أليس ذاك الذي كان يفترش أرض غرفته، وإن استراح نام على سرير ثرثار، كان يفر من تلك الزريبة مع الفجر لئلا يفاجئه أحد فيها، ولكنه صار بنعمة (الأمانة) من زبائن أشهر مصانع الموبيليا، ومخازن السجاد العجمي، وكل ذلك بفضل الغفلة وسوء التربية؟
أليس ذاك الذي كان كابن الإنسان ليس له مكان يسند إليه رأسه، فصار صاحب دار وعقار وسيارة وخدم، وهو إذا شبع من راتبه الشهري عري، وإن اكتسى جاع؟
لا بأس بتسمية الموظف سيدا، إذا كان أمينا، أما أن نسميه خادما، ويده طويلة، فهذا والله، كثير عليه يا بيك!
فمن المسئول عن هذه الكبرياء العارمة عند الموظفين، أليست النظم الحكومية التي جعلت درجة رؤساء الجامعات رابعة عشرة حين زارنا عظيم من عظماء الشرق؟ ألم يأتوا بعد آخر موظف؟
وفي أي مناسبة دعي واحد من رجال الفكر إلى تلك المآدب التي هي من مال المكلف اللبناني، فكأن لبنان كان موظفا في مطاوي تاريخه ولم يكن فكرا. فساعة يريدون يتحدثون عن الإشعاع وكأنهم هم راديوم المعرفة الذي لا ينقطع إشعاعه، وساعة يريدون يطفئون القناديل إلى حين كما تفعل عجائز القرية في تساعية الميلاد، أو جمعة الآلام، حين يحضرن الصلاة في الكنيسة.
قلت: فوق أنهم لم يدعوا أحدا إلى مأدبة حكومية على وجه التعميم، مع أنني عرفت أنهم دعوا مرة شاعرنا العظيم بشارة الخوري - الأخطل الصغير - إلى مأدبة ما، ولكنهم حددوا له ثوبا بعينه. فكأن بشارة لا يكون بشارة الخوري إلا إذا لبس الفراك أو الردينكوت. نسوا أنه كسا لبنان من قريضه حلة لا تبلى ولا تخلع.
نحن غرباء في وطننا يتمتع غيرنا بما نغذي به الصندوق من ضرائب ظاهرة ومستورة، ولا نحصل على رغيف نفك به ريقنا.
ستر الله علينا وعلى حكومتنا التي أصابنا معها ما أصاب يوسف ساسين العاقوري مع رئيس دير ميفوق في ذلك الزمان. زار الشيخ يوسف ذاك الرئيس فوجده مهموكا باستقبال سيدة جليلة اسمها أم حنا، فلم يبال بالشاعر العامي، فنام الشاعر تلك الليلة على مضض. وفي الغد صعد إلى الخورس وخدم القداس لرئيس الدير فأعجب بصوته وحسن ترنيمه. ولما بلغ (فلنقف حسنا بأجمعنا) صرخ الشيخ يوسف ببيت نظمه هو على ذلك الوزن فقال:
جينا لدير ميفوق نتكنى
قدرنا الريس بيسأل عنا
Unknown page