إن العامل في ظل الرأسمالية يغترب حين يعجز عن الاهتداء إلى ذاته، وإلى الهدف من عمله، في ظل قوى لا شخصية مجهولة، هي قوة رأس المال، وتقلبات «السوق»، والمضاربات، وكلها قوى تؤدي إلى تحويل حصيلة عمله في طرق ومسالك لا يعرف عنها شيئا، وإلى التصرف فيها على نحو لا دخل لإرادته فيه. ومثل هذا يحدث في النظام السوفيتي، وإن اختلف نوع القوى التي تسبب هذا الاغتراب. فأساس الاغتراب في هذه الحالة هو «الخطة» التي تشكل بدورها عاملا لا شخصيا مجهولا ينبغي أن يخضع له كل فرد في المجتمع وإن لم يكن يستطيع أن يحدد نوع الالتزامات التي ستفرضها عليه، أو أن يتنبأ بما ستلقيه عليه من مسئوليات. إن الخطة نوع من التنظيم الأعلى الذي يفرض على كل فرد، ويمارس على الجميع نوعا من الإرهاب غير المنظور. وهي أقوى الوسائل التي يستخدمها البيروقراطيون الاقتصاديون والسياسيون في السيطرة على المجتمع، والحيلولة دون اشتراك الأفراد مباشرة في تنظيم إنتاجهم بصورة تكفل لهم الشعور عن وعي بثمرة جهدهم.
وهكذا يسهم التخطيط الشامل في زيادة سلطان الترشيد التكنولوجي، ويشكل بدوره سلاحا من أسلحة الإرهاب والقضاء على تلقائية الفرد، ويتقارب النظام السوفيتي مع الرأسمالية المتقدمة في خلق إنسان ذي بعد واحد، هو البعد الذي تحتاج إليه الخطة، والذي يسهم في تحقيق المعدلات الإنتاجية المطلوبة، دون اعتبار لأي عامل آخر.
بل إن الصراع بين النظامين السائدين في البلدين الكبيرين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، هو ذاته عامل يؤدي إلى تثبيت الأوضاع غير الإنسانية في كلا النظامين. فالمفروض أن هذا الصراع جزء من الديالكتيك التاريخي الذي يؤدي، في نهاية الأمر، إلى إزالة التناقض بين النظامين لصالح تقدم الإنسانية، بحيث لا يحتفظ من النظامين إلا بما يسهم في خلق أوضاع أفضل. ولكن الذي يحدث بالفعل عكس ذلك.
فالاتحاد السوفيتي يعجز عن المواءمة بين الأساس الأيديولوجي النظري لسياسته، وبين الواقع الفعلي الذي يظهر بمزيد من الوضوح يوما بعد يوم. فهو؛ على المستوى النظري، لا يزال ينظر إلى البروليتاريا على أنها طبقة واحدة ينبغي أن تتحد كلها، بغض النظر عن أية اختلافات في المستوى الاقتصادي، للقضاء على استغلال النظام الرأسمالي. وفي مقابل هذه النظرة «الدولية» إلى الطبقة العمالية، يشهد الواقع بحدوث تحول أساسي في البروليتاريا، جعل جزءا كبيرا منها يتحول إلى فئة غير ثورية مندمجة في النظام الرأسمالي المستغل على نحو يوحي بوجود اتحاد في المصالح بين العمال وبين بقاء النظام القائم. وهكذا طرأ على فكرة «التناقض» بين العمال والرأسماليين تغير أساسي، لم تعترف به الأيديولوجية السوفيتية نظريا. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الممارسة السياسية للاتحاد السوفيتي، بوصفه دولة (لا بوصفه نظاما يطبق أيديولوجية معينة) تضطره إلى الاعتراف - ولو بصفة جزئية - بهذا الواقع القائم، وبأن الصراع الدولي ليس صراعا بين طبقتين متناقضتين يتخطى حواجز السياسية القومية، وإنما هو إلى حد معين على الأقل، صراع بين «دول» لها مصالح متكاملة محددة.
أما في الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة تستغل الصراع بينها وبين الاتحاد السوفيتي أحسن استغلال، بحيث أصبحت تجني نفعا من وجود هذه القوة المنافسة لها (بعكس ما كان متوقعا). فكلما أحرز الاتحاد السوفيتي تقدما في مجال ما، استغلت الرأسمالية هذا التقدم في شحذ قواها من أجل إحراز تقدم مناظر، أو من أجل الاحتفاظ بتفوقها. كذلك فإن حدة المنافسة أفادت في استمرار اقتصاديات الحرب فترة أطول مما ينبغي بعد انتهاء الحرب، ومن المعروف أن الرأسمالية هي المستفيدة دائما من توجيه الاقتصاد في خدمة الأغراض الحربية. ويمكن القول بوجه عام إن وجود «العدو» هو جزء من الأسلوب الدفاعي الذي يحمي به النظام الرأسمالي نفسه، ويحافظ به على وجوده. وكما أفلحت الرأسمالية في تحويل التناقض بينها وبين الطبقة العاملة في الداخل لصالحها، كذلك أفلحت في تحويل التناقض بين المعسكرين الدوليين في اتجاه تعبئة قواها الخاصة وإسكات صوت المعارضة في داخلها وتحقيق الازدهار في اقتصادها. وهكذا يكون من الضروري لها أن تحتفظ. بصورة «العدو» حية أمام الشعب حتى تحافظ على استغلالها له؛ أي إنها تحول التناقض إلى سلاح يخدمها ويساعد على بقائها بدلا من أن يسهم في هدمها.
4
مقومات الحضارة الجديدة
يحتل النقد السلبي الجانب الأكبر من تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من صفحات كتبه. وليس هذا بالأمر المستغرب؛ إذ إنه لا يقتصر على نقد نظام بعينه، بل إنه ينقد كل النماذج الموجودة، سواء منها الرأسمالية أو الاشتراكية كما هي قائمة بالفعل. وهو يرى أن «أحادية البعد» هي مرض العصر، أو هي المظهر الرئيسي لضحالة الإنسان وغفلته، وللانحراف والتشويه الذي طرأ على حياته، فالإنسان «ذو بعد واحد» في المجتمع الرأسمالي المتقدم، وفي التطبيقات الاشتراكية الكبرى في العالم المعاصر. إن البعد الواحد باختصار، هو سمة الحضارة الحديثة في أشد صورها تقدما واكتمالا.
على أن ماركيوز لا يقف عند حد تشخيص أمراض الحضارة الحديثة، وإنما يعرض تصوره الإيجابي لحضارة أخرى تحقق للإنسان أبعاده المتعددة، وتكتمل فيها مقومات الحياة الحقة. وبطبيعة الحال فلا بد لبلوغ هدف كهذا من مراجعة شاملة للطريق الذي ظل الإنسان يسلكه حتى اليوم، وللأهداف التي ظل يبذل الجهد ويتحمل العناء من أجل تحقيقها؛ ذلك لأن الإنسان الحديث كان يسلم بأمور معينة يظنها بدهية مع أنها قابلة للمناقشة، بل إنها ربما كانت أصل البلاء الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن الحضارة الحديثة بأسرها تظن أن المبادئ التي تقوم عليها مطلقة، مع أنها في واقع الأمر مبادئ نسبية يمكن الخروج عليها، وربما كان خلاص الإنسان الحديث يكمن في قدرته على تجاوزها. «إن الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة هي زيادة الإنتاجية والتقدم التكنولوجي.» وهذه أسس تفرض مقدما دون مناقشة. وهي تتخطى الانقسامات الأيديولوجية، إذ إنها هي الغاية القصوى في كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي كما يعيشان بيننا اليوم، ويعتقد ماركيوز أن التشخيص الحقيقي لمرض العصر الحديث هو أن الإنسان يعيش فيه متلهفا على الإنتاجية الزائدة، لاهثا وراء الكشوف والاختراعات التكنولوجية المتجددة أبدا، وبذلك يضع الوسائل موضع الغايات؛ ذلك لأن على الإنسان أن يدرك أن الإنتاج والتكنولوجيا مجرد وسائل. وعليه أن يتساءل: لأي غرض ينبغي أن أزيد من إنتاجي؟ وما هي الغاية التي سأستخدم من أجلها التجديدات التكنولوجية؟ ومع ذلك فإن هذه الأسئلة، على بساطتها، لا تطرح في العصر الحديث، بل ينقاد الإنسان لرغبته العمياء في التفوق في سباق الإنتاج والاختراع وكأنه مسوق بقوة قدرية غامضة قد تؤدي به في النهاية إلى حتفه.
على أن من الضروري أن ننبه، بادئ ذي بدء، إلى أن ماركيوز لا يستهدف دعوة الإنسان الحديث إلى التنازل عن تقدمه الاقتصادي والتكنولوجي؛ فهو لا ينتمي إلى ذلك النمط من المفكرين الذين ينادون بالعودة إلى عصور ما قبل الصناعة وما قبل التكنولوجيا، ويتصورون أن سعادة الإنسان الحقيقية إنما تكون في العودة إلى الارتباط المباشر بالطبيعة البريئة، بل إن المجتمع الإنساني الذي يحلم ببلوغه يفترض وجود مستوى عال إلى أبعد حد من القدرة الإنتاجية ومن التقدم التكنولوجي. ولكن المهم في الأمر أنه يدعو إلى وضع هذه الاعتبارات الاقتصادية والفنية حيث ينبغي أن تكون؛ أعني بوصفها وسائل تخدم غايات تعلو عليها - غايات لم تصل إليها، ولا يمكن أن تصل إليها، الإنسانية الحالية المكتفية بعالم الوسائل. فهدفه هو أن يتجاوز الإنتاج والتكنولوجيا مع احتفاظه بهما؛ أعني البحث عن حضارة جديدة تستوعب الحضارة القديمة في داخلها، دون أن تلغيها، بحيث تكون العلاقة بين القديم والجديد علاقة جدلية بالمعنى الهيجلي؛ فالجديد يلغي القديم لأنه يتجاوزه ولكنه في الوقت ذاته يحتفظ به لأنه يشتمل عليه بوصفه جانبا من جوانبه. أو لنقل، من زاوية أخرى، إن العلاقة بين المجتمع القائم على الإنتاجية والمجتمع الذي ينشده ماركيوز - والذي سنوضح تفاصيله بعد قليل - أشبه بالعلاقة بين هندسة إقليدس والهندسة اللاإقليدية؛ فالأخيرة لا تلغي الأولى، ولكنها تدرك نسبيتها، وتجعلها مجرد حالة خاصة منطبقة على مجال معين، وتضيف إليها إمكانات جديدة لم تكن تخطر على بال أنصار النسق القديم. (أ) من ماركس إلى فرويد
Unknown page