عجبت للإسلام واللغة العربية وقوتهما وانتشارهما، فليس في الواحات إلا مسلم، وليس فيها إلا من يتكلم العربية وحدها. •••
لا أطيل على القارئ بهذه اليوميات التي استمرت ثلاثة أشهر، وقد أحسست فيها بفراغ طويل، عريض، لأن القضايا التي عرضت في هذه الأشهر الثلاثة كانت تسعا فقط من أبسط الأنواع، ويكفي في الفصل فيها ساعة من الزمن، فملأت فراغي بشيئين: الرحلات إلى الآثار الموجودة في الخارجة، وقراءة الكتب. فأما شغفي بالآثار فكان عجيبا حقا، لأن الآثار الموجودة آثار قديمة وثقافتي فيها محدودة أو معدومة، وربما كان السبب في شغفي بها ما تولد عندي من حب الآثار والإعجاب بها يوم كنت أزور الآثار الإسلامية مع صديقي أحمد بك أمين، وقد كنت في كثير من الأحيان أصحب مفتش الآثار ليدلي إلي بمعلوماته عنها، وقد كنت أدون في يوميات وصف كل أثر رأيته وما تركه في نفسي من أثر، وكانت هذه الآثار بعضها فارسية من عهد احتلال الفرس لمصر وبعضها من آثار قدماء المصريين وبعضها رومانية، وبعضها مقابر مسيحية لا تزال تحتفظ بجثث الموتى وأكفانها، بل لا يزال بعضها محتفظا بشعر الرأس والذقن من جودة التحنيط، وبعضها أسود الوجه غائر الجبهة بارز الأسنان، وبعضها - وهو الأكثر - أبيض الوجه منفرج زاوية الوجه.
وكانت أمتع رحلة من هذا القبيل رحلتي إلى باريس، وهي بلدة حقيرة تحمل اسما كبيرا، وبدائية بدوية تحمل اسم أكبر مدينة مدنية، ولا أدري كيف أطلق عليها هذا الاسم، وهي تبعد عن الخارجة نحو مائة وعشرين كيلو مترا.
أعددنا العدة لهذه الرحلة من ماء وزاد، وخرجنا على ثلاثة من الإبل من نوع الهجين، طبيب الواحات وملاحظها وأنا. وكنا نسير عصرا وبعض الليل، وصبحا وبعض النهار، وننصب خيمة في الظهيرة نأوي إليها عند اشتداد الحر.
ولست أنسى مرة ونحن في الطريق يوما اشتد حره وجف هواؤه، وقد أكلنا أكلة ثقيلة لا تناسب السفر، ثم ركبنا واشتد بي العطش، وكلما شربت تقلقل الماء في بطني من هزة الهجين؛ ثم أعطش فأشرب، فلما مللت الشرب أخرجت ليمونة من جيبي وقطعتها، وأخذت أمصها من حين إلى آخر، فما هو إلا أن رأيتني وقد انقبضت حنجرتي ولم أستطع أن آخذ نفسي من فعل الليمون مع جفاف الهواء، فالتفت إلى الطبيب أستنجده بالإشارة، فأسرع إلى الزمزمية وصب الماء في حلقي.. ولو تأخر ذلك بضع ثوان لهلكت، ولكن الله سلم!
ورأينا في الطريق بعض آثار قديمة وعيونا رومانية وشجر الدوم الكثير. وقد وصلنا البلدة ثاني يوم مساء، ورأينا أرضها المحيطة بها من أجود أنواع الأرض، مساحات واسعة ليس ينقصها إلا الماء لتنتج أحسن الزرع. ورأينا البلدة مملوءة بالأطفال الذين لا عائل لهم عن أثر حمى تيفودية اكتسحت آباءهم في العام الماضي.
وفي قومها كرم عربي ولهجة عربية جميلة، كنت أتلذذ من سماعها وخصوصا من النساء اللائي كن يترافعن إلي في شكوى أزواجهن، ورأيت أهلها في نزاع طويل شديد، حتى علمت أنهم في السنة الماضية لم يزرعوا أرضهم عنادا فيما بينهم. ورأيت بها آثارا قيمة زرتها وأعجبت بها.
ولأهلها بعض عادات غريبة، فإذا مات منهم كبير لبست النساء أحسن لباس عندهن وأجده، وإذا كان له سيف أو بندقية أمسكتها زوجته أو قريبته بيدها ووقفت تندب الميت وقد تصاب بجروح مما في يدها.
وفي عودتي من باريس رأيت السراب وما كنت رأيته، كنت أرى بحرا متسعا زرعت عليه أشجار، ولا بحر ولا أشجار. ولاتساع الصحراء وتلاعب الرياح فيها كنت أتخيل أحيانا أن أحدا وراءنا يجري ويتكلم، ثم ألتفت فلا أرى شيئا، فظننت أن هذا هو ما كانت تزعم العرب أن الجن حدثتها أو هتفت بها.
وفي الطريق دروب، وهي خطوط صنعتها أقدام السائرين، وإذا وصلنا إلى أرض حجرية ضاع الأثر، وكان السائر عرضة أن يضل الطريق. وقد سمعت وأنا بالخارجة حديث قوم ضلوا الطريق فماتوا عطشا. وقد انحرفنا نحن في سيرنا مرة انحرافا قليلا سرنا من أجله ساعة حتى وصلنا إلى الطريق السوي.
Unknown page