Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
نظرية كيرت ريزلر
لقد بدأ النزاع بين الشرق والغرب قديما فقد هاجم الفرس أتيكا ثم أحرقت أثينا في 480ق.م. وتمكن الأثينيون من صد الفرس في موقعة سلامين. ولما ظهر إسكندر المقدوني أراد أن يثأر لقومه بفتح الشرق ومهاجمة الفرس في وطنهم، فهزمهم في موقعة جرانيكا 234ق.م. ثم هزم دارا في إيسوس في 333، ثم سقطت بابل وسوس وبرسوبوليس في يد الإسكندر فأهلكها ثم فتح الهند وقهر الملك بوروس.
وهلك ذو القرنين في صيف 323 قبل المسيح في حدود الثلاثين بعد أن قضى على مملكة الفرس وفتح مصر والعراق والهند.
ومؤرخو الإفرنج في هذا الزمان يعدونه أول حماة المدنية الأوروبية، لأنه صد هجمات الشرق عن الغرب ورد غزو الشرقيين في نحورهم واحتل بلادهم وأحرقها وغلب ملوكهم وقهرهم، ولولاه ولولا تمستوكليس لكان الغرب قد وقع ضحية للبرابرة الشرقيين.
يزعم الهر كيرت ريزلر في كتاب ألفه في تفسير عظمة إنجلترا الاستعمارية أنها «مدينة لحسن حظها في التأليف بين النظريات والمصالح»، وهو يقصد بذلك إلى أن الإنجليز يوفقون بين المثل العليا في المعتقدات والأخلاق وبين منافعهم، ويجدون من ساستهم وكتابهم فريقا قادرا على التأويل والتخريج والاجتهاد، بحيث يجعلون النظريات والمبادئ منطبقة على كل زمان ومكان، وهم في ذلك ينتفعون بمرونتها وسهولة تمثيلها مع الحوادث فيخضعون للتقلبات السياسية، وهم أبدا يعتمدون في أعمالهم على آراء يتمسكون بها هي في الظاهر خلابة مقنعة للعقول المتوسطة التي هي عقول الكثرة من الناس، ويرى المدرك حقيقتها ويفطن إلى مواطن الضعف فيها فيهاجمها ويهدمها. ولكنها تبقى في حدود المعقول حتى يفهم أصحابها وهم من ذكرنا من الساسة والخطباء ورجال الصحف وغيرهم من الكتاب أنها أصبحت غير صالحة فيغيرونها ويلبسونها ثوبا جديدا، فتبدو للعيان مقبولة معقولة حتى يطول عهدها فتخلق فيجددون كسوتها بثوب جديد. يعني أن السياسة الاستعمارية الإنجليزية ترتكز دائما على سند يبرر العمل السياسي أو العمل الحربي، وأظهر مثال على ذلك فكرة الاستعمار لخير الإنسانية، وادعاء بعضهم بأن في أعناقهم أمانة يؤدونها للجنس البشري وهي مأمورية التمدين والتحرير. فإن تضاءلت تلك الفكرة زعموا بعد حين أنهم يتكبدون مشقة الفتوح والاستعمار لحماية الضعيف من القوي بين الأمم أو مناصرة العدل في أمة واحدة أو حماية عرش أمير أو سلطان أو إنصاف المظلومين من القلة. فلا يدخل الإنجليز مملكة ولا يفتحون بلدا إلا وهم مسلحون ب «وجه حق»، فوجه الحق الذي يطلونه بطلاء القانون يكون صورة محدثة لفكرة الاستعمار.
هذا ما فهمناه من نظرية كيرت ريزلر في تفسير نظرية الخطر الاستعماري الذي صحب الفكرة الإمبراطورية من عهد الملكة إليزاباطا إلى يومنا هذا. وفي الحق أن بعض الحوادث تؤيد نظرية الرجل، فإن عظمة إنجلترا بدأت بانتصارها البحري على أسطول الأرمادا الإسبانية ثم انتصارها على فرنسا في حروب أمريكا في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وهي الحروب المعروفة في التاريخ باسم «الحرب الهندية» نسبة إلى هنود أمريكا الحمر؛ بدأت كارثة عليهم إلى أن تولى أمرهم ويليام بيت الكبير «إيرل شاتام» فأرسل إلى كندا القائد «ولف» وزوده بالمال والسلاح، فاندحر أمامه القائد مونتكام الفرنسي في موقعة كويبك، وأرغمت فرنسا على التنازل عن جميع أملاكها في أمريكا الشمالية، ومن ذلك التاريخ (حوالي 1760) أخذ نجم إنجلترا في الصعود، ولم يتزعزع مركزها بعده إلا مرتين: الأولى عند ظهور نابوليون والثانية في الحرب العظمى لدى حدوث الانقلاب الروسي وسقوط عرش رومانوف، لأن السوفيت زعموا أنهم جاءوا للإنسانية بفكرة جديدة، ففي المرة الأولى خشيت إنجلترا جانب نابوليون، لأنه كان يحمل إلى الشرق رسالة الثورة الفرنسية بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وهذا أعظم مما كانت إنجلترا تنوي التلويح به لمستعمراتها، فلم تكن إنجلترا ترهب نابوليون لأجل جنوده وأسلحته وشجاعته وإقدامه وعلو كعبه في القيادة ومساعدة الأقدار إياه في المواقع بقدر ما كانت تخشى دعايته التي من دأبها تنبيه الأمم الغفلانة وإيقاظها من سبات الأجيال المتراكمة، والإنجليز أبدا يخشون الرجال الأفذاذ لأنهم يحملون آراء وأفكارا. والأفكار تعمل بأقوى مما يعمل الجيش العرمرم، لأن الجيش قد يصمد وقد يفنى ولكن الفكرة تحيا وتسير، والفكرة السائرة أخطر من الجيش الفاتح لأنها تغزو ولا تفقد شيئا من قوتها بل تربح رجالا وأقواما وتنمو كلما سارت. لهذا وحده جمعت إنجلترا كل قواها ووجهتها لمحاربة نابوليون، لا نابوليون القائد البطل الطموح طالب المجد والملك العريض ولكن بونابرت ابن الثورة وربيب حقوق الإنسان.
ولكن هل صدق كيرت ريزلر في تعليله عظمة إنجلترا الاستعمارية بحسن الحظ وقدرة الإنجليز على سياسة الأمم المغلوبة وحبهم السيادة على الشعوب التي تستهدف للوقوع تحت نيرهم؟ نعم صدق، ولكن ليس هذا كل التفسير، فقد أخذ الإنجليز يقلدون الثورة الفرنسية، فينادون أنى ذهبوا بالحرية وقد يحررون أفرادا معدودين، وهم أثناء ذلك يطوون أقواما في ثنايا الإمبراطورية، وقد يعتقون الرقيق من ربق العبودية الممقوتة ثم يقيدونه غداة عتقه بأنظمة اقتصادية وسياسية أشد في حقيقتها من سلاسل رقه الأول.
يدعي مؤرخ ألماني اسمه ويلهلم ديبليوس درس الحياة الإنجليزية في إنجلترا والمستعمرات أن حظ المستعمرات الإنجليزية أفضل من حظ سواها، وأن رعايا إنجلترا أسعد حالا وأوفر نصيبا من العلم والحرية والميسرة ممن عداهم من رعايا فرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال، ويبني على هذا «نظرية أخف الضررين» التي تنتهي بتفضيل إنجلترا في الاستعمار على سواها. وهي نظرية جارحة مؤلمة فوق كونها فاسدة، فقد يلقاك أحد الخوارج من الشرقيين فيقول لك: «الحق أحق بأن يتبع يا أخي! إن حكم الإنجليز أفضل من حكم غيرهم ... تصور أنك خاضع لدولة كذا أو كذا، أفكنت تقدر على كيت وكيت من النعم المعنوية والمادية التي أنت متمتع بها؟» ... هؤلاء الخوارج الذين في قلوبهم مرض وفي بصائرهم زيغ، يفرضون أولا وقبل كل شيء أن الشرقي محكوم بالفطرة ومملوك بإرادة أزلية محتومة، فخير له أن يحمد حظه على نعمة الاستعمار الإنجليزي الذي هو أفضل من غيره. ونحن لا نجادل هؤلاء لأن فساد حجتهم ظاهر والدافع لهم على لبس مسوح المبشر معلوم لنا ولكم، ولكننا نجادل الهر ويلهلم ديبليوس الذي يمتدح الاستعمار البريطاني لأنه أقل ضررا من غيره، فقد غاب عن ذهنه أن المستعمرات الإنجليزية أنواع؛ منها ما هو خاص بأجناس سكسونية أو أوروبية مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وهذه سلكت إنجلترا معها مسلك المسالمة والملاينة والمحاسنة بعد ما كابدت من ثورة أمريكا (الولايات المتحدة) التي دارت رحى حروبها من 1775 إلى 1783. والنوع الثاني: مستعمرات شعوبها تنتمي إلى أجناس ومعتقدات أخرى كالهند وسيلان وزنجبار وأفريقيا الشرقية وغنيا، وهذه الأمم تعاملها إنجلترا معاملة خاصة في سياستها وتعليمها وحكومتها، قد لا تختلف كثيرا عن معاملة هولندا لأهل جاوة وفرنسا لأهل الجزائر ومراكش. وإن الذي يوغر صدر المؤرخ المنصف على الممالك الأوروبية في مستعمراتها هو حكمها لشعوب تخالف جنسها ومعتقداتها، فلو أن هولندا حكمت شعبا أوروبيا هل كانت تسلك في معاملته مسلكها في معاملة أهل جاوا والهند الشرقية؟ وهل مسلك فرنسا في الألزاس واللورين (مهما صرخ المطالبون بالاستقلال) يقرب في شيء من معاملة فرنسا لأهل الجزائر أو أهل سنجال؟ طبعا لا! إذن أفضلية الحكم البريطاني إن كانت هناك أفضلية ظاهرة فهي في مستعمرات أوروبية بالجنس والفطرة، وها هي أيرلندا الجزيرة الزمردية التي لا تبعد عن لندن إلا بضعة أميال لم تنل استقلالها الذاتي إلا بشق الأنفس وبعد أن خربت مدائنها العامرة وفني عظماء رجالها وقاست في الحروب الأهلية ما لا يزال ذكره حاضرا في أذهاننا.
ولعل الهر ويلهلم ديبليوس لم ينس قانون الإصلاح الذي أدخلته إنجلترا على مستعمراتها في سنة 1832 بعد أن رأت تغير الأحوال في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فقد أرغم ساستها على إعطاء الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي لكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وجعلوا لكل من هؤلاء دستورا وبرلمانا ووزارة مسئولة أمام النواب، وهذا هو الشيء الذي يريد الإنجليز إعطاءه للهند الآن بعد أن أعطوه لأستراليا وأخواتها بمائة سنة والهند تأباه. وليست فكرة الاستقلال الذاتي حديثة العهد، إنما ترجع إلى أوائل القرن التاسع عشر، وإليك نصا يؤيدنا من خطبة أحد الوزراء الإنجليز سير ويليام مولزورث في سنة 1850، قال:
Unknown page