Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
وربما يكون الإصلاح الاجتماعي جزءا من عمل الزعيم السياسي، فيندمج فيه.
ولا يوجد مصلح اجتماعي محض فيمن نذكر في الأزمنة الحديثة سوى قاسم أمين، فهو مثال للمصلح الاجتماعي الصافي، الخالص من كل الصفات الأخرى، فقد كان هذا الرجل قاضيا، وكان تعليمه وحياته العملية يدفعانه نحو الإصلاح الاجتماعي المحض.
وقد عاش في زمن كانت مصر فيه أحوج ما تكون إلى مثله. لقد قالوا إنه كردي الأصل، وهذا لا يهمني فإنه ليس من الممكن في مصر أن تستخلص رجلا منحدرا من أصل مصري مؤكد إلا في أقاصي الصعيد، وهو يكون في الغالب أشبه الناس بالمصريين القدماء ويعمل غالبا في خدمة الأرض والزراعة. ولكن الطبقة المتعلمة والمنورة والتي تخرج بعض الرجال النافعين هي خلاصة شعوب مختلفة، ولذا فأنا لا أكترث لكردية المرحوم قاسم أمين، وأعتبره مصريا بكل معاني الكلمة، لأنه ولد هو وأبوه وأمه في مصر وعاش وتربى وتغذى بلبان مصر، وتعلم لأجل مصر، وخدم مصر في حياته الخاصة والعامة، وأسس أسرة مصرية وهذا يكفي. رأى هذا المصلح المصري قبيل وفاته بعشر سنين ما وصلنا إليه من التدهور والانحطاط بسبب تفكك الروابط العائلية، وقد رد هذا الانحطاط إلى جهل المرأة وتقييدها فاستجمع شجاعته ووضع كتاب «تحرير المرأة»، الذي يعد بالنسبة لمصر من أعظم الكتب في التاريخ الحديث. فماذا كانت عاقبته؟
لقد قامت عليه القيامة من كل ناحية، واضطهد وأهين وصوبت نحوه سهام النقد الشديد حتى من رجل يعدونه في مقدمة أهل مصر ذكاء وحرية تفكير وتعليما، وصار اسمه مضغة في الأفواه، ونسب إليه الأشرار ما نسبوا، وانطلقت ألسنة السوء تعيبه وتفند رأيه، وألفوا أكثر من مائة كتاب وسودوا ألوف المقالات في الرد عليه وتخطئته.
لا أدري إن كان قاسم قد اغتبط بهذه الحركة التي قامت ضده وقد رأى بنظره الثاقب أن هذه الضجة دليل الحياة، وأنها رد فعل يدل على وجود المصريين وشعورهم، وأن الذي يناقش اليوم رأيا ليخطئه قد يقتنع غدا بصحته. وقد تشجع قاسم وكتب كتاب «المرأة الجديدة»، فاستقبل وابلا من القذف والسب والقدح في هذه المرة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وانبرى للرد عليه كتاب من شمال أفريقيا والشام والعراق والحجاز والهند وإندونيسيا، وكان في مقدمة هؤلاء كلهم علماء الرسوم الذين أغروا به العامة، وهؤلاء العلماء الجهلاء (إن صح الجمع بين الصفتين) كانوا يعلمون ما وراء حركة قاسم من الإصلاح، ويعلمون أنه لم يخرج في اقتراحه عن حدود الشرع الشريف، وأنه استشهد في كتابيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار السلف الصالح.
بل إن هؤلاء العلماء اتخذوا كتابي قاسم وسيلة للنيل من صديقه ورفيقه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده، وهو مصلح ديني ممن لقوا أشد صنوف التنكيل في سبيل مبادئهم، وادعوا أن قاسما لم يكن وحده في اقتراف هذه الجريمة، بل إن الذي ساعده وعضده وأخذ بيده هو الشيخ محمد عبده فرموا طائرين بحجر: رموا قاسما بالضعف إلى درجة الاستعانة في آرائه بالمفتي، ورموا المفتي بالنفاق والجبن إلى درجة أنه لم يستطع الظهور بشخصه في الدفاع عن آرائه. وكانت جريدة المؤيد في مقدمة الصحف التي أشعلت نار تلك الفتنة، مع أن صاحبها المرحوم كان على وشك إحداث أعظم فضيحة زوجية في تاريخ مصر الحديث.
كان قاسم أمين في هذا الوقت قد فرغ من الدفاع عن الأمة المصرية بل عن الشرق كله ضد النقاد الأجانب، فإن الكونت دارنبورغ الفرنسي المستشرق كتب رسالة في الطعن على المصريين وعدم صلاحيتهم للعلم والسياسة ونشرها في بلاده، فانبرى له قاسم ووضع باللغة الفرنسوية كتابا اسمه «المصري»، دافع فيه أعظم دفاع وأمجده عن الأمة المصرية بأسرها في تاريخها وفي أخلاقها وفي ذكائها وفي آدابها واستعدادها القومي للتمتع بالحقوق العامة (والكتاب مطبوع، ولم يعن أحد بترجمته إلى العربية)، تلك الأمة التي كان كتابها ينهشون في لحمه بسبب رغبته في الإصلاح. في سنة 1903 ظهرت قضية الزوجية بين المرحومين السيد عبد الخالق السادات والسيد الحسيب النسيب الشيخ علي يوسف شيخ السجادة الوفائية، ولعب فيها لفيف من كبراء رجال الدين والأدب والقضاء أدوارا مهمة، والعجيب أن هذه الفضيحة كان سببها جهل المرأة وفساد العادات القديمة في الحياة والزواج، فلو أن المرأة المصرية كانت متعلمة ولو أن الآباء كانوا يحترمون بناتهم ويحترمون حريتهن، أي لو أنهم تبعوا خطة قاسم في التعليم والتربية الأنثوية ما وقعت تلك الفضيحة التي كانت بمثابة قضية مدام كايو في فرنسا شهرة.
بعد ذلك بعام توفي الشيخ محمد عبده. وفي سنة 1908، أي قبل أن تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب «تحرير المرأة» توفي قاسم أمين في ظروف محزنة.
فإنه في أواخر شهر أبريل سنة 1908، وبعد شهرين من تاريخ وفاة المرحوم مصطفى كامل زارت مصر طائفة من الطلاب والطالبات الرومانية وزاروا نادي المدارس العليا، وألقى المرحوم قاسم أمين محاضرة باللغة الفرنسوية، قال فيها إنه يتمنى أن يعيش ليرى بعينه الفتى المصري والفتاة المصرية جنبا إلى جنب في طلب العلم والسياحة وفي معاهد التربية والتهذيب، وذهب إلى داره حيث جلس على مقعد وثير في غرفة الجلوس وشرب قدحا من الماء ولفافة من الطباق، ثم تأوه وسقط ميتا.
ربما كان البحث في الزعامة السياسية أصعب مبحث في هذا المجال.
Unknown page