Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
لماذا انحصر الاختراع والاكتشاف في أوروبا؟
وقد هجم الأوروبيون بصناعاتهم وبضائعهم على الشرق الذي لا يزال حتى اليوم في دور الزراعة وهو الدور الأول في حياة الأمم، وكان الفلاح الشرقي منذ خمسين عاما ولا يزال إلى الآن يحرث بالمحراث الخشبي ويسقي الأرض بالناعورة والشادوف.
وبديهي أن الكثرة الساحقة من شعب زراعي تكون مستغرقة في الفقر والجهل فلا يتمكن أحدهم من الظهور بعمل نافع، حتى إن المرحوم محمد علي باشا كان يأمر بخطف الأولاد من الحقول لتعليمهم في المدارس، ومن هؤلاء المخطوفين والمساقين إلى التعليم رغم أنوفهم خرجت فئات النوابغ الذين كانوا فخر مصر في مستهل القرن التاسع عشر وأواسطه. أما الفئة القليلة التي اشتملت على الأشداء أهل الجراءة والإقدام الذين كانوا من الهمة والنشاط بحيث لا يبالون بنسخ العادات العتيقة والأوضاع القديمة البالية ويريدون الخروج من القيود التي قيدتهم بها الأجيال السالفة؛ فكانوا من الفقر بحيث تعوقهم قلة رءوس الأموال عن الأعمال الجليلة.
وإنني لا أنكر أن في الشرق أموالا مكدسة، ولكن الشرقي مفطور على دفن المال وتخبئته في بطن الأرض.
وقد روى خصمنا اللدود إيڤلين بارنج المسمى لورد كرومر في أحد تقاريره أن رجلا في صعيد مصر اشترى ألف فدان ودفع ثمنها ذهبا صفقة واحدة، وجاء المال من جهة مجهولة محملا على قطيع من الحمير التي تستعمل في نقل السماد! وقد شهدت في العهد الأخير 1930 حادثة وقعت في قرية الكلح من مديرية قنا خلاصتها أن رجلا كان يخفي تسعة وعشرين ألف جنيه في بيته المبني بالطين، فاتفق ابنه مع آخرين على سرقتها وسرقوها ثم اكتشفت وردت إلى صاحبها، وهذا الرجل لم يفكر في استثمارها في أي عمل نافع. وغيره مئات بل ألوف في الشرق عامة وفي مصر خاصة يكومون الثروة النقدية ويضنون بها على الأعمال ويحبسونها حبسا قبيحا ويبخلون حتى على أنفسهم وأولادهم كأنهم حراس عليها لمن يبددها بعدهم أو يسرقها، ومن هذا النوع نظام الوقف المنحوس الذي يحبس عقار الواقف ليضمن أرزاق أولاده وأحفاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ... وهذا الحبس نفسه دليل على عدم تمسك المسلمين بالقضاء والقدر وضمان الأرزاق، إذ لو آمنوا بذلك لعلموا أولادهم وتركوهم يسعون في الأرض في سبيل معايشهم كما يصنع أغنياء الأوروبيين والأمريكان. وكأني بالشرقي والمصري لا يحسب المال وسيلة للكسب والربح أو ذريعة لتبادل المنافع، بل كان يحسبه كنزا يجب على صاحبه أن يحرص على إخفائه ودفنه ليوم عبوس قمطرير، ومن أمثالهم «القرش الأبيض ينفع في النهار الأسود»!
فكان استجلاب البضائع الأوروبية وسيلة لاستخراج تلك الكنوز بحيلة شيطانية، فإن الأوروبي عمل على تعطيل نهضة الشرق وانتقاله من طور الزراعة إلى طور الصناعة فتراكمت الأموال لديه والشرقي محتاج إلى تلك الصناعات، فأقبل مضطرا في أول الأمر على شراء منتوجات أوروبا حتى النسيج الذي يصنع منه ثيابه. والعجيب أن القطن المصري الذي كان يباع بأقل الأثمان يذهب إلى أوروبا ويعود في شكل قماش فيباع بأغلى الأثمان، وربما كان قنطار القطن الذي ثمنه أربعة أو خمسة جنيهات يباع لنا بمائة أو مائتين من الجنيهات، فالفرق بين ثمن الخام وبين المصنوع يقع في جيوب الأجانب فينتفع به عمالهم وأرباب المصانع وذوو رءوس الأموال وشركات النقل والملاحة. وكان الجدير بنا أن تكون لنا كل تلك الثمرة، والأدهى أن الجيد من محصولاتنا لا يصل إلى أيدينا، فالقطن الجيد تصنع منه أقمشة لا نراها ولا يرد إلينا إلا المصنوع من القطن الوسط والرديء. وكان رجال فضلاء أمثال المرحوم الجمال يسافر في كل عام إلى إنجلترا ليطلب «طلبية» من المصانع ويتفنن في اختيار الرسوم والألوان ويشدد في عدد الخيوط التي تدخل في النسيج سدى ولحمة، ولكنه لم يفكر يوما في أن يصنع بنفسه نسيجا لمتاجره، ولعله لجأ إلى بعض الأغنياء فخذلوه أو حسدوه وأبوا أن يكون له الفضل في مثل هذا الابتكار. وفي حين أن أكابر السائحين كانوا يقبلون على شراء منسوجاتنا الجميلة من الحرير والقصب والمخمل ويدفعون الألوف ثمنا للسجاجيد الشرقية أو الأواني النحاسية المنقوشة أو للخشب المطعم بالصدف والعاج، كنت ترانا مرغمين بحكم الاستعجال والفقر والاضطرار مقبلين على شراء أحقر الأقمشة التي ترد إلينا من فبريقاتهم. وقد كان للمرأة المصرية الجاهلة أعظم نصيب في خراب المصري الوسط والغني، لأن جهلها وبذخها وغرورها وبغضها للبساطة والجمال الطبيعي أغرتها جميعا على الإقبال على المتاجر الإفرنجية لتشتري منها صنوف الحرير والمخمل والكريب دي شين والكريب جورجيت والفايلا والمانيلا والباتستا والحرير الهندي (اسما فقط) والدنتلات والشرائط والخروجات والخرز ومئات الأصناف من حاجات لبسها وزينتها. فكانت المرأة المصرية الآخذة بأهداب المودة تنهب أموال أسرتها المصرية لتصبها في جيوب الأجانب بإسراف لم يسبق له مثيل، دع عنك ما تنفقه في أسباب الزينة والتواليت الخداعة من دهون ومساحيق وكحل وعطور بعد أن أعرضت عن «حسن يوسف» و«خضاب الميدان» وصنوف الطيب والعطور التي تملأ حوانيت التربيعة، وإن كان معظمها مستجلبا واأسفاه من أوروبا! ولم يكن الرجل الشرقي بأقل إقبالا على خراب نفسه من هذه الجهة، فإنه إذا كان يلبس الملابس الإفرنجية فهو من رأسه إلى أخمص قدمه مجهز من أوروبا، فطربوشه من النمسا، وزره من تركيا، وقميصه من فرنسا، وربطة عنقه من إيطاليا، وزرايره من تشيكوسلوڤاكيا، وقماش بدلته من شفيلد أو برمنجهام أو ولڤرهامبتون، وجواربه من أمريكا أو لندن، وحذاؤه من إنجلترا أو سويسرا، وثيابه التحتانية الصوفية منها والقطنية من ألمانيا أو اليابان، ولم يبق بعد ذلك إلا صورة اللحم والدم، والله أعلم كم من الأمم اشتركت في تكوينها! دع عنك عاداته الأخرى اليومية فهو يركب في سيارة إنجليزية أو فرنسية ويشرب مشروبا أسكتلنديا ويدخن سجاير من هولندا ويقبض على عصا مصنوعة في يوجوسلافيا.
الحاجات الجديدة خلقت عادات جديدة
وقد كانت أوروبا في إدخال صناعاتها ومتاجرها في بلادنا حاذقة ماكرة، إنها عرفت أن عرض البضاعة يجذب الأفكار إليها، وأن شراءها يوجد فينا عادة تتأصل في نفوسنا، والإنسان بطبيعته أسير عادته ورهن حاجته التي تصبو نفسه إليها. وقد قرأت مرة أن رجلا أحب فتاة فقيرة جميلة وأراد أن يستولي عليها رغم إرادتها فأرسل إليها من عودها على التأنق في الملبس والمأكل ثم فارقها، فاحتاجت إلى ما ذاقته من أطراف النعمة فوقعت فريسة سهلة في حبائل عاشقها الذي أسرها بما كان ينقصها مما تعودته من ضروب البذخ والرفاهية، فباعت نفسها له بيع السماح، وقد كان هذا هو عين الدور الذي لعبته معنا أوروبا فإنها فتنتنا بمخترعاتها وصناعاتها حتى تعودناها ثم تركتنا نجري وراءها، وقد قال أحد علماء الاقتصاد الغربي:
إن الاطلاع على المخترعات العصرية وأنواع الأغذية والآنية الحديثة مما لم يكن موجودا من قبل قد دعا إلى ظهور حاجات جديدة ما لبثت أن ساقت المنازع النفسية حتى رسخت واستقرت فيها.
لقد أتممت دراستي الثانوية والعليا على نور مصباح البترول، ولكنني منذ تعودت القراءة على نور الكهرباء لا أستطيع الرجوع إلى غاز الاستصباح إلا مضطرا وفي ظروف قاهرة، وكنت أنام قبل سفري إلى أوروبا على سرير من الحديد (صنع فيلبس من فضلك!) فلما رأيت في أوروبا أسرة الخشب ونمت عليها واستطبتها لم تعد أسرة الحديد تحلو لي. وكنت قبل سفري إلى أوروبا آكل مع أهلي على «الطابلية» أو الخوان وأجلس متربعا، والآن لا أملك الأكل إلا جالسا على كرسي أمام مائدة أوروبية ... وقس على ذلك تلمس داءنا الدفين الذي تواطأنا بجهلنا مع أوروبا على تمكينه من أفئدتنا وعقولنا، لقد رأيت عمالا من اليابان في إحدى البواخر الأوروبية إذا حان وقت الطعام ينتحون جانبا ويأخذون في الأكل من أوعية ملئت أرزا وفي أيديهم قضبان صغيرة من الخشب يلتقفون بها حبات الأرز بسرعة مدهشة تدعو إلى العجب ثم يشربون الشاي الذي صنعوه في آنية يابانية فعجبت لهم، وعجبت كيف أنهم وهم يخالطون الأوروبيين ويعملون في خدمتهم قد أعرضوا عن الموائد الحافلة بصحاف اللحم والمرق والأسماك والخضر والبقول واكتفوا بطعامهم هذا على طريقتهم الوطنية. وقد اقتنعت أن تمسكهم بعاداتهم (حتى إنني رأيت بعض النبيلات منهن على ظهر تلك الباخرة يحملن وراء ظهورهن وسائد هي رمز الشرف ولم يتخلين عنها)، لم يكن ذلك التمسك عائقا لهم عن مجاراة الأوروبيين في المدنية المادية والقوة الحربية وحشد الجيوش وتجهيز الأساطيل وإطلاق المدافع.
Unknown page