيغ والزلل، وعلى آله وأصحابه تسليمًا كثيرًا، وبعد.
فإن كتاب: «الكفاية في شرح التنبيه» للشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي العباس أحمد بن الرفعة الأنصاري- ﵁ لما برز للنواظر في قشيب جموعه رافلًا، وسطع لذوي البصائر وإن كان نجم سمائه آفلًا، اتخذه النقلة المكثرون عمدة، والنقدة المتحرون عدة، وهو حقيق بذلك، وجدير بما هنالك، إذ نهض فيه وسعى، وجمع فأوعى، وأطال واستطال، وأوسع المحال وصال، ونظر فحقق، وناقش فدقق ورجح فوضح، وجرح فأوضح، وكيف لا ولم يخرج من إقليم «مصر» بعد انقراض ابن الحداد- فيما علمناه- من الفقهاء من يساويه، ولا من بقية الأمصار بعد الرافعي من يضاهيه؟!
ومن تأمل ما صنفه وجده أكثر مما صنف الشيخ محيي الدين، هذا مع ما بينهما أيضًا من التباين في دقة الأعمال وغموضها، إلا أن الكتاب المذكور مع ذلك يشتمل على جملة عظيمة من الأوهام، وما يقارب الوهم من الإطلاق والإيهام، وارتكاب دعوى نفي الخلاف وهو ثابت مستور [؟ مسطور]، أو التوقف في نقله وهو منقول، بل مشهور، حتى اتفق من الغريب وقوع الاعتراض عليه بسبب ذلك في أول شيء افتتح به كتابه وفي آخر شيء ختمه به- كما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- وقد وقع لي هذا النوع الغريب في ثلاثة تصانيف مما صنفته على هذا الأسلوب:
أحدهما: «المهمات في شرح الرافعي، والروضة»، وهو الكتاب الذي يتعين تحصيله على كل شافعي، خصوصًا القضاة، والمفتين، والمدرسين، وقد من الله ﷾ وله الفضل بتمامه.
20 / 7
ثانيها: «التنقيح»، وهو الكتاب المشهور، الكثير الفوائد على صغر حجمه، الموضوع للاستدراك على تصحيح «التنبيه» للنووي.
ثالثها: ما ذكرت، وهو هذا الكتاب.
فلما رأيت الكتاب المذكور قد اتصف بما وصفناه، وائتلف كما ذكرناه، رأيت من النصح أن أنبه على ما حصل لديه من الغلطات، وأنوه بما احتمله من السقطات، ليجتنب الناظر التعويل عليها، ويتحامى المناظر الركون إليها، وذلك في الحقيقة من صلاح حال الكتاب من غير نقصان في مرتبة مصنفة بالكلية، إذ لا يتصور عادة- خصوصًا مع طول التصنيف- أن يسلم المصنف من الخطأ، والتحريف، والوقوع في مخالفة الأولى، والحود عن الطريقة المثلى، فكل مأخوذ من قوله ومتروك، ألا والسعيد من انعدت غلطاته، وانحسرت سقطاته، وقيد له من تدارك زلله وأصلح خلله، وعزمت- إن شاء الله تعالى- أن أكمل هذا الأمر المهم بفائدة يعظم وقعها، ويكثر نفعها مع قلة حجمها، ونظمها وهو ضبط ما يخشى تحريفه من الأسماء واللغات الواقعة فيه، وتفسير ما يحتاج إلى التفسير منها، فلما شرح الله- تعالى- لذلك صدري، ويسر له أمري جمعت ما حضرني من ذلك، وتيسر لي مما هنالك وسميته: «الهداية إلى أوهام الكفاية»، والله هو المسئول أن يوفقنا إلى الصواب فيه وفي سائر أحوالنا، وينفع به بمنه وكرمه.
وقد ولد المصنف- ﵀ بمدينة مصر سنة خمس وأربعين وستمائة.
وتوفي بها في الثاني عشر من رجب سنة عشر وسبعمائة، وقد أوضحت حاله مبسوطًا في كتاب «الطبقات» التي جمعت فيها فأوعيت، ودعوت فأسمعت- ﵁ وأرضاه- وحشرنا وإياه في دار كرامته ومستقر ورحمته، وغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.
* * *
20 / 8
كتاب الطهارة
باب المياه
قوله- ﵀: الكتاب، مأخوذ من «الكتب» وهو الضم.
يقال: تكتبت بنو فلان، إذا تجمعوا. انتهى.
اعلم أن «الكتاب» و«الكتب» - كما قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وابن عصفور وغيره من النحاة-: مصدران لـ «كتب»، ثم توسعوا فأطلقوا «الكتاب» على ما وقعت عليه الكتابة، كما توسعوا فقالوا: درهم ضرب الأمير، أي: مضروبه، ولم يقل أحد: إن المصدر مشتق من المصدر، فكيف يصح أن يكون «الكتاب» مأخوذًا من «الكتب»؟!.
قوله: والتحقيق ما قاله القاضي حسين في باب نية الوضوء: أن الطهارة الشرعية: رفع الحدث وإزالة النجس، لأن الطهارة مصدر «طهر»، وذلك يقتضي رفع شيء، والشرع لم يرد [باستعمال] «الطهارة» في غير رفع الحدث وإزالة النجس، فاختص الاسم بهما، وإطلاق حملة الشريعة «الطهارة» على ما عدا ذلك من مجاز التشبيه.
ثم قال القاضي: إن الطهارة عينية وحكمية:
فالعينية: ما يختص وجوبها بمحل حلولها، وهي إزالة النجاسة.
والحكمية: ما يتعدى وجوبها عن [محل] حلول موجبها كالوضوء والغسل وبدلهما. انتهى ملخصًا.
فيه أمور:
أحدها: أن ما نقله عن القاضي الحسين من كون الطهارة رفع الحدث وإزالة النجس، غلط فاحش ليس له ذكر في الباب الذي عزاه إليه وهو باب نية الوضوء، ولا في غيره- أيضًا- بل جزم في الباب المذكور بعكسه، وهو أن التيمم طهارة، ولم يذكر ما يخالفه، فإنه قال في أول الباب ما نصه: الطهارة على نوعين: عينية، وحكمية،
20 / 9
فالحكمية: ما يتعدى وجوبها ... إلى آخر ما نقله عنه المصنف.
ثم مثل للحكمية بالوضوء والاغتسال والتيمم، ولم يذكر ما يخالفه.
ثم إن كلام ابن الرفعة متدافع، لأنه نفى أولًا أن يكون التيمم ونحوه طهارة، وجزم في آخر الكلام بعكسه.
واعلم أن القاضي عقد أولًا بابًا في نية الوضوء، وبعده بابًا في سننه، وأراد ابن الرفعة الأول لا الثاني، فإن الثاني ليس فيه شيء من ذلك الكلام بالكلية، وأما الأول ففيه بعض ما ذكره كما سبق، فاعلمه.
الأمر الثاني: أن «الطهارة» ليست من قسم الأفعال، لأنها مصدر «طهر» - بضم الهاء- وليست بمصدر لـ «تطهر»، فإن قياسه: «التطهير» - بفتح الطاء وضم الهاء- ولا لـ «طهر» مشدد الهاء، فإن قياسه «التطهير».
وأما «الرفع» فمن قسم الأفعال، إذ هو مصدر «رفع»، وحينئذ فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر.
الثالث: أن الطهارة قد توجد حيث لا فعل بالكلية كما في الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، فلو عبر بالارتفاع لخلص من هذين:
الرابع: أن ما ذكروه في التيمم من عدم التسمية والرفع مردود، ففي الحديث الصحيح: «وترابها طهورًا)، ولهذا قال الشافعي: طهارتان، فلا يفترقان وفي هذا رفع وهو امتناع الصلاة، بخلاف الأغسال المستحبة، وستعرف- أيضًا- شيئًا من هذا الكلام في باب الأذان، فراجعه.
قوله: واقتضى الفصل جوازه بما نزل من السماء وهو المطر وذوب الثلج والبرد، أو نبع من الأرض وهو ماء البحار وماء الآبار وماء الأنهار. انتهى.
أهمل- ﵀ من ماء الأرض رابعًا وهو الأعين.
قوله: نعم، لا يكفي في رفع الحدث وإزالة النجس إمرار الثلج والبرد على المغسول من الأعضاء ما لم يكن الهواء حارًا، فيذوب حالة الإمرار ويجري عليها، ويكفي في الممسوح منها، وفي «الحاوي» وجه آخر: أنه لا يكفي فيها- أيضًا- لأنه لا يعد ماسحًا. انتهى كلامه.
وما نقله عن «الحاوي» من أنه لا يكفي في المسح- أيضًا- على وجهٍ، غلطٌ سببه: انعكاس كلام «الحاوي»، عليه فإنه قد قال ما نصه: فأما إذا أخذ الثلج فدلك به أعضاء طهارته قبل ذوبانه وانحلاله: فإن كان المستحق في العضو المسح كالرأس أجزأه، لحصول المسح به، وإن كان المستحق به الغسل لم يجز، لأن حد الغسل: أن
20 / 10
يجري الماء بطبعه، وهذا مسح، وليس بغسل، مسح ما يجب غسله غير مجزئ، فلو كان الثلج في إمراره على الأعضاء يذوب عليها، ثم يجري ماؤه عليها- ففي جوازه وجهان لأصحابنا:
أحدهما: يجزئ، لحصول الغسل بجريان الماء على الأعضاء.
والثاني: لا يجزئ، لأنه بعد ملاقاة الأعضاء يصير جاريًا.
هذا كلام الماوردي، وهو جازم بصحة المسح به، وإنما حكى الخلاف في صورة خاصة من صور الأعضاء المغسولة، فانعكس على المصنف.
قوله: فإن قيل: قد روى عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي ﷺ ليلة الجن، فقال: أمعك ماء؟ فقلت: لا، معي نبيذ، فأخذه فتوضأ به، وقال: «تمرة طيبة وماء طهور».
فجوابه: أنه روي عن ابن عباس أنه أنكر كونه مع النبي ﷺ ليلة الجن ...، إلى آخره.
وما ذكره آخرًا ان ابن عباس قد أنكر، سهوٌ، فإن المنكر هو ابن مسعود نفسه كما ذكره الماوردي وغيره.
قوله: وبهذا الطريق ينبغي أن يكون الاستدلال بما ذكرناه، لا بمفهوم اللقب الذي لم يقل بأنه حجة إلا الدقاق. انتهى.
وما ذكره من أنه لم يقل به غير الدقاق، ليس كذلك، فقد نقله الآمدي عن الحنابلة- أيضًا- وحكاه السهيلي في «نتائج الفكر» عن أبي إسحاق المروزي، والغريب أن المصنف قد نقله في أول التيمم عن بعض أصحابنا. وحكى ابن برهان في «الوجيز» قولًا ثالثًا: أنه حجة في أسماء الأنواع: كالغيم والماء، دون الأعيان: كزيد وعمرو.
قوله: تنبيه: قول الشيخ: على أي صفة كان من أصل الخلقة، أراد به- والله أعلم-: ما خلقه الله تعالى من ملوحة وعذوبة وغير ذلك. انتهى كلامه.
واعلم أن الصفة المذكورة هنا في حد الماء المطلق، وهي الصفة التي خلق عليها الماء- لا يصح تفسيرها بالعذوبة والملوحة ونحوهما كالحرارة والبرودة، لأن بقاء الماء عليها مذكورًا للاشتراط بلا شك، والإلزام: أن يكون كل نازلٍ من المساء أو نابعٍ من الأرض طهورًا من غير شرط آخر، وحينئذ: فيتناول النجس والمتغير والمستعمل، وإذا كان مذكورًا للاشتراط فيلزم من تفسيره بذلك خروج الماء عن الطهورية بطرآن الملوحة- مثلًا- بصب ملح مائي أو ماء مالح ونحوه، لا رجم أن الرافعي في «الشرح الصغير» صرح بأن العذوبة والملوحة والحرارة والبرودة ليست داخلة في
20 / 11
ذلك، وسكت عن الكلام عليه ي «الشرح الكبير».
قوله: فالعبارة السديدة أن يقال: الماء المطلق ما ينطلق عليه اسم الماء من غير قيد لازم، واحترزنا بـ «اللازم» عن غير اللازم كالإضافة إلى مقره أو ممره. انتهى كلامه.
وحاصله: أن التقييد بـ «اللازم» لابد منه، وأن العبارة بدونه لا تكون سديدة، وهو غفلة، بل الواجب حذفه والاقتصار على ما ينطلق عليه اسم الماء من غير قيد، لأن المضاف إلى المقر أو الممر- كماء البئر والنهر ونحوهما- وإن كان مقيدًا، لكنه ينطلق عليه- أيضًا- من غير قيد، لكون التقييد غير لازم، فدخل فيما قلناه المعنى الذي قاله بعينه، وإنما حصل هذا الوهم للمصنف من جهة أن بعضهم قد استعمل هذه العبارة في النفي، فقال: ما لا يكون مقيدًا بقيد لازم، وتقييد هذه العبارة بـ «اللازم» لابد منه، فسها فعداه إلى حالة الإثبات أيضًا.
قوله: ومفهوم كلام الشيخ يقتضي أمورًا.
ثم قال: الثالث: عدم كراهة الطهارة بماء زمزم، لأنه- ﵊ توضأ منه وقل العباس: «لا أحلة لمغتسل، لكن لشاربٍ حلٌ وبلٌ» محمولٌ على حالة احتياج الناس إليه للشرب لكثرتهم. انتهى كلامه.
واعلم أن المصنف قد نقل في باب الاستطابة عن الماوردي: أنه يحرم الاستنجاء به، واستدل بما قاله هنا عن العباس، ولم يذكر فيه خلافًا، وإن كان فيه كلام ستعرفه هناك، إن شاء الله تعالى. وهذا الاستدلال من المصنف عجيب، لأن العباس كان يستقي الماء في سقايته للشاربين، والماء الذي يستقيه مملوك له، فيجوز استعماله في الوجه الذي أباحه فيه دون غيره.
والبل- بكسر الباء-: هو المباح، قال الجوهري.
قال: وقال الأصمعي: كنت أظن أنه إتباعٌ، إلى أن أخبر المعتمر بن سليمان بأنه المباح في لغة حمير.
قوله: فرع: إذا كان المخالط لا يغير الماء، لموافقته لصفاته، ولو قدر مخالفًا في بعض الصفات لغيره التغير المؤثر، وذلك مثل ماء الورد الذي انقطعت رائحته، والماء المستعمل إذا قلنا: إنه لو بلغ قلتين لا تجوز الطهارة به كما قاله في «الكافي» وغيره، ونحوهما- فهل يسلبه الطهورية؟ ينظر: فإن كان أكثر من الماء سلبه بلا خلاف. انتهى كلامه.
وما ادعاه من عدم الخلافة ليس كذلك، بل فيه ثلاثة أوجه:
20 / 12
أحدها: ما قاله.
والثاني: إن بلغت الكثرة إلى ثلاثة أضعاف الماء منعت، وإلا فلا، حكاه الصعير- بالصاد والعين المهملتين- في «نهاية المستفيد في احترازات المهذب».
والثالث: إن بلغت سبعة أضعاف منعت، وإلا فلا، حكاه هو، وما نقله المحب الطبري شيخ الحجاز في «شرحه» للتنبيه.
وفي المسألة وجهان آخران لا يردان على المصنف:
أحدهما: ما اختاره القفال في «فتاويه»: أن المضر من ذلك هو الكثير، قال: وتعرف الكثرة بالعادة.
والثاني: أن الذي يضر هو الثلث فصاعدًا، حكاه في «الفتاوى» المذكورة عن أبي يعقوب الأبيوردي.
واعلم أن الرافعي والنووي وغيرهما قد ذكروا أن المستعمل إذا جمع حتى بلغ قلتين عاد طهورًا على الصحيح، ثم ذكروا- أيضًا- أن الماء إذا ضم إلى ماء مطلق، فبلغ قلتين- أيضًا- كان حكمه حكم الماورد وغيره من المانعات، حتى إذا كان أكثر من الماء ضر، وإن كان أقل قدر مخالفًا للماء وهذا الذي ذكروه في غاية الفساد، فإنه يلزم من كونه يقدر مخالفًا عند اتصاله بالماء الكثير أن يكون كالخل وغيره من المائعات، وحينئذ فلا فائدة في بلوغه قلتين، وكيف يتخيل متخيل أن المستعمل إذا خلط بماء كثير طهور يسلبه الطهورية، وإذا خلط أو بماء جنس حتى بلغ قلتين يجعله طهورًا؟! وقد فرع المصنف حكم هذه المسألة- وهو جعله كالمائع- على القول بأنه إذا خلط بماء مستعمل أو نجس لا يعود طهورًا، وهو تفريع صحيح يندفع به الاعتراض، وكلامه يقتضي نقل ذلك عن الكافي، وعنى به «الكافي» للخوارزمي تلميذ البغوي، فإنه «الكافي» الذي ينقل عنه، وقد رأيت نسخً من هذا الكتاب، فلم أجد ما قاله مذكورًا فيه، بل ذكر المسألتين على ما فيهما من الإشكال كما ذكرهما غيره، ثم رأيت- أيضًا- «الكافي» للإمام أبي عبد الله الزبيري، و«الكافي» للإمام أبي الفتح سليم الرازي، و«الكافي» للشيخ نصر المقدسي، لاحتمال إرادة شيء من ذلك، فلم أجد المسألة فيهن بالكية.
وإذا لعمت ذلك فينبغي تأويل كلام المصنف على إرادة أصل المسألة، لا الحمل المذكور
20 / 13
قوله: قال: وإن تغير بما لا يختلط به كالدهن والعود جازت الطهارة به في أحد القولين، لأنه تغير بالمجاورة فلم يمنع من الطهارة، كما لو تغير بجيفة بقربه. انتهى.
وهذا القياس غير مستقيم، لأن العلة التي علل بها الفرع- وهي المجاورة- ليست موجودة في الأصل، وقد نظمه غيره على الصواب فقال: لأنه تغير بما لم يختلط به، فأشبه الجيفة، فجمع بعدم الاختلاط، وهو صحيح، وأما التعبير بالمجاورة فذهول.
قوله فيما لا يدركه الطرف: وأضاف إليه بعض الشارحين مثالًا آخر ذكره الرافعي، وهو أن ينفصل رشاش من موضع نجس، فيقع في الماء بحيث يرى اضطراب الماء بسببه، ولا يدرك جرمه. انتهى.
وهذا النقل عن الرافعي غلط، فإنه ذكر له في شيء من كتبه.
قوله: ومن هذا القبيل ما إذا أكلت الفأرة شيئًا نجسًا، ثم ولغت في ماء قليل، والذي يحصل من كلام الغزالي وغره أن في المسألة ثلاثة أوجه.
ثالثها: إن غابت قبل الولوغ غيبة تحتمل ورودها في ماء كثير لم ينجس، وإلا فينجس.
ثم قال بعد حكاية وجهين في وقوع الحيوانات في الدهن وغيره: هل تنجسه، لما على منفذها من النجاسة أم لا؟ -: إن الوجه الثالث يجري في هذه المسألة أيضًا. انتهى.
وما ذكره أولًا من حكاية الأوجه الثلاثة في الفأرة إذا أكلت شيئًا نجسًا وغابت، فإنما ذكره هؤلاء في الهرة لا في الفأرة، ولا يصح قياسه عليها، لأن علة الطهارة في الهرة مشقة الاحتراز منها، لقوله- ﵊: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، وهذا المعنى منتفٍ.
نعم، حكى المتولي وجهين في إلحاق سائر السباع بها.
قوله: وقد أفهم تقييد الشيخ بقوله: منه- أي من الماء المطلق- أن المائعات تتنجس بما لا يدركه الطرف قولًا واحدًا، وقد قاله بعض الشارحين، واعتقادي عدم صحته، وقد سوى الأصحاب بين الماء القليل والمائع في الميت الذي لا يسيل دمه ... إلى آخر ما ذكره.
وهذا الذي اقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، وهو أن المائعات هل لها حكم الماء فيما لا يدركه الطرف أم لا؟ - قد ذكره النووي في «المنهاج» على وفق ما حاوله المصنف بحثًا، فإنه قال: وتستثنى ميتة لا دم لها سائلًا، فلا تنجس مائعًا على
20 / 14
المشهور.
وكذا في قوله: نجس لا يدركه طرف. قلت: ذا القول أظهر، والله أعلم. فانظر كيف عبر فيما قبله بالمائع.
ثم قال: وكذا- أي هذا الحكم، وهو عدم تنجيس المائع- ثابت أيضًا فيما لا يدركه الطرف، وفي المسألة زيادات ذكرتها في «المهمات».
قوله: فإن كانت ميتة لا نفس لها سائلة لم تنجسه في أحد القولين، لقوله- ﵊: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله- وروي: فليغمسه- فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء، وإنه تدلى بجناحه الذي فيه الداء» رواه البخاري.
وادعى ابن المنذر أنه لا يعرف أحدًا قال بنجاسته غير الشافعي. وأبو الطيب حكى أن محمد بن المبارك ويحيي بن أبي كثير قالا به أيضًا.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذا الذي نقله هنا عن البخاري فيه زيادة وتغيير عما فيه، ولفظ البخاري عن أبي هريرة: قال النبي ﷺ: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، والآخر شفاء» هذا لفظه، ذكره في بابٍ بعد باب قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة:١٦٤].
الأمر الثاني: أن تعبيره بمحمد بن المبارك، تحريف وغلط، وإنما هو: محمد بن المنكدر.
وهذا هو الذي قاله القاضي أبو الطيب، ونقله عنه- أي عن القاضي المذكور- صاحب «الشامل» و«البحر» والنووي في «شرح المهذب» وهو- أيضًا- واضح، فإن ابن المبارك اسمه: عبد الله.
ونقله عنه وعن يحيي بن أبي كثير معًا: الدرامي في «الاستذكار».
نعم، نقله الصيمري وغيره عن عبد الله بن المبارك.
قوله: وما كان نشوءه من الماء كالعلق إذا مات فيه، لا ينجس قولًا واحدًا، وهو قياس قول الأصحاب: إن دود الطعام إذا مات فيه لا ينجس قولًا واحدًا. انتهى.
ودعواه عدم الخلاف ممنوع، ففيه طرق حكاها الدرامي في «الاستذكار» حاصلها ثلاثة أوجه، ثالثها: التفصيل بين أن يكون قليلًا أو كثيرًا.
قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن كان الماء قلتين ولم يتغير فهو طاهر، وإن تغير
20 / 15
فهو نجس.
ثم قال: وكلامه في المتغير يقتضي أنه لا فرق بين ما تغير كله أو بعضه، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب. انتهى.
وما زعمه من أن مقتضى اللفظ هو شمول القسمين، باطل بلا شك، بل مقتضاه تغير الجميع، ألا ترى أنه إذا تغير البعض يصح أن يقال: ما تغير هذا، وإنما تغير بعضه؟! وقد صرح الرافعي بما ذكرناه في كلامه على ألفاظ «الوجيز»، والعجب ذهول المصنف عنه مع كونه واضحًا ومسطورا- أيضًا- في «الرافعي»! وقد خالف النووي في هذه المسألة، وقال: الأصح: أن المتغير كنجاسة جامدة.
قوله: وقيل: إن القلتين ستمائة رطل، وبالأمنان ثلاثمائة من، وهو اختيار القفال والزبيري صاحب «الكافي»، كما قال الإمام والفوراني. انتهى كلامه.
وهذا النقل عن الإمام والفوراني صحيح، وعبارة الفرواني في «الإبانة»: وذكره صاحب «الكافي» في كتابه، لكن نقلهما ذلك عن الزبيري غلط، فقد راجعت كلام الزبيري في كتابه المعروف به وهو «الكافي»، فرأيت فيه الجزم بأن القلتين خمسمائة رطل، ذكر ذلك في موضعين من كتابه: أحدهما: في أوله، وثانيهما: بعد التيمم، وهذا الغلط وقع أولًا للقفال، فتابعه عليه أصحابه ثم أتباعهم.
قوله: وإن تغير- أي: طعمه أو لونه أو ريحه- فهو نجس، لقوله ﷺ: «الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، ورواية أبي داود: «خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه». انتهى كلامه.
وما عزاه لأبي داود من ذكر هذا الاستثناء غلط، فإنه ذكر الحديث من غير استثناء بالكلية.
قوله: ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، والماء يجري عليها- فقد حكى صاحب «التقريب» نصًا للشافعي: أن للماء في الحفرة حكم الركود، قال الإمام: ونحن نقول: إن كان الماء الجاري يغلب ما في الحفرة ويبدلها ويخلفها فهو جارٍ، وإن كان يلبث الماء قليلًا، ثم يزايل ما في الحفرة- فله في زمان اللبث حكم الركود وإن كان لا يلبث، بل يثقل حين كثر، ثم يشتد في الجري- فله في زمان التثاقل حكم الماء الجاري الذي بين يديه ارتفاع وهو يتحرك على بطء، وإن كان ما في الحفرة لابثًا وفيه نجاسة، والماء يجري عليها- فما في الحفرة نجس، والجاري عليه في حكم الجاري على نجاسة واقفة لا تتزحزح. انتهى كلامه.
20 / 16
وتعبيره فيما نقله عن الإمام بقوله: «بل يثقل حين كثر»، تحريفٌ مؤذن بعدم تصوير للمسألة، والصواب المذكور في «النهاية»: «بل تثقل حركته»، فاعلمه.
قوله: فائدةٌ: «القديم» إذا أطلق فالمراد به ما صنفه الشافعي بالعراق، ويسمى كتاب «الحجة»، ومن رواة القديم- كما قال الروياني-: أحمد بن حنبل والزعفراني وأبو ثور. و«الجديد» إذا أطلق فهو ما صنفه وأفتى به في مصر، ورواته: المزني والربيع المرادي والربيع الجيزي والبويطي وحرملة وابن [عبد الله بن] عبد الحكم وعبد الله بن الزبير المكي.
ثم قال: وقد ذكر الإمام في كتبا الخلع أن «الأم» من الكتب القديمة، ولم أظفر بذلك في غيره. انتهى كلامه.
وما قاله- ﵀ من عدم الظفر به لغيره غريب، فقد صرح الخوارزمي بذلك في كتابه «الكافي»، وهو كثير النقل عنه، فقال في خطبة الكتاب المذكور: وأما «الأم» و«الإملاء» فصنفهما الشافعي بمكة بعد أن فارق بغداد في المرة الأولى وقبل رجوعه إليها في المرة الثانية، ثم رجع بعد تصنيفهما إلى بغداد، فأقام أشهرًا، ثم خرج إلى مصر فصنف بها كتبه الجديدة. هذا كلامه.
لكن المعروف خلاف ما قالاه، حتى قال صاحب «الاستقصاء»: إن المزني روى أنه صنفهما بمصر.
واعلم أن المصنف قد أسقط من رواة القديم: الحسين بن علي البغدادي المعروف بالكرابيسي، كان يبيع الكرابيس: وهي الثياب.
توفي سنة خمس وأربعين- وقيل: ثمان وأربعين- ومائتين.
قوله: خاتمة: وصف الماء بالاستعمال لا يثبت له ما دام يتردد على المحل، فإذا انفصل عنه ثبت له.
ثم قال: والبدن جميعه في الغسل في حكم العضو الواحد في الوضوء، فلا يصير الماء مستعملًا بانتقاله من عضو منه إلى عضو آخر، وفي «الحاوي» حكاية وجه آخر: أنه يصير مستعملًا بالانتقال كما في الوضوء، وذلك يتصور بما إذا نزل الماء من على وجهه إلى صدره وقطع ما بينهما من الفضاء، والأصح الأول، وهو ما أبداه الإمام احتمالًا. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن كلامه في بدن الجنب كلام غير منتظم مخالفٌ بعضه بعضًا، فإنه قد
20 / 17
ذكر أولًا أنه بمثابة العضو في الوضوء، وإذا كان كذلك كان الانفصال الخارق للهواء مضرًا كما في عضو المتوضيء، فتفريع عدم الضرر من كونه كالعضو تفريع معكوس، لا جرم أن النووي في «التحقيق» لما صدر بالقاعدة التي ذكرها المصنف صحح أن الانفصال يضر، فقال: وبدن جنبٍ كعضو محدثٍ.
وقيل: لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه، وقيل: إن نقله ضر.
هذا لفظه، فينبغي حمل الانفصال المذكور في المحدث على ما إذا جرح ولم يعد، لا على انفصاله من كفه- مثلًا- ووقوعه على ساعده، أو من عضو إلى عضو: كانتقاله من الوجه إلى اليد، أو من إحدى اليدين إلى الأخرى، ولكن على هذا التقدير لقائل أن يقول: لم كان انتقاله من عضو المحدث إلى بقية ذلك العضو قطعًا، وفي الجنب على وجهين، مع أن بدن الجنب أكثر تفاوتًا من عضو واحد من أعضاء المحدث؟
الأمر الثاني: أن المصنف لم ينقل احتمال الإمام على وجهه، فإن الإمام بعد حكاية القول بأنه يصير مستعملًا قال ما نصه: وفيه نظر، لأن الماء إذا كان يتردد على البدن، ففي الأعضاء تفاوت في الخلقة، وليس سطحًا بسيطًا، وإذا كان كذلك فيقع في جريان الماء بعض التقاذف لا محالة، فما كان من هذا الجنس فهو محطوط لا اعتبار به قطعًا، فأما التقاذف الذي لا يقع إلا على ندور: فإن كان عن قصد فمستعمل، وإلا فلا يبعد أن يعذر صاحب الواقعة، فإن الغالب وقوع ذلك في الزمن الماضي، ولم يقع عنه بحث من سائل. هذا كلامه، فانظر ما بينهما من التباين!
قوله: نعم، قال الخضري: إذا انغمس الجنب في ماء قليل ناويًا ارتفعت جنابته عن أول جزء لاقى الماء، وصار الماء مستعملًا، قال: ويخالف ما لو صب الماء عليه، حيث لا نحكم بالاستعمال لمجرد الملاقاة، لقوة الورود، وعلى هذا فقد يقال: إنه يصير مستعملًا بانتقاله من عضو إلى عضو على الاتصال المحسوس في الجنابة من محل إلى محل في العضو الواحد في الوضوء. انتهى كلامه.
وهذا النزاع الذي ذكره باطل لا يمكن القول به، وهل يمكن أحدًا أن يقول بوجوب ماء جديد لكل جزء من أجزاء الوجه، وكيف نقول في غسل النبي ﷺ وجهه بغرفةٍ؟!
قوله: و[على الأول] لو انغمسا معًا، ونويا تحت الماء- جازت طهارتهما، ولو نويا عند إدخال أرجلهما فيه رفع الجنابة ارتفعت عن الجزء الذي اقترنت به النية فقط
20 / 18
دون ما بعده- توافق عليه الخضري وغيره- كما قال بعضهم- وقال في «الروضة»: إنه يرتفع حدث السابق عن جميع بدنه.
وفيه وجه الخضري. انتهى كلامه.
واعلم أن هذا الذي نقله عن «الروضة» لا يلاقي المسألة التي يتكلم فيها، لأن ذلك إن كان راجعًا إلى ما إذا نويا تحت الماء فلا يجيء وجه الخضري هنا، لأن محله فيما إذا نوى قبل استكمال غمس البدن كما سبق، وهو واضح.
وإن كان راجعًا إلى ما إذا نويا عند إدخال أرجلهما: فإن كانت صورة تلك فيما إذا نويا معًا، وهو الذي يقتضيه كلامه، فالحكم فيها- وهو الذي قاله في «الروضة» -: أنه يرتفع عن جزئهما، ويصير مستعملًا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح، وإن كانت صورتهما فيما إذا نويا مترتبين فيتعين أن يكون الحكم فيها ما نقله عن «الروضة»، وهو قد أجاب فيه أولًا بما يخالفه من وجهين:
أحدهما: ارتفاعه عن الجزء المقترن بالنية فقط، والحكم بخلافه.
والثاني: حصول ذلك للأول وللثاني- أيضًا- مع أن الثاني لم يصادف محلًا. فظهر أن ذكره لكلام «الروضة» هنا سهو لا محل له، ولا شك أن صورة المسألة التي أرادها: أن ينويا معًا، وهو- أيضًا- أقرب إلى السياق، وأقل في الاعتراض.
20 / 19
باب الآنية
قوله: قال القاضي الحسين: وإذا أراد الإنسان استعمال الماورد الذي في آنية الفضة فطريقه: أن يقلبه في يساره، ثم يقلبه من يساره في يمينه، ويستعمله، فلا يكون محرمًا، وليس من الاستعمال المحرم: شم البخور الذي يصعد من على مبخرة فضة والقرب منها.
نعم الاحتواء على المبخرة منه. انتهى كلامه.
واشتراطه القلب أولًا في يدٍ خصوصًا اليسرى، ثم تحويله منها إلى الأخرى- غلط لا معنى له، فإنه إذا صبه في إحدى يديه يمينًا كانت أو شمالًا، لا على قصد الاستعمال، ثم استعمل بيمينه- إما بالدلك أو بالرش أو نحوه- كفى ذلك بلا نزاع، فإنه لم يستعمل إناء الفضة.
وقد ذكر القاضي في «تعلقيه» ما ذكرناه، ثم حكى عن القاضي أبي عاصم- على جهة المثال، لا على جهة الاشتراط- أنه كان يفعل بعض ذلك، فقال: ولو كان في آنية الذهب والفضة ماء ورد لا يجوز الاستعمال منه، فإن صبه في موضع آخر، ثم استعمله- يجوز.
وحكى- ﵁ قال: كنت مع القاضي أبي عاصم في موضع، فأتى بآنية من فضة فيها ماء ورد، فصبه على يمينه، ثم صب من يمينه على يساره، ثم استعمله. هذا لفظ «تعليقه» القاضي، وما ذكره من جواز الشم منها مع القرب هو مقتضى ما في «التعليقة» المذكورة- أيضًا- والمعروف الذي جزم به في «شرح المهذب» مع كثرة جمعه: خلافه، فقال: الخامسة: قال أصحابنا: يستوي في التحريم جميع أنواع الاستعمال من الأكل والشرب والبول في الإناء والتجمر بمجمرة فضة إذا احتوى عليها، قالوا: ولا بأس إذا لم يحتو وجاءته الرائحة من بعدٍ، وينبغي أن يكون بعدها بحيث لا ينسب إلى أنه متطيب بها. هذا كلامه.
قوله: وهل يجوز اتخاذه؟ - يعني إناء الذهب والفضة- فيه وجهان، وجه الجواز: أن المنع معلق بالاستعمال دون الاتخاذ.
قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في صحة بيعه، وهذا فيه نزاع مذكور في
20 / 20
كتاب البيع. انتهى.
وما ذكره من ذكر النزاع فيه في البيع غلطٌ، لا ذكر له فيه لا من كتابه ولا من غيره، والظاهر: أنه إنما أراد كتابه هذا، فإنه أخر تصنيف الربع الأول عن الأرباع الثلاثة. نعم، ذكر النواوي في باب الأواني من «شرح المهذب»: أنا إذا قلنا بتحريم الاتخاذ فينبغي تخريجه على الخلاف المشهور في بيع الجارية المغنية بزيادة على قيمتها لولا الغناء، وحينئذ فيكون الصحيح الجواز. وهذا التخريج ضعيف، بل تخريجه على الآلة المحرمة- كالمزمار والأوتار- وعلى الأصنام ونحوها، أشبه، ومع ذلك فالفرق قائم أوضحته في كتاب «مطالع الدقائق في الجوامع والفوارق».
قوله: ووجه التحريم- وهو الصحيح-: أن ما حرم استعماله على الرجال والنساء حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي، قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في وجوب الزكاة فيها، ولو كان الاقتناء مباحًا لكانت لا تجب على قول كالحلي المباح. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب على قول كالحلي المباح. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب في المحرم، وهي تجب في المحرم والمكروه، واتخاذ الآنية من الذهب والفضة مكروه. انتهى كلامه.
وما نقله من عدم الخلاف، وارتضاه وقرره، وعارض بخلافه- غريب، فقد ذكر الماوردي في كتاب الزكاة من «الحاوي» أنها فيها قولين في الحلي المباح.
ورأيت في «التحرير» للجرجاني حكاية الخلاف فيه- أيضًا- فقال في كتاب الزكاة: فصل: وتجب الزكاة في أواني الذهب والفضة إذا كانت للاستعمال، وكذلك إذا كانت للقنية على الصحيح. هذه عبارته، ولم يحك هذا الخلاف في «الشافي».
قوله: وما عدا المستثنى ي كلام الشيخ باقٍ على الإباحة، سواء كان خسيسًا أو نفيسًا بسبب صنعته: كالزجاج المحكم والخشب ونحوهما، وهو كذلك، ولا نعرف فيه خلافًا، إلا ما حكي عن بعضهم أن فيما نفاسته في صنعته وجهًا: أنه يحرم، ولم نره في كتاب يوثق بنقل صاحبه. انتهى كلامه.
وهو الذي نفاه قد ذكره صاحب «البيان» فقال: إن صاحب «الفروع» أشار إلى وجهين في تحريمه. وصاحب «الفروع» الذي أشار إليه هو سليم الرازي، كذا ذكره صاحب «المعين» في خطبة كتابه المذكور.
قوله: فإن كان المشركون لا يتعبدون باستعمال النجاسة كأهل الكتاب، فآنيتهم وثيابهم كآنية المسلمين وثيابهم. انتهى كلامهم.
وما ذكره في أهل الكتاب من كونهم لا يتدينون باستعمال النجاسة ليس كذلك،
20 / 21
فإن من جملة ما يتعبد به النصارى في كنائسهم ويتقربون به: أكل الخبز بعد غمسه في الخمر كما هو معروف. ثم رأيت بعد ذلك في «شرح التنبيه» للمحب الطبري موافقتي على ما ذكرت.
ثم قال: قلت: ويلزم طرد القولين الاثنين هنا- أيضًا- لأنهم يتدينون بشرب الخمر.
قوله: وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة كطائفة من المجوس والأبارهم [كذا] من الذين يغتسلون بأبوال البقر تقربًا، ففي جواز استعمالها وجهان.
ثم قال: وفي «تعليق» البندنيجي: أن الذي نص عليه الشافعي في القديم و«حرملة»: الإباحة، واختاره أبو إسحاق، وحمل الحديث الوارد في النهي على ما إذا تحقق نجاسة ذلك. انتهى كلامه.
وما نقله عن أبي إسحاق من اختيار الإباحة سهو، فإن اختياره المنع، كذا صرح بنقله عنه الماوردي في «الحاوي» وابن الصباغ في «الشامل»، وهو الذي نقله عنه- أيضًا- البندنيجي في «تعليقه».
قوله: وقد أفهمك قول الشيخ: وما ضبب بالفضة ... إلى آخره، أن المضبب بالذهب غير جائز بكل حال، وهو ما أورده الماوردي هنا وفي كتاب الزكاة، والشيخ في «المهذب»، وحكاه البغوي عن العراقيين، وحكاه النووي عن رواية أبي العباس الجرجاني والشيخ أبي نصر المقدسي. انتهى كلامه.
وتعبيره بقوله: أبي نصر، سهو، فإن كنية المقدسي: أبو الفتح، واسمه: نصر، وأما أبو نصر فكنية ابن الصباغ، والمصنف- ﵀ مع جلالة قدره كان قليل المعرفة بالمصنفين وبالمصنفات إلى المشهورة.
قوله: وإن اشتبه ذلك على أعمى ففيه قولان:
أحدهما: يتحرى.
والثاني: لا يتحرى.
ثم قال: وإن قلنا بالثاني تعين عليه تقليد بصير، فإن لم يجد من يقلده، أو لم يظهر للبصير شيء- قال الشافعي: لا يتيمم، بل يتوضأ بما أدى إليه تخمينه على أبلغ ما يقدر عليه. قال القاضي أبو الطيب: ولا يعيد. وعن الشيخ أبي حامد: أنه يتيمم ويصلي ويعيد، وهو الأصح في «الروضة»، وقال ابن الصباغ: إن ما ذكره أبو حامد أقيس، وما ذكره أبو الطيب أقرب إلى نص الشافعي. انتهى كلامه.
20 / 22
اعلم- وفقك الله- أنه لا خلاف في وجوب الإعادة في هذه المسألة، سواء قلنا: يتيمم، أم لا، وما نقله عن القاضي أبي الطيب من عدم الوجوب غلط، وكذلك ما نقله عن ابن الصباغ في تقرير ذلك. ولنذكر كلام ابن الصباغ، ليتضح ما أشرنا إليه من الغلط، فنقول: قال قبيل باب المسح على الخفين ما نصه: وأما إذا لم يغلب على ظنه ولا على ظن البصير، فإنه قال، فإنه قال- يعني الشافعي-: لا يتيمم، ويخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك، ويصلي. ولم يذكر الإعادة، قال القاضي أبو الطيب: وعندي أن الإعادة واجبة، لأن الماء لم يثبت عنده طهارته بأمارة. وما قاله أشبه بأصل الشافعي.
قال: وكذلك البصير يفعل.
قال: وقد حكى البندنيجي في «التعليق» أنه قال سألت أبا حامد: إذا لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما؟ قال: يصلي بالتيمم إن خاف فوات الوقت، ويعيد. وما قاله القاضي فهو على ما نص عليه الشافعي في الأعمى، وما قاله أبو احمد أقيس، لأنه لم تثبت طهارة الماء. هذا كلام صاحب «الشامل»، وقد اتضح له منه أن ما نقله المصنف عن القاضي غلط، بل هو موافق للشيخ أبي حامد في عدم وجوب الإعادة، وإن اختلفا في شيء آخر. وكذلك- أيضًا- ما نقله عن صاحب «الشامل» من مغايرة قوله في القضاء لقول أبي حامد، حيث نقل عنه ترجيح مقالة أحدهما بكونها أقرب إلى النص، ومقالة الآخر بكونها أقيس. ثم إن ابن الصباغ إنما ذكر هذا الترجيح للمقالتين في البصير لا في الأعمى- فتأمله تقطع به- فنقله المصنف إلى مسألة الأعمى مع مخالفته في التعبير عن صيغة الترجيح، ولا شك أن المصنف استمد في هذه المسألة من كلام «الشامل»، فاختلط عليه من أوله إلى آخره.
قوله: نعم، لو كانت الآنية ثلاثة، وقد وقعت النجاسة في اثنين منها، واجتهد ثلاثة فيها، فأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء- لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض في صلاةٍ ما بتلك الطهارة، كما لو وقعت النجاسة في أحد الإناءين، فاجتهد فيهما اثنان، فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة إناء، واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر. على أن في مسألة الاستشهاد وجهًا حكاه الشيخ أبو محمد في كتاب الحج: أنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر، بناء على قولٍ في أن من أحرم بنسك ثم نسيه هل يتحرى؟ وإذا ثبت في هذه الصورة جرى في الأخرى. ولو كان النجس من الثلاثة واحدًا، وقد أدى اجتهاد كل شخص إلى طهارة واحد- ففي جواز اقتداء بعضهم ببعض كلام سبق في
20 / 23
باب صفة الأئمة. انتهى كلامه.
وما نقله- ﵀ عن الشيخ أبي محمد من حكاية الوجه في الإناءين غلط، بل إنما حكاه في المسألة الأخيرة وهي الأواني، فقال في كتاب الحج: مسألة: إذا شك الرجل في النسك الذي أحرم به، فلم يذكر أنه أحرم بحج أو عمرة: فهل يجوز له التحري والاجتهاد، أم لا؟ فعلى قولين.
ثم قال ما نصه: وعلى هذين القولين تنبني مسألة اختلف أصحابنا فيها، وهي أن الجماعة إذا اجتهدوا في أواني حلت في بعضها نجاسة متيقنة، واستعملوها عن آخرها، وأراد بعضهم الاقتداء ببعض في الصلاة- هل يجوز لهم الاقتداء أم لا؟ فعلى وجهين. هذا لفظه في كتابه المسمى بـ «السلسلة».
قوله: ولو اختلطت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد- فله الأخذ من غير اجتهاد، وإلى متى يأخذ؟ قال في «البحر»: فيه وجهان، أصحهما [كذا]: إلى أن يبقى واحد، والثاني: إلى أن يبقى قدرٌ لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز. انتهى كلامه.
ومقتضاه: أن التصحيح المذكور لصاحب «البحر»، وليس كذلك، فإنه ذكر المسألة قبيل باب المسح على الخفين، ولم ينقل تصحيح ما صححه هنا عن أحد بالكلية، ولا أشار إلى ترجيحه، بل لما حكى الوجه الثاني عبر بقوله: وهذا أوضح- يعني: أقيس- وأجرى على القواعد.
والأمر كما قال، ولا شك أن النووي في «الروضة» نقل الوجهين عن الروياني، وأعقبهما بهذا التصحيح المذكور، وعبر بعبارة توهم إيهامًا بعيدًا أن التصحيح للروياني، فاغتر به المصنف، فاعلمه.
* * *
20 / 24
باب السواك
قوله: ويتأكد- أيضًا- في حالة اصفرار الأسنان، وإن كان ذلك بسبب غير التغير، قال الرافعي: ويشهد له قوله- ﵊: «ما لكم تدخلون علي قلحًا؟! استاكوا». انتهى كلامه.
وهذا الذي عزاه إلى الرافعي من استدلاله بهذا الحديث غلط، فإن الحديث المذكور ليس له ذكر في «الرافعي» بالكلية، والحديث المذكور رواه النسائي في «الأغراب» والطبراني- واللفظ له- في «المعجم الكبير» من حديث تمام بن بالعباس، ورواه البغوي والبزار في «مسنديهما» من رواية تمام بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب، والصواب: أنه من حديث تمام، قاله البغوي.
قوله: ويكره للصائم بعد الزوال، لقوله- ﵊: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن. والخلوف- بضم الخاء- تبدل الرائحة، والسواك يزيله، ونظمه دليلًا أنه أثر عبادة مشهود له بالطيب، فكرهت إزالته كدم الشهيد. انتهى كلامه.
أما الحديث فهو كما قال، غير أن البخاري ومسلمًا قد أخرجاه في «صحيحيهما»، فكيف ينبغي مع ذلك إسناده لمن أسنده على الوجه الذي ذكره وهو تحسينه، لا تصحيحه؟!
وأنا القياس الذي ذكره فإن الرافعي قد ذكره- أيضًا- وهو غير مستقيم، لأن إزالة دم الشهيد حرام لا مكروه، وحينئذ فإن كان هذا القياس صحيحًا فيلزم استواء المقيس والمقيس عليه في الحكم، فلا يكون أحدهما مكروهًا والآخر محرمًا، فكان الصواب أن يعبر بقوله: فكان إبقاؤه راجحًا على تركه.
قوله: والمستحب أن يستاك بعود من أراك، لما روى أبو زجرة: «أن النبي ﷺ كان يستاك بالأراك». انتهى كلامه.
وتعبيره عن الراوي بقوله: أبو زجرة، تحريف، وصوابه: أبو خيرة- بخاء معجمة مفتوحة، من بعدها ياء مثناة من تحت، ثم راء مهملة، ثم هاء- ويعرف بالصباحي: بصاد مهملة مضمومة، بعدها باء موحدة، وبعد الألف حاء مهملة، كذا ضبطه النووي
20 / 25