87

وفي هذه السنة أيضا أنشئ في الجامعة نظام «الأستاذ غير المتفرغ» وهو نظام

2

رأى واضعوه أن كثيرا من الممتازين في القانون والآداب والعلوم يشغلون مناصب كبيرة في الدولة، وليس من السهل إخراجهم من مناصبهم وتخصيصهم بأستاذية الجامعة، فمن الممكن تعيينهم أساتذة غير متفرغين مع بقائهم في مناصبهم الأخرى، فلما ووفق على هذا المشروع عينت أستاذا غير متفرغ مع من عين في كلية الآداب، وعين معي في كلية الآداب الأستاذ محمد شفيق غربال وكيل وزارة المعارف والأستاذ مصطفى عامر مدير جامعة فاروق إذ ذاك، ولم تحل إحالتي على المعاش دون ذلك، فعدت أستاذا كما كنت أحضر محاضرتي وألقيها؛ وأنا في هذا العام - عام 1949 - ألقي محاضرتين: إحداهما في النقد الأدبي وموضوعها كيف ينبغي أن يدرس الأدب، والثاني دراسة لكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.

الفصل السادس والثلاثون

وفي 5 يوليو سنة 1950 ذهبت إلى الإسكندرية لأصطاف ونزلت في بيتي في «سيدي بشر» وأخذت أستريح ونمت نوما هادئا لم أشعر فيه بشيء وقمت من نومي صباحا كالعادة وأفطرت على عادتي بكوب من اللبن وقطعة من الجبن وفنجان من القهوة وذهبت أغسل يدي فوقعت، فظننت أن رجلي عثرت بشيء فعاودت المشي ثانية فسقطت. ثم أحسست أن الجانب الشمالي كله من يد ورجل قد فقد حركته تماما؛ واستدعيت الطبيب فقال إنها جلطة خفيفة وإنه يلزم السكون تماما فسألته عن السبب؛ قال إن الجلطة تحدث في المخ فإذا تحرك الجسم تحركت فعاثت الجلطة في المخ وسببت مضاعفات - لا قدر الله - فوجب أن تبقى في مكانها حتى تصير كالإسفنج. وكان ذلك على أثر غلطات عملتها فقد أخذت حقنة من الأنسولين من «سنتيين» والجسم لا يحتمل إلا «سنتيا واحدا» وقمت بعد ساعتين من النوم وقد احترق السكر من دمي وطلبت ما عندهم من أكل فأكلت أكلا جما وكان يكفي لهذه الحالة كوب من ماء بسكر، وغلطت غلطة ثالثة فنمت فورا بعد هذا الأكل فتحولت حركة الدم إلى المعدة لتهضم فمضت بضع ثوان لم تتغذ فيها بعض خلايا المخ فماتت وقام مقامها خلايا أخرى لتحل محلها وهي تحتاج إلى ستة أسابيع أو ثلاثة أشهر على الأقل ليتم نموها، وهكذا مكثت أربعة أيام أشعر بنصفي الأيسر كأنه وعاء فارغ ثم شعرت بأنه ممتلئ رملا ثم شعرت بالقوة تدب فيه وكانت رجلي أسبق إلى الحركة من يدي.

ولما تقدمت في الصحة وزال من المرض نحو 95٪ في نحو ستة أسابيع بطؤ الشفاء في الأيام الأخيرة حتى احتاج إلى شهر آخر، لأن العمل على بناء الخلايا كان من عمل الشرايين ثم صار من عمل الشعيرات وهي بطبيعة الحال أبطأ عملا، وهكذا شاء القدر.

وعلى كل حال فقد استفدت من هذا المرض تجارب كثيرة إذ علمت أن حركة اليد والرجل عبارة عن عملية ميكانيكية مركبة لا يمكن أن تحسن إلا بسلامة أعضاء كثيرة، ولم أكن أستطيع إمساك علبة السجاير ولا علبة الكبريت ولا أن أشعل عودا من الكبريت وهكذا.

الفصل السابع والثلاثون

هذه أهم الأحداث التي مرت علي من صباي إلى شيخوختي فأثرت في تأثير دائبا متواصلا حتى صيرتني كما أنا اليوم، وكان يمكن أن تكون غير ذلك فأكون غير ذلك، ولكن شاء الله أن تجري علي كما جرت فتصوغ مني ما صاغت.

لقد كتبت مرة مقالا في وصف صديق وكنت أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيت به شخصي، وقد جاء فيه: لا صديق اصطلحت عليه الأضداد، وائتلفت فيه المتناقضات سواء في ذلك خلقه وعلمه.

Unknown page