مقدمة
1 - الزعماء في الشرق
2 - الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
3 - بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق
4 - تألب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام
5 - الأديان في الشرق وتحول بعض شعوب العالم عن المعتقدات
6 - أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
7 - الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته
8 - سبب انحطاط العرب وتاريخ الدولة البحرية الإسلامية العظمى
9 - مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
10 - المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
11 - الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس
12 - التناسل في الشرق والحالتان السياسية والاقتصادية
13 - الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
14 - مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
15 - نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
16 - تاريخ الفرس ونهضتها
17 - أمنا الهند
18 - محمد علي وأخوه شوكت
19 - أسباب الانشقاق بين الترك والعرب
20 - بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية
21 - الحركة العربية والخلافة
22 - السياسة الأوروبية في بلاد العرب
23 - العراق قديما وحديثا
24 - العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل
25 - أفريقيا والإسلام والاستعمار
26 - الحلف العربي قديما وحديثا
27 - الحلفاء بعد الحرب يقتسمون الغنيمة
28 - إندونيسيا وجزر الشرق الهندية والاستعمار الهولندي
29 - نظرة عامة وخلاصة رأي المؤلف
مراجع الكتاب «حياة الشرق»
مقدمة
1 - الزعماء في الشرق
2 - الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
3 - بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق
4 - تألب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام
5 - الأديان في الشرق وتحول بعض شعوب العالم عن المعتقدات
6 - أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
7 - الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته
8 - سبب انحطاط العرب وتاريخ الدولة البحرية الإسلامية العظمى
9 - مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
10 - المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
11 - الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس
12 - التناسل في الشرق والحالتان السياسية والاقتصادية
13 - الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
14 - مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
15 - نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
16 - تاريخ الفرس ونهضتها
17 - أمنا الهند
18 - محمد علي وأخوه شوكت
19 - أسباب الانشقاق بين الترك والعرب
20 - بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية
21 - الحركة العربية والخلافة
22 - السياسة الأوروبية في بلاد العرب
23 - العراق قديما وحديثا
24 - العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل
25 - أفريقيا والإسلام والاستعمار
26 - الحلف العربي قديما وحديثا
27 - الحلفاء بعد الحرب يقتسمون الغنيمة
28 - إندونيسيا وجزر الشرق الهندية والاستعمار الهولندي
29 - نظرة عامة وخلاصة رأي المؤلف
مراجع الكتاب «حياة الشرق»
حياة الشرق
حياة الشرق
دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
تأليف
محمد لطفي جمعة
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا (سورة القصص).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (سورة القصص).
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (سورة الأعراف).
وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (سورة آل عمران).
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين (سورة الشعراء).
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (سورة آل عمران).
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (سورة الأنفال).
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (سورة التوبة).
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (سورة التوبة).
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (سورة آل عمران).
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (سورة آل عمران).
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (سورة الأنفال).
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (سورة الرعد).
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (سورة آل عمران).
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (سورة الشورى). «كلام سيدنا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في حديث مسلم، الذي رواه المستورد القرشي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»، فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك». رواه مسلم، جزء ثان، صفحة 500، في باب «تقوم الساعة والروم أكثر الناس.»
مقدمة
في بيان حالة العالم وآمال الشرق في المستقبل
لا ريب في أن العالم بجميع أقطاره، وشعوبه، وحكوماته، يجتاز الآن مرحلة من أشد مراحل التاريخ وعورة، وسواء في ذلك الشرق والغرب، فالعالم اليوم في مفترق الطرق، العالم القديم والعالم الجديد، مضطربان مرتبكان يبحثان عن وسائل النجاة، فكأن الدنيا تتمخض عن حوادث كبار، والإنسانية بأسرها تنتظر بفارغ الصبر مولد تلك الحوادث، ولكنها لا تعلم شيئا عن حقيقتها، ولا تستطيع التكهن بمصيرها.
وقد أصبح قياس المستقبل على الماضي والحاضر نوعا من الخطأ في التقدير، وصار استنتاج المجهول من المعلوم خرقا في الرأي ومجازفة في التعليل والتدليل، فالإنسانية حيرى ولسان حالها يقول كيف السبيل؟ فإنه لم يكد هذا القرن العشرون ينبثق نور شمسه حتى علقت الإنسانية عليه أعظم الآمال، وأفسح الأماني، وذلك بعد أن تمكنت مبادئ الحرية من النفوس، وتشبعت بها أفئدة الشعوب التي باتت ترقب ساعة الخلاص. ولم يكد ينصرم القرن 19 حتى أخذ أنصار العلم يمنون الإنسانية بعصر الذهب بعد عصر الحديد، ويشيدون قصورا من الآمال الجميلة على أسس التفكير الحديث، ويحاولون بإخلاص إقناع البشرية بأن عصور الجهاد والمكافحة في سبيل الرزق وأجيال مقاومة الطبيعة في سبيل التمتع بالسعادة بالحياة قد مضت وانقضت، وأن المدنية الحديثة قد قلبت صفحة جديدة في سجل الوجود الإنساني. وكان رجال السياسة يبشرون العالم بعهد السكينة والسلام، ويؤكدون لرعاياهم والأمم المختلفة أن قد استتب الأمن في جميع أنحاء العالم، وأن الطبيعة فتحت للإنسان كنوزها فملك ناصية الكهرباء والأثير، وصعد إلى أجواز الفضاء، كما غاص في قاع المحيط، وأن الحياة الاقتصادية ستأخذ مجراها في أفضل الظروف وأسعدها بحيث تنفرج الأزمات ويزول الضيق من العالم، وتصبح الحياة الاقتصادية مرآة تنجلي فيها صنوف اليسر والنعيم وصور الرخاء الدائم، فتتقلب الأمم في فراش من البحبوحة والهناء، وسوف يستطيع الرجل من أية طبقة كان تعليم ولده، وعلاج مرضه، وضمان شيخوخته وراحته في كبره لدى ضعفه وعجزه.
وأكد لنا المكتشفون والمخترعون أن الإنسان الحديث قد أتته الطبيعة مختارة تجرر أذيالها، فأسلمته زمامها وباحت له بأسرارها، فتناول قيادها، ووقف على ما خفي من أمرها، وتمكن بذلك من السيادة المطلقة على قواها، كما أن الدنيا قد أخرجت له خفاياها وأظهرت له ما بطن من أمرها، فاستخرج الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة من جوف الأرض، واستنطق الجماد وسخر البخار، وجلس على بساط سليمان، وقبض بيده على مفتاح أوزوريس، فصار بحق خليفة الله في الأرض لإصلاحها وعمرانها، وارتقت العلوم والفنون بأنواعها، وانتشرت الكتب والصحف في جميع الأرجاء، وتخصص رجال لكل فن من الفنون، وكادت الدنيا تبلغ غاية الكمال في زينتها وجمال مبانيها وفخامة مؤسساتها، وكان كل شيء في الحق يدعو للتفاؤل وحسن الظن بالأيام، وناهيك بجيل بدأ بنشر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، بفضل الثورة الفرنسية الكبرى!
ولكن هذه السعادة لم تكن، واأسفاه، إلا وهما، أو حلما لذيذا، أو برقا لامعا في دياجير الحياة! فإن ذلك الحلم لم يلبث أن زال وأعقبته يقظة فاجعة، راحت الرؤيا الجميلة وجاءت بعدها إفاقة مروعة.
وبدأت في مستهل القرن سلسلة حروب في الشرق والغرب والشمال والجنوب، بين بريطانيا والبوير، وبين روسيا واليابان، وبين تركيا وإيطاليا، ثم بين تركيا ودويلات البلقان. ولم يكد العقد الثاني من القرن العشرين يشارف على نهاية شطره الأول حتى شبت نار الحرب الكبرى التي اجتاحت العالمين وأنذرت الدنيا بأسرها بالويل والعظائم.
فغيرت الحرب وجه العالم، ولا يزال يعاني آثارها. وكان الناس يزعمون أثناء صلصلة السيوف وقصف المدافع، في الفترات التي تعقب أزيز الطيارات المهاجمة وفي جو مفعم بسموم الغازات الخانقة؛ أن الذين يصبرون على ويلات هذه الحرب ويصمدون لها سوف يجنون بعد نهايتها ثمرات السعادة والغنى المتوافر والهناءة التي ليس بعدها هناءة ... فأثبتت الأيام أن هذه التكهنات لم تكن سوى تخرصات من نوع الدعاية القائمة على أساس سياسة «سوف ترى ما يسرك» أو ما يطلق عليه بعض ساسة الإنجليز
Wait and see
.
وكان محتوما في ألواح القضاء والقدر أن هذا الحلم الثاني ينهار أيضا كسابقه، وترغم الإنسانية على مواجهة الحياة بحقيقتها، فإذا الحرب تنتهي وتجر وراءها ويلات أشد من ويلاتها إبان اشتعالها؛ ديونا وغرامات تفرض، وعروشا تثل، وطرقا جديدة للاستعمار تشرع، وعصبة أمم تتكشف عن منتهى العجز والخيبة، ومعاهدات سرية ضد الأمم الضعيفة ، وشيوعية منحوسة مجرمة في روسيا تحارب الأديان وتحتقر حقوق الملك الخاص، وتهزأ بروابط الأسرة، وتحاول المساواة بين البشر على أسس كاذبة باطلة، وغايتها سيادة بضعة أفراد على شعوب كبيرة عظيمة، ثم تفلس تلك العصبة الشيوعية في النهاية لعدم صلاحيتها، فتخجل أن تعلن إفلاسها وتضطر للمساومة في مبادئها فتبدو للعالم كالتاجر الذي يفلس مدلسا ومزورا فيستحق السجن والفضيحة!
ونحن نكتب هذه الأسطر، يقيم في القاهرة ثلاثة ضيوف كرام يمثلون مسلمي روسيا، وهم السيد النبيل سعيد بك شامل حفيد البطل العظيم المغفور له الشيخ أحمد شامل إمام مجاهدي القوقاز الذي سلخ في مكافحة الروس أربعا وأربعين سنة، معتمدا على الإيمان بالله ومستندا إلى حب الوطن.
والثاني حضرة العالم الفاضل والخطيب البليغ والذكي الأريب عياض إسحاقي بك ممثل مسلمي بلاد أورال، وهي تلك البلاد التي أنبتت فيما مضى طائفة فاضلة من علماء الإسلام وفحوله. والسيد موسى جار الله ممثل مسلمي تركستان الشرقية.
وقد وفدوا على مصر بعد اختتام المؤتمر الإسلامي ببيت المقدس، ليشرحوا لمسلمي مصر مبلغ ما يلاقيه موفدوهم من ظلم البلشفيك، فلا رزق ولا راحة ولا أمان عند هؤلاء المسلمين الذين أخضعتهم طوارئ الحدثان لظلم طغاة بطرسبرج وموسكو.
لقد جاء هؤلاء الزعماء إلى مصر عقيب انفضاض المؤتمر، لاعتقادهم واعتقاد موفديهم من المسلمين المضطهدين أن مصر هي فؤاد الإسلام الخافق ورأسه المفكر ومناره الذي يشع منه النور على كل ضال وتائه وحائر، ومصدر معونة لكل ملهوف ومستغيث ومستنجد ومستنصر في بلاد المسلمين، ومقر العلوم الإسلامية ومنبت الثقافة الشرقية ومهد الحضارة.
وقد راعنا وراع كل شرقي ما يقاسيه إخواننا أهل القوقاز والتركستان والأورال المسلمون من مظالم روسيا البلشفية المشاعية المتعصبة الممقوتة، بعد أن ألقى عياض بك إسحاقيعلى خير معونته وحسن والأمير سعيد شامل في المؤتمر الإسلامي وفي مدينة القاهرة (يناير سنة 1932) نتفا من أنواع الاضطهاد والتعذيب التي يذوق هؤلاء الإخوان مرارتها، ولم ندهش فإن روسيا البلشفية هي بنفسها روسيا القيصرية في التعصب الديني وبغض الشرق والإسلام [أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال].
وإنا ننتهز هذه الفرصة لنؤكد ونعلن على الملأ مضار البلشفية للإسلام والشرق، وعدم صلاحيتها بعضها أو كلها لشعوبنا، فإن الإسلام غني بمبادئ الإصلاح والمساواة والإحسان والعدل والحرية بما لا يوجد عند البلشفيك أو غيرهم.
وكل مسلم أو شرقي يتشيع للشيوعية يكون عدو نفسه وعدو وطنه ودينه، وهذا البرهان ماثل في بلادهم. ونحث كل مسلم على مد يد المعونة لتلك الشعوب الرازحة تحت مظالمهم. •••
وقد تلا الحرب العظمى هجوم جديد من الغرب ضد الشرق، فتحاول إنجلترا إذ ذاك القضاء على تركيا في آسيا فتسلح يد ذلك المغامر الشيخ الرومي فيشهر على تركيا حربا دينية يجاهر فيها بأنه يريد القضاء الأخير على دولة الإسلام الوحيدة في أوروبا وإعادة كنيسة أيا صوفيا إلى ما كانت عليه قبل فتح محمد الثاني القسطنطينية في 1453، ونصب هذا الشيخ الذي نشأ وتربى بعتبات الأتراك وفي حمى حكامهم، وفي جزيرة كانت خاضعة لهم عندما كان هو وأجداده في عالم العدم، نصب هذا الشيخ نفسه زعيما للنصرانية ضد الإسلام ونصيرا للغرب على الشرق، وتخيل نفسه شبحا حديثا لثمستوكليس الذي رد غائلة الفرس عن اليونان قبل العصر المسيحي ببضعة أجيال. ولكن حلم هذا الشيخ المجازف المغامر قد انهار وتحطم فسقط شر سقطة، وجر معه في الهاوية ذلك الوزير الإنجليزي الكبير الذي كسب الحرب وخسر نفسه، وكان المشجع الوحيد للوزير الرومي في حرب الأناضول، فسقط الرجلان في يوم واحد، وفر الرومي إلى أوروبا وهوى الثاني عن كرسي الرياسة في دوننج ستريت. ويرجع الفضل في تلك الهزيمة الشنعاء التي كانت أقل ما يستحقه ذانك السياسيان المغامران؛ إلى رجل تركيا الأوحد وبطلها الأمجد، زعيم الحرب والسياسة ومصلح العصر الحديث مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية ومبيد عهد الاستبداد والرق.
وكان من المحتم أن تتطور الحياة في العالم بعد شرور الحرب وأوزارها تطورا ينبئ عن مستقبل الإنسانية الذي لعبت به أوروبا المستهترة وجعلته من أدوات لهوها ومطامعها؛ فكان في روسيا ما كان، واستولى مغامر يدعى بيلاكون على السلطة في المجر، وثارت ألمانيا بقيادة امرأة فوضوية اسمها روز لوجزمبرج لم تلبث أن قتلت في الشوارع، وهاج العمال في إيطاليا واستولوا على المصانع والمعامل، وحصلت فتن وثورات في الشرق والغرب، بعضها على حق مثل نهضة مصر وكثير منها على باطل.
وفي أوروبا تقدم رجال ظنوا في أنفسهم قوة الحكم المطلق المفرد فبدأ عهد الديكتاتوريات الحديث، فظهر بنجالوس في اليونان وبريمو دي ريڤيرا في إسبانيا وموسوليني في إيطاليا، وأشباه لهم في بولونيا ويوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، واستبد بعض القواد في الصين وفي بلاد العرب، وبالجملة تزعزعت ثقة الأمم بالحياة الدستورية وظهر عجز حكم الجماعة المنتخبة، وأعلن بعض المفكرين إفلاس النظم النيابية، إما لمآرب شخصية وإما لاعتقادهم بنية حسنة. غير أن مما يجدر بالنظر أن هؤلاء المستبدين «من طراز 1920» لم يتخلوا عن المجالس النيابية ولم يلغوا الدساتير وهي حقوق الشعوب المكتسبة، إنما أبقوا عليها وأبقوا على زمامها في أيديهم، فكان مثلهم كمثل مروض الوحوش الكاسرة والحيوانات المفترسة يقنصها ويغذيها وهي سجينة.
ونحن نكتب تلك الكلمة نكاد نسمع صدى أصوات الحرب في منشوريا بين الصين واليابان، وتوشك الحرب أن تعلن في أوروبا من جراء استفحال الأزمة المالية التي ضيقت الخناق على العالم، والمعركة حامية بين ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنجلترا، ويصح أن يقال اليوم: «إن الحرب على الأبواب!»
وأنصار السلم أنفسهم يزعمون أن الاستعداد للحرب يقضي على شبح الحرب، ولورد لويد الذي كان سفير إنجلترا في مصر وعزلته حكومة العمال إن صدقا وإن كذبا، والله أعلم بالسرائر؛ ينصح اليوم لأمته بالتسلح، ويبذل قصارى جهده في إقناع بريطانيا بالاستعداد للحرب.
وأمريكا أو جمهورية الولايات المتحدة واقفة موقفا مريبا، فهي تميل إلى إلغاء ديون الحرب التي تئن منها ألمانيا بعد أن ثبت عجزها عن الدفع، ولكنها لا تستطيع المجاهرة برأيها أو الظهور في الميدان الدولي بمظهر الحكم والمسيطر، لئلا تلقى من الخيبة والسخرية ما يعد جوابا صريحا وردا بليغا على سياسة ويلسون الخادعة المخدوعة.
وتكاد الهند تلتهب عقيب عودة غاندي من إنجلترا بعد فشل مؤتمر المنضدة المستديرة للمرة الثانية.
ومن الأمور التي حدثت أثناء طبع هذا الكتاب فشل مؤتمر المنضدة المستديرة المذكور وعودة غاندي إلى الهند واعتقاله بعد يومين من عودته ولما يسترح من وعثاء السفر ولما يجف مداد مقالات الإعجاب التي دبجتها أقلام كتاب الإنجليز، فكان لاعتقاله ضجة عظيمة واحتج العالم المتحضر، ولا سيما أن الرجل لم يتحول عن إعلان نصحه لشعبه وكل الشعوب المغلوبة بالمسالمة وعدم العنف والمقاومة السلبية التي تقنع الخصم ولا تؤذيه، فوقعت بسبب اعتقاله معارك ومواقع كان اتقاؤها خيرا وأولى، فنحن نعرب عن إعجابنا بغاندي ونعجب بحبه السلام وعدم العنف ونرسل إليه تحيتنا وندعو له ولوطنه بالنجاح! ويسوءنا أن يبقى المسلمون من الهنود بمعزل عن الجهاد السلمي الشريف في سبيل الحرية، فإن الهند ليست وطنا للهندوكيين وحدهم بل إنها وطن للجميع، وقد سرنا انتخاب أبي الكلام زعيما.
الآن تكاد حركة العالم تقف بعد أن وقف فعلا دولاب الحياة الاقتصادية في معظم أنحاء العالم، وأصبح العاطلون من عمال العالم يعدون بالملايين في الشرق والغرب حتى شرعت الحكومة المصرية نفسها تحصي العاطلين، وليس العطل في عصرنا كالعطل فيما مضى، لأن معناه الآن الموت جوعا وبردا في العراء!
فالقوت الضروري غير موجود عند معظم العاطلين، والثوب الذي يستر العورة نعمة كانت ثم زالت، مما يجعل الحياة الإنسانية أقسى منها في أي عصر سابق.
والسبب الجوهري في هذه الحال التي يئن منها العالم انقسام الإنسانية إلى شطرين: الشطر الأول هو أوروبا والشطر الثاني هو الشرق. وأوروبا تريد اغتيال الشرق واستغلاله والقضاء على مصادر الحياة فيه وتسخيره لأغراضها حتى في محاربة أعدائها - ولو كانوا من الأوروبيين أنفسهم - وفي قهر أهل الشرق من سكان المستعمرات، كما صنعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أثناء الحرب وبعدها.
وبيان ذلك أن الشرق بدأ منذ خمسين عاما يتنبه من غفلته ويستيقظ بعد طول الرقاد، وأصبح الشرق يرى لنفسه الحق في الحياة، أصبح الشرق بأممه وشعوبه وأفراده وحكوماته يريد الحياة الحرة والسعادة المادية والمساواة بينه وبين أمم الغرب. وأصبح الشرقي بعد وقوفه على خفايا السياسة الأوروبية التي فضحتها الحرب العظمى لا يرى لأحد من أهل أوروبا حقا في التسلط على بلاده مباشرة أو بالواسطة. وأصبحت العلوم والمبادئ والفلسفة ملكا مشاعا للجميع، وليس في خزائن الغرب أسرار خفية ولا مخبآت غامضة حتى ولا المعاهدات السرية التي كانت غايتها التواطؤ بين ممالك أوروبا على اغتيال الشرق واللعب بمقدراته، فقد نشرت كلها على الملأ وأصبحت خبرا مذاعا.
وكان الفضل الأول في نهضة الشرق لليابان، فإن تلك الدولة الفتية أو بلاد «الشمس المشرقة» قد فاجأت العالم بيقظتها وقوتها وقدرتها على هضم الحضارة الحديثة، مع التمسك بوطنيتها وجنسيتها ومعتقداتها. وما أبلغ ما قاله الأمير شكيب أرسلان في كتاب منشور في مجلة الكويت والعراقي التي تصدر في بوتنزورخ من أعمال إندونيسيا (العدد الرابع الصادر في غرة شعبان سنة 1350)! قال الأمير:
رائحة التفرنج تؤذيني، فالتفرنج لا يفيد شيئا، والتعلم غير التفرنج، واليابانيون تعلموا وبقوا يابانيين بجميع عواطفهم وأطوارهم وأوضاعهم. والإسلام قوة معنوية عظيمة لا حد لها، ليس لنا الآن غيرها في وجه القوتين الهائلتين ...
ولم تنشر المجلة بقية الجملة، ولعل الأمير يقصد بالقوتين الهائلتين أوروبا والاستعمار أو الاستعمار والمسيحية.
فخشيت المجلة عاقبة التصريح بكلمة المسيحية.
والحقيقة أن المسيحية الحقة الصادقة ليست هي الملومة وليست مسئولة عن شيء ولا يمكن أن تؤدي إلى الاستعمار أو البغضاء أو المطامع الأشعبية أو إذلال الأمم، ولكن تعصب الأمم الأوروبية التي تنتسب إلى المسيحية خطأ وكذبا هو الذنب الأعظم، وهو الذي يظنه الناس ممثلا للمسيحية مع أن هذا التعصب الذميم ليس من الدين المسيحي المجيد في شيء، لأن دين عيسى دين حب وعطف وحنان ورحمة وسماحة.
ويصح أن يقول الأمير شكيب: والقوتان الهائلتان الاستعمار وتعصب شعوب أوروبا التي تنتسب كذبا إلى الدين المسيحي المجيد.
وبهذه المناسبة نذكر أن أوروبا هاجمت الشرق بالتبشير في مراكش وطرابلس كما تهاجمه في مصر وجزائر الهند الشرقية، وقد شهدنا أخيرا في مصر أن بعض أوساط التبشير قد وصل بها الاستهتار بمبادئ حرية الأديان التي تنادي بها في أوطانها إلى درجة أن استهوت شابا مسلما وحولته عن عقيدته تارة بالتنويم المغناطيسي وطورا بالاستهواء والترغيب حتى انقطع عن مدرسته وبيته، وشرعوا فعلا في إقصائه عن القطر المصري ونقله خفية إلى بعض جهات العالم الجديد لولا تدخل الحكومة المصرية والصحف في أمره.
أما في جزر الهند الشرقية فقد استعملت حكومة هولندا كل الوسائل في تنصير المسلمين من أهل جاوا، حتى بلغ عددهم في هذه السنة ستين ألفا انتقلوا من الدين الإسلامي إلى الدين المسيحي، وقد كان عدد الحجاج الجاويين الذين يقصدون إلى الأماكن المقدسة بالحجاز في كل عام ستين ألفا فصاروا في سنة 1350 بضع مئات، أما عدد الستين ألفا فقد تحول بحذافيره من قبلة الكعبة إلى عقيدة البروتستانت!
والذي يشهد تلك الحالة في أفريقيا وآسيا وجزر الهند يعتقد أنها خطة مدبرة لجأت إليها أوروبا أخيرا بعد أن فشلت جميع الوسائل في محاربة الإسلام.
نعود إلى سر عظمة اليابان وتقدمها ذلك التقدم العجيب الذي بهر العالم منذ حربها مع الصين في سنة 1895 إلى اليوم، فقد كان سبب نهوضها ضرب بعض موانيها بمدافع الأسطول الأمريكي، بقيادة أمير البحر بيري في أواسط القرن التاسع عشر، فكانت أصوات تلك المدافع المباركة بمثابة دقات الناقوس المنبه لليقظة بعد طول الرقاد لتلك الدولة الفتية، التي نهضت بنفسها منذ ستين سنة نهوضا عجيبا حتى أصبحت صناعتها وتجارتها تنافسان صناعة أكبر الدول وتجارتها بغض النظر عن نموها الأدبي وقوتها العسكرية، حتى أصبح لها بين الأمم مركز ممتاز وكلمة يحسب لها حساب في أمور الشرق الأدنى.
ولكي يقدر القارئ تقدم اليابان نستسمحه في إيراد بعض الأرقام فهي أبلغ دليل:
كانت الصادرات اليابانية في سنة 1868 تبلغ قيمتها مليونا و553 ألف «ين»، فأصبحت في سنة 1929 ألفين و148 مليون ين. وكانت وارداتها تبلغ نحو عشرة ملايين ين، فأصبحت ألفين و216 مليون ين. وكان لها في سنة 1883 ثلاثة وستون ميلا من السكك الحديدية، فأصبحت الآن 8509 أميال. وكان لها في سنة 1870 خمسة وثلاثون باخرة حمولتها خمسة عشر ألف طن، فأصبحت الآن 661 باخرة حمولتها نحو أربعة ملايين طن. وكان عدد المصانع اليابانية 661 في سنة 1885، فأصبح الآن 550577. وأخيرا كان عدد العمال الذين يشتغلون بتلك المصانع 381000، فأصبح الآن 2202000!
فما هو سر هذا التقدم العجيب؟
إن العامل الأكبر الذي ساعد على هذا التقدم هو تحول اليابان من بلاد زراعية - كالبلاد المصرية الآن - إلى بلاد صناعية، بالرغم مما كان ينقصها في أول عهد نهضتها من رءوس الأموال ووفرة المواد الأولية والتخصص في مناحي الإنتاج والتجارة والخبرة الفنية ورجال العلم الحديث. زد على ذلك أنه في ذلك الوقت، أي حوالي سنة 1870، كانت البلاد الأوروبية والأمريكية أتمت تحولها الصناعي وفي استطاعتها خنق الصناعة اليابانية في مهدها، كما أن الامتيازات الأجنبية كانت تحول دون تمتع اليابان بالحرية التشريعية اللازمة للدفاع عن منتجاتها، كما هي عليه الحال الآن في مصر المثقلة بأعباء تلك الامتيازات، ومع ذلك كله تغلب اليابانيون على جميع هذه الصعاب، ووصلوا ببلادهم إلى ما هي عليه من رقي وفلاح. وقد جعلهم النمو المطرد في عدد سكانهم لا يتوانون في العمل، ففي سنة 1870 كان عددهم نحو 35 مليونا من الأنفس فأصبح الآن نيفا و90 مليونا، وهم يزدادون بنحو 912 ألف نفس في السنة الواحدة. وعلى الرغم من استغلال البلاد استغلالا زراعيا لا نظير له، فإنها لم تعد تنتج ما يكفي لإطعام مثل هذا العدد العظيم من السكان، فكان ذلك مساعدا على السرعة في نمو الصناعة اليابانية لكي تتمكن من التصدير وشراء ما يلزمها من الخارج، ومثلها في هذا الشأن مثل إنجلترا نفسها.
وكان للحكومة اليابانية الفضل الأكبر في تحويل البلاد من بلاد زراعية إلى صناعية، فهي لم تقتصر على مساعدة المشروعات الوطنية مساعدة مالية واسعة النطاق، بل إنها أنشأت أعمالا جديدة وأكثرت من المدارس الصناعية والتجارية، وجعلت نفسها بواسطة التشريع في مقام الوصي والرقيب على هذا التطور المجيد، آزرت المشروعات الوطنية ماليا بتقرير إعانات سخية وجوائز عديدة للصادرات والمنتجات، وكان ذلك أكبر مشجع لنمو الملاحة اليابانية فأصبحت اليابان من جهة عدد سفنها التجارية وحمولتها في الدرجة الثالثة بين جميع الدول، أي بعد بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، كما أنها أنشأت مصانع الحرير ونسيج القطن والصوف والمواد الكيماوية، وأكثرت من الإرساليات اليابانية لأوروبا، ومن استخدام الخبراء الغربيين لتدريب اليابانيين على الأعمال الميكانيكية، وبذلت جهودا جبارة في الأزمات الاقتصادية لكي تخفف وطأتها عن مالية البلاد وتجارتها وصناعتها، وذلك بتأسيس الاتحادات الكبرى ومعاونة المصارف الوطنية معاونة قوية.
وأما العامل الثاني الذي ساعد على تقدم اليابان العجيب فوطنيتهم الصادقة التي مكنتهم من اقتباس كافة وسائل المدنية الغربية وأسباب رقيها مع المحافظة التامة على تقاليدهم الدينية والاجتماعية وعلى مبادئهم وأخلاقهم الوطنية، ومن بديع خصالهم أنهم متى علموا بتنفيذ مشروع وطني، سواء أكان ذلك شركة ملاحة أم مصرفا ماليا أم تأسيسا صناعيا أو تجاريا، فجميع اليابانيين، من الميكادو إلى أصغر عامل، يبذلون أقصى جهدهم في إنجاحه مهما كلفهم ذلك من تضحية.
هذا سر تقدم اليابان تقدما لا مثيل له في تاريخ الأمم، ففيه قدوة بالغة لمصر الناهضة إذا ما أرادت أن تبلغ شأوها وما وصلت إليه من قوة ونفوذ بين الدول.
وليست نهضة الشرق نهضة دينية مقصورة على يقظة الشعوب الإسلامية، ولا جنسية قاصرة على نهوض الأمم العربية أو الأمم الوثنية مثل الهنادك، بل هي نهضة إنسانية عامة مثلها كمثل دبيب الحياة الذي يسري في الأجسام بعد طول سقمها فهو البرء يتمشى في البدن المريض، وبداية النقاهة التي تبشر بالشفاء التام، بل هي تحقيق الحلم القديم الذي رآه بعض رجالنا الملهمين، أمثال المغفور لهم جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل وإسماعيل عضبرنسكي ومحمد عبده وعبد الله نديم ومحمد باش حمبا التونسي.
يبلغ عدد المسلمين والعرب في العالم أربعمائة مليون، يقطنون أوطانا من أخصب الأرض وأغناها، من الدار البيضاء وطنجة غربا إلى تين تسين بالصين شرقا، وكلهم يقرءون العربية ويفهمونها بحكم عبادتهم وعقيدتهم وكتابهم المنزل، ومعظم هذه الملايين خاضع للدول الأجنبية المستعمرة، وهم بطبيعة الحال قوة عظمى لا يستهان بها، ونحن ننادي بنهضتهم لا ليقاوموا أوروبا بالسلاح أو غيره، بل ليتعاونوا مع أوروبا في العمل على تقدم العالم. إن تقهقرهم ونومهم خسارة على الإنسانية، نريد سيادة المحبة بين جميع الأمم، وأن يشترك الشرقيون المسلمون منهم والوثنيون والنصارى واليهود في خدمة الحضارة مع أوروبا، لأنهم أرباب المدنيات القديمة في العالم، ولأنهم علموا أوروبا العلوم والفنون التي أنتجت المدنية الأوروبية الحديثة كما أثبته درابر وجوستاف ليبون وسدليو وإدوارد براون وعشرات غيرهم. لا نريد حربا ولا رقا، بل نريد سلاما وحرية وإخاء، هذا هو المثل الأعلى الذي ينشده الشرق.
إننا إن طلبنا للشرق نصيبه في الحياة، وألححنا في ضرورة إحلاله محله في ضوء الشمس، فلا نطلب ذلك مبالغين ولا متعنتين، ولكن نطالب به متمشين مع روح العصر، فقد تغيرت الدنيا ومن عليها، وتطورت الأفكار العامة والخاصة في جميع ناحياتها، حتى علاقة إنجلترا بمستعمراتها وأملاكها وراء البحار وأمام البحار قد تغيرت وتبدلت، وقد شرحنا في فصل [نظريات الاستعمار وتطور الامبراطورية] من هذا الكتاب طريقة التطور الطبيعي التي طرأت على علاقة الحكومة الإنجليزية بأجزاء الإمبراطورية وأشرنا إلى ما طرأ على نظام الدولة بالقانون الجديد.
فقد وافق البرلمان البريطاني قبل انصرافه بالإجازة 1931 على قانون جديد أطلق عليه اسم «دستور وستمنستر»، والغريب أن الرأي العام لم يلتفت كثيرا إلى هذا القانون الخطير الذي لا نظير له في تاريخ التشريع البريطاني، وهذا القانون يقتصر على تثبيت القرارات التي أصدرها المؤتمر الإمبراطوري الذي انعقد سنة 1926، ومن جملتها التصريح الآتي:
إن بريطانيا العظمى والدومنيون طوائف مستقلة في داخل الإمبراطورية البريطانية، وجميعها في مستوى واحد غير خاضع بعضها لبعض في أية ناحية من نواحي أمورها الداخلية أو الخارجية، على أنها مرتبطة بولاء مشترك نحو التاج، وشريكة حرة في الجامعة البريطانية.
وبعبارة أخرى إن دستور وستمنستر يعلن بصفة قاطعة أنه ليس ثمة حكومة إمبراطورية ولا برلمان إمبراطوري، وأن كلمة «إمبراطورية» نفسها لم تعد قابلة للتطبيق على جماعة الأمم البريطانية التي يطلق عليها الآن بمقتضى هذا القانون، وللمرة الأولى في التاريخ، اسم
The British Commonwealth of Nations .
ويقرر القانون الجديد في ديباجته ما يأتي:
بما أن التاج هو رمز على اشتراك أعضاء جماعة الأمم البريطانية اشتراكا حرا، وبما أن الأعضاء المذكورين مرتبطون بولائهم المشترك نحو التاج، فمما يتفق والمركز الدستوري المعترف به لكل عضو من أعضاء الجماعة من حيث علاقاتها بعضها ببعض أن يكون كل تغيير في القانون الخاص كلام سيدنا عمرو بنبوراثة العرش وبالألقاب الملكية موافقا عليه من برلمانات جميع الدومنيون ومن برلمان المملكة المتحدة.
ومعنى هذا القرار الخطير أن الجالس على عرش بريطانيا العظمى لم يعد ملك إنجلترا وكندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية ... إلخ، بل هو ملك في إنجلترا وفي كندا وفي أستراليا ... إلخ، فالفرق بين التعبيرين ذو مغزى كبير لا يعزب عن فكر الملمين بالأنظمة الدستورية.
ويقرر دستور وستمنستر بعد ذلك أنه لا يمكن رد أي قانون أقره برلمان إحدى الدومنيون بحجة أنه ليس منطبقا على قانون أصدره أو قد يصدره البرلمان الإنجليزي، وهذا القرار قاض على البرلمان البريطاني باعتبار كونه سلطة تشريعية لجميع أجزاء الإمبراطورية.
وجاء في بند ثان من ذلك الدستور أن لبرلمان كل دومنيون الحق المطلق في إصدار قوانين يكون لها مفعول خارج حدود البلاد، كالقوانين الخاصة بالملاحة التجارية مثلا. وفي بند ثالث اعتبر أنه لا صفة للبرلمان الإنجليزي في أن يسن قوانين لإحدى الدومنيون إلا بعد موافقتها.
وليس في كل هذا من جديد، بل إنه متفق مع الواقع، غير أن الدومنيون أصرت على أنه من الواجب أن يصدر البرلمان الإنجليزي قانونا يقرر فيه رسميا الحالة الراهنة التي يرجع أصلها إلى سنة 1919، وعلى الأخص إلى سنة 1926. وهذا ما يبين أهمية دستور وستمنستر، لأنه يدل على ماهية جماعة الأمم البريطانية، فهي ليست باتحاد
Union
أو
Fèdération
بل إنها اتفاق بين عدد معين من الدول المستقلة يربطها التاج البريطاني بعضها ببعض باعتبار كونه رمزا لوحدة أصلها، وليس للغة الإنجليزية مثل هذه الدلالة؛ إذ إن في كندا لغتين رسميتين الإنجليزية والفرنسية، كما أن في أفريقيا الجنوبية لغتين رسميتين أيضا الإنجليزية والألمانية، أما أيرلندا فمن المعروف أنها تعمل على إحياء لغتها الوطنية.
هذا ما يقرره دستور وستمنستر، وهو في الواقع يحل الروابط التي كانت إلى الآن تربط أجزاء الإمبراطورية البريطانية من غير أن ينص على تعريف دقيق لجماعة الأمم البريطانية في تكوينها الجديد .
والحق أن هذه الجماعة لا مثيل لها في التاريخ ولا يمكن تعريفها بدقة، فليس بين الدومنيون أي شيء مشترك، ولأنها جميعا تعترف بأن الجالس على عرش إنجلترا هو ملكها الخاص؛ فليس لهذا الملك سلطة مشتركة على جميع الدومينيون، بل لا يمكنه أن يباشر سلطته في دومينيون ما إلا بواسطة حكومة ذلك الدومينيون.
ولما عرض مشروع هذا الدستور على مجلس العموم انتهز بعض النواب المحافظين هذه الفرصة لطلب إعادة النظر في مسألة أيرلندا، معربين عن القلق الذي يساورهم فيما لو حدث أن الانتخابات النيابية في أيرلندا أفضت عن أغلبية جمهورية، واتقاء لهذا الخطر اقترحوا إضافة المادة الآتية على المشروع:
وليس في نص هذا الدستور ما يسمح للسلطة التشريعية في أيرلندا بأن تلغي أو تنقح أو تغير أية مادة من مواد اتفاق سنة 1922 الخاص بالدولة الأيرلندية.
بيد أن الوزارة الحاضرة رفضت هذا الاقتراح.
فالقارئ يرى من هذا البيان الوجيز أهمية قانون وستمنستر من الوجهة التاريخية والسياسية، فهو قد قضى على الإمبراطورية القديمة وعلى الروابط التي كانت تربط أجزاءها بعضها ببعض، ولم يبق منها إلا الرابطة المعنوية ورابطة المنفعة المشتركة، وهاتان الرابطتان على أهميتهما لا تظهران دائما بوضوح تام نظرا لتشعب المصالح ومناقضة بعضها للآخر كما حدث مرات في السنين الأخيرة، ومن أجل ذلك يبذل رجال السياسة من الإنجليز جهودا عظيمة لإنشاء روابط جديدة بين جماعة الأمم البريطانية، من ضمنها المؤتمر المنوي عقده في كندا قريبا بقصد تنظيم شئون تلك الأمم من الوجهة الاقتصادية.
فلا عجب ولا غرابة إذا أطلق على هذا القانون اسم يدل على زوال عهد الارتباط بين أجزاء الإمبراطورية البريطانية، وإنما هذا التحلل أو التفكك حصل على الطريقة الإنجليزية، أي في حدود القانون وبتشريع أصدره البرلمان «بيدي، لا بيد عمرو!» فهو نتيجة التطور لا الثورة.
ولا عجب ولا غرابة إذا طلبت أمم الشرق العربية الإسلامية وغير الإسلامية لنفسها ما طلبته أستراليا وكندا وأيرلندا وجنوب أفريقيا من «الأم الرءوم»
The Mother country ، فلسنا أقرب إلى إنجلترا من تلك البلاد . ولئن اتفقت إنجلترا مع الشرق وتضامنت معه في السراء والضراء كما يريد غاندي في الهند وغير غاندي في مصر والعراق وفلسطين وعدن وبعض بلاد الجزيرة العربية، وتبعتها كذلك فرنسا في شمال أفريقيا والهند الصينية، وهولندا في إندونيسيا، وإيطاليا في طرابلس والصومال، وبلجيكا في الكونجو، واليابان في كوريا، لو حصل هذا وتضافرت أمم الغرب والشرق على مواجهة الحياة ومكافحة الحروب والأزمات والشرور الظاهرة والخفية، فلعل الحلم الذي تمثل للعالم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يتحقق ويصير جزءا من تاريخ العالم، وفترة من أسعد فترات الحياة الإنسانية.
وبمناسبة ذكر المرحوم محمد باش حمبا بين زعماء الشرق في هذه المقدمة نقول: إنه كان من أعظم عظماء تونس فكرا وتضحية، وقد هاجر في سبيل وطنه فتوفي عقيب الحرب العظمى وهو في منفاه بتونس، وهي ميتة شبيهة بوفاة المرحوم محمد فريد بك المصري. وقد دفن باش حمبا في برلين في مقبرة المسلمين بهاينهيد، وتهدم قبره وكان مكتوبا عليه بالعربية:
لا إله إلا الله محمد رسول الله
محمد باش حمبا
ولد بتونس سنة 1883 وتوفي ببرلين سنة 1920، كان خطيب تونس وزعيمها، وقد قضى نحبه بعيدا عن وطنه ومنعت فرنسا نقل رفاته إلى أرض بلاده، وهو مثال من زعماء الشرق الذين أسهبنا في درس أحوالهم في الفصل الأول، ونشكر الأمير شكيب أرسلان لأنه لفت نظر الشرق لترميم قبر الزعيم الشاب، وندعو كل شرقي وعربي للعمل على صيانة مدفنه إلى أن تتاح لبني وطنه فرصة نقله إلى مضجعه الأخير في تونس الخضراء، فإنها أحق بقاع الأرض بضم رفاته وهو الذي أحبها وتفانى فيها حتى فني. ولم يكن كغيره ممن يحبون أوطانهم حب خيال ووهم بل كان حبه قائما على عقيدة وعلى حقيقة، وكان قليل الكلام بقدر ما كان كثير العمل، وقد روى لنا أحد أمراء الشرقيين أنه كان في برلين أخيرا فزار الدار التي قضى فيها المرحوم محمد باش حمبا نحبه، فلقي ربة الدار فلما سمعت سؤاله عن ضيفها الراحل بكت وقالت: «لا ننسى لطفه ورقة جانبه وحياءه وحلاوة شمائله، ولا ننسى فصاحته وحبه وطنه. وكان ليلة وفاته يحدثنا عن بلاده ويصف جمالها ومحاسنها وخصوبة أرضها ووفرة خيراتها. ونهض من بيننا حوالي نصف الليل وهو يقول: تونس، آه تونس! وكان هذا آخر ما سمعناه من صوته العذب، فإننا عند الصباح ذهبنا لنقدم إليه قدحا من القهوة فإذا هو جثة خامدة!»
ولا يفوتنا أن نصرح بأننا كلما ذكرنا الإسلام لا نقصد به مجرد العقيدة، أو النظم الدينية التي جاء بها القرآن والسنة وأعمال السلف الصالح وآثار الخلفاء الراشدين في صدر الإسلام، بل نقصد المدنية والحضارة والفلسفة والعلوم والآداب ومجموعة الأفكار التي جاء بها الإسلام وصارت ثروة مشاعة لجميع الأمم التي اتخذت الإسلام دينا أو استظلت به. وقد ألقى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
خطبة الوداع في حجه الأخير الذي انتقل بعده من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد وصفها ج. ه. ولز المؤرخ الإنجليزي في «تاريخ العالم» بأنها أجمل وأعظم دستور إنساني رآه العالم، ونقل إلى اللغة الإنجليزية معظم فقراتها، وإليك نص تلك الخطبة البليغة: قال عليه الصلاة والسلام:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد، أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا أو الحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق: لكم عليهن أن لا يواطئن فراشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده؛ كتاب الله وأهل بيتي، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فالإسلام حضارة ومدنية ونظم سياسية واجتماعية كما هو دين وعقيدة، والإسلام دولة وعدل وقانون وفلسفة في الحياة كما هو تعاليم سماوية، ولا ريب في أن أمة تدين بالإسلام ليست في حاجة إلى غيره من النظم الوضعية، وقد خاب وأخطأ من ظن أو توهم أن الشيوعية أو المشاعية الروسية يمكن أن تظهر في الأمم الإسلامية أو تنمو أو تروج، فإن الإسلام غني بعدله ورحمته وإحسانه وزكاته ومساواته عن كل فكرة تأتي من الخارج مهما كان ما انطوت عليه من الخير أو مكافحة الشر أو تقليل مصائب الإنسانية ومتاعبها. وربما كانت روسيا أو أوروبا محتاجة إلى تلك المبادئ، فلهم الخيار في اتخاذها أو الإعراض عنها، أما نحن ففي غنى عنها وعما يشبهها، ويكفينا أن نتفهم ديننا ونحيي مبادئه في نفوسنا ونخلص لأنفسنا ولأقوامنا حتى نستعيد مجدنا، وإذا تعصبنا فإنما نتعصب للإنسانية والرحمة، للمدنية والحضارة، للتسامح والغفران، وهذه هي المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام ونشرها في جميع ناحيات العالم، فقد كانت غايته الأولى عتق الأفكار وتحريرها وإطلاق أعناق البشر من ربقة العبودية للأرباب والأوثان والظالمين، ومن مبادئه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
وإنني أنتهز هذه الفرصة لأشكر جميع العلماء والفضلاء والمجاهدين والمفكرين الذين رجعت إلى كتبهم وانتفعت بمؤلفاتهم وآرائهم وأفدت بمحادثتهم، ولا سيما الأستاذ الفاضل والمؤرخ الثقة والرحالة الشرقي الشهير السيد عبد العزيز الثعالبي زعيم تونس، والسيد ميرزا رفيع مشكي أديب فارس، وسير محمد إقبال شاعر الهند الإسلامية وفيلسوفها، والسيد غلام رسول مهر صاحب جريدة «انقلاب» الهندية بلاهور، والشيخ كامل القصاب، ودكتور عبد الرحمن شهبندر المجاهد السوري الأديب، وعياض بك إسحاقي والأمير سعيد شامل والأمير سعيد الجزائري والسيد مرسي جار الله زعماء قفقاسيا والأورال، وخير الدين الزركلي، وكل مؤلف أو كاتب لم يرد ذكره في صفحة مراجع الكتاب سهوا. والحمد لله على خير معونته وحسن توفيقه.
محمد لطفي جمعة
مصر الجديدة في رمضان المعظم 1350/يناير 1932
الفصل الأول
الزعماء في الشرق
ربما كانت مسألة الزعامة والزعماء في الشرق من أعضل المعضلات التي تعانيها تلك الشعوب من فجر التاريخ إلى يومنا هذا.
يكون الزعيم مصلحا دينيا أو مصلحا اجتماعيا أو زعيما سياسيا أو قائدا حربيا، وقد يوصله الدين أو السياسة أو الحرب إلى الملك.
وربما يكون نصيب المصلح الاجتماعي أقل الأنصبة في المجد والمنفعة الذاتية.
على أن الزعيم الصادق يكون دائما سامي الغرض بعيد الغاية فلا يتطلب لنفسه شيئا، كما قد يكون طموحا ذا مطامع فيسخر لنفسه ولذويه كل شيء. وبقدر ما يكون الأول نافعا يكون الثاني مضرا وذا خطر على الوسط الذي ينشأ فيه.
يجب علينا أولا أن نفحص شعوب الشرق من حيث الزعامة والمقارنة بينها وبين شعوب الغرب.
في الغرب يظهر أعاظم الرجال بكثرة مهولة، وينبغون بسهولة، ويتقدمون في طريق الحياة يقودهم النجاح ويكللهم الظفر بأكاليل الغار، لأسباب لا توجد في الشرق، فإن الغرب ميال بطبيعة شعوبه لتشجيع النابغين والإقبال عليهم وتعضيدهم والانتفاع بهم، وربما كان الرجل العظيم في الغرب غالبا ذا ميل اجتماعي، أي إنه يفضل الصالح العام على الصالح الخاص، بل الأعجب من ذلك أن الطبقات الوسطى من الشعوب الغربية تفضل الصالح العالم على الصالح الخاص، وترى أفرادها على ما هم به من خصاصة يقدمون منفعة المجموع على منفعتهم الذاتية. وقد سمعت حديثا بين شرطي أجنبي وعامل مصري، قال الأجنبي: نحن في بلادنا ننظر أولا إلى المصلحة العامة والمصلحة الخاصة تأتي عرضا، أما في بلادكم فالمنفعة الشخصية عندكم مقدسة ولو أخذت في سبيلها المنفعة العامة وقضت عليها. لقد صدق هذا الشرطي وأصاب كبد الحقيقة، أصاب ليس لأنه عبقري أو قوي البصيرة أو عالم اجتماعي، بل لأن الأمر ظاهر كالشمس، الشرقي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة يفضل نفسه وذويه ويقدمهم، وقد يقدم قريبه أو صديقه مع عجزه وضعف خلقه على الغريب عنه ولو كان من أهل الكفاية وذوي الخلق القويم.
وهذا الأمر ظاهر في مناصب الحكومة، وفي الأعمال الرسمية، حيث يمكن الحصول على المنافع المادية على حساب الغير، ولكن ربما يتردد الشرقي في مصلحته الخاصة في تفضيل قريبه أو صديقه المضر على الأجنبي النافع، وهذا أيضا من الأنانية وحب النفس؛ لأنه هنا يدافع عن مصلحته الشخصية ولا يريد أن يعبث بها القريب الفاسد، إذا كان لديه أجنبي صالح يقوم بالعمل. إذن رابطة الدم أو رابطة المودة تنفع صاحبها ما دام الغرم واقعا على الغير، أي على المنفعة العامة، أما إذا كان الغرم واقعا على الشرقي صاحب العمل فهو يقصي قريبه أو صديقه، وحينئذ يجد الحجة الدامغة يقابل بها من يعترض عليه، حينئذ يقول الحق ويراه واضحا ويدافع به عن خطته. وهو نفسه يجد مثل هذه الحجة الدامغة إذا اعترضت عليه عند تفضيله القريب أو الصديق في العمل العام على الغريب ذي الكفاية، أقصد بالغريب عنه لحما ودما أو عصبية وصداقة، فهو يقول إن فلانا ليس أقل كفاية من غيره، إنه على الأقل يطيعني، ولا يخونني، وهو صادق إذ يقول ذلك لأنه ما دام لا يحتك مع قريبه أو صديقه في منفعة خاصة فيندر أن يحدث بينهما خلاف.
أرأيت كيف أن الشيء يمكن أن يكون حقا وباطلا في وقت واحد، وكل ذلك لدى تضحية المنفعة العامة. إن هذا الأمر مع فظاعته وهوله صحيح ومشاهد وواقع في كل مكان تجده وتجد آثاره حيث تضع أصبعك.
إن مضار هذه الحالة الخلقية عظيمة جدا، عظيمة لا تحد، ونتائجها الفاجعة لا تحصى. ليس هذا فقط، بل إننا نحن الشرقيين وبصفة خاصة المسلمين قد لدغنا منها مرات في التاريخ، وقد قال النبي: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، لأن الموعظة الأولى أو التجربة الأولى كافية لحمايته.
لقد حدث هذا في فجر تاريخ الإسلام، في حادثتين من أهم الحوادث: الأولى في خلافة عثمان، والثانية في خلافة علي.
أما في خلافة عثمان فإن الخلاف الذي نشب بين المسلمين أولا كان لأنهم انتخبوا عثمان دون علي، وكان فريق من أقارب علي يفضلونه لا لأنه من أبطال الإسلام ولا لأنه بذل في سبيل الدعوة ما بذل ولا لفصاحته وشجاعته، بل لأنه ابن عم النبي وابنه بالتبني وصهره بزواج السيدة فاطمة. قالوا إنه من العترة النبوية وإنه والد الحسن والحسين وكانا أحب الناس إلى جدهما الرسول، فلأجل هذا كان علي أحق بالخلافة من عثمان، وغضبت السيدة فاطمة وقالت ألفاظا رواها المؤرخون، ويفهم منها أنها دهشت لأن زوجها لم يكن الخليفة والأمر أمرهم وشأنهم. على أنني أعذر السيدة فاطمة - عليها رضوان الله - لأنها سيدة. وقد كانت بداية الفتنة هذا الخلاف العائلي.
بعد ذلك صار عثمان خليفة فوقع في عين الخطأ الذي قاومه أنصاره، لقد قرب أقاربه وأصهاره وأحبابه وعينهم في المناصب واستعملهم وولاهم شئون المسلمين في أنحاء الدولة، واستعمل حقه في الخلافة استعمال ملك شبه مطلق. لاحظ أنني أحب عثمان وأعجب به ولا أريد أن أمس شخصه الكريم، لا لأنه ثالث الخلفاء الراشدين ولا لأنه صهر النبي، بل لأنه مات شهيدا، وذاق أهوال الاضطهاد وهو في الثمانين من عمره، ورشق بالحجارة في شوارع مكة، ثم ذبح في بيته وهو يقرأ القرآن، ومن ذبحه؟ أحق الناس بالدفاع عنه محمد بن أبي بكر الذي يعد ولدا لعثمان. فانظر إلى هذا المصاب العظيم يصيب المسلمين في فجر تاريخهم!
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، وليت هذه الجناية كانت الأولى والأخيرة من حوادث القتل السياسي!
إن عثمان مات فكان دمه سببا في فتنة عظيمة هي الفتنة التي عانى الإسلام نتائجها أجيالا، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن في انقسام السنة والشيعة.
وفي هذه المرة كانت زعيمة الثورة والمعادية لعلي السيدة عائشة أم المؤمنين نفسها، التي كانت تحفظ نصف دين المسلمين وأمر المسلمون أن يأخذوه عنها، لقد هاجت الرأي العام ضد علي، واتخذت المطالبة بدم عثمان سببا لهذا الهياج.
وحدثت حروب عظيمة ووقائع فظيعة قتل فيها عدد كبير من المسلمين، ودب الشقاق بينهم.
وفي هذه الأثناء قام رجال كمعاوية يناوئون عليا وانتهزوا فرصة انشغاله بفتنة السيدة عائشة والتمسوا سم الخياط ليدخلوا منه، وكانت الحروب والتحكيم والحيل والمخادعة، ثم ظهر شبح القتل السياسي ثانيا في صدر الإسلام فقتل علي ونجا معاوية وعمرو، وبذهاب علي على هذه الصورة المحزنة قضي على نظام الانتخاب الحر في تعيين الخليفة، لأن معاوية أخذ الخلافة بالقوة والحيلة كما لو كان أحد أمراء الشرق أو أمراء إيطاليا في القرون الوسطى.
لا أنكر أن الدولة الأموية كانت أعظم دولة في الإسلام وأن الفتوح التي تمت في عهدها كانت أعظم الفتوح وأجلها، ولكن ما قيمة الفتوح وأخذ الممالك وانتشار صولة الدين في جانب ضياع المبدأ الذي كان يضمن سلامة الإسلام إلى الأبد، وهو مبدأ انتخاب الخليفة انتخابا عاما حرا؟ لقد قضى معاوية بدهائه ومطامعه على هذا المبدأ، وأخذ يحصل من رعاياه على مبايعة ولده، وهكذا أخذ كل خليفة يكره الناس على مبايعة ولده، حتى إذا ظهر رجل قوي حيال ولي عهد ضعيف قضى عليه وأجبر الناس على نقض البيعة.
وعاد العباسيون إلى الخطة الأولى، فنادوا بقرابتهم واستعملوا أبا مسلم الخراساني للدعوة لهم في العراق حتى نجحوا فتخلوا عن السبب وأسسوا دولة على السيوف والرماح ... وهكذا.
بيد أنك ترى الأمر في الغرب على خلاف ذلك، فأول ما يفكر فيه الشعب هو تأسيس نظام الدولة وضمان سياسة الأمور بالعدل، لأنه مهما كان الرجل الرشيد الذي نمجده اليوم عظيما وعادلا ورحيما ومحبا للإنسانية ولوطنه، فنحن لا نضمن ابنه ولا حفيده.
ولا أنكر أن بعض المستبدين الأقوياء قاموا في أمم الغرب وأسسوا دولا بالقوة والخداع، ولكنهم كانوا من الشواذ والاستثناء، والقاعدة العامة اختيار الأصلح، أما في الشرق فقد كانت القاعدة هي الاستبداد ومجيء الصالح وتوليته هي الشاذ، فقد جاء عمر بن عبد العزيز منفردا في سلسلة من الخلفاء الضعفاء أو المتهاونين في شئون أمتهم، فكان الخليفة الفاضل يأتي مصادفة لا قصدا.
إذن كان يجب علينا أن نتعظ من الحوادث الأولى ولا نسمح لها بأن تتكرر، ولكننا لم نتعظ، حتى إن الدول التي وضعت أنظمة لولاية الملك باختيار الأرشد فالأرشد ، مثل الدولة العثمانية، اختل حبل النظام فيها، وأخذ القوي المبعد يسعى بكل الوسائل للاستيلاء على الملك ولم يتردد في هذا السبيل.
ينتج عن هذا أن التساهل في مسألة واحدة، وهي تفضيل الأقارب والأصهار، جلب كل المصائب التي حلت بالإسلام، كانوا يقولون إن الخلفاء فسدوا أو ضعفوا أو مكنوا الأجانب أو حاربوا العلماء أو اضطهدوا النابغين، وكل هذا صحيح لأن الرجل الذي كان على رأس الخلافة لم يكن الرجل الواجب الوجود، ولو أنه سلك في وجوده عين الخطة التي رسمها النبي ما وقع الإسلام فيما وقع فيه. إن النبي لم يضع نظاما للملك ولم يضع للدولة دستورا، هذا صحيح، ولكن لا ننسى أن النبي ترك أنظمة ودساتير لا تعد، في القرآن والسنة، ولو أنه أراد أن يحصر الملك أو السلطة في شخص معين ما كان هذا ليعجزه، ولكن احتراما للحرية ورغبة منه في تربية الشعب تربية سياسية ترك لهم الخيار بعد أن أبان لهم الحق من الباطل في مئات الأحاديث بعد الآيات القرآنية وفي خطبة الوداع التي تعد من أمهات الدساتير الإنسانية في الحكم والإدارة، فماذا يصنع النبي لشعب فاسد أو لأمة خالية من المبادئ أو لرجال يفضلون المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؟ ليس على أعمال النبي غبار حتى في نظر ألد خصومه، ولكن العيب كله راجع للذين جاءوا بعده وخلطوا وأفسدوا.
ماذا نرى في الشرق؟ الزعيم الدين أولا.
قام في الشرق عشرات من الزعماء الدينيين درسناهم بإيجاز في مكان آخر من هذا الكتاب، إنما الذى يهمنا الآن الزعيم أو البطل الديني الذي جاء بعقيدة منزلة، وهم في الشرق السامي ثلاثة موسى وعيسى ومحمد، ونترك غيرهم من الأنبياء المرسلين أمثال إبراهيم ونوح ويوسف، لأنهم لم يؤسسوا دولا أو بعبارة أخرى لأن أديانهم لم تؤد إلى إيجاد أنظمة سياسية أو اجتماعية، أما هؤلاء الثلاثة فقد أسسوا دولا لا تزال باقية في الشرق حتى الساعة.
ماذا يهمنا من تاريخ موسى؟ شريعة عظيمة وعادلة وشديدة وهي أولى الشرائع المنزلة في الشرق. ولكن الذي يهمنا هو ما لقيه هذا الرجل من شعبه، فإن أحد أفراد هذا الشعب الذي كان يدافع عنه موسى وشى به وأوقعه في تهمة جناية القتل العمد. وعلى من اعتدى موسى؟ على رجل مصري كاد يفتك بالإسرائيلي، وشهد الإسرائيلي دفاع موسى عنه، فكان هو المبلغ ضده والمهدد له! أرأيت؟ هذه حادثة فردية ولكنها لها كل دلالتها، بل هي رمز للتاريخ الشرقي كله، أن الرجل الذي تدافع عنه وتحميه وتذود عنه وتريد له الحياة لأنه من الشعب ولأنه ضعيف، هو الذي يحفظ لك هذه الحادثة لينتفع بها ضدك ويؤذيك!
هل تجد في الغرب خيانة كهذه؟ ربما، ولكن نادرا. هل تجد بين الوحوش وفي عالم الحيوان خيانة كهذه؟ ربما، ولكن من الذئب أو من الثعبان، ولكن كل مخلوق آخر مهما كان فظيعا قاسي القلب لا يقع في هذه الجريمة، أي إنه لا يقابل الإحسان بالإساءة، ولا يقابل الجميل بالنكران. إن موسى لم يحسن لليهودي فقط بل إنه ضحى في سبيله، لقد استهدف للخطر لأنه قتل مصريا، لقد بلغ حبه لشعبه ممثلا في أحد أفراده درجة الجريمة، ثم ماذا لقي موسى من شعبه بعد أن لجأ إلى كل الحيل في إنقاذه وإخراجه من مصر وهي بالنسبة لليهود كانت دار عذاب وإساءة؟ لقد عذبوه في الصحراء، وأذاقوه مرارة الحياة ألوانا.
فأخذوا يعصونه وهو يأتي لهم بأوامر الله ونواهيه، وأخذوا يعبدون العجل ويضايقونه ويمتحنونه حتى كاد يجن من فعلهم!
وإليك ما وقع للزعيم الديني الثاني وهو عيسى ابن مريم - عليه السلام:
لقد كان عيسى في نظر النصارى إلها متجسدا، وفي نظر المسلمين نبيا مرسلا، وفي نظر اليهود ثائرا على قومه وعلى عقيدته. وعلى كل حال فهو في نظر التاريخ الاجتماعي مصلح قومي، أراد قبل كل شيء إصلاح حال اليهود وإخراجهم من مظالم الرومان، فأتى بمبادئ سامية في الحب والعدل والرحمة والتسامح والعفو والمغفرة، مبادئ هي من أجمل ما نطق به البشر ومن أفضل الأسس التي تبنى عليها مكارم الأخلاق. وقد تحاشى على قدر طاقته التدخل في شئون الدولة الحاكمة، لأنه كان يريد أن يهدمها بالتدريج، ومن جهة أخرى بمعاول الإخاء والمساواة والمحبة.
ولا ريب في أن عيسى - عليه السلام - كان إسرائيليا عبقريا، وكان قائما ضد الأنظمة الفاسدة التي وصلت ببني إسرائيل إلى ما وصلت إليه في عهده. وكان هذا طبعا بأمر من الله - سبحانه وتعالى - فماذا كانت النتيجة؟
إن اليهود قد أوقعوا به، بعد أن حاولوا مرات أن يفسدوا بينه وبين قيصر، وهو رمز السلطة الرومانية، وأوغروا عليه صدر المندوب السامي الروماني «بيلاطوس»، وخلقوا له التهم ونسبوا إليه أنه يقول أنا ملك بني إسرائيل، ليكون من ذلك جريمة سياسية، ورغبة في انتزاع الملك، ودعوة إلى الثورة ضد الرومان.
لقد حدث للمسيح ما هو معلوم في التاريخ من قبض واتهام وتعذيب.
وذهب في الرابعة والثلاثين ضحية الظلم ورفع إلى السماء، ليتم الوعد الرباني وهو تخليص شعبه.
ثم بعده بستة قرون ظهر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في جزيرة العرب، وتاريخ ما لقيه من قومه معلوم معروف، فمن الاحتقار والسب إلى الاضطهاد والإهانة حتى شرع أحدهم في خنقه وهو يصلي، وكانوا يلقون عليه الأحجار في الطريق، وحاولوا استغواءه بكل الوسائل بالمال والملك والسيادة المطلقة ثم تآمروا على قتله. ولما هاجر إلى المدينة في نفس اليوم الذي عينوه لاغتياله في فراشه، اقتفوا أثره في حملات منظمة كأنه مجرم فار من وجه العدل.
ولما بعد عنهم وصار في مأمن، شنوا عليه الغارات وحاربوه، وبلغ الجيش الذي حشدوه للقضاء عليه في موقعة الخندق الشهيرة عشرة آلاف جندي! تصور أن أهل مكة يستطيعون في القرن السابع للمسيح أن يجندوا جيشا قوامه عشرة آلاف جندي بين راجل وراكب وهجان، وقديما حشدوا له جيشا فيه الفيلة العظام. ولو لم يكن سلمان الفارسي مشيرا للجيش المحمدي، وهو الذي ابتكر فكرة حفر الخنادق حول المدينة، فلا يعلم النتيجة إلا الله، جيش من عشرة آلاف جندي على رأسه جميع عظماء مكة وأبطالها وفرسانها وساستها ودهاتها ضد النبي وعصبته القليلة العدد.
ولماذا هذا العداء كله؟
لأن النبي كان يحب الخير لقومه وللإنسانية، فأخرجهم من دياجير الهمجية والجاهلية والوثنية، وجعل شعبهم أعظم شعب في العالم، وجلب لهم الغنى والمال والجاه والعزة. والأعجب من هذا أن معظم الزعماء الذين كانوا في هذا الجيش قد استفادوا من الإسلام بعد أن دخلوا فيه مرغمين أو راغبين، وصاروا خلفاء وأئمة وأمراء وقوادا وزعماء وولاة وقضاة في جميع أنحاء العالم، وكانوا حملة المدنية العربية التي أضاءت سواد الدنيا القديمة.
لقد قصرت بحثي في الزعامة الدينية على الزعماء الذين لا يوجد شك في زعامتهم، لأنهم جاءوا برسالة ربانية، أي إنهم مؤيدون من الله بأمور فوق الطبيعة، فما بالك بالزعماء الدينيين الذين انتدبوا أنفسهم للإصلاح الديني بغير رسالة منزلة؟ هؤلاء يدخلون في حظيرة التاريخ، ويرد ذكرهم في كتابنا عرضا ونكتفي بمن ذكرنا.
انظر إلى الزعيم الاجتماعي وهو رجل الإصلاح:
إن عمله في الدرجة الثانية بالنسبة لأعمال النبوة.
وعمله يتناول حياة الأمة بحذافيرها.
ليس في الشرق الإسلامي مصلحون اجتماعيون كثيرون، بل لعلهم يعدون على الأصابع، لأن الاجتماع في الشرق يدخل عادة في الدين.
وربما يكون الإصلاح الاجتماعي جزءا من عمل الزعيم السياسي، فيندمج فيه.
ولا يوجد مصلح اجتماعي محض فيمن نذكر في الأزمنة الحديثة سوى قاسم أمين، فهو مثال للمصلح الاجتماعي الصافي، الخالص من كل الصفات الأخرى، فقد كان هذا الرجل قاضيا، وكان تعليمه وحياته العملية يدفعانه نحو الإصلاح الاجتماعي المحض.
وقد عاش في زمن كانت مصر فيه أحوج ما تكون إلى مثله. لقد قالوا إنه كردي الأصل، وهذا لا يهمني فإنه ليس من الممكن في مصر أن تستخلص رجلا منحدرا من أصل مصري مؤكد إلا في أقاصي الصعيد، وهو يكون في الغالب أشبه الناس بالمصريين القدماء ويعمل غالبا في خدمة الأرض والزراعة. ولكن الطبقة المتعلمة والمنورة والتي تخرج بعض الرجال النافعين هي خلاصة شعوب مختلفة، ولذا فأنا لا أكترث لكردية المرحوم قاسم أمين، وأعتبره مصريا بكل معاني الكلمة، لأنه ولد هو وأبوه وأمه في مصر وعاش وتربى وتغذى بلبان مصر، وتعلم لأجل مصر، وخدم مصر في حياته الخاصة والعامة، وأسس أسرة مصرية وهذا يكفي. رأى هذا المصلح المصري قبيل وفاته بعشر سنين ما وصلنا إليه من التدهور والانحطاط بسبب تفكك الروابط العائلية، وقد رد هذا الانحطاط إلى جهل المرأة وتقييدها فاستجمع شجاعته ووضع كتاب «تحرير المرأة»، الذي يعد بالنسبة لمصر من أعظم الكتب في التاريخ الحديث. فماذا كانت عاقبته؟
لقد قامت عليه القيامة من كل ناحية، واضطهد وأهين وصوبت نحوه سهام النقد الشديد حتى من رجل يعدونه في مقدمة أهل مصر ذكاء وحرية تفكير وتعليما، وصار اسمه مضغة في الأفواه، ونسب إليه الأشرار ما نسبوا، وانطلقت ألسنة السوء تعيبه وتفند رأيه، وألفوا أكثر من مائة كتاب وسودوا ألوف المقالات في الرد عليه وتخطئته.
لا أدري إن كان قاسم قد اغتبط بهذه الحركة التي قامت ضده وقد رأى بنظره الثاقب أن هذه الضجة دليل الحياة، وأنها رد فعل يدل على وجود المصريين وشعورهم، وأن الذي يناقش اليوم رأيا ليخطئه قد يقتنع غدا بصحته. وقد تشجع قاسم وكتب كتاب «المرأة الجديدة»، فاستقبل وابلا من القذف والسب والقدح في هذه المرة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وانبرى للرد عليه كتاب من شمال أفريقيا والشام والعراق والحجاز والهند وإندونيسيا، وكان في مقدمة هؤلاء كلهم علماء الرسوم الذين أغروا به العامة، وهؤلاء العلماء الجهلاء (إن صح الجمع بين الصفتين) كانوا يعلمون ما وراء حركة قاسم من الإصلاح، ويعلمون أنه لم يخرج في اقتراحه عن حدود الشرع الشريف، وأنه استشهد في كتابيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار السلف الصالح.
بل إن هؤلاء العلماء اتخذوا كتابي قاسم وسيلة للنيل من صديقه ورفيقه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده، وهو مصلح ديني ممن لقوا أشد صنوف التنكيل في سبيل مبادئهم، وادعوا أن قاسما لم يكن وحده في اقتراف هذه الجريمة، بل إن الذي ساعده وعضده وأخذ بيده هو الشيخ محمد عبده فرموا طائرين بحجر: رموا قاسما بالضعف إلى درجة الاستعانة في آرائه بالمفتي، ورموا المفتي بالنفاق والجبن إلى درجة أنه لم يستطع الظهور بشخصه في الدفاع عن آرائه. وكانت جريدة المؤيد في مقدمة الصحف التي أشعلت نار تلك الفتنة، مع أن صاحبها المرحوم كان على وشك إحداث أعظم فضيحة زوجية في تاريخ مصر الحديث.
كان قاسم أمين في هذا الوقت قد فرغ من الدفاع عن الأمة المصرية بل عن الشرق كله ضد النقاد الأجانب، فإن الكونت دارنبورغ الفرنسي المستشرق كتب رسالة في الطعن على المصريين وعدم صلاحيتهم للعلم والسياسة ونشرها في بلاده، فانبرى له قاسم ووضع باللغة الفرنسوية كتابا اسمه «المصري»، دافع فيه أعظم دفاع وأمجده عن الأمة المصرية بأسرها في تاريخها وفي أخلاقها وفي ذكائها وفي آدابها واستعدادها القومي للتمتع بالحقوق العامة (والكتاب مطبوع، ولم يعن أحد بترجمته إلى العربية)، تلك الأمة التي كان كتابها ينهشون في لحمه بسبب رغبته في الإصلاح. في سنة 1903 ظهرت قضية الزوجية بين المرحومين السيد عبد الخالق السادات والسيد الحسيب النسيب الشيخ علي يوسف شيخ السجادة الوفائية، ولعب فيها لفيف من كبراء رجال الدين والأدب والقضاء أدوارا مهمة، والعجيب أن هذه الفضيحة كان سببها جهل المرأة وفساد العادات القديمة في الحياة والزواج، فلو أن المرأة المصرية كانت متعلمة ولو أن الآباء كانوا يحترمون بناتهم ويحترمون حريتهن، أي لو أنهم تبعوا خطة قاسم في التعليم والتربية الأنثوية ما وقعت تلك الفضيحة التي كانت بمثابة قضية مدام كايو في فرنسا شهرة.
بعد ذلك بعام توفي الشيخ محمد عبده. وفي سنة 1908، أي قبل أن تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب «تحرير المرأة» توفي قاسم أمين في ظروف محزنة.
فإنه في أواخر شهر أبريل سنة 1908، وبعد شهرين من تاريخ وفاة المرحوم مصطفى كامل زارت مصر طائفة من الطلاب والطالبات الرومانية وزاروا نادي المدارس العليا، وألقى المرحوم قاسم أمين محاضرة باللغة الفرنسوية، قال فيها إنه يتمنى أن يعيش ليرى بعينه الفتى المصري والفتاة المصرية جنبا إلى جنب في طلب العلم والسياحة وفي معاهد التربية والتهذيب، وذهب إلى داره حيث جلس على مقعد وثير في غرفة الجلوس وشرب قدحا من الماء ولفافة من الطباق، ثم تأوه وسقط ميتا.
ربما كان البحث في الزعامة السياسية أصعب مبحث في هذا المجال.
لقد ظهر في الشرق زعماء سياسيون كثيرون، بل في كل ناحية من ناحيات الشرق العربي وفي مصر خاصة، ونحن نذكر منهم على سبيل المثال جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، وبعض الزعماء في بلاد فارس وسوريا وتركيا وشمال أفريقيا.
أما جمال الدين الأفغاني فكان في الحقيقة مصلحا عاما للدين والسياسة والاجتماع، ولكن السياسة كانت الصبغة الغالبة على مبادئه، ولعله اتخذ الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي ونشر الفلسفة وسيلة للإصلاح السياسي، لأنه كان يرى أن إصلاح السياسة يصلح كل شيء، وكان الإصلاح السياسي في نظره ينحصر في نقطتين: الأولى تحرير الشعوب من الحكم الاستبدادي، أي من ظلم الحكام الشرقيين المطلقين الذين كانوا لعهده في فارس والأفغان وتركيا ومصر، وعندما ظهر لأول عهده لم تكن أوروبا قد هجمت على الشرق هذا الهجوم الفظيع، بل كان الإنجليز في الهند وحدها والفرنسيون في الجزائر وحدها. ونظر بعد ذلك في تخليص أمم الشرق الواقعة تحت الحكم الأجنبي وارتأى لخلاص الشعوب الإسلامية مما كانت واقعة فيه لعهده تأليف الجامعة الإسلامية تحت رياسة الخليفة، ولم يكن لعهده رجل يصلح لتولي هذا المنصب سوى السلطان عبد الحميد.
لقد لجأ الأفغاني أولا إلى الملوك أنفسهم وحاول هدايتهم بالعلاقة الشخصية، وقد نجح فعلا في إقناع شاه الفرس بضرورة إعطاء الدستور إلى شعبه، وتمكن من قلب الشاه وبذل له الإخلاص كله، وامتزج بالمصلحين من الشعب الفارسي بعد أن استمالهم إليه بعقله وعلمه وفصاحته وشخصيته الجذابة، ولما اضطهد وتآمروا ضده سافر إلى بلاد الهند، وشعر الإنجليز بقوته ونفوذه فنفوه فذهب إلى الأفغان، وكانت مملكته تتناهبها المظالم، وهي واقعة تحت السلطة الإنجليزية لأنها خطر على أبواب الهند، فلم يكن الدور الذي لعبه فيها عظيما ولكنه لقحها، وترك فيها خميرة صالحة كما ترك خميرته في فارس وكما ترك آثاره في الهند. وإني أفسر كل ما حدث في تلك البلاد من الثورات والنهضات القومية والنزعات الدستورية بفعل جمال الدين دون سواه، الذي كان نبي القومية الشرقية وأستاذ الحرية في تلك البلاد. ثم جاء إلى مصر وعلم فيها ونشر مبادئه، وكانت أسرع الأمم للاستفادة بمبادئه، فحصلت الثورة العرابية بعد خروجه من مصر بقليل. وفي مصر لقي الأفغاني اضطهادا من العلماء ثم من الحكومة ثم من الشعب، ولم يلذ به ولم يلتف حوله إلا بضعة نفر من العظماء يكادون يعدون على الأصابع، وأعظمهم بلا ريب المرحوم محمد عبده الذي نفذ خطته بعد موته، وكان وارثه الوحيد وحامل الشعلة التي تلقاها عنه في الإصلاح الديني والقومي.
وقصد جمال الدين إلى تركيا حيث لقيه السلطان عبد الحميد بالحفاوة والترحيب والكرامة، ولم يكن ذلك لدعج عينيه ولكنه لأنه رأى فيه عضدا في فكرة الجامعة الإسلامية، أو على الأصح لأن فكرة الجامعة الإسلامية التي بسطها له جمال الدين قد راقته وأراد الانتفاع بها لتوطيد ملكه. وكل رجال الإصلاح الذين قاموا في تركيا تلقوا عن جمال الدين مبادئهم.
ومات جمال الدين في القسطنطينية في أواخر القرن التاسع عشر مصابا بالسرطان في لسانه، ولهجت الألسن بعد ذلك أنه ذهب ضحية خصومه كما هي العادة في الشرق، وهذه شائعة لا أثبتها ولا أنفيها.
ولكن ماذا كانت حياة جمال الدين الذي كان من عظماء العالم؟
إنه كان كسقراط في حكمته وقدرته على تكوين الرجال.
وكان كابن خلدون في علمه واتساع دائرة معارفه.
وكان كديموستين في فصاحته وخطبه، وكجان جاك روسو في حريته وصراحته.
لقد عاش مضطهدا مطاردا، ولم يتمكن في واحدة من الممالك الإسلامية الشرقية التي عاش فيها وأحب خيرها وخدم شعبها؛ من أن يعيش عيشة راضية أو يتمتع بحياة هادئة، ولم يؤسس أسرة، ولم يبن بيتا ولم يدخر مالا، ولم يتول منصبا، بل عاش عيشة المفاليك المشردين، يبيت ليلته ولا يدري أين يكون صباحه. ومع ذلك فهو الرجل الوحيد الذي أيقظ المشرق من رقدته التي نامها سبعة قرون منذ اجتاحه الموغول من الشرق والأوروبيون من الغرب، هو الرجل الذي أنهض الشرق بعد أن يئس كل من عداه من إيقاظه.
إن الزعماء السياسيين في الشرق العربي الذين عرفناهم ورأينا أعمالهم يعدون على الأصابع، وقد يرد ذكر بعضهم عرضا في غير هذا المكان من الكتاب، وفي مقدمتهم بالنسبة لمصر المرحومون محمود سامي البارودي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، وبالنسبة لسوريا المرحومان السيدان عبد الرحمن الكواكبي وفوزي الغزي، وبالنسبة لشمال أفريقيا خير الدين باشا التونسي المتوفى سنة 1890 والسيد عبد العزيز الثعالبي. وقد ظهر في تركيا عشرات من الزعماء، أولهم المرحوم مدحت باشا ومحمد طلعت، ولم يكونا من الزعماء الذين جمعوا بين صفتي المحاربة والسياسة أمثال أنور ونيازي وجمال ومصطفى كمال والمرحوم أحمد عرابي المصري. ولا نريد الإفاضة في ذكر الأسماء إنما ذكرنا هؤلاء من قبيل التمثيل والاستشهاد. ولو أننا أخذنا أحدهم نموذجا لبقيتهم كان في سرد حوادث حياته ما يدل على حالة الزعيم السياسي في الشرق العربي الإسلامي بصفة عامة، فقد نشأ مصطفى كامل في مصر من والدين مصريين، وتربى في المدارس الحكومية إلى أن دخل مدرسة الحقوق وظهر نبوغه وميله إلى الاشتغال بالسياسة، وكان الاحتلال الإنجليزي حديث العهد، وكان ناظر المدرسة فرنسيا اسمه مسيو تستو وكان عالما ومحبا للمصريين، ولكن كان يريد الظهور بالإخلاص للإنجليز فتسبب في طرده من المدرسة، وألصق تهمة طرده بالمرحوم عمر لطفي بك الذي كان وكيل المدرسة ليخلص من عار اضطهاد طالب يحب الحرية كما هي عادة الفرنسويين، وقصد المرحوم مصطفى كامل إلى فرنسا فدخل كلية الحقوق بتولوز واستعان ببعض رجال السياسة والأدب في إسماع صوته باللغة الفرنسوية، ثم عاد إلى وطنه وخطب وكتب وأسس مدرسة وصحفا، وقد لقي من الاضطهاد والعداوة في أول أمره من رجال مصريين كان ينتظر أن يكونوا له عونا فكانوا عليه حربا، كالمرحوم الشيخ علي يوسف الذي كان يريد أن يكون زعيما سياسيا فضلا عن اشتغاله بالصحافة، وغير السيد علي كثيرون من نوع آخر كانوا دساسين ومتجسسين وحاسدين، غايتهم إلحاق الأذى بكل من يقوم بعمل نافع لمصر والمصريين.
وكان بخلاف هؤلاء جيش من الشرقيين من أجناس مختلفة ومعتقدات شتى قد حلوا أرض مصر ونزلوا بها ضيوفا فأكرمت مثواهم وفتحت لهم صدرها وأغنتهم بالمال والنوال واعتبرتهم أساتذة ومرشدين، وكانوا هم أيضا حربا عليها، وقد انتفعوا بشرقيتهم وتمكنهم من اللغة العربية فأسسوا بعض الجرائد والمجلات ووقفوها على محاربة مصر وأذاها في شخص مصطفى كامل وكل من يسلك خطته من المصريين، وكان هؤلاء الشرقيون متصلين برجال الحكم من الإنجليز ويتناولون المرتبات ويقبضون النقود ثمنا لإضرارهم بمصر التي آوتهم ويدعون أن مصر هذه غنيمة لهم ولغيرهم وليس لأهلها حق عليها، وكانت الوكالة البريطانية في عهد كرومر أمهم الحنون وكعبتهم التي إليها يقصدون ويولون وجوههم شطرها صباح مساء، ليشوا بمصر والمصريين كأن بينهم وبيننا ثأر قديم أو دم مهدور من سنة «ستين»، فكان هؤلاء في مقدمة أعداء مصطفى كامل وأنصاره. ولكن على الرغم من هؤلاء وأولئك نجح ذلك الشاب في نهضته وبلغت دعوته أركان الشرق العربي وغير العربي، وكانت جرائده ومجلاته مقروءة في الصين والهند وإندونيسيا وتركستان وإيران والأفغان وتركيا وسوريا وبلاد العرب والعراق.
وصارت مصر في حياته القصيرة موردا عذبا لرجال السياسة والأدب والصحافة من إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بفضل مساعيه التي كان يبذلها في كل عام ودعوته الواسعة الانتشار التي تمكن بها من جذب قلوب فئة كبيرة من المنورين ومحبي الإصلاح في أوروبا. ولكن أهل وطنه الذين كانوا ملتفين حوله كانوا أقلية لا تذكر بالنظر إلى عظم شأن الدعوة، وقد تمكن خصومه في سنة 1904 من التفريق بينه وبين الخديو السابق عباس حلمي الثاني بسبب قضية الزوجية الشهيرة، وظن الإنجليز أن ذلك سيكون سببا في سقوط الزعيم الشاب فلم تحقق الأيام ظنهم ونجا من كيدهم بفضل ثباته وبعد نظره. وفي سنة 1906 تمكن من إنقاذ فلاحي دنشواي الذين حكم عليهم بأحكام قاسية وهم أبرياء، ولكنه لم يستطع إحياء الموتى الذين أعدموا على المشانق. وفي سنة 1907 أنشأ جريدتين يوميتين باللغتين الفرنسوية والإنجليزية، وكانت صحته قد أنهكها الانهماك في العمل العصيب المضني، وقد صادفته عقبات كثيرة تمكن بعلو همته من تذليلها. وفي أوائل فبراير سنة 1908 قضى نحبه بعد صراع شديد بين الحياة والموت وبعد مرض طويل استنفد البقية الباقية من قواه، وكان لدى وفاته في العام الرابع والثلاثين من عمره.
ولم يتذوق هذا الشاب شيئا من ملذات الحياة، بل عاش ومات وهو لا يعرف لنفسه لذة إلا خدمة وطنه والعمل على خلاصه من براثن أعدائه، ولم يتزوج ولم يؤسس أسرة ولم يرزق ولدا، ولم يتمتع بشيء مما تمتع به أعداء مصر الذين خانوها وعاشوا على ضفاف نيلها عشرات السنين ولا يزال بعضهم على قيد الحياة كالأخطبوط يمتص الدماء ولا يشبع، مات مصطفى كامل فقيرا، يكاد يكون معدما، ولم يوجد بخزانته مال يكفي لنفقات دفنه، وهذا أسطع برهان على نزاهته وشرفه وإخلاصه.
فهذا شاب أعطى حياته لمصر ولم يطلب منها شيئا، ولم يعرف المصريون قدره حق المعرفة إلا بعد وفاته، فقد كان يوم موته أعظم أيام مصر حزنا، وهو اليوم الذي وصفه قاسم أمين بأنه يوم خفوق قلب مصر للمرة الثانية بعد حادث دنشواي.
وقد قال المرحوم مصطفى كامل في صيف سنة 1905 في حفل من الباشوات والأعيان لرجل قدم إليه نسخة من كتاب «تحرير مصر»:
سأقرأ كتابك بعناية تامة، وإني أشجعك على خدمة وطنك وإن كانت خدمة الوطن في مصر تنقلب وبالا على صاحبها، فها أنا أضحي بصحتي ووقتي، وكان الأنفع لي ولأسرتي أن أشتغل بالمحاماة فأقتني ثروة وأحتفظ بصحتي ولكنني ضحيت بهذا كله، ومع هذا فإنني لا أنجو من مخالب الشتامين والسبابين الذين يقابلون عملي بالذم والقدح في كل يوم، مثل فلان الذي يصفني بأنني هلفوت وجماعة كذا الذين يضربون الأمثال بأن الوطنية آخر ملجأ للهجاص!
هذا كان كلام المرحوم مصطفى كامل بنصه، ولعل الأحياء من أصدقائه الذين حضروا هذا المجلس وغيره يعلمون مقدار تألمه من حملة صحف خصومه من المصريين وغيرهم ضده، وبعد أن مضى أكثر من عشرين عاما على وفاة المرحوم مصطفى كامل يزداد فضله ظهورا وجلاء في كل يوم ويبين فضله على غيره، ولا يمكن وصف أعمال خصومه ضده من أي جنس كانوا بغير الخيانة ، وعندما ألقى خطبته الكبرى في شتاء سنة 1908 في تياترو زيزينيا بالإسكندرية، وكانت كلمته الأخيرة لوطنه، وهي التي قال فيها:
بلادي لك قلبي وفؤادي، أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر!
نقلتها «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، الذي ألف ليناوئ الحزب الوطني، وجعلت عنوانها «ناقل الكفر ليس بكافر». ومن الواضح أن تلك الخطبة التي كانت تدعو إلى تحرير البلاد واستقلالها والاعتراف بحقوقها المقدسة والعمل على إسعاد الشعب المصري؛ كانت تعد في نظر الجريدة والقائمين بها في ذلك الحين 1908 كفرا، أما الصبر على الاحتلال والخضوع للحكم الأجنبي ومساعدة الغاصب على اغتيال حقوق البلاد واستثمارها؛ فكان في نظرهم هو الإيمان بعينه، لأنه كان هو منهاج حزبهم كما كان منهاج حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية الذي كان يرمي إلى خدمة الأريكة الخديوية.
هذه صفحة من تاريخ الزعامة السياسية بمصر، قد أتينا بها لتكون مثالا لما سبقها ولحقها في الشرق العربي الإسلامي عامة ومصر خاصة.
زعيم السياسة والحرب
لقد تطورت الزعامة السياسية في الشرق تطورا عميقا.
فقد كان الزعيم السياسي في أول الأمر يجمع بين السياسة والحرب، وقد يسعى بالحرب إلى الوصول إلى السلطة العليا ثم يستعين بالسياسة في توطيد مركزه، وكان من هذا القبيل المرحوم أحمد عرابي الذي كان زعيما سياسيا، وكانت صفته الحربية ملحقة بزعامته السياسية، لأنه لم يكن جنديا عظيما ولا قائدا موفقا، وسمح لخصومه أن يهزموه وأخطأ في أمور حربية كثيرة، ولم يعمل بنصيحة كثيرين من المخلصين له الذين كانوا أدرى منه بمواطن النصر والهزيمة. قال لي «بلنت» في منزله سنة 1909 بحضور صديق مصري: «لم يكن عرابي جنديا ذا قيمة حربية، فلا تحتقروه ولا تنصبوا له تمثالا.» ولكن الثورة العرابية ضمت زعماء آخرين يجمعون بين السياسة والحرب والأدب، ومنهم المرحوم محمود سامي البارودي الذي قيل عنه إنه كان روح الثورة، وقد حارب خارج مصر في حروب الدولة العثمانية ضد روسيا. أما الزعماء الحربيون الحقيقيون فلم يكن لمصر نصيب فيهم، بل ظهر معظمهم في تركيا، ومنهم من قوض تركيا القديمة في سبيل الحرية والاستقلال، ومنهم من شاد بناءها الجديد، أما الزعماء الحربيون الذين ظهروا في تركيا - أمثال أنور ونيازي وجمال وشوكت - فقد ماتوا جميعا شهداء بأيد أجنبية مأجورة وذهبت دماؤهم هدرا، ما عدا أنور الذي مات شهيدا وهو يحارب ضد البولشفيك في بخارى، ولكن الآخرين قد ذهبوا كلهم غيلة بأيدي الفوضيين، ولعل الفوضيين كانوا مدفوعين أو مأجورين بدول أوربية كبرى للخلاص من هؤلاء الرجال الذين قاموا بنهضة تركيا الحديثة وأقلقوا بال المستعمرين.
أما الزعيم التركي المحارب الذي نظم دولته تنظيما جديدا في السياسة والاجتماع وهو الغازي مصطفى كمال رئيس جمهورية أنقرة، فلم يسلم من عداء الأتراك والمسلمين في أنحاء العالم، ولم ينج من دسائس أوروبا ضده، ولم يهدأ بال من حوله من المؤامرات التي تدبر في كل حين لاغتياله.
زعيم الأفغان
وقد يكون الزعيم ملكا يجمع بين صفات السياسي والقائد الحربي والمصلح الاجتماعي، وقد اجتمعت هذه الصفات أخيرا للملك أمان الله خان الأفغاني الذي زار مصر منذ ثلاث سنين؛ فإن هذا الملك الشجاع المصلح تمكن من استرداد استقلال بلاده بالحرب ثم جلس على أريكة الملك، وأخذ يصلح المملكة بنشر التعليم وتقوية الجيش، فلما رأى جيرانه الأقوياء أنه ربما يصبح قوة ذات خطورة انتهزوا فرصة غيبته في سياحة عالمية وحرضوا القبائل على شق عصا الطاعة وأوهموا تلك القبائل أن الملك كفر وخرج على الدين وأباح السفور، واستعملوا سفاكا للدماء من قطاع الطرق اسمه باجي سقاء أو ابن السقاء، فلما عاد الملك أمان الله إلى وطنه حارب وانهزم وانسحب من عاصمة ملكه ثم هاجر إلى أوروبا هو وأسرته. وظهر في ميدان السياسة القائد نادر خان، وكان من رجال أمان الله، وحارب باجي سقا وفي طرفة عين هزم باجي سقا وحوكم وأعدم، واستتب الأمر لنادر خان ونودي به ملكا على الأفغان، وكان كثيرون يظنون أنه يطفئ نار الفتنة ليمهد السبيل لأمان الله، ولكن خابت ظنون هؤلاء وثبت لهم أن نادر خان لم يكن ليخوض غمار هذه الحرب وينتصر فيها ثم يسلم الملك سالما لصاحب العرش الأصلي ولا سيما ونحن في الشرق.
وإن في ثورة الأفغان على أمان الله أسرارا كشفت الأيام عن بعضها ولا يزال البعض في فؤاد الدهر كامنا.
فقد ذاع خبر الفتنة إذ كان أمان الله في إنجلترا، ثم كذبوه، وكان أمان الله صريحا في جهات كثيرة من التي زارها، وظهر بمظهر الآمن المطمئن على ملكه وعلى قوته، وهو لا يحسب حساب القبائل نصف المتحضرة التي يحكمها، ولا يحسب حساب اليد الأجنبية الخفية، فقد ذاع أن الكولونيل لورنس الشهير كان في الأفغان ينثر الذهب الإنجليزي، ويظهر أن نادر خان - ويطلقون عليه لقب شاه - يؤيد السياسة البريطانية، وقد روى الميرزا يعقوب خان خيلا، في مارس سنة 1931، أن الشاه نادر يؤيد سياسة الاستقلال والسير بالبلاد تدريجيا إلى أرفع مستوى، وقد بعث بالميرزا محمد عمر خان إلى لندن لدرس القوانين التجارية، وقد تألفت في كابول شركة مساهمة هندية أفغانية للقيام ببعض المشروعات الاقتصادية العمرانية وعرضت على الحكومة قرضا بمبلغ مليوني روبية.
ويستخلص من الحوادث أن إنجلترا لا تزال تحسب للأفغان حسابا بسبب قربها من الهند واتصالها بإيران المستقلة الناهضة وتركيا، وقد أزعج الإنجليز ظهور أمان الله بمظهره المعلوم فكان جزاؤه الحرب فالطرد، لتعود الأفغان إلى أيد تؤمن على السير بالبلاد في سبيل الرقي بالتدريج.
ومن العجيب أن المصريين الذين رأوا أمان الله أثناء زيارته مصر وفرحوا به وأعجبوا بشجاعته ووطنيته وسعة إدراكه، عادوا فانقلبوا عليه لما عاكسه الدهر، وأنحوا عليه باللائمة وكرهوه وحقدوا عليه ظنا منهم أنه حقيقة خرج على الدين أو كفر أو فسق، ولم ينظروا إلى جانب الإصلاح العظيم الذي قام به الرجل، ولم يمجدوا عاطفة حب الوطن والعمل لرفعة الشرق والإسلام التي كانت تملأ قلبه، بل جعلوا تقديرهم له رهن عاطفة دينية لم يثبت لهم أن الملك السابق قد جرحها أو خدشها، ولم يسألوا أنفسهم كيف يفعل الرجل كل ما فعل إن لم يكن وطنيا مسلما ومخلصا لوطنه ودينه؟ كأن هؤلاء القوم لا يرضيهم إلا النفاق والمداجاة والظهور بغير الحقيقة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! غير أننا لا ننسى أن أمان الله يمثل الزعيم ملكا يريد الإصلاح بالسياسة وبالحرب والاجتماع، ولكنه قبل كل شيء شرقي يعمل في وسط شرقي، وكل وسط شرقي لا يزال موبوءا ويمكن إهاجته في أقرب فرصة للانقلاب على المصلح أو الزعيم سواء أكان من الرعية أو من صف الملوك والأمراء.
الفصل الثاني
الطبقات الاجتماعية في الشرق وبعض الفروق بين الشرق والغرب والنظرية السبعية
إن الدولة جسم حي، قوامه روح الشعب، ولا تعيش أمة بغير مثل أعلى يهديها سواء السبيل في دياجير الحياة، فهو بمثابة النور الكشاف الذي يكشف أمامها ظلام الطريق فتتقي بضيائه شر العثار. ولكن المثل العليا ليست شائعة وليست من مواهب الجماعة، وقد لا تكون إلا في نفوس أفراد يعدون على الأصابع، وقد ذهب زمن استئثار بضعة أفراد بتلك المثل العليا وأصبح فرضا على كل منهم أن ينشره في طبقات الشعب لتمتلئ به كل نفس، لأن العالم والشعوب تسير نحو الديمقراطية بأوسع معانيها. وقد ذهب عهد الأرستقراطية الناشئة عن الميلاد وشرف الأرومة، وأصبحت الأرستقراطية هي شرف الخلق وسمو المدارك وتمايز العقل. وكما أن في الإسلام لا تفضيل إلا بالتقوى ولا كرامة إلا لمكارم الأخلاق فكذلك ترى الزعماء في الأمم العظمى لا يرون المستقبل إلا في المساواة وتفضيل الفضلاء حقا بعقلهم وعلمهم وأخلاقهم. وقد تغير نظام العالم الحديث وليس للمال الآن تلك المكانة التي كانت له في أوائل القرن العشرين، كما أن الأنساب العظيمة فقدت أهميتها لأن أحفاد الأحفاد جاءوا بأفظع الأمثلة فلا يصح أن يكونوا قادة أو في القمة، والإنجليز أنفسهم وهم من أشد الغلاة في هذا السبيل عدلوا الآن عن حصر الكرامة في الأعيان واللوردات ويحكمهم اليوم رئيس حكومة من العمال، وهذا الروح سار في العالم كله.
ولو أننا ننظر إلى ألمانيا التي كانت صاحبة أعظم قوة حربية في العالم، لرأينا أن تلك القوة العظيمة لم تكن مستمدة من قوة العسكرية وحدها أو من نظام الإمبراطورية المقيدة أو المطلقة، إنما كانت قوة ألمانيا مستمدة قبل كل شيء من قوة عقلية عظيمة تغذيها وتنفخ فيها، ولا تزال ألمانيا أعظم أمم العالم في التربية والتعليم وانتشار العلوم الحقة كالطبيعيات والكيميا والرياضيات بين ظهرانيها، فإن حرب ألمانيا لأوروبا كانت حربا علمية أكثر منها عسكرية، بل كان وراء مظاهر تلك القوة العسكرية سلسلة طويلة من كبار المفكرين والفلاسفة، فلا نهضة لأمة الآن سواء أكانت في الشرق أو في الغرب إلا بنهوض أفرادها وترقية عقولهم وتطهير نفوسهم وتأديبها أحسن تأديب.
فهذا البناء الداخلي من التهذيب والثقافة يسبق البناء الخارجي الذي هو مظهر القوة والحرب. وقد ترى في الأمم الضعيفة علائم لا تخفى على الخبير، منها عبادة القوة وإهمال الثقافة والتعلق بمثل أعلى يتطلب التضحية في حين أن الشعب منغمس في الرذائل سواء في ذلك الأغنياء والفقراء، ثم ترى الانقسامات السياسية تنخر في عظامه وهو لاه عن مشاكل الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وإذا شعر الشعب بعاطفة ظنها فكرة جديدة، فهو لجهله لا يميز بين الأهواء والعواطف والأفكار؛ فالنزاع السياسي هوى، وحب الوطن عاطفة، وتدبير الخلاص من الظلم فكرة، فترانا في الشرق الإسلامي نخلط بين الثلاثة أشياء فنتبع أهواءنا ونمجد عواطفنا ونحتقر الأفكار النافعة.
الشرق بين العاطفة والفكر
إن الهوى والعاطفة قوتان عظيمتان في حياة الشعوب، ولكن يجب أن تسخرا للعقل المفكر لا أن تقودا الأمة إلى الخراب، لا يمكن لعمل عظيم أن يقوم بغير عاطفة، ولكن العاطفة وحدها لا تكفي بل يجب أن يرشدها العقل ويسيرها، كما أن الهوى كالقوة المحركة لا يطلق له العنان إلا بعد أن نستوثق من الطريق التي نسلكها. وحياة الفرد مقسمة بين عقله وهواه، ولكن العقل يجب أن يسبق الهوى ويحكمه، لا يكفي أن تحب أن تسمو أو تتحرر أو تستقل بل يجب أن تريد ذلك، ولا يكفي أن تريده بل يجب أن تفكر في طريق العمل وتعمل للخلاص. والأمم التي تكون مثلها الأعلى وهي تحت حكم الهوى تندم في ساعة لا ينفع فيها الندم، ولكن الأمم التي تفكر أولا في هدوء ثم تندفع إلى العمل تفلح وتنجح.
والغرب الغاصب لا يعرف الهوى ولا يعرف العاطفة في محاربتنا واغتصاب بلادنا، بل يعرف التفكير والتدبير وانتهاز الفرص.
انظر كيف صنع ديزرائيلي في شراء أسهم قنال السويس، ثم ماذا صنعت إنجلترا في الاستيلاء على مصر بطريق القروض المتتالية، وماذا صنعت فرنسا في شمال أفريقيا، هل هاجت أو تبعت عواطفها أو هواها؟ كلا، إنها اتبعت فكرتها وتدبيرها.
لقد هاجت أوروبا في الحرب العظمى وتبعت هواها وعواطفها، فعادت الحرب عليها بالدمار، ولكن الاستعمار كاد ينقذها لأن ما خسرته من المال والرجال عوضته بالمستعمرات الجديدة في الشرق.
لقد تحطمت المثل العليا في الشرق وذهبت مظالم الفراعنة بذهابهم وتبعتهم سلطة الكهنة في الهياكل والمجالس، فانهد ركن الاستبداد الملكي والديني، وليس في ديننا خضوع للعلماء الذين هم حفظة كتب ونصوص وليسوا رقباء على ضمائرنا، وشيئا فشيئا تتهدم نظم الأرستقراطية ويستحيل عليها أن تحكم الأمم، ولن تخضع الشعوب لأرستقراطية من المدعين العظمة بالميراث أو بالمال، وربما خضعت لأرستقراطية العقل والذكاء والحكمة.
لقد كان لويس الرابع عشر يقول: «أنا الدولة»، وكان البابا جريجوار السابع يقول: «أنا بابا وإمبراطور»، وكان شارل الأول يقول: «أنا ملك بأمر الله»، كما قال الفاطمي التائه: «أنا الحاكم بأمر الله» وكما قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى.» ولكن هذا الحق الذي كان يظن أنه مقدس قد حل محله حق الشعوب في حكم نفسها، وحلت سلطة الأمم محل سلطة الملوك، وصارت الأمة مصدر السلطات كلها، وتأبى الديمقراطية أن تخضع لغير ذاتها في أوروبا.
لا تزال في العالم سلطة قاهرة للمال، وهي نوع من الأوليجارقية أو حكومة الأشرار التي بينها أرسطو في سياسته، ولكن هؤلاء الأشرار أو هؤلاء الحاكمين بأمر المال قد استبانوا أنهم لن يستطيعوا الحكم بغير إشراك الدهماء معهم، وهم الذين يشيدون ملكهم الحقيقي بعرق جبينهم، وقد قلت أسباب التفاوت بين ابن الأمير وابن الصعلوك، وأصبح الفقير إذا أراد أن يتعلم يكفيه أن يقرأ الكتب فتفتح أمامه أبوابا كانت فيما مضى مفاتيحها من ذهب، وقد علم الكثيرون من أبناء الشعب أنفسهم فصاروا في مصاف العظماء وحكموا العالم ، ومنهم وأقربهم مثلا رامزي مكدونلد رئيس حكومة إنجلترا، وأصله صحفي وأستاذ مدرسة، وإدوار هريو رئيس حكومة فرنسا سابقا، وشتريسمان وهو ابن خمار كان يبيع الجعة في إحدى الحانات، وهردنج ومكنلي وإديسون وبريان وسنودون ولويد جورج وقد رباه إسكاف وهو عمه وهذا من مفاخره ... وعشرات مثلهم، قبضوا على زمام العالم في الحرب والسلم، وسيروا الأمم في طرق النجاح، ولم يكن يخطر ببال أحد منذ مائتي عام أن مثلهم ينبغون ويسودون الأمم بمحض كفايتهم وأخلاقهم بدون انتساب إلى الأصول العريقة أو جريان الدماء الزرقاء في شرايينهم. وهذا كله بفضل إباحة العلم للجميع وتيسير طلبه، فصار ابن الملاح والعلاف في وسعه أن يبلغ في العلم شأو أفلاطون أو كانط، وهذا الإسلام يأمر بالمساواة بين الناس ولا يفضل أحدا على أحد إلا بالعلم والتقوى. ولما كان معظم أهل الشرق من العامة والدهماء فهؤلاء لا يزالون كنزا دفينا يخرجون للعالم مئات الألوف من النوابغ النافعين في الحرب والسلم والعلم والاختراع، ولا ينقصهم إلا عدل النظام الاجتماعي الذي يكفل ظهورهم ونجاحهم والانتفاع بهم. ولو أن رجال السياسة الذين فكروا طويلا في أنظمة الحكم صرفوا بعض وقتهم وقليلا من همتهم في التفكير في إنهاض العوام والمتوسطين في الشرق، كان لهم من نهضتهم خير نظام وخير ضميرة للمستقبل، وقد آن للمصلح الشرقي أن يدرك حقيقة الحال وهي أن إشراك الطبقات الصغيرة في الحياة العامة أصبح أمرا واجبا.
الطبقات الاجتماعية
إن الأمم في الشرق والغرب أيضا لن تنهض على أكتاف الطبقة الغنية أو الطبقة التي تسمى عالية، بل على الطبقات الوضيعة والمتوسطة، والأمة التي تهمل الوضيع والوسط سوف تبني على الرمل، وكل بناء على الرمل ينهار. لقد مضى الوقت الذي كانت الأرستقراطية تسقط الفقراء من حسابها، وأصبحنا في زمن لهؤلاء الفقراء فيه مكان مهم، لأن الفقراء إذا أهملوا كانوا شوكة في جنب الأمة، وربما هدموا البناء الذي يشيد بدون معونتهم. إن الفقراء والأغنياء إخوة ومتساوون، وهؤلاء الفقراء محتاجون إلى النور والهواء والغذاء والتعليم وإلى قسط من الهناء في الحياة . إن قرية الفلاح ومصنع العامل لا تقل عند الله - سبحانه وتعالى - عناية عن قصر الغني أو مكتب المدير المتمول، لأن الله يحب الجميع.
وإذا كان البائس لا يحصل على أجره الكافي لحياته هو ومن معه فإنه يهلك، وإن هلك هلك معه الآخرون من أهله، وإن هو فقد عمله وتعطل صار عبئا على المجتمع وعالة على غيره، وهو في الغالب ليس خاليا، بل في عنقه جماعة من الأطفال والنساء ذوي الحاجة الملحة إلى الطعام والكساء والغذاء والمسكن. إن الممالك الكبيرة والإمبراطوريات الضخمة والجمهوريات القوية والدول الصغيرة مهما كانت تلهيها قوتها الجندية أو البحرية وثروتها المادية ذهبا كانت أو خصبا، ومهما كانت مواهبها في العلوم والمعارف؛ غير عاجزة بإذن الله عن إيجاد النظام الاجتماعي الذي يكفل سعادة الأفراد بغض الطرف عن المطامع، وقد تحكمت في أوروبا أولا وفي الشرق ثانيا تلك المطامع الشخصية، وتلك الأنانية القتالة، وتلك الشهوات الفردية التي قضت على العالم القديم وتوشك أن تقضي على العالم الجديد. ولو أننا عذرنا الأمم الأوروبية، أستغفر الله! لو أننا أدركنا حقيقتها وفهمنا أسباب حالتها، فأي عذر لنا وأي تعليل لحالتنا التي نعانيها في انقسامنا وتحزبنا وانشغال كل من رجالنا بمصالحه الشخصية عن المنفعة العامة؟
ليس لدينا قوتهم ولا مالهم ولا علومهم ولا حريتهم ولا فضائلهم، ولكن لدينا نقائصهم ورذائلهم التي كان ينبغي لنا أن نتنزه عنها ونخلص منها.
انظر إلى أي درك وصلت أمة عظيمة كدولة فرنسا الجمهورية بسبب المال، إنها بعد الحرب استردت ثروتها بغاية السرعة وصارت اليوم أغنى دولة في العالم بمقدار الذهب الذي تملكه في خزائنها.
أتدري ماذا حل بها؟
إن كبار الرجال فيها جنوا بالذهب وظهرت فضائح المصارف والوزراء، فمن أوستريك المالي الدجال إلى راوول بيريه وزير العدل، ومن شركة البريد الجوي إلى فلاندان وزير المال. ونحن في سنة 1931 نشهد في فرنسا فضائح أضخم من فضيحة بناما في أواخر القرن التاسع عشر.
وفي بلاد الشرق مثل هذا وأكثر، ولو أتيح كشف القناع عن بعض الحقائق في الشرق لرأينا من الرذائل والفضائح ما لا يقل عما يجري في فرنسا، إنما الشرق خلو من المجالس والصحافة الحرة، ولكن الداء واحد والجراح مسممة بالقيح، والقرح تنز سواء علمنا أم لم نعلم. وما منشأ تلك الأدواء إلا تسلط أفراد معدودين في بلاد الشرق الإسلامي، وهؤلاء الأفراد المعدودون خاضعون للطامع الأجنبي الذي يريد أن يفسد أخلاقهم ويشتري ذممهم ويخرب ضمائرهم ليكون تمكنه منهم أعظم، لأنهم إن شرفوا لا يخضعون له ولا يرضون نفوذه ولا يتآمرون معه على أممهم.
الطبقات في المشرق
إن العامي البسيط في الشرق شقي الشقاء كله، وهو في الغالب متدين ومؤمن، وتراه بعد أن خسر دنياه أو كاد ينتظر ثواب الآخرة، لأن الأديان علمته أنه إن فاته نصيبه في الأولى سيلقاه في الآخرة، وإن سكن في هذه كوخا فسيسكن في الأخرى قصورا، حيث يلقى غلمانا وحورا وخيرا كثيرا، وأن حظه مخطوط ومرسوم وليس له إلا ما هو مقسوم والمكتوب على الجبين تراه العيون. وقد ساعد علماء الرسوم على ترسيخ هذه الأفكار في ذهنه، وساعدوا على تخديره حتى إنه بدلا من سعيه وراء خيرات هذه الدنيا أو مناضلته عن بعض منافعه تراه قد زهد فيها مقدما وصارت آماله معقودة على ما سوف يناله بعد موته، فأصبح المثل الأعلى معكوسا، وذاك الذي يجب أن ينال في هذه الحياة تأجل إلى أجل غير مسمى إلى ما وراء القبر، إلى بعد الموت! ...
ولكن هذا الحلم اللذيذ قد طال، والأجيال تترى ووراءها القرون، وذلك المخلوق (الإنسان) وهو أفضل الكائنات على هذه الأرض لم يتذوق طعم السعادة، وقد ظهر له أن الشيطان قد شاد للأشرار في هذه الدنيا قصورا وملأها بالطيبات والأنوار ومظاهر الرفاهية، وأنه وهو الرجل الطيب الصابر لا يزال هو وأولاده وأحفاده وامرأته وبناته ينتظرون.
ولم يصل إلى يده شيء على الحساب مما هو موعود به، بل إن هؤلاء الذين يصبرونه ويخدرونه من طائفة علماء الرسوم ومشايخ طريقة «بكرة تشوف» متنعمون في هذه الحياة الدنيا وقد جعلوا منها جنة مثل دار الخلد التي يصفون ؛ فدهشه الأمر وأيقظه، لماذا هم لا ينتظرون مثله وقد قبضوا كثيرا من حساب الآخرة، ولعلهم استنفدوا كل حسابهم؟ وإذا كانوا هم العالمون الواثقون لم يصبروا فأحر به وهو الجاهل الذي يتلقى عنهم أن لا يصبر وأن يلح ولو قليلا في طلب دفعة من النعيم على الحساب ... بل لعله وهو ينتظر الجزاء يتنبه فجأة فإذا هو جائع وإذا داره خالية وديونه متراكمة وصاحب الدين يبيع أثاث غرفته ويشلح عنه ثوبه الممزق، فتجوع امرأته وأولاده معه ولا يجد قوت يومه، وإذا لجأ إلى ذلك الذي كان يعلمه الصبر ويقول له غدا ترى ما ينتظرك، أعرض عنه ولوى وجهه، وإن كان محتاجا فقد يتحكم فيه المالك ويطرده كما طرد أبوه آدم من الجنة فخرج منها بلا ثوب ولا درهم، وإن هو مات وخلف وراءه أولادا وزوجة فلهم الشقاء من بعده، فما أعظم الفرق بين تهذيب الروح وحقائق الحياة! ما أعظم الفرق بين الرجاء في المستقبل والأمر الواقع اليوم ... الساعة!
يعيش فقيرا ويموت فقيرا في العراء، وإن كانت أوروبا دبرت لفقرائها جيش الخلاص (ما أفظع اسمه ونظامه!) وملاجئ العمل
Workhouse
على ما فيها من شقاء وعار وهوان وبلاء؛ فإن الشرق لم يصل إلى هذه الدرجة من الإحسان مع كل ما جاء في كتبه المنزلة وآدابه من الحث على الزكاة والإحسان والصدقة، ومع هذا فلماذا تمنع الصدقة والإحسان والزكاة ما دام الله أمر بها؟ ولكل إنسان نصيب في الحياة يجب أن يناله. إن الفقر مرض اجتماعي وحالة يجب شفاء المجتمع من أعراضها.
عليك بالعلم والاجتهاد والاستنارة وطلب المزيد من فهم الأشياء على حقيقتها واكتساب التجربة والاختبار وتحقيق الأشياء بنفسك، تلك أسباب النجاة أمامك فاتبعها!
ألمانيا وإنجلترا
لقد ألف المؤلفون كتبا كثيرة ليفسروا أسباب تمايز بعض الأمم بذكائها، جريا وراء تعليل ينطبق على الحقيقة التاريخية. وكان آخر من ألف فيها هوستون شمبرلن في كتاب «أسس القرن التاسع عشر»، وجيز والمؤرخ الفرنسي وميشليه وتين والدكتور إميل رايش وغيرهم، ولكن هذه النظرية قد ماتت الآن، والذكاء موهبة مشاعة بين جميع الأجناس والأمم ولم تختص به أمة دون أمة ولا شعب دون شعب، وقد هجر هذه النظرية كبار المؤرخين في كتبهم أمثال «ولز» في «تاريخ العالم»، وقد أهرقت دماء المحابر في سبيل تأييدها وضده، والآن قد زالت من عقول المفكرين والعلماء وكتبهم، ولكنها لم تزل من أفكار العوام فترى الإنجليزي يعتقد أنه أذكى العالم وشعبه أرقى الشعوب، وكذلك الفرنسي والألماني وغيرهما، وكل هذا راجع إلى رذيلة الغرور والإعجاب بالنفس.
فإن الشعب الروماني كان أقوى الشعوب وأذكاها في زمنه وقد كانت قوته الحربية والسياسية مضرب الأمثال، ومع ذلك قد قضى عليه بضعة رجال من اليهود الثائرين الذين تشتتوا بعد عهد أستاذهم ومعلمهم عيسى المسيح، فتمكن بولس وبطرس وبعض الحواريين بخطبهم وكتبهم من دك أعظم إمبراطورية حربية في العالم، وهكذا تمكن المسلمون الخارجون من الصحراء من القضاء على دولة الفرس ودول العراق ومصر والهند وشمال أفريقيا، بل هاجموا الأوروبيين في أوطانهم واستولوا على ممالكهم، ولم يكن قد مضى على ظهور الإسلام سبعون أو ثمانون عاما.
ويا حبذا لو استفاد الشرق من مصائبه! فإن الهزيمة لا تكون دائما سببا في السقوط أو الموت، فإن بعض الأمم مدينة في نهضتها إلى هزيمتها، فإن ألمانيا التي كانت أشرفت على الاضمحلال صدمت صدمة كبرى في موقعة إينا 1806 وقد أنزلتها تلك الموقعة إلى حضيض الخيبة والذل، ولكن هذه الهزيمة أيقظت شعور الألمان ونبهتهم إلى ما هم فيه من الانحطاط، ومن ذلك اليوم صحت عزيمتهم على النهوض، وفي يوم هزيمة ألمانيا بدأت نهضة ألمانيا. وربما كانت هزيمة الفرنسيين في سيدان 1870 هي التي أيقظت همة الفرنسيين، وما زالت تلك الهمة متيقظة في قلوب بعض الرجال أمثال بوانكاريه وديلكاسيه وكلمنصو حتى كانت حرب الانتقام في سنة 1914، وفيها استردت فرنسا الألزاس واللورين وقهرت ألمانيا في معاهدة فرساي بعد أن ألبت عليها دول العالمين القديم والجديد. فلا يجوز لنا أن نستهين بالهزيمة والانكسار، فرب هزيمة أورثت نصرا! وقديما قال أحد المتصوفين المسلمين: «رب معصية أورثت ندما واستغفارا خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا.» أو ما هذا معناه. أما الهزيمة الذميمة فهي التي تميت القلب وتضعف الهمة فلا تقوم للمهزوم بعدها قائمة، وهي مثل الانتصار الذي يملأ المنتصر إعجابا وغرورا فيكون ذلك بداية هلاكه.
وكل هذا يدخل في اعتبارات تكوين الأمم الخلقي والنفساني، فإن الإنجليز اشتهروا بقوة الإرادة وأذاعوا عن أنفسهم أنهم يعتقدون بأنهم مخلوقون لحكم العالم، والحقيقة أنهم جعلوا الاستعمار في القرن الماضي لسرقته وسلبه ونهبه، فإن الله أعدل من أن يخلق شعبا ليحكم العالم. والحقيقة أن كل أمة مخلوقة لتحكم نفسها، ولكن الأمة الذكية القوية الإرادة العنيدة المتشبثة قد تسود أمدا قصيرا أو طويلا غيرها من الأمم المستضعفة المستسلمة. وقد اكتسب الإنجليز نصيبا من الصلابة والعناد التي تشبه صلابة الكلب الإنجليزي القوي المشهور بولدوج، واسم الشعب كله جون بول مزيج من اسم شخص واسم حيوان وهو تشبيه صادق، وهذا «البولدوج» تراه متين العضلات يسير في الأرض مستعرضا وناظرا إلى العالم بغباوة وشراسة، وهو مكشر عن أنيابه الدميمة فلا تدري أضاحك هو أم عابس، أعدو هو أم صديق، وهو يبقى سائرا أو مقعيا في حالة صمت عميق لا يبدي حركة ولا صوتا ولا يلهث كغيره من الكلاب سواء أحملت عليه أم لم تحمل، ولكنه إذا دنا من شخص وعضه وأطبق فكيه الخبيثتين على قطعة من لحمه فلا يفرقهما إلا عن أشلاء ممزقة، لأن أنيابه مصنوعة بحيث لا تنفرج إذا هي انطبقت وهو نفسه لا يعرف كيف يفرجها، وتراه أحيانا يعض مولاه فهو لا يفرق بين العدو والحبيب، وربما يستأذن عليه سيده ومربيه في جوف الليل أو في غرفة مغلقة فيهاجمه البولدوج ويعمل فيه أنيابه كما يفعل في أجنبي يهاجم مولاه!
وكثيرا ما شبه علماء الاجتماع الخلق الإنجليزي بأخلاق البولدوج.
فترى الإنجليزي صابرا على الشدائد، مستعدا لمقاومة ما يقع به من النوائب، مقيما على الكفاح حتى يبلغ مقصوده من قهر عدو أو فتح قطر أو دفع بلاء.
وأنت إذا شهدت الطفل الإنجليزي كما شاهدناه في وطنه ترى أن أمه تعوده منذ نعومة أظفاره على التخلص من ضعف الطفولة وخنوثتها، فلا يبكي ولا ينفعل ولا يظهر عواطفه على الأسلوب الذميم الذي تراه في أطفال الشرق وصبيانه. وفي الرابعة عشرة حيث يكون الطفل الشرقي لا يزال مدللا منعما ترى الفتى الإنجليزي شاعرا بعبء المسئولية وتراه حائرا في البحث عن خطة يسلكها في الحياة، وهو يريد أن يشق لنفسه طريقا سواء في الجامعات أو في المستعمرات أو في سبل العمل المجدي.
وقد يكون الصبي الشرقي أو الأوروبي غير الإنجليزي شديد الذكاء واسع الاطلاع، ولكنه لا يبلغ شأو الصبي الإنجليزي في الاعتماد على النفس والاستعداد للكفاح في الحياة. وقد يكون الشرقي أو الأوروبي مهملا للغد أو متواكلا، ولكن الإنجليزي لا يعرف إلا تدبير الغد والاستعداد له وحسبان حسابه، وهو يشعر بالمسئولية الملقاة على كاهل الرجل، ولا شيء في العالم ينضج الرجال مثل الشعور بالمسئولية.
التصوف في الشرق والغرب
طالما نسب بعض الناقدين تأخر الإسلام وانحطاط دوله إلى المتصوفين والدراويش، وفي الحق كان لهذه الفرق مضار كثيرة في بلاد تركيا القديمة والحديثة، حيث كانت التكايا حاشدة بأشخاص قادرين على الكسب والعيش في بحبوحة من ثمرة أعمالهم ولكنهم عاكفون على الأكل والنوم وتقوية أعضائهم بحجة العبادة، وما العبادة إلا تابعة للعمل في الحياة، وليست الحياة تبعا للعبادة، وبالرغم من أن الرهبانية محرمة في الإسلام فكنت ترى هذه الألوف من الرجال يعيشون عيشة الرهبان في مقصوراتهم مع أن ظواهرهم لا تدل على رهبنتهم، وفي الحق لا ترى من هؤلاء العماليق خيرا لا لأنفسهم ولا للجماعة، وأفضل ما نراه من أعمال هذه الفرق في عصرنا هذا هو الذكر على أنغام الموسيقى، وقد أطلق السائحون على طائفة المولوية اسم «الدراويش الرقاصة».
ولكن قد ظهر في أوروبا بعض الفرق المتصوفة مثل فرقة اليسوعيين، فكان لهم نصيب عظيم من الأعمال العامة في الدين والسياسة والتعليم، واليسوعي يعطي عهدا بالفقر والعفة والطاعة، وقد انتشرت تلك الطريقة اليسوعية في أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم، فكانوا في القرن السابع عشر نحو ثلاثين ألفا، وقبل أن يقاومهم البابا كليمنتس الرابع عشر في 1759 بلغوا ثلاثة وعشرين ألفا، وهم الآن حوالي عشرين ألفا من الجيزويت.
ويرجع الفضل في نجاح تلك الفرقة إلى شخصية ليولا مؤسسها في أواسط القرن السادس عشر، وقد قضى سبع سنين في التقشف والاستعداد لتأسيس فرقته منقطعا في صومعة في مونمارتر بباريس 1528-1535، ومذهب ليولا يلخص في كلمتين هما «الجمع بين الذكاء والإرادة» في خدمة مبدئه، وأن لا يكون الجمع بين تينك الفضيلتين قاصرا على الأفراد بل شائعا بين الجماعة، وقد رأى ليولا أنه إذا توافرت هاتان الخلتان للفيف من البشر فلن يقوى عليه إنسان، كما أن سائر الأنظمة السياسية والدينية تتلاشى أمام تلك القوة. وقد جاءت الحوادث مصدقة لما كان يراه ليولا، فتحكم هو وفرقته في تسعة أعشار الحوادث التي حدثت في أوروبا ولا يزال سرها غامضا.
وقد كان التهذيب الخلقي الذي تحلى به اليسوعي منطويا على خلاص عضو الجمعية من الأهواء والانفعالات التي تعصف بأخلاق الرجال وتعبث بحياتهم، فيتغلب الرجل على الحب والبغض والطمع والطموح والشهوة والتمتع، وبالجملة يقطع كل أوتار الآمال من صدره ويبقى أداة لتنفيذ إرادة شيخه.
وفي الوقت الذي كان فيه شيخ الجبل يؤلف فرقة من الحشاشين والعدميين والفوضيين يطيعون أوامره ويبذلون حياتهم في سبيل طاعته - ولكنهم مسخرون لخدمة الفرد وبغير دافع ديني أو معنوي، بحيث كان أحدهم يلقي بنفسه من شاهق طاعة لأمر زعيمهم الذي مناهم بالجنة وعودهم تدخين القنب الهندي ليسبحوا في عالم الأحلام والخيالات، وجعل مثلهم الأعلى صورة من شهوات البدن - رأيت هؤلاء اليسوعيين يؤسسون فرقتهم أو طريقتهم على أساس الخلاص من حكم البدن. ولا فرق بين اليسوعيين والمتصوفين فإن كلا منهما فرقة دينية، ولكن الأولى اتبعت مثلا صحيحا في الزهد والتقشف والتخلي عن الأهواء، والثانية اتبعت طريقة استدراج الأنصار جزاء تمتع الجسد في حياة مستقبلة، فقد روى مؤرخو الإفرنج والعرب أن حسن بن الصباح - وكان يسمى شيخ الجبل - قد بنى قصورا وزرع بساتين وحدائق وجعلها في مجموعها تشمل نعيما كالنعيم الذي جاء في وصف الجنة، وكان يذيق مواليه المخدرين لذة اليقظة في وسط هذا النعيم ويمنيهم بمثله إذا هم أطاعوه في أوامره ونفذوا إرادته في الحرب والقتل والاغتيال.
بيد أن الشرق والغرب يلتقيان ويفترقان في صفات كثيرة، فإن الكنيسة في الغرب سواء أكانت كاثوليكية أو بروتستية أو كالڤينية تراها قابضة على زمام الدولة، وقد تجلى هذا في إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا، فإن الكنيسة حكمت إسبانيا حتى خربتها ومن أعمالها هناك محكمة التفتيش، وعندما حل مذهب كالڤن في إنجلترا أحدث الحروب الأهلية وأدخل تعديلات خطيرة في الدستور الإنجليزي، ولما دخل مذهب كالڤن في فرنسا سبب حربا أهلية دامت من 1559 إلى 1593، ولا يزال أثر هذا المذهب في مقاطعة جنيف التي حكمها كالڤن بنفسه وكان فيها ملكا وقسيسا، ولا يزال تاريخ تلك المقاطعة وقانونها وأخلاق أهلها متأثرة بطابع هذا الرجل الديني الرهيب. أما في فرنسا فلم تتمكن الحكومة من الفصل بين الكنيسة والحكومة إلا في سنة 1904.
وفي ألمانيا حاول بسمارك في سنة 1874 بعد أن انتصر على فرنسا أن يخلص من كابوس الكنيسة فأصدر قانون مايو الشهير متمردا على البابا، ولكن بعد انقضاء ثمانية قرون على عهد جريجوري السابع وعلى إذلال هنري الرابع بباب خليفة القديس بطرس في كانوصا، فإن البابوية ما زالت قوية، واضطر المستشار الحديدي بسمارك لسحب قانونه والخضوع لرومة والانحناء أمام سلطة الحزب الكاثوليكي في الريشستاج، وفي العهد الأخير تآخت الفاشبزتيه مع البابوية واصطلح البابا مع الزعيم، وصار للبابا حق الخروج من قصر الفاتيكان في سيارة من «فضة» والكلام في التليفون مع أنحاء العالم بتليفون له مقبضة من ذهب.
ومعلوم أن البابا في نظر الكاثوليك معصوم من الخطأ كالأنبياء عند المسلمين 1869-1870، كما أن البابا أصدر في 1864 منشورا يصرح فيه بأن «الإنسان عاجز بفطرته عن الخلق والاختراع ولا يمكنه إيجاد الحقيقة، ولكنه يستطيع الفهم والإدراك للحقائق التي تتجلى له بفضل الله من زمن بعيد، وما العلم الحديث إلا مجموعة ألفاظ متناقضة.»
في حين أن الإسلام لا يتدخل في الحكومات ولا شأن لرجاله في تدبير الدولة، ولم يعرف أن عالما أو شيخا دينيا تدخل في شئون المملكة أو الدولة أو فسر الدين بما يؤخر تقدم الأمم أو يؤخر العلم؛ ترى بعض المؤرخين النصارى يدعون بأن تقدم التعليم وانتشار العلوم الرياضية والطبيعية سيدني ساعة الكنيسة الكاثوليكية لما بينهما من التناقض، وترى أن الإسلام يأمر بطلب العلم ويحث عليه ويكافئ العالم ويميزه ويضعه في موضع الشرف في أماكن شتى من كتابه المنزل وتعاليمه.
بيد أن هذا التضييق من رجال الكنيسة على أهل الفكر والعلم قد انقلب إلى ضده، فأخذ رجال من الفلاسفة الذين يحفظون تاريخ الكنيسة جيدا يهاجمونها في أصلها ويطعنون في جوهرها وينكرون عليها حق الوجود، ولم يكن هذا إلا من قبيل رد الفعل المنتظر حدوثه في كل الحركات العقلية والدينية، وقد وضعوا لمجموعة مباحثها اسم «النقد العالي» وقد ظهر هذا النوع من النقد في ألمانيا ثم في فرنسا، فأخذوا يدعون أن التعاليم المسيحية مشتقة من عقائد وثنية قديمة، وأن عيد نويل ورمز الصليب يرجع عهدهما إلى أجيال بعيدة قبل رومة، وأشهر من كتب في هذا فرنسوا ديبوي مؤلف كتاب «تاريخ الأديان»، وتلاه جودفري هيجنز فألف كتاب «أناكلبس»، وقد ردوا كثيرا من المعتقدات والطقوس إلى البوذية والبراهمانية.
ثم جاءت فرقة علماء توبنجن فبحثت في أعمال الرسل وألف زعيمها ستراوس حياة السيد المسيح وألف فردينان باور الألماني كتاب «بولس رسول المسيح». ولا تزال معاول النقد العالي تعمل في بناء تاريخ الكنيسة المسيحية، ولا شك في أن الكنيسة تتقبل هذا كله بسرور، لأنها تدين بالتسامح والتساهل اللذين ورد ذكرهما في العهد الجديد المرة بعد المرة والفينة بعد الفينة.
أما الإسلام فلم يتقدم أحد لنقده نقدا عاليا ولا نقدا واطيا، لأن تاريخه بسيط، وهو خال من الغموض والتعقيد، وليس فيه ما يحير الفكر أو يربك العقل، وكل الفرق التي ظهرت في العراق وفارس إنما هي فرق باحثين في التأويل والتفسير وليس في التاريخ والنشأة التي أجمع المؤرخون على صحتها، كما قال برتلميه سانتهيلير في مقدمة كتابه في حياة النبي محمد (طبع باريس).
الأديان والنقد العالي
إن تاريخ العالم مقسم إلى فترات، قد تدوم الفترة الواحدة منها حوالي سبعة قرون لا تزيد ولا تنقص، وهذه حقيقة اهتدى إليها بعض المؤرخين بالاستقراء، فإن مدينة رومة تأسست قبل المسيح بسبعة قرون، ودامت سلطة رومة ونفوذها في العالم سبعمائة سنة، وفي نهاية تلك المدة ظهر المسيح بدين جديد ينطوي على حياة أمة جديدة وحضارة جديدة، وكان ظهوره مؤذنا بزوال تلك الدولة الرومانية التي حكمت العالم بالعصا والسكين بعد أن فتحته بالقوة والحيلة.
وفي نهاية القرن السابع المسيحي وبعد مضي سبعمائة سنة على الدول المسيحية الأوروبية ظهر الإسلام، ودامت عظمة الدول الإسلامية سبعة قرون، وفي نهايتها هاجمها الموغول من الشرق والصليبيون من الغرب فكسروها، وقد مضى الآن سبعة قرون من تاريخ انحطاط الشرق العربي الإسلامي، وبدأت نهضة جديدة في الشرق العربي، وجاءت تلك النهضة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، ومن العجيب أن هذا القرن الرابع عشر الهجري قد وافق الحرب العظمى، أي في ختام سبعمائة عام على العظمة الأوروبية بعد نهضتها الحديثة في القرن الثالث عشر المسيحي، وهو العهد الذي يسمى عهد الإحياء ونهضة القوميات والعلوم في أوروبا وانتهى ببداية القرن العشرين المسيحي، لأن الحضارة الأوروبية بلغت شأوها في أول هذا القرن، فمن المؤكد أن دور الشرق في النهضة قد آن، وكل الظواهر تدل على صحة هذه النظرية السبعية. (1)
رومة دامت سبعة قرون آخرها ظهور المسيح. (2)
المسيحية دامت في دورها الأول سبعة قرون آخرها ظهور محمد. (3)
نهضة الإسلام الأولى دامت سبعة قرون آخرها ظهور الموغول والصليبيين. (4)
هبوط المسيحية وأوروبا دام سبعة قرون آخرها عهد الإحياء الأوروبي للعلوم والفنون. (5)
نهضة أوروبا الحديثة دامت سبعة قرون آخرها الحرب العظمى 1914-1918. (6)
نهضة الشرق الحديثة تبدأ في أول القرن الرابع عشر الهجري (القرن العشرون للمسيح).
ومن العجيب أن تطبيق هذه النظرية صحيح في حياة الأمم إذا أخذت على انفراد، فإن أيرلندا بقيت تحت حكم الإنجليز سبعمائة عام ثم تحررت، ومضى على حكم الملوك في بريطانيا سبعة قرون، ودولة الفرس دامت سبعة قرون، وعظمة اليونان الحربية والبحرية وعهد الفلسفة فيها داما سبعمائة سنة، وقد وصل الشرق العربي إلى نهاية ضعفه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهما القرنان المكملان لعهد الهبوط.
الفصل الثالث
بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق
تأخر الإسلام
كانت أعظم ظواهر الانحطاط في الشرق انتشار الجهل وسيادة الاستبداد وموت الأخلاق الفاضلة من النفوس، وصارت الحكومات الإسلامية مطايا للفوضى والاستبداد والاستغلال، وحل محل الخلفاء والأمراء العلماء العادلين فلول الموغول وملوك الأتراك الظالمين. وحتى العقيدة الدينية تضعضعت في النفوس، فملأت الخرافات عقول الناس وقلوبهم، وأصبح الشرق في دينه أسيرا لقشور الطرق الصوفية وفي أخلاقه أسيرا للمخدرات كالخمر والأفيون والحشيش. ولا شك أن المصلحين ومحبي الخير للإسلام قد ظنوا في تلك الفترة أن الإسلام قد اعتراه خمود يشبه الموت لا سيما وأن كثيرين من النقاد الأجانب كانوا يقولون إن الإسلام بطبيعته غير قابل للإصلاح وغير مستعد للتمشي مع روح العصر، وهؤلاء ينقسمون بطبيعتهم إلى مبشرين مأجورين على محاربة الإسلام وإلى ملحدين أوروبيين يحاربون الإسلام كما يحاربون غيره من الأديان ضاربين صفحا عن آثاره في المدنية، ومن رجال استعمار يحاولون إضعاف الأمم التي تدين بالإسلام ليتمكنوا منها ويحكموها، فكل من قال بأن الإسلام دين تأخر أو غير قابل للحضارة من الإفرنج هو مغرض بلا ريب ولا يمكن الأخذ برأيه ولا يجوز التعويل عليه.
غير أن الأجنبي عن الإسلام لو أخذ بظواهر الأمور لاضطر للاعتراف بأنه حدثت فعلا فترة سكون وجمود تشبه الموت، فقد ساد النقل وضعف العقل وصار القول الذي عليه المعول هو النصوص الجامدة، وفي الوقت نفسه انتشر العداء للحرية الفكرية والعلوم الطبيعية الصحيحة. ولكن هذه الحالات كلها قد ظهر ما يماثلها أو يفوقها في أمم أوروبا ولم يهدمها ولم يكن عائقا لها عند النهوض، وكأن النقاد جميعا سواء أكانوا مخلصين أو غير مخلصين قد فاتتهم تلك المسألة، فإنه إذا آن أوان النهضة الصحيحة في أمة لم يكن الدين حجر عثرة في طريقها ولم يكن علة فشلها، لأن الدين في الواقع كما أثبتنا مرات عدة لا يؤثر في نهضة الأمة، وقد قال إسماعيل حامد المصلح المغربي من الجزائر: «إن مدنية الأمم لا تقاس بما في كتبها الدينية، بل معيارها الصحيح هو ما تنهض به تلك الأمم من الأعمال.»
وعلى الرغم من ضيق الأحوال في الشرق واشتداد السواد والظلام في أيامه، فإنه لم يخل تاريخه من المصلحين الأحرار الذين انتشروا في أنحاء ممالكه. ويظهر أن مسلمي الهند هم أول من بدأوا بالنهضة، فبدأوا بحركة التعليم على يد سيد أحمد خان مولولي، وما زالت تلك الحركة نامية إلى عهد الشقيقين المعروفين المرحوم مولانا محمد علي وأخيه شوكت علي،
1
وقد توفي محمد علي في لندن في سنة 1931 أثناء المؤتمر الهندي ودفن بالمسجد الأقصى في رمضان سنة 1349، وطاف أخوه بعده بعض الأقطار الإسلامية قبل عودته إلى الهند. أما السيد أحمد خان فقد أنشأ كلية عليكره الشهيرة، وكان المصريون يكتتبون لها في أوائل هذا القرن وتنشر أسماء المكتتبين في جريدة المؤيد في عهد الشيخ علي يوسف، وقد روى عنه المرحوم بلنت في كتابه «الهند في عهد ريبون»، طبع لندن 1909 ص118 وما بعدها، أن سيد أحمد خان أراد أن يكون التعليم في مدرسته بالأوردي ثم عدل عن ذلك إلى الإنجليزية، وليس في المدرسة أو الكلية تعليم ديني، وقد بدأ أحمد خان حياته سنيا ثم صار وهابيا ثم عاد ربانيا. وقد زار بلنت كلية عليكره وأعجب بها كثيرا، وكان السيد أحمد خان انتخب لها مديرا إنجليزيا اسمه مستر بيك، ونجح بيك في أعماله نجاحا عظيما، وتوفي في أوائل القرن العشرين بعد أن عمل نحو ربع قرن في خدمة الكلية. وكان أحمد خان في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر - حوالي 1865 - أول من حث المسلمين على قراءة كتب أوروبا والانتفاع بما فيها من العلوم الحديثة اقتداء بالعرب في صدر الإسلام، فإنهم لم يأنفوا أن ينقلوا عن اليونان علومهم وهم وثنيون وتعاليمهم تخالف الكتب المنزلة. ولم يكن مسلمو الهند مقصرين في هذا السبيل، فقد ظهر منهم نوابغ أمثال السيد أمير علي مؤلف كتابي «روح الإسلام» و«المرأة المسلمة» وهما من أنفع الكتب وأفضلها، وقد عين في آخر عمره عضوا في مجلس الملك الخاص بلندن بعد أن تقلد القضاء الأعلى في بلاده أعواما، ومنهم شيراغ علي وكان كاتبا قديرا بالإنجليزية ويعد زعيم حزب المجددين في الهند، وكان يرى أن روح الإسلام بعيد عن الجمود وتقييد العقل، وأن القرآن كتاب هداية للمسلمين وليس عثرة في تقدمهم.
نهضة المسلمين في الهند
وقام في شمال أفريقيا خير الدين باشا أكبر وزراء تونس، وألف كتابا مهما في مستقبل الإسلام. وقام في تركيا رشيد باشا ومدحت باشا. وظهر السيد جمال الدين الأفغاني وخدم الأفغان والفرس والهند ومصر وتركيا، ومن تلاميذه الشيخ محمد عبده.
وفي كل قطر من أقطار الإسلام ترى الأحرار والمصلحين يزدادون عددا ويشتدون ساعدا وعضدا، ويضمون تحت رايتهم رجالا من سائر الأحرار الخبراء الراسخين في علم نهضات الأمم الواقفين على أسرار تقدمها. وقد دبت روح الإصلاح في الإسلام وتغلغلت وأخذت تحرك جثمانه المهول فحركته وصار ينفعل انفعالا عظيما.
وقد يكون المصلح الإسلامي معتزلا أو حر الفكر، ولكنه لا يزال يعمل على خدمة الإسلام وإنهاضه مظهرا لعامة الشعب إيمانه وصلاحه وتقواه، ومخفيا أفكاره التي قاده إليها درسه أو إمعانه وهو لا يبطن للإسلام شرا.
والفرق بين المسلم المفكر والأوروبي المفكر أن الأوروبي إذا صار حر الفكر أو ملحدا فهو يجاهر بذلك وينشره كما صنع برادلو 1833-1899، فإن هذا الرجل انتخب للبرلمان ثلاث مرات متوالية، وأبى قسم اليمين لأن القسم يخالف مبادئه ولكنه أقسمه في النهاية سنة 1886، وأسس فرقة لحرية الفكر، وأشهر تلاميذه المستر روبرتسون الذي ألف «تاريخ حرية الفكر في العالم» في مجلدين، وخدم المسألة المصرية في سنتي 1906 و1907 وكان صديقا حميما لمصطفى كامل وزار وادي النيل في تلك السنة الأخيرة. أما بعض المسلمين أحرار الفكر فتراهم للأسف يخفون ذلك وقد يتخذون الدين سلاحا لمنفعتهم، ووصف كاتب هندي أحدهم فقال: «إن هذا السيد المسلم يعرف من أين تؤكل الكتف، فهو يبالغ في الظهور أمام قومه بمظهر المسلم المتشدد بشعائر الإسلام غير أنه منطو على آراء لم تخطر على قلب ڤولتر نفسه.»
وروى لنا السيد عبد العزيز الثعالبي عن المرحوم محمد علي الذي تلقى العلم في جامعة أكسفورد أنه عاد إلى وطنه متشبعا بالروح الإنجليزي، ولا يعرف عن الإسلام إلا اسمه، فلما اعتقل في الحرب العظمى وقضى في السجن خمس سنوات درس خلالها الدين وحفظ القرآن فخرج مسلما صحيحا وخطيبا بليغا، وبدأ ظهوره بالدعوة من ذلك الحين 1920. وروى أخوه شوكت علي في محاضرة ألقاها في القاهرة (رمضان 1349) أنه عاد إلى وطنه مقلدا للإنجليز يعيش عيشتهم ويأكل أكلهم ويلعب ألعابهم، ولما لمح احتقار الإنجليز للمسلمين والهندوك الذين يقلدونهم خلع ثيابهم وأرخى لحيته ووضع على رأسه عمامة وتقشف في حياته فصار مهيب الجانب وشعر الإنجليز بأنه ذو شخصية، وأن للإسلام رجاله الذين يذودون عن حياضه، وقد رأيناه يلبس الملابس الوطنية المنسوجة في بلاد الهند، ويضع على رأسه شعارا معدنيا للخلافة وفي صدره وسام عليه رسم الكعبة المشرفة بنقوش بالمناتير.
كان أول من فطن إلى أهمية الحج في الإسلام في العهد الحديث المرحوم عبد الرحمن الكواكبي (والمسلمون الآن يبحثون عن قبره في القاهرة ليقيموا عليه أثرا وهم لا يهتدون إليه، وكان هذا دأبهم مع جميع عظمائهم المؤمنين)، فقد ألف كتاب «أم القرى» وتخيل فيه اجتماع مؤتمر إسلامي لإصلاح الإسلام وإنهاضه، وجاء بعده بفكرة المؤتمر المرحوم إسماعيل عضبرنسكي من بغجه سراي بالفريم وأقام في القاهرة حينا ولم يفلح. ويعد الحج في الحقيقة مؤتمرا إسلاميا سنويا، ولكن المسلمين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، لأن عظماء الإسلام في الغالب لا يحجون ولا يحشد بمكة إلا العوام من سائر الأقطار بدافع ديني محض.
وقد مرت بالخلافة أدوار وأطوار وتولاها العربي الصميم فالدخيل فالأجنبي، حتى إن السلطان سليم اشترى المبايعة من آخر بني العباس في القاهرة وكان رجلا خاملا، وانتهى الأمر بضياع الخلافة بتاتا وعزل آخر سلاطين آل عثمان، وكان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء ولا عبرة بالخليفة الصوري الذي يعيش الآن في إحدى مدن أوروبا. وعقد بالقاهرة مؤتمر لانتخاب خليفة في 1926 ففشل، وعقدت مؤتمرات في جزيرة العرب نفسها ولم تفلح، لأن عرب الجزيرة يتنازعون بين الإمام يحيى وابن السعود، وكانت محاولة الملك حسين أن يكون خليفة مما يستدعي الابتسام، فزمن الخلافة ولى وفكرتها اندثرت، ويجب على المسلمين أن يعرضوا عنها، لأنها لا تصلح لهذا الزمان، ولأن الخليفة بمعناه الأصلي الصحيح يجب أن ينتخب انتخابا حرا مباشرا، وهذا غير ميسور، وهو بمثابة رئيس جمهورية إسلامية. فإن صار أحد الملوك خليفة فهو يكون حاكما مستبدا، وهذا غير مرغوب فيه لأن العالم يسير نحو الديمقراطية والحرية، ولم يبحث المسلمون حتى الآن في كيانهم القومي حتى يتخطوه إلى البحث فيمن يتولى الحكم، وهذا آخر ما يجب التفكير فيه فوجب على المسلمين أن يتجهوا إلى روح الإسلام ويستمدوا منها قوتهم.
عدم صلاحية الخلافة الآن
إن هجوم أوروبا الفظيع على الشرق يرجع إلى القرن التاسع عشر، حيث بدأ الفرنسيون بالاستيلاء على الجزائر واستولت روسيا على القوقاز وبسطت إنجلترا نفوذها على الهند ومصر.
فتنبه المسلمون لحالتهم، وقام في كل قطر من أقطارهم رجال يدافعون عن أوطانهم بالسيف أو بالقلم كعبد القادر في الجزائر، وشامل في القوقاس، وعرابي في مصر، والمهدي في السودان، ويعقوب بك في تركستان الشرقية.
غير أن هذه الجهود كانت مبعثرة وغير موحدة، في حين أن أوروبا كانت كلها يدا واحدة وذات قوة منظمة، وحتى إمبراطور ألمانيا الذي كان حليف تركيا كان يجبرها على طاعة أوروبا والتسليم لها إذا حدث بين أوروبا وتركيا خلاف جدي، ولم يكن يبقي عليها إلا لتسخير جيشها لحروبه التي انتهت بدمارها وأتت على البقية الباقية من أملاكها، فلم يتدخل ذلك الإمبراطور في أية حرب نشبت بين تركيا وأوروبا، حتى حروب سنة 1912 التي فقدت فيها كل أملاكها الأوروبية بقيت ألمانيا مع الدول الأخرى تشهد مصرعها ودول البلقان الحقيرة المتوحشة تنهشها وتقترف فظائع القتل والإجهاز على الجرحى وهتك الأعراض وذبح الأسرى حتى ضج ضجيج فريق من كتاب أوروبا أمثال بيرلوتي وكلود فارير، ولم يحرك كاتب إنجليزي ساكنا.
ولما رأى المسلمون في أنحاء العالم أن أوروبا أصبحت تعتدي على الشرق في قسوة ووحشية بقصد الامتلاك والاستعباد؛ فكروا في أن الاستقلال السياسي يجب أن يسبقه التجدد الروحي والعقلي والعلمي والتربية النفسية، وأن هذا الإصلاح المعنوي هو العلاج لذلك الشقاء العظيم الذي يعانيه المسلمون من الذل والهوان في سائر أقطارهم، ففكروا في الرجوع إلى الطرق الصوفية، ولكن هذه الطرق كالنقشبندية والبكطاشية وغيرهما قد قالت كلمتها الأخيرة وخرجت تتسلل من مسرح الحياة العامة، ولن يكون لها دور تمثله في حياة الإسلام بعد ذلك، كما أنني ضعيف الأمل في الوهابية والسنوسية.
وكلتاهما طريقتان للإصلاح الديني ناشئتان في الصحراء الأولى في جزيرة العرب، أي في آسيا والثانية في أفريقيا، والطريقة السنوسية تقوى وتنمو وتعظم وتنتشر ولكنها لم تركب يوما مركبا خشنا ولم تسلك مسلكا وعرا. ومدار هذه الطريقة على تعليم أفرادها الطاعة المطلقة للمقدم والوكيل في الزوايا، فهي ترجع إلى تسويد الفرد وتحكمه وإطلاق يده، بل يعيش أفرادها تحت سلطة ثنائية المقدم والوكيل. والسنوسية بقوتها رابضة ولم تحرك ساكنا ولم تشترك في حرب ظاهرة ولم تجاهر بعدائها لأحد، فعلمها عند ربي ومستقبلها مجهول.
2
أما الوهابية فعلى العكس ظهرت بأنها قوة محاربة وقد فتح رجالها بلاد الجزيرة ويملك أحدهم الآن معظم بلاد العرب ولا يزاحمه فيها إلا الإمام يحيى، ولكن هذا الملك العربي العظيم تبقى سلطته محدودة ما دام محوطا من جميع الجهات بالقوة الإنجليزية في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهو في الوقت الذي يضم أثناءه إلى بلاده إمارة العسير الإدريسية بمحالفة ولاء أشبه شيء بمحالفات الحماية الأوروبية تراه يعقد محالفة حسن الجوار مع ملك العراق الخاضع للانتداب الإنجليزي وتراه يحتمل ثوار الدروز على حدود ملكه «احتمالا دوليا»، فالوهابية حركة دينية حربية وهي بطبيعة الحال مقضي عليها بأن لا تخرج عن جزيرة العرب.
ويغلب على فكري أن كلا من مؤسسي الوهابية والسنوسية ظنا أن الإسلام ظهر أولا في الصحراء وخرج بقوته لفتح العالم، فأرادا تقليد صاحب الشريعة الإسلامية في كيفية التكوين البدائي.
ولكن محمدا وصحابته أتموا العمل كله في بضع سنين، وهؤلاء الوهابيون والسنوسيون مضت عليهم عشرات السنين وهم في صحرائهم رابضون، وربما كان يكون للسنوسية مستقبل في أفريقيا حيث إرشاد الزنوج الوثنيين فتكون حركتهم سائرة نحو الجنوب والغرب، وحينئذ يكون عملهم جزءا من المنهاج الذي نتمناه لأفريقيا وهو انتشار الإسلام فيها وتنظيم حياتها الاقتصادية لتخليصها شيئا فشيئا من النفوذ الغربي الظالم، ونحن إذا عرفنا أن هذا هو منهاج السنوسية نرحب بها ونشجعها ونتمنى لها النجاح، ولكن ينبغي لها أن تتضافر مع الأمم الشرقية الأخرى لتوحيد القوى وتبادل المعونة المعنوية، وتروى عن السنوسي عبارتان: الأولى قوله «الترك والنصارى إني أقاتلهم معا وأضربنهم ضربة واحدة»، وهذه الرواية لم تثبت صحتها ولم نر لها أثرا في الحقيقة.
والثانية أنه لما قام المهدي في السودان واستنصر السنوسي طرد السنوسي رسوله وأجاب هازئا: «من يكون هذا الصعلوك الدنقلاوي؟ ألا يمكنني أن أكون أنا المهدي إذا أردت ذلك؟»
ويؤيد صحة هذه الرواية أمران: الأول ما جاء في تاريخ السودان عن هذه الحادثة، والثاني أن السنوسي أعلن تكذيب المهدي وعدم تصديقه. فهذه فرصة كانت سانحة للسنوسية لمحاربة أوروبا تركتها تفوت، وربما كانت السنوسية ضعيفة في أول أمرها فلم يرغب السنوسي في معونة رجل من قارته وجنسه ودينه، كما أنه لم يرغب في الظهور بمظهر المعادي لأوروبا. ذكرت في حاشية ما كان من شأن السنوسية مع الفاشستية، فإن الطليان الذين عجزوا عن إخضاع طرابلس في عشرين عاما لقوا أثناءها الخيبة والهزيمة، أظهروا قسوتهم التي لا حد لها فخربوا زوايا السنوسية وصادروا أملاكها وداسوا حرمة مساجدها، وأعلنوا الحرب على كل من ينتمي إليها، وقد حدث ذلك كله في ربيع سنة 1931، وكانت خاتمة تلك الفواجع مقتل المرحوم السيد عمر المختار الذي أسروه وشنقوه وهو بطل جريح في الثمانين من عمره.
تركستان الشرقية
زار القاهرة في مارس سنة 1931 شاب تركستاني من تركستان الشرقية اسمه السيد منصور خان يطوف بأنحاء الشرق للإلمام بشئون الأمم العربية والإسلامية، والسعي لإنشاء علاقات بينها وبين وطنه تركستان الشرقية حيث يعيش ملايين من المسلمين منقطعين عن بقية العالم لا يدرون من حوادث الأمم الإسلامية وشئونها شيئا. وقد كتب هذا الشاب يشكو حال بلاده وظلم حكومة الصين المستبدة التي تستغل بلاده وتحكمها على الطريقة الرومانية، وقد قامت في 1870 ثورة في تركستان الشرقية فأظهر أهلها المسلمون من الاستبسال والمغامرة في القتال ما لم يسمع بمثله من قبل، وقام بينهم الزعيم يعقوب بك فهزم الصين وضم تركستان ونويان واستقل بهما عدة سنين وصار يعقوب يلقب بلقب أمير المؤمنين في الصين بعد أن صارت له دولة، ولكن الصين حشدت جيوشها وهزمته واستولت على البلاد من جديد وسكانها لا يقلون عن عشرة ملايين، أي عدد سكان القطر المصري قبل الحرب العظمى. وهم على صفات جليلة من الشمم وإباء الضيم والشجاعة وعلو الهمة، وقد دخلوا في الإسلام أفواجا، وهؤلاء المسلمون جميعا يحكمهم أهل الصين البوذيون بالسلطة المطلقة. ولا يزال تقسيم الأمة التركستانية الاجتماعي تقسيما عتيقا، ففيهم الزراع والصناع والتجار والعلماء، وعلماؤهم يعرفون العربية والفارسية وتعليمهم كتعليم الأزهر القديم، وبعضهم يعلمون بالتركية، وأعظم مدارسهم في كاشغر واسمها خاناق مدرسة، وعدد طلاب المدارس يبلغ أربعين أو خمسين ألفا.
فهذه أمة مسلمة شرقية لا تحكمها أوروبا ولكن يحكمها الصينيون الشرقيون الوثنيون، وهم في بلادهم مثال الضعف والفوضى والمظالم فغلبتهم اليابان في 1895، وقام نضال بين الإمبراطورية والجمهورية التي أسسها سن يات سن لا يزال حتى هذه الساعة. •••
ونشبت مؤخرا حرب بين الصين واليابان بعد خمس وثلاثين سنة على الحرب الأولى بينهما، واليابان تريد منشوريا والصين ممزقة بين الحروب الأهلية وفتنة الشيوعية. وتتميز هذه الحرب بكونها واقعة رغم أنوف جمعية الأمم لأن الدولتين المحاربتين من أعضائها، ففقدت العصبة هيبتها في الحقيقة. وربما جرت هذه الحرب وراءها ويلات في الشرق والغرب بسبب دسائس روسيا وغيرها، ولعل تركستان الشرقية تنتهز هذه الفرصة لتحرير وطنها.
الفصل الرابع
تألب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام
أوروبا تتألب على تركيا
في مستهل هذا القرن العشرين بعد أن تنبه الشرق الإسلامي العربي وبعد انتصار اليابان على روسيا؛ قامت حركة الفرس الدستورية وشبت نار ثورة عظيمة فناهضتها روسيا التي كانت دولة استعمارية وخنقت تلك الثورة مستعينة بالشاه محمد علي الذي لقي حتفه مؤخرا، وقد ضرب مجلس النواب الفارسي بالقنابل وسجن أعضاءه وقتل من زعمائه من قتل.
وفي سنة 1908 ظهر الدستور العثماني وبدأت الحركة الوطنية العثمانية في الظهور بقوتها، فخشيت أوروبا عاقبة ذلك فأوعزت إلى إيطاليا بالهجوم على طرابلس في 1911 فهاجمتها واستولت على السواحل وحدثت فيها حرب تشيب لهولها الولدان وجيوش الطليان، ولا تزال تلك الحرب قائمة بين إيطاليا وبعض المحاربين من رجال القبائل.
وفي سنة 1912 تألبت دول البلقان الصغرى على تركيا وحاربنها ونشرن بلاغا يشبه كلام الملوك الصليبيين في القرون الوسطى، ولم ينكر هذا الأمر أحد من ملوك أوروبا حتى ولا إمبراطور ألمانيا حليف تركيا الوحيد. ومن المناظر التي كانت تفتت القلب في القاهرة في أثناء تلك الحرب والتي كانت تدل على جمود أهل مصر وجهلهم واستغراقهم في الغفلة أن الصبيان من باعة الجرائد كانوا ينتشرون في عاصمة مصر انتشار الجراد في كل ساعة من ساعات النهار منادين باسم جريدة يونانية اسمها «فوس» أي النور، وهي تحمل أنباء انكسار الترك ساعة فساعة وتخريب مدنهم وانهزام جيوشهم واحتراق مدنهم، وجماعة الأروام والبلغار والصرب ممن يعيشون في مصر يقبلون عليها ويشترونها ويقرءونها شامتين وهم يسيرون في شوارع القاهرة ويربحون ويدفعون ثمن الجرائد من أموالنا، والمصريون لا يدركون هول هذا الأمر ولا يشعرون بفظاعته، ولو أنك تخيلت الألمان في شوارع ليڤربول يقرءون في صحف ألمانية أخبار انكسار الإنجليز في عاصمتهم وصبر الإنجليز على ذلك؛ لأدركت هول هذه المسألة، ولكن وداعة أخلاقنا وإكرامنا للضيف وظننا بأن هذا الأمر لا يعنينا جلب علينا هذا وأفظع منه ...
وقد تمكنت دول البلقان من التغلب على تركيا وطردنها من أوروبا ولم يبقين لها إلا الأستانة، ولكن أجزاء أخرى من العالم الإسلامي أدركت هول المصاب فشعر له المسلمون في الهند، وما كان أبشع منظر العالم الإسلامي في تلك الفترة المشئومة 1912 حيث كانت تركيا تنتهب وتدمر في أوروبا، وطرابلس تغلب على أمرها في شمال أفريقيا، ومصر تخضع خضوعا قاسيا لحكم لورد كتشنر فاتح الترنسفال والخرطوم؛ فجزع بعض ساسة أوروبا من عواقب ذلك الأمر وخافوا على أوروبا من يقظة الإسلام ومن شدة الغيظ والقهر، فكتب هانوتو يلوم إيطاليا: «إن إيطاليا لا تحارب تركيا وحدها بل تحارب العالم الإسلامي كله، فإيطاليا جنت على نفسها وعلينا جناية لا يعلم غير الله عاقبتها ومنتهاها.»
هانوتو والإسلام
وكأن هانوتو هذا نسي أن فرنسا وطنه لم تفعل أقل مما فعلت إيطاليا، فاستولت على الجزائر وتونس وكانت تحاول الاستيلاء على مراكش، وما حادثة «أغادير» في سنة 1912 ببعيدة، وهي التي أوشكت أن تشعل نار الحرب في صيف 1911 بسبب احتكاك ألمانيا وفرنسا على شواطئ المغرب الأقصى.
على أن هانوتو لم يكن ليكشر أنيابه لإيطاليا حبا في سواد عيون طرابلس ولا نصيحة لإيطاليا ولكن خوفا على مستعمرات فرنسا العزيزة!
وهانوتو هذا هو الذي كان منذ خمسة وثلاثين عاما من أكبر أعداء الإسلام في السياسة والاستعمار.
وقد كتب مقالا مشهورا في جريدة جورنال سنة 1902 جاء فيه:
في تلك البقعة الأفريقية التي أصبحت مقر الإسلام جاءت الدولة الفرنسوية لمباغتته، وجاء القديس لويس الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته (رمز إلى الأخذ بالثأر من العرب والإسلام) ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده بالإيالات الأفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر نابليون الأول فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسويون إلا في القرن التاسع عشر حيث أخنوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارة الأوروبية، فأصبحت الجزائر في أيديهم منذ 70 عاما، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عاما.
وقد وصلت طلائع قوانا الآن إلى أصقاع من الصحراء تنتهي إليها كثبانها الرملية، فعظم اندهاش الباقين من خصومنا (يقصد الأمم الإسلامية) وتزايد ذهولهم، لأنهم بعد اندفاعهم شيئا فشيئا في الفيافي وبطون الخبوت وظنهم أنهم صاروا في أمنع موئل؛ شعروا بأنفسهم وقد حلق عليهم الأوروبيون من جميع الجهات.
إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطوتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين، وهي تدير اليوم شئونه وتجبي ضرائبه وتحشد شبانه لخدمة الجندية وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال.
وبعد أن وصف شعائر الحج واتجاه المسلمين شطر مكان واحد وهو الكعبة، قال:
يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح الأوروبية وطي أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم ولكن لم تثبط هممهم.
ثم أشار إلى رأي فريق من الأوروبيين في الإسلام، ومنهم كيمون في كتابه «باتولوجيا الإسلام»، وفيه قوله المرذول:
إن الديانة المحمدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا، بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رءوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهيستريا العامة والذهول العقلي وتكرار «الله» إلى ما لا نهاية (يشير إلى حلقات الذكر) والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا والماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات!
وكم يباهي هانوتو بأن شعبه الفرنسوي الجمهوري المبادئ البالغ أربعين مليونا ولا مرشد له إلا نفسه، لا عائلات ملوكية فيه يتنازعن الحكم ولا رؤساء يتناولون الرياسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام شعب آخر (هو الشعب الإسلامي بأفريقيا) لا يلبث أن ينمو حتى يساويه في العدد ...
هذا هو جبريل هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقا، وقد ظهر منذ ثلاثين عاما بمظهر المتعصب المستبد الشامت، وهو الذي يلوم إيطاليا في سنة 1911 على هجومها على طرابلس، لأنه كان يطمع في أن تغتالها فرنسا الجمهورية لتكمل لها السيادة على الشعب الإسلامي الأفريقي، وهو الذي يشتغل الآن بوضع تاريخ رسمي للدولة المصرية، فترى أية الخطط يسلك: أخطته الأولى خطة العداء والتعصب والبغضاء، أم خطة الخوف من يقظة الإسلام البادية في ملامه لإيطاليا، أم خطة ثالثة رسمتها له حوادث الحياة وتجاربها بعد أن جاوز حدود السبعين وتربع في دست الأكاديمية وطلق السياسة في وطنه وانقطع للأدب والتاريخ؟
ليس في ظني أن عتاة الغرب يتركون موقفهم حيال الإسلام، فإن ملك اليونان لما حارب تركيا أوقد نار حرب صليبية جديدة، واستنصر وزراء بريطانيا وحرك تعصب المسيحية على الإسلام، وكانت قيصرية روسيا تريد أن تجعل من جامع أيا صوفيا كنيسة، وأراد فنزيلوس ذلك ونشره في الصحف، وغيرهم يريد أن يكون مسجد عمر بن الخطاب معبدا أو هيكلا لملة أخرى، ووصف لويد جورج دخول جنرال اللنبي لبيت المقدس بآخر حرب صليبية.
غير أن هذه الأفكار لم تتغير في خلال السنين القليلة من القرن العشرين التي تلت حروب أوروبا ضد تركيا، فإنه لما نشبت الحرب العظمى وانضمت تركيا إلى ألمانيا مضطرة مقهورة، قام ساسة أوروبا الغربية والحلفاء يصرحون رسميا بأن الغاية الكبرى من الحرب هي إنشاء نظام عالمي حديث أساسه مكارم الأخلاق والإنصاف ورعاية حقوق الأمم المستضعفة وإطلاق الحرية للأمم الصغيرة ونظرية تقرير المصير، ولكن جاء مؤتمر فرساي كاشفا عن مقاصد أوروبا فما خسرته في الميادين الأوروبية كسبته في الممالك الشرقية وخرجت كل دولة منها بغنيمة، فدفع الإسلام حساب تلك الحرب في العراق وجزيرة العرب وسوريا وشمال أفريقيا، لأن فرنسا وإسبانيا اقتسمتا مراكش، وظهر أن أوروبا لا تريد بالشرق والإسلام خيرا وأن منهاج ويلسون وتصريحات ساسة الحلفاء لم تكن إلا حبائل نصبت حتى استعانت أوروبا بجيوش شرقية واشترت سكوت الأمم المغلوبة أثناء الحرب بأبخس الأثمان، وهو الكلام والوعود التي صدقها أو تظاهر بتصديقها (وهو الأصح) الملك حسين ومن كانوا معه، وقد شعر بعض علماء المشرقيات والمشتغلين بالمسائل الإسلامية بقوة هذه الصدمة.
فقال ليون كايتاني مؤلف كتاب
Les annales de L’Islam (وقد زار مصر في سنة 1908) في سنة 1919 ما نصه:
إن الحرب العظمى قد هزت البناء الشرقي من أساسه وبعثت في شجرة حياته روحا جديدا، فالشرق بأجمعه من أقصى الصين إلى المحيط يضطرب، ففي مصر وبلاد العرب وجميع الأقطار المحمدية حركات وطنية ونهضات قومية كبرى، جميعها متماثلة الصفة العامة وموحدة الغاية ترمي إلى البعث من جديد ومقاومة الهجوم الأوروبي.
الفصل الخامس
الأديان في الشرق وتحول بعض شعوب العالم عن المعتقدات
الأديان في الشرق والغرب
يقول علماء الاجتماع إن الدين ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر التي لازمت الإنسان بحكم خلقته وتفكيره ومحيطه. غير أن الناظر في أمم الشرق والغرب يدهش لكثرة العقائد التي ظهرت في الشرق وانتشرت في ناحياته منذ الخليقة حتى الآن، وقلة الأديان التي ظهرت في الغرب ولا يزال أهله متمسكين بها. وإذا أعرضنا عن اختلاف الآراء العلمية والدينية من حيث خلق البشر وأصل تكوينهم وما كانوا عليه تفاديا من الدخول في مباحث وإن كانت نافعة إلا أنها بعيدة عن الغاية من هذا الكتاب؛ وجدنا الأصل فيه السذاجة التامة والتجرد عن التفكير وهو الوجود البدائي أو الفطري، وأن المعرفة والعلم والحضارة كلها طارئة عليه، سواء أكانت من السماء بطريق الوحي أم من الاختبار من الحياة والاحتكاك بسائر المخلوقات إلى أن يصل إلى درجة تقرب في نظره القاصر من الكمال، وقد يشترك في إبلاغه هذه الدرجة الهبة والكسب معا، فقد ترقى الإنسان درجات بعضها فوق بعض فسار من الهمجية أو الوحشية وهمه في هذه المرتبة سد الرمق وقضاء شهوته فهو في هذا الطور حاطب وصائد، وإن كان بعض علماء أوروبا كشفوا أنه كان في هذا الطور متفننا ومصورا فعثروا في بعض الأحافير على صور حيوانات انقرضت، وكشف بعض الباحثين في فرنسا على مقربة من قرية جلوزيل آثارا تدل على أنه كان يعرف الكتابة في عهود سابقة لعهد التاريخ، وإن كان انبرى بعض العلماء أمثال بيل الفرنسي رئيس معمل التحقيق الكيميائي في باريس، المتوفى في سنة 1929،
1
لنفي هذه النظرية وتفنيدها والادعاء باصطناع تلك الآثار، ولم يفصل في تلك المسألة إلى حين كتابة هذه الأسطر.
ومن تلك المرتبة انتقل الإنسان إلى المرتبة الثانية وهي مرتبة الألفة والمعيشة المتحدة والنظر إلى عجائب الخليقة والتأمل في الكون بعين الانبهار والدهشة، وقد بدأت العاطفة الدينية تظهر في هذا الطور وبدأ الإنسان يفكر في خالق للكون ومنظم له، وبدأ أيضا يميز بين الخير والشر والضار والنافع، وقد يكون شرع في الكتابة والتدوين على الأحجار والمعادن جهد الاستطاعة، لأن فطرته تدفعه أبدا إلى تدوين الآثار وتركها التي تدل عليه بعده، ولم تكن عقول البشر وصلت إلى البناء والعمارة ولكنها ترقت إلى الزراعة وتأليف الأنعام للانتفاع بها، وقد دامت هذه الفترة بضع مئات من ألوف السنين.
ومنها انتقل الإنسان الموفق في الإقليم الحسن والمحيط الملائم للدرجة الأولى من سلم المدنية كما نفهمها، فنشأت الحضارات القديمة كالحضارة البابلية والآشورية والحميرية والمصرية القديمة والفينيقية وغيرها. وفي تلك الفترة ظهر الأقوياء الذين تسلطوا على القبائل والعشائر وانتحلوا لأنفسهم صفات الرياسة والملك بالقوة القاهرة والحرب، ثم ظهرت المدن والصناعات والتجارة، وكلما ترقى الإنسان فيها ترقى من الوجهة المعنوية فوضعت القوانين وسنت الشرائع وجاءت بعض الأديان بالتدريج على أيدي الحكماء ثم الأنبياء.
بداية الدين
وأول ما ظهرت المعتقدات والشرائع في الشرق، وأقدم ما اطلعنا عليه في العهد الحديث قوانين حامورابي التي وجدت مدونة في الحجر ونشرت في أوروبا في سنة 1900، ولما كانت تلك المدونات ذكرت الطوفان وقصصا تشبه ما ورد في الكتب المنزلة من خلق آدم وحواء وطردهما من الجنة وقصة الأم التي تلد من غير علاقة جنسية مباشرة مما يشبه ما جاء في بعض الأديان المنزلة؛ فقد دهش العلماء في أوروبا، واضطر إمبراطور الألمان ويليم الثاني الهوهنزولرني أن يجاهر برأيه في تمسكه بالدين المسيحي وأن ظهور هذه المدونات لم يزعزع عقيدته في ملته، وكان علماء آخرون من الألمان قد أظهروا تشابها كثيرا بين المسيحية السمحاء وبعض أديان الهند كعقيدة البراهمة وغيرها.
بيد أن المجوسية هي أولى الديانات المعروفة لنا وقد ظهرت في بلاد الفرس، وهم يعتقدون بوجود إلهين: أحدهما نور ومبدأ الخير ويسمونه أورمزاد أو يزدان، والثاني ظلام ومبدأ الشر ويسمونه أهرامان أو أهرمن، وهما في نظر فقهاء المجوسية متماثلان في الأزلية والقوة ولكن بينهما عداء ومعاندة ، فإذا كثرت الشرور في العالم كان الغالب أهرامان وإذا ظهر الخير وانتشر كان الغالب أورمزاد.
وقد انقسم المجوس عدة فرق، منهم الكيومورتية أصحاب كيومرت الذي يقال إنه آدم، والرزوانية والزردشتية أصحاب زردشت بن بيورشت، والثنوية وهم الذين ثابروا على الاعتقاد بإلهي الخير والشر، والمانوية والمزدكية والبيصانية والفرقونية وأصحاب مذهب التناسخ، ومنهم من أنكر الشرائع والنبوات وحكموا العقل وزعموا أن النفوس العلوية تفيض عليهم الفضائل. وأهم هذه الفرق فرقة زرداشت، لأنه كان موحدا وأنكر إلهي النور والظلام وأن الشرور توجد في العالم صادرة عن طبيعة المخلوقات اللازمة كالظل الذي يصدر عن الأجسام ضرورة وأنها لا تزال حتى نهاية العالم، فيقوم الأموات ويحاسب كل إلى عمله، لأن الله خلق ملكا للنور وآخر للظلام، وأن يوم نهاية العالم وهو يوم الحساب يذهب ملك الظلمة وأتباعه إلى مكان فيه ظلام وعذاب، وأن ملك النور وأتباعه يمضون إلى مكان فيه نور وهناء دائم فلا يرون الشر إلى الأبد.
وقد توفي زردشت هذا في القرن الخامس قبل المسيح، ولا يزال هؤلاء المجوس في العالم إلى الآن وهم عبدة النار المقدسة، وقد اضطهدوا في وطنهم الأصلي فرحلوا منذ ألف سنة إلى الهند وهم طائفة البارسي الموجودون في بومباي، وقد قام منهم أفذاذ مجاهدون خدموا المسألة الهندية في الهند وفي أوروبا، ومنهم مدام كاما
2
الشهيرة التي جاهدت في سبيل بلادها في أمريكا وأوروبا وأسست جريدة «باندي ماترام» وأنفقت ثروتها في قضية الهند وعاشت عيشة الزهد والتقشف في لندن وباريس وسويسرا، وتوفيت منذ بضع سنين في السبعين من عمرها. وهم الذين يلقون بموتاهم في «برج الصمت» حتى تأكلهم الطير وتسقط عظامهم في بئر هناك، وقد حدثنا أحد أدباء الفرس أن للمجوس بقية في بعض جبال إيران ولا يزالون على عبادتهم الأولى خفية.
وبعد المجوس ظهر الصابئة أو الكلدان، وهم أول من عبد الأصنام وسجد لها بعد عبادة الأجرام السماوية. وهؤلاء يعتقدون أن لنفوس العظماء من الموتى كرامة عند الله كالوسطاء بينه وبين خلقه، وانتقلوا من هذه العقيدة إلى عبادة الملوك والأبطال والأسلاف كما تصنع اليابان في هذا الزمان. وأحد ملوكهم نيقوس الذي شيد مدينة نينوى التي كانت إحدى حواضر بابل وآشور، وقد علا نجم هذه الطائفة في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح 2050، وكان إبراهيم الخليل من هذه الطائفة ولكنه ثار عليها وخرج على أبيه الذي كان من صناع الأوثان وعبادها، ومن طوائفهم الحنفاء القائلون بأن الروحانيات منها ما وجودها بالقوة ومنها ما وجودها بالفعل، فما هو بالقوة يحتاج إلى ما يوجده بالفعل، وعلى قول ابن خلدون يقر هؤلاء الحنفاء بنبوة إبراهيم وأنه منهم.
والذي يهمنا من أمر الصابئة أنهم أول من قال بالنبوة، فقال أحد أئمتهم بيدان بأن من يدرك عالم الأرواح فهو نبي، وأن النبوة من أسرار الألوهية، وكلا المجوس والصابئة لم يعبدوا الشمس أو الأصنام إلا لاعتقادهم بأنه سبحانه يسكن الأولى ويحل في الأخيرة.
ثم ظهرت تقاليد وسنن كلدانية وفريجية ويونانية وفارسية وصينية وهندية وأمريكية (الهنود الحمر) ومكسيكية، وكلها مجمعة على أن الإنسان قد أنذر بالطوفان، وأن الطوفان كان عقابا للإنسانية على ما ظهر منها من الشر ولم تنج من الغرق إلا أسرة واحدة، وأنها نجت على فلك مشحون فيه صنوف من الحيوان والطير والدواجن وبلغ جبلا عاليا، واستدل على ذهاب الطوفان بالحمامة، وأن الجنس البشري تجدد من نسل واحد، وهو بلا ريب عين الخبر الوارد في التوراة.
البراهمة
وبعد أن حبطت زوبعة الطوفان ظهر الفينيقيون القدماء، فأخذوا بأطراف من عقائد الصابئة فعبدوا الأجرام السماوية والأصنام، وعبد العرب في الجاهلية على طريقة المجوس ثم عبدوا الأصنام والتوتيم. وظهر المصريون القدماء بمدنيتهم العظيمة وعلومهم الباهرة، ولكنهم أخذوا عبادتهم عن الصابئة والعرب الأقدمين، وتاريخهم الديني معلوم لنا بقراءة تاريخ بلادنا ومشاهدة آثارها.
ولما أخذ اليونان بالعقائد قسموا أربابهم إلى درجتين الأولى والثانية، وأنصاف الآلهة من الثانية وهم عظماء الرجال مثل هرقل وأبولون، أما آلهة الدرجة الأولى فهم زحل وتيتان وستاوسريسه.
وقد نسجوا بخيالهم الشعري أساطير وقصصا من أغرب ما تصوره العقل، وهذه الأساطير هي أساس الميتولوجيا اليونانية، وقد نظمها هوميروس في قصيدة الإلياذة الخالدة، وهناك تقرأ أسماء جوبيتر وفينوس ونبتون وغيرها .
ولم تنقرض الوثنية من العالم الشرقي على الرغم من ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن الهنود الوثنيين لا يزالون براهمة وبوذيين. والبراهمة أنكروا نبوة البشر، ومنهم الزهاد الذين يهجرون اللذات الطبيعية، وأصحاب الرياضة المطلقة، وأصحاب التناسخ، وأصحاب الرياضة الفاعلة. والدين البرهمي يعلم بوجود إله واحد، فإن لهم آلهة أخرى يسجدون لتماثيلها، وقد انشق عن برهم ثلاثة آلهة أخرى، وهم برهمة وفشنو وسيڤا. ويعتقدون أن آدم وحواء لما تجاوز نعيمهما الحد حكم عليهما أن لا يعيشا إلا من عملهما وكسبهما، وأن الأرواح بعد الموت تتناسخ فتمر من جسد إلى جسد. وإذا تأملت إلى ذلك الثالوث البرهمي وجدت أن برهمة يرمز به إلى الخلق، وبفشنو إلى الخير، وبسيڤا إلى الشر، وقد يقولون برهمة هو الموجد وفشنو هو الحافظ وسيڤا هو المهلك.
3
ويعتقدون بأن هؤلاء الآلهة لا بد لكل واحد منها أن يتجسد بهيئة من الهيئات، فهم دائما يترقبون ظهور آلهة متجسدة كالإله الذي يسمونه ديبور ويزعمون أنه عاش منذ خمسمائة سنة وينسبون إليه العجائب.
وروى رومان رولان المؤلف الفرنسي الشهير المقيم الآن ببلدة فيلنيف على شاطئ بحيرة جنيڤ؛ أن راما كريشنا المتصوف الهندي الشهير ولد من علاقة أمه بإله ظهر لها وباشرها وأولدها هذا الولي العظيم (الكتاب في ثلاثة مجلدات وظهر سنة 1929 و1930 على التوالي).
ولهذه العقيدة معابد عظيمة في كل بلاد الهند، ومنها معبد الإلهة كالي الذي بلغ من الفخامة والضخامة والغنى وجمال الزينة ما لم يبلغ هيكل آخر. وفي أحضان هذه الإلهة نشأ وتربى الولي راما كريشنا الذي تتلمذ له فيفيكنندا الذي كان أعظم من ظهر في الهند من رجال الإصلاح، وكان له شأن عظيم في مؤتمر الأديان الذي عقد بمدينة واشنطون سنة 1893 وهو خليفة راما كريشنا السالف الذكر.
البوذيون
أما البوذيون فهم أتباع جوتاما بوذا الذي له أخبار طويلة وقصص، ووقف كثيرون من علماء أوروبا وقتهم وعلمهم على درس تاريخه وأعماله، ومن أهم ما كتب عنه كتاب «البوذا وحياته وتعليمه وأصحابه» تأليف أولدنبرج أستاذ بجامعة كيال، ونقله إلى الفرنسية فوسيه بباريس، طبع الكان سنة 1921. وقد حقق فيه مولد بوذا في حديقة لومبيني «ص95»، حيث يوجد عمود كتب عليه: «هنا ولد سعيد السعداء!» وتكلم على عهد بناريس تلك المدينة المقدسة عند الهنود. وكانت غاية بوذا إصلاح الدين البرهمي، فجاء إلى أورڤيلا حيث يقطن ألف من البراهمة ويشعلون النار المقدسة تبعا لأمر الڤيدا ويتوضئون في نهر نيرانجارا «ص131»، فدنا بوذا من المكان الذي يقطنه ملك الثعابين وسحقه بقوته فأعجب به البراهمة ودعوه أن يقضي الشتاء معهم فلبى دعوتهم وأخذ يظهر الكرامات والمعجزات، فآمن به رئيسهم كسابا ولكنه لم يستطع ترك أديان أجداده فأظهر له بوذا المعجزة الكبرى وهي أن حدثه بما يجول في خاطره، فسجد أمامه كسابا وإخوته وآمنوا به. وسواء صح أن جوتاما بوذا كان ملكا ابن ملك ترك العرش والزوجة والولد وهو في مقتبل العمر ليحارب الموت والألم والفقر، أم كان زاهدا مصلحا خلا بنفسه للعبادة والتجرد حتى قويت نفسه على الكفاح الذي استعد له؛ فإنه لا نزاع في أن البوذية التي سبقت المسيحية بستة أو سبعة قرون كان لها شأن عظيم في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، فقضت تقريبا على تعاليم البراهمة ونقلت ملايين الناس من البرهمية المستبدة المظلمة إلى عقيدة أفضل وأرقى. ومن العجيب أن جوتاما بوذا ظهر في سنة 623 قبل المسيح كما أن النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
ولد في سنة 625 بعد المسيح، أي إن بين كل من هؤلاء الأنبياء الثلاثة سبعة قرون. وليس لفظ بوذا اسما إنما صفة ومعناها المنور أو المطلع أو المدرك.
وقد عارض بوذا دين البراهمة القاسي بدين مؤسس على الحنان والرحمة نحو المرأة ونحو الضعفاء والبائسين والمرضى، وصدق في مبدئه الأول وهو مكافحة الألم والشر في العالم. وقد قسمت حياته إلى اثني عشر قسما، أهمها القسم العاشر وفيه خبر ابتدائه في تعليم الدين واجتماع الرجال والنساء والأغنياء والفقراء والمرضى حوله، وإيمان كثيرين من الأمراء والحكام به، وقد أسس مدينة سرافاستي على شاطئ الجنج حيث شاد معبدا. ولا ريب في أن جوتاما انقطع للعبادة والتقشف ست سنين، وقد بدأ خلوته وهو في الثلاثين من عمره، وأنه هزم خصمه ماريا الذي جمع جيوشا جرارة لهلاكه.
وخلاصة مذهبه القول بالثواب والعقاب بعد الموت، ويسمون دار الخلود جوكورا كف، أي السعادة الأبدية، وسعادة كل إنسان تكون بحسب استحقاقه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى والمحافظة على نواميس بوذا، وهي خمسة: (1) لا تقتل (2) لا تسرق (3) لا تزن (4) لا تكذب (5) لا تسكر سكرا شديدا.
والذين يخالفون تلك النواميس ترسل أرواحهم إلى دار الشقاء واسمها دسيجوكف ليعذبوا فيها إلى حين. غير أن العالم أولدنبرج السالف ذكره أثبت في ص33 من ترجمة بوذا وشرح تعاليمه أن هذا المبدأ مبدأ الخلود والعذاب والثواب لم يكن معروفا عند البراهمة بل منكورا بتاتا، فقد جاء على لسان ياجنا فالكيا أنه قال لامرأته: «لا تطمعي في الخلود، سوف تصيرين كالأغنياء ولكن الغنى لا يضمن الخلد، لا يوجد إدراك ولا حياة بعد الموت»، فكانت البوذية تتقدم تقدما عظيما على البرهمية، لأنها وضعت حدا للحياة وجعلت جزاء للخير وعقابا على الشر.
وقال بوذا:
كل مركب مآله إلى الفناء.
وغاية الإنسان هي الخلاص من الأوجاع والهموم. وعندهم أربع حقائق متعلقة بالألم ومصدره وتلاشيه والوسائل الموصلة إلى تلاشيه، ولهم طرائق الحقائق في ملاشاة الألم.
ومات بوذا في الثمانين من عمره، وقاومت جثته النار فلم تحرق بها، وبعد موته انقسم أتباعه إلى فرق قامت بينها بسبب تشعب الآراء حروب دامية.
وبعد موت بوذا بزمن قصير ظهر الحكيم كونفوشيوس الصيني ومعناه باللاتيني المعلم المحترم. وقد نشر تعليمه في حياته وخدم الحكومة، ولم يقل إنه نبي ولا رسول واكتفى بصفة الحكمة، ولكن أهل الصين عبدوه وبنوا الهياكل لتمجيده بعد موته، وهم يقدمون الذبائح من الخنانيص والأرانب أمام هيكله ويركعون أمام صورته، وله كتب خمسة في الكون والطبيعة والحكومة والسياسة والأخلاق والمرأة، ورجال ملته يحفظون كتبه وشرائعه ويؤدون فيها فحصا يوميا. وقد تحاشى هذا الحكيم الذي علا نجمه على نجم سقراط وإن كان قد عاش قبله أن يتكلم في العقائد الدينية، بل بذل كل جهده في تنظيم طقوس مفصلة وأقام تعاليمه من الحكمة الأدبية على أساس مكارم الأخلاق والاستقامة والعدل والأمانة والذمة. وأمامنا كتاب صغير في حكمة كونفوشيوس باللغة الإنجليزية، طبع جاي وبيرو سنة 1904 في مائتي صفحة، وقد تناول فيه الكلام على الحكومة والآداب والفضيلة والتعليم والزواج وعلاقة الأسرة وواجب الأبناء والنساء والملك والأغنياء والصداقة والرجل المتميز العبقري وواجب الحكام وتقدم الحضارة والشعر الصيني. وبالجملة قد بحث كونفوشيوس في كل شيء ولم يذكر العلاقة العظمى بين الإنسان والله، وهذا عجيب من حكيم شرقي في بلاد شرقية كادت تؤلهه.
ولكن كونفوشيوس كما قلنا لم يحاول مطلقا أن تكون له علاقة بالسماء أو بما وراء الطبيعة أو بما يبعد عن فهم الإنسان العادي، بل إنه في كثير من أقواله ينكر العناية الربانية ولا يؤمن بالبعث والخلود ولا يعترف بالنبوة، ولو اعترف بها لادعاها لأنه كان أحق أهل زمانه وأحق بني وطنه بها.
أما الفضائل الخمس التي ذكرها فهي المحبة والبر والاحتشام والمعرفة والإيمان (أي عقيدة الرجل بنفسه) وقيل إنها السخاء والعدل واللطف والحكمة والبساطة، وقد ذكر الأرباب حينا فقال: «احترم جميع الأرباب، ولكن أبعدهم عنك ما استطعت.» ولعن الذين صنعوا الأصنام. ولما حضرته الوفاة عاده صديق له وقال له: ألا تصلي قبل موتك؟ فأجابه كونفوشيوس: أيليق بي أن أصلي؟!
قال صاحبه: نعم، صلوا لأرباب السماء وآلهة الأرض.
فقال كونفوشيوس: لقد صليت من زمن طويل.
وقد ذكرنا كونفوشيوس في هذا المقام لأنه كان من معاصري بوذا ولأن البوذية انتشرت انتشارا عظيما في الصين، وقلنا إنه بعد موت بوذا انشق أتباعه فرقا، فكانت منها فرقة اللاما بالتبت وهم يؤمنون بإله واحد وبالثالوث وبالجنة والنار والتناسخ ويزعمون أن اللاما إذا أشرف على الهلاك اختار صبيا صغيرا موعودا فتحل في الصبي روح اللاما ويصبح الصبي زعيما إلى أن يكبر فهو لاما منذ مات سلفه. وما اللاما إلا تجسيد لإلههم «لا» وهو يقيم على وضع التربيع في مكان خفي بقصر باتولي ويعبده أهل التبت، ولأتباع لاما فرقة في بورمانيا وأخرى في جداما.
ومن فروع البوذية «السينتوية» ومصدرها بلاد اليابان ، وهذه السينتوية قائمة على عبادة الأوثان، وكان اليابانيون يعبدون الشمس ثم عبدوا الحصان لأنه من أعوان الشمس، وللفرس صور معلقة في هياكلهم. واليابان لا يتعرضون للمذاهب الدينية ما دامت لا تمس سلامة الدولة ولا تقلق راحتها، ولذا سهل نشر الأديان المنزلة في اليابان.
والسينتيون يعتقدون بإله واحد خالق كل شيء وله صفات الكمال ولكنه منزه عن الشئون الدنيوية وقد تنازل عنها وسلمها لأرباب غيره، فإدارة العالم في أيدي أرواح كثيرة، وقاعدتهم التمتع بالسعادة في هذا العالم، ولا يعرفون إلا شيطان الثعلب لأنه أفتك الحيوان بزرعهم. وعندهم خمسة أمور يعولون عليها في دينهم: (1) نار طاهرة (2) التطهير الروحي وهو الخضوع التام للعقل والجسد، وهو الاحتراس من كل نجس كالدم وبعض اللحوم ومعاشرة السفهاء واستماع فحش القول (3) حفظ الأعياد الكثيرة (4) الحج إلى الأماكن المقدسة (5) عبادة الآلهة في الهياكل والبيوت.
ومن علومهم الخفية التي يكتمونها عن العامة القانون الأخير المتعلق ببداءة كل المخلوقات، ولا يبوح به الكهنة للطلاب إلا إذا تعهد الطالب بالكتابة أنه لا ينجس ذلك الشيء المقدس بإظهاره للعامة والجهال، وهذا القانون في كتابهم المسمى «أوداكي» وترجمته: «في بداية فتح كل الأشياء كان الخلود والخواء سابحين كما تسبح الأسماك في البحر للتنزه، فخرج منهما شيء متحرك وقابل للتغير، فصار ذلك الشيء نفسا أو روحا واسمه كونيتو كودا تسنوميكوتو.»
عبادة الفتيش في أفريقيا
عباد الفتيش يبلغون مائتي مليون من البشر الذين لا يزالون على حال من الهمجية وهم من أهل أفريقيا والجنس الأسود بصفة خاصة. ويراد بالفتيش الشيء الذي له روح أو خال من الروح كالشجر والصخر والبيض والشوك وعروق الحشائش والحبوب وغيرها. وقد شرح عبادتهم سير جون لوبوك (لورد أفبري) في كتابه «أصول المدنية»، وهربرت سبنسر في كتاب علم الاجتماع وهو الجزء الثالث والرابع من فلسفته. وبعض هؤلاء المتوحشين يعبدون الأصنام ويصورونها على هيئة إنسان أو حيوان مخيف أو عفريت أو من الجن، ومنهم من يدين بعبادة فتيش خاص يعتقد تعظيمه كالثعبان والنمر والتمساح والأليجاتور والغوانا، ومعظم عبدة الفتيش من سكان أواسط أفريقيا وغربها وشاطئ الذهب ونيجيريا وسنجامبيا. وهؤلاء الناس إذا اعترض عليهم المبشرون وعيروهم بعبادة هذه الفتيش من الجماد والحيوان ردوا عليهم بأن عقيدتكم توافقكم ونحن نمقتها ونهزأ بها، كذلك عقيدتنا توافقنا ولا يهمنا مقتكم إياها وسخريتكم منها. وممن يدينون بهذه الفتيش سكان الجزائر بالمحيط الهادي وهم من أهل الجمال وبلادهم غنية بأنواع الفواكه والثمار الشهية وشواطئهم ملآنة باللآلئ، وهم إباحيون لا سيما سكان «جزيرة الجمعية» الذين ألفوها بينهم لانتهاز فرصة الحياة والتمتع بكل ملاذها ومقاومة امتداد النسل. ومن هؤلاء الناس من يضحون بالبشر لمعبوداتهم الصخرية والخشبية.
وهم يعبدون الجمال بحيث إذا ولد لهم مولود مشوه أو دميم قتلوه. ويعتقدون بالسحر والأرواح الشريرة، ولكل قبيلة منهم رئيس سحرة اسمه كاجور، يعالجهم ويغنيهم ويستنزل لهم المطر ويتوسط بينهم وبين الفتيش، وإذا تدلل عليهم في إجابة طلب من مطالبهم قيدوه وضربوه حتى يستجيب لهم، وهم لا يعرفون الحلال والحرام بحسب معتقدات أصحاب الأديان المنزلة، ويكرهون أهل الجنس الأبيض، ولكنهم يكرمون الضيف ولا يطلعونه على أسرارهم، ولهم في الحرب شجاعة فائقة، ولهم ألعاب ومراقص وحفلات مدهشة، ويشوهون وجوههم وأبدانهم في سبيل ما يعتقدونه زينة كخزم الأنف والشفة العليا وتكبيرها ومطها والوشم على كامل البدن وغرس الدبابيس في الرأس والشعر وطلي الجسم بألوان زاهية.
فضل الأديان المنزلة
لقد قطعت الإنسانية هذا الطريق الطويل كله، ولا تزال شعوب تعد بعشرات ومئات الملايين تسير فيه، قبل أن تصل إلى الديانات المنزلة التي هي اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد كانت هذه الديانات تقدما عظيما على ما سبقها وما لا يزال معاصرا لها من المعتقدات الوثنية، فإن آسيا كلها لا تزال وثنية ما عدا مائة أو مائتي مليون من المسلمين في الصين وإندونيسيا والهند وتركستان وبلاد فارس، أما اليابان كلها والصين والهند فلا تزال بوذية وكونفوشيوسية وسينتونية، ولا تزال أفريقيا بأسرها فتيشية ما عدا خمسين أو ستين مليونا في شمالها وشرقها وغربها.
ولكن اليهودية كانت فتحا عظيما بالنسبة لتلك المعتقدات الوثنية، فقد جاءت شريعة منظمة بعقائد ثابتة وطقوس شريفة بعيدة عن دنايا الوثنية والفتيش، ولسنا في حاجة للكلام على واحدة من تلك الديانات الثلاث المنزلة، لأنها معلومة للجميع وكتبها المقدسة بين أيدينا وأحبارها وقساوستها ومشايخها بين ظهرانينا، ومعابدها وكنائسها ومساجدها قائمة في وسطنا ومحيطنا.
ولكن أردنا ذكرها لندلل على أمرين؛ الأول: أنها كغيرها من الأديان السالفة الذكر قد ظهرت جميعها في الشرق ولم تظهر واحدة منها في أوروبا أو أمريكا أو أفريقيا، لأن عبادة الفتيش التي ذكرناها في أفريقيا لا تعد دينا، بل هي مجموعة أساطير وأوهام أدخل في فن الفولكلور وعلوم الشعوب منها في الأديان والعقائد.
ولكن العجيب في أمر الأديان المنزلة في الشرق أنها هي أيضا قد انشقت فرقا وشيعا؛ فكان من اليهود الفرقة الصاديكمية والسمرة والصدوقيون والفرقة الخاسيديمية والفريسيون والكتبة والأسينيون والهيروديون والليبرتيون. وكذلك في المسيحية ظهرت فرقة الأجنوستيك أو العارفين والدوسيتيين والكورنثيين وفرقة الأيونيين والمانوية (نسبة إلى ماني الفارسي الذي انتحل النصرانية في القرن الرابع المسيحي) والنيقولاويون، وظهرت فرق للبحث في طبيعة المسيح وفرق في المجادلة وهم البيلاجيون، ثم أخذت المجامع تلتئم فكان المجمع النيقاوي فالقسطنطيني فالأفسسي فمجمع اللصوص (ص149 من تاريخ الأديان لنوفل) فالمجمع الخلكيدوني ثم ثلاثة أو أربعة مجامع في القسطنطينية ثم في نيقيا وفي رومة والمجمع اللاتيراتي والليوني والفيرنزي (نسبة إلى فيرنزه بإيطاليا) والباسيلي والروماني والترنتواني، ولا تزال المجامع تعقد في رومة وتصدر التعاليم الأخيرة، وآخرها المجمع الأوكمنيك 1869-1870 الذي عقد في رومة.
ولهذه الديانة كنائس تقليدية أشهرها الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية أو البروتستانتية، ومن أهل الفرق اليعقوبيون والسريان والأفيقيون والأرمن والنساطرة أو الكلدان، وقامت في روسيا قبل الثورة شيع تزيد على مائتي شيعة ولا يقل أتباعها عن خمسة عشر مليونا، ومنهم رافضو عماد الأطفال، وأصحاب التبتل، ومنهم من ارتد عندما شاع أمر عصمة البابا.
وكانت أعظم الشيع المسيحية أتباع لوثيروس وكالڤن وزنجويل وكلهم محتجون، وانتشرت مذاهبهم في ألمانيا وهولندا وإنجلترا وسويسرا والسويد والنرويج.
وكان في إنجلترا الموحدون والمطهرون، وكلما صعدت إلى الشمال وجدت فرقا تخالف البروتستانت وتعلو عليهم. ومن السكسون فرقة الكويكرس وأتباع سويد نبرج. وكل فرقة تخالف الأخرى وتقاومها وتنكر معتقداتها، كما أن جميع اليهود يخالفون النصارى وينكرون ديانتهم.
الشرق متدين
وإن هذا الدين الحنيف لم يخلص من البدع التي ظهرت فيه وأوجبت وضع علوم الكلام، فقد ظهر فيه المعتزلة والمشبهة والقدرية والجبرية أو المجبرة والمرجئة والحرورية والنجارية والجهمية والرفضية والخوارج. وكل فرقة من هذه الفرق انقسمت إلى فرق صغرى وشيع.
وقد استعرضنا الأديان التي ظهرت في الشرق لنقف القارئ على حقيقة مهمة وهي أن معظم الأفكار الدينية والروحانية التي ظهرت في العالم إنما كان مصدرها آسيا، حتى الدين المسيحي الذي ساد في أوروبا وأمريكا، وأن أمم الشرق لم تقنع كغيرها بعقيدة واحدة ولم تصلح بمرشد واحد أو مرشدين، بل احتاجت في حياتها النفسانية إلى عشرات الأديان وكل دين ينطوي على مئات من الشيع والفرق والأحزاب. في حين أن ممالك أوروبا وأمريكا، وهم ذوو مدنية عظيمة وقوة مادية أعظم، قد دانوا بدين واحد وهو النصرانية وإن كانوا من قبل وثنيين، إلا أن تلك الوثنية قد زالت واتخذوا الدين المسيحي في كل بقعة وأرض وشعب من سواحل سيبريا شرقا إلى شواطئ المحيط غربا.
وحتى وثنيتهم كانت ترجع إلى عبادة الكواكب والأبطال (في اليونان ورومة) ولم تنزل إلى عبادة الأحجار والأشجار. وإن الأمم الآسيوية والأفريقية التي أقبلت على الأديان المنزلة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، قليلة جدا بالنسبة للكثرة الوثنية، ويعد انتحال واحد منها في آسيا أو أفريقيا استثناء، فإن للبرهمية والبوذية وعبادة الأفيال والكونفوشيوسية والسنتينوية القدح المعلى في شعوب آسيا. والإسلام في كل من الصين والهند وجزر المحيط استثناء، ما عدا أهل إندونيسيا وبضع عشرات الملايين في بقية آسيا. ولعل قارة أفريقيا هي وحدها السائرة نحو الإسلام بقدم ثابتة، ولكن لا بد من مضي بضعة أجيال على انتشار الإسلام فيها.
فماذا استفاد الشرق من هذه الروحانية المبالغ فيها، في حين أن أهل أوروبا وأمريكا وأستراليا سنوا الشرائع ونظموا المجالس وأحدثوا حضارة قوية التهمت الشرق بأجمعه؟ إن الشعوب الشرقية استغرقت كل قواها في المباحث التي وراء الطبيعة وبعد الموت وفي أعلى السموات، ولم تصرف كثيرا من جهودها فيما هو ماثل أمامها على سطح الأرض. إن في الهند براهمة واصلين يمكنهم نقل الجبال بإيمانهم، ويأتون في كل يوم بالعجائب التي نقرأ عنها ونراها ويقر بها كتاب فضلاء أمثال رومان رولان في كتابه عن راما كريشنا وڤيڤيكندا، ولكن هؤلاء القديسين والواصلين الذي يتحملون أشق الآلام في تعذيب أبدانهم وإماتة نفوسهم، وبلغوا الذروة من العلوم الروحانية، وعبدوا الآلهة والأرباب المتعددة الأيدي والرءوس والأرجل وزينوا الهياكل بالأحجار الكريمة والذهب والفضة؛ لم يقدروا على إبطال فعل مدفع واحد في حروب الاستعمار التي أعلنتها عليهم أوروبا، وإن شئنا التأدب في مقامهم قلنا إن أهل الباطن لم يرغبوا في التدخل في أمور أهل الظاهر. فهل من وراء هذا كله فائدة للشرق؟ وهل الاستمرار على هذه العبادات الوثنية السخيفة يعود على الشرق بخير بعد أن تبددت قوى هذه الأمم؟
4
حقا إننا رأينا أمة وثنية آسيوية تكافح وتتحضر وتتغلب على دولة أوروبية، وهي اليابان، ولكنها وحيدة ومنفردة والبحث في معتقداتها أدى بنا إلى العلم بأنهم لا يكترثون كثيرا لأربابهم، ويتخذونهم وسائل للوصول إلى أغراضهم الدنيوية. وهل لا بد للشرق من الإفراط في الأديان بعد الذي رأينا؟ إن أوروبا تعير البيزنطيين بما وقعوا فيه من الإفراط في الاشتغال بالدين بمناقشات بيزنطية أدت إلى اقتحام الترك عاصمتهم وهم يبحثون في هل الملائكة ذكور أم إناث، وهل للمرأة روح مثل الرجل أم لا! فهل تريد بقية أمم الشرق أن تقع في مثل ما وقع فيه أهل بيزنطة من الخيبة والخسران؟
وقد حدث في العهد الأخير حادثان جليلان في تاريخ العالم، أولهما أن الروس وعددهم 400 مليون وكانوا زعماء الكنيسة الأرثوذكسية وكانوا من المتعصبين للدين ومن أهل التشدد في المذاهب؛ قد طلقوا الدين المسيحي بتاتا، ونشروا الإلحاد وأقاموا له هيكلا كان أصله مجمعا للقساوسة والبابوات الأرثوذكس، وهم لم يصابوا ببلاء ولا تزال دولتهم قائمة.
وفي تركيا أدخل مصطفى كمال آراء جديدة وغير من مظاهر المسلمين في أحوالهم، وصرف النظر عن الأشكال، ووجه قوته إلى تنمية الدولة وإعظام شأنها، ونقل الكتابة من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ فقامت عليه قيامة فريق من الناس يقدسون الدين دون سواه، وقام مدافعون عن مصطفى كمال يبررون فعله بما جرى لدولته وقومه على أيدي أوروبا لأنها كانت دولة الإسلام الكبرى، فكانت أوروبا تضطهدها وتحاربها وترمي إلى هلاكها واغتصاب أملاكها حتى قضت عليها ... والأعجب والأدهى أن المسلمين أنفسهم الذين كانوا تحت أحكام تركيا انقلبوا عليها وحاربوها ولم يساعدوها في ظرف من ظروف الضيق التي وقعت فيها.
فلم يساعدوها عندما اعتدى عليها الموغول منذ سبعمائة سنة، وجرد محمد علي وإبراهيم جيوشهما لمهاجمتها في عهد السلطان محمود في سورية والأناضول، وهما من رعاياها وولاتها.
وفي حرب روسيا لم يتقدم إلى مساعدتها إلا أفراد متطوعون ولم تسير دولة إسلامية جيشا من جيوشها للمحاربة في صفوف الأتراك إلا لمما، وفي العهود الأخيرة خلق لها العرب أنواع القلاقل في جزيرة العرب وسوريا والعراق حتى قضوا عليها. ووجد الحلفاء وزراء من الأتراك وشيوخا من مشيخة الإسلام يفتون بكفر مصطفى كمال ومن معه وبمروقهم من الدين ليسيئوا إلى سمعتهم في العالم الإسلامي، أما هم وسادتهم الذين كانوا منغمسين في المعاصي والفجور إلى أذقانهم وكانوا يمدون أيديهم لرشوة الأجانب فلم يكونوا خائنين ولا مارقين ولا ملحدين بل طهرة أبرار! ولما ذهب ملك تركيا بفعل أوروبا من جانب وبفعل المسلمين من جانب آخر، وسقطت تلك الخلافة البالية البائدة التي لم يكن لها معنى ولا طعم ولا ذوق ولا قيمة؛ قام المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ومعظمهم مأجورون ووسطاء، ينعون على مصطفى كمال سلوكه، ويطعنون في شرفه وذمته وإخلاصه وأخلاقه، ويهددونه بأنه فقد الجنة، كأنهم هم ضمنوها لأنفسهم وأخذوا بها صكا على رضوان!
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن أحد المسلمين واسمه مصطفى الصغير، وهو مسلم هندي، دخل إلى تركيا باسم جمعية الخلافة المؤسسة في الهند، وتجسس على الرجل وأخذ يرسل التقارير إلى سادته الذين ربوه في عليكره وفي أكسفورد وأطلقوه كالأفعى السامة ينفث سمومه في دولة الإسلام الباقية.
5
ولكن مصطفى كمال ورجاله تمكنوا من القبض عليه والحصول على اعترافه ودقوا عنقه بعد ذلك، وقد أعلن هذا اللعين إخلاصه ورقبته في حبل المشنقة لأحد ملوك أوروبا وقال إنه يترك أسرته أمانة لدى جلالته ...
أوروبا تضطهد مصطفى كمال
وقد أظهر مؤلف «تاريخ الخدمة السرية الإنجليزية» أسرارا وخفايا تكاد تكون من الأحلام أو نوعا من أنواع الكابوس الذي يعتري النائم ... على أن مصطفى كمال هذا لم يوشك أن يحرر بلاده وشعبه ويلم شعثه ويعلن الجمهورية ويفصل الحكومة عن الدولة ويتخذ القوانين الأوروبية الحديثة المدنية والجنائية والدستورية؛ حتى قامت أوروبا تناوئه، وقد استعملت في هذا مشايخ الطرق المناحيس من الأكراد وغيرهم، فقامت في بداية الأمر فتنة في إصطامبول أعدم بسببها رجال كانوا فيما مضى نابهين أمثال جاويد باشا الذي باع حياته رخيصة في سبيل مؤامرة منحطة، وكان يمكنه الاستفادة من مواهبه الاقتصادية وانتفاع البلاد به. ثم تلتها ثورة الأكراد الأولى وكان محركها شيخا مفتونا، وتغلب عليها مصطفى كمال بعد جهود عظيمة، ثم تلتها ثورة الأكراد الأخيرة 1930، وكان زعماؤها من المشايخ المتصوفين الذين يرون في أعمال مصطفى كمال كفرا وخروجا على الدين، فعذرناهم لجهلهم وتعصبهم وربما رثينا للشيخ الذي مات فرقا قبل الوصول إلى حبل المشنقة، ولكن بعد أيام انكشف الأمر عن القبض على سبعة ضباط من الإنجليز كانوا يدبرون تلك الفتنة وقد أعدموا رميا بالرصاص ولم ينطقوا بحرف واحد. وإذن كانت أوروبا وراء هذه الثورة أيضا، وغايتها خلق المشاكل لمصطفى كمال حتى تسقط دولته، فلو كان مصطفى كمال ملحدا وخرج على الإسلام لينال حظوة أوروبا، لم تكن أوروبا لتسلط عليه جنودها وضباطها وتنفق الأموال في خراب بلاده. فالأفضل للمسلمين في الشرق أن يتركوا نغمة الانتقاد والتقريع ضد مصطفى كمال وغيره وأن «يتركوه كما تركهم»
6
وأن ينظروا إلى شئونهم الخاصة ببلادهم وأوطانهم، وأن ينظروا إلى الجذع الذي في أعينهم بدلا من أن ينظروا إلى القشة التي في عين جارهم.
إن الدين لله ويجب أن يبقى بين الإنسان وربه، وأن لا ندخله في كل شيء ونجعله مسئولا عن كل شيء، لقد انشغلت أفكارنا بالدين وشئونه حتى انسدل على بصيرتنا وأبصارنا حجاب كثيف لا يكشف ما وراءه فعمينا عن حقائق الأمور الملموسة أن الدين لا دخل له في أعمال البشر، ولا سيما في السياسة، فما انشغالنا نحن المسلمين بالحلال والحرام والجائز والمباح والمحظور في السياسة والخلافة والإمامة هو الذي ينقذنا أو يميتنا على حق ولكنه يورثنا الخبال والحيرة، وقد أمرنا الدين بأمور واضحة ونهانا عن مثلها بجلاء، وفي أنفسنا قوانين سامية تدلنا بالفطرة على أن الحلال بين والحرام بين، فلا فائدة من اندفاعنا في التفصيلات اندفاعا أعمى بعد أن تركنا الكليات. لقد تركنا العمل وتعلقنا بالأقوال، وودعنا الشجاعة والوفاء والإخلاص والإيمان بالله والثقة بالنفس واستقبلنا الصغائر والتمسك بالحروف.
ولا ننسى أن الأديان قد أورثت في كل بقاع الأرض حروبا، فأهل الدين الواحد يحاربون بعضهم بعضا وأهل الأديان المختلفة يتحاربون كل يريد انتصار طائفته، فأهرقت دماء كثيرة في سهول العالم وجباله ومدنه ووديانه.
فالنصارى اضطهدوا اليهود وطردوهم من بلادهم وطاردوهم فآواهم الأتراك والإسلام، والشيعة حاربت أهل السنة،
7
والنصارى حاربوا المسلمين وأجلوهم عن الأندلس، والكاثوليك قتلوا البروتستانت في موقعة سانت بارثلميه الغادرة، وأوروبا أعلنت على الإسلام الحروب الصليبية، ولكن هذه الحروب قد انتهت الآن وأصبحت أوروبا تهاجم الشرق لكونه شرقا سواء أكان أهله مسلمين أو نصارى أو وثنيين، والكلمة ليست اليوم للإيمان ولكنها للغلبة والقوة في سبيل السيطرة السياسية والفتوح الاقتصادية.
فيجب على الشعوب الشرقية أن تنظر إلى ذلك بعين البصيرة وأن توجه همتها إلى الدفاع عن كيانها لا باسم الدين ولا بسببه ولكن باسم القومية وباسم الحضارة وباسم الإنسانية، وأن تجعل الدين رائدها في الأمور النفسية والخلقية.
إن المعتقدات ثروة روحانية وليست مثارا للأحقاد، وإن الإنجليز قد اتخذوا من الفروق الدينية في الهند سلاحا من أفظع الأسلحة، فكان الشقاق بين الهندوس والمسلمين سببا دائما لسيادتهم، وطالما قامت في مدن الهند المقدسة كبناريس وكلكتا وأحمد آباد فتن عظيمة بين الهنود والمسلمين أريقت فيها الدماء وضحكت بسببها بريطانيا، لأنها علمت أنها الوسيلة الوحيدة التي تضمن سيادتها ونفوذها، ولم تخش إنجلترا جانب الهند إلا بعد أن ظهر شبه ائتلاف بين الهندوس والمسلمين، وقد أذاع الإنجليز حجة جديدة ضد الإسلام لمصلحة الهندوس فقالوا في صحفهم: «إننا هنا نحمي البراهمة والبوذيين من اعتداء الإسلام الذي لا يزال قوة فاتحة في الهند ولكنها الآن كامنة نائمة وإنما نومها إلى حين، فإذا تركناكم لن تلبث أن تتيقظ وتعيد الكرة على بلادكم لإذلالكم وقهركم وتأسيس دولة إسلامية تماثل دولة الموغول.»
ولم تكن الهند وحدها التي سلكت فيها إنجلترا هذا المسلك بل إنها لعبت بهذه النار في مصر أيضا، ففي سنة 1907 عندما تولى غورست مكان كرومر خلقوا مسألة الأقلية والأكثرية، وادعى بعض الأقباط أنهم مظلومون وخائفون وكتب بعضهم «الإنسانية تتعذب» وسافر قرياقص ميخائيل إلى إنجلترا حيث وضع على رأسه قبعة طويلة وحمل على المسلمين حملة منكرة في الصحف والمجلات، وادعوا أن حركة مصطفى كامل إسلامية متعصبة لأنه كان في أول عهده ينتمي إلى السلطان عبد الحميد، وحاولوا إنكار نبوته الوطنية. ولم تمت هذه الفتنة إلا في حركة سنة 1919، حيث تعاهد الأقباط والمسلمون على الاتحاد في المسألة الوطنية، وتعانق قسس الأقباط مع مشايخ المسلمين وخطب الشيوخ في الكنائس والقسس في المساجد، وارعوى قرياقص عن غيه وطويت صحيفة الوطن التي كانت مصدر هذه الحركة الخطيرة. ولم يكن ذلك الاتحاد إلا ثمرة الآلام التي ذاقها العنصران وأدركها عقلاؤهم، وتبينوا أن الأمر كله دسيسة إنجليزية يقصد به إلى تفريق الكلمة وتشتيت الشمل. ثم إن هؤلاء المشايخ الذين ينتمون للإسلام قد رأينا سوء فعالهم في مجرى التاريخ من عهد جنكيزخان إلى عصرنا هذا، مارين بأدوارهم في الدول العباسية والأموية والفاطمية والعثمانية كفانا الله شرهم وحفظنا من كيدهم.
الفصل السادس
أوروبا تهاجم الشرق في دينه وروسيا تضطهد مسلمي تركستان والقوقاز والأورال
من تعود النوم على سرير
في سنة 1929 نعى كاتب إنجليزي في مجلة دولية (مجلة جنيف أغسطس) على الأمم الأوروبية المستعمرة أنها تركت الشعوب الشرقية تتمتع بحرية الاعتقاد ولم تحاول تنصيرها، وقال: إن اختلاف الدين بين الحاكم والمحكوم يخلق للحاكم مصاعب شتى ولا يجعله يطمئن للمحكوم، فضلا عن أن الدين الإسلامي يمتزج مع السياسة فيجعل لأتباعه قوة المطالبة بحقوق قد يغضون عنها لو كانوا نصارى، فالشرقي المسلم قد يلبي نداء الجامعة الإسلامية أو الجامعة العربية مهما شت المزار بينه وبين الداعي، ولكن الشرقي المسيحي يلبي نداء الكنيسة البروتستية أو الأرثوذكسية، ولا يندب حظه كلما ذكرت حرية الوطن، لأنه يعلم أن سادته الأوروبيين أشفق عليه من غيرهم.
وخطأ هذا القول ظاهر، فإن أصحاب العقائد المختلفة في البلاد الشرقية متساوون في حب الحرية وفي المطالبة بحقوقهم المهضومة.
أما أسف الكاتب على أن أوروبا لا تحاول تنصير الشعوب المغلوبة لها في أفريقيا وآسيا فأسف في غير محله، فإن المبشرين يعملون باجتهاد عظيم في أفريقيا وآسيا منذ أكثر من خمسين عاما ولهم زعماء مثل زويمر، ولهم مؤلفات ومجلات وجرائد ومؤتمرات، ولهم رءوس أموال طائلة يستخدمونها في هذا السبيل، ولكنهم لم ينجحوا في الممالك الإسلامية حتى الآن في تحويل أحد عن عقيدته، حتى قال بعضهم: «لقد ردني أحد الأعراب المسلمين ردا عجيبا حيث قال: يا سيدي المبشر، إن من تعود النوم على السرير لا يقبل غيره مرقدا. فلم أفهم قصده وتركته وانصرفت.» ولكن الذي نسمعه ونقرؤه من محاولة الفرنسيين تنصير البربر لا بد أن يثلج صدر هذا الكاتب في المجلة الدولية، لأن الفرنسيين استصدروا من سلطان المغرب الأقصى ظهيرا يبيح لهم تنصير الأمة بأسرها. وهم تارة يقولون إن البربر أصلهم رومان فهم شعب لاتيني طرأ عليه الإسلام ولكنه عريق في المسيحية فيجب علينا رده إلى حظيرة المسيح، وطورا يقولون إن هذا الشعب قد اختار الردة بحرية مطلقة وليس لنا يد في دعوته إلى الصليب. ثم تراهم حينا يدعون العدول عن تطبيق هذا الظهير جهرا ليتقوا الفضيحة أمام العالم.
تعصب الروسيا ضد المسلمين
ولا نظن أن هذه الحالة طارئة على أذهان المستعمرين الأوروبيين، بل إنها قديمة وعريقة وقد لجأت إليها روسيا القيصرية في استعمار التركستان الغربية ، فقد روى و. ق. أحد زعماء تركستان الغربية في سنة 1904 ما يأتي، نقلا عن «العالم الإسلامي» لمصطفى كامل:
بعث إلينا أحد أفاضل المسلمين بالتركستان هذه المقالة فننشرها بحروفها:
بقدر ما بين المسلمين من بعد الديار وتنائي المزار فإننا نحس كأن مصابنا تتشعب منه خيوط تصل إلى أفئدة إخواننا المسلمين في أقصى المعمورة ليتألموا مما ينصب علينا من المظالم التي تنهال على رءوسنا من دولة الروس في كل وقت وآن.
لهجت الجرائد على اختلاف نزعاتها بما يتوقع من الخطرين الأصفر والأبيض ودافعت كل منها بما يوافق مصلحة دولتها، فإن جرائد اليابان صورت الخطر الأبيض بشكل يقشعر له العالم المغولي من ذلك الدب الذي تشعبت له ثماني أيد كل منها تحيط بما طمحت إليه المطامع الأشعبية الروسية، كما أن الجرائد السلافية ملأت أنحاء أوروبا بتلك النعرة التي استفزت بعض دول الغرب ممن رائدها الطيش لأي حادث تعودت أن تخرج فيه عن الحد المعتدل.
ولكننا معاشر مسلمي الروسيا لا يهمنا من هذا وذاك إلا حقوقنا المسلوبة وحريتنا المهضومة والعمل على ما يرقي مداركنا ومعارفنا بما يوافق مصلحتنا المادية والأدبية، سواء لدينا انتصرت الروسيا على اليابان أو بالعكس، فإن الكيل طفح من التعصب الروسي ضد ديننا الحنيف وإرادتنا الشخصية ومصلحتنا العامة مع أننا أول الرعايا المسلمين طوعا لإرادة القياصرة في دفع الإعانات الحربية والذود عن حمى الأوطان والإخلاص للعرش القيصري وفي مقدمة من يتسابقون إلى كل عمل يعود على دولة القيصر بالشرف والمجد والفخار.
أما الأساس الوحيد الذي تدور عليه رحى الحرب الحاضرة فهم المسلمون الروسيون البواسل، فإن المحتشدين منهم في ساحة الوغى ينيفون على الثمانين ألفا عدا، وما زالت الحكومة الروسية تسوقنا إليها سوقا، ومع كل هذا هل يروق لها أن نتمتع بديننا كما نشاء أو تطلق لنا عنان المشروعات الخطيرة المخولة لباقي الأجناس الذين ضمتهم أكناف المملكة القيصرية؟ كلا ثم كلا!
كيف نكون أحرارا في ديننا والحكومة جارية على مبدأ مخالف له على خط مستقيم من زمن مديد؟ ذلك أنه تقرر في سنة 1787 تنصير الرعايا المسلمين واستعمال الوسائل القهرية لتنصيرهم رغم إرادتهم على زعم أن مصلحة الروسيا في ذلك، فانعقدت الجلسات تلو الجلسات حتى انجلت عن استعمال الوسائل السلمية للوصول إلى هذه الغاية، ومن ذلك الحين انتشر المبعوثون فيما بيننا انتشارا مريعا وأسسوا المدارس الروحانية الدينية، وأجبرت الحكومة المسلمين على دخول أبنائهم فيها ليتلقوا مبادئ الدين المسيحي وعبارات الشتائم والطعن على نبينا الكريم ونسبة التبديل والتحريف للقرآن المجيد وغير ذلك مما يبرأ منه ديننا الحنيف، فساءت العاقبة وعم البلاء وأصبحنا نندب سوء حظنا من هذه المعاملات التي تشف عن بغض ذميم لدين الإسلام وأهله.
ربما توهم القارئ لهذه المقالة أنه يمكننا أن ننشئ المدارس طبق رغائبنا أو نتعلم فيما بيننا، ولكن ذلك من رابع المستحيلات، فإنها منعتنا من تأسيس المدارس كما حرمت على أبناء وطننا أن يتعلموا خارج بلادهم تعليما صحيحا، ولو فرض وتعلم واحد منهم في البلاد الأجنبية شددت عليه المراقبة ولاحظته في حركاته وسكناته كأنه ارتكب أعظم الجرائم أو أتى شيئا إدا!
ومما يكتب على صفحات التاريخ بمداد الأسف أن سكان نواحي «آلصلاي» كانوا كلهم مسلمين من مدة غير بعيدة، فلما حل الروس بساحتهم وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم نزعوا منهم خيراتهم وضيقوا عليهم في جميع معاملاتهم وترقبوهم في حركاتهم وسكناتهم ومنعوهم من المخالطة بمسلمي القزان الذين هم أعرف بسياسة الروسيا وأعلم بالشرع الشريف الذي حرمت عليهم الحكومة أن يتعلموه حتى صاروا ولا علماء بينهم ولا مرشد يقوم معوجهم، فاستمروا على هذه الحالة التعسة حتى انتزعت منهم صبغة الإسلام وأصبحوا يتخبطون في جهالتهم وصاروا كالأنعام بل وأضل سبيلا.
فليتها اقتصرت على ذلك، بل ألغت معظم المحاكم الشرعية وهدمت بنيان قواعدها المؤسسة على تقوى من الله ورضوانه فصرنا حيارى من هذا الفعل الشنيع، حيث استبدل بالشرع الحنيف القانون الروسي وما أدراك ما هو القانون الروسي ! قانون قاصر على مصلحة الروسيين غير المسلمين، أما هؤلاء فحقوقهم أمامه ملغاة لا يعبأ بها في شيء، وبذلك فقدنا ديننا وضاعت حقوقنا في نظر الشرائع الروسية التي تخالف كل شرع سماوي وقانون وضعي، وتباين كل ناموس جعلته الأمم عونا لها في هذه المدلهمات ونصيرا في جميع الملمات ...
فبأي شرع وبأي قانون تعلن بيع أراضي مسلمي قزان التي يمتلكونها من زمن مديد وانتزاعها من أيديهم وخصوصا في ولاية «صردريا» التي أصبح أهلها ينتظرون من حين لآخر إحداق الفقر بهم وهبوط المجاعة بواديهم ولا راحم لهم ولا نصير؟!
وقد رفعوا العرائض تلو العرائض إلى جلالة القيصر لينصفهم، فلم يكن نصيبهم منها إلا تركها في زوايا الإهمال والإعراض عن النظر في مظلمتهم بل صارت نسيا منسيا.
أما تعصب الروسيا نحو الدولة العلية فحدث عنه ولا حرج، فإنها منعت المسلمين من أن يستعملوا أي شيء من شعارها أو يقوموا بمساعدة نحوها، فقد حرمت عليهم لبس الطربوش العثماني وأصدرت أمرها رسميا بمنع لبسه وخصوصا فيما يلي الولايات العثمانية بآسيا، كما منعتهم من القيام بأي إعانة لمشروعاتها الحربية أو الدينية، ولذلك لما تكاتف المسلمون على تعضيدها في التأسيسات الحربية وتبرع حضرة المثري «طرس بك حاجي» من أعيان ولاية «صمريج» سامته من العذاب ألوانا وأفضى الأمر أن زج في أعماق السجون.
كل هذا يجري بين أرجاء العالم الإسلامي الروسي وأصواتنا خافتة مضغوط عليها بيد من حديد، كما أن الجرائد السلافية عموما والإسلامية خصوصا محرم عليها أن تذكر شيئا من هذه المظالم لا تصريحا ولا تلميحا.
هذه هي حالتنا بعثنا بها إليكم ليطلع عليها قراء لوائكم الأغر ويعرفوا مقدار ما تصبه دولة الروس علينا من المظالم الجائرة والتعسفات الهائلة.
13 نوفمبر سنة 1904
الإمضاء و. ق
وقد يتوهم بعض الناس أنه عندما زال الحكم القيصري وتبلشفت روسيا وزالت من قلبها شهوة الاستعمار وانطفأت من نفوس زعمائها جذوة الحقد على الشرق والإسلام، أصبحوا يعطفون على الأمم التي كانت خاضعة للحكم القيصري فتركوها تتنفس الصعداء.
ولكن الحقيقة غير ذلك، فإن هؤلاء البلشفيك الظالمين قد أرهقوا جميع الشعوب الآسيوية الإسلامية وألحقوا الأذى بسمرقند وبخارى وخيوه وجميع مدن تركستان الغربية، وهم يهددون أهلها بالخراب والقتل إن لم يتركوا دين الإسلام ويصبحوا ملحدين بغير دين، وقد جند المرحوم أنور باشا جيشا عظيما لمحاربتهم في سنة 1922 فحاربوه وكانت الحرب بينه وبينهم سجالا يوما لهم ويوما له حتى هزم واستشهد - رحمه الله - فهؤلاء القوم هم أعداء الإسلام وأعداء المدنية الإسلامية، ولا يمكن أن تتفق معهم الشعوب الشرقية المسلمة مطلقا بدون تعريض دينها ومدنيتها وحريتها للزوال، لأن الروس البلشفيك لا دين لهم ولا حكومة والمسلمون لهم دين وحكومة. أما المبادئ الإنسانية المنسوبة للاشتراكية الروسية فلدينا في ديننا أضعاف أضعافها إذا طبقنا مبادئنا على حقيقتها، وربما كانت البلشفية نافعة لأمة همجية أو أمة بغير مدنية ولا حضارة ولا تاريخ، أما نحن فلنا حضارتنا وتاريخنا.
وإن الأمل الأخير الذي كان يطمع فيه المسلمون في أواسط آسيا وهو تحريرهم بعد ذهاب العهد القيصري قد خاب وظهر أن البلشفيك وعمال نيقولا الثاني سواء في ظلم المسلمين وإرهاقهم. وكان عمال نيقولا الثاني يريدون تنصير التركستان، أي يرغمون المسلمين على استبدال دين منزل بدين منزل، أما هؤلاء البلاشفة فيريدون محو دين سماوي، ثم إنهم لا يحلون محله شيئا سوى تمجيد ريكوف وستالين وإنيكين وغيرهم من المغامرين والحيارى وهذا ما لا نرضاه ... وقد استصرخ مندوب الروس المسلمين في المؤتمر الإسلامي لنصرتهم في ديسمبر 1931.
أوروبا الغربية متعصبة
كتب أوجين يوبخ وكيل المقيم العام الفرنسي في تونكين رسالة باسم العرب والإسلام أمام الحروب الصليبية الجديدة نشرها في باريس في يونيو سنة 1931، وقد نعى فيها على الأوروبيين حملتهم المنكرة على الإسلام والعرب في أنحاء العالم، وجاء فيها أن قوة اليهود الصهيونية وقوة الڤاتيكان الكاثوليكية قد اتحدتا على خراب الإسلام وعلى القضاء على البقية الباقية من مجد أربعمائة مليون مسلم في أنحاء العالم. ويقول الكاتب إن الحروب الصليبية من يوم إعلانها على الإسلام لم تخمد نارها ولم تغمد أسلحتها، وقد خطب المدعو فالوفاسوري بيروني العضو في مجلس الشيوخ الإيطالي في 30 مايو سنة 1930 خطبة في المجلس، جاء فيها إنه يجب توحيد صفوف فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وإسبانيا ضد العرب والإسلام. ولا يمكن أن يصدر مثل هذا التصريح بدون موافقة موسوليني، لأن حرية الكلام والتفكير في إيطاليا مقيدة بإرادة ذلك العاهل المختلف الألوان بين الديمقراطية والأرستقراطية وبين التدين ومصلحة الفاتيكان وحرية الفكر وبين مخاصمة البابا وتهديده بالحرب والعصيان.
وقد ظهرت غرائز موسوليني في محاربة العرب والإسلام فأمر الجنرال جرازياني فأغلق جميع الزوايا السنوسية وصادر أموالهم لجانب الخزانة الإيطالية، وطرد ثمانين ألف (80000) رجل وامرأة بأطفالهم وأغنامهم من الجبل الأخضر المشهور بخصبه وحصرهم في بقعة من الأرض غير ذات زرع، فماتت أنعامهم وشارفوا هم أنفسهم على الهلاك، وقد هلك معظمهم ولجأ 10000 عربي ومعهم 400 خيمة إلى أرض تونس، وهم أغنى أهل طرابلس، وقد باعوا كل ما كانوا يملكون في سبيل فرارهم من الخطر الذي يتهددهم بعد ما رأوا ما حل ببقية أبناء وطنهم.
وقد نسي الطليان أن عدد المسلمين الذين يعيشون على شواطئ البحر الأبيض لا يقل عن سبعين مليونا فهم يعدلون تقريبا عدد سكان المسلمين الهنود.
يدعون أن فرنسا وغيرها من دول أوروبا قد صارت دولا لا دينية، تكره التعصب للأديان، وترفع لواء الفكر الحر، وتنادي بالمساواة بين الشعوب، ولا يدعي هذه الدعوى إلا كل جهول بأسرار تلك الأمم العريقة في المسيحية، والعريقة في الاستعمار، فقد هلك منذ ألف وخمسمائة عام أسقف اسمه هيبون في سنة 430، وكان هذا الأسقف بربريا، أي من بلاد البربر التي في مراكش، فأرادت الكنيسة الكاثوليكية أن تحتفل بمرور 15 قرنا على هلاك هذا الأسقف في نفس بلاد أفريقيا، غير مراعية للسكان المسلمين حرمة ولا كرامة، فأمرت فرنسا أن يكون اجتماع المؤتمر الأيوخرستي في قرطاجنة (مايو 1930)، وأمرت أن تدفع حكومة الباي مليوني فرنك لتشترك في هذا المؤتمر، ولما ظهرت حقيقة المؤتمر احتج 700 شخص للباي ورغبوا إليه في عدم التصريح للمؤتمر بالاستمرار، ولكن الاحتجاج ذهب أدراج الرياح وسار أعضاء المؤتمر في الطرق بملابس الصليبيين وجهزت الأسرة لنوم القساوسة في المسجد الصادقي، أي إن هؤلاء النصارى المتعصبين اتخذوا مساجد الله منامة، وأصدرت الحكومة أمرها بالقبض على كل من يحتج على المؤتمر من الشبان المسلمين.
وفي 16 مايو سنة 1930 أمضى سلطان مراكش ذلك الظهير المشئوم الذي يقضي بتنصير أهل البربر، وقد أرادت فرنسا بذلك الظهير إرغام البربر الذين يدينون بالإسلام منذ 1300 سنة على ترك دينهم وانتحال المسيحية بالقوة، وقد بلغ عددهم في مراكش وحدها 8 ملايين، وكان من نتائج صدور هذا الظهير إغلاق المكاتب الإسلامية وإرسال المبشرين ينشرون المسيحية ويبنون الكنائس والمدارس لينصروا الشعب بالقوة، وقد انتقد هذا الظهير المسيو كاريت بوڤيه مدير جريدة «الصرخة المراكشية»، ولام فرنسا على رغبتها في نقل أمة بأسرها من دين تدين به وتمجده وتطيعه إلى دين آخر لا تميل إليه ولا تحبه، وإن كان سانت أوجستان أو غيره من القسس الذين أصلهم برابرة قد عاشوا في البلاد أو نصروا بعض أهلها منذ 16 قرنا أو 15 قرنا، فليس معنى هذا أن النصرانية بقيت ذات شأن في تلك البلاد، فقد جاء الإسلام ونسخها ومحا آيتها وانتشر في شمال أفريقيا انتشارا عظيما، وكان من البربر المسلمين أنفسهم من فتحوا بلاد أوروبا المسيحية في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبعض جزر البحر الأبيض. وقد كتب أحد الفرنسيين المنصفين يقول:
وعلى الرغم من احتجاج أمة البربر في البر والبحر، في الحواضر والبوادي، فإن الحكومة الفرنسية المتعصبة الجائرة أغلقت المحاكم الشرعية، وعزلت القضاة الذين تولوا القضاء بين الناس منذ مئات السنين، وطردت الأساتذة الذين كانوا يعلمون اللغة العربية، ومنعت قراءة القرآن، وحظرت الصلاة والتكلم باللغة العربية، وساقت الأطفال سوقا إلى الكنائس، وقد ظهر أربعة من الموظفين بالغيرة الشديدة في تنفيذ هذا الظهير الجائر، وهم أوربان بلانك ممثل وزارة الخارجية، والمسيو بريان، ثم الجنرال ڤيدالون، ثم القمندان مارني، وهؤلاء الأربعة يطيعون أمر البابا طاعة عمياء، ويعملون لتنفيذ رغبة الكنيسة أولا ثم خدمة الوطن ثانيا.
الفصل السابع
الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته
الشرق العربي
نقصد بالشرق العربي البلاد الشرقية في آسيا وأفريقيا التي تتكلم بالعربية وتكتبها، سواء أكانت تلك البلاد تدين بالإسلام أم بالنصرانية، وقد يكون في أحد تلك البلاد لغة أخرى بجانب العربية ولكن العربية هي المعول عليها في مخاطباتهم ومكاتباتهم سواء أكانت تلك البلاد مستقلة أو واقعة تحت سلطة أجنبية. فتكون بلاد الشرق العربي هي:
أولا:
جميع بلاد أفريقيا التي تتكلم العربية، وهي مصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وما يليها من بلاد السودان والواحات إلى غرب أفريقيا.
ثانيا:
سورية وفلسطين ولبنان وشرق الأردن.
ثالثا:
العراق والموصل وديار بكر وعاصمتها بغداد.
رابعا:
مملكة عمان وشمر والقصيم.
خامسا:
جزيرة العرب، وفيها نجد والحجاز واليمن وحضرموت وعسير وتهامة.
سادسا:
كل إمارات الخليج الفارسي كالكويت والأحساء والمحمرة والبحرين.
وهذا الشرق العربي كما ترى بلاد كبيرة واسعة الأكناف، وربما كانت ما عدا الحجاز (الذي وصف بأنه واد غير ذي زرع) من أخصب بلاد العالم مع اعتدال في هوائها وطباع أهلها، فضلا عن أنها كلها في وسط المعمور وعلى طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وكانت كلها قديما بلاد الحضارة والأديان المنزلة والعمارة والزراعة والصناعة والتجارة ومركزا للعلم والأدب والفنون، وليس ما يمنع أن تعود إلى ما كانت عليه من العظمة والغنى.
أما عدد سكانها فيبلغ على سبيل التقريب من خمسة وستين مليونا إلى سبعين مليونا، ومعظم هذا العدد من الحضر سكان المدن والبلدان والقرى، وفيهم الأعراب سكان الخيام الذين يعيشون عيشة البداوة ويسرحون بأنعامهم وهؤلاء يقلون شيئا فشيئا ولا يتجاوزون ثلاثة ملايين ونصف أو أربعة ملايين.
وقد شوهد أن أهل الشرق العربي من سكان البلاد المتاخمة للفرس والأرمن والأكراد والأتراك، وإن كانت عليهم بعض الصبغة من هذه الأمم إلا أنهم ينزعون دائما في ميولهم ومشاربهم وأغراضهم وتقاليدهم إلى العرب، لأن استقراء علماء الاجتماع دل على أن الذين يتكلمون لغة من اللغات تكون نزعاتهم في ميولهم ومشاربهم وتقاليدهم وأغراضهم السياسية والاجتماعية إلى جانب أهل لغتهم وإن بعدوا عنهم في المعتقد والجوار أكثر مما هي إلى جانب أهل لغة أخرى وإن هم قربوا منهم في الجوار والمعتقد حتى وفي الجنسية البعيدة (بحث للأستاذ جبر دومط ، مقتطف أغسطس سنة 1910). ولذا ترى كل الأمم التي تعيش في ظل بلاد إسلامية تنتحل وسائل معايشها ومدنيتها وحضارتها وإن خالفتها في المعتقد. وقد يسمي أحدهم نفسه إسلامي الحضارة ذلك أن الإسلام تميز باللغة العربية التي كانت أداته في نشر لوائه، فترى المسلم الغريب اللسان يسعى جهده للأخذ بطرف من اللغة العربية التي هي مفتاح ذلك الدين ومدنيته الوارفة الظلال وكل ما يتعلق بهما. ومما يصادق نظرية تأثير اللغة في الشعوب التي تتكلم بها وتتخاطب أن الدول الأوروبية المستعمرة إذا احتلت بلدا شرقيا سارعت إلى محاربة لغته ونشرت لغتها وآدابها حتى تقطع العلاقة بين الشعب ولغته الأصيلة، وهي جماع معتقداته وميوله ومشاربه وتقاليده في حياته الاجتماعية والسياسية، ثم تدفعه إلى لغتها الغربية فينجذب نحو آدابها ومدنيتها مقلدا لا معتقدا، ومحال عليه أن يضارع القوم في أخلاقهم ومبادئهم فيفقد القديم ويفوته الجديد ويبقى أبدا مضيعا. وقد كان النضال شديدا بين اللغة العربية واللغات اللاتينية والإنجليزية، فخرجت الأولى ظافرة وخاب المستعمرون في هذا وحده.
العراق
من أمهات الديار العربية قبل الإسلام وبعده، أما قبل الإسلام فلأن الحلة كانت دارا لملوك العرب من أيام جذيمة الأبرش إلى آخر من ملك من المناذرة، وأما في الإسلام فقد اختطت البصرة والكوفة في أيام عمر بن الخطاب وما زالتا مدينتي العرب أجيالا. ولما قام المنصور العباسي اختط بغداد وبقيت دارا للخلافة الإسلامية العربية إلى أن قدم هولاكو إليها في سنة 656ه، وقتل الخليفة المستعصم بالله واستباح المدينة أربعين يوما، قيل فبلغ القتلى أكثر من مليون نفس ولم يسلم إلا من اختفى في بير أو قناة.
أما عدد سكان العراق فيبلغ نحوا من ثلاثة ملايين وهو عدد كادت تبلغ ثلثيه بغداد وحدها في إبان عزها. والبلاد لا ينقصها خصب ولعلها من أخصب بلدان الدنيا ولا سيما بقعة مدينة بغداد وما حواليها فإنها تصلح للزرع والضرع وقد تغل في رأي الخبراء أربعمائة ضعف، وربما كانت ثروتها المعدنية الكامنة في بطن الأرض أعظم مرات كثيرة من ثروتها الزراعية وليس التمر وحده هو مصدر الغنى الزراعي، بل إن البلاد فوق ذلك بلاد حبوب وقطاني وصوف وقطن وصمغ ورب السوس.
وقد غير اكتشاف آبار البترول وجه العراق، وإذا اهتم أهل البلاد بإحياء موات الأرض ولم يكتفوا ب «بنات عماتهم» النخل، كان لهم موارد ثروة لا تنضب، فإن معدل أثمان صادرات الصوف من بغداد والبصرة يبلغ نحو مليونا ونصف مليون جنيه. وقد قامت أخيرا في العراق نهضة صناعية باهرة مذ تأسست فيها مصانع للثياب الوطنية من أقمشة تصنع في البلاد، وقد بدأ رأس مال تلك المصانع بمائتي ألف روبية وبلغ الآن أكثر من أربعة أو خمسة ملايين روبية، وصار أهل البلاد كلهم يلبسون من المنسوجات الوطنية.
وقد استغنوا عن العمائم والطرابيش بغطاء رأس مستطيل الشكل أسود اللون يصنع في العراق أيضا واسمه السدارة، وعلمت من سائح شرقي جليل ثقة أنهم أسسوا مصنعا لدبغ الجلود وصناعة الأحذية منها، فلا يحتاجون بعد اليوم إلى ثياب أو أحذية أو قبعات أوروبية أو طرابيش نمسوية. وعلمت منه أن ياسين باشا الهاشمي قد حتم منذ بضع سنين على الحكومة أن تتعاقد مع مصانع الثياب لابتياع كسوة الجيش والجند وعمال الدواوين وأبناء المدارس، وهذا عمل جليل ليس بعده غاية لمخلص. ولا غرابة إذا نهضت العراق هذه النهضة المباركة فقد كانت مدن العراق من أكبر المراكز الصناعية والتجارية في العالم في أيام زهو العباسيين، فبغداد أخصب بقعة في العراق، ودجلة والفرات طريقان مائيان عظيمان ينصبان إليها من الشمال الأول رأسا والثاني بما يوصل من الترع بينه وبين دجلة، ودجلة يوصلها بالبصرة اتصالا لا ينقطع ثم البصرة توصلها بخليج فارس فخليج عمان فباقي البحار الكبيرة، فأي مركز إذن يفضل مركزها؟ وفي سنة 1927 خرج من ميناء البصرة تسعمائة وخمسون باخرة محمولها 1418460 طنا من المواد الأولية والثمار معظمها لبلاد الإنجليز.
وكانت المتاجر تصدر عن بغداد إلى إنجلترا قبل الحرب العظمى بعشرين عاما، والإنجليز يرمقون العراق من عشرات السنين ويرمون إلى تكبير أهميتهم التجارية والسياسية على أيدي قناصلهم ووكلائهم في الخليج الفارسي، ومقدمهم في هذه المناصب سير برسي كوكس، الذي صار بعد عشرين عاما من الخدمة السياسية في البحرين مندوبا ساميا لعهد الملك فيصل.
وفي سنة 1910 حدثت أزمة في الوزارة العثمانية أحدثتها شركة لنش الإنجليزية في العراق، وكان المرحوم سليمان البستاني معرب الإلياذة يعيش في تلك الجهات ويخدم الدولة قبل أن يعين عضوا في مجلس الأعيان العثماني، وقد كتب ما يستفاد منه تحذير الدولة من الخطر الاستعماري البريطاني.
وسوف نتكلم عن الخليج الفارسي والبحرين بما فيه الكفاية غير أن للكويت والأحساء صفة خاصة، فقد شغلت الكويت قراء الصحف العربية في نهاية القرن التاسع عشر، لأن الإنجليز كانوا يلقون عليها حبائلهم ليجعلوا منها مستودعا لذخائرهم وموطئ قدم لدى فتوح العراق، وكانت الكويت والأحساء تابعتين لولاية البصرة، وكان مدحت باشا واليا على البصرة، ولا نزال نذكر أنه خطب ود الشيخ عيسى أمير البحرين فلم يجب نداءه بل على العكس سلم خطابه إلى حلفائه الإنجليز.
ومذ كان مدحت باشا واليا على البصرة حدث خلاف بين عبد الله بن سعود وأخيه سعود فلجأ عبد الله إلى مدحت يستنصره على أخيه، فألحق مدحت الكويت والأحساء بولاية البصرة وشكل منهما متصرفية سميت بمتصرفية نجد. أما الكويت فعلى أن يكون عبد الله بن سعود قائمقاما عليها كل أيامه تحت حماية العثمانيين، فدخلت الكويت والأحساء تحت حماية العثمانيين حوالي 1870 ولم ينازع منازع في ذلك، وتشكلت متصرفية الأحساء وكان يعين لها المتصرفون العثمانيون ومعهم من الجند ما تقتضيه الحاجة السياسية والمدنية. كان ذلك والأمير ابن السعود الذي صار فيما بعد ملك نجد والحجاز ما زال فتى وقد نشأ وترعرع في كنف الشيخ مبارك الصباح شيخ الكويت، الذي استولى عليها بعد عهد المتصرفية العثمانية. وكان يجب على مدحت أن يلفت نظر دولته إلى أهمية الكويت وجزيرة البحرين، ولسنا ندري أين كانت أعين الترك وآذانهم الطويلة طول القرن التاسع عشر وهم أصحاب العراق وجزيرة العرب، وكان ينبغي أن تكون «البحرين» تابعة للمتصرفية، ولكن الإهمال بل الغفلة من جهة وبعد الشقة من جهة أخرى (كأن إنجلترا والهند كانتا أقرب إلى الخليج الفارسي وجزيرة العرب من تركيا) والجهل بأهمية موقع الكويت وموقع الجزيرة معا؛ كل ذلك جعل المتصرفين يغضون النظر عن الكويت والجزيرة ويتركون لرؤساء القبائل فيهما أن يتصرفوا بالبلاد والعباد كما يشاءون كأنهم مستقلون في المكانين المذكورين، وقد انتهى هذا التصرف السيئ بفقد البلاد جميعا.
الكويت والمبشرون بها
أما الكويت فمدينة نظيفة ويبلغ عددها ثلاثين ألفا، وميناها واسع أمين من أحسن مرافئ شرقي جزيرة العرب بل أحسنها، وكان الألمان يؤملون أن تنتهي فيها السكة الحديدية البغدادية ولكن الدهر لم يساعدهم. غير أن هذا لم يقلل من أهميتها التجارية والحربية، فقد لعبت في الحرب دورا مهما فكانت مستودعا للذخائر والأسلحة التي استعملها الإنجليز في حروب العراق ضد الدولة العثمانية وبعد ذلك ضد أهل العراق أنفسهم قبل تنصيب فيصل ملكا عليهم. ويبلغ عدد سكان الكويت ثلاثين ألفا الآن.
والكويت في فلاة قاحلة ليس لها ما تعتمد عليه إلا التجارة، وتجارتها متسعة مع شمر ونجد والحجاز، ومنها ترسل الخيول إلى البنادر الهندية، وفي جنوبيها واحة القطيف وهي من أخصب الواحات في بلاد العرب حتى تمتد إلى قطر.
روى لنا سيد عظيم من رجال الشرق العاملين على خدمته أنه زار الكويت في غرض له فوقف من أخبار المبشرين على العجائب، فقد علم أنهم قسموا البلاد إلى مناطق نفوذ في الخليج الفارسي، فالمبشرون الكاثوليك لا يتعدون منطقتهم والمبشرون البروتستان كذلك، ولهؤلاء الأخيرين قصة فكهة تدل على صبرهم وثباتهم وحسن إيمانهم.
فإنه جاء منهم أربعة من صميم بلاد الإنجليز الذين لا يطيقون فيها حرا ولا شمسا (وهم لا يرون قرص الشمس مرة في كل عام)، فرضوا أن يعيشوا في وسط بلاد يضرب المثل بشدة قيظها، وتعد مصر في أشد أيامها حرا بمثابة سويسرا بالنسبة لها، وتلك البلاد وهي الكويت خالية من كل وسائل الراحة البدنية فلا طرق ولا شوارع ولا ماء صالح للشرب ولا أدوات صحية ... تصور هؤلاء الإنجليز الأربعة الذين جاءوا بزوجاتهم كيف يعيشون في هذا الوسط الغريب عنهم مستهدفين لأخطار الطبيعة وأخطار الحياة!
وقد بدءوا أولا ببناء مستشفى وتأسيس مكتبة، وقد بقي المستشفى والمكتبة خاويين على عروشهما لا يؤمهما أحد من أهل البلاد مدة أربع سنين، فلم ييأس المبشرون الثمانية ولم يضجروا ولم يتسرب اليأس إلى قلوبهم، بل لجئوا للدرجة الثانية من العمل وهي أن نساءهم الأربع تحجبن واتخذن أسماء أنثوية إسلامية فاطمة وعائشة وزينب وزبيدة، وأخذن يغشين منازل أهل الكويت ليعالجن المرضى ويواسينهم ويخففن آلامهم في سكون وهدوء ولا تنطق واحدة منهن بكلمة في الدين، وهن ينتظرن سنوح الفرصة ليقمن بعد قليل بواجبهن الأصيل وهو التبشير، وكفاهن الآن أنهن تملكن قلوب الذين خدمنهم بالعلاج والدواء. وهكذا يعملون ويعملن في صبر وثبات دون أن يشعر أحد بخطورتهن.
والبقعة بين رأس قطر والقطيف مغاص من أحسن مغاوص اللؤلؤ في العالم كانت ولا تزال إلى اليوم، وسكان قطر والبحارنة (أهل البحرين) كلهم يشتغلون بالغوص نصف العام تقريبا. ومن مدن تلك الجهة هجر القديمة المهجورة المشهورة بتمرها حتى ضربت به الأمثال فقيل «ناقل تمر إلى هجر» كما يقال «ناقل قطن إلى مصر.»
وقد أسس الترك هذه المتصرفية التي حكينا عنها آنفا منذ ستين عاما وكان ينبغي لهم أن يعنوا بها منذ ذلك التأسيس، ولعلهم لم يدركوا أن تلك البلاد هي مفتاح البلاد العربية غربا ومفتاح الهند شرقا ومفتاح العراق شمالا وبها طرق التجارة المهمة للشرق والغرب.
والحسا أو الحفوف وهي هجر القديمة هي المحطة الأولى على طريق القافلة من خليج فارس إلى مكة وجدة والمدينة.
إن البحرين وهي جزيرة اللؤلؤ الآن تحت حماية الدولة البريطانية، وقد تدخلت في نصب حاكم لها منذ سنة 1867، فإنها في تلك السنة نصبت عيسى بن علي حاكما أو سلطانا على الجزيرة بعد أن عزلت أباه عن كرسي الحكم.
وبعد ذلك ببضع سنين أصبحت تدعي أن لها حق الحماية أو الوصاية على الكويت، ولها فوق ذلك من النفوذ في كل خليج فارس ما لم يسع أحدا من ساسة العثمانيين أن يجهله فإنها هي المسيطرة معنويا على كل الحركات التي تجري على شواطئ هذا الخليج الغربية والشرقية في بلاد فارس وفي بلاد العرب وفي يدها إن شاءت أن تثير الخواطر أو تسكنها، فإن عمالها هناك أهل إدراك ويقظة (أمثال كوكس ) لا تفوتهم حركة ولا سكنة تنتفع بها أمتهم أو يزداد بها نفوذ دولتهم. أما معنى الحماية البريطانية فمنع معاوقة تجارتهم ومنع بيع الرقيق علنا وليس لهم معتمد خصوصي، ثم ترك الحكام الوطنيين وشأنهم والقضاة وشأنهم يظلمون أو يعدلون ويرتشون أو يعفون، فإذا تجاوزوا ذلك إلى مخابرة سياسية أو أظهروا شيئا من الاستقلال في تصرفاتهم مع دولة أخرى فحينئذ تظهر الحماية البريطانية ويظهر أثرها بالمنع، وفي ما عدا ذلك لا أثر لها إلا أن يكون ذلك مرتبا سنويا تدفعه الدولة البريطانية للشيخ أو الأمير عن حماية التجارة أو منع بيع الرقيق أو تألفا له.
شمر بلاد أو واحة واقعة
شمر بلاد أو واحة واقعة بين أجأ وسلمى جبلي طيئ، وعاصمتها حائل، وهي مدينة ابن الرشيد وكرسي إمارته، وإلى جنوبها القصيم العليا والقصيم السفلى، وفيها عنيزة وبريدة مدينتا نجد (نجد الحجاز)، ويقول السائحون إنها بلاد طيبة الهواء جيدة التربة ولا أثر فيها للبعوض والذبان ولا للقمل والبراغيث ولا رائحة للمجزرة بها واللحم لا يخنز هناك، وسماؤها غاية في الصفاء ونسمات أسحارها لا أعل ولا أنعش منها. وكانت حائل تابعة لرياض، تعترف بسيادتها.
وقد ضعف شأن رياض عندما لجأ عبد الله إلى مدحت باشا ضد أخيه سعود وهما ابنا فيصل الوهابي فانتهزت حائل هذه الفرصة واستقلت، واستمرت المدينتان تتنازعان السلطة والسيادة. وكان ضلع الولاة العثمانيين مع حائل، فكان والي بغداد والبصرة يجعل أمراء بيت الرشيد حماة لطريق الحج من قبل الدولة العثمانية فكان آل الرشيد يعترفون بسيادة الدولة، وأقل ما للعثمانيين من الحقوق على حائل ورياض أيضا الحماية التي هي أشبه بالحماية الإنجليزية على كثير من أجزاء الجزيرة العربية في جهات اليمن والشحر أو في جهات الخليج الفارسي.
وترجع تلك الحماية إلى دخول الولايات السعودية الوهابية - وهي نجد واليمامة والعارض ووشم والسدير والقصيم وشمر وعسير اليمانية - في حوزة العثمانيين على أيدي محمد علي وإبراهيم عند استفحال أمر الوهابية.
وأكد تلك الحماية سنة 1870 التجاء عبد الله بن فيصل إلى مدحت واعتراف أمراء حائل لهم بالسيادة العامة وثلهم أمراء رياض من بيت سعود أثناء المنازعات التي وقعت بين أمراء هذين البيتين من حوالي أربعين سنة إلى الآن.
عمان ومسقط
إن في شرق الجزيرة العربية وعند الخليج الفارسي إمارات وسلطنات ودويلات صغيرة شأنها شأن الجزيرة العربية من حيث كونها إسلامية شرقية، ولكن إنجلترا بسطت عليها نفوذها من زمن طويل لا لأنها أغنى بلاد العالم بجواهرها ولآلئها ودراريها، ولكن لقربها من الهند وخطورة مركزها السياسي، وهي تفوق من تلك الناحية جنوب الجزيرة الغربي حيث توجد عدن وغيرها من الإمارات والسلطنات الصغيرة الواقعة هي أيضا تحت النفوذ البريطاني. ومن تلك الولايات العربية إمارة عمان فإن لها تاريخا يهم كل عربي، لأنها رفعت علم الناطقين بالضاد إلى أوج السماء في القرن العاشر الهجري، فقال بعض المؤرخين إنه لم تقم لهم قائمة منذ خرجوا من الأندلس بغير عمان التي دامت نهضتها من سنة 1000 إلى 1250 هجرية، فنشأ بها فطاحل عظماء كونوا دولة عربية قائمة على أساس العدل واستولت على بعض ثغور البحر الأحمر ثم على المحيط الهندي والخليج الفارسي فأفريقيا الشرقية إلى رأس الرجاء الصالح، وفي بضعة أجيال صار أهل عمان سادة على هذه البحار الثلاثة العظمى وصار لهم أسطول ضخم هاجم الأسطول البرتغالي ومزقه إربا وشتت شمل البرتغاليين وأجلاهم عن جميع الثغور الهندية والفارسية والأفريقية. وكان الأسطول العماني مؤلفا من ثلاثمائة قطعة بين بارجة وفرقاطة ونسافة وحراقة، وقد وصفه سرهنك باشا في كتابه «دول البحار» وذكره كثيرون من مؤرخي الشرق وذكروا أسماء السفن الكبرى التي كانت تشبه المدرعات والدردنوط والطرادات الأوروبية، وهو الأسطول الإسلامي الرابع أو الخامس الذي ظهر في البحار بعد أسطول صلاح الدين الأيوبي وقبل أساطيل الدولة العثمانية والأسطول المصري الذي تألبت عليه الدول وقضت عليه في موقعة ناڤارينو. ومن أسماء تلك السفائن الحربية العمانية «الفلك والملك والناصري وكعب رأس والرحماني والإمامي واليعربي وعمان ونزوى والفتح والنصر ويعرب وقحطان»، كما يسمي الإنجليز مراكبهم «الملكة إليزابيث وفيكتوريا ونلسون» وغيرها.
ومن البديهي أن الإنجليز لم يصبروا على هذه الدولة البحرية الشرقية التي كانت تهددهم في أملاكهم في آسيا وأفريقيا، وقد يستقر نفوذها في الهند وإندونيسيا والهند الصينية شرقا وإلى شرق أفريقيا والسودان وجنوب أفريقيا غربا، بعد أن امتد ذلك النفوذ إلى تلك الناحيات فعلا، فعملت في مدى ثمانين عاما على إضعاف تلك الدولة والقضاء على أسطولها ثم الاستيلاء على بلادها وقهرها شيئا فشيئا، وما زالت بريطانيا تعمل على انحلال تلك الدولة العمانية البحرية إلى وقتنا هذا. وهذه السلطنة يحكمها الآن السلطان تيمور، والشائع أنه وبلاده تحت الحماية البريطانية، ويقال أيضا إنه مستقل في بلاده ولكنه مرتبط مع دولة إنجلترا بمعاهدات تقضي بأن لا يمنح أية دولة أوروبية امتيازا في بلاده، لمجاورتها للهند. وقد حدثت في عمان ثورة عظيمة كان تيارها جارفا، تمكن الثوار في أثنائها من طرد ولاة السلطان تيمور من جميع البلاد الداخلية حتى إن والي السلطان بنزوى، وهو السيد سيف بن حمد، انتحر من شدة الحصار، وحوصر السيد نادر أخو السلطان بسمائل شهرا، فاضطر لتسليم البلاد لزعماء الثورة، وحوصر ابن عم السلطان السيد أحمد بن إبراهيم خمسة أشهر بحصن الرستاق ثم سلم البلاد. واستفحل أمر الثوار في الداخلية واستتب لهم الفتح فيها فانقلبوا إلى الثغور البحرية فوقف الأسطول الإنجليزي في وجوههم وضرب بعض المدن بالقنابل مثل بركا وقريات.
وعند ذلك أراد الإنجليز تحوير المعاهدة التي بينهم وبين السلطان تيمور وانتهزت إنجلترا هذه الفرصة فزادت بعض البنود المؤيدة لسلطتهم فاضطر السلطان تيمور لقبولها، وحدث إثر ذلك أن قابل ملك الإنجليز عظمة السلطان تيمور فقويت شائعة الحماية التي بسطها الإنجليز على عمان ومسقط.
الفصل الثامن
سبب انحطاط العرب وتاريخ الدولة البحرية الإسلامية العظمى
دولة بحرية إسلامية عظمى
ربما كان الكثيرون من الشرقيين لا يعرفون شيئا عن تلك الدولة الإسلامية البحرية العظمى التي قامت منذ قرنين في شرق جزيرة العرب وقضت على دولة البرتغال وهددت الهند والإنجليز والفرس، ولولا الاستئثار وحب الذات والتفاني في السلطة والجهل وقبول الدسائس الأجنبية لكانت اليوم من أعظم دول البحار في العالم، هذه هي دولة عمان، وتجد الإفرنج أنفسهم يوجزون في كتبهم عند ذكر عمان ويكتفون بتذكيرنا بوقوع مسقط عاصمتها في أيدي البرتغال في أوائل القرن السادس عشر، وأنها ما زالت تحت حكمهم إلى نصف القرن السابع عشر، وأنها بعد ذلك كانت نهبا بين نادر شاه الفارسي وأحمد بن سعود واليعاربة، وأنها فقدت قطر والبحرين بما فيهما من مصائد اللؤلؤ والثروة الطائلة، وأن تويني أحد سلاطينها قتله ابنه، وكانت البلاد مسرحا للفتن والقلاقل وإراقة الدماء.
وترى السائح الشرقي الحديث القادم من شمال أفريقيا أو من بلاد العراق أو عائدا من بمباي إلى الخليج الفارسي يحدثك بلوعة عن دولة بحرية إسلامية نشأت في تلك البحار، فإن أهل البلاد وهم من الإباضية إحدى فرق الخوارج قد انشقوا على أنفسهم فاستقل الفريق الأعظم منهم بالداخل والجبل الأخضر، وجعلوا عليهم إماما هو الشيخ الرويحي ثم خلفه الشيخ الخليلي وذلك على أثر مفاوضة السلطان تيمور مع الإنجليز في سنة 1912، وما زال تيمور يحكم السواحل وطولها ثلاثمائة كيلومتر في عرض أربعين كيلومترا، وإذا نزلت إلى الجنوب لقيت جزيرة البحرين وعاصمتها منامة بقصورها الفخمة، وإذا صعدت شمالا وجدت إمارات صغيرة بل مدنا مثل دبي وأبو ظبي ورأس الخيمة. ولكن الشعب والمدنية والتعليم والسياسة والمالية ... هذا كله وراء الستار أو في المستوى الخلفي، لأن استئثار الأمراء بالملك وتنازعهم على السلطة وثروة الأقلية وفقر الأغلبية قد غطت على كل شيء، وجاءت دسائس السياسة الأجنبية فقضت على البقية الباقية.
سبب انحطاط العرب
روى لنا محدث ثقة أنه زار عمان في سنة 1924 ونزل بضيافة السيد أحمد دملوك من أكبر أغنيائها، وكان القصر فخما والرياش نفيسا والمائدة رداحا، وكل مظاهر العز والرفاهية موفورة.
وفي الصباح دخل عليه في قاعة الجلوس التي أعدت له شاب جميل الصورة يلبس قميصا في غاية القذارة قد انقلب من البياض إلى السواد وقد أرخى شعوره مكدسة على كتفيه وعلى جبينه ولطخها بزيت قذر فكان منظره كإنسان الغابة، وقد قال صاحبي إنه ظن عند رؤيته أن هذا الشاب لم يذق طعم النظافة حياته وأنه لم يعرف لون الماء ولا رائحة الصابون. فلما دنا منه وسلم عليه رد تحيته بغير اكتراث، فجاء رجل وجيه وهمس في أذن الضيف محدثي وقال له: «هذا السيد محمد دملوك نجل السيد أحمد دملوك»، فدهش الضيف ولم يخف دهشته على الشاب وقال له: يا سيد محمد، لا عذر لك فيما أنت فيه من سوء البزة، فالغنى بحمد الله متوافر والماء كثير والثياب النظيفة الجميلة من الحرير والمخمل ميسورة والحلاق يتمنى أن يتشرف بقص شعرك وتقليم أظافرك، فضحك الشاب وقال له: «أتريد أن أكون مخنثا؟!»
غير أن هذا الشاب الذي يحمل في رأسه تلك المعقولية الغريبة والذي تربى على أن النظافة قد تؤدي إلى فقد الرجولة، ونسي كل ما حفظه الأثر من تاريخ النبي ووصف حياته الخاصة، وما أمر به الدين الإسلامي؛ لم يكن غبيا ولا بليدا بل كان على أوفر نصيب من الذكاء وحسن الإدراك وسعة الاختبار، وكان في عينيه بريق يدل على سمو النفس، فقد قال يوما لمحدثي: أتريد حقا يا سيد فلان أن تصلح شئون العرب، وأنت تغار على تاريخهم وتتمنى لهم السلامة والنهوض والعلا؟
فأجاب صاحبي بالإيجاب.
فقال له: عليك إذن أن تلقي بملايين والدي في البحر أولا، فإذا تمكنت من ذلك فإنك ناجح في إنهاض العرب.
فاستفسر وطلب المزيد من البيان فقال: اعلم يا سيدي أن هذه البلاد تشمل عشرين أو ثلاثين شخصا من أرباب الملايين وهم يسخرون الشعب كله في تكوين الثروة لأنفسهم، فلا يعقل أنهم يعينون أحدا على تحسين حالة الشعب بتعليم أو تربية أو تهذيب، فالحال كما ترى يشقى المليونان أو الثلاثة ليسعد عشرون أو ثلاثون رجلا فقط، وأنشد:
وكم قائل ما لي رأيتك راجلا
فقلت له من أجل أنك فارس
فدهش محدثي من ذكاء الشاب وفصاحته وصراحته وحريته وبعد نظره، وقربه منه وتودد إليه وانقطع إلى مسامرته، ولكنه لم ينجح طول مدة إقامته في إقناعه بأخذ حمام واحد أو تغيير قميصه القذر، وقال لي: إن أولاد رجال أوروبيين أو شرقيين في أقطار أخرى يملكون عشر ثروة والد هذا الفتى يتعلمون في باريس وأكسفورد ويعيشون عيشة الأمراء، ولكن هكذا أحوال العرب.
الدولة الإسلامية البحرية
نرجع إلى ما كنا فيه من ذكر تلك الدولة الإسلامية البحرية العظمى التي طردت البرتغال وتهددت الفرس والإنجليز في بلاد الهند إلى أن ذلت على أيدي أصحابها.
إن الخليج الفارسي هو الشق من الماء الملح الداخل من بحر عمان بين بلاد فارس وجزيرة العرب، وأوله من الجنوب مضيق رءوس الجبال جنوبا وآخره شط العرب حيث مصب دجلة والفرات شمالا، ومن المدن العظيمة الواقعة على شاطئه بندر عباس ومسقط وبوشهر ولنجه والكويت، وهو مزدان بجزر كثيرة فيها الصغير والكبير شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وأشهرها جزيرة البحرين جنوبا وجزيرة ببيان شمالا.
كان خليج العجم من قديم الزمان كما هو اليوم مفتاح الطريق للتجارة بين الشرق والغرب، ولا تطمئن دولة غربية في الهند ولا يستقر أمرها إذا لم تكن هي القابضة بيدها على هذا المفتاح، وذلك لأنه أسهل الطرق لتجارة الهند وأصلحها وهو أقل خطرا من المحيط الهندي وأقرب مواصلة، وهو فوق ذلك في مأمن من العواصف الهوجاء التي تنتاب البحر الهندي في الربيع والصيف فضلا عن الخريف والشتاء، فقد روى لي صديق جاوي أنه كان في صيف 1902 مسافرا فيه فقامت عاصفة دمرت الباخرة تقريبا، وكنت قبل ذلك أظن المحيط الهندي على شيء من الهدوء. وأضف إلى ذلك أن الخليج الفارسي حصن بحري حصين وبابه مضيق هرمز حيث تكاد بلاد إيران تصافح بلاد العرب، فضلا عما في هذه الطريق من الجزر الغنية والمدن العامرة كما أسلفت. ولا يضل السائح طريقه ولا يملها من سواحل الهند إلى جزائر الخليج إلى البصرة فبغداد فسوريا فمصر فأوروبا.
وقد كان هذا الخليج دائما مسرحا للفتن والقلاقل والحروب التي يسببها حب السيادة والاستعمار، يريده الإنجليز طريقا آمنة للتجارة في أيام السلم ويريدونه حصنا مغلقا في وجه غيرهم في أيام الحرب، لأنه مفتاح الهند ويريدون هذا المفتاح في يدهم وحدهم، هذه هي غايتهم الأولى والأخيرة. وقد تمكنوا من القضاء على الأسطولين الكبيرين اللذين أنشئا فيه، فإن دولة عمان كما سيجيء الكلام أنشأت أسطولا قضى على البرتغال، فكان مآله التدمير على يد الإنجليز.
وكان للبحرين أسطول شراعي كبير مسلح بالمدافع والذخيرة الوافرة، وقد استفحل أمره وبواسطته استولى حكام جزيرة البحرين على قطر والقطيف كما استولى أسطول عمان على زنجبار وشرق أفريقيا وبلغوا به رأس جواديفار (ص261 دائرة المعارف الإنجليزية، ج2، طبعة تاسعة) فخشي الإنجليز عاقبة ذلك، لأن مصلحتهم تقضي بأن تبقى بلدان الخليج متنافرة متشاقة متخاصمة لكل منها أمير مستقل كما هي الحال الآن في الكويت وأبي ظبي ودبي ورأس الخيمة، وكما كانت في المحمرة قبل أن يستولي عليها الفرس في سنة 1924، فأخطروا أمراء البحرين بأن القتال في البحر ممنوع وأن لبريطانيا حقا في منعه تعترف لها به الدول الكبرى فلا يجوز إذن أن يخرج أسطولكم إلى عرض البحر وإذا خرج فالأسطول الإنجليزي يقوم بواجبه (اقرأ يؤدبه ويحطمه)، فاحتج الشيوخ والأمراء بأن بلادهم جزر ثغورها مفتوحة غير محصنة ولا حصن لها إلا الأسطول، فإن لم ندفع به الأعداء ملكوا بلادنا ورقابنا وإذا لم ندافع هجموا علينا، فأجاب الإنجليز إذا كان الأمر كذلك فإن حكومة بريطانيا إذا امتنعتم عن الحرب البحرية تتعهد برد الأعداء عن بلادكم (اقرأ نضعكم تحت الحماية)، وهكذا تلاشى الأسطول البحراني (جزيرة البحرين) كما تلاشى قبله الأسطول العماني. هذا من جهة السياسة الخارجية.
وإذا أنت درست أحوال العرب الداخلية علمت من غير طويل عناء أن بلية العرب الكبرى كانت ولا تزال نزوع كل قبيلة بل وكل عشيرة إلى العزلة والاستقلال، لا يعرف العرب من مبدأ التضامن غير ما تأمر به القبيلة أو يدعو إليه في بعض الأقطار المذهب الديني، لا يخضع العرب لبعضهم بعضا إلا كرها، ثم ينزعون إلى السيادة المستقلة حيثما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
فتراهم ضحايا جهلهم، وليس الجهل فقط لأن الجهل الأعزل قد لا يضر كثيرا، ولكنهم ضحايا الجهل المسلح كما كانت شعوب أستراليا وهنود أمريكا الوطنيين، وليتهم ينتفعون بهذا السلاح في محاربة أعدائهم أو رد غارة المغيرين، ولكنهم ينتفعون بهذا السلاح في قتل أنفسهم ولا يتركون وراءهم علما ولا مدنية ولا ثقافة، بل الملك والسلطة والمال لأفراد قلائل والفقر والجهل والموت للأغلبية الساحقة.
وقد بينت كيف أن الإنجليز وعدوا البحرين بالدفاع عنها ضد العدو الهاجم حتى دمرت أسطولها الحربي، وبعد ذلك كانت كل حركة دفاع من الإنجليز تفقد البحرين جزءا من حريتها واستقلالها ... درجات بعضها فوق بعض تؤدي إلى استيلاء إنجلترا على البحرين، فكيف يثقون بعهود الإنجليز ووعودهم؟ ومتى صدقت السياسة في وعودها لا سيما مع الشرقيين عامة ومع العرب خاصة؟!
قال أحد أدباء البحرين يصف الاستعمار الأوروبي:
إذا كان هناك فرق بين الاستعمار الإنجليزي واستعمار الدول الأخرى فهو أن الاستعمار الأوروبي كالقصاب الذي يقتل الشاة بجرة مدية في نحرها، لا يتركها إلا وهي تسلم الروح لخالقها، أما الآخر فمثل القصاب الذي يعذب الشاة وخزا بالإبر حتى ينزف دمها، فأية الميتتين أخف؟ وأي الذابحين أرحم؟
غير أنك ترى أن العرب أنفسهم والشرقيين عامة يعينون المستعمر على أنفسهم ولا يقصرون في مساعدته على القضاء على أمتهم ووطنهم.
وطالما رأينا في تاريخ الشرق الحديث أن المغلوب يساعد الغالب على نفسه فماذا يحمله على ذلك؟
أهو الجهل، أم الضعف والجبن والخنوع، أم الرهبة من القوي المنتصر، أم الخضوع للمصلحة الخاصة والطاعة العمياء؟
ما جنى على العرب غير أنفسهم، كنا وكنا وكنا حديث مبتذل، يوم قفلت المدارس في البلاد فعم الجهل وتوارثه الأبناء كنا الجانين على أنفسنا، يوم خدعنا الأجانب بدولة عربية مستقلة ودفعوا لنا الذهب الوهاج وحملناه في صفائح وقضينا على الدولة العثمانية وطمعنا في ملك الجزيرة أولا وفي الخلافة والإمامة ثانيا؛ كنا الجانين على أنفسنا، يوم عزل هؤلاء الملوك وخلعوا وطردوا كانوا الجانين على أنفسهم.
قد كانت القوة والمال والعلم بأيدينا ففرطنا فيها وفي قوميتنا وكنا الجانين على أنفسنا، واليوم نرى القوة والعلم والمال بأيدي الأوروبيين فلا نقتدي بهم في الفضائل والحسنات حتى نبلغ شأوهم ونستعيد مجدنا فكنا الجانين على أنفسنا.
الإباضية وإلى من ينتمون؟
انظر إلى تاريخ عمان تجده صفحة دامية ملئت سطورها بأسماء الأمراء والفاتحين المتقاتلين في سبيل السلطة والسؤدد، فكان أول انشقاقهم على دولة العرب الأولى كونهم من الخوارج الإباضية، ومن أئمتهم الآن سليمان باشا الباروني الذي يعيش بين ظهرانيهم منذ بضع سنين، مما يدلك على أن الإباضية في الخليج الفارسي كما هم في طرابلس وغيرها من ممالك الإسلام. والخوارج هم الفرقة العاشرة من الفرق التي انشق بها الإسلام، ويقال لهم النواصب والحرورية نسبة إلى حروراء موضع خرج فيه أولهم على علي، وهم الغلاة في حب أبي بكر وعمر وبغض علي بن أبي طالب، وينقسمون إلى عشرين فرقة، وهم ضد الشيعة على خط مستقيم.
والفرقة التاسعة عشرة من الفرق العشرين هي الفرقة الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الذي خرج في أيام مروان وكان من غلاة المحكمة، الذي زعمت الحارثية أنه لم يكن لهم إمام بعد المحكمة الأولى إلا هو وبعده حارث بن مزيد الإباضي الذي انتسبت إليه الحارثية. وقد أجمعت الإباضية على القول بإمامة عبد الله بن إباض، وافترقت فيما بينها فرقا يجمعها القول بأن كفار هذه الأمة (يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الأمة) براء من الشرك والإيمان وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار، وأجازوا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية وصححوا مناكحهم والتوارث منهم، وزعموا في ذلك أنهم محاربون لله ورسوله لا يدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض، والذي استحلوه الخيل والسلاح فأما الذهب والفضة فإنهم يردونهما على أصحابهما عند الغنيمة.
ثم افترقت الإباضية فيما بينهم أربع فرق: الحفصية والحارثية واليزيدية وأصحاب «طاعة لا يراد الله بها».
وقد أسس الإباضية بضع دول، منها دولة في تاهرت استمرت 130 سنة، وأخرى في عمان وهي موضوع بحثنا هذا، وشبه دولة في طرابلس التي من بقايا أئمتها سليمان باشا الباروني الذي سبق ذكره. فدولة تاهرت قضى عليها الفاطميون، ودولة عمان قاومت البرتغال وطاردتهم وقضى عليها التخاذل ثم الاستعمار الإنجليزى، ودولة طرابلس قضى عليها الاحتلال العثماني.
الشيطان البرتغالي «أبو كركه»
أما خبر البرتغال وكيف حاربتهم دولة عمان فيرجع تاريخه إلى ظهور ألفونسو أبو كركه (ولعله من أصل أندلسي) الذي ولد في 1453 وهلك في سنة 1515، وكانت البرتغال لعهده تشبه إنجلترا الآن من حيث القوة البحرية وحب الاستعمار والهجوم على الشرق.
وكانت غزوته الأولى إلى الهند بثلاث بوارج حربية، وما زال يغزو ويفتح حتى حصل لقب «حاكم الهند» واستولى على «جوا» واجتاح ساحل المالابار، واحتل مدينة ملكا وهي مفتاح الهند الصينية، وهو الذي وقف في وجه ترك آل عثمان وعاقهم عن دخول الهند، وضرب عدن مرتين بالمدافع فدمرها، واستولى على جزيرة هرمز وهي جزيرة صغيرة عند مدخل خليج فارس وعند مضيق رءوس الجبال الذي تتصافح عنده بلاد إيران وجزيرة العرب، وحصن جزيرة سقطرى لأن أهلها كانوا نصارى من النسطوريين، وحالف نجاشي الحبش وحاول الاتفاق معه على تحويل مجرى النيل من السودان إلى البحر الأحمر ليتمكن بذلك من هلاك القطر المصرى، فكان هذا الشيطان في أثناء حياته التعسة آفة عظمى على الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء الشرق وأفريقيا. ومن جملة مغازي هذا القرصان سواحل عمان، فملك البرتغال مسقط وصحار والمطرح وقريات ولم يكن بأيدي الأهالي سوى فرضة «لاوة»، وقد سار إليها الأمير ناصر بن مرشد فاستعان أهلها العرب المسلمون بالبرتغال فأمدوهم بالمال والسلاح، ولكن ناصرا فتح البلد ثم هاجم البرتغاليين أنفسهم في مسقط وصحار والمطرح وقريات وانتزعها منهم وذلك لأن عهد أبو كركة كان قد مضى فإنه مات في سنة 1515 وناصر تولى الملك بعد ذلك بقرن تقريبا، ولم يكن بتلك المدن إلا بقايا البرتغال الذين تركهم أبو كركة وأمدتهم البرتغال برجال وجنود ليستعمروا المدن التي فتحها قرصانهم الأعظم، فطردهم ناصر من رأس الخيمة ثم هزم البرتغاليين في المدن الأخرى وفرض عليهم الجزية.
ويسجل بالفخر لناصر أنه منذ ورث العرش وضع نصب عينيه تطهير بلاده من العار الأجنبي وفهم في ذلك الوقت السحيق (أوائل القرن السابع عشر) ما لم يفهمه كثيرون من ملوك الشرق وأمراء الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، أو ما فهموه و«طرمخوا » عليه، لقد أدرك ناصر بن مرشد - طيب الله ثراه - أن الأوروبي المستعمر إذا أنشب أظفاره في بلد لم ينته منه إلا باستخلاص جميع البلاد واستعباد كل من فيها من الرعية، وأن الواجب على العاقل أن يتقي هذا الداء قبل أن يستفحل وأن يبادر إلى اقتلاعه بكل الوسائل قبل أن ينشب فيتأصل ويعز الدواء. فناصر بن مرشد 1034-1059 يعد بحق محرر عمان وباني مملكتها، وخلفه سلطان بن سيف فنسج على منواله في مطاردة الأجانب، ولم يكتف سلطان بالفتك بالبرتغال في بلاده بل قصدهم إلى بلاد الهند فأرسل أسطوله الحربي يغزوهم في ساحل كوجرات وديو ودامان فأخذوا بعض المدن وعادوا بذخائر عظيمة.
وكان سلطان بن سيف ولعله أخو ناصر أو ابن عمه أميرا ديمقراطيا على طريقة عمر بن عبد العزيز، فكان يخرج كسائر الناس ويغشى المجامع والمجالس ويختلط بالعامة بدون حارس ولا ياور ولا مصاحب ولا قرين، بل حراسته من ثقته بمحبة قومه، وصحابته من معرفتهم فضله وإجلالهم قدره.
وخلفه ابنه بلعرب في 1079ه وبدأ الشقاق بين الأخين فنازعه أخوه سيف بن سلطان، وانضم الفقهاء أو العلماء إلى سيف وعضدوه بفتواهم ودسائسهم كعادتهم في كل بلاد المسلمين فكان ذلك بداية الشقاق. وانتصر سيف في هذه المرة، ليس بفضل العلماء ولكنهم لم يكونوا لينضموا إليه ما لم يشعروا بقوته وتفوقه فهم دائما في جانب القوي، ولو أنهم رأوا مغنما في جانب بلعرب ما تأخروا عن تعضيده والفتيا له ...
وقد أظهر سيف همة في مكافحة البرتغاليين حتى طردهم من مومباسه على شاطئ أفريقيا الشرقية، وهو الثغر الذي تداولته البرتغال وعمان وزنجبار وانتهى الأمر بوقوعه في يد الإنجليز في سنة 1890، وكان الإنجليز ورثة دولة عمان فورثوا فيما ورثوا ذلك الثغر الذي جعلوه عاصمة لمستعمرة أفريقيا الشرقية. وطرد سيف البرتغاليين عن جزيرة بمبا وضمها إلى مملكة عمان، واستولى عليها الإنجليز كما استولوا على زنجبار، بل إن أسطول سيف بن سلطان اجتاح جزيرة سلزيت بقرب بمباي وكذلك مدينة بارسالور ومانغالور، ولم يقدر راجا كارزناتيك أن يذب عنهما. وخلفه في 1711 ولده سلطان الثاني فثابر على سياسة الفتح واسترداد ملك عمان وانتزع البحرين من يد الفرس ... ومات وخلف ولدين أحدهما بالغ وهو مهنا والآخر قاصر وهو سيف فانقسم الناس بشأنهما وأراد كل فريق أن يولي أحدهما، وتغلب مهنا بفطنته ودهائه على أخيه الصغير ولكنه قتل وبدأت الفتنة بين الأمراء والشعب 1133، وجاء يعروب أحد الأمراء وتولى باسم سيف القاصر ثم اغتصب الملك وجعل نفسه إماما أصيلا، ووجد عالما أعطاه فتوى لمصلحته وهو عدي بن سليمان القاضي الشرعي الذي أعطاه حكما شرعيا بأنه أحرز الإمامة بحق وأنه ليس بعاص ولا غاصب (؟!) فقام ضده أمير آخر وهزم يعروب وقتل القاضي الشرعي وطاف بجثته الأسواق، ثم قام أحمد بن سعيد من أسرة البوسعيد فتولى بعض المدن وأحسن إدارتها وانتهى الأمر بأن نصبوه إماما في سنة 1154ه. وكان لعمان أسطول قوي استعانت به الدولة العثمانية في سنة 1756 على استرداد البصرة من العجم، فنقلت بوارجه وقواربه نحو عشرين ألف مقاتل من عمان إلى شط العرب، كما كان يفعل الإنجليز في الحرب العظمى من نقل الجنود على نقالات تجرها البوارج.
فانظر كيف انقلبت الحال وزالت الدول وأصبح العزيز ذليلا والمستقل محكوما والغالب مقهورا! وكان من جملة أسطول أحمد بن سعيد طراد اسمه «الرحماني» ذكرناه بين أسماء القطع البحرية وهو الذي كسر سلسلة كبيرة من الحديد وضعها الإيرانيون في شط العرب لمنع أسطول عمان من دخول البصرة كما صنع المصريون عند بولاق لما دخلت مراكب الفرنسيين لدى حملة نابليون. وبعد أحمد تولى ابنه سعيد بطريق ولاية العهد لا بطريقة الانتخاب، لأن الإمامة في عمان من صدر الإسلام تقع دائما بالانتخاب على حسب مذهب الخوارج، والحقيقة أن الانتخاب هو مذهب السنة ومذهب الجماعة ولكن تحول الأمر بعد أن صار ملكا عضوضا إلى مبايعة الوارث الذي يكون عينه المورث من قبل، وقد تحول ذلك في عمان أيضا فبعد أحمد بن سعيد تولى ابنه سعيد في سنة 1194.
الخليج الفارسي وكيف ضاع؟
ويمكن القول بأن عهد الاحتلال الإنجليزي والدسائس الاستعمارية الحديثة بدأ في عهد هذا الأمير وعهد أخيه سلطان الذي نازعه، فإنه في سنة 1798 عقدت معاهدة بين شركة الهند الإنجليزية وبين سلطان على بعض مسائل تجارية، كما هي عادة الإنجليز تمسكنوا فتمكنوا، وتبعتها معاهدة أخرى بينه وبين الإنجليز أمضاها جون مالكولم سنة 1800 يحق للإنجليز بموجبها أن تعين مقيما في مسقط. وفي بحر هذه المائة سنة من 1800-1900 استولت إنجلترا على البلاد بالحيلة أولا ثم بالتجارة ثم بالفتنة ثم بالقوة القاهرة.
فلما جاءت الحرب العظمى كان الخليج الفارسي حبيبها ونور عينها ومفتاح الهند في يدها من شماله إلى جنوبه، وكانت جميع مدنه وجزائره سواحله وأمرائه وشيوخه خاضعين لها، وقد امتد نفوذها إلى شرق أفريقيا وسواحلها، وذلك كله بعد أن استتب لها الأمر في الهند كلها، فهي ورثت البرتغال ولكنها لم تحارب البرتغال، بل تسلمت التركة الشرقية من الدولة الإسلامية التي تعينت وصيا على التركة وقامت بأعباء تصفية التركة خير قيام، فطردت البرتغال وطردت العجم، ونظفت الخليج الفارسي من الأجانب واستولت على زنجبار وشرق أفريقيا، وسلمت هذا كله لقمة سائغة إلى إنجلترا. ولم يكن بقاء هذا المقيم الإنجليزي في مسقط عبثا، فإنه قنصل ووكيل سياسي وخبير بالأمور، يدرس الأحوال ويمتزج بالأمراء والزعماء ويبث العيون والأرصاد ويوزع الأموال السرية، وبالجملة يمهد السبيل في رفق وهوادة إلى أن تسنح فرصة الاستيلاء التام، فإن سير برسي كوكس الذي عرف منذ عشر سنين بأنه مندوب سام في العراق لم يكن كما يظن بعض الناس غريبا عن العراق والعرب، بل إنه كان في سنة 1902 وكيلا لبلاده في الخليج الفارسي، وهؤلاء الوكلاء يقبضون على زمام الأمور بطريقة تشبه طريقة السلطان عبد الحميد، فقد روى ثقة عن أحد الموظفين في الوكالة السياسية بالبحرين أنه كان يجيء إلى الوكالة ويخرج منها كثيرا من الرسائل والبلاغات السرية، وفي الدار منها ما يملأ بضعة صناديق ويدهش فحواها كثيرين حتى رجال السياسة في لندن.
وكان من بوادر وجود الوكيل السياسي الإنجليزي في مسقط أن شركة الهند الإنجليزية تمكنت من إرسال أسطول في 1809 حارب بعض العرب بتهمة القرصنة، وفي سنة 1811 استعان السيد سعيد بأصدقائه الإنجليز فأعانوه على قلعة شيناس فأخذها. وعاد الإنجليز بقيادة الجنرال كير إلى محاربة الذين وصفوهم بالقرصان وأعانهم السيد سعيد، لأنهم صاروا حلفاءه.
وسار السيد سعيد والسادة الإنجليز لقتال عرب جعلان الذين تركوا الإباضية وصاروا وهابية فقهرهم عرب جعلان، وتوفي السيد سعيد عقيب هذه الهزيمة حوالي سنة 1820.
وما زال الإنجليزية يجاملون حلفاءهم إلى سنة 1854 حيث احتل الإنجليز بندر عباس وأراد السيد سعيد (أخو المتوفى في سنة 1820) أن يحارب العجم فمنعه الإنجليز من إمرار جنوده في البحر من ساحل العرب إلى ساحل العجم، لأنهم لا يسمحون بحركات حربية في الخليج الفارسي، وصارت إنجلترا من ذلك التاريخ تصارح بحقيقة مقاصدها، وهي أنها لا تطيق أن ترى على ثبج ذلك البحر مقاتلا واحدا إن لم يكن تحت رايتها.
ولما تولى السيد تويني حارب الوهابيين وجرد أسطولا عظيما لفتح زنجبار فتحفز الإنجليز له وحكموا بينه وبين حاكم زنجبار لورد كاننج حاكم الهند فقضى برجوع الأسطول. وقتل تويني في فرشه واتهم ابنه سالم بقتله، ولكن الإنجليز عضدوا سالما وسلموه الملك، وهو بطبيعة الحال أطوع وأضعف لأنه مدين بنجاته من عقوبة القتل ثم بالعرش للإنجليز فلا يمكن أن يخالفهم. وكان الإنجليز قد ادخروا لوقت الشدة عم تويني هذا واسمه تركي واحتفظوا به أسيرا في الهند، فلما لم ينالوا كل بغيتهم من سالم وامتصوه لحما ولفظوه عظما، طردوه من الملك وولوا عمه الذي أحضروه من الهند فجاء من بمباي إلى مسقط وتسلم زمام الأمور، وحصلت في 1874 فتنة فتغلب عليها تركي بتعضيد الإنجليز. وصارت إنجلترا صاحبة الحول والطول في الخليج الفارسي وعمان والبحرين، تولي وتعزل وتنصر وتخذل من تشاء بغير حساب.
كل ذلك في مدى أربع وسبعين سنة من 1800 إلى 1874، وفي سنة 1888 توفي تركي وخلفه ولده فيصل بن تركي وذلك بموافقة إنجلترا التي أصبح أمير مسقط لا يصدر إلا عن رأيها، وكانت قد دخلت مصر منذ أربع سنوات وحصرت الشرق العربي بما فيه العراق وبين النهرين والبصرة بين مصر غربا والهند شرقا، ومن ذلك التاريخ بل قبله بعشرات السنين كانت قد رسمت خطة الاستيلاء على الجناحين، فلم يبق إلا الاستيلاء على القلب وهو جزيرة العرب.
وإنني لا أشك مطلقا بل أثبت بأدلة تاريخية لا تقبل الشك أن إنجلترا كانت من أكثر من مائتي سنة تريد وضع يدها على مصر ثم طمعت في بلاد العرب كلها، ووضعت لذلك منهاجا دقيقا أول بند فيه تجريد العرب وأهل الشرق الأوسط من السلاح، وكانت تريد دخول الجزيرة من الجنوب الشرقي فاستولت على عدن وبوغاز باب المندب، ولكن أئمة اليمن الصالحين الأتقياء الشجعان وقفوا لها ومنعوا دخول الأجانب بلادهم ورضوا بتوحشهم وتأخرهم ورفضوا المدنية الخلابة البراقة التي وراءها السيف والمدفع وسلاسل الأسر الدائم. فلما خابت في الجنوب ورأت أئمة اليمن يكونون جيشا ويدخلون مع دول أخرى لشراء الأسلحة هاجمت العرب من الخليج الفارسي كما شرحنا. وقد استعمل الإنجليز في تنفيذ سياستهم كل وسيلة، وأنا أشيد بفضلهم على وطنهم لأنهم لا يدخرون رجالا ولا مالا ولا عقلا في سبيل عظمتهم الاستعمارية والضحايا نائمون يغطون غطيطا أو يتمتعون بالمال والنساء، وقد استفادوا بنص القرآن في تعدد الزوجات وهو مخالف لما يقصدون، فصار الملك أو الأمير يعدد الزوجات بحجة ربط أواصر النسب والمصاهرة فساعدوا الإنجليز بالفتن الشائعة في بيوتهم، فتعددت الزوجات ونشأ عن ذلك ضغائن بين الإخوة ومنافسة بين الأمهات أساسها تباغض الضرائر الذي أراح الله منهن أمم أوروبا حتى إن مؤرخا إنجليزيا قال لهم الحقيقة في كتابه «التاريخ القديم» وهو رولنيسون حيث يقول في ص27:
إن تعدد زوجات الملك يزيد في عدد السباهلة في البلاط ويقتضي بناء القصور المتعددة التي توجب نفقات طائلة، ويقتل شعور الولاء والمحبة في الأسرة الواحدة، شعور الأبوة والبنوة والإخاء، ويفسد الأخلاق ويعلم النفاق ويضعف قوة البدن والروح، ويبعث على الخناثة والترف ويمكن من النفوذ والسيادة في الأحكام طبقة من أحط الطبقات.
وكل ما رأيناه في عمان وغير عمان من الفتن والقلاقل سببه نزاع بين الإخوة، حتى إن الأخ يغتصب حق أخيه والولد يقتل والده (كما وقع للأمير تويني من ولده سالم).
وكذلك يسعى الإنجليز بوسائلهم المعروفة بتأجير قوم من العرب يضربون على أوتارهم وينشرون الدعاية لهم ويلبسون ثياب الغش ويقولون عن أنفسهم بالباطل إنهم من مفكري العرب أو مصلحي الإسلام ولا هم لهم إلا ترويج السياسة الأجنبية الاستعمارية.
وكما أن المسلمين كانوا يعدون في أيام قوتهم بلاد الإفرنج بلاد حرب ويعلنون ذلك ويثبتونه في أحكامهم الشرعية والمدنية والجزائية، ولا يزال هذا الأمر حتى هذه الساعة في كتبهم، كذلك الدول الأوروبية الاستعمارية تعد جميع بلاد المسلمين بدون استثناء ممالك أعداء، فهم يسعون بكل الوسائل إلى منعهم من تسليح أنفسهم، وسواء أكانت البلاد الإسلامية صديقة لأوروبا أو معادية لها فمحكوم عليها عندهم بالسقوط تحت نير الاستعمار فلا يجوز لها أن تتسلح.
السياسة الاستعمارية وعمان
وهذا الحكم نفسه جرى على بلاد عمان.
فإنه قبل الحرب العظمى بسنتين 1912 حاولت إنجلترا تجريد أهل عمان من السلاح حتى تريح بالها من جهتهم، ولأن ثغورهم كانت مشهورة بتجارة السلاح شهرتها بتجارة اللؤلؤ والتمر الأسود فأوعزت إلى السيد تيمور أمير مسقط بجمع السلاح من أيدي الأهالي وشددت عليه في ذلك وهي تعلم أنه لا يخرج من يدها ولا يخالف أمرها وقد سافر إلى بلاد الإنجليز مرارا وقابله الملك جورج واحتفى به، ولأن تيمورا تربطه بالإنجليز معاهدات كثيرة أشد من معاهدات الحماية، فلما حاول ذلك انتقض عليه الأهلون وبايعوا غيره، وامتدت الثورة وعظم الخطب وزحف الثوار إلى مسقط وحصروا الأمير وكادوا يوقعون به لولا أن وردته نجدة إنجليزية حفظت له حياته، ودامت الثورة عامين واستقل الثائرون بالداخلية والجبل الأخضر وولوا عليهم إماما هو الرويحي وخلفه الخليلي، وقنع تيمور بالساحل ومدنه، وأخذت الداخلية في تدبير شئونها وقد فاز أهلوها باستبقاء أسلحتهم.
هذه مملكة عمان التي كانت أقوى دولة بحرية في آسيا ، قد آل أمرها بتلاعب إنجلترا واستسلام أمرائها لهم إلى سقوطها وصارت إمارة صغيرة محمية لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا يقدر أميرها أن يأتي بأمر مهما كان تافها إلا إذا أشار به المعتمد الإنجليزي الذي غرس أقدامه من سنة 1800 في مدينة مسقط.
فنزف هذه الحقيقة إلى أولئك البله من أبناء جلدتنا الذين لا يزالون يحلمون بأن إنجلترا لا بد أن تؤسس لهم دولة عربية، ولا سيما الذين ينادون اليوم بضرورة تأليف الحلف العربي ...
وأما زنجبار والمستعمرات التي كانت لعمان في شرق أفريقيا فقد اقتسمتها إنجلترا مع ألمانيا وإيطاليا ولم يبق لسلطان زنجبار على بلاده إلا الاسم، وكان آخر أمراء زنجبار برغش بن سعيد المتوفى في سنة 1888.
وقد هدم الإنجليز والألمان دولة زنجبار التي تأسست سنة 1856 كما هدموا دولة عمان ودمروا أسطوليهما كما دمروا أسطول البحرين.
وقد هدموها حتى لا يبقى لهم معارض ولا منازع في استعمارها، لأن كل دولة عربية عزيزة الجانب على جوانب الأوقيانوس الهندي هي قذى في أعينهم وخطر على الهند في نظرهم.
البحرين
ولا يقل تاريخ الإنجليز في البحرين والمحمرة والكويت غرابة واغتيالا عما رأيناه في عمان، فقد تدخلوا في شئون البحرين في سنة 1867 بسبب وقعة دامسة، وكان حاكم البحرين الشيخ محمد بن خليفة وكان رجلا أبله فقد تقرب إليه الإنجليز بواسطة وكيلهم السياسي الذي جاءه من أبي شهر يخطب وده ويدعوه لعقد معاهدة تضمن له سلامة بلاده ومساعدة بريطانيا، ومن شروط المعاهدة أن يتنازل عن حقوقه في تجهيز الجنود البحرية والسفن الحربية وإنجلترا ترد عنه كل غارة. فلما وقعت موقعة دامسة وسافر الشيخ محمد إلى قطر ليطفئ الفتنة انتهز الوكيل السياسي الإنجليزي هذه الفرصة وأمر بإطلاق مدافع البارجة على القلعة بالمنامة حتى هدمها، وطلب الوكيل من علي أخ محمد أن يتولى الإمارة ففرح علي بذلك وخان أخاه، ولكن محمدا تربص به حتى تمكن من محاربته وقتله، ومات محمد بن خليفة في 1307 منفيا أو مهاجرا في مكة، وتولى الشيخ عيسى وقد أحسن الظن بالإنجليز خمسا وخمسين سنة فأذلوه وامتهنوه وانتهكوا حرمة ملكه المرة بعد المرة، وذلك ثمن إخلاصه لهم بعد الذي رآه من فعلهم بعمه محمد بن خليفة وموافقته على المعاهدة السابقة بينهم وبين عمه التي قضت على أسطول البحرين ووكل الدفاع عن البلاد إلى بريطانيا.
وكان الشيخ عيسى يخلص للإنجليز ويخون سواهم، فقد فاوضه مدحت باشا في معاهدة الدولة العثمانية فأبى وسلم خطابه إلى الإنجليز، وخابره الألمان في المعاهدة فأبى وأعطى مكاتبتهم للإنجليز، فبماذا كافأه الإنجليز؟ شددوا عليه الخناق في سنة 1311 وسلبوا منه امتيازات قضائية لرعاياهم، وفي سنة 1903 أنزل سير برسي كوكس (بعد ذلك بعشرين عاما المندوب السامي في العراق) جنودا إنجليزية إلى البر وطلب إحراق بقية أسطول البحرين، ونفى أحد الأمراء إلى الهند خمس سنين، واختصت الوكالة الإنجليزية بالفصل في دعاوى الأجانب كلهم، وفي سنة 1923 عزل الإنجليز الشيخ عيسى وولي ابنه الشيخ أحمد مكانه.
هذه قصة البحرين من حكومة مستقلة ذات أسطول حربي إلى حكومة بغير أسطول، إلى حكومة يراقبها وكيل سياسي إنجليزي، إلى حكومة تشارك في إدارة شئونها الداخلية والخارجية حكومة إنجلترا، إلى حكومة تعزل إنجلترا أميرها وتولي سواه والأمة جامدة لا تحرك ساكنا، حتى حق الهجرة تأباه إنجلترا على بعض أهل البحرين الذين يأبون الضيم والمذلة.
فإنه بعد عزل الشيخ عيسى خشي أهل البحرين على قوميتهم ودينهم فكتبوا يريدون الهجرة:
إذا حالت القوة النارية بيننا وبين الاحتفاظ بشريعتنا الإسلامية وكرامتنا القومية غادرنا الوطن.
وقد باشرت بعض العشائر الهجرة فعلا.
فأجابهم الوكيل الإنجليزي:
إن دولة بريطانيا تساعد الشيخ حمد (خليفة عيسى) في كل عمل معقول يجريه لمنعكم من الهجرة، فإذا أقدم أحد على الهجرة عوقب بمصادرة أمواله، وإسقاط ديونه على الأهالي، ومنع سفنه من الغوص.
وكل ذلك في سبيل اللؤلؤ والهند.
الفصل التاسع
مبارك الصباح وخزعل وسوء الذكرى
مبارك الصباح وخزعل
لم يبق في قراء العربية في العشر السنوات الأولى من هذا القرن العشرين قارئ لم يشغل وقته وفكره بأخبار الكويت والمحمرة، فكنت في عصر كل يوم تتناول الصحف فلا تجد إلا أخبار الكويت ومبارك الصباح. وكان هؤلاء المكاتبون المأجورون يرسلون برسائل تمليها الأغراض الشخصية والمنافع المادية، فلم تكن تستبين الحق. ولم يفطن في مصر إلا القليل من النبهاء إلى أن وراء الستار ما وراءه، فإنه ما كان يصل إلينا من الأخبار سوى نتف عن حوادث خطيرة تحدث في جزيرة العرب، فهؤلاء الأمراء وهم من علمنا خلقا ونشأة وحبا للمال والشهوات قاموا يجلسون على العروش بعدل وبغير عدل ويقترفون الجرائم ويبددون الأموال.
وقد أخذنا هذين الرجلين نموذجا لغيرهما من أمراء العرب. كلمة كوت معناها بيت ومنها كوت الإمارة الذي اشتهر في الحرب، والكويت تصغير كوت، وهو اسم لإمارة في الخليج الفارسي لها عاصمة هو ثغرها، وعائلة الصباح التي حكمت الكويت أصلها من عرب خيبر حيث يكثر اليهود في التاريخ القديم، وقد توطنوا في الكويت منذ مائتين وخمسين عاما. وقد نسج صباح رأس الأسرة خيوط الدسائس حتى تمكن من الإمارة على كويت، وكان الحكم شورى بين العشائر إلى أن تولى صباح بن جابر ثالث أو رابع هذه الأسرة، وقد تقلص ظل تلك الشورى تماما في أيام ابنه مبارك الذي كان ظالما مستبدا، فهذه أسرة عربية إسلامية توصل مؤسسها إلى الملك بحيلة وأخذ يعدل بين الناس هو واثنان من خلفائه إلى أن فسد الجيل الثالث والرابع، فوصل حكمهم إلى الظلم والاستبداد والقتل وبيع الضمائر ودس الدسائس والعيش في جو من الفتنة والدنايا، وبدلا من أن استتباب الأمر للأمراء يؤدي بدولتهم إلى الترقي في سبيل المدنية والنظام والعدل، تراهم يتأخرون وينحطون وتفسد مشاربهم وتندثر تقاليدهم، ويجرون إلى الفساد والهاوية تلك القبائل والعشائر التي ملكتهم عليها. حكم الفرد والغنى وعدم المسئولية والميل الشرقي للاستبداد وتقلص ظل الفضيلة وعدم الوازع الديني والخلقي وانحطاط دول الشرق والإسلام في أنحاء العالم؛ قد تعاونت كل هذه العناصر على تسميم عقول هؤلاء الرؤساء وقضت عليهم، ولو أنهم وجدوا مثالا حسنا في تركيا أو في مصر أو في جزيرة العرب أو في شمال أفريقيا فلعلهم كانوا يخجلون من أنفسهم ومن الأمم الأخرى إن لم يستحوا من الله ورسوله. فهذه نفوس فطرية تستعمل الحيلة في الحصول على السلطة، وقد يكون منهم الذكي والشجاع والقائد المغوار والسياسي الداهية، ولكن لا يكون منهم الحاكم العادل الرحيم، فيستغلون الشعوب لمصلحتهم ثم يستنجدون بالعدو الأجنبي على إخوتهم وأعمامهم وأبنائهم وعلى شعوبهم أنفسها فضلا عن الأمراء جيرانهم، ثم يقعون في يد المغتصب أو المستعمر، ويموتون ميتة المجرمين والجناة بعد أن يقضوا حياة خاصة مخزية في الشهوات والخمور وتبديد المال واعتلاء صهوة الأهواء والانغماس في كل رذيلة. أما الحياة العامة فهي عندهم الدسائس والقتل والتقرب من الدول القوية لتنفيذ المآرب الشخصية، أما الأمم التي وكلت إليهم شئونها والتي كانت وديعة في أعناقهم، أما حياة الشعوب، أما الرعية التي هم مسئولون عنها بوصف كونهم رعاة فعليها السلام والإكرام ... وبعدهم الطوفان.
أمراء العرب
كان مبارك الصباح الذي حكم الكويت أكثر من عشرين عاما شابا قويا ذكيا، وقد ولد حوالي نصف القرن التاسع عشر، واشتهر في شبابه بالشجاعة والفروسية، وقد روينا فيما مضى من هذا الكتاب أنه في سنة سبعين المسيحية عندما كانت حرب ألمانيا وفرنسا بالغة أقصى شدتها كان في جزيرة العرب حرب أخرى ولكن ليس بين دولتين متعاديتين مثل بروسيا وفرنسا، ولكن بين أخوين هما عبد الله وسعود ولدا فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الكبير، وهذان الولدان هما من أعمام الملك عبد العزيز ملك الحجاز الحالي وقد كان له ثمانية أعمام، فلجأ عبد الله إلى الدولة العثمانية وفاوض مدحت باشا الذي كان والي بغداد، وعلمنا أن مدحت عين عبد الله قائمقاما وانتهز الفرصة وأرسل جيشا ففتح القطيف والأحساء، ولما رأى مشايخ الكويت جيش الدولة العثمانية انضموا إليه، وتولى مبارك الذي كان شابا جيشا كبيرا من رجال العشائر وساعد على فتح الأحساء، واعتبرت الدولة إمارة الكويت موالية لها واعترفت الكويت بسيادة اسمية للدولة.
في سنة 1313ه توفي الشيخ عبد الله شيخ الكويت وخلفه أخوه محمد، وكان له أخوان طامعان في الملك هما مبارك وجراح، ولكن محمدا علم بتلك المنافسة فأراد أن يضعفها بضم أحد أخويه إليه فأشرك معه أخاه جراحا في الحكم كما لو كان وزيرا أو وكيلا، فهنا إخوة ثلاثة لم يكونوا من أم واحدة وقد ورثوا البغض من أمهاتهم وليس لهم ما يشغلهم عن التطلع للإمارة كما هي الحال عند أمراء أوروبا، مثل الانشغال بأعمال البر أو طلب العلم أو اقتناء التحف أو السياحة في أنحاء العالم ... وقد رأوا بأعينهم أو سمعوا أن سلاطين آل عثمان يضطهدون إخوتهم وعمومتهم وأولياء عهودهم، وقد يلجئون إلى خلع بعضهم بعضا، ويسجن السلطان الجالس على العرش أخاه أو عمه إن لم يدس له السم في الدسم أو يناوله فنجان القهوة المشهور. وهؤلاء العرب محاربون بطبيعتهم، قد يغدرون في سبيل السلطة وقد يخونون العهود، أما الله والدين والعقيدة والذمة والشرف فقد وضعوها في «الخرج» من زمن طويل.
وهذا ما تراه مجسما في حياة عائلة صباح المنكودة.
فإليك ثلاثة إخوة: محمد وجراح ومبارك.
محمد أمير الكويت بالميراث، وقد أشرك جراحا ليتقي شره وليأمن مغبة اتحاد جراح ومبارك ضده، وكان محمد ضعيفا وكان جراح صاحب النفوذ الأكبر في الحكم، وكان يحب المال ويدخره ويضن به على غيره.
كان مبارك طموحا للمجد، شديد البأس، حديد الطبع، ماضي العزيمة، متهوسا متسرعا في أعماله، عصبي المزاج، كثير التقلب فيه من أسد الغاب ومن الحرباء، له طبع بدوي وذوق حضري يجعله يميل تارة للعزلة وطورا للترف، يحبه عدوه حينا وحينا يخشاه، فيخلص له أولا ويداريه ثانيا، وصاحب مثل هذا الخلق يميل إلى النعومة في العيش ميله للمغامرة في الحياة، فهو يحتاج إلى المال لا ليكنزه كما يفعل أخوه جراح، بل لينفقه ويسرف فيه ويجود به، ولهذا كان محبوبا من العشائر يلتفون حوله ويقرون له بالزعامة.
ولكن محمدا الضعيف وجراحا البخيل لم يكونا من علماء النفس فلم يطلعا على خفايا عقله وقلبه.
لقد أراد مبارك أن يتسلى عن الملك بالغزوات فنزع إليها والتفت حوله العشائر فغدا في حاجة دائمة للمال لينفقه في الحروب، وكان أخواه محمد والجراح يبغضان ذلك، لا خشية تفوقه عليهما بل خوفا على المال الذي كان يطلبه دائما فكانا يضنان عليه بالنوال ويسيئان إليه وقد يمسكان عنه حتى نفقة بيته وعياله، فصبر مبارك على ذلك صبرا جميلا وكان حتى هذه اللحظة عاقلا وبصيرا، وكان صبره عليهما فضيلة ينبغي له أن يتمسك بها ليكون رجلا عظيما. وربما ظن مبارك أن أخويه محمدا وجراحا لم يكونا عثرة في سبيل مجده الشخصي بل في سبيل عظمة الكويت فنفد صبره، كما نفد صبر مكبث، وتحرك في نفسه شيطان الغدر والانتقام، وتخيل نفسه ملكا على البلاد، ولكن لا سبيل إلى الملك إلا بزوال محمد وجراح وهو عاجز عن إشهار الحرب عليهما.
جريمة مكبث تعيد نفسها
وأخيرا صحت عزيمته على الجريمة.
فنهض في ليلة من شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرام ولكن السنة كانت سنة شؤم سنة 1313 للهجرة، ونهض معه ولده ودخلا على الرجلين وهما نائمان محمد وجراح واستل مبارك وولده سيفيهما، وذبح مبارك أخاه محمدا وأمر ابنه أن يذبح عمه جراحا.
وعند الصباح، صباح الجنايتين، لم يجن مبارك ولا ولده، وإن كانت الكويت قد ضجت لمقتل الرجلين، بل تمكن مبارك من إخضاع أهل الكويت فأذعنوا له إذعان الضعيف للقوي، وفر أولاد الذبيحين إلى البصرة فشكوا أمرهم إلى واليها التركي الفريق حمدي باشا، وعلم مبارك بمسعاهما فسبقهما إلى بغداد يلجأ إلى واليها رجب باشا، وكان رجب باشا أعظم شأنا من حمدي وأعلى مقاما، ومبارك يعرف أخلاق الترك لا سيما أخلاق الولاة في البلاد العربية، وهذه أمور يحسن فيها التلميح دون التصريح، فتمكن مبارك ويداه مخضبتان بالدماء من استمالة رجب إليه بواسطة بعض الرجال، وبعض الهدايا طبعا، وكتب رجب إلى القسطنطينية عاصمة الإسلام من ترك وعرب وعجم، يقول: «إن الحادث بسيط، وهو من الحوادث العادية المألوفة بين البدو، وخير للدولة أن لا تتدخل في الأمر لئلا يؤدي ذلك إلى تدخل الإنجليز ...»، ولعله يشير من طرف خفي إلى أن الإنجليز يحمون مباركا أو يشدون أزره ما دام قد قتل وغلب وملك ، وهم دائما يحبون هذا الصنف من الرجال، لأنهم يملكون زمامه ويقدرون على الانتفاع به ويتهددونه دائما بالقصاص لجريمته، وهكذا كان شأنهم مع سالم بن تويني حين قتل أباه فإنهم حموه إلى حين حتى امتصوه وأخذوا منه ما كانوا طامعين في أخذه ثم طردوه وجلبوا عمه الذي كان سجينا عندهم في الهند وسلموه زمام الملك.
بيد أن الإنجليز لم يكونوا غافلين ولم يكونوا نائمين ولم تكن أعينهم المبثوثة مغمضة ولا آذانهم المرهفة صماء، فقد سمعوا بالخبر واهتموا بالأمر. وكذلك لم يقصر أولاد القتيلين وهما في البصرة عن الالتجاء إلى قنصل إنجلترا في نفس الوقت الذي التجئوا فيه إلى الوالي حمدي باشا، وهم معذورون، لأن الموتور معذور، وصاحب الدم يستنصر أيا كان في سبيل الانتقام. ولم يكن هؤلاء الأولاد من الدهاء السياسي والوطنية الحارة بحيث يهدرون دم والديهم ليقال عنهم إنهم أهل شمم وإباء فلم يلجئوا للأجانب. وكان القنصل الإنجليزي في البصرة طويل الباع في الدسائس فنصر أولاد محمد وجراح على عمهم مبارك وسعى في سبيلهم وسبيل سياسة دولته في الخليج الفارسي سعيا حثيثا أرغم الدولة العثمانية على التخلي عن مبارك وتخييره بين عقوبات ثلاث تنطوي اثنتان منها على النفي: (1)
إما أن يحضر مبارك إلى إصطامبول ويقبل عضوية في مجلس شورى الدولة. (2)
وإما أن يسافر إلى بلد يختاره وترسل إليه الدولة معاشا مدى الحياة. (3)
وإذا عصى الأمرين فإن الدولة تجرد جيشا لمحاربته.
قد تقول إن هذا ليس عقاب قاتل، ولكنه في الحقيقة عقاب لأنه حرمان المجرم من ثمرة الجريمة وخلعه من العرش الذي طمع فيه واستولى عليه بالغدر والدم.
ولكن عزيمة مبارك لم تقف عند هذا الحد، ولم ييئس من النجاة، فاستجمع إرادته وقصد الوكيل السياسي الإنجليزي في أبي شهر وهو يعد حاكم الخليج الأكبر.
وأنت ترى أن مباركا يحب العلا في كل شيء، فقد قصد رجب باشا والي بغداد وخصومه لجئوا إلى والي البصرة، وعندما لجأ خصومه إلى قنصل البصرة لجأ هو إلى الوكيل العام في الخليج الفارسي وهو أكبر شأنا من قنصل البصرة.
لقد انتصرت إنجلترا على يد قنصلها بالبصرة وأرغمت الدولة على الشروع في معاقبة مبارك. ولكن إنجلترا نفسها وجدت فرصة سانحة بالتجاء مبارك إلى وكيلها في الخليج، وهي يهمها أمران: أن تخذل تركيا أمام العرب وترجع في كلمتها، وأن يبقى على عرش الكويت رجل يكون لإنجلترا عليه يد كما قدمنا.
أوعزت إنجلترا إلى تركيا أن تضغط على مبارك وتكشر له عن أنيابها حتى أيقن مبارك أنه فقد أسباب النجاة، فالتجأ إلى إنجلترا فلبت طلبه وأكرمته وغسلت يديه الملطختين بدماء أخويه وطيبت خاطره، ولا يعلم إلا الله ماذا جرى بين رئيس الخليج وبين مبارك، ولعله ليس بأقل مما جرى بين مفستوفيليس وفوست الشهير، ضمنت له إنجلترا الحياة والملك وعاهدها على العبودية والولاء.
وعندما وصل المركب الحربي العثماني إلى الكويت يقل نقيب البصرة وبعض موظفي الدولة حاملين الأمر العالي الهمايوني وهم يصممون على تنفيذه، جاء مركب حربي آخر ينقذ الشيخ مبارك ويطرد المركب العثماني من مياه الكويت.
وكان هذا المركب الآخر يحمل راية «يونيون جاك» وشعاره: فرقي يا بريطانيا وسودي!
الخط الهمايوني
وعاد الشيخ مبارك إلى الكويت ونجا من خصومه في البر والبحر، وتعاهد مع آل سعود على آل الرشيد وما زال ينصر آل سعود حتى أخذوا الرياض وقتلوا خصمه الألد عبد العزيز الرشيد. فأخذ يرهق الرعية بالضرائب التي لم يسمع بمثلها في الشرق ولا في الغرب فشارك الأهالي بالثلث فيما يملكون أو يبيعون أو يستأجرون، وشيد القصور وفرشها بأفخر الأثاث والرياش ومتع نفسه بأنواع الملاذ. لاعب العشائر وغالبها وغازل الدولة العثمانية وأقسم لها يمين الولاء، ثم انقلب عليها وعاهد الإنجليز وأخلص لهم لينقذوه من أعدائه العرب والترك، قرب آل سعود وربى عبد العزيز ملك الحجاز الحالي في قصوره، ولكن لم يكن الحب خالصا لله بل ليضرب بهم خصمه ابن الرشيد.
أظهر الحب للعجمان ثم حاربهم وأشعلهم نارا على ابن سعود.
كان ككثيرين من الأشرار في هذه الدنيا سواء أكانوا شعبا أو ملوكا موفقين سعداء الحظ. فلما عاد إلى الكويت ظافرا وهو الخارج منها هائما على وجهه ملطخا بدماء أخويه، سبقته شهرته بالنفوذ والغلبة والانتصار على سياسة الدولة العثمانية والاحتماء ببريطانيا، فإن الإنجليز كما لا يخفى على اللبيب عقدت معه حلفا «أنجلوكويتيا» خلاصته أن لا يكون للشيخ مبارك علاقة مع حكومة أجنبية سواها، لأن البيون الخئون غيور لا تحب لأحد من رجالها أن يغازل أخرى ... والقلب لا يسع اثنتين ولو كان قلب مبارك أو خزعل ... وتعهدت هي من ناحيتها أن تحميه من كل اعتداء خارجي من البحر، وليس لها في البر شأن فلا تتدخل في شئون العشائر.
وغني عن البيان أن اندحار الترك ورجوع مركبهم بالوالي والموظفين والخط الهمايوني قد قطع علاقة الكويت بالدولة، وعلم مبارك أن الترك قد «نقعوا الخط الهمايوني» وشربوا منقوعه قبل أن يصلوا إلى شط العرب، وربما احتفظوا بالثمالة والسؤر للصدر الأعظم ووزير الخارجية بالمايين والباب العالي.
وكانت هذه المعاهدة سنة 1313 التي كتبت حتما بمداد أحمر، ليكون بينها وبين فعلة مبارك وجه شبه ولو في اللون؛ مقدمة للمعاهدة الكبرى التي حصلت عليها إنجلترا في سنة 1913 قبيل الحرب العظمى بعام واحد بين تركيا وبريطانيا، وفي تلك المعاهدة العامة تنازلت الدولة العثمانية - رحمها الله - عن سائر حقوقها في قطر والبحرين ومسقط وعمان لبريطانيا، وأخذت على عاتقها (مسكينة حامية حمى الأمم الشرقية المستضعفة!) واجب إنارة الخليج وحراسته من الأعداء! (من هم؟!)
امتد نفوذ مبارك الصباح إلى البصرة والمحمرة وصارت له كلمة مسموعة في أبي شهر مقر الوكيل الإنجليزي منقذه، ولكنه مع كل هذا النفوذ في الجزيرة والخليج وشط العرب وشاطئ فارس، ومع توفيقه في الحرب والسياسة؛ لم يكن موفقا للخير، فقد بنى لنفسه قصورا عدة ولم يبن لله سوى بيت واحد، ولم يهتم بتعليم شعبه ولا صحة أبدانهم، ولم يفعل إلا جمع المال وتبديده في ملاهيه وشهواته، ولم يخلص لأحد، وعاش ومات في محرم سنة 1334 والحرب العظمى في ضحاها 1915.
مبارك يهوى خزعلا لأنه قتل أخاه
أستغفر الله! بل كان له صديق من نوعه أحبه حبا جما صافيا هو الشيخ خزعل، فبنى له في الكويت قصرا، كما بنى له خزعل في المحمرة قصرا، لقد أعطاهما الله الملك فليتمتعا به ولتهلك الشعوب العربية ولتسقط الدولة العثمانية ولتنتشر خراطيم الأخطبوط البريطاني في كل مكان! فليس هذا بضائرهما شيئا قليلا ولا كثيرا ما دام الخوان ملآنا والدن عامرا والندامى يتقاذفون من كل فج عميق يصطحبون الغواني والراقصات من مصر والعراق والشام!
وقد كانت بينهما رابطة أخرى وهي رابطة الإجرام فقد قتل خزعل أخاه كما ذبح مبارك أخويه.
ولما تبادل خزعل ومبارك القصور كما كانا يتبادلان الكئوس كلما كانا يجتمعان على ضفاف قارون أو على شاطئ الخليج ليقضيا أياما وليالي بين أسراب من القيان والعازفات ويديران أقداح الطلا قبل أن تفاجئهما كأس المنون الدهاق، وقد سبق مبارك صديقه إلى العالم الآخر، أما خزعل فلا يزال على قيد الحياة في أحد سجون طهران. وخزعل هذا واسمه الرسمي أطول من أسماء أمراء الإسبان؛ سمو السردار أقدس معز السلطنة الشيخ خزعل خان بن نصرت الملك الحاج جابر خان الجاسبي المحيسني الكعبي العامري أمير نويان وسردار عربستان ... إلخ إلخ.
وهو من أمراء العرب ولكنه يحكم ولاية فارسية، وكان غنيا وكان كريما على الشعراء والغواني والندمان، كأنه أحد أمراء البرامكة في عهد الرشيد، يحب اللهو والغناء ويميل إلى الأدب والشعر، ويحب أن يهاجر إليه الشعراء بقصائدهم المسروقة أو المصطنعة فيجيزهم ويملأ أفواههم درا كما يملأ حقائب الغواني ذهبا وجوهرا، وكان شعاره وهو في إمارته «الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة»، وقد قتل أخاه أيضا كما قتل مبارك أخويه.
لقد كان هذا الشيخ الخليع متفانيا في حب الجمال والفن كأنه أحد أعيان باريس في عهد الديكادنس، أو أحد أمراء الأندلس الذين سبقوا سقوط بني سراج. كانت تنقصه شجاعة مبارك وسياسته، ولكنه كان يحبه لتشابه بينهما في الدهاء والدس وحب الملذات. روى الأستاذ أمين الريحاني في كتاب «ملوك العرب» ج2 ص171 عنه ما يأتي:
تجيء المغنية من حلب أو الشام إلى المحمرة وهي لا تملك إلا خلخالها فتقيم عدة أشهر في القصر وتعود غنية مثقلة بالحلي. يجيء الأدباء والشعراء وفي جيوبهم قصائد المديح فيعودون من المحمرة وفي جيوبهم أكياس من المال. ا.ه.
وكان الرجل شيعيا ولكنه يحب أهل السنة، ومسلما ويكرم النصارى واليهود والوثنيين، ويقرب القسيس ويصادق المبشر ويستفيد من محادثة البنائين الأحرار، يعاقر بنت الحان، ويلعب البوكر مع أصدقائه وضيوفه، فإن عزوا دعا أولاده إلى المائدة الخضراء المخمسة الأضلاع.
أما الشريعة السمحاء فهو يحبها وينفذ منها زواج المتعة، وكان له في مقر ملكه ستون زوجة، وهو قل أن يعرف أولاده. وإذا ناوأه أحد من مشايخ القبائل وخرج عليه وكانت للشيخ الثائر بنت صالحة للزواج زاره خزعل وشرفه بالمصاهرة فتبرد نار الفتنة وتحل محلها أفراح التعريس والزفاف. وكان إلى سن الخامسة والستين يسافر من عاصمته في سبيل النكاح. وكانت علاقاته مع ملوك الأرض حسنة، فجمع بواسطة السفراء والقناصل والوسطاء عشرات الأوسمة والنياشين من سلطان تركيا وشاه الفرس وملك الإنجليز وبابا رومة بنديكتوس الخامس عشر، ولكن أعظم نيشان كان يحمله في قلبه الأخضر الخصب وهو نيشان الغرام وشعاره:
أدين بدين الحب كيف توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذا الشيخ الذي وصفناه، وكان صديق شيخ الكويت الخاص، وعندما أعلنت الحرب العظمى وسعت الوفود إليهما ذاك يجذبهما إلى الترك والألمان وهذا إلى الحلفاء، والشيخان يعدان ويخلفان ويقولان ولا يصدقان، ويتظاهران بالود للواحد في غيبة الآخر فإذا خلوا بهذا الآخر قالا له إننا معك إنما نحن مستهزئان. وهما في كل دقة يجلبان المال، ويخزنان التحف والهدايا، ويظنان أن الأمر قد ينتهي بفوز النفاق بغير حاجة إلى الطعان. يقول أحدهما: اكتب للترك تنفعك عندهم ولا تضرك عند الإنجليز، ويقول الآخر: ابتسم لليتشمان وشكسبير، أحسن معاشرة لورنس زعيمهم الكبير.
وما زالا هكذا حتى تمكن الإنجليز من هزيمة الترك في البصرة، فإنهم اتخذوا الكويت مخزنا للذخائر والسلاح، وأمروا خزعل بإعداد جيش جرار قوامه عشرة آلاف جندي، فقطعوا خط الرجعة على الأتراك وداروا حولهم، فاضطر الأتراك للتقهقر وفاز الإنجليز، وهكذا ضاع العراق على يدي هذين المجرمين الخائنين العابثين بحقوق الدول والشعوب.
ولكن ربك بالمرصاد.
فإن شيخ الكويت قضى غير مأسوف عليه في سنة 1915، إذ كان ربيبه ابن سعود قادما لتأديبه وهو الذي نشأ في بيته وكان يدعوه قائلا أنت ولدي، وعبد العزيز بن سعود يقول: أي نعم يا والدي ، ولكن في أخلاق ابن سعود ما لم يلتئم مع كل هذا الخبث والغدر العظيم.
أما الشيخ خزعل فقد أسره الفرس بحيلة غريبة بعد أن استفحل شره وتحققوا من شدة لؤمه وكيده، فقد كان جلالة الشاه بهلوي خان وزيرا للحربية، فأرسل إلى خزعل هذا ضابطا من الجيش الفارسي نزل في ضيافته وتودد إليه ووافقه على خطته في سروره ولذته، ثم دعاه إلى نزهة بحرية في زورق جميل، فلما أن بلغا الشاطئ الفارسي انقضت عليه شرذمة من الجند وقبضت عليه وساقته في سيارة إلى أحد سجون طهران، ووضعت حكومة الفرس يدها على المحمرة، لأنها ملكها وإحدى ولاياتها، وصادروا أملاك الشيخ الخليع الرقيع فلم ينفعه شعر الشعراء ولا عزف القيان، وتشفع الإنجليز لدى دولة الفرس في شأن الشيخ فأبقوا على حياته وهو لا يزال في طهران سجينا.
لا نقول إن أمراء العرب كلهم من هذا القبيل، فإن بينهم رجالا أشداء في الحق، أمناء على العهود، أهل صدق ووفاء وإخلاص، محبين لأوطانهم يذودون عنها ويتفانون في حمايتها والحرص عليها، وفي مقدمتهم الإمام يحيى أمير اليمن. وكان أمراء مسقط وعمان في عهدهم الأول وقبل أن يدب بينهم دبيب الشقاق وتفرقهم المطامع والأحقاد؛ في أعلى ذروة من علو الهمة وصفاء النية وحب الإسلام.
ولكن الكثرة الغالبة ولا سيما في العهد الأخير أخلاقها كأخلاق هذين الأميرين من أمراء دار التمثيل، اللذين يثيران البكاء حينا وحينا يثيران الضحك العميق. على أنهما لم يخلوا من الذكاء والشجاعة والإقدام وسعة الصدر ونباهة الذكر وصفاء الفكر، ولكن ما فائدة هذا كله إن كانت الإرادة ضعيفة وحب الاستبداد متمكنا وظلم الشعب ديدنهما وبيع الوطن داء دفينا في فؤاديهما؟ بل ما فائدة المواهب إذا كان المال يعمي صاحبها ويصمه ويسهل له التفريط في حقوق البلاد؟ وأي نفع يعود على العرب من كثرة الزواج وتبذير المال في مجالس المدح والشراب وملء حقائب أهل الخلاعة بالذهب والفضة، ثم تكون لهما هذه الخاتمة الخاسرة؟
الفصل العاشر
المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
مصر الاجتماعية
لقد بدأ البحث في المسائل الاجتماعية في مصر منذ ألف المرحوم قاسم أمين كتابه في تحرير المرأة، لأن المرأة هي قوام الحياة الاجتماعية في كل بقعة وقطر، فالمرأة الإنجليزية اشتهرت بتدبير الدار والدأب على العمل في سبيل إسعاد الأسرة وتوفير وسائل الهناء حول الموقد والخوان، والمرأة الفرنسية معروفة بذكائها وفطنتها وحضور بديهتها وحسن بزتها والمبالغة في صنوف التجمل والزينة، والمرأة الألمانية وفية لزوجها تحبه الحب كله، وتودعه كما تستقبله في كل صباح ومساء بدموع الفرح أو الأسى وهي بعد تجيد الطبخ وصنع الفطائر والمرققات وتحب الموسيقى وتشارك زوجها في حمل أعباء الحياة، والمرأة البولونية لا تصلح للزواج بقدر ما تصلح للعشق فهي شديدة الشغف بالمغازلة، والمرأة الروسية عاقلة عليمة صبور على الشدائد تعين زوجها وتساعده وإعجابها بالذكاء والشجاعة أعظم من إعجابها بالجمال أو بالقوة، وقد كان لها أوفر نصيب في الثورات الروسية والاستقتال في سبيل الفكرة التي بها تحيا ولأجلها تموت.
أما المرأة الشرقية ولا سيما المسلمة فيندر أن يكون لها مشاركة في أعمال الحياة الخارجة عن بيتها. إن اليابانية شاركت رجلها في الحرب والتجارة والسياسة، والمرأة الهندية التي كانت خاملة قد نهضت في العشرين سنة الأخيرة وأخذت تعمل مع الرجل، وذلك بفضل تعلمهن تعليما حديثا في أوروبا.
وكان منهن سيدات شواعر وخطيبات أعن غاندي وحللن محله عند اعتقاله في ثورة سنة 1930،
1
وكانت المرأة التركية ذات نصيب وافر في الثورة التركية، فقد وصفت السيدة مارسيل تينير في كتابها «مذكرات سائحة في تركيا»، باريس سنة 1910، ما رأته من أعمال هؤلاء الهوانم اللواتي كن لا يعرفن قبل حركة الدستور سوى الحريم والطنافس وأواني المسكرات والحلوى، فإذا هن قد اشتركن في الثورة اشتراكا فعليا وكان لهن فضل يذكر. وكذلك المرأة المصرية منذ ظهور كتاب قاسم أمين، الذي هاجمه خصومه من كل جانب، قد خطت خطوات واسعة في التربية والتعليم، وحاولت رفع مستوى الحياة المصرية على الخطط الإفرنجية.
وبعد أن كانت الكاتبة الفرنسية المرحومة زوجة حسين رشدي باشا الأولى تصف حياة المرأة المصرية المعذبة في حالتي الزواج والطلاق في كتابيها عن «الحريم» وعن المطلقات «ليربيوديه» 1904 و1908. وكانت السيدة جان ديفراي وهي سيدة من جنوب فرنسا وزوجة لطبيب مصري اسمه سليم فهمي تطعن على المصريين أشد الطعن في كتبها. رأت الثانية منهن، ولم تعش الأولى لترى، الحركة الوطنية المصرية في 1919، فكتبت معجبة في مجلة باريس بعنوان «في مصر» تقول:
إنني قد أصبحت أشهد العجائب والغرائب في هذه البلاد! إن مثلي ممن عرف مصر في عهد توفيق ليهوله كل الهول ما يشهد بعينه من تطور شأن المرأة المصرية في هذه الأعوام الأخيرة، هذا التطور الأشد غرابة من كل ما حدث من أنواع الانقلاب في وادي النيل. إن من كان يعرف تاريخ حياة المرأة المصرية، حياة الإهمال والانقباع في كسر بيتها بمعزل عن أي شأن تشتم منه رائحة سياسية أو اجتماعية؛ ليدهش دهشا كبيرا حيال ما قد حدث من التطور في هذه الأشهر الأخيرة، فقد قامت في مصر مظاهرات كبرى في صيف العام الماضي (سنة 1919)، فاحتشد النساء في القاهرة في مواكب جليلة فهرعت الجنود البريطانية للحال واصطفت نطاقا من حول الموكب مصوبة نحو النساء البنادق وفي رءوسها الحراب المسددة اللامعة، وإذا هدد جندي سيدة لسرعان ما دارت إليه زائرة زأرة أنثى الأسد تحمي أشبالها وكشفت عن صدرها وصاحت به: «اغرس أيها الجندي حربتك في صدري، فيعرف العالم أن هناك واحدة من النساء أمثال الآنسة كافل.» ا.ه كلام زوجة الطبيب.
وقد حدثت هذه الحادثة في شهر أبريل سنة 1919، فإن السلطة العسكرية كانت صرحت بمظاهرة نسوية ثم منعتها، ومنشؤها رغبة السيدات المصريات في تقديم احتجاج لقناصل الدول، فلما صدر الأمر بمنعها أحاطت بالمظاهرة صفوف من الجند الإنجليز الذين أخذوا يطاردون الجماهير في شوارع قصر العيني وشارع سعد زغلول وما حولهما، وقد حاصر الجنود هؤلى السيدات ومنعوهن عن التقدم نحو غايتهن ومن العودة إلى منازلهن فتقدمت واحدة منهن، وقد قيل إنها السيدة أستير ويصا ابنة المرحوم أخنوخ فانوس الذي كان أخطب الأقباط، وأثبت محمد صبري المؤرخ المصري في ص43 من كتابه «الثورة المصرية» أنها السيدة هدى هانم شعراوي؛ فقد تقدمت تلك السيدة وكشفت عن صدرها كما كانت تفعل إحدى الرومانيات أو العربيات، وقالت: «اقتلني ليكون في العالم ميس كافل أخرى.» وقد رأيت بنفسي هذه المظاهرة بصحبة قاض مصري (الآن مستشار بالاستئناف) كانت زوجته بين هؤلاء السيدات، وقد بقين ساعتين تحت وهج الشمس، ولولا تدخل قنصل أمريكا وقنصل إيطاليا اللذين لجأت إليهما صفية هانم زغلول ما تمكن السيدات من العودة إلى منازلهن. وأثبت المؤلف السالف الذكر أن فتاة مصرية خطبت بالفرنسية أمام حفل من الأجانب على شرفة فندق شبرد، فقالت: «إنني لن أتزوج لئلا ألد ولدا يكون عبدا للإنجليز.» وأنا أرجح أن صاحبة الحادثة الأولى هي أستير.
ورأينا عشرات المرات طوائف من النساء المصريات العاميات راكبات على مركبات النقل، يطفن بالشوارع مهللات فرحات، وحولهن الأعلام الخافقة «كانت حملة وانشالت يا سيد!» يقصدن بذلك إلى زوال الاحتلال الإنجليزي. وقد كانت هذه النداءات والهتافات والأغاني صادرة عن إخلاص وسلامة فطرة فحركت في نفوس كل من رآها أسمى العواطف واستمطرت الدموع من العيون، ولكنها كانت سابقة لأوانها واأسفاه!
فحق للسيدة جان ديفراي أن تدهش مما لم تكن تحلم به قبل اليوم.
المصرية بين الثورة والتبرج
غير أن المرأة المصرية مزيج من المرأة العربية والمرأة المصرية والمرأة التركية، وهي سريعة الانفعال والتأثر وجديرة بأن تشعر بما شعرت به إبان الثورة المصرية، وقد ثابر بعضهن على العمل في صفوف المجاهدين في سبيل الإصلاح السياسي أو الإصلاح الاجتماعي. ولكن حب النفس والغيرة قد تؤثر في بعضهن فتختط كل منهن خطة تورثها الظهور والشهرة ولا تود أن تعمل هادئة في الصفوف، وذلك لمجرد شعورها بمكانتها أو ثروتها أو طيبة أرومتها، فهي لا تريد أن تخضع لأحد ولا أن تكون مرءوسة لأحد.
ولكن الدور الذي مثلته المرأة المصرية في الثورة المصرية لم يغن شيئا في ميدان المعترك الاجتماعي فحياة البيت المصري لا تزال كما وصفنا، والمرأة المصرية الغنية المتعلمة المتزوجة تنهب زوجها وتبدد ثروته في تجميل نفسها وتجميل منزلها لجعله على النمط الأوروبي.
ولم تعمل واحدة منهن ما عملته أم محمد علي الهندي ولا ما عملته مدام كاما أو السيدة سارجويني نايدو ولا ما قامت به السيدة خالدة أديب في النهضة التركية الحديثة.
وكان العهد الأخير على مصر عهد إسراف وتبذير وبلاء ولا سيما منذ تهتكت المرأة في لبس الثياب ورفع الحجاب وركبت رأسها بغير رقيب ولا حسيب، وعذرهن وعذر من يدافع عنهن إنما هو وجودنا في طور الانتقال أو التحول. ودور التحول هو بحكم الضرورة دور فساد في الآداب وانحطاط في الأخلاق وعبث بالدين، مما قد يظنونه عرضا يزول أو مرضا يبرأ، ولكنه في الحقيقة داء مزمن لا يشفى إلا بكر الأعوام.
فكل من يرى المرأة المصرية ولا شغل لها إلا زينتها وحليها وتجميل شخصها الفاني وإعجابها بكواكب السينما وغشيانها أماكن الملاهي وسماع الغناء وترتيب الحفلات اليومية لشرب الشاي وتبادل الأفكار في مستحدث الأزياء؛ ليرتاب في مستقبلها من حيث قبولها الإصلاح، وقد يثبت في نفس المفكر الحزين أن أظهر نتيجة لهذا الدور أو هذا التطور، البادئ بالتواليت والمنتهي بقيادة السيارات، هي تزلزل نظامنا القديم الكريم القائمة عليه حياتنا البيتية وعاداتنا الاجتماعية وتضعضع المعتقدات الدينية وتزعزع حياتنا القومية، فإن النظم العتيقة على ما بها من عيوب كانت مشتملة على فضائل جمة. وإنني وإن ذكرت الدين فلا أقصد العبادات فحسب، لأنه من المعلوم والمسلم به أن المرأة المصرية المسلمة لا تمارس شعائرها الدينية وربما كانت الصلاة أو الصيام موضع السخرية في نفسها.
وإنني لا تهمني إقامة الشعائر على ما فيها من الفضائل وتهذيب النفس وطهارة البدن والروح والنهي عن الفحشاء والمنكر، بقدر ما يهمني أثر الدين في النفس من حيث المحافظة على الفضائل والأعراض، والتعود على الزكاة والإحسان والقيام بأعمال البر والصدقة التي تقوم بها المرأة الأوروبية التي يدعون أنها غير متدينة، والمرأة المسلمة المصرية قبل أن يكتسح أخلاقها تيار ظواهر المدنية الجارف ... إن أمهاتنا كن جاهلات ولم يكن يقرأن مؤلفات الفرنسويين والإنجليز في القصص، ولم يكن يتقن رقصة الشارلستون ، ولم يذقن طعم الشمبانيا ولا الشاي الحديث، ولم يتسامرن مع أصدقائهن أو أقاربهن على دقات الجاز بند؛ ولكنهن غرسن في نفوسنا بعض المبادئ الصالحة وحثثننا بفضائلهن الصامتة على طلب العلم والاستزادة من الأخلاق الطيبة، وقد رأينا خطبة مولانا شوكت علي وافية في هذا المعنى.
2
المرأة المصرية بين الدين والأخلاق
وربما كانت المرأة المصرية معذورة في الخطة التي تسير عليها، لأنها لا ترى أمامها قدوة حسنة لا في زوجها ولا في أبيها بعد أن انقرض جيل أمها وجدتها، وكانت الصورة التي تراها من الأخلاق صورة بشعة مؤلمة، فإن المصريين المستجدين تحت ستار النهضة الحديثة والتجدد واستقلال الفكر والشخصية البارزة وما إليها من الألفاظ والتعبيرات العقيمة؛ قد قضوا على صفات الاحترام الماضي وإكرام الكبار والشيوخ واعتبار الحكم والنصائح الصادرة عن المجربين من الأهل والأقارب. وبعد أن كان الوالد رب الأسرة وولي العترة ورئيس العشيرة وكانت كلمته فيها هي المطاعة وأمره النافذ المقضي، وكان حارس مقامها وراعي حرمتها كما هو مصدر رزقها؛ فقد أصبح مجردا من تلك الصفات وصار أصغر فرد من أفراد العيلة يبغي أن يستوي معه في كل شأن من الشئون وينازعه السيادة في كل أمر من الأمور، وقد روى لي والد أنه أصبح لا يستطيع أن يصدر لابنه الناشئ أمرا لأنه واثق من مخالفته، وإن أراد الولد طاعته لبقية احترام أو خوف تعضده الأم وتنصره على أبيه، فتفسد النظام وتحدث النفرة بين الوالد والولد التي تتلوها الهوة التي تفرق بينهما إلى الأبد. وما قضية البنت إلا كقضية الولد في هذا السبيل، وقد صارت الفتاة في الثالثة عشرة مثل أمها في الثياب والزينة، وربما كانت موضع سرها ومحل ائتمانها وكاتمة أمورها في شئون لا يطلع الوالد عليها. وقد صار الطلاب في المدارس في العقد الثاني من أعمارهم يعرفون من خفايا الحياة وأسرارها ما لم يكن ابن الأربعين يعرفه منذ خمسين عاما، فبعضهم يشرب الخمر ويلعب الميسر ويخاصر النساء وهو بعد لم يتم دراسته ولم يتخط دور العلم. وقد رأيت بعيني رأسي والدا وولده على شرفة فندق كنتننتال وكلاهما من موظفي الحكومة وأحدهما برتبة الباشوية يعاقران الخمر ويغازلان غادة واحدة، فلما ذكرت ذلك لأحد أصدقائي قال لي: ليسا وحيدين في هذا المجال وأمثالهما كثيرون! وقد صار الولد والبنت كلاهما مرهقين لوالدهما في طلب المال للإنفاق منه لا في الثياب والمأكل والنزهة البريئة بل فيما لا يستطيع القلم تدوينه وتسطيره.
ولا أنكر أن بعض الآباء قد يشجعون هذا السلوك بتغاضيهم أو رضاهم عنه رضا تاما، وقد يعرف عن بيته الانحراف عن جادة الاستقامة وهو صابر صامت إما لحاجة اقتصادية وإما لبلادة في الخلق وإما لضعف الإرادة وانطباع نفوسهم على الذل والفساد، وقد ترى رجلا عظيما مستقل الرأي يشغل منصبا كبيرا ويبدو للناس كالأسد في العرين أو كالنخلة العالية، وإذا هو في بيته كالقط أو كالكلب يبصبص ويخنع لمولاته وهي زوجة شابة تغلق عليه الباب من الخارج ولا تنبئه بموعد خروجها ولا عودتها، والأولاد بين هذا وذاك ضائعون، وقد يكون الآخر أثناء تغيب زوجته غيبة شبه منقطعة قد ألف مجالس الشراب والغزل ولا يعود إلى منزله إلا في مطلع الفجر فيلتقي هو وهي على عتبة الدار بمشهد من الجيران والأولاد والخدم.
وماذا تنتظر من أمة طلقت كل جليل جميل في ماضيها واتخذت أزياء الإفرنج وأقمشتهم وأساليبهم في معيشتهم، ولم تكتف بذلك بل جاوزته إلى عادات شرب الخمر وإدمان المخدرات والمقامرة وحفلات سباق الخيل التي يتزاحم فيها كبارنا وصغارنا كما لو كانت حفلات دينية أو وطنية، وتنشر الصحف صور بعض أعياننا وشباننا وتقول في وصفهم: هذا فلان بك وقد ربح بضع مئات من النقود وحوله ثلاث غوان أوروبيات في حفلة السباق الفلانية؟ أي تحريض على الفجور والنزق بعد هذا التمجيد والتخليد على صفحات الجرائد اليومية؟!
بيد أننا لم نتخذ شيئا من الفضائل الأوروبية كالاتحاد والمناصرة والتضحية وبذل المال في سبيل الخير وشد أزر المشروعات الوطنية، وازدرينا ديننا وآدابنا القومية وتاريخنا وتقاليدنا، ولم ندرس ماضينا ولم نطلع على صفحات حضارتنا، ولم نبن ركنا جديدا كما كانت أوائلنا تبني ولم نفعل كالذي فعلوا، بل هدمنا وعشنا بين الأنقاض وسترنا أنفسنا بأسمال من بضائع أوروبا وزينا أدمغتنا ببعض قشور من علومهم، ولم نشيد لمجتمعنا قواما قويا حديثا بدل الذي تهدم فأفسدنا حياتنا فسادا يبدو كأنه لا صلاح له. فوجب علينا إذن مداواة العلة قبل استفحالها وعلاج الداء قبل الإعضال.
هل كان قاسم أمين يحلم بكل هذا؟ هل كان يتمنى أن تصل المرأة المصرية إلى هذا الدرك من الانحطاط في سبيل السفور؟ إن دعاة السفور الآن ليخجلون من دعوتهم بعد أن جرت المرأة المصرية شوطا بعيدا في ما هو عكس الحرية المقصودة. لقد كان قاسم - رحمه الله - يرمي إلى تحرير عقلها من قيود الجهل وتحريرها من قيود الأسر المنزلي واسترجاع حقوقها التي شرعتها الشريعة المحمدية السمحاء، ولم يكن يقصد إلى الابتذال والتردي الذي صارت إليه المرأة المصرية بفهم الحرية المعكوس ...
كتينة الباشا الوزير ... والمستشار
أما الأفندي المصري وهو الطبقة السائدة في المدن، فهو مثال محزن من الخليط الإفرنجي والشرقي، وتعليمه بحكم الضرورة عاجز عن ترشيده، وقد قضى كرومر أربعين عاما في تعليم المصريين تعليما يؤهلهم ليكونوا موظفين في الحكومة وخداما للإنجليز، وقد رأيت رجلا صار فيما بعد وزيرا وكان إذ ذاك وكيلا لإحدى الوزارات ينتظر مستشار الداخلية في محطة العاصمة، فلما وصل المستشار أهوى الرجل على يده يريد تقبيلها ثم قبل يد زوجته ثم ذهب الرجل في أمر إعداد المتاع للنقل، فالتفت المستشار فلم يجده فناداه بأعلى صوته «يا فلان» فجاء المسكين يعدو ويشق صفوف الناس وهو يجأر: ييس سير، بالإنجليزية!
وقد تمثل لي في هذا المنظر ليس فقط الذل الذي وصل إليه المصري، وليس الثمن البخس الذي بيعت به الكرامة الشرقية (ووكيل الوزارة هذا عالم فاضل، وشاب نبيه، ومن سلالة تركية عالية)، بل تمثل لي نجاح سياسة كرومر ودنلوب في نصف قرن. وقد بلغ من تركز المهابة الإنجليزية في قلوب هذه الطبقة من الحكام أن رجلا شغل مناصب القضاء عشرات السنين ثم عين وزيرا لإحدى الوزارات، وحالما كان يباشر أعماله في غرفته علم أن سير برونيات، مستشار العدل السابق في مصر وعدوها اللدود الذي شبه الثورة المصرية بشرارة نار تطفئها بصقة إنجليزية؛ قد وصل إلى باب الوزارة ليزوره، وكان برونيات قد خرج من الحكومة المصرية من زمن وعين رئيسا لجامعة شنجاهاي وكان يسافر في مصر سائحا لا أكثر ولا أقل، وقد رأى من المجاملة أن يطوف بالوزارات ليتعرف إلى وزراء العهد الجديد، فلما علم المستوزر بمقدمه وقبل وصوله إلى درج السلم الموصل إلى غرفته نهض ولم يلاحظ أن مفتاح أحد الأدراج مشتبك بسلسلته الذهبية فانقطعت السلسلة، وكان المستشار لم يصل بعد وبقي في انتظاره بباب غرفته بضع دقائق ولم ينل من تحيته واستقباله غير قطع «الكتينة» الذهبية! وقد روى لي هذه الحادثة كاتب سره وكل منهما لا يزال حيا يرزق.
طبعا إننا لا ننكر قيمة التعليم الأوروبي وقد استفدنا به أعظم الفوائد، وأنا لا أتصور ماذا تكون حالة أحدنا إن لم نتفقه بآدابهم ولم نقرأ كتبهم ولم نطلع على مجلاتهم وصحفهم.
ولكن قد عرفنا بالابتلاء وتقرر لدينا بالاختبار منذ شرعنا نقوم بذلك أن التعليم مع كونه الدواء الشافي لأمراض عديدة وكونه ضروريا لا بد منه لإتمام الارتقاء الاجتماعي الصحيح؛ فإنه إذا لم نحسن إدارته كل الإحسان وتوفى وسائل تدبيره القسط الأكبر من الإجادة والإحكام انقلب بقوة فعله وعمله سما قاتلا تتولد منه جراثيم الفساد والاضطراب، لأن شأنه أن ينقض ما ينقض ويجرف ما يجرف ويهيج ضعاف الأدمغة ويستثير مساريع الأطماع وبعيدي الآمال مما لا يستطيع تحقيقه في الحال، فيحمل الإخفاق أهل البلاد على السخط والغضب فتضطرم نار ذلك اضطراما.
خطة كرومر ودوجلس دنلوب
وقد كانت هذه خطة كرومر في التعليم في مصر، وبقينا عشرات السنين نصرخ ضد دنلوب وزير المعارف المقنع ونحتج على سياسته ولا من يجيب نداءنا، وكان وزير يذهب وآخر يجيء ودنلوب رابض في كرسيه لا يتزحزح كأنه ورثه عن أجداده الاسكتلنديين، ومنحه الإنجليز لقب دكتور على جهله، وقد كان حقا دكتورا في الاستعمار وخنق الآمال القومية وقتل اللغة العربية ودراسة الدين، وفي عهده انقلبت المشيخة إلى أفندية بطرابيش كالطراطير وكانت لهم هيئة مضحكة ومحزنة وهم يلقنون دروس النحو والصرف والبيان والبديع، وعادوا بعد بضع سنين يلبسون العمائم والقفاطين فكانوا كالغربان في تقليد الطاووس.
وعلى الرغم من كل جهود الإنجليز ونجاحهم في صبغنا بالصبغة الإفرنجية مع نقص التعليم وحقارة شأنه وقلة العلوم التي تلقيناها واختصار المناهج وتلقيننا التاريخ والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات بالإنجليزية، ولم يكن ينقصهم إلا أن يعلمونا اللغة العربية بالإنجليزية، على الرغم من هذا لم يفوزوا بمأربهم فقد تعلق بعضنا بالمثل الأعلى وتعلمنا اللغة الإنجليزية لزيادة ثقافتنا. وقد لمح كرومر من خلال الرماد وميض نار فعاد يقول في تقاريره إنه يرتاب شديد الارتياب في شأن المصريين الذين تلقوا العلوم الغربية. والحقيقة أن المستعمرين بعد أن رأوا في الحي رجالا أمثال مصطفى كامل وقاسم أمين بدءوا يعزون السبب في انتشار روح المقاومة للاستعمار إلى التعليم الذي جاءوا بمناهجه وأساليبه، وكان أول البادئين بهذا لورد ماكولي ثم كرومر وغيرهما من رجال السياسة، فأخذوا يحذرون حكوماتهم من إتقان التعليم في المستعمرات بحجة أن الغالب على الناشئين هو النزوع إلى الثورة، إذ كانوا يقرءون أمورا تسيء عقولهم هضمها ويقيسون أقيسة فاسدة فيتعبون ويتعبون، فهم يرغبون قلع العلوم الشرقية من بين الشرقيين ولكنهم يضنون أن يجعلوا مكانها العلوم العصرية لئلا تحيا بها نفوس هذه الأمم، إذ يعلمون أنه لا يجتمع العلم والذل في محيط واحد سواء كان علما شرعيا إسلاميا أو علما أوروبيا عصريا أو علما جامعا بين الأمرين.
الفصل الحادي عشر
الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس
رومة وإنجلترا
يوجد شبه شديد بين الرومان والإنجليز في طريقة استيلائهم على ممالك الشرق، وذلك في عدم مقاومة الممالك التي استولى عليها الرومان في أوروبا وآسيا، فإن الشعوب التي هاجمتها رومة كانت بحال من الضعف والاستسلام لا تمكنها من المقاومة، لأنها قضت قرونا عديدة في الجهاد في سبيل الاستقلال وقد فشلت، وما لقيت بعد الجهاد والعناد إلا الظلم والاستبداد والضيق، فجاءت رومة والبلاد المفتوحة منهوكة القوى فاستولت عليها بدون مقاومة. هل كان هذا من حسن حظ الرومان أو من بعد نظرهم وترقبهم الفرص لانتهازها؟ ولم تكن رومة في حاجة إلى استخدام عدد كبير من جنود الاحتلال، بل كان عدد تلك الجنود بمثابة قطرة الماء في المحيط.
وما أشبه حظ الإنجليز في الهند بحظ رومة في فتوحها القديمة! فإن الإنجليز استولوا على الهند بسهولة تامة بعد الدولة الموغولية، ولم يستخدم الإنجليز في الهند إلا بضع عشرات الألوف في بلاد أهلها يعدون بمئات الملايين، في حين أن هؤلاء الإنجليز أنفسهم احتاجوا إلى 450 ألف عسكري لتهدئة جمهورية البوير في أوائل هذا القرن في جنوب أفريقيا، وهم لم يجندوا خمس هذا العدد في القضاء على ثورة الهند التي قامت في سنة 1857.
وقد أسس الإنجليز شركة في 1600 وطلبوا من دولة الموغول في ذل وخضوع أن تمنحهم بعض الامتيازات الأجنبية أسوة بالبرتغال والهولنديين الذين سبقوهم، فمنحوا تلك الامتيازات في الربع الأول من القرن السابع عشر. وإلى أوائل القرن الثامن عشر لم يفكر الإنجليز في الفتوح لقوة دولة الموغول في نظرهم، ولكن موت الملك أوزنجرب أدى إلى انحلال الدولة وانقسام البلاد وظهور أمراء الطوائف والدويلات الصغيرة، فاستقل كل أمير وكل راجا وكل نواب بمملكته، فجاء دوبلكس الفرنسي إلى الهند واحتل بونديتشري وتلاه كليف ووارين هستنجز وكورنواليس وولزلي من قادة الإنجليز واختصموا مع الفرنسيين في الشرق كما اختصموا معهم في الغرب، وقد استولى الإنجليز على الهند بسكون وهدوء وبغير مقاومة، وكان ذلك مقدمة لتأسيس إمبراطوريتهم العظيمة التي تمتد على جميع بلاد الهند والسند والبنغال وبرمانيا وسيلان وتبلغ مياه المحيط الهندي جنوبا وجبال هيمالايا ونهر الأندوس شمالا.
فتوح الشرق والموغول
لقد قامت في الشرق فتوح متعاقبة من الشرقيين أنفسهم وأشهرها في التاريخ فتوح العرب ثم فتوح الموغول ثم فتوح الترك، وفي العهد الأخير بعض فتوح الجنس الأصفر (اليابان والصين). أما فتوح العرب فليس هذا مجالها لأنها مقترنة بفتوح الإسلام ولا يتسع المجال لبيان ملخصها وهي معروفة للجميع، وقد تخللت هذا الكتاب نبذ عنها. واشتهرت تلك الفتوح سواء أكانت في الشرق الأدنى أو الأوسط أو الأقصى بالرحمة والعدل ونشر العلوم والمعارف والتعاون مع الشعوب المغلوبة في سبيل الحياة والمدنية، وحيثما حل الإسلام كان قوة ممدنة مهذبة معينة.
أما فتوح الموغول فكانت بلاء على الأمم التي غلبتها، فإن هذه القبائل المتوحشة أو تلك الجماعات من الشياطين في شكل البشر لم يعرفوا الإنسانية حتى يرعوها ولم يفهموا العدل أو العلم حتى يعدلوا ويعلموا، ولا تزال أسماء جنكيز خان وتيمور لنك الأعرج وهولاكو تحمل الرعب في ثنايا أحرفها حتى لدى كتابتها أو قراءتها. فإن هؤلاء الأشرار الذين ذكرنا بعض أخبارهم قد كرهوا العلم واحتقروه إلى درجة أنهم في تركستان قصدوا إلى مدينة بخارى التي كانت مشتهرة بمكاتبها وثقافتها العلمية والدينية ومنها البخاري صاحب الحديث المشهور، فقد نزل الموغول بالبلد فذبحوا رجالها وأسروا نساءها وأطفالها (قتلوا الرجال واستبقوا النساء لمآربهم) وأحرقوا المدينة بكل ما فيها من ثروة وعلم وجعلوا الكتب القيمة وكلها مخطوطة طعاما للنار.
أما فتوح الترك فلم تكن من قبيل هذا الفتح، وكان للترك كرامة ودين وعقل وإن لم تكن لديهم مدنية عريقة، فهم إن فتحوا لا يحرقون المدن ولا يبيدون الشعوب ولا يسلمون الكتب طعاما للنار.
ولكن أهل الجنس الأصفر لا يقلون في القسوة عن الموغول وإن كانوا متمدنين، فهذه اليابان تذيق شعب كوريا منذ أوائل هذا القرن إلى الآن صنوف العذاب وتسقيهم ألوانا من الظلم مع أنهم جيران وأبناء عمومة وبينهم خليج ضيق من الماء. ولكن أحد الكاتبين في الاستعمار الياباني شبه كوريا بأيرلندا بالنسبة لليابان التي هي شبيهة بالدولة البريطانية، وكما أن إنجلترا ظلمت أيرلندا سبعمائة سنة وهي أوروبية مسيحية وجارة مستأمنة كذلك لا يستغرب سلوك اليابان في كوريا .
أما الصين التي صارت جمهورية والتي أذلتها اليابان في 1895 وحاربتها أوروبا وقهرتها مرات عدة، فقد استولت على تركستان الشرقية وهي بلاد إسلامية واستعمرتها وعدد سكانها لا يقل عن عشرة ملايين، وهي تحكمها الآن بحاكم مستبد مطلق وصفه السيد منصور خان، أحد أبناء تلك البلاد وقد جاء مصر أخيرا لنشر الدعوة لوطنه، بأنه أشبه الحكام بالبروقنصل الروماني الذي كان حاكما بأمره مفوضا له كل شيء في البلاد المحكومة.
الإسلام والاستعمار
لقد كان للاستعمار الأوروبي تأثير شديد في تطور الشعوب الشرقية عامة وفي العالم الإسلامي خاصة، ولكن هذا الاستعمار الأوروبي وحده لم يكن العامل الحقيقي في ذلك التطور، بل إن الشعوب الإسلامية بدأت تنفعل وتتأثر منذ خمسين عاما بحكم مؤثرات ذاتية قائمة بأمزجتها وتكوينها ومعتقداتها، كأن الإسلام يحمل في ثناياه نظام الاندثار والتجدد الذي يجعله قريب الشبه من الكائنات الحية، فخلايا الجسد البشري تحيا وتموت في كل لحظة والكائن مع ذلك يتجدد ويتقوى وينمو ولولا تلك العملية الفيزيولوجية لوقفت حركة الحياة. وكذلك في الإسلام قد تندثر بعض الدول أو بعض الأنظمة ويموت بعض الزعماء وتنطوي صحف نهضة من النهضات، ولكن الحياة لا تنقطع والجسم لا يموت.
وقد كانت صدمة الاستعمار الذي بدأ بشدة متناهية منذ خمسين عاما حتى أيقظت تلك الأمم التي مضت عليها أجيال طويلة في سبات عميق، فلما نهض الإسلام والشرق كجبار عظيم أصابته لطمة قوية أخذ يزحف على يديه وقدميه ويرفع رأسه رويدا وينحني ليقف ويتحفز ليهجم، وهو في نفس الوقت مأخوذ بشدة الضربة؛ في رأسه دوار وفي جسمه ألم وفي ذهنه خبال ودهشة ولكنه ناهض لا محالة، وقد أحسن سير فالنتين تشيرول وصف هذه الحالة حيث يقول:
أمواج وغمار تتلاطم وتتكسر بعضها على بعض ومتناقضات تتناحر، وآراء وأفكار غريبة تتدفق من الغرب الحديث على حضارة قديمة بنت أجيال طوال؛ فبعض يأخذ ولا يحسن الأخذ وبعض يعرض ويلعن، وعقائد تتبدد ثم تعود فتحيا، ونظم صناعية مضطربة، ومناهج تعليم وتهذيب غير مستمسكة، ومبادئ غربية في أفق الإدارة والتدبير والفضاء تنتشر في مجتمع متنافر الوحدات، وسنن الاقتصاد الحديث تندفع بتيارها الهائل على بلاد ما برحت صناعتها وتجارتها على الحالة الأولى من السذاجة، وتصادم عنيف مستمر لا بد منه بين أقوام السكان والحكام الغرباء وحروب مستديمة الاتقاد. وبعد جميع هذا يتلو نهوض شعب شرقي جبار في الشرق الأقصى.
وقال كاتب فرنسوي: الحق أن الشرق على العموم والعالم الإسلامي على الخصوص لفي دور من الانتقال عظيم، يجوز الشرق اليوم برزخا فيه يعارك الماضي الحاضر وتتنازع العادات القديمة والجديدة الدخيلة، فبدت صور غريبة ومشاهد عجيبة.
وعندما خطب شوكت علي في جمعية الشبان المسلمين ووصف حالته هو وأخيه لدى عودتهما من جامعة أكسفورد، أشار إلى هذا التناقض في الحياة الشرقية التي غمرها الاستعمار الغربي فكنت ترى بعين الخيال قصورا هندية تشبه في طرازها تلك الهياكل البديعة التي وصل في إتقانها الفن الموغولي والفن الإسلامي إلى أعلى درجات الكمال.
وقد زينتها الأمتعة المجلوبة من محل مابل وشركاه ببلاد الإنجليز، فنبذ الشرقي مدنيته وأخذ بأحقر ما لدى أوروبا من مظاهر حضارتها، وأصبح في عقله خليط من عناصر فتاكة بعضها موروث وبعضها مجلوب فأورثه ذلك التناقض اضطرابا وخللا.
فرنسا في أفريقيا
وكأن هؤلاء المستعمرين الأوروبيين قد درسوا سياسة ماكياڤيلي ومبادئه التي دونها في كتاب «الأمير»، فقد أخضعوا بعض بلادنا الشرقية بالقوة العسكرية كما صنعت فرنسا في الجزائر ومراكش باتحادها مع إسبانيا بعد الحرب العظمى، وكما صنعت إيطاليا في طرابلس وروسيا في أواسط آسيا وإنجلترا في مصر وفرنسا في سورية وبريطانيا في العراق. وكذلك تم بعض الفتح بواسطة الطرائق الاقتصادية وهو ما يطلقون عليه وصف الفتح السلمي بأن تقبض بعض دول أوروبا على خناق بلاد شرقية مستقلة برءوس الأموال الأجنبية، ومتى تمت عملية الخنق أخذت السيطرة السياسية تبدو شيئا فشيئا، وقد حدث هذا في بلاد العجم وفي مصر لعهد إسماعيل، واستمر بعد الفتح الغربي في سنة 1882، وكانت أوروبا في كلتا الحالتين تقضي على الحكومة الأهلية المستبدة القليلة الحول والطول وتقيم مقامها حكومة استعمارية منيعة الجانب شاكية السلاح شديدة الشكيمة فتثبت النظام الظاهر وتبدأ الدولة الفاتحة تستدر الخيرات وتبتزها.
وهذه هي الخطة التي سلكتها فرنسا في الجزائر ثم رأت فشلها، فنشأت العداوات في قلوب أهل الجزائر بعد أن تشتت شمل أسرة الداي وهاجر هو وأهله إلى مصر حيث مات ودفن في الإسكندرية وعاشت بناته من بعده عيشة اليتم والمذلة، وقد عرفنا أحد أحفاده الذي روى لنا تفصيل هجرة الأسرة وما صادفته من صنوف الهوان بعد فقد ملكها وثروتها، وبعد أن انتهت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري الذي كتب بسيفه صحيفة من أنصع صحف الجهاد الوطني؛ فلم يبق في الجزائر قلب واحد يحب فرنسا أو يحترمها أو يصدقها. وهي من جانبها لم تعمل على ترقية الشعب أو تمدينه، فلم ينبغ منهم حتى الساعة عالم ولا طبيب ولا رياضي ولا فلكي مع أنهم شعب يزيدون عن عدد سكان هولندا وبلادهم من أغنى وأجمل بلاد أفريقيا. فنهض علماء السياسة الاستعمارية في فرنسا وأعادوا النظر في كتاب ماكياڤيلي وأشاروا على حكومتهم بتغيير خطتها، ولم يكن ذلك ممكنا في بلاد الجزائر التي كان قد مضى على فتحها خمسون عاما فرأوا أن يأخذوا بلادا أخرى لينفذوا فيها تجربتهم الجديدة، وكان القطر التونسي أمامهم لا يزال مستقلا تحت حكم الباي، وكان الوزير خير الدين باشا عائدا من أوروبا بأفكار الإصلاح ومشروعات الحياة النيابية التي بدأ في تنفيذها.
فأدركت فرنسا أن انتقال تونس من القديم إلى الجديد على يد حكومتها الوطنية قد يجعل الاحتلال صعبا في المستقبل إن لم يكن مستحيلا، فدهمتها قبل احتلال إنجلترا لمصر بسنة أو سنتين وطبقت فيها خطة سياستها الجديدة. وإليك ما كتبه هانوتو الذي كان وزير الخارجية في ذلك الحين عن تونس:
قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئا فشيئا وأجريناه من المراقبة على الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها (كذا).
تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم ينخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها وتركت أزمة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا المسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين، وجملة القول أن انقلابا عظيما حصل بدون أن يجر وراءه ألما أو توجعا أو شكوى بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوروبية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر.
إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض، إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الآسيوي (يقصد الإسلام)، أرض نشأت فيها نشأة جديدة نبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه ونموذجا ينسج على منواله، ألا وهي البلاد التونسية. ا.ه. كلام هانوتو.
هل قضى الاستعمار الأوروبي على روح الشرق؟
كتب هذا المقال في مايو سنة 1900 ولم يمض على دخول فرنسا في تونس عشر سنوات، وعلى دخول إنجلترا مصر ثماني سنوات، وكان كرومر قد سبق الفرنسويين إلى تطبيق هذه السياسة، ويكفي أنهم دخلوا مصر وضربوها بالمدافع وخربوا حصونها وقتلوا جيشها بدعوى أنهم يدافعون عن عرش الخديو، فمن المعقول والمنتظر أنهم سيحافظون عليه لدى الدخول أشد المحافظة. وما زالت هذه محبتهم للتفريق بين الشعب والحاكم من جهة ولتبرير مركزهم أمام الدول، وإن لم يكونوا في حاجة لذلك لأنهم في الاغتصاب سواء، إلى أن خلعوا ذلك الخديو نفسه في سنة 1914، وحينئذ ابتدعوا حجة المواصلات الإمبراطورية، وما زالوا يترقون بها إلى أن أعلن شمبرلين زواج مصر ببريطانيا في خطبة برلمانية رنانة فقال: «لقد أراد الله أن يتزوج هذان القطران، ولا يفرق البشر بين من جمعهم الله!»
ولكن ماذا كانت نتيجة حكم فرنسا في تونس وإنجلترا في مصر؟ هل فصم الحبل حقا الذي يربطنا بالأمم الإسلامية؟ وهل محي من ذهننا ذلك الماضي الإسلامي الذي يمقتون؟ وهل انطلت حيلة المستعمرين علينا فانخدعنا لهم؟ إن جهاد تونس في سبيل استقلالها معلوم، والحركة الوطنية قد قامت في سنة 1920، وهي الآن على أشدها يقودها رئيس الحزب الوطني التونسي السيد محمد محيي الدين القليبي، وليس في تونس رجل واحد يخلص للحكم الأجنبي إلا إذا كان يهوديا أو خائنا لوطنه. أما نتيجة الحكم البريطاني في مصر فقد ظهرت في حادثتين: الأولى حادثة دنشواي التي انتهت بخروج كرومر من مصر في مايو سنة 1907 ملوما محسورا، والثانية حادثة الثورة الكبرى التي شبت نارها في 1919.
وسواء أكان في فرنسا أم في إنجلترا فقد أجمع ساسة القرن العشرين من المستعمرين على ما دونه كرومر في كتابه عن حكم إنجلترا في مصر من 1882-1907 (مجلدان ظهرا في سنة 1908)، فقد وصف خطط الاستعمار الحديث بقوله:
يجب أن تكون السياسة الاستعمارية قائمة على قواعد التبصر والحكمة، ويجب أن تكون أصول أحكامنا التي هي الصلة بيننا وبين جميع الشعوب الداخلة في حكمنا من حيث الاعتبار السياسي والاقتصادي والأدبي؛ قواعد صحيحة سليمة منزهة عن الشائبة والنقص، هذا هو حجر الزاوية في بناء الإمبراطورية. إن المبرر الأكبر للاستعمار يجب أن يظهر جليا في حسن التصرف بما في أيدي هذه الإمبراطورية من القوى. فإن استطعنا ذلك فكنا فيه من الحكماء ولينا وجوهنا شطر المستقبل رفيعي الجباه لا نخشى أن يعرونا ما عرا الإمبراطورية الرومانية من قبل من الفساد والدخل، وإن لم نستطع فكنا فيه من الجهلاء الأغبياء فقد استحقت الإمبراطورية البريطانية الانهيار من عل ولسرعان ما تتناثر حلقاتها وتتبدد بعد الاجتماع.
وظاهر من كلام هذا الرجل المسمى باللورد كرومر أنه ينسج على منوال هانوتو الذي سبقه إلى ذلك بسبع سنين، ويتميز عليه بأن هانوتو كان وزير الخارجية ولم ينفذ سياسته بشخصه في تونس، ولكن كرومر نفذها بنفسه ورأى ثمارها في مصر، ومن الجلي أنه لم ينصح بالرفق والحكمة والألفة لخدمة الشعوب المحكومة ولا لاستدرار خيراتها، وهو شيء مضمون، ولكن خوفا على كيان الإمبراطورية من التزعزع فقد أخذ الناس يلهجون في بداية القرن العشرين بقرب زوال الإمبراطورية بعد حرب الترنسفال، وأخذوا يقارنون بينها وبين إمبراطورية الرومان. ولما كان كرومر أحصف وأقدر حكامهم، وكانت عقليته تشبه عقلية بروقنصل روماني، لا ينقصه إلا الخوذة والبلطة والطيلسان والفولاذ وما إليها من مظاهر الأبهة والسلطة؛ فقد رأى أن يتفضل على العالم بنصائحه، ليقال إنه أول بان في أركان تلك الإمبراطورية البريطانية، ومنقذها العظيم الذي رسم لها خطة النجاة من الوقوع في الخطر الذي وقع فيه أسلافها العظماء الذين نشئوا على ضفاف نهر طيبر.
ولكن كرومر لم يحسب حساب دنشواي التي أهرق فيها دماء الفلاحين، ولم يحسب حساب الحرب العظمى، ولم يحسب حساب نهضة الشرق والإسلام التي نرى مظاهرها في كل قطر وأمة؛ فمضى بحسرة سقطته عن عرشه الوهمي، وعاش بعد خروجه من مصر عشر سنوات تجرع في أثنائها كئوس الندم على ما جنت يداه في تلك القرية الصغيرة، ورأى بعينه بداية الانحلال الذي أخذ يدب في عناصر الدولة البريطانية، وها هم رجال كان يحسبهم لعهده صعاليك أو مفاليك من شعراء السياسة وأرباب الأحلام يتولون السلطة العليا في جميع أقطار أوروبا، فلشد ما كانت رجعية كرومر عندما ظن أن عهد رومة سوف يعود وأن إنجلترا المسيحية المتحضرة ستكون وارثة ذلك الصولجان الوثني الغشوم!
جبل أولمب الحديث
ولو أننا تمشينا مع كرومر، الذي أراد لورد لويد أن ينسج على منواله في مصر وأخذ يتمشدق بذكره وانتحل سياسته «فاصوخة» وتميمة وحجابا، فكانت عاقبته السقوط والفشل من جراء سياسته نفسها؛ لو أننا تمشينا مع فلسفته الاستعمارية وصدقناه طرفة عين وقسنا علمه بعمله ونظرياته بتنفيذه، لكانت النتيجة بالمثل السائر «اقرأ تفرح، جرب تحزن!» فإن عهد كرومر كان عهد استئثار واستبداد وقسوة واندثار للشخصية المصرية، وفي أثنائه ورد تلغراف جرانڤيل الذي يؤذن بخضوع الرئيس المصري للمرءوس الإنجليزي. وكان الجفاء على أشده بين الحاكم والمحكوم، فكان نادي تيرف كلوب أشبه الأشياء في القاهرة الحديثة بجبل أولمب عند اليونان القدماء مهبط الآلهة ومسرحهم، وكان الإنجليز يعيشون في مصر عيشة الأرباب في البلاد القديمة، وكانت علاقة الأساتذة الإنجليز الذين كان يحشدهم دنلوب من شوارع لندن وأبردين بتلاميذهم المصريين علاقة السيد الآمر المطاع المتعجرف بالعبد الخاضع الذليل. وقد ذقنا نحن وعشرات ألوف التلاميذ مرارة هذه المعاملة في المدارس الثانوية والعالية، ولم نر قط اجتماعا يلم شمل المصريين والإنجليز، ولم يتبادلوا قط كلمة مودة أو إخاء، بل كانوا يعيشون في السماء الثالثة، وإن خاطبتهم في ذلك قالوا: «إننا لا نريد أن نختلط خوفا من سقوط الهيبة.» أما في الهند فالحال على أبشع ما يكون، فإن الوطنيين لا يركبون إلا في الدرجة الثالثة، وإذا ركب أحدهم في الدرجة الأولى يوقف القطار ويرمى به وبمتاعه في أقرب محطة. وروى لنا الأستاذ الثعالبي عن هولندا أن الحاكم الوطني إذا دنا من الهولندي يركع ويجلس القرفصاء ولا يرفع عينيه في وجه محدثه.
ومع هذا فإن الكاتب الفاضل والعالم المدقق لوثروب ستودارد مؤلف «حاضر العالم الإسلامي» الذي نقله إلى العربية الأستاذ النابه النابغ عجاح نويهض بك (مصر سنة 1926)؛ يقول في ص10 من الجزء الثاني:
ففي القرن التاسع عشر كانت جميع الدول المستعمرة أخذت تشعر شعورا حقيقيا عميقا بالغاية الفضلى المثلى وهي واجب الإنسان الأبيض ... معتقدين الاعتقاد الراسخ كله أن امتداد السيطرة السياسية الغربية إنما هو الذريعة الفضلى وربما الوحيدة لإنهاض الجانب المنحط المتدلي من العالم وللأخذ بنصرته في سبيل التجدد والارتقاء. والحقيقة التي لا مراء فيها أن المستعمرين لم يغيروا من خطة الاغتيال والاستثمار والاستعباد، ولكنهم عدلوا طريقة الاستعمار بما يعود عليهم من الفوائد، ويديم سلطتهم ويحفظ كيان إمبراطوريتهم من الزوال. والحقيقة التي لا مراء فيها أيضا أنه ما كادت تطلع سنة 1900 حتى كانت الشعوب الشرقية كافة قد نفضت عنها خلقانها وبددت غياهب جهلها وحطمت عقال خمولها وخرجت عن تلك الدائرة المغلقة وأنشأت تمهد لنفسها مهيعا مفضيا إلى التجدد الصحيح والارتقاء.
وإن كان الشرق قد تبدلت شئونه غير أن سياسة أوروبا الجائرة لم تتبدل.
يكاد الباحثون لا يدركون تعليل هجوم أوروبا في هذه الآونة الأخيرة على الشرق ذلك الهجوم الفظيع. والحق أن أوروبا كانت صابرة ومتمهلة في افتراض سكون الشرق ونومه واستسلامه، فلما رأت بوادر نهوضه في أواخر القرن التاسع عشر وفجر العشرين طفقت أوروبا تتجهم في وجه الشرق المستيقظ الناهض وتستبيح لنفسها مناهضته وتسميم عواطفه الثائرة وروحه الهائج، فأساءت إليه بذلك في بضع سنين معدودة إساءة تفوق جميع ما ناله منها من الشر والهوان طيلة مائتي سنة خلت.
وما أصدق ما كتبه سيدني لو الإنجليزي في سنة 1912 وتمثل به ستودارد:
ما شبه غالب الدول النصرانية في سلوكها هذا الذي ما برحت تسلكه منذ عدة سنوات إزاء الأمم الشرقية بعصابة من اللصوص يهبطون على الحال الآمنة أهلها ضعفاء عزل فيثخنون فيهم ثم ينقلبون بالغنائم والأسلاب؟ ما بال هذه الدول لا تنفك تدوس حقوق الأمم المجاهدة في سبيل النهضة؟ وعلام هذا العسف الذي تضرب به الشعوب المستضعفة، وهذا الجشع الكلبي لانتياش ما بين أيديها وما خلفها؟! إن هذه الدول الغربية النصرانية هي بعملها هذا مؤيدة للدعوى الباطلة أن القوي الشاكي السلاح يحق له الانقضاض على الضعيف الأعزل، وآتية بالبرهان القاطع على أن مكارم الأخلاق والآداب الاجتماعية لا شأن لها البتة حيال القوة المسلحة. لقد تجردت تلك الدول عن كل حسنة في معاملة الشعوب الشرقية تجردا لم يسبق له مثيل حتى بين أشد الجيوش همجية في الزمن القديم.
هل يوجد وصف أصدق من هذا لحالة الدول الأوروبية «المتمدنة»؟ لقد كانت هذه الخواطر تجول في نفسنا ونعجز عن تصويرها وإن كنا تصورناها، ولعمري إن التاريخ الوسط والحديث كليهما يؤيدان صدق هذا العالم الفاضل، فإن قبائل النورسمان التي انحطت من الشمال على بلاد الإنجليز واستعمرتها لم تكن إلا قبائل رحالة، هجامة، سارقة متلصصة، فلما عاشت وتحضرت وتدربت استمرت خلتها النفسية، وإن كانت تخفيها الثياب الرسمية والقبعات العالية، ولكن روح النورسمان الخطاف القاتل الفاتك لا تزال تخفق بين جنوبهم، وهي التي أوحت إليهم تلك الأعمال في الشرق والتي يضج منها كتاب من بني جلدتهم ويشهد بها شاهد من أهلهم.
الفصل الثاني عشر
التناسل في الشرق والحالتان السياسية والاقتصادية
الشرق الاقتصادي
وإذا نظرت إلى الشرق من حيث الفقر والغنى وعلمت أن النقاد الاجتماعيين يعتبون على الإنجليز لوجود طبقتين اجتماعيتين واحدة في أقصى الثروة والأخرى في أشد الفقر، فإنك ترى في الشرق الحال نفسها لأن الشرق مثال إنجلترا من حيث الغنى الباهظ والفقر المدقع، ما عدا طبقة صغيرة من الموظفين الذين أخذوا في العهد الأخير بفضل تراكم مرتباتهم يدخلون في الطبقة الأولى من حيث استثمار ثروتهم.
وقد ظهر هذا الفرق العظيم منذ ارتقت أسباب المعيشة وأصبحت نفقاتها لا تطاق بالنسبة للفقير وأصبح الفقير لا يجد المال الذي يكفيه نفقته، فهو مضطر لأن يقتر على نفسه تقتيرا لكي يتسنى له بذلك الحصول على قدر ما يستطيع من حاجاته الجديدة. وإننا للأسف نرى شعوب الشرق عامة ومصر خاصة لم تكن يوما بعارفة للاقتصاد ولا التوفير، بل إن الفقير منهم لا يزال مبذرا حتى يرد موارد التلف، وكان الفلاح المصري وابن البلد سواسية في إقامة الأعياد والمهرجانات والأعراس والمآتم فيبذرون حتى يرزحوا تحت أعباء الديون ويقترض من الرومي واليهودي ويبيع محصولاته قبل ظهورها بعدة أشهر، حتى إذا جاء المحصول خرج منه واضطر لقطع ثمنه بأبخس قدره ولا يلبث أن يشعر بالتحرر من الدين وتحويل بعضه إلى العام المقبل بفوائظ مركبة بعد رجاء وتوسل حتى يعود إلى الاستدانة من جديد! وهكذا دواليك إلى أن يتلاشى وينتهي بالإفلاس. وهكذا تستطيع أن تتصور مبلغ ما انتهت إليه الحال من الضيق والأزمة في سنوات 1907 و1914 و1921 و1930.
لا أنكر أن التعليم الحديث قد جاء في العهد الأخير بنتائج حسنة، فقد عادت مؤخرا من البعثات الأوروبية بضع فتيات تخرجن من جامعات إنجلترا في العلوم الطبيعية والرياضية، وعينت إحداهن في منصب أستاذ معين في كلية العلوم بالجامعة المصرية 1931، وفتحت أبواب مدرسة الطب للطالبات وهن يدرسن في المعمل والمستشفى بجوار زملائهن من الفتيان.
وقد كانت المرأة المصرية قبل ذلك مستغرقة في الجهل والغباوة، وإذا كانت هكذا فما أسوأ التربية التي تنشئ بها أولادها الذين على صدرها وبين ذراعيها! وهل من بلية أعظم من هذه البلية التي تحول دون ارتقاء الفتى الشرقي والفتاة الشرقية ارتقاء عقليا وهما يشبان في مخادع الحرم على جهل شديد يتضاءل به الاستعداد الفطري وتضيق به المدارك، لأن ما ينطبع في نفس الابن ويرتسم في لوح ذهنه وهو يرتضع ثدي أمه في السن التي يكون هو فيها أكثر طواعية ولينة منه في سائر العمر لأبقى أثرا من جميع ما يتلقاه الابن فيما بعد على المعلم، وبهذا الاعتبار ما دام نصف الشرق لم تصل إليه عوامل الارتقاء فنهضة الشرق الإسلامي على الجملة تظل ناقصة بتراء ولا سبيل إلى إكمالها ما لم يشمل التهذيب الصحيح المرأة والرجل معا.
وقد صرخ المرحوم فتحي زغلول في حفلة تكريمه في الجامعة المصرية سنة 1913 قائلا: «علموا الأمة»، فأجابه صوت: «علموا الأم تتعلم الأمة.» فإننا بتعليم الأمهات وتهذيبهن نبدل حالة الشرق تبديلا تاما، فإن البنات متى ما تلقين معارف وعلوما صحيحة مع ما يحفظنه من آيات القرآن وأدب الإسلام استطعن أن يقمن بتدبير المنزل قياما حسنا سواء كن بنات أم أخوات أم أمهات أم زوجات. إن الحياة القديمة التي كانت تقضيها المرأة فيما مضى جالسة على الديوان لاهية لا تعرف شيئا أكثر من تناول ضروب الحلواء آونة بعد أخرى ومضغ الصمغ واللبان، وماجنة مع الخوادم اللواتي حولها تارة وطورا مع صواحبها الجاهلات مثلها، والتحدث عن الزار والجن والشبشبة والرقى والتمائم والأحجبة وزيارة الأسياد، أو عن الأزياء وثمن الثياب وفائدة الأصباغ والأدوية الناجعة في إزالة الشعر وصبغه، وتطرية الوجه وصقل الأظافر، ووسائل السمن المصطنع والتدفئة أمام المنقل؛ قد انقضت وجاءت من بعدها حياة جديدة ترى فيها المرأة المهذبة رفيقا لزوجها وشريكا أمينا لا جارية ولا سلعة بين يديه. نعم إننا لا نطمع في أن تصحبنا زوجاتنا إلى حفلات الصيد والقنص، ولا في لعبة الجولف والتنس، ولا ركوب المطهمات من الخيل كما يصنع نساء الإنجليز، ولكن نطمع في أن تكون المرأة عونا لنا لا حربا علينا، وصديقة تعيننا لا عدوا يعطلنا ويقاومنا.
ضرر التناسل الكثير
ومن الظواهر العجيبة التي نراها في الشرق منذ التغلب الأوروبي زيادة عدد السكان، فقد كان المصريون في أول القرن لا يزيدون عن مليون وبلغوا في سنة 1900 عشرة ملايين وفي سنة 1917 أربعة عشر مليونا وفي سنة 1924 سبعة عشر مليونا، وكانت الهند في أول العهد الإنجليزي مائة مليون وبلغت الآن ثلاثمائة وخمسين مليونا، وكانت إندونيسيا في أول الاحتلال الهولندي عشرة ملايين وهي الآن ستون مليونا.
وبعض ممالك أوروبا آخذة في الازدياد مثل هولندا وإيطاليا وألمانيا، ولكن إنجلترا وفرنسا آخذتان في النقصان أو باقيتان حيث كانتا.
وهذا طبعا راجع لجملة أسباب، منها تقدم علوم حفظ الصحة وانتشار مبادئ المعرفة في مقاومة الأمراض وتقليل نسبة الوفيات، وفضلا عن ذلك فإن الشعوب الشرقية مضروب المثل بميلها وبكور قابليتها للتناسل والتوالد، والديانات الشرقية لا سيما الإسلام تحض على التناكح والتناسل وتنهى عن وأد الأطفال الذي كان شائعا في الجاهلية، وتقليل النسل وممارسة الإجهاض معدودان جريمتين دينيتين، كما أن الأخيرة منهما يعاقب عليها القانون. وكل شرقي عقيب الزواج يطمع في أن يكون له ولد يرثه ويحفظ اسم أسرته كما لو كان إمبراطورا عظيما! وأتباع المعري في اعتبار التناسل جريمة وجناية قليلون في الشرق الإسلامي، وهذا ناشئ أيضا عن شدة العاطفة الجنسية وعن أسباب اقتصادية، فإن الرجل الفقير في الشرق يحب أن يولد له أولاد ليعينوه في الحياة بعملهم المبكر سواء في الحقول أم في المدن.
وقد نعى أحد كتاب الفرنسيس، وهو ڤان جنيب السوسيولوجي، على أهل شمال أفريقيا كثرة الزواج والتبكير بالتناسل، وقرر في مقالة قيمة نشرها في مجلة مركوردي فرانس (أكتوبر سنة 1916) أن الإفراط في الزواج والتناسل قد أديا إلى هبوط المواهب العقلية وأورثا تلك الشعوب نوعا من الخمول الذهني. وهذا الأمر مشاهد في مصر أيضا حيث يفرط أفراد الطبقة الوسطى في تعاطي المخدرات ولا مأرب لهم منها إلا الاستمتاع فيأتي النسل عرضا غير مقصود بالذات، وتتراكم هموم الحياة وأثقالها على رب الأسرة فيذهب هو وأسرته ضحية لذة قصيرة تعقبها أفجع الحسرات من الفقر والدمار. ولا يغيب عن الذهن أن العهد الحديث قد جلب معه قضية المعيشة وكيف نبتغي أسباب الرزق في هذه الدنيا مع ما بلغناه من الفقر المدقع في جميع ناحيات الحياة، فإن الفقر أكبر بلية وهو أبو البلايا، وقد قال النبي: «كاد الفقر يكون كفرا» وعزي إلى الإمام علي أنه قال: «لو كان الفقر رجلا لقتلته.»
وإننا نرى بأعيننا ما هو منتشر في البلاد الشرقية والمصرية من ضروب الشقاء والعذاب الناشئين عن كثرة النسل والولد، ونشعر بما يقاسيه جانب كبير من أبناء الأوطان الشرقية من النصب والمضض في ابتغاء أسباب الرزق، وقد سنت الحكومة المصرية قانونا يجعل سن الزواج ست عشرة سنة للبنت وثماني عشرة سنة للولد، ولكن الفقهاء والمحامين الشرعيين ابتكروا طرقا لعقد الزواج العرفي الذي يجعل القانون حبرا على ورق، بل إن محاكم الجنايات حكمت بأن تغيير السن في ورقة الزواج لا يعد تزويرا يعاقب عليه، لأن عقد الزواج عمل لإثبات النكاح لا لإثبات العمر.
وهكذا سقط القانون في الماء وأن حجة أضداده قوية، فإن المحامين الشرعيين يرون فيه معطلا لأعمالهم، لأن الزواج بين من هم أقل من هذه السن يمنع من سماع الدعاوى الشرعية في النفقات والطاعة وثبوت الأبوة وما شاكلها، والرجل القضائي الواقف على حقائق الأمور يرى في زواج بنت الخامسة عشرة أو الرابعة عشرة إنقاذا لها من خطر أشد من الزواج بالنظر إلى الحالة الاجتماعية الحاضرة. وعلى كل حال فالزواج والشروع في تأسيس الأسرة أخف ضررا من الدعارة أو التفريط في العرض.
ولكن أضرار الزواج الباكر مؤكدة ومعلومة، ولا بد من مقاومته بكل الوسائل.
ثم بعد هذا ماذا يفيد أن تكون الأسرة مكونة من عشرة أطفال إذا كان تعليمهم ناقصا وغذاؤهم غير كاف ومستقبلهم غير مضمون، في حين أن الأسرة المؤلفة من ثلاثة أو أربعة أطفال تكون أقدر على مكافحة الدهر والخروج من ربقة الجهل والفقر؟
الإهمال في الادخار والاقتصاد
إن أهل الشرق جميعا سواء كانوا من المدن أم من أهل الريف والقرى يكادون لا يجاوزون في ابتغاء الرزق حد الكفاف، وفي كل يوم ترى موظفا يموت فجأة فترى غداة موته طلب استرحام من أسرته على صفحات الجرائد منبئا الحكومة التي كان يخدمها والأمة التي كان يعيش بين ظهرانيها أنه لا يملك شيئا وأن له أربعة أو خمسة أولاد قصر، وأن معاشه الذي يبلغ ثمانية جنيهات بعد أن كان يتقاضى أربعين أو خمسين جنيها لا يكفي لقوت أولاده، فتنفحهم الحكومة مائة جنيه أو مائتين أو خمسمائة فلا تلبث أن تنفد ثم تعود الكرة ويكون الموظف الأمين المتوفى قد نسي وأصدقاؤه قد انفضوا من حول أولاده وأقاربه تنحوا عن أرملته، كما هي العادة في بلاد الشرق؛ فلا يجد نداؤهم أذنا مصغية فيقضون البقية من حياتهم في المسغبة والمتربة. وقد ترى قاضيا كبيرا وضابطا عظيما أو طبيبا شهيرا وقد صار أولاده كتبة أو موظفين صغارا في أحد المصارف، لأن الرجل لم يستطع الادخار لهم والأم لا تملك طرق تدبير الحياة. والتعاون في الشرق مفقود، وفكرة التأمين على الحياة غير شائعة وتقوم ضدها فكرة القضاء والقدر وتحديد الأجل وترك الأمر لله لأنه يضمن الأرزاق. وعندما مات المرحوم الشيخ محمد عبده لم يكن يملك شيئا سوى بيت مبني بالطوب الني على أرض أخذها هبة من لادي بلنت، فمنحت الحكومة أسرته ألف جنيه، مع أنه كان في مقام رئيس أساقفة كانتربري أو أسقف باريس، ولو مات أحد هذين لوجدوا وراءه ثروة ضخمة، وقد مات قاسم أمين وانتفعت أسرته بمال التأمين وغيره كثيرون. فقل لي بربك ما هذه الحال التي نحن عليها، وماذا تكون نتيجة حياة رجالنا المهددين في أرزاقهم، وقديما قال الإمام الشافعي: «لو شغلت ببصلة ما حللت مسألة.» أليست هذه عقدة اجتماعية كفيلة بانشغال بالنا؟ بل إن المشتغلين بمسائلنا السياسية لم يكونوا أسعد حظا من علمائنا العظام في العهد الغابر، فلم يترك مصطفى كامل ثروة ومات محمد فريد شريدا طريدا لا يملك شيئا، كأنهما بعض الزهاد في صوامع الأديرة!
وإذا انتقلت إلى الطبقات النازلة من الفلاحين فإن ما يعانونه من الفقر الذي وصفنا طرفا منه لا تصل البلاغة إلى الإلمام به، وذلك ناشئ عن تبذيرهم وعدم تدبيرهم.
قال بريلسفورد الاقتصادي يصف حالة الفلاح المصري في مستهل هذا القرن:
إن مناظر الفاقة التي رأيتها في القرى لم أشهد قط مثلها في جبال مكدونيه ولا في بقاع دونجال، فهذه القرى في مصر إنما هي ركام من الأكواخ «العشش» المبنية من الطين لا يتخللها أشجار ولا أزهار ولا غياض ولا بساتين، والأكواخ من الداخل ليست مستوية الأرض وليس لها نوافذ فهي أشبه بالسراديب الصغيرة، مؤلفة في الغالب من غرفتين صغيرتين غير مشيدتين بالجص ولا مفروشتين بالبسط والطنافس، ولم يكن فيها من الأثاث والماعون سوى بعض أدوات الطبخ من النحاس والفخار وجرة مملوءة من طعام الذرة وأخرى ملآنة بالماء العاكر الذي تنقله المرأة على رأسها صباح مساء.
ولم يشأ بريلسفورد أن يجرح إحساس الإنجليز ويذكر مجاورة الأنعام للإنسان ولا روث البهائم ولا تراكم حطب القطن على السطوح مما يبعث على اشتعال النار لأبسط شرر، ولم يذكر المستنقعات ولا أكوام الطين والتراب ولا قذارة الملابس وصفرة وجوه السكان وقلة تغذيتهم وانتشار البلاجرا والإنكلستوما والبلهارسيا، لأنه يعلم أن الإنجليز حكموا البلاد منذ أربعين عاما لترقية الفلاح وإنقاذه من مخالب الإفلاس، وطالما افتخر كرومر بأنه صديق أصحاب الجلاليب الزرقاء، التي قال ظريف في وصفها إنها مصبوغة بالنيل الهندي رمزا على حدادهم لما هم فيه من البؤس والضراء، وقال: «رأيت بنفسي في قرية ط. أكواخا مصنوعة بأيدي الفلاحين، وهي عبارة عن حوائط من الصفيح والبوص مغلفة بالوحل وليس لها نوافذ، ولا بد للداخل إليها أن ينحني لينساب داخلها انسياب الكلب في وكره أو الثعبان في جحره. وعلى مقربة منها وعلى قيد بضعة أمتار قصر مشيد على ألف متر، له نوافذ وأبواب وشرفات وأعمدة، يتخلله الهواء والنور وحوله أشجار وجنان وفيه سائر أنواع النعيم الأرضي ومداخنه تعمل ليل نهار في تسخين الماء وطهي الأطعمة. وهذا القصر لصاحب الأرض التي يزرعها سكان تلك القرية، وهو يراها منذ عشرات السنين ولم يخطر بباله أن يحسن حالة ساكنيها، كما أنه لم يخطر ببال ساكنيها أن يقتصدوا لتحسين حالتهم. قد رأيت هذا في سنة 1908، وتكلمت في هذا الشأن مع صاحب القصر فضحك من قولي، وقال إن الفلاحين لا يحبون إلا هذه المساكن، وإنهم لا يقبلون على السكن في سواها.» ا.ه. ومنذ خمس سنين قامت ضجة حول بناء مساكن نموذجية للفلاحين وشيد أحدها فعلا في المعرض الزراعي، ولكن ما لبث أن شيد حتى هدم ولم ينفذ المشروع في إحدى جهات القطر المصري.
أما المدن فإن الأحياء الوطنية منها لا تزال على ما كانت عليه في القرون الوسطى، وقد قال في وصفها لويس برزان يصف أهل القاهرة ما نصه:
لعل الفقر والفاقة في بيوت الطبقة الفقيرة في القاهرة وسائر بلاد مصر أشد منهما في سائر الأقطار الشرقية، فمثل هذه البيوت مؤلف في الغالب من غرفتين أو ثلاث لا نوافذ لها لدخول نور الشمس والهواء النقي، متصلة بإيوان لا يقل عنها ظلمة، وترى الدمام يتساقط من السقوف ومن ألواح الجدران الخشبية النخرة على أرض المسكن القذرة، والهوام والحشرات مستقرة على الحصر والفرش.
وإذا التفت إلى وسائل العيش وأسباب القوت رأيت أجور بعض العمال لم تتناسب مع غلاء الأسعار، بحيث إن العامل لا يستطيع مماشاة السوق وأصبح عاجزا عن تحصيل ضروريات الحياة، وهذه الحال هي أشد ما يكون في المدن والمراكز الصناعية حيث أهل الطبقات الدنيا من عملة وساقة وحوذيين وباعة وغيرهم لا طاقة لهم البتة على احتمالها، فنشأت عن هذه الحالة العامة البلوى، الشادة للخناق، المستحكمة عرى الضيق، مظاهر فساد الأخلاق كشرب الخمر وانتشار الفجور وارتكاب الجرائم والجنايات. ا.ه.
وفي نظرنا أنه لا علاج للفقر والجهل في الريف والمدن إلا بنشر التهذيب الديني والتبشير بمبادئ الاقتصاد والادخار، فالدين والاقتصاد وحدهما دون غيرهما كفيلان بالإصلاح.
الفصل الثالث عشر
الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
مكارم انقلبت مغارم
لو تنبأ خليفة أو سلطان بأن مظاهر الإكرام وحسن الضيافة التي منحها كبار الأجانب الذين حلوا بلاد الشرق في سبيل التجارة أو الاستكشاف ستنقلب بعد بضعة قرون أنواعا شتى من البلاء على تلك الأمم الشرقية ما كان منحها، ولعله ما كان يفتح أبواب مملكته للقادمين الذين تمكنوا على مر السنين من قلب المجاملة الودية سيفا مصلتا على أعناق تلك الأمم التي استضعفت في الأرض بعد العظمة والقوة.
ولكن أي خير في ممالك الشرق عامة والإسلام خاصة لم ينقلب شرا؟ وأي مسالمة لم تصر على كر الأعوام بيننا وبينهم محاربة؟ إن تلك الشوكة التي ما فتئت تخزنا في جنوبنا كيفما تقلبنا هي بلا ريب من أشد النكبات وقعا. وقد فرت فرصة الحرب الكبرى ولم ننل من إلغائها أربا، وتمكنت أمم شرقية مثل الصين والفرس والترك من محوها من سجل حياتها القومية، ولا نزال نحن ننظر بعين المريض إلى صفحتها في سجل حياتنا كما ينظر المقضي عليه في كتاب يشمل الحكم عليه بالعذاب المؤبد، وقد تحركت تلك المسألة بضع مرات في العهد الأخير بمناسبات خطيرة وتحفزت الجهات المختصة نحو العمل ولكن على أية خطة؟
كانت السياسة المصرية منذ ثلاثين عاما ذات صبغتين: صبغة قومية وصبغة حكومية من حيث الامتيازات، وقد ألف في ذلك الحين الأستاذ بلسييه دوروزاس مدير مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة كتابا قيما في الموضوع فالتفت الآراء المصرية حول بعض نظرياته، فنشأت لدى الوطنيين في عهد من العهود الوسطى فكرة تحبيذ الامتيازات والاحتفاظ بها، بوصف كونها سياجا دوليا ذا لون قانوني يقضي بشبه المساواة بين إنجلترا وغيرها من الدول الأجنبية، وقالوا لو أن تلك الامتيازات زالت فقد نمسي مع إنجلترا وجها لوجه دون حسيب أو رقيب، وإذن تفقد المسألة المصرية صبغتها الدولية ولعلها تسعى لنشر حمايتها دون منازع من الدول الأخرى، وكان المرحوم مصطفى كامل من أنصار هذه الفكرة لاعتماده على فرنسا في إبان نزعته الأولى، وما زالت هذه عقيدته إلى أن حلت سنة 1904 وتوثقت علاقة إنجلترا بفرنسا وظهر في الوجود «الاتفاق الودي» الذي سبق الحرب العظمى بعشر سنين ومهد لها السبيل، وحينئذ دب اليأس إلى قلبه.
وندب حظ مصر في رسائل بليغة، أرسل بها إلى صديقته ومعينته الأولى مدام جوليت آدم، وتزعزعت ثقتنا في نظرية التفضيل ولكننا كتمنا أمرنا.
أما الوجهة الحكومية منذ ثلاثين عاما فكان يمثلها لورد كرومر، وكان هذا السياسي المحنك يظهر آراءه ولا يخفيها ويكتبها ولا يكتمها ويبغض الكتمان في الأمور العامة، كما كان نصيرا لحرية الصحافة ويعتبرها صمامة أمان للتنفيس عن الكروب التي تعانيها الشعوب المحكومة، وكان يطلع على العالم في كل عام بتقرير مدبج بأسلوب خاص يعد من أعلى الأساليب في المدونات السياسية، فماذا كانت خطة هذا النابغة في الامتيازات؟ كان يميل إلى إلغائها ويوالي الحملات عليها في صفحات تقريره السنوي، وينسب إليها تعطيل أعمال الإصلاح، ولكن حيرته - على شدة حذقه وبراعة حيلته - كانت ظاهرة في الوصول إلى حل يوفق بين رضاء الدول وحسن التخلص ومجاملة أرباب الأموال وتنفيذ السياسة الإنجليزية في وادي النيل، إلى أن دلته التجارب وهدته أناته الطويلة على فكرة وسط تخفف ويلات الامتيازات ولا تمحوها تمام المحو، وهي فكرة لا شك مكيافيلية فكرة إشراك الأجانب معنا في مجلس تشريعي تكون قوانينه نافذة على جميع سكان مصر. وهذا المشروع نفسه الذي جمع كرومر شجاعته للبروز به بين ظهرانينا هو النواة لمشروع سير برونيت الذي قامت له مصر وقعدت، صاغه كرومر بصورة مخففة ملطفة ولكن برونيت أراده كاملا شاملا قاضيا على كياننا القومي، فضلا عن الفرق بين العهدين عهد كرومر وعهد برونيت، فقد كان كرومر يستمد قوته من نفوذه الذاتي ومن شخصيته القوية ومن تاريخ أعماله في مصر، وكانت تلك الخطوة الجريئة منه بمثابة إعلان للعالم بأن إنجلترا تنوي البقاء عملا بالمبدأ القائل «سأبقى حيث أنا».
وكان قبول الأجانب نظرية الاشتراك في التشريع بمثابة رضاء ضمني بشرعية الاحتلال فلم يلق كرومر تشجيعا في مصر ولا في الخارج، في مصر قامت عليه قيامة الوطنيين الذين تشبثوا بأهداب الامتيازات للنظرية التي شرحتها، والدول الأجنبية لأنها أدركت مغزى الخطة الكرومرية التي تحولت فيما بعد إلى نظرية حماية الأجانب. ولم تكن أمة شرقية قد اجترأت بعد على إلغاء الامتيازات، بل كانت الدولة العثمانية غارقة من أخمصها إلى قمة رأسها في بلوى الامتيازات، بل كانت اليابان زعيمة الشرق الأقصى خارجة من حرب الروس الدامية التي انتصرت فيها أمة وثنية على أمة مسيحية، فمدت لها دول أوروبا التي تعرف كيف تحترم الحديد والنار يد المودة وصافحتها على أشلاء الجيوش القيصرية المحطمة، فلما نطق أقزام طوكيو الأذكياء الأقوياء بكلمة المساواة بين الشرق الأقصى والغرب وطلبوا إلغاء الامتيازات وقالوا إننا نحسن الطعن والضرب ونتقن تدبير خطة الحرب فإذن نستطيع إحسان الحكم بين الجميع ونلغي الامتيازات الأجنبية! فطأطأ الغرب رأسه وأجاب: نعم! فلما جاءت الحرب العظمى وأعلنت إنجلترا الحماية ألغت امتيازات الأمم المعادية لها، ولما تبلشفت روسيا أسقطت امتيازاتها ولكنها لم تمس امتيازات الأمم الموالية على ما في هذا العمل من التناقض الظاهر فإن الحماية معناها تحمل مسئولية الحكم، فلم يكن هناك معنى للتفرقة في المعاملة بين الدول.
وعقدت المؤتمرات وسويت المسائل بين الدول ومصر صامتة ساكنة ولم تحرك ساكنا بصفة جدية نحو إلغاء تلك الامتيازات والخلاص من أغلالها.
ولكن اليوم عادت المسألة بشكل جديد، فمصر تريد تعديل قانون المحاكم المختلطة لمحاكمة تجار المخدرات والرقيق الأبيض (وغيرهم من نوعهم) جنائيا أمام تلك المحاكم، وهذا يتطلب تعديلا في نظام الامتيازات، وتريد التسوية بين المصري والأجنبي في أداء الضرائب المحلية التي تنتوي إيجادها لتعمير الخزانة المصرية، فخطت البلاد خطوتين؛ الخطوة الأولى إصدار قانون الجنسية الذي جلب علينا احتجاج دولتين من الدول العظمى، فقد رأت كل من فرنسا وإيطاليا وهما دولتان مفترض لديهما الولاء لمصر وحسن المجاملة، أن في المادة الخامسة عشرة من ذلك القانون مساسا بحقوق رعاياها، وهذه المادة من أهم مواد القانون وهي تعطي وزير الداخلية حق إخراج السكان الذين أصلهم من جزر الأرخبيل التابع لإيطاليا وسكان البلاد الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. وقد أثمر الاحتجاج ثمرته النافعة للدولتين العظيمتين المشار إليهما، ووافقت الجهات المختصة على أن النص ينصب على الرعايا غير المرغوب فيهم
Indesirable
وتعهدت وزارتا الداخلية والخارجية بتنفيذ هذا التفسير ، وسوف يعطي هذا الحل فرصة للمشاكل - فمن له الحق في الوصف؟ وكيف تكون طريقة المعارضة؟ وهل تتخلى الدول عن حماية رجل من أقوياء رعاياها؟ - بعد الذي رأيناه من حوادث القتل الواقعة من زعانف الأجانب على المصريين، فينقلون إلى عواصم الممالك الحامية وتصدر في حقهم أحكام مخففة تكاد تكون أحكام الأم الحنون على الولد المدلل! يجب في مثل هذا المجال فعل حاسم وإظهار رغبة صريحة، وكان العقل لا يقبل أن مصر تتعرض لأجنبي مسالم أو مستقيم، وهذه الحلول تسمى أنصاف الحلول وهي أشد خطورة من بقاء المشاكل بغير حل، وبقاء القديم خير من حل ضعيف.
أما الخطوة الثانية (ومن غرائب المصادفات أنها خاصة بالمادة الخامسة عشرة أيضا، ولكن من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) فخاصة بوضع حد للأقضية التي سارت عليها المحاكم المختلطة حين بسطت اختصاصها على الأجانب من غير ذوي الامتيازات استنادا إلى المادة التاسعة من لائحة ترتيبها، وكانت تلك المحاكم وهي جهات قضائية أولى برجع الحق إلى نصابه وحسن تفهم النصوص. والآن لقد تغير الزمن وألغيت الامتيازات من سائر أمم الشرق، ولم تعد مصر في حاجة إلى الالتجاء إلى نظرية الامتيازات الأجنبية لحماية الفكرة السياسية بفكرة قانونية، فقد كشفت أوروبا قناعها ومدت يدها الحديدية وظهرت نياتها واضحة صريحة في جميع أنحاء العالم، وإن لم نكن حاربنا الحلفاء وانتصرنا لنحوز الاحترام في نظرهم فقد حاربنا في صفوفهم، وقد أظهر القضاء المصري في خلال الأربعين سنة الماضية قدرته واستقلاله، فالأولى بنا أن نصارح الدول الممثلة لدينا والتي لنا شرف التمثيل السياسي لديها بحقيقة أفكارنا، وهي أن الامتيازات الأجنبية أصبحت أنظمة غير لائقة وغير جديرة بكرامة الطرفين.
تدرج مصر في الحضارة
لا ريب في أن مصر الآن في فترة سكون ومراقبة، ومثلها كمثل الجالس في برج عال يشرف على ما حوله من الأمم القريبة والبعيدة، ولا يمكن من كان في مثل موقفها أن لا يتأثر بما يقع أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله من الحوادث الكبار، وقديما تأثرت مصر بأوروبا في السياسة والتجارة والتعليم والصناعة والصحافة واتخاذ المخترعات الحديثة والانتفاع بالمفيد منها، ولا يخلو الأمر من أنها أوذيت في هذا السبيل بالتقليد أو باتخاذ الضار من الأخلاق والعادات.
ومصر ليست متصلة بالغرب والشرق مجرد اتصال، وإنما هي مشتبكة اشتباكا وثيقا، وكل خطوة من الخطوات التي قطعتها في المائة سنة الأخيرة كانت تدنيها من أوروبا، ففي عهد محمد علي الكبير كانت دولة حربية صناعية في دور التكوين، وكانت معنويا تابعة لفرنسا في علومها وسياستها وتقاليدها لقرب العهد بالفتح الفرنسي ولرغبة محمد علي في محالفة تلك الأمة لأسباب يطول شرحها، فحاربت وتقدمت واستتب الأمر لحاكمها الذي كان من نوع المستبد المحب للخير
Benevolent Despot ، وفي عهد خليفته إبراهيم باشا حاربت في الشرق وانتصرت في الشام وفي تركيا، ووقفت عند حدها وعرفت شخصيتها بين الأمم الغربية والشرقية. وفي عهد سعيد نبتت فكرة قناة السويس في رأس الفرنسي فردينان ديلسبس، المنحدر من مدرسة سان سيمون الفلسفية، واتصل البحران على يد المصريين الذين هلك منهم مئات الألوف في سبيل الإنسانية وتقريب المسافة بين إنجلترا والهند، ولما رأت إنجلترا عجزها عن منع حفر القناة انصرفت إلى الاستيلاء عليها، وتم هذا الاستيلاء أو كاد في زمن الحاكم الذي احتفل بافتتاح القناة. وكان المغفور له إسماعيل باشا حاكما حديثا يحب أن تكون بلاده جزءا من أوروبا، فمدن المدن ومصر الأمصار وشق الطرق وحفر الترع واستقبل الإمبراطورة والسلاطين والملوك، واستدان حتى اضطر لترك وطنه بعد أن أثقل كاهله بالملايين في سبيل المدنية الحديثة، ولم يجد له من أوروبا ناصرا ولا معينا سوى ملك إيطاليا الذي ضافه. وفي عهد خليفته نضج «الخراج» وعملت العملية الجراحية، وظهرت الثورة العرابية ودخل الإنجليز مصر، وكانوا في أول عهدهم شبه مسالمين لأنهم لم يشاءوا أن يكذبوا دعواهم بحماية العرش. فلما مات توفيق إلى رحمة الله وخلفه ابنه على العرش وكان في ريعان الشباب، بدأ عهد المقاومة بين إنجلترا يمثلها ذلك الكهل المحنك المدرب لورد كرومر، وبين الوطنية المصرية، إلى أن أعلنت الحرب العظمى سنة 1914 فكانت فترة الاستسلام والحماية تحت حكم القهر، ثم ظهرت الحركة الوطنية الأخيرة وكان من تاريخها ما لا يزال عالقا بالأذهان.
وفي كل فترة من تلك الفترات كانت أوروبا تزداد منا تقربا وبنا احتكاكا وتتدخل في شئوننا الصغيرة والكبيرة، ونحن نقبل الحوادث تارة بالإرغام وطورا بالمساومة. وقد وضعت الحرب أوزارها وخشيت ممالك أوروبا الظافرة التي كانت تسمى «الحلفاء» أن لا تسفر تلك المذبحة البشرية البشعة عن شيء من الخير الذي كانت تمني به جموع الإنسانية المجرحة المظلومة المغلوبة على أمرها، وتلك الشعوب الصغيرة الدامية. وأرادت من جهة أخرى أن تكون لذاتها نواة دفاع ضد حوادث المستقبل الخفي، فابتدعت فكرة عصبة الأمم، ولم تكن تلك الفكرة حديثة العهد بل قال بها كثيرون من ساسة أوروبا لا سيما الفرنسيون منهم، وفي مقدمتهم مسيو ليبرجوا الذي كان يرجو اتقاء الحرب بوسيلة التضامن بين الأمم المتمدينة (راجع كتابه الذي نشره قبل الحرب
La Paix par Solidarité internationale )، وكان ظاهر هذه العصبة خلابا خداعا لكل الأمم حتى إن بعض ساستنا كان يعد الانضمام إليها نعمة كبرى، فما لبثت حقيقتها أن انجلت عن كونها عصبة الأمم الغالبة، وقد اخترعت نظام الانتداب وهو استعمار حقيقي يلبس ثوب الصداقة، ودليله ما حدث في سورية والعراق، وقد أراد الله فلطف بنا ولم تمسنا ريح ذلك الانتداب المنحوس، ولعل السادة السياسيين أدركوا أننا تعلمنا ما يكفي لعدم قبول تلك الحيلة. ولم تدخل أمريكا تلك العصبة فأظهرت أنها تعرف بواطنها، ودخلتها ألمانيا ليكون لها صوت مسموع في تخفيف وطأة الدين وتعجيل الجلاء عن بعض أراضيها المحتلة واسترداد بعض مستعمراتها.
وقد قرأنا من المباحث الأخيرة في الكتب والمجلات ومحاضرات أساتذة الحقوق الذين انقطعوا لدرس روح عصبة الأمم وتفهم طرقها
Mécanisme
ما يجعلنا نعتقد أن حياة تلك العصبة رهينة قوة الدول الكبرى التي تتألف منها، وعندما تضمحل تلك الدول في حرب كبرى (يقول الكثيرون بضرورة اشتعال نارها ويحتمونها تحتيما) تنحل طبعا تلك الجمعية فتكون أمريكا حينئذ هي دولة المستقبل بقوتها المادية وقوتها المعنوية وبنبوغها في الاختراع والإبداع وتسخير الطبيعة للإنسان وثروتها التي تكاد لا تفنى في جوف الأرض وعلى سطحها، وأوروبا العجوز تعلم ذلك وتنتظره وتلمح كوكب تلك الجمهورية الساطع، وتدرك أنها نفسها في طور الانحلال والذوبان.
فلا تستطيع مصر أن تجهل ذلك أو تتعامى عنه أو تغفله، بل ينبغي لها أن تسلك عين السبل التي سلكتها جمهورية الولايات المتحدة للتقدم بالعلم والصناعة والاجتهاد، وأن تسعى للتقدم والإصلاح في جميع ناحيات الحياة، فإن الأمريكيين المشهورين بالعجلة والتقليد والاكتفاء بمظاهر الأشياء، إنما هم في الحقيقة رجال عمليون وتبدو حياتهم للجاهل بطبيعتهم بتلك الحالة السطحية. وليس أمام أمريكا ما يعوقها عن سيادة العالم كسيادة الرومان ولكنها لا تريد، وقد أسفت على دخولها في مأزق الحرب العالمية، ويؤكد ساستهم وعلماؤهم أنه لو ظهرت حرب أخرى فلن يكون لهم شأن فيها، وكفاهم ما أصابهم من ضياع الرجال والمال ومماطلة الدول المدينة. وظهور مبادئ ويلسون الذي كان يمثلهم بمظهر الرجل العالق بالمثل الأعلى المندفع وراء الخيال اندفاعا أفقده ميزان الحقائق الجارية بين الدول.
ولعل من أعظم ما ننتفع به من أمريكا طرق التعليم فيها وتأسيس المدارس الحديثة القائمة على مبادئ علم النفس ودرس معقولية التلاميذ والطلاب، وقد كان أعظم فلاسفتهم في العصر الحديث وهو ويليام جيمس أستاذا مدرسا. ثم نقل مصر من الزراعة إلى الصناعة.
ولا يمكن مصر أن تجهل ما هو حادث في أوروبا ذاتها وفي أحضان جمعية الأمم التي عجزت عن تطبيق نصوص نزع السلاح أو تخفيضه في العالم إلى الحد الأدنى الذي يتفق مع سلامة كل دولة. وهذه النصوص المنقولة عن عهد جمعية الأمم مطاطة وقابلة للتأويل والتفسير على هوى كل دولة، وكل دولة تستطيع أن تتملص من أي تخفيض حقيقي في سلاحها، وستبقى هذه المسألة من المشاكل الأوروبية المعقدة التي يصعب حلها. وقد ثبت لمن يرقب حالة العالم السياسية أن الدول الأوروبية تستخدم العصبة لتبرير مقاصدها الخاصة ولتصبغ سياستها بصبغة قانونية لتبريرها أمام الشعوب، أما أمريكا فليست في حاجة إلى الدخول في هذا المأزق ولا يهمها البرنامج البري أو البرنامج البحري ... كما رأينا فعلا. وإليك إيطاليا وإسبانيا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وتركيا، وكل منهن تعيش تحت نظام حكومة مطلقة يتصرف في شئونها رجل واحد تميز بمحو النظم الدستورية وجعلها أثرا بعد عين، في حين أن أمريكا مع نموها وتقدمها وتطورها لم تحتج لتغيير نظام حكومتها ولا للقضاء على دستورها. وهذا النظام المطلق معلق بحياة شخص واحد أو بضعة أشخاص، ولا يعلم مستقبله ومآله بعد حياته إلا الله الذي يعلم السر وأخفى!
أما ألمانيا وفرنسا فهما الدولتان المنهوكتان اللتان تعيشان بين الرجاء والخوف، وقد حدثت في ألمانيا عين الظاهرة السياسية التي حدثت في فرنسا بعد الهزيمة، فإن فرنسا انقلبت من إمبراطورية إلى جمهورية بعد حرب السبعين، وكذلك ألمانيا انقلبت إلى جمهورية بعد حرب 1914، وكلتاهما في كفتي الميزان، وترقبان إنجلترا (التي استفادت وحدها من الحرب) بعين الحذر وتحسدانها على ما أفادت من مستعمرات وانتدابات وآبار للزيت والنفط في الشرق ونفوذ خارق في الغرب، على حساب برتا وماريان الداميتين.
وكل هذه الدول الغالبة المغلوبة الخادعة المخدوعة تشرئب بأعناقها في ثياب الوجل والحيرة وتحارب بكل قواها منفردة ومجتمعة الدولة الروسية التي غامرت في مجهولة تاريخية تشبه معادلة جبرية معقدة الحروف والأعداد، وعندنا أن روسيا لا تزال في دور التكوين الاجتماعي وهي أشبه الأشياء بطهي ينضج في مرقه الدسم الكريه الرائحة، فإن المشاعية، حسب مبادئ الدولية الثالثة، تجربة شديدة الخطورة، ومجازفة غير مأمونة العاقبة. وليس لدى الروس ما يمكن مصر أن تستفيد منه أو تقتدي به لمخالفة مبادئها لعقائدنا ومدنيتنا وآدابنا، فلنتركها «تستوي في صلصتها» على حد قول السياسي العتيق كرومر عن السودان في عهد المهدي، ولنتجه قليلا نحو الشرق فإذا هو أيضا قدر تغلي على نار متأججة، فمن ثورة وحرب يعقبهما فتور وخمود في سورية إلى حرب الجوريلا في شرقي الأردن وحدود العراق، وهذا الحجاز ونجد والربع المعمور والربع الخراب لا تزال كالبوتقة المصهورة في يد صائغ ماهر تعوزه المادة اللازمة لصنع الذهب.
وإذا رفعنا بصرنا إلى ما وراء العراق رأينا تلك الدولة الفتية التي أوقعها تسرع صاحبها في حب الإصلاح في هاوية الفوضى وحرب القبائل، وقد نزع التعصب الأعمى ودسائس الأجنبي تلك السلطة غير المحدودة من يد أمان الله ووضعها في يد آفاقي هو أقرب إلى زعامة اللصوص منه إلى سيادة الممالك،
1
ولا تزال الدولتان الإسلاميتان اللتان فتنته مظاهر الإصلاح فيهما وهما تركيا والفرس بعيدتين عن معاونته ومناصرته، لأن تركيا تكاد بشق الأنفس تبلغ غايتها التي رسمها لها ونفذها رجل واحد نابغ في الحرب والسياسة والتشريع يعمل في جيل واحد ما يجب عمله في بضعة أجيال، ولا يشبهه عن بعد إلا شاه الفرس العصامي الذي يستغويه التقدم والارتقاء ويعوقه الجمود القومي الذي يشبه قباء عتيقا مزركشا بالخز والديباج ومرصعا بالجواهر، ولكنه من ثياب القرون الوسطى يرغم صاحبه على التدثر به للدخول في محفل حديث العهد بين المتعاصرين من أهل المدنية الجديدة.
أما الهند فقد تنازعتها الانقسامات القومية وبددت أوصالها خناجر التعصب.
وهذه الصين التي لم يكن يرجى لها تنبه من سباتها العميق الذي جعلها أشبه شيء بأهل الكهف، قد تنبهت وهي تحارب بعضها بعضا كما كانت تفعل إحدى الدول الأوروبية في القرون المظلمة، ولكنها حروب تعقبها الحياة والسلامة والسير إلى الأمام إذا استطاعت أن تتخلص من المؤثرات الأجنبية المضرة بها، والتي لا يقبلها عقلها ولا تندمج في مدنيتها.
ومصر الناهضة الرابضة الساكنة المراقبة ترى كل ذلك وتفهم وتدرك ولكنها صامتة، لأنها تتعلم وتتنور وتنتظر وترجو أن تنتفع بالدروس التي تتلقاها من الداخل والخارج، وما يراه البعض كبيرا خطيرا قد تراه مصر صغيرا دقيقا عديم الشأن في نظر التاريخ وفي حياة الأمم، لأنها هي الأخرى التي حلت فيها روح أبي الهول العظيم صابرة ترمق بعين الهدوء والألم ظهور شمس الحياة والأمل من وراء الأفق.
مصر الاجتماعية
إن الأنظمة النيابية نعمة الأمم الحديثة ولكن يجب أن يحسن تكوينها وانتخابها، فإن إنجلترا وهي سيدة الأمم النيابية وبرلمانها شيخ البرلمانات واقعة في خطأ واضح، فإن تسعة أعشار الأمة الإنجليزية عمال ولا يملكون شيئا إلا تعب أيديهم، وتجد تسعة أعشار البرلمان من الملاك الذين لم يعرفوا هم وآباؤهم عمل اليمين ولا عرق الجبين، حتى في عهد سيادة العمال فإن حزب العمال في الحقيقة اسم ومنهاج ليس إلا، ومن أعضائه لوردات وسيرات ومسترات من أغنى متمولي الدنيا. فلا يعقل أن برلمانا كهذا يسد حاجات شعبه، وإلا فأين أعماله في مقاومة تكويم الثروات الفردية غير الالتجاء إلى التشريع الاستثنائي مثل الضريبة على الدخل وغيرها؟ وإنك إذا حولت نظرك إلى البرلمان الفرنسي وهو وليد الثورة الفرنسية العظمى، فإن منظرا محزنا يقابل نظرك من تعدد الأحزاب ذلك التعدد المهلك وتهافت الأعضاء على اقتناء الثروات بطرق غير مشروعة، فكانت فضيحة بناما الشهيرة التي سجن بسببها دي لسبس، وفضيحة أوستريك وغيرها، بل إن بعض أعضائه بعد أن تولوا الوزارة وهي أرفع منصب في الأمة اتهموا بالخيانة العظمى وثبتت عليهم وحكم عليهم بالنفي وغيره. وقد ظهر ضعف النظام البرلماني المقرون بسوء الانتخاب، إذ تغلب عليه فريق من الرجال الذين صاروا ديكتاتورية، مثل موسوليني في إيطاليا وبريمودي رافيرا في إسبانيا وغيرهما في بعض بلاد الشرق. فظهر وجوب تشريع حازم يحمي النظام النيابي ويصونه لدى عواصف الاستبداد الفردي، وحسن الانتخاب حتى يمكن الانتفاع به، وإلا فيصير حلما مزعجا للأمة وداعيا للسخرية من الأقوياء الذين يريدون الاستئثار بالسلطة. إلا أن حالة الفلاح والعامل لمما يدعو إلى الحنان والشفقة، فإن انتشار الفقر في تلك الطبقة مع سيادة الجهل مما يفتت الأكباد، فإنهما فريسة للشقاء وللأمراض الفتاكة وظروف حياتهما اليومية تكاد تكون من آثار القرون المظلمة. ولم أدرك حالة الفلاح والعامل قبل التسلط الأجنبي، ولكنني لا أظن أنها وصلت إلى ما هي عليه الآن في الشرق، فإن أوروبا لم تكتف بالفتح الحربي والسياسي، بل فتحت البلاد فتحا اقتصاديا وكان ذلك الفتح أوسع نطاقا من الحرب السياسية وأرسخ قدما، فإن أوروبا التي انتقلت في القرن الماضي من عهد الزراعة إلى عهد الصناعة والتجارة تراكمت لديها المصنوعات وأرادت أن تجد لتصريفها أسواقا فلم تجد أروج من أسواق الشرق.
وإذا رجعنا إلى تلك الصناعات نجد أنها من نتائج الاختراعات والاكتشافات العجيبة التي وفق إليها الأوروبيون بمحض اجتهادهم وذكائهم، وليس لشرقي واحد أي فضل في اختراع منها، فحيث حولت نظرك وجدت اختراعا أوروبيا أو أمريكيا، أي صادرا عن الأمم الغربية.
وقد حضرت مرة مناقشة حادة بين رجل مثقف على الطريقة الحديثة وأحد علماء الرسوم، فكان العالم يقول: إن الإسلام هو دين الله وأممه هي الشعوب المختارة وهي أحب الأمم إليه - سبحانه وتعالى - لأنه وفقها إلى عبادته على أفضل الطرق وأسماها. فاعترض عليه المثقف قائلا: كيف تقول ذلك يا سيدي مع أن الله - سبحانه وتعالى - لم يفتح على واحد ... واحد فقط من أبناء هذه الأمم باختراع واحد نافع مثل الكهرباء أو البخار أو ما اشتق عنهما منذ ستين أو سبعين عاما كالبرق واللاسلكي والتليفون والمحرك الكهربائي والطيارة؟ فسكت العالم قليلا ثم قال: وهل نسيت علماء العرب وما أحدثوه في الفلك والكيميا والرياضيات؟
فقال المثقف: كلا! لم أنس، ولكن هذه كانت أعمال بدائية، ولو أنني سلمت جدلا بأن الأوروبيين اتخذوا ثمار قرائح العرب أو غيرهم من الشرقيين كالصينيين، فإن هذا لا ينفي أنهم طبقوها تطبيقا عمليا في كل ما أنتجوه وعاد على الإنسانية بالخير العميم.
على أن الذي يريده الرجل المثقف على الطريقة الإفرنجية هو أن الدين المسيحي لم يكن عائقا لأهل أوروبا عن الاختراع والإنتاج المجدي وكذلك لا يجوز أن يكون الدين الإسلامي عقبة في هذا السبيل، وحينئذ لا دخل للدين في ترقية العقول وتقوية الأخلاق وتربية الرجال تربية صالحة تؤدي بهم إلى الأعمال الجليلة. وماذا يجدينا الآن أن يقال إن أول من اكتشف أمريكا رجال مطوحون من العرب وصلوا إلى المكسيك أو البرازيل وعادوا إلى ثغر «واأسفاه» بشمال أفريقيا، في حين أن الذي اكتشف أمريكا حقيقة هو خريستوف كولومبوس وفريق من البحارة الإسبان؟ فيجب إذن أن نعترف أن كل الاختراعات الحديثة التي بنيت عليها الصناعات هي ثمرة عقول أهل أوروبا دون سواهم ونتيجة اجتهادهم ودأبهم.
ويصح أن يقال في حقهم: «كل ميسر لما خلق له»، لأننا رأينا أشخاصا منهم يقضون عشرات السنين في سبيل إتمام جزء بسيط من اختراع مهم، وأمامنا أمثلة واضحة في أديسون وماركوني وأينشتين وهم من الأحياء، وباستور وكوخ وروتنجن وفارادي وڤولتيرا وهم من الموتى ...
لماذا انحصر الاختراع والاكتشاف في أوروبا؟
وقد هجم الأوروبيون بصناعاتهم وبضائعهم على الشرق الذي لا يزال حتى اليوم في دور الزراعة وهو الدور الأول في حياة الأمم، وكان الفلاح الشرقي منذ خمسين عاما ولا يزال إلى الآن يحرث بالمحراث الخشبي ويسقي الأرض بالناعورة والشادوف.
وبديهي أن الكثرة الساحقة من شعب زراعي تكون مستغرقة في الفقر والجهل فلا يتمكن أحدهم من الظهور بعمل نافع، حتى إن المرحوم محمد علي باشا كان يأمر بخطف الأولاد من الحقول لتعليمهم في المدارس، ومن هؤلاء المخطوفين والمساقين إلى التعليم رغم أنوفهم خرجت فئات النوابغ الذين كانوا فخر مصر في مستهل القرن التاسع عشر وأواسطه. أما الفئة القليلة التي اشتملت على الأشداء أهل الجراءة والإقدام الذين كانوا من الهمة والنشاط بحيث لا يبالون بنسخ العادات العتيقة والأوضاع القديمة البالية ويريدون الخروج من القيود التي قيدتهم بها الأجيال السالفة؛ فكانوا من الفقر بحيث تعوقهم قلة رءوس الأموال عن الأعمال الجليلة.
وإنني لا أنكر أن في الشرق أموالا مكدسة، ولكن الشرقي مفطور على دفن المال وتخبئته في بطن الأرض.
وقد روى خصمنا اللدود إيڤلين بارنج المسمى لورد كرومر في أحد تقاريره أن رجلا في صعيد مصر اشترى ألف فدان ودفع ثمنها ذهبا صفقة واحدة، وجاء المال من جهة مجهولة محملا على قطيع من الحمير التي تستعمل في نقل السماد! وقد شهدت في العهد الأخير 1930 حادثة وقعت في قرية الكلح من مديرية قنا خلاصتها أن رجلا كان يخفي تسعة وعشرين ألف جنيه في بيته المبني بالطين، فاتفق ابنه مع آخرين على سرقتها وسرقوها ثم اكتشفت وردت إلى صاحبها، وهذا الرجل لم يفكر في استثمارها في أي عمل نافع. وغيره مئات بل ألوف في الشرق عامة وفي مصر خاصة يكومون الثروة النقدية ويضنون بها على الأعمال ويحبسونها حبسا قبيحا ويبخلون حتى على أنفسهم وأولادهم كأنهم حراس عليها لمن يبددها بعدهم أو يسرقها، ومن هذا النوع نظام الوقف المنحوس الذي يحبس عقار الواقف ليضمن أرزاق أولاده وأحفاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ... وهذا الحبس نفسه دليل على عدم تمسك المسلمين بالقضاء والقدر وضمان الأرزاق، إذ لو آمنوا بذلك لعلموا أولادهم وتركوهم يسعون في الأرض في سبيل معايشهم كما يصنع أغنياء الأوروبيين والأمريكان. وكأني بالشرقي والمصري لا يحسب المال وسيلة للكسب والربح أو ذريعة لتبادل المنافع، بل كان يحسبه كنزا يجب على صاحبه أن يحرص على إخفائه ودفنه ليوم عبوس قمطرير، ومن أمثالهم «القرش الأبيض ينفع في النهار الأسود»!
فكان استجلاب البضائع الأوروبية وسيلة لاستخراج تلك الكنوز بحيلة شيطانية، فإن الأوروبي عمل على تعطيل نهضة الشرق وانتقاله من طور الزراعة إلى طور الصناعة فتراكمت الأموال لديه والشرقي محتاج إلى تلك الصناعات، فأقبل مضطرا في أول الأمر على شراء منتوجات أوروبا حتى النسيج الذي يصنع منه ثيابه. والعجيب أن القطن المصري الذي كان يباع بأقل الأثمان يذهب إلى أوروبا ويعود في شكل قماش فيباع بأغلى الأثمان، وربما كان قنطار القطن الذي ثمنه أربعة أو خمسة جنيهات يباع لنا بمائة أو مائتين من الجنيهات، فالفرق بين ثمن الخام وبين المصنوع يقع في جيوب الأجانب فينتفع به عمالهم وأرباب المصانع وذوو رءوس الأموال وشركات النقل والملاحة. وكان الجدير بنا أن تكون لنا كل تلك الثمرة، والأدهى أن الجيد من محصولاتنا لا يصل إلى أيدينا، فالقطن الجيد تصنع منه أقمشة لا نراها ولا يرد إلينا إلا المصنوع من القطن الوسط والرديء. وكان رجال فضلاء أمثال المرحوم الجمال يسافر في كل عام إلى إنجلترا ليطلب «طلبية» من المصانع ويتفنن في اختيار الرسوم والألوان ويشدد في عدد الخيوط التي تدخل في النسيج سدى ولحمة، ولكنه لم يفكر يوما في أن يصنع بنفسه نسيجا لمتاجره، ولعله لجأ إلى بعض الأغنياء فخذلوه أو حسدوه وأبوا أن يكون له الفضل في مثل هذا الابتكار. وفي حين أن أكابر السائحين كانوا يقبلون على شراء منسوجاتنا الجميلة من الحرير والقصب والمخمل ويدفعون الألوف ثمنا للسجاجيد الشرقية أو الأواني النحاسية المنقوشة أو للخشب المطعم بالصدف والعاج، كنت ترانا مرغمين بحكم الاستعجال والفقر والاضطرار مقبلين على شراء أحقر الأقمشة التي ترد إلينا من فبريقاتهم. وقد كان للمرأة المصرية الجاهلة أعظم نصيب في خراب المصري الوسط والغني، لأن جهلها وبذخها وغرورها وبغضها للبساطة والجمال الطبيعي أغرتها جميعا على الإقبال على المتاجر الإفرنجية لتشتري منها صنوف الحرير والمخمل والكريب دي شين والكريب جورجيت والفايلا والمانيلا والباتستا والحرير الهندي (اسما فقط) والدنتلات والشرائط والخروجات والخرز ومئات الأصناف من حاجات لبسها وزينتها. فكانت المرأة المصرية الآخذة بأهداب المودة تنهب أموال أسرتها المصرية لتصبها في جيوب الأجانب بإسراف لم يسبق له مثيل، دع عنك ما تنفقه في أسباب الزينة والتواليت الخداعة من دهون ومساحيق وكحل وعطور بعد أن أعرضت عن «حسن يوسف» و«خضاب الميدان» وصنوف الطيب والعطور التي تملأ حوانيت التربيعة، وإن كان معظمها مستجلبا واأسفاه من أوروبا! ولم يكن الرجل الشرقي بأقل إقبالا على خراب نفسه من هذه الجهة، فإنه إذا كان يلبس الملابس الإفرنجية فهو من رأسه إلى أخمص قدمه مجهز من أوروبا، فطربوشه من النمسا، وزره من تركيا، وقميصه من فرنسا، وربطة عنقه من إيطاليا، وزرايره من تشيكوسلوڤاكيا، وقماش بدلته من شفيلد أو برمنجهام أو ولڤرهامبتون، وجواربه من أمريكا أو لندن، وحذاؤه من إنجلترا أو سويسرا، وثيابه التحتانية الصوفية منها والقطنية من ألمانيا أو اليابان، ولم يبق بعد ذلك إلا صورة اللحم والدم، والله أعلم كم من الأمم اشتركت في تكوينها! دع عنك عاداته الأخرى اليومية فهو يركب في سيارة إنجليزية أو فرنسية ويشرب مشروبا أسكتلنديا ويدخن سجاير من هولندا ويقبض على عصا مصنوعة في يوجوسلافيا.
الحاجات الجديدة خلقت عادات جديدة
وقد كانت أوروبا في إدخال صناعاتها ومتاجرها في بلادنا حاذقة ماكرة، إنها عرفت أن عرض البضاعة يجذب الأفكار إليها، وأن شراءها يوجد فينا عادة تتأصل في نفوسنا، والإنسان بطبيعته أسير عادته ورهن حاجته التي تصبو نفسه إليها. وقد قرأت مرة أن رجلا أحب فتاة فقيرة جميلة وأراد أن يستولي عليها رغم إرادتها فأرسل إليها من عودها على التأنق في الملبس والمأكل ثم فارقها، فاحتاجت إلى ما ذاقته من أطراف النعمة فوقعت فريسة سهلة في حبائل عاشقها الذي أسرها بما كان ينقصها مما تعودته من ضروب البذخ والرفاهية، فباعت نفسها له بيع السماح، وقد كان هذا هو عين الدور الذي لعبته معنا أوروبا فإنها فتنتنا بمخترعاتها وصناعاتها حتى تعودناها ثم تركتنا نجري وراءها، وقد قال أحد علماء الاقتصاد الغربي:
إن الاطلاع على المخترعات العصرية وأنواع الأغذية والآنية الحديثة مما لم يكن موجودا من قبل قد دعا إلى ظهور حاجات جديدة ما لبثت أن ساقت المنازع النفسية حتى رسخت واستقرت فيها.
لقد أتممت دراستي الثانوية والعليا على نور مصباح البترول، ولكنني منذ تعودت القراءة على نور الكهرباء لا أستطيع الرجوع إلى غاز الاستصباح إلا مضطرا وفي ظروف قاهرة، وكنت أنام قبل سفري إلى أوروبا على سرير من الحديد (صنع فيلبس من فضلك!) فلما رأيت في أوروبا أسرة الخشب ونمت عليها واستطبتها لم تعد أسرة الحديد تحلو لي. وكنت قبل سفري إلى أوروبا آكل مع أهلي على «الطابلية» أو الخوان وأجلس متربعا، والآن لا أملك الأكل إلا جالسا على كرسي أمام مائدة أوروبية ... وقس على ذلك تلمس داءنا الدفين الذي تواطأنا بجهلنا مع أوروبا على تمكينه من أفئدتنا وعقولنا، لقد رأيت عمالا من اليابان في إحدى البواخر الأوروبية إذا حان وقت الطعام ينتحون جانبا ويأخذون في الأكل من أوعية ملئت أرزا وفي أيديهم قضبان صغيرة من الخشب يلتقفون بها حبات الأرز بسرعة مدهشة تدعو إلى العجب ثم يشربون الشاي الذي صنعوه في آنية يابانية فعجبت لهم، وعجبت كيف أنهم وهم يخالطون الأوروبيين ويعملون في خدمتهم قد أعرضوا عن الموائد الحافلة بصحاف اللحم والمرق والأسماك والخضر والبقول واكتفوا بطعامهم هذا على طريقتهم الوطنية. وقد اقتنعت أن تمسكهم بعاداتهم (حتى إنني رأيت بعض النبيلات منهن على ظهر تلك الباخرة يحملن وراء ظهورهن وسائد هي رمز الشرف ولم يتخلين عنها)، لم يكن ذلك التمسك عائقا لهم عن مجاراة الأوروبيين في المدنية المادية والقوة الحربية وحشد الجيوش وتجهيز الأساطيل وإطلاق المدافع.
هذا هو المصرف الأكبر الذي ذهبت إليه ثروة الشرق المخزونة. على أن الأوروبيين الذين أرسلوا إلينا بضائعهم لم يقتصروا على ذلك، بل إنهم أرسلوا إلينا رءوس أموالهم لغايتين؛ الأولى: رهن الأراضي العقارية وامتلاكها بالتدريج وسلب أموالنا أرباحا مركبة وفوائد باهظة، وهذا عمل المصارف العقارية في مصر وسواها. والثانية: استثمار موارد ثروتنا المعدنية التي لا تزال بكرا، سواء بصنع السكك الحديدية أو مد خطوط الترام أو تسيير سيارات حافلة (كشركة ثورنيكروفث) أو استخراج البترول أو تأسيس المدن التي صارت آهلة بالسكان منا وقد شادها عمالنا والثروة للأجانب (هليوبوليس) وآلاف من المشروعات الأخرى، ووظيفة المصري فيها وظيفة العامل الأجير والعبد الحقير الذي يعمل بقوت يومه ويطرد في أي وقت وعند شيخوخته يلقى به ليموت في الطريق أو في أحضان عيلة هي من الفقر بحيث لا تملك ثمن أكفانه، والأوروبي هو الرئيس والمدير العام، والمتسلط على كل صغيرة وكبيرة، حتى إن النور في عاصمة القطر المصري في يد شركة أجنبية، والماء الماء الذي نشربه من النيل السعيد أو الشقي بنا في يد شركة أجنبية، والنقل العام والخاص في أيدي شركات أجنبية، وأعظم الفنادق والمطاعم ومشارب القهوة والحانات كل ذلك في أيدي الأجانب. فالمصري في بلاده بل الشرقي في أنحاء شرقه عامل حقير ووسيط ينقل المال ويتعب فيه بعمله وجده وكده ليعطيه هينا لينا عفوا صفوا للسيد الأجنبي، وليس الأجنبي هنا هو الإنجليزي المحتل للبلاد بجيشه وقوته، بل الأجنبي هنا هو كل من هب ودب ودرج من بلاد الغرب كالرومي والبلقاني (أماكن بيع الفول المدمس ومطاعم الفقراء في أيدي جماعة من البلغار، وقد أحسنوا إدارتها أيما إحسان) والمالطي والطلياني والإسباني والألماني وغيرهم. والإنجليز قد تهاونوا مع هؤلاء الأجانب وسهلوا لهم العيش مع تمتعهم بالامتيازات الأجنبية، ليكونوا لهم سندا عند قيام الحركات الوطنية، فإن الأوروبي غير الإنجليزي يعلم يقينا أنه لولا الإنجليز ما كان له أن يتحكم في مصر هذا التحكم الجائر، ربما كان له حق الضيافة والارتزاق في حدود المعقول، ولكن التملك والصولة لم تكونا له إن لم يشد أزره البريطاني الذي يحلب البقرة ويسمح لغيره بحلبها أيضا ...
وبعد أن كان اليهودي والأرمني هما وحدهما المشهورين بتعاطي الربا والرهون في المنقول، أصبحت جميع الطوائف تستغلنا من هذا السبيل أيضا وتنسف أموال الأسر الكريمة بالاستيلاء على أفئدة السفهاء من أبنائها وأحفادها.
المخدرات ثالثة الأثافي
وكانت ثالثة الأثافي أن أخرجت لنا أوروبا منذ عشرين عاما صنوف المخدرات والسموم البيضاء، فجاء الكوكايين والهيرويين قاضيين على البقية الباقية من أموالنا وعقولنا وأخلاقنا. وعليك أن تقرأ تقرير رسل باشا حكمدار القاهرة لتعلم مقدار تفشي هذا الوباء بين ظهرانينا، وهو وباء لم تصل إلى عشر معشار أذاه صنوف المخدرات التي تعود عليها الشرقي قديما كالقنب الهندي والأفيون والمعجون المصنوع من حشيشة الدينار وأشباهها. وعليك أن تدخل إلى إحدى جلسات المحاكم الجنائية في أنحاء القطر المصري لا سيما محاكم العواصم لترى أن تسعين من مائة من القضايا هي قضايا المخدرات وإحرازها وتعاطيها والاتجار بها، حتى تظن أن الجرائم الأخرى المنصوص عليها في قانون العقوبات قد اختفت وتلاشت، ونسخت من الوجود جرائم السرقة والاحتيال والتعدي على المال والعرض وأصبح العقل المصري مشغولا بالتخدير ... وحتى إن بعض القنصليات الأجنبية، بواسطة بعض موظفيها المتمايزين، كانت لهم أيد في تهريب تلك المخدرات، دع عنك بعض قباطنة البواخر وضباطها وبحارتها وبعض ضباط الجيوش الأجنبية وجنودهم، كل هؤلاء قد اشتركوا في القضاء علينا وعلى أموالنا وأخلاقنا وقد أعلنوا علينا حربا عوانا سوف تنتهي إن لم نتيقظ في اللحظة الأخيرة بهلاكنا وإبادتنا عن آخرنا، كما فني أهل أستراليا وأهل أمريكا الأصلاء.
ومعظم البلاء في كل ما تقدم واقع على الشرقي والعربي والمصري، فهم الذين يذهبون ضحية أولى، ومثلهم كمثل الجنود العاديين في الميدان.
أما الطبقة الوسطى والطبقة المتعلمة فربما كان لديهما شيء من المقاومة بفضل قشور العلم وبفضل البقية الباقية من المال والنشب، ولاعتماد أفرادهما في الغالب على مرتبات الحكومة التي يتقاضاها الموظفون وكادت تستغرق نصف ميزانية الدولة أو ثلثيها.
وقد ادعى بعضهم أن مصر خالية من العمال لأن ليس بها مصانع وأن معظم سكانها زراع يعيشون في الحقول، وقد كان هذا صحيحا إلى أواخر القرن التاسع عشر، أما من بداية القرن العشرين فقد أخذ جيش من الفلاحين يتدفق على العواصم والبنادر للسعي على القوت أو لانجذابهم نحو المدنية البراقة الخلابة بفعل الميل إلى كل جديد، وكانوا يترامون على المدن كما يترامى الفراش على النار.
وقصة هؤلاء التعساء محزنة للغاية، فإن قراهم في الصعيد أو في الوجه البحري قد وصلت إلى أسفل درك من الفقر والقذارة، وقل العمال فيها لأن معظم سادتها وأرباب الأملاك فيها هجروها، والناس على دين سادتهم فقلدوهم أو تعلم بعضهم تعليما أوليا فأصبحت الحياة في القرية لا تروقه، فجاءوا إلى المدن زرافات ووحدانا. ومن هؤلاء تجد في شوارع القاهرة ألوفا مؤلفة، وبعضهم يعملون في العمارات والمباني أجراء يربحون عيشهم مياومة، وبعضهم يرتزقون ببيع الخردوات القليلة الثمن، وبعضهم يبيعون أوراق النصيب، والبعض يرتزقون ببيع الفول السوداني والحمص والحلوى والصحف ... وإنك لتدهش إذ ترى أمامك جيشا من العمالقة الأصحاء الأبدان والأبصار الأقوياء البنية يحومون حول المارة والراكبين يعرضون بضائعهم الحقيرة ويبيعونها بأبخس الأثمان مما تتخيل أنه لا يكفي لقوتهم في وجبة واحدة وتنحي على الأمة باللائمة لأنها لا تستثمر قوة هؤلاء الأشخاص في الأعمال النافعة المنتجة وتحدثك نفسك أن حكومة رشيدة تستطيع أن تحشد منهم جيشا يفتح أفريقيا، لأنهم لا يقلون في طول القامة وتقسيم البدن وقوة الجلد عن حرس الإمبراطور فردريك الأكبر. وهذا هو الذي حدث فعلا في أثناء الحرب العظمى، فإن إنجلترا جندت منهم فرق العمال الذين كان لهم نصيب في نصرة الحلفاء كما قال بذلك لورد اللنبي في خطبة ألقاها بمصر الجديدة، ولكن مصر في زمن السلم ليست بحاجة إلى جيش والمعاهدات الدولية تعوقها عن تكوينه.
وإنك إذا سرت متغلغلا في الأحياء الوطنية التي يسكنها هؤلاء الناس في خط الزهار أو عشش الترجمان أو ضواحي بولاق وناحية العطوف وطولون؛ رأيت مظهرا آخر من مظاهر الحياة، فإن هؤلاء الأشخاص يعيشون في غرف ضيقة مظلمة، وقد يحشد عشرون منهم في غرفة واحدة ويعرضون أنفسهم لفساد الأخلاق، ومنهم يحشد جيش الجريمة: فمنهم تجار المخدرات بالقطاعي، ومنهم الذين يؤجرون على القتل والضرب وشي الوجوه بحامض الكبريتيك، ومنهم حماة الدعارة، ومنهم من يأوي اللصوص ويؤلف العصابات لقطع الطريق وسرقة المنازل ليلا ونهارا. وهم ليسوا في القاهرة وحدها بل في جميع أنحاء القطر المصري، سبب لخلل الأمن وذهاب الطمأنينة من النفوس وعامل من أقوى العوامل في الشر والأذى. وقد اتخذ بعضهم أماكن لتعاطي المخدرات بالحقن تحت الجلد يسمونها «عيادات»، وهي مغاور تحت الأرض ينتشر فيها الموت والقتل وبذل النفس والعرض في سبيل ملاذ التخدير بالسموم البيضاء، وقد ذهب الكثيرون ضحية هذه المغاور التي لم تصل إليها جحور الأفيون التي وصفها مؤلف قصة روكامبول.
بيد أن هؤلاء الناس لو نظرت إلى حقيقة أمرهم وهم يستحقون في نظرك الإعدام شنقا أو على الأقل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة؛ لرأيتهم في نهاية الأمر يستحقون الحنان والشفقة، لأنهم ضحايا الجهل والفقر، وقد ألقي حبلهم على غاربهم، فتراهم يهيمون على وجوههم كبهيمة الأنعام، وكأنهم بعثوا قصدا ليعيثوا في الأرض فسادا وليهلكوا أنفسهم بأيديهم ويهلكوا سواهم، وهم قصر لا ولي لهم ومضيعون ليس لهم من يرشدهم.
ولو عرفت أن هؤلاء هم خيرة الرجولة المصرية الحقة، وأن سواعدهم القوية يمكنها أن تعمل في الحقول وفي المصانع وفي الجندية، ولو أنك علمتهم ربما ظهر منهم نوابغ؛ لو علمت ذلك لأدركت أن الداء دفين وأن الجرح أبعد غورا مما تظن، وأن الشر المنتظر أكثر مما يصل إليه حساب حاسب.
بيد أن هناك فريقا آخر من الأمة المصرية هم الذين يعملون في المعامل منذ بداية هذا القرن، وقد لجئوا للصناعات الموجودة مثل محالج القطن ومصانع الدخان والمطابع. وهؤلاء لهم قصة أخرى، فقد زار مصر في عام 1908 المستر بريسلفورد الكاتب الإنجليزي الاقتصادي وكتب في جريدة الديلي نيوز مقالات وصف بها ما رآه خاصا بالعمال ونقلت مقالاته إلى الصحف العربية، قال:
ليس في مصر قانون للعمال لأنه لم يكن بها مصانع، وأغلبية الشعب تعمل في الحقول، ولكن في مصر محالج للقطن يعمل بها العمال ثلث العام أو نصفه وهم يعدون القطن للشحن والتصدير بعد حلجه وتخليصه من البذور، ويعمل في هذه المحالج أطفال ونساء ورجال، فأجرة البالغ تتراوح بين ثلاثة قروش وأربعة وأجرة الصغير من قرشين إلى قرشين ونصف إن كان ماهرا، أما ساعات العمل فلا قيد لها فقد يعمل الكبير والصغير اثنتي عشرة ساعة أو خمس عشرة ساعة بدون رقيب ولا حسيب، وعند ازدياد العمل قد يعمل الأطفال اثنتي عشرة ساعة ليلا فضلا عن النهار.
فأين بربك يوم الثماني ساعات؟ وأين الرحمة بالأطفال؟ وقد قامت كاتبة إنجليزية في 1931 تنعي على بعض المصانع سوء معاملة الأطفال، وذكرت أنهم يعملون في مصر ووراءهم قائد يسوقهم بالسياط كما لو كانوا في عهد الفراعنة أو كأنهم محكوم عليهم بالأشغال الشاقة. وقد قامت بشأنهم ضجة ثم خفت صوت الاحتجاج، فكأننا من سنة 1908 إلى 1930 لم تتغير الأحوال من حيث عمل الأطفال في المصانع المصرية.
من الأقوال الشائعة عن مصر أنها لم تغير أدوات الزرع والحرث والري التي ألفتها منذ آلاف السنين، وقد أخذ هذا دليلا على الجمود، والتمسك بالقديم، والإعراض عن الابتكار والتجديد. وعندما اخترعت أدوات حديثة لاستخراج الحجارة من المقالع قعد المصريون عن الانتفاع بتلك الأدوات وبقيت مبانيهم على ما كانت عليه، وما ذلك إلا لانطباع المصريين بطابع الجمود، فهم أسرى العادات والنظم المتفق عليها، حتى في أروع المواقف وأفجعها تراهم على حال من الفتور تدهش اللبيب ذا الحساسة.
ولا يقف نقد الناقدين عند هذا الحد، فقد ادعى أحدهم أننا ينقصنا المثل الأعلى، وأن تاريخنا القديم كله لم يخرج شخصية قوية ولم يغن العالم بشرارة عبقرية واحدة، لأن التقليد ديدننا ولأن مواهبنا محدودة بالمحافظة على كل عتيق. وقد استشهدوا بآثارنا فادعوا أن تماثيلنا كلها تصور الشخص الإنساني في وضع واحد لا يتغير وهو وضع مصطنع مستحيل فترى الشخص جالسا أو واقفا مطبقا يديه ومحدقا بك، كأن التمثال الحجري منقول عن شخص من جماد، وليس بين الآثار المصرية ما يدل على نبوغ المثال سوى تمثال الكاتب في متحف اللوفر وهو من أعمال الأسرة الرابعة.
الفصل الرابع عشر
مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
مصر بلد أغنته الطبيعة
وإنهم يعللون هذه الحال بأن أرض مصر هي مخلوقة النيل وهبته وصنيعته، فلا حياة لها إلا بالزراعة فإن النيل جعل من الفلاح زارعا، وكان نجاح مصر وتفوقها راجعا إلى استثمار الأرض، فلم تستطع مصر الخروج عن هذه الدائرة دائرة الطين والزرع، وأن انحطاطها العقلي راجع بلا ريب إلى أسباب اقتصادية، فإن الطبقات الحاكمة استولت على ثروة البلاد لمصلحة أفراد متمايزين يعدون على الأصابع، وأن هؤلاء الأفراد لم تكن لهم إلا غاية واحدة وهي أن يستبقوا الفلاحين في العمل الدائم، ليجلبوا لهم خيرات الأرض فينفقوها هم في شهواتهم وصنوف تمتعهم، في حين أن الفلاح يبقى طول حياته عاملا كالرقيق. أما أرباب الصناعات فقد قسموهم فرقا ولم يجعلوا لهم أفقا من المطامع ولم يفسحوا لهم مجال التقدم والنجاح، فسرعان ما سقطوا إلى مستوى منحط بين البلادة والكسل وفقد الرجاء في المستقبل. أما الكتابة والتدوين وصنعة القلم فقد أمست رهن إرادة الأمراء يستخدمون أربابها في مقاصدهم ويسخرونهم في أعمالهم، ككتابة السر وتقييد أرقام الدخل والخرج ومخاطبة الفراعنة العظماء وكتابة الأحجبة والتمائم.
وكانت غاية المصري أن يعيش لشهواته في هذه الحياة وأن تستمر تلك الشهوات مع ما يحيط بها من التمتع حتى بعد الموت وما وراء القبور، فانصرفت همة الفراعنة والمهندسين ورجال العمارة إلى تشييد تلك الآثار من أهرام وغيرها وتزيينها في سبيل الموت وبقاء الجسد، وما غايتهم من تلك المباني المشيدة والحصون التي تناطح السماء وتحارب الدهور إلا الاحتفاظ بالأجساد المحنطة وصيانة الحلي والجواهر والتحف التي أودعوها قبورهم.
ولم يغب عن ذهن الناقدين لتاريخنا أن الأمم التي تغنيها الطبيعة وتوفر لها جميع مطالبها المادية هيهات أن تتطلع إلى شيء من صنوف المجد الذي تتطلع إليه الأمم الفقيرة المدفوعة بحكم الطبيعة إلى الجهاد والعمل.
فإن الطبيعة السخية في قطر من الأقطار تمنع أبناءه عن البذل وتوفر عليهم الجهود، لأن الفرد الإنساني إنما يبتكر ويتحايل ويتفنن في حالة الحاجة والعوز، إنما إذا لم يكن معوزا ولم يكن تنقصه مطالبه المادية فهو بمثابة رب المال الذي يعيش من إيراده، فما عليه إلا أن يمد يده ليقتطف ثمار الأرض الغنية. وترى الرجل الذي لا يؤمل ربحا سريعا مباشرا في بلاد أرضها خصبة لا يمد يده للعمل، أما الرجل الذي يعيش في واد غير خصيب أو في أرض جبلية فهو يرى صعوبة العمل ولا يرجو النتيجة إلا في المستقبل فيبدأ بالاجتهاد، فلذا كان غنى الأقطار من البلاء على أهليها في بعض الأحيان.
لقد خلق الرجل ليجدد ويخلق ويبتكر ويوجد مثلا عليا حيث لا توجد، فإذا ما كانت الطبيعة سخية خصبة يمسي الرجل الذي هو الزعيم والمقدم بين مخلوقاتها وهو لا يزيد عن أحد خدامها وكأنه جزء ضئيل في آلة صناعية مهولة لا رأي له ولا إرادة، وبالتدريج تبطل مواهبه وتتعطل فيعود فردا عاديا عاملا كالرقيق.
ولا يقتصر الجمود والعقم على ذكاء الاستثمار المادي بل يتعداه إلى الفنون فتجدب أرضها أيضا وتفتقر العقول فلا يظهر شاعر ولا كاتب ولا مصور، وتبقى تلك الفنون النفيسة وقفا على فريق صغير من الأغنياء الذين لديهم من المال والأرزاق ما يضمن لهم فرص الفراغ يتلهون فيها بالفنون، ولكن هؤلاء مهما بلغت ثروتهم ومهما أنفقوا من ملايين فلا يصلون إلى شيء ذي قيمة من الفنون فإن العبقرية الأدبية والفنية لا تبيع نفسها بالمال.
غير أن زيادة الغنى ليست وحدها هي التي تقضي على العقول والمواهب، بل إن الفقر أيضا يقضي على العقول والمواهب ويقبرها، وأن بقاء الحكم في أيدي فرد أو جماعة يرهقون الشعب إرهاقا مستمرا في سبيل الحصول على المال سوف يعقبه العقم العقلي.
ولقد كانت المدن المصرية ملكا للأغنياء ولا يؤمها الشعب الذي انقطع لخدمة سادته في الحقول، فكانت المدن المصرية أو المكسيكية (لشدة الشبه بين المدنيتين) مظهرا للثراء والأبهة، ولم تكن فيها طبقات من الفقراء إلا مسخرين في خدمة مواليهم.
أما المدن التي تأسست في ممالك أخرى ولم تكن الطبيعة قد حبتها من الخصب ما تمتعت به بعض المدن الشرقية في التاريخ القديم، فقد كانت على فقرها السابق مصدرا للنور في العصور الحديثة، لأن فقرها وفقر سكانها أعدهم للنجاح في الجهاد وجعلهم مصدرا للأفكار الوهاجة التي دفعت بالإنسانية إلى الأمام، لأن الجهاد والكفاح قد دربا أهل تلك المدن وفتحا لهم الطريق فكانت تلك المدن مصدر المدنية الحديثة سواء مباشرة أو بالواسطة، وإليك أمثلة: أثينا ورومة وأورشليم ومكة وفلورنس وباريس.
الكفاح الاقتصادي والاجتهاد
وإنك إذا رجعت إلى حقارة الأجور التي يتناولها العامل المصري وقارنتها بالأجر الذي يتقاضاه العامل الإفرنجي في مصر ذاتها وفي العمل نفسه؛ سمعت من يقول لك، وقد يكون المجيب مصريا: «كيف تنتظر أن يستوي المصري والأجنبي في الأجور؟ هل غاب عن فطنتك أن العامل المصري يأكل الفول والطعمية ويلبس الخلقان ويعيش في كوخ أشبه بقن الدجاج، في حين أن العامل الإفرنجي يأكل اللحم والبقول ويشرب النبيذ ويلبس السراويل والقبعة، ويعيش في بيت محترم وله زوجة وأولاد؟»
وقد صدق المعترض، فإننا قد رضينا من شظف العيش وقشف الطعام وقنعنا بأقذر الثياب وأحقرها وأدنى السكنى وأرذلها، فقيمتنا لا تتجاوز مظاهر حياتنا. وقد فرط العامل المصري في أشد الأشياء مساسا بكيانه وهي القوت والثوب والسكن التي من أجلها يعمل، فإن لم تتوافر له على أسلوب مقبول فبئست الحياة وبئس العمل وبئس الوجود! ولعمرك ماذا يرغمه على الصبر على هذه الحال والبقاء عليها أجيالا بعد أجيال، ثم هو ينشئ أولاده عليها ويلقنهم الرضوخ لها ظنا منه أو زعما أنه لا يجد أفضل منها؟ ثم ماذا تنتظر من ذلك العامل التعس الحقير الذي يتناول نزر الأجور ويعيش العيش الشظف ويأكل الطعام القشف؟ ألا تراه يغدو بعد ذلك ضعيف البنية قليل العزم فاتر الهمة نادر الإنتاج مهما أمعن في العمل ومهما قضى من ساعات الليل والنهار؟ لقد رأيت منذ عشرين عاما عمالا في بعض مصانع الحرير في مدينة د ... يعملون في بناء متهدم وقد جلسوا صفوفا رجالا ونساء وأطفالا وهم نحال الأبدان صفر الوجوه قد دب إلى أبدانهم داء السل وفشت فيهم الأنيميا والبلهارسيا، وهم يعملون صابرين طوال النهار لمصلحة رجل يعيش بجوارهم في قصر منيف محاطا بأفخر الأثاث والرياش ويلبس أفخر الثياب ويأكل أشهى الطعام وله أولاد كالخنانيص وكلهم من الجهل على أعظم نصيب، فتخيلت أن الشيطان قد أوصل أنبوبة من هؤلاء الفقراء إلى شرايين هذا الغني حتى أفرغ دماءهم القوية في جسمه وجسم أولاده وترك العمال كما تترك دودة القز بعد إخراج خيوطها. وقد علمت أن مصنعا فخما قد شيد وتحسنت حال العمال.
وفي سنة 1920 رأيت في القاهرة في جهة «السبع قيعان» خرائب يسمونها معامل يعمل فيها رجال على هذه الطريقة عينها لحساب أرباب الأموال من تجار الشاهي والقطني، فعلمت أن الأمر ليس قاصرا على الأرياف بل إنه أيضا في قلب العاصمة وبين سمعها وبصرها، وهؤلاء العمال مسئولون عن حالتهم لعدم استقامتهم في أمورهم.
وليست طبقة العمال في مصر في عهدها الحاضر بصالحة للاستفادة من الأنظمة الحديثة، لأن معظمهم من حثالة الطبقة العاملة ولا يدخلون في حظيرة المعمل إلا بعد أن يطرقوا جميع سبل الرزق فيجدوها منسدة في وجوههم، فينقلبون إلى تلك الخرائب التي لا تحسن إلا للحشرات ويقنعون بما فيها لأنها ملجؤهم الأخير، وهمهم أن يخطفوا أجورهم لينفقوها في طعام قليل وشر كثير. وقد رأيت في مصنع حاطون الذي يصنع التحف الشرقية عاملا يعمل في حفر النحاس ويتقاضى جنيها في اليوم، ولكن هذا العامل الحاذق الماهر الهادئ ينفق كل ربحه في تدخين الحشيش، فالعامل وحده هو المخطئ والمسئول عن فقره.
وعلمت من بعض أرباب الأعمال أن معظم العمال المصريين إذا تحسنت حالتهم قليلا أسرعوا إلى ترك العمل لينفقوا ما ادخروه في الكسل والرقاد والملاهي الدنيئة حتى إذا جف معينهم عادوا يتلكئون ويتوسلون إلى صاحب العمل ليقبلهم، وإما يزايلون العمل بتاتا لينتظروا عملا أفضل من الأول فلا يعودون إلى مصنعهم الأول بتاتا. وإنك إذا غشيت محاكم الجنح والجنايات رأيت فريق المتهمين بالسرقة والنشل والتخدير والاحتيال كلهم من طبقة هؤلاء العمال الذين أتقنوا صنعة من الصناعات ثم تركوها إلى الإجرام بحكم سوء التربية أو رفقاء السوء أو العدوى الخلقية من السجون وسواها. وقد يفضل أحدهم بعض الأعمال السهلة كأن يكون كمساريا في الترام أو في السيارات الحافلة لأن العمل فيها أهون وربحها أوفر، ولأن الصناعات المصرية قد اضمحلت وماتت ولم يعد لها شأن يذكر، فسدت في وجوههم أبواب الرزق وأمسوا عاطلين. فالعامل هو الملوم وهو وحده المسئول.
ولو كان العامل من هذه الطبقة يعيش بمفرده لهان الخطب وعلمنا أنه فرد يذهب ضحية أخلاقه وكسله وتهاون الأمة في شأنه وضحية الاستعمار الأوروبي، ولكن قد يكون أحدهم رب أسرة وله زوجة وأولاد بل قد يكون له زوجتان أو ثلاث، وله من كل منهم سلسلة من الأطفال. وقد اشتهر المصري بأنه إذا كان أعزب ووجد في جيبه قليلا من المال لجأ إلى الزواج، وقد تطول فترة الزواج أو لا تطول لأن باب الطلاق مفتوح، وإن هو لم يطلق امرأته تركها أشهرا بغير نفقة ولا قوت ولا كسوة، وربما أنفق ما يربحه في زيجة أخرى أو في حب امرأة فاسدة من طبقته. ولو اتبعوا الدين ومكارم الأخلاق حسنت حالهم.
فكيف السبيل إلى النهوض من تلك العثرة والخروج من تلك الورطة والنجاة من ذلك المأزق، ونحن نيام وخصومنا متيقظون، وكلما خطا الشرق خطوة (على افتراض أنه يخطو مع أنه ساكن لا يتحرك) خطا الغرب خطوتين، وعندما شرعنا في ركوب الدراجات والسيارات تكون أوروبا قد وفقت إلى صنع الطائرة والمنطاد وبلغ فن الطيران غاية الكمال كما حدث فعلا بعد الحرب العظمى، فإن أوروبا استفادت من الكارثة ببعض الفنون فخلقت الطيران المدني للنقل والبريد، وسار المقيم في القاهرة يستطيع الوصول إلى بغداد عاصمة هارون الرشيد في ثماني ساعات! بعد أن كان يقطع المسافة في الصحراء في خمسين يوما مستهدفا لأخطار البر والبحر والسماء وقطاع الطريق، وذلك لعمري نجاح لم يحلم به سليمان ولا عفاريت سليمان؟!
والأدهى أننا وإن كنا نركب الدراجة والسيارة فإننا حتى الساعة لا نملك صنعهما ولا تصليحهما كما يجب، وقد قال لي أحد أصحاب ملاجئ السيارات بالقاهرة: «ليس يا سيدي في مصر ميكانيكي واحد يمكنه أن يصلح مانيتوه فضلا عن صنعه.»
المرحوم فريد بك يلبس طربوشا وطنيا
وإذا تركت حالة العمال قليلا وما هم عليه من الكذب وعدم الوفاء والإهمال والفقر وانتهاز الفرص وسوء معاملة عملائهم سواء في النجارة والحدادة والتنجيد وصنع الأحذية، حيث تجد أسوأ الخلق وأردأ السلوك، ورجعت بنظرك إلى جهود بعض المصريين الأغنياء في إنقاذ بني وطنهم دهشت حقا.
وإليك مأساة صنع الطرابيش في مصر، فإنه عندما نشبت حرب البلقان الأولى وصمم المصريون على مقاطعة الطرابيش النمسوية ولبس المرحوم محمد فريد بك طاقية من الصوف الأبيض من صنع شمال أفريقيا ودخل على حسين رشدي باشا؛ قابله الباشا المذكور بالسخرية وقال له: «سلامة عقلك يا فريد بك!» ونالت منه جرائد الاحتلال إذ ذاك حتى لم يقو الرجل على الاستمرار واضمحلت حركة المقاطعة شيئا فشيئا، فرأى إسماعيل باشا عاصم وهو أحد أبناء الأعيان الأغنياء أن الفرصة سانحة لإيجاد صناعة رائجة في القطر المصري، فتقدم بشجاعة وشمم وبذل جزءا كبيرا من ثروته في تأسيس مصنع للطرابيش في بلدة قها، وقد رأينا هذا المصنع فإذا هو لا يقل عن مصانع أوروبا في شيء، وقد أوجد الطربوش المصري الوطني حقيقة واستخدم عمالا من المصريين وأوجد حركة نشاط لم يسبق لها مثيل في تجارة الصوف وصناعة الأصباغ، وكانت ظروف الحرب ملائمة لانقطاع ورود الطرابيش من أوروبا. وكل أعمى وجاهل وأحمق يرى بعينيه عماه أو جهله أو حماقته أن صناعة كهذه لا بد أن تنجح في مصر أعظم نجاح لأن كل مصري يلبس الطربوش، ولو كان متوسط عدد اللابسين في مصر خمسة أو ستة ملايين وأحدهم يشتري طربوشين في كل عام، فلا أقل من صنع اثني عشر مليون طربوش، وكان من الممكن تصدير مثلها على الأقل أو ضعفها للأقطار الشرقية العربية كسوريا والعراق وشمال أفريقيا والهند وبعض ممالك أفريقيا الوسطى والشرقية.
وقد سار العمل في طريق النجاح واستبشرنا خيرا وكانت فاتحة لا يستهان بها، فماذا جرى؟
كنت تذهب إلى الطرابيشي المصري وتطلب إليه أن يصنع لك طربوشا وطنيا من وارد قها، فيقنعك ذلك المأفون اللئيم بأن طربوش قها رديء ولا يعيش وقابل للقذارة بسرعة، فإذا ألححت زاد في لجاجه، وإن لم تباشر صنع الطربوش بشخصك فهو يغشك ويدس عليك طربوشا آخر وارد إيطاليا ماركة الفلة أو طربوشا إنجليزيا وارد موروم! وكنت إذا بحثت في علة هذه المحاربة الدنيئة، تجد أن ربح الطربوش المصري يقل عن ربح الطربوش الأجنبي لمصلحة الطرابيشي قرشا أو قرشين، ولأن وسطاء النمسا وإيطاليا كانوا يرشون الطرابيشي ليطعن في الطربوش الوطني وينفر منه العميل وهذا نوع من الدعاية التجارية، وربما يبيع الطرابيشي المصري ذمته ببضع ليرات ويحارب الطربوش الوطني حتى قضى على سمعته في السوق.
ليس هذا فحسب بل إن الحكومة المصرية التي كانت تشتري عشرات الألوف من الطرابيش للجيش المصري أعرضت عنه تحت تأثير الضغط الأجنبي! وهكذا تضافرت الظروف السيئة على المشروع حتى دب دبيب اليأس إلى قلب صاحب المصنع بعد أن كان أدخل من ضروب التحسين على الطربوش ما جعله يضارع طربوش النسر.
وفجأة وبدون إنذار سابق قرأنا أن إسماعيل عاصم باشا باع مصنع قها لأرباب مصانع الطرابيش بالنمسا، وأن هؤلاء جاءوا إلى المصنع وخربوه وأتلفوا عدده وأغلقوا أبوابه بعد أن دفعوا ثمنه، وقد ذاع في تلك الأيام أن شريكا سوريا هو الذي أتم تلك الصفقة غدرا مقابل مبلغ من المال وذاع غير ذلك، وأنا لا أعلم مقدارها من الصحة. ولكنني عذرت الباشا في ذلك الحين ولم أر على مسلكه غبارا، فهذا رجل كاد يخرب نفسه في سبيل خدمتهم وهم يخذلونه كأن بينه وبينهم ثأرا قديما! وهكذا خرج ذلك البطل القدير من ميدان المزاحمة الأوروبية مكسورا مهيض الجناح، والفضل في ذلك راجع إلى أبناء وطنه وملته وعمالهم.
والآن وبمناسبة المعرض الزراعي (فبراير سنة 1931) قام فريق من الرقعاء يلبون دعوة تشجيع الصناعات الوطنية (مرحى! مرحى!) ويطوفون وعلى رءوسهم الفارغة طاقية من اللباد مصبوغة بالتفتاء الحمراء، ويعرضونها للبيع بخمسة قروش وهي لا تساوي نصف قرش، ويلومون أرباب رءوس الأموال من المصريين لأنهم لا يريدون أن يؤسسوا مصنعا للطرابيش ليعيدوا تمثيل الفاجعة الأولى! والأدخل من هذا كله في باب العجب أن الطرابيشي الذي عرض علي هذه القذارة وشكا لي من الأغنياء كان يحارب الطربوش الوطني ويروج للطربوش الإيطالي والنمسوي.
القرية المصرية هجرها ذووها
وإذا اتجهت قليلا شطر القرية المصرية وجدتها خرابا يبابا، فإن بضعة مساكن من الطين لا يدخلها النور ولا الهواء وما عرف ساكنوها النظافة قط، يمر بها مجرى من الماء الآسن العكر المملوء بالديدان وجراثيم البلهارسيا والتيفوئيد، محاطة بأكوام من الطين مملوءة بميكروب الأنكلستوما، وفي كل ناحية مستنقع يمرح فيه بعوض الملاريا، والدواب تعيش جنبا إلى جنب بجوار صاحبها، والروث يمتزج بالغذاء، وأعين الأطفال قلما تنجو من العمى والرمد الحبيبي! هذه صورة صادقة للوسط الذي يعيش فيه الفلاح المصري الذي يخرج خيرات مصر من قطن وقمح وقصب وحبوب وفاكهة، وحالة المسجد والكتاب مما يرثى له، ودوار العمدة نفسه مهما بلغ من الغنى لا يختلف كثيرا عن هذا الوصف. فكانت نتيجة ظهور المدن وتراكم الثروة الزراعية أن الأعيان والأغنياء يهجرون ذلك الجحيم الذي لا تستطيع فيه أن تشرب قطرة ماء نظيفة إلى المدن والعواصم، حيث يبنون القصور أو يشترونها ويتزوجون من النساء «البيض السمان» ويركبون السيارات الفخمة ويلبسون الثياب الحديثة ويحصلون على الرتب والأوسمة من رتبة ميرميران الرفيعة الشأن (وكانت في العهود السابقة تباع نهارا جهارا بقيمة معلومة) ثم يغشون المجالس ولا يلبثون أن يتعودوا شرب الخمر ولعب القمار فيطلقون بلادهم رويدا رويدا، وإذا فني المال الموروث والمدخر انقلبوا إلى سماسرة الرهون فيرهنون أراضيهم في المصارف التي تعاملهم بالربح المركب، ومن تلك اللحظة يصبحون نهبا للوسطاء والمرابين ومصاريف العقود والمحاكم ويعجزون عن تسديد الأقساط ثم ينقرضون واحدا فواحدا، وهذه مأساة تتكرر عاما فعاما وشهرا فشهرا، وتباع تلك الأطيان الخصبة بأبخس الأثمان في المحكمة المختلطة.
وقد خربت القرى وضعفت الزراعة وفسدت الأخلاق، وأخذ صغار الفلاحين يقلدون سادتهم من كبار الملاك وأخذوا يزايلون أراضيهم التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فأصبحت القرى وقد امتصت دماؤها وجفت عروقها خربة منحطة حتى العدم. فكانت تلك الهجرة من الريف أفظع من الهجوم الأجنبي، وقد جرت الفلاحين إلى انتحال الخدمة حتى صاروا لها عبدانا وقتلت روح استقلال الفلاح حتى سلبته جميع قوته وعرقلت الأسباب والوسائل التي تجنى بها أقواتنا وثروتنا، وقد قضت القضاء المبرم على حياة الزراعة والريف.
وإن هذه الحال التي وصفتها عن خبرة في مصر حيث أرى وأسمع، هي بعينها الشائعة في كل أنحاء الشرق العربي، فقد وصفها كتاب الهنود عن الهند أمثال المستر بوز وموكرجي، ووصفها الثعالبي في كتاب «تونس الشهيدة»، وهي الحادثة في سورية والعراق وفي كل قطر حط الأوروبي فيه رحاله.
الفصل الخامس عشر
نظريات الاستعمار وتطور الإمبراطورية
نظرية كيرت ريزلر
لقد بدأ النزاع بين الشرق والغرب قديما فقد هاجم الفرس أتيكا ثم أحرقت أثينا في 480ق.م. وتمكن الأثينيون من صد الفرس في موقعة سلامين. ولما ظهر إسكندر المقدوني أراد أن يثأر لقومه بفتح الشرق ومهاجمة الفرس في وطنهم، فهزمهم في موقعة جرانيكا 234ق.م. ثم هزم دارا في إيسوس في 333، ثم سقطت بابل وسوس وبرسوبوليس في يد الإسكندر فأهلكها ثم فتح الهند وقهر الملك بوروس.
وهلك ذو القرنين في صيف 323 قبل المسيح في حدود الثلاثين بعد أن قضى على مملكة الفرس وفتح مصر والعراق والهند.
ومؤرخو الإفرنج في هذا الزمان يعدونه أول حماة المدنية الأوروبية، لأنه صد هجمات الشرق عن الغرب ورد غزو الشرقيين في نحورهم واحتل بلادهم وأحرقها وغلب ملوكهم وقهرهم، ولولاه ولولا تمستوكليس لكان الغرب قد وقع ضحية للبرابرة الشرقيين.
يزعم الهر كيرت ريزلر في كتاب ألفه في تفسير عظمة إنجلترا الاستعمارية أنها «مدينة لحسن حظها في التأليف بين النظريات والمصالح»، وهو يقصد بذلك إلى أن الإنجليز يوفقون بين المثل العليا في المعتقدات والأخلاق وبين منافعهم، ويجدون من ساستهم وكتابهم فريقا قادرا على التأويل والتخريج والاجتهاد، بحيث يجعلون النظريات والمبادئ منطبقة على كل زمان ومكان، وهم في ذلك ينتفعون بمرونتها وسهولة تمثيلها مع الحوادث فيخضعون للتقلبات السياسية، وهم أبدا يعتمدون في أعمالهم على آراء يتمسكون بها هي في الظاهر خلابة مقنعة للعقول المتوسطة التي هي عقول الكثرة من الناس، ويرى المدرك حقيقتها ويفطن إلى مواطن الضعف فيها فيهاجمها ويهدمها. ولكنها تبقى في حدود المعقول حتى يفهم أصحابها وهم من ذكرنا من الساسة والخطباء ورجال الصحف وغيرهم من الكتاب أنها أصبحت غير صالحة فيغيرونها ويلبسونها ثوبا جديدا، فتبدو للعيان مقبولة معقولة حتى يطول عهدها فتخلق فيجددون كسوتها بثوب جديد. يعني أن السياسة الاستعمارية الإنجليزية ترتكز دائما على سند يبرر العمل السياسي أو العمل الحربي، وأظهر مثال على ذلك فكرة الاستعمار لخير الإنسانية، وادعاء بعضهم بأن في أعناقهم أمانة يؤدونها للجنس البشري وهي مأمورية التمدين والتحرير. فإن تضاءلت تلك الفكرة زعموا بعد حين أنهم يتكبدون مشقة الفتوح والاستعمار لحماية الضعيف من القوي بين الأمم أو مناصرة العدل في أمة واحدة أو حماية عرش أمير أو سلطان أو إنصاف المظلومين من القلة. فلا يدخل الإنجليز مملكة ولا يفتحون بلدا إلا وهم مسلحون ب «وجه حق»، فوجه الحق الذي يطلونه بطلاء القانون يكون صورة محدثة لفكرة الاستعمار.
هذا ما فهمناه من نظرية كيرت ريزلر في تفسير نظرية الخطر الاستعماري الذي صحب الفكرة الإمبراطورية من عهد الملكة إليزاباطا إلى يومنا هذا. وفي الحق أن بعض الحوادث تؤيد نظرية الرجل، فإن عظمة إنجلترا بدأت بانتصارها البحري على أسطول الأرمادا الإسبانية ثم انتصارها على فرنسا في حروب أمريكا في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وهي الحروب المعروفة في التاريخ باسم «الحرب الهندية» نسبة إلى هنود أمريكا الحمر؛ بدأت كارثة عليهم إلى أن تولى أمرهم ويليام بيت الكبير «إيرل شاتام» فأرسل إلى كندا القائد «ولف» وزوده بالمال والسلاح، فاندحر أمامه القائد مونتكام الفرنسي في موقعة كويبك، وأرغمت فرنسا على التنازل عن جميع أملاكها في أمريكا الشمالية، ومن ذلك التاريخ (حوالي 1760) أخذ نجم إنجلترا في الصعود، ولم يتزعزع مركزها بعده إلا مرتين: الأولى عند ظهور نابوليون والثانية في الحرب العظمى لدى حدوث الانقلاب الروسي وسقوط عرش رومانوف، لأن السوفيت زعموا أنهم جاءوا للإنسانية بفكرة جديدة، ففي المرة الأولى خشيت إنجلترا جانب نابوليون، لأنه كان يحمل إلى الشرق رسالة الثورة الفرنسية بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وهذا أعظم مما كانت إنجلترا تنوي التلويح به لمستعمراتها، فلم تكن إنجلترا ترهب نابوليون لأجل جنوده وأسلحته وشجاعته وإقدامه وعلو كعبه في القيادة ومساعدة الأقدار إياه في المواقع بقدر ما كانت تخشى دعايته التي من دأبها تنبيه الأمم الغفلانة وإيقاظها من سبات الأجيال المتراكمة، والإنجليز أبدا يخشون الرجال الأفذاذ لأنهم يحملون آراء وأفكارا. والأفكار تعمل بأقوى مما يعمل الجيش العرمرم، لأن الجيش قد يصمد وقد يفنى ولكن الفكرة تحيا وتسير، والفكرة السائرة أخطر من الجيش الفاتح لأنها تغزو ولا تفقد شيئا من قوتها بل تربح رجالا وأقواما وتنمو كلما سارت. لهذا وحده جمعت إنجلترا كل قواها ووجهتها لمحاربة نابوليون، لا نابوليون القائد البطل الطموح طالب المجد والملك العريض ولكن بونابرت ابن الثورة وربيب حقوق الإنسان.
ولكن هل صدق كيرت ريزلر في تعليله عظمة إنجلترا الاستعمارية بحسن الحظ وقدرة الإنجليز على سياسة الأمم المغلوبة وحبهم السيادة على الشعوب التي تستهدف للوقوع تحت نيرهم؟ نعم صدق، ولكن ليس هذا كل التفسير، فقد أخذ الإنجليز يقلدون الثورة الفرنسية، فينادون أنى ذهبوا بالحرية وقد يحررون أفرادا معدودين، وهم أثناء ذلك يطوون أقواما في ثنايا الإمبراطورية، وقد يعتقون الرقيق من ربق العبودية الممقوتة ثم يقيدونه غداة عتقه بأنظمة اقتصادية وسياسية أشد في حقيقتها من سلاسل رقه الأول.
يدعي مؤرخ ألماني اسمه ويلهلم ديبليوس درس الحياة الإنجليزية في إنجلترا والمستعمرات أن حظ المستعمرات الإنجليزية أفضل من حظ سواها، وأن رعايا إنجلترا أسعد حالا وأوفر نصيبا من العلم والحرية والميسرة ممن عداهم من رعايا فرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال، ويبني على هذا «نظرية أخف الضررين» التي تنتهي بتفضيل إنجلترا في الاستعمار على سواها. وهي نظرية جارحة مؤلمة فوق كونها فاسدة، فقد يلقاك أحد الخوارج من الشرقيين فيقول لك: «الحق أحق بأن يتبع يا أخي! إن حكم الإنجليز أفضل من حكم غيرهم ... تصور أنك خاضع لدولة كذا أو كذا، أفكنت تقدر على كيت وكيت من النعم المعنوية والمادية التي أنت متمتع بها؟» ... هؤلاء الخوارج الذين في قلوبهم مرض وفي بصائرهم زيغ، يفرضون أولا وقبل كل شيء أن الشرقي محكوم بالفطرة ومملوك بإرادة أزلية محتومة، فخير له أن يحمد حظه على نعمة الاستعمار الإنجليزي الذي هو أفضل من غيره. ونحن لا نجادل هؤلاء لأن فساد حجتهم ظاهر والدافع لهم على لبس مسوح المبشر معلوم لنا ولكم، ولكننا نجادل الهر ويلهلم ديبليوس الذي يمتدح الاستعمار البريطاني لأنه أقل ضررا من غيره، فقد غاب عن ذهنه أن المستعمرات الإنجليزية أنواع؛ منها ما هو خاص بأجناس سكسونية أو أوروبية مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وهذه سلكت إنجلترا معها مسلك المسالمة والملاينة والمحاسنة بعد ما كابدت من ثورة أمريكا (الولايات المتحدة) التي دارت رحى حروبها من 1775 إلى 1783. والنوع الثاني: مستعمرات شعوبها تنتمي إلى أجناس ومعتقدات أخرى كالهند وسيلان وزنجبار وأفريقيا الشرقية وغنيا، وهذه الأمم تعاملها إنجلترا معاملة خاصة في سياستها وتعليمها وحكومتها، قد لا تختلف كثيرا عن معاملة هولندا لأهل جاوة وفرنسا لأهل الجزائر ومراكش. وإن الذي يوغر صدر المؤرخ المنصف على الممالك الأوروبية في مستعمراتها هو حكمها لشعوب تخالف جنسها ومعتقداتها، فلو أن هولندا حكمت شعبا أوروبيا هل كانت تسلك في معاملته مسلكها في معاملة أهل جاوا والهند الشرقية؟ وهل مسلك فرنسا في الألزاس واللورين (مهما صرخ المطالبون بالاستقلال) يقرب في شيء من معاملة فرنسا لأهل الجزائر أو أهل سنجال؟ طبعا لا! إذن أفضلية الحكم البريطاني إن كانت هناك أفضلية ظاهرة فهي في مستعمرات أوروبية بالجنس والفطرة، وها هي أيرلندا الجزيرة الزمردية التي لا تبعد عن لندن إلا بضعة أميال لم تنل استقلالها الذاتي إلا بشق الأنفس وبعد أن خربت مدائنها العامرة وفني عظماء رجالها وقاست في الحروب الأهلية ما لا يزال ذكره حاضرا في أذهاننا.
ولعل الهر ويلهلم ديبليوس لم ينس قانون الإصلاح الذي أدخلته إنجلترا على مستعمراتها في سنة 1832 بعد أن رأت تغير الأحوال في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فقد أرغم ساستها على إعطاء الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي لكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وجعلوا لكل من هؤلاء دستورا وبرلمانا ووزارة مسئولة أمام النواب، وهذا هو الشيء الذي يريد الإنجليز إعطاءه للهند الآن بعد أن أعطوه لأستراليا وأخواتها بمائة سنة والهند تأباه. وليست فكرة الاستقلال الذاتي حديثة العهد، إنما ترجع إلى أوائل القرن التاسع عشر، وإليك نصا يؤيدنا من خطبة أحد الوزراء الإنجليز سير ويليام مولزورث في سنة 1850، قال:
يجب علينا أن ننظر إلى مستعمراتنا كأجزاء من الإمبراطورية، يسكنها رجال ينبغي أن يتمتعوا في أوطانهم بما يتمتع به كل إنجليزي في إنجلترا، وما دام هؤلاء المستعمرون لا يتدخلون في إدارة شئوننا المحلية كذلك لا يجوز لنا أن نتدخل في إدارة شئونهم المحلية. إن لنا الحق في الاحتفاظ بإدارة شئون الإمبراطورية العامة، لأن هذا الاحتفاظ ضروري لصيانة الوحدة الإمبراطورية ولأننا أغنى وأقوى جزء في الإمبراطورية.
وعلينا أن نتفق على المطالب العامة. وإن صح للبرلمان البريطاني أن يستأثر بالسلطة الإمبراطورية، فأرى من دواعي قوة الإمبراطورية أن يكون في برلماننا ممثلون للمستعمرات، فتشعر بأنها والشعب الإنجليزي كل لا يتجزأ.» ا.ه. كلام الوزير الإنجليز من خطبة في أثناء القراءة الثانية لقانون حكومة أستراليا 18 فبراير سنة 1885 ألقاها في البرلمان الإنجليزي.
هكذا كانت الفكرة الاستعمارية في منتصف القرن التاسع عشر، ولعل النبذة التي اقتبسناها من خطبة سير مولزورث أبلغ وصف للنظرية الاستعمارية الإنجليزية في عهدها، وهي طبعا فكرة متناهية في الحرية في ظاهرها ولكنها تنطوي على الخوف من انقلاب المستعمرات كما انقلبت الولايات المتحدة.
وأعجب تطبيق لنظرية مولزورث انتخاب أعضاء أيرلنديين للبرلمان الإنجليزي باعتبار أيرلندا جزءا لا يتجزأ من المملكة، مع أن الأيرلنديين الوطنيين كانوا يأبون ذلك وما زالوا يأبونه حتى صار لهم برلمان خاص بهم في عاصمة بلادهم.
وكان من رجال السياسة الإنجليز آخرون يبغضون الاستعمار ويجاهرون بذلك، ومنهم ريشارد كوبدن زعيم الفرقة الحرة في منشستر، ومن أقواله المأثورة أن أسعد يوم في تاريخ إنجلترا هو اليوم الذي لا يكون لها فيه فدان أرض في آسيا. كما كانت عظمى أمانيه أن تقطع كل علاقة سياسية بين إنجلترا وكندا في أسرع فرصة ممكنة.
وربما سارت إنجلترا في طريق وسط بين نظرية مولزورث ونظرية كوبدن، فيخف ضغطها عن خلق الله في الشرق والغرب لو لم تحدث حروب أوروبا في سنة 1870، فقد ظهرت ألمانيا بوطنيتها وحربيتها وإمبراطوريتها ورغبتها في التوسع، وظهر بيسمارك ومولتكه والحلقة الأولى من سلسلة هوهنزلرن الرهيبة. وأيقنت إنجلترا أن فرنسا لن تغتفر مذلتها ولن تنسى ثأرها، وأن الشعوب الأخرى ستستيقظ ثم تنهض، وأن صليل السيوف وصدى أصوات المدافع سوف يتجددان بعد حين في أوروبا وغيرها، ورأت تدخل بعض الممالك الأوروبية في المحيط الهادي فخشيت أستراليا ونيوزيلندا على استقلالهما فأرغمت إنجلترا من جديد على تعديل خطتها الاستعمارية بإشراك المستعمرات المستقلة في شئون سياسة الإمبراطورية، وخافت عاقبة الحروب المفاجئة فنبتت فكرة «المواصلات الإمبراطورية»، وكان البخار حديث العهد وكذلك أسلاك البرق فحسنت استعمالها وأتقنت كل اختراع من شأنه تقريب البعيد وتسهيل شقة الأسفار، ليكون ذلك لها عونا لدى نقل الجنود والذخيرة من أدنى الإمبراطورية إلى أقصاها. وقد مضى على نظرية مولزورث ثلاثون عاما، وحل محله غلادستون زعيم الأحرار في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فتوطد حب الإمبراطورية في قلوب الإنجليز وصار مبدأ ثابتا لدى الأحرار والمحافظين على السواء، فألقى غلادستون في 17 مارس سنة 1880 خطبته الشهيرة في أدنبرج التي قال منها:
أعتقد أننا جميعا متحدون في تعلقنا بالمملكة العظيمة التي ننتمي إليها ولتلك الإمبراطورية الكبرى التي وضعت أمانة في أعناقنا، وما هي إلا أمانة وتكليف من العناية الإلهية كأعظم وأخص ما كلف به فريق من الجنس البشري. وكلما أذكر تلك الأمانة وذلك التكليف أشعر بأن الألفاظ تعوزني وأن الكلام عاجز عن التعبير عما يخالج نفسي. لا أستطيع أن أصارحكم بما أعتقده من نبل الميراث العظيم الذي كان من نصيبنا، ولا عن قداسة الواجب علينا في الاحتفاظ به.
ولن تسمح نفسي بالتنزل به إلى مستوى الجدل السياسي، لأنه جزء من كياني بل من لحمي ودمي ومن قلبي وروحي. ولأجل بلوغ هذه الغاية عملت دائبا طول شبابي ورجولتي وأكثر من ذلك إلى أن شابت كل شعرة في رأسي. وفي هذه العقيدة وهذا القيام المقدس حييت، وبهذه العقيدة وهذا القيام المقدس سوف أقضي بينكم! ا.ه. نقلا عن جريدة التيمس في 18 مارس سنة 1880.
إنك لا تسمع وزيرا يتكلم ولكنك تسمع كاهنا أو واعظا يبشر! وهو مقتنع أعظم اقتناع، بل مؤمن الإيمان كله، رجل خالط حب المستعمرات لحمه ودمه وملك قلبه وروحه. وهو يعتقد أن مأمورية الاستعمار ليست عملا سياسيا ينطوي على مصالح عادية، بل إنه أمانة وتكليف سماوي، كما كان يعتقد ملوك فرنسا وإنجلترا أنهم إنما يحكمون الشعب ب «اسم الله وإرادته»، وكما كان يعتقد إمبراطرة الصين أنهم أبناء السماء. ومن هو الذي يتكلم؟ هو غلادستون رئيس أحرار إنجلترا العظيم، الذي رسم بهذه الخطبة خطة الاستعمار لا لحزبه فقط بل لجميع الأحزاب السياسية من محافظين وأحرار وغيرهم، كما أثبتت لنا الحوادث.
انخداع الشرقيين بحزب الأحرار
كان كثيرون من الشرقيين يبنون صروح الآمال على تغيير الحكومة الإنجليزية وانتقالها من أيدي المحافظين إلى أيدي الأحرار، باعتقاد أن انتساب الأحرار إلى المعنى الذي تتوق إليه أنفسهم يمتد حتما إلى مبادئهم في السياسة الخارجية وتطبيق نظريات الحرية في معاملة الشعوب المغلوبة أو الأمم المحكومة، وهم معذورون في ذلك، لأن كلمة الأحرار وما يشتق منها من الألفاظ والمعاني تغري الرجل البسيط. وغاب عن ذهنهم أن التفريق بين المحافظين والأحرار يرجع إلى طريقة الحكم الداخلية في بلاد الإنجليز نفسها ولا يمتد إلى خارج حدود الجزر البريطانية، وها نحن قد أثبتنا نبذة من خطبة مستر إيورت غلادستون زعيم الأحرار في القرن التاسع عشر.
وإن كان ينقصنا الدليل بعدها فإليك ما حدث في سنة 1905 عندما انتقل الحكم من يد بلفور المحافظ وابن أخت سالزبري وربيب بيت سيسيل إلى يد سير هنري كامبل بانرمان زعيم الأحرار في أوائل القرن العشرين، فقد تنفس كثيرون في الشرق، وظنوا أن نظام الحكم سيتحور تبعا لتغيير الدولة، فأسلم بانرمان زمام وزارة الخارجية إلى إدوارد جراي الشهير الذي كانت له في توطيد أركان الاستعمار والسياسة الإمبريالية مواقف مشهورة وكلمات جوامع لا تزال ترن في آذاننا، وكان إدوارد جراي من أصفى الأحرار مبدأ وأقدر ساستهم على تسيير دفة الأمور، وما زال حاكما بأمره في الشئون الخارجية حتى أعلن الحرب على ألمانيا وساير الحرب العظمى حتى شبت عن الطوق وشارفت على دورها الأخير فأصيب بالكمه وأمسى كفيفا فتخلى عن العمل لسواه، وطالما صرح سير جراي (وقد صار الآن لوردا) بأن سياسة إنجلترا الخارجية لا تتغير، ومسلكها نحو الممالك المحكومة لا يتحول، وأن مصالح الإمبراطورية خارجة عن حومة المنازعات البرلمانية. وكان صادقا ولم يقل إلا الحق، فإن إنجلترا في عهد الأحرار لم تخسر شبرا من أملاكها لا وراء البحار ولا أمامها، بل كسبت بفعلهم مستعمرات جديدة في أفريقيا وآسيا. وآراء سير جراي مشروحة بما فيه الكفاية في مذكراته التي نشرت أخيرا ونقلت إلى اللغة العربية.
وقد نسج على منواله أحد زعماء الأحرار الإنجليز في التصريح بالخطة السياسية، وهو سير هيربرت صمويل المندوب السامي السابق في فلسطين، فقد ألف كتابا ذا شأن عنوانه «سياسة الأحرار» أو الليبراليزم، قدم له لورد اسكويث زعيم الأحرار المتوفى بفصل طويل.
فشرح سير هربرت نظرية الاستعمار البريطاني في عهد الحكومات الحرة، وحدد مسئولية الأحرار في موضوع الإمبراطورية في الصفحتين 343 و344، قال ما ترجمته:
إذا صح أن مبدأ الإمبريالزم ينطوي على العزم المؤكد والحزم الصحيح في الدفاع عن الإمبراطورية التي نملكها وعلى عاطفة الاتحاد بيننا وبين المستعمرين الإنجليز، والرغبة الشديدة في تقدم الإمبراطورية بدون إلحاق أذى بالغير وتنمية التجارة البريطانية دون العمل على خراب الشعوب المحكومة، واستمرار السلطة البريطانية والنفوذ الإمبراطوري مع تمهيد الطريق للتوسع في حريات الأجناس الوطنية (كذا) وعدم السعي في مهاجمة جيراننا والكف عن المغازي والفتوحات في سبيل امتلاك أراض جديدة إلا إذا زادت منافع تلك المغازي حتما عن مضارها (كذا) مع اتقاء سفك الدماء ما أمكن، وإذا كانت الإمبريالزم مدفوعة بالتحمس الشريف الذي يقبل النقد في سبيل الإصلاح؛ إذا صح أن الإمبريالزم ينطوي على ذلك إذن وجب علينا أن نصرح بدون مخاطرة ولا خوف من الإنكار أن حزب الأحرار الإنجليزي هو حزب إمبريالست استعماري.
وهربرت صمويل مؤلفا يعد في نظري خليفة لغلادستون سياسيا وخطيبا، فقد تقدم لوضع أساس للمبدأ الحزبي في غير تردد ولا تلكؤ، وعندنا أن كتابه يعد نبراسا لكل سياسي شرقي يريد الوقوف على سياسة الإنجليز الاستعمارية، فهو يؤكد أن الإمبريالزم والليبرالزم مبدأ واحد وأنهما ينطويان على القواعد الآتية:
أولا:
شدة اليقين في الدفاع عن المستعمرات.
ثانيا:
عاطفة الارتباط والتوحيد بين الأحرار والمستعمرين (أي المقيمين في المستعمرات).
ثالثا:
العمل على تقديم الإمبراطورية بدون الإضرار بالغير على قدر الإمكان. والمقصود بالغير هنا الأمم المغلوبة أو المحكومة من الأجناس الأجنبية.
رابعا:
التوسع في التجارة الإنجليزية وإيجاد أسواق لها بدون إهلاك متاجر الأمم المحكومة.
خامسا:
عدم المساس بحقوق الجيران من الدول الأوروبية لاتقاء الحروب التي تؤدي إلى زعزعة أركان الإمبراطورية.
سادسا:
اتقاء الفتوحات التي فيها إهراق الدماء وتكبد المتاعب، إلا إذا كان في تلك الفتوح نفع مؤكد.
سابعا:
استعداد الأحرار والإمبريالست لقبول كل رأي فيه نصيحة الإصلاح يساعد على تقوية الإمبراطورية وخلاصها من الشوائب وأوجه الضعف.
السياسة أولا ثم المال
إذن وجب علينا وعلى كل شرقي أن ينزع من فكره معونة الأحرار في أي ظرف سياسي، ولهذا لا نعجب ولا ندهش إذا علمنا أن لويد جورج زعيم الأحرار الحالي وقف عقبة كئودا في سبيل أي اتفاق أو معاهدة تنطوي على شيء من الخير للبلاد المغلوبة. وليس صحيحا في نظري أن الدافع له وجود رءوس الأموال للممولين الأحرار في أي بقعة من بقاع الأرض كالسودان أو غيرها، فإن رءوس الأموال وإن كانت ذات شأن عظيم في نظر أربابها ولكن الاحتفاظ بها ليس المحرك الأول، وإنما المحرك الأول هو تلك المبادئ السبعة التي شرحها صمويل في كتاب منشور.
لأن الإنجليز دائما يخضعون التدبير المالي والاقتصادي للمصلحة السياسية، لأن السياسة أساس والمال بناء يشاد على الأساس. وإلى هذه الفكرة كان يرمي جوزيف تشمبرلين في سياسته «الحماية الجمركية»، فكان يقصد بذلك إلى شد أواصر أجزاء الإمبراطورية إلى بعضها بعضا بالاتحاد الجمركي، تقليدا لخطة بيسمارك الذي أنشأ الاتحاد الاقتصادي بين ممالك ألمانيا المختلفة قبل أن يعلن اتحادها السياسي، وعلى خطوات تشمبرلين سار لفيف من ساسة الإنجليز الذين اتخذوا مجلة «المائدة المستديرة» لسانا لحالهم.
بيد أن الحكم الذاتي الذي تمتعت به المستعمرات الإنجليزية في كندا وأستراليا ونيوزيلندا خلق في أنفس أهاليها عاطفة وطنية، وفي سنة 1900 اتحدت الولايات الأسترالية على هيئة ولايات متحدة فأرغمت إنجلترا على قبول الفكرة خوفا من النتائج التي قد تترتب على مقاومتها، وكان بين ساسة الإنجليز رجال ينظرون إلى المستقبل فأذاعوا فكرة المؤتمر الاستعماري في 1897 ودعوا إلى لندن رؤساء وزارات المستعمرات التي تحكم ذاتها، وقد ظهر للعيان أن سياسة الاستعمار ستلبس ثوبا جديدا يتفق مع تغير الزمن، وقضوا عشر سنوات في تمهيد السبيل لقبول التطور الجديد، وفي سنة 1907 اجتمع المؤتمر الاستعماري الثاني في لندن وقرر المجتمعون عقد المؤتمر مرة في كل أربع سنين وبدلوا اسم المؤتمر الاستعماري فصار المؤتمر الإمبراطوري، وأن الحكومات التي تشترك فيه (كندا وأستراليا ونيوزيلندا) صارت تدعى دومنيون لا مستعمرات، وأن رئيس المؤتمر يبقى دائما رئيس وزارة إنجلترا لا وزير المستعمرات وذلك لأن كلمة مستعمرة أصبحت منبوذة ومذلة لمن تطلق عليهم، فما على الإنجليز إلا أن يبدلوها بغيرها لأنهم خبيرون بعلم النفس ويعلمون أثر الألفاظ في العقول. وهذا يذكرنا بما كان يقوله سير ڤالنتين شيرول من أن بعض الشعوب المحكومة تقنع باللفظ دون المعنى، بيد أن هذه الألفاظ وإن كانت في ذهن واضعيها قليلة الأثر إلا أنها تنشئ على الرغم منهم حالات نفسية جديدة وأوضاعا قانونية لم تكن في الحسبان.
بيد أن السياسي الإنجليزي لا يكترث لذلك اكتراثه للواقع، ففي سنة 1885 تطوع جنود من أستراليا وكندا للحرب في السودان، وفي سنة 1900 تطوع جنود أستراليون في حرب البوكسر بالصين، وفي حرب البوير اشترك الأستراليون والكنديون مع الإنجليز. وأخذ رجال السياسة الإنجليزية يقنعون أصحاب الدومنيون بأن الدفاع عن سلامة أوطانهم ليس محصورا في شواطئهم ولكنه يمتد إلى وراء البحار، فحياتهم واستقلالهم تابعان لقوة إنجلترا بأساطيلها وجيوشها، وما دامت «الأم الرءوم» في عز وسؤدد فهم في أمان واطمئنان؛ فنتج عن ذلك أن مجلس أركان الحرب الإنجليزي اتسع نطاقه فصار في سنة 1907 مجلس أركان حرب الإمبراطورية (وهو عين موعد اجتماع المؤتمر الإمبراطوري الثاني وقبيل الحرب العظمى بسبع سنوات).
فجمع مجلس الحرب الأعلى لفيفا من الضباط من جميع أركان الإمبراطورية ودربهم تدريبا منسقا على وتيرة واحدة، وطاف كتشنر بعد ذلك ببضع سنين فزار أستراليا ونيوزيلندا وأسس مدرسة للضباط وأوعز إلى حكومة الاتحاد الأسترالي بتشريع المران العسكري الإجباري، واقتفت أثرها نيوزيلندا وجنوب أفريقيا. فاستفادت إنجلترا من كل ما تقدم وقوف الملايين من الرجال في سائر أنحاء الإمبراطورية على قدم الاستعداد للحرب.
فلما كانت سنة 1914 أرسلت الدومنيون مليون رجل للميدان، وأنفق عليهم 862 مليونا من الجنيهات الإنجليزية، أي إن الجندي الإمبراطوري الواحد تكلف أثناء الحرب ما يقرب من تسعمائة جنيه. فلما بذلت الدومنيون هذا المال وهذا العدد العديد من الرجال رأت أن لها حق الاشتراك في إدارة شئون الحرب وفي تلك السياسة الخارجية الإمبراطورية التي أدت إلى اشتعال نيرانها، ولم يكن هذا التطور إلا نتيجة محتمة لتغيير كلمة مستعمرة بكلمة دومنيون، وخلقوا في لندن مجلس وزراء إمبراطوري مكونا من رؤساء وزارات الدومنيون أعضاء يرأسهم رئيس الوزارة الإنجليزية.
وانبنى على ذلك أن وزراء الدومنيون جلسوا في مؤتمر الصلح بفرساي ووقعوا على المعاهدة بأسمائهم وصفاتهم، ولما تألفت عصبة الأمم دخلت كل دومنيون بشخصيتها مستقلة عن سواها، وما فتئت وزارة إنجلترا منذ سنة 1919 تستشير حكومات الدومنيون في كل أمر ذي شأن، واتسع نطاق الحكم الذاتي حتى وسع تعيين سفير كندي للولايات المتحدة بعد أن كان سفير إنجلترا يمثل كندا وسواها لدى البيت الأبيض، وفي سنة 1925 انشقت وزارة المستعمرات فصارت وزارتين واحدة للدومنيون وثانية للمستعمرات.
1
وبهذا نصل إلى أن تطبيق مبادئ الحرية والمساواة على المستعمرات التي يقطنها البيض قد نجحت وأثمرت وأنقذت إنجلترا من ورطة الحرب الكبرى، وشدت أزرها في مؤتمر الصلح وفي عصبة الأمم، ففي كندا امتزج العنصران الفرنسي والإنجليزي حتى صارا شعبا واحدا، وكان سير ويلفريد لورييه الفرنسي الجنس أعظم سياسي كندي وحل محلا متميزا على مدى ربع قرن في الإمبراطورية البريطانية كلها، وكان مالكا ناصية اللغة الإنجليزية التي لم تكن لغة آبائه وأجداده، كما كان مدركا تمام الإدراك لأسرار الأنظمة الحكومية في إنجلترا والمستعمرات، وهكذا كانت الحال في جنوب أفريقيا.
هذه كانت خطة إنجلترا مع مستعمراتها وأملاكها التي يسكنها أوروبيون أو قوم متسلسلون من أجناس أوروبية، أما المستعمرات الأخرى كالهند وأفريقيا الشرقية فكانت لها شئون أخر. غير أنه لن يغيب عن أذهاننا أن إنجلترا حاولت في العهد الأول من الاستعمار أن تفرق لتسود وهو المبدأ الروماني الشهير، سواء أكان في المستعمرات الأوروبية الجنس أم في المستعمرات الشرقية، ولكنها خشيت عاقبة البغضاء والفتنة فأخلصت مع أبناء جنسها واستمرت على خطتها الاستعمارية في المستعمرات الشرقية التي ادعت امتلاكها بحجة تمدينها.
الفصل السادس عشر
تاريخ الفرس ونهضتها
نهضة الأمة الإيرانية
لقد لفتت الفرس أنظار العالم المتحضر ولا سيما أهل الشرق في العصر الحديث، للمرة الأولى في أوائل القرن العشرين عندما منح الشاه الدستور لبلاده في سنة 1907 ثم استخلف ولده محمد علي واستحلفه أن يحافظ على تلك الأمانة للأمة.
ولما كانت للفرس علاقة عظمى بتاريخ الإسلام منذ نشأته الأولى إلى الآن، فقد آثرنا أن ننظر قليلا في تاريخ تلك البلاد معتمدين على جملة مراجع، منها ما كتبه ماكسمولر المستشرق الألماني وهيرودوت المؤرخ اليوناني والبارون جوبينو المؤرخ الفرنسي صاحب كتاب «الفلسفة والأديان في آسيا الوسطى» وما دونه الكاتب الأديب والشاعر الفاضل ميرزا رفيع مشكي والأستاذ العالم المغفور له إدوارد براون مؤلف كتاب «عام بين الفرس ».
هاجرت القبائل الآرية التي كانت نازلة قبل التاريخ حول «البامير»، فنزح أكثرها إلى أطراف الهند وإيران، وكانت أكثر القبائل النازحة إلى إيران نفوذا وقوة قبيلة بارسيان فقد نزلت في جنوب إيران في القسم الذي يسمى الآن فارس أو بارس، واتخذت مدينة «استخر» مستقرا لها وعاصمة سلطانها. وجاء الميديون فانتشروا في الغرب والشمال الغربي لإيران واتخذوا مدينة هاكاماتانا وهي المعروفة الآن باسم «همدان» عاصمة لملكهم، وانتشرت قبائل أخرى على شواطئ بحر الخزر، ثم باخترا وبلخ ثم أفغانستان وخوارزم وما عداها، وسموا أنفسهم أريان، واتخذوا لهذه الممالك اسم إيريانا، ومن ذلك يأتي اسمها الآن وهو «إيران» واسم أهلها إيرانيان.
وقد بدأ نفوذ البارسيان يقوى على من عداهم من مجاوريهم منذ سنة 550ق.م. حتى إن ملكهم كورش الأكبر تمكن من اجتياح بلاد الميديين فخلع سلطانهم إستياج وأسس سلطنة هخامنشي.
وقد انتشرت الديانة الزردشتية بين البارسيين أكثر من غيرهم، وقد عالجنا الزردشتية بإيجاز تحت عنوان «المجوسية والصابئة» في هذا الكتاب. وأحدث المعلومات تدل على أن زردشت كان من أهل آزربيجان وأن وفاته وقعت في أيام اجتياح البارسيين لبلاد الميديين، وقد انتشر مذهبه في بلخ عندما دخل كشتاسب في دينه، ومن بلخ انتشر هذا الدين في جميع أنحاء إيران وخصوصا فارس في مهد السلاطين الهخامنشيين. وإذن تكون كلمة بارسي التي تطلق على الفرس المهاجرين إلى الهند (ومعظمهم في بومباي) ليس معناها زردشتي، وأما كلمة مجوس الشائعة فأصلها بالفارسية «مغ»، ومعناها الحرفي أو اللغوي «حارس النار المقدسة»، وهي تطلق على المبشرين بالدين الزردشتي، فليس البارسي مجوسيا، وإذا قلنا سلمان الفارسي أو البارسي فليس معناها المجوسي بل معناها سلمان الذي أصله من بارس، أي من تلك القبيلة التي نزلت إلى جنوب إيران عند رحلة القبائل التي ذكرناها آنفا.
أما كلمة عجم فقد أطلقها العرب على كل أجنبي عرفوه، ولما كان احتكاكهم بالفرس أكثر من احتكاكهم بغيرهم من الأجانب فقد أطلقت كلمة عجم على الفرس مجازا من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء، ولا تزال كلمة العجمة معناها في العربية الإبهام أو الغرابة أو البعد عن العربية، وأهل الفرس لا يحبون أن يوصفوا بأنهم أعجام.
وكانت عرب الجاهلية مقسمة قبائل متنافرة متباغضة، فتمكنت الدول القوية من استعمار بعض بلاد العرب، فكان لليونان والرومان والفرس نصيب من بلاد العرب بالاستعمار والاستغلال والإذلال، وكانت دولة الأكاسرة تسوم بعض قبائلهم سوء العذاب فيما جاورها من شرقي الجزيرة وشماليها وجنوبيها، وما زالت الحال كذلك حتى جاء محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
فانتصف العرب لأنفسهم وانتقموا ثم انتصروا في يوم ذي قار ويوم القادسية.
ولكن العرب والفرس كانوا أعقل من أن يتطاحنوا أو يتباغضوا بعد انتصار الإسلام على دولة الأكاسرة فحصل بينهم التآخي والامتزاج والمحبة، واستفاد الفرس من سلطة العرب ونفوذهم ودينهم وآدابهم الجديدة ومعتقدهم الذي جاء بالتوحيد وقضى على الوثنية الشمطاء، كما استفاد العرب من حضارة الفرس وتمدينهم وتنظيم جيوشهم ودواوينهم وأنظمة حياتهم ومؤسساتهم. وبقوة الإسلام العجيبة امتزجت الأمتان وصارتا أمة واحدة، وكان لأبناء فارس أوفر نصيب في خدمة الدولة الفتية، وكان لهم القدح المعلى في ترقية الحضارة الإسلامية والآداب العربية بنفس اللغة العربية، ومنهم ظهر الأئمة في التفسير والحديث والفقه واللغة.
ومن العجيب أن دين الإسلام على بساطته وقلة تكاليفه وسهولة مآخذه وحداثة عهده قد تغلب على جميع العقائد السابقة له، وبالأخص على المجوسية التي كان يدين بها أهل فارس وهي العقيدة التي جاءهم بها نبيهم زردشت في كتابه المكتوب بالذهب في اثني عشر ألف مجلد على ما قاله المسعودي مبالغا، وهو كتاب «البستاه» الذي يسميه ياقوت «البستاق» بإضافة القاف في محل الجيم، وهذا الكتاب هو المعروف عند الإفرنج باسم
Avesta . ومن الطبيعي أن بعض هؤلاء المجوس استمروا متشبثين بدينهم فهاجروا إلى الهند وأقاموا ببومباي كما قدمنا، ويبلغ عددهم الآن نحو مائة ألف ومنهم كثيرون من المجاهدين في سبيل الهند.
الحضارة القديمة والدين
وإن كان الشعب الفارسي حديث العهد بالنهوض في الجيل الحاضر فقد كان من أوائل الشعوب التي تحفزت للنهوض، فقد تواطأ الروس في عهد القياصرة والإنجليز على اقتسام تلك البلاد الإيرانية، وقد وقع بعض رجالها الرسميين معاهدة لوندرة التي تقر هذا الاقتسام من غير إرادة البلاد وبدون علمها فهبت الأمة من رقدتها وقامت قومة الأسد الرئبال (الذي هو شعارها في علمها)، فاستجمعت صفوفها ووحدت جهودها ونقضت المعاهدة ومزقتها إربا، وبذلك نفضت عن نفسها غبار العار وعادت إلى الحياة وضربت المثل لغيرها من أمم الشرق.
كان ناصر الدين شاه إمبراطورا لفارس، وقد تولى في ذي الحجة سنة 1264ه ومات رغم أنفه في سنة 1316ه. وقد قاسى أهل إيران في عهد هذا الملك كل أنواع الظلم والاستبداد، وكان كثير السياحة في أوروبا ولكن تلك السياحات بدلا من أن تدله على طرق الخير والحضارة لبلاده كانت تزيده إكبابا على الشهوات وبغضا في رعيته، تلك الرعية التي كانت تدفع من أموالها ومن دمائها ما كان ينفقه الشاه عن سعة على شهواته وأغراضه في تلك الرحلات، وكان الشاه الذي يكثر من الرحلات إلى بلاد أوروبا ليتمتع يمنع شباب الأمة الإيرانية من السفر في سبيل العلم أو التجارة أو التنور، ولما لمح بريق الذكاء والنبوغ في بعض رجال الفرس عمد إلى القضاء عليهم بالنفي والسجن والقتل ليقضي على زهرة البلاد، وهم أمثال ميرزا تقي خان أمير كبير وهو الذي شاد بذكره الأستاذ إدوار براون في رسالة «تاريخ الدستور الإيراني» 1909 والسيد جمال الدين الأسدآبادي المشهور بالأفغاني وميرزا حسين خان سباهسالار وغيرهم.
ولما قلت مصادر المال ونضب معينها وصار الشاه في احتياج واضطرار، أخذ يتاجر بحقوق أمته فباع للبارون يوليوس روتر في سنة 1889 حق تأسيس بنك شاهاني إيراني وحق إصدار البنكنوت باسم الدولة، وباعه حق استخراج المعادن من جميع المناجم الإيرانية وحق إنشاء سكة حديدية بين طهران وأهواز. وأسرف الشاه في منح الامتيازات وبيع حقوق البلاد، وقد تشجع المستر تالبوت فأخذ احتكار التمباك في مارس سنة 1890 لمدة خمسين سنة بشروط بخسة تعود كلها على المحتكر وعلى جلالة الشاه، فهاج الشعب وثار وتكاتف الأحرار على مقاومة ذلك الشاه المبذر المسرف المتهاون في حقوق الأمة.
وتقدم لفيف من الأحرار والعقلاء بالنصح والرجاء للشاه للعدول عن التفريط في حقوق البلاد، وعلى رأسهم الوزير الوطني العظيم أمين الدولة، فلم يسمع الشاه لهم نصحا ولم يرع لهم جانبا بل أخذ يعتقل الزعماء ويضطهدهم ويسجنهم، ومنهم ميرزا محمد رضا كرماني وكان من شيعة السيد جمال الدين الأفغاني. وبدأت المدن بالقيام فهاجت تبريز ثم أصفهان وشيراز ويزد، وأرسل حجة الإسلام المرحوم المبرور الحاج ميرزا حسن شيرازي المجتهد الأعظم إلى الشاه كتابا فيه ما فيه من التحذير، وأن إعطاء الامتيازات وبيع حقوق الأمة للأجانب من الأمور التي يحرمها الدين وتأباها الشرائع والقوانين، واشتد سخطهم وازداد هياجهم.
ولما يئس المصلحون والأحرار من إصلاح الشاه أفتى حجة الإسلام الحاج ميرزا حسن شيرازي فتواه الشهيرة بتحريم التمباك وقد أصدرها من مقره وهي «سر من رأى»، فأجاب الإيرانيون جميعهم دعوة المجتهد الأعظم وفي طرفة عين أطاعوا أمره ولبوا نداءه ولم يترددوا لحظة على شدة تعلقهم بالتمباك وشغفهم الشديد بتدخينه في النارجيلة على عادتهم المعروفة والتي سرت من بلادهم إلى جميع العالم. والنارجيلة بتمباكها في إيران كالبيبة في بلاد الإنجليز والسيجارة في مصر والشبق عند الأتراك، فتخيل أن أسقف كانتربري يصدر أمرا إلى جميع الإنجليز بالتخلي عن تدخين البيبة فيتركونها جميعا في طرفة عين، وهكذا حصل في إيران فإن مخازن التمباك أقفلت أبوابها وأبى البائعون بيعه وامتنع الطالبون والمستهلكون عن شرائه، وعمد كل مدخن إلى نارجيلته فهشمها وإلى ما عنده من التمباك فنبذه قصيا (راجع مقال ميرزا رفيع مشكي في 20 أكتوبر سنة 1923 الأهرام)، وفي جميع البيوت والأكواخ وحتى في قصر الشاه نفسه لم تكن لترى مدخنا واحدا أميرا كان أو حقيرا، حتى إن الشاه نفسه طلب صباح اليوم التالي للفتوى التي صدرت بالتحريم وهو في مجلس من وزرائه نارجيلته فتقدم إليه رئيس الخدم مندهشا معتذرا وقال للشاه: لقد صدرت يا مولاي فتوى حجة الإسلام بالتحريم فلم نبق في القصور الملكية نارجيلة ولا تمباكا!
الشاه (بغضب) :
وهل استأذنت مولاك قبل الإقدام على ذلك؟
رئيس الخدم (بشجاعة وسكون) :
لقد أمر الشرع، فلا حاجة بنا لاستئذان السلطان!
وفي أواخر ديسمبر سنة 1891 أنذرت الأمة حكومة الشاه بضرورة إلغاء امتياز التمباك وإلا فيقع بالأجانب أعظم ضرر، ولجأت الحكومة لسائر وسائل الحيلة والقوة والتهديد وإيذاء الزعماء فلم تفلح، وتهدد الشاه بنفسه مقام المجتهد الأعظم فلم يزدد المجتهد إلا تمسكا بفتواه. وفي أوائل يناير سنة 1892 أذعن الشاه وحكومته لرغبة الأمة وتم الاتفاق بين الشاه وشركة الاحتكار على بطلان الامتياز الممنوح للمستر تالبوت فكانت صدمة مؤلمة للنفوذ الإنجليزي في إيران.
لقد كان في حادثة احتكار التمباك الإيراني درس نافع عظيم لأوروبا ذات المطامع الأشعبية التي أطلقت لنفسها العنان في الشرق تسلب خيراته وتنتهب أطايبه وتدس بين أهله أسباب الشقاق والفراق والنفاق، لتتمكن من نصب شباكها ولتظفر بالصيد وتبطش بالفريسة والشرق عنها غافل لاه بصغائر الأمور.
نعم، لقد كلف بطلان امتياز التمباك أهل إيران الشيء الكثير من النفوس والأموال ودفعت البلاد لشركة الاحتكار (تالبوت وشركاؤه) نصف مليون جنيه تعويضا، ولكنهم مع ذلك كسبوا الحياة التي دبت في نفوسهم وهيأتهم للنهضة العظيمة التي قاموا بها في سبيل حريتهم.
احتكار التمباك وزعماء إيران
وقد حكم ناصر الدين (يا له من تهكم!) بلاد إيران خمسين عاما وقضى نحبه رغم أنفه في ختام الخمسين عاما وهو على وشك الاحتفال بمرور نصف قرن على عهده. وإن السلطان الذي يحكم الأمة خمسين عاما لا ينصف فيها مظلوما ولا يزجر ظالما وتشتبه عليه الأمور فلا يطلب لها إيضاحا ولا يعمل تحقيقا؛ جدير بأن يخلد ذكره في التاريخ باللوم والتقريع. وقد أعدم ميرزا رضا في 12 ربيع الثاني سنة 1314ه، وكان أعظم المقاومين لحكم ناصر الدين شاه، وكذلك كان من زعماء الأمة في ذلك العهد الحاج شيخ هادي نجم آبادي وميرزا ملكم خان الذي أسس جريدة قانون، ومنهم الشيخ أحمد روحي كرماني وميرزا أقاخان كرماني وميرزا تقي خان. وهؤلاء مع من ذكرنا هم الأبطال الأمجاد الذين هيئوا الأمة الإيرانية للنهضة الحديثة، وربما كان أعظمهم شأنا المرحوم ميرزا تقي خان أمير كبير فقد كان عصاميا وصل بجده واجتهاده وإخلاصه في العمل إلى أعظم المناصب، فقد كان من عامة الشعب وارتقى إلى الصدارة العظمى أو أن الصدارة العظمى قد صعدت إليه، فاتخذ من منصبه أداة لتحرير الأمة لا لانتهاك حرمتها فأنشأ فيها المدارس الكثيرة وأسس دارا للفنون ونظم الجنود ورتب الأحكام، وأظهر غيرة خالصة على مصالح الشعب جعلت الشاه ناصر الدين يحنق عليه وكان جزاؤه على إخلاصه لوطنه أن يقتل في حمام «فين» بكاشان، ولما وصل خبر قتله إلى قيصر الروس استبشر وقال: «لقد مات أكبر أعدائنا، وذهبت أشد العقبات من سبيلنا.»
وقد حكم مظفر الدين اثنتي عشرة سنة من 1896 إلى 1908 بعد أن حكم أبوه خمسين عاما. وكان عهد ناصر الدين معاصرا لعهد الملكة فيكتوريا، كما كان عهد مظفر الدين محاذيا لعهد الملك إدوارد السابع تقريبا، ولكن عهد فيكتوريا كان عهد حرية وإصلاح ورخاء ومجد وعظمة لدولتها وأمتها على عكس عهد ناصر الدين الذي كان عهد ظلم واستبداد وضيق وتعذيب واضطهاد وفتنة وانحطاط واستغلال. فلما جاء مظفر الدين حاول أن يحكم كأبيه ولكن الأمة كانت قد تنبهت، فما زالت تطالب بحقوقها حتى نالت بعضها في سنة 1907 وأعلن الدستور وتأسس البرلمان، ولما أدركته الوفاة أحضر ولده محمد علي وأخذ عليه العهود والمواثيق (فبراير سنة 1908) بأن يحتفظ بالدستور والبرلمان، ولكن محمد علي كان رضيع الاستبداد الروسي فوعد أباه وعدا كاذبا، ولما مات أبوه نقض عهده وهدم البرلمان بالقنابل وشتت شمل أعضائه ومزق الدستور الإيراني وطرد الأحرار واعتقل من اعتقل وقتل من قتل، ولم يطل عهده فطرد من وطنه والتجأ إلى الأتراك ثم إلى الروس وتولى ولده بعده، ولكن عهد هذا الأخير لم يطل كعهد أبيه وعزل وطرد من وطنه وتولى الملك الشاه الحالي جلالة بهلوي. ومن غرائب المصادفات أن محمد علي عاش إلى أن رأى زوال دولة القياصرة الروس وانهيار صروح مظالمهم وتحكم جماعة من العامة والدهماء في الدولة، وكان القياصرة أعظم سند له، وكذلك لم يطل عهد ولده في الحياة وقد لقي حتفه في باريس وهو آخر أسرة كشغر التي حكمت بلاد الفرس جملة أجيال، وكانوا جميعا ملوكا محبين لأنفسهم يفضلون مصالحهم على مصالح الشعب ويبذرون في أموال الأمة على شهواتهم وغاياتهم التفهة الوضيعة. وتعد بلاد فارس الآن من أقوى ممالك الشرق الإسلامية المستقلة، وربما كان اتحادها مع تركيا والعراق وأفغانستان مما يحيي الآمال بوجود جبهة شرقية قوية في غرب آسيا قد تسترجع المجد القديم وتقاوم غوائل الاستعمار، ولكن يجب عليهم قبل ذلك حسن التفاهم وتوحيد الثقافة والمقاصد وتوجيه الهمم إلى مثل أعلى واحد وهو إحياء الشرق وانتشاله من وهدة السقوط والانحلال.
الفصل السابع عشر
أمنا الهند
أكاذيب كاترين مايو
لم تقف محاربة الإنجليز للهند عند حد الاستعمار والاستثمار والتملك وغرس بذور الشقاق لتكون لها السيادة على تلك البلاد العظيمة، التي أثبت العلم الحديث أنها من أصل آري وأن شعوب أوروبا كلها تفرعت من القبائل التي نزحت منها في القرون الماضية؛ بل إنهم لجئوا في محاربتها وقتل نهضتها إلى كل سلاح.
فإنه عندما قامت حركة غاندي منذ سبع أو ثماني سنين وظهر في الهند كتاب وشعراء وعلماء اشتهروا في الغرب وصارت لهم مكانة، مثل تاغور الذي نال جائزة نوبل والسير بوز الذي نبغ في العلوم الطبيعية واخترع أداة أثبت بها حياة النبات وخفوق قلبه 1926، وانتشر الهنود في أوروبا وأمريكا يدافعون عن قضيتهم وينشرون ظلامتهم ليحسنوا سمعتهم في نظر العالم المتحضر، وألف بعض كتاب الإنجليز كتبا في صالح الهنود مثل سير هنري كوتون (كتاب الهند الجديدة)، ونشر الهنود كتبا قيمة مثل كتاب «حرب الاستقلال» عن ثورة 1857 (تأليف ساڤار كار وطبع لندن سنة 1910)، ولما كانت أعمال المؤتمر الوطني منذ 1901 و1902 قد بهرت ساسة الإنجليز وأقنعتهم برجاحة عقول الهنود وكفايتهم للاستقلال (راجع وصف مستر سويني للمؤتمر الوطني الذي عقد في أحمد آباد)؛ رأى الإنجليز أن يلجئوا إلى السلاح الذي نفعهم في الحرب العظمى وفي كل أدوار هجومهم على الشرق، فاستأجروا سيدة اسمها كاترين مايو أمريكية الوطن إنجليزية الأصل وسهلوا لها كل الوسائل ونقلوها إلى الهند حيث فتحوا لها كل باب مغلق ورفعوا أمامها كل ستار فألفت كتاب «أمنا الهند»، وقد ظهرت الطبعة الأولى في يوليو سنة 1927 وطبع بعد ذلك خمس عشرة طبعة آخرها سنة 1930، وقد صادف نجاحا لم يسبق له مثيل لأن المرأة الكاتبة حشدت في هذا الكتاب من الفظائع والقبائح ما لم يحشد مثله من قبل في عشرة كتب، فصورت الهند في أفظع صورة من حيث المعتقدات والأدب والحياة، ووصفت الزواج المبكر وقذارة الوالدات وإحراق الجثث وتعذيب الأرامل وأذاعت أمورا عن العادات السرية لا يخطر ببال إنسان أن المرأة تكتبها أو تعرضها على قرائها كإعلان بعض الباعة عن عقاقير مقوية في العلاقات الجنسية «اثنان وثلاثون عمودا من القوة تصلب عودك المتداعي وتعيد إليك قوة الغرام، ثمنها روبية واحدة.» وروت أن الهندي ابن الثلاثين يبدو في جلد الشيخ الذي جاوز الستين لشدة إفراطه في علاقة الزواج.
وغايتها من وراء ذلك أن تصور الشعب الهندي المطالب بالاستقلال في صورة الشعب المنحل المضمحل الذي ذهبت رجولته في سبيل شهواته البهيمية، وادعت أن حكومة بنجاب وحدها حاكمت إحدى عشرة صحيفة يومية لنشرها مثل هذه الإعلانات. وفات السيدة كاترين مايو أن الدكتورة ماري ستوبز الإنجليزية نشرت كتابا بلغتها في لندن في بحث المسائل الخفية من الحياة الزوجية، وقد طبع هذا الكتاب أكثر من سبعين مرة من سنة 1917 إلى يومنا هذا، وفعله في أذهان قارئيه أكثر من فعل الحبوب التي تشير إليها كاترين، ولم يقلل وجود هذا الكتاب وما يدعو إليه من الفسوق والتحريض على الشهوات من رجولة الشعب الإنجليزي الذي اشتهر عن بعض رجاله في المستعمرات أمور يندى لها الجبين. وتدعي كاترين مايو أن أكابر البراهمة يبغضون إصلاح المرأة ويقولون: «إن الزوج للبنت البرهمية أعظم وأصدق وأعز من كل المصلحين الاجتماعيين في العالم.» ص43 كتاب «أمنا الهند». فكأن الرجال ليسوا وحدهم المتردين في هوة الشهوة، بل إن النساء أيضا أكثر ميلا من الرجال إلى التردي في تلك الهوة. وادعت أن في كل جيل تموت 3200000 امرأة من آلام الوضع والولادات العسرة لصغر سن الزوجات الفتيات.
دعاية استعمارية ضد الهند
ووصفت في ص51 أن في مقاطعة مدراس ينذر الوالدون أطفالهم للمعبد تقربا إلى الآلهة وزلفى، فإذا ولدت إحدى الأمهات بنتا سلمتها إلى سدنة الهيكل فتناولها النساء الخادمات للإله بتعليم الرقص والغناء، حتى إذا ترعرعت وبلغت ست سنين أو سبعا يراها الكهنة صالحة للرجال فيتمكنون منها وفاء للنذر وباسم الإلهة كالي أو الرب فشنو ويطلق على مثل هذه البنت اسم ديفاداسيس أو «عاهرة الأرباب»، وأن الأطفال الصغار قد تفشت بينهم الأمراض السرية المزمنة والحادة، وأن الرجل الذي بلغ الخمسين من عمره يجد من اللائق أن تزف إليه بنت الخمس أو الست ولا يرى هو ولا أهلها في ذلك غضاضة (57).
وروت عن طبيبة إنجليزية أن المرأة الهندية تبقى حياتها في حال خمول عقلي، لأنها دائما مصابة بأحد الأدواء السرية ومنهوكة القوى من تكرر العلاقة الجنسية التي يمارسها زوجها ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد (ص61).
وقد نقلت كاترين مايو في ص63 مقالة بقلم المهاتما غاندي نشرها في مجلة «الهند الفتاة» 7 أكتوبر سنة 1926 ص349 ضد الزواج المبكر. ونسيت أن غاندي قال في ختام هذه المقالة إن الذنب فيما وصلت إليه حالة الهند الاجتماعية واقع على رأس الحكم الإنجليزي، لأن:
الرجل والمرأة في الهند كانا من خمسين عاما أقوى وأصح وأطول عمرا مما هما عليه الآن:
وعادة الإنجليز في المستعمرات أن يعملوا جهدهم في إضعاف الشعوب المحكومة خلقيا وعقليا لتدوم سيادتهم، في حين أنهم في بلادهم وبين الإنجليز العائشين في المستعمرات يشرعون التشريع الذي يحفظ صحتهم وينمي قواهم العقلية ويطيل أعمارهم، وليست حرب الأفيون التي شنت غارتها على الصين لامتناع أهلها عن تعاطي ذلك المخدر القاتل ببعيدة، وقد سميت حرب غوردون لأن الجنرال شارل غوردون كان قائد تلك الحملة المشئومة، وهو نفسه الذي لقي حتفه بعد ذلك ببضع سنين في الخرطوم على أيدي الدراويش.
وادعت في (ص71) أن الهنود كانوا يئدون بناتهم، فقد ادعت أن أحد المهراجات قال لرجل إنجليزي: «صاحب! أنت تعرف عاداتنا، كانت البنات تولد حقا ولكن منذ جيل مضى لم يكن مسموحا لهن بالبقاء على قيد الحياة ...» وأكدت مايو في ص71 أن هذه العادة لا تزال سائدة في أنحاء كثيرة من الهند. وقالت - والعهدة عليها - في تعليل إحراق الأرامل عند البراهمة، وهي العادة التي أبطلها الإنجليز إن رجلا هنديا اعترف للمؤلفة بأن الأزواج يسيئون معاملة الزوجات إلى درجة أنهم يخشون على حياتهم من القتل غيلة بدس السم في الطعام فسنوا سنة إحراق الأرملة، حتى إذا فكرت في قتل زوجها تعلم أنها لن تعيش بعده طرفة عين فتحجم عن الجريمة! وقررت أنها رأت في بعض السجون نساء مسجونات بتهمة قتل أزواجهن، ونسيت ما تنشره صحف الأخبار في أوروبا وأمريكا كل صباح ومساء عن ألوف النسوة اللواتي يتآمرن مع عشاقهن على قتل أزواجهن بالسم إذا أعوزهن المسدس ولم يضمن صدور الحكم بالبراءة من محاكم نيويورك ولندن وباريس. وقالت إن الإحصاء الرسمي الأخير الصادر في سنة 1925 أثبت أن في الهند 26834838 أرملة، أي ضعف سكان القطر المصري من ذكور ونساء وصغار وكبار ومرضى وأصحاء!
الولادة العسرة في الهند
أما وصف عملية الوضع إذا جاء للمرأة الهندية المخاض الذي لطخت به كاترين مايو كتابها في الصفحات 90 وما بعدها، فمما يحمر له وجه الإنسانية خجلا وتظهر فيه رغبة المؤلفة في التشنيع والفضيحة ولا يقصد منه إصلاح البتة، ولو افترضنا صحة بعض ما جاء فيه لأن الهنود يعتبرون كل ما له مساس بالوضع نجسا، فماذا صنعت الإدارة الإنجليزية في هاتين المائتي سنة التي دامت خلالها السلطة البريطانية في الهند؟ وأين التمدين والحضارة والخدمة الإنسانية؟ وهل يعقل أن وضعا يدوم خمسة أو ستة أيام وأن الداية (وهذا اسم القابلة باللغة الهندية) تمزق رحم الأم إربا لتخرج الطفل حيا أو ميتا (ص93) بحيث يمسي الوضع أبشع وأفظع وأفجع من الموت نفسه؟ ثم إن المؤلفة لا تخجل بعد ذلك إذ تذكر أن نجاح الهند مطرد ومستمر، وأن الشعب في بحبوحة من العيش وسعة من الرزق، ثم تعود فتنتقد نظام الحجاب «بوردا»، وتدعي بعد أن تكلمت عن «نجاح الهند المطرد وسعادة شعبها» أن الدكتور لانكستر ذكر ارتفاع نسبة الوفيات في النساء من السل الرئوي ارتفاعا ذا خطورة، وأن انتشار ذلك الداء الوبيل راجع إلى عادة الحجاب «بوردا»، وأن نسبة الوفاة السنوية تتراوح بين تسعمائة ألف ومليون شخص يموتون مساناة بداء الصدر (تقرير الدكتور أندرو بلفور وكتاب «صحة الإمبراطورية» ص286 سنة 1924).
وبمناسبة ذكر الدكتور بلفور أقول إن الطبيب المذكور انتدب لفحص صحة سكان القطر المصري في سنة 1920 أو 1921 (بوصف كونهم من رعايا الإمبراطورية البريطانية)، وقدم تقريرا وافيا فيه أبشع بيان عن حالة القطر الصحية، وذكره سير ڤالنتين شيرول في مقالاته وكتبه، ولعله محفوظ بين ثنايا «الدفترخانات» في مصلحة الصحة، ولم ينفذ منه شيء لأن السلطة القاهرة تمنع الأعمال التي تعود على هذه البلاد بشيء من الخير.
ولعل الإنجليز يرسلون البعثات من هذا القبيل لا لإصلاح الفاسد وتقويم المعوج من شئون الأمم التي بليت بحكمهم، ولكن ليستشهدوا بانحطاطنا وتأخرنا وانتشار الأمراض في شعوبنا عند مطالبتنا بحقوقنا، وليظهروا أمام الأمم الأخرى بمظهر الضعفاء والمنهوكين غير الصالحين للحياة. ولذا ترى كاترين مايو تغترف اغترافا من تقارير أطباء الإنجليز وطبيباتهم، وقد قالت: إن النساء اللواتي لا يرين الطريق منذ زواجهن إلى يوم وفاتهن يتراوحن في الهند بين 11 مليونا و17 مليونا وثلاثمائة ألف نفس، قد قضي عليهن بالسجن المؤبد بحكم العادات والزواج 116.
الأخلاق والوطنية
وإننا نؤيد صحة هذه النظرية، نظرية الاستشهاد بالإحصاءات الصحية والطبية ضد الحركة الوطنية، بما جاء في كتاب مايو نفسه فقد جاء في ص117:
إن مقاطعة بنغال هي مقر الهياج السياسي الشديد، ومحط العداوة المريرة بين الهنود والإنجليز. وتعد هذه الولاية مصدر الفوضيين وصناع القنابل ومنبت القتلة الذين يقدمون على القتل السياسي، وهم قدوة أصحاب القلاقل ونموذج لناشري أعلام الفتنة. وقد دلت مباحثي على أن أهل مقاطعة بنغال هم أشد الناس رغبة في الإفراط الجنسي (كيف علمت ذلك هذه المرأة؟!)، وقد لاحظ رجال الطب ورجال المباحث الجنائية العلاقة المتينة بين تلك الميول الشهوانية وبين تركيب العقول المشوهة التي تقترف الجرائم السياسية، فإن انهماك القوى البدنية والمعنوية في الشهوات البهيمية يحدث ظمأ للدماء ورغبة في التعويض عن الكمية المفقودة بالجرائم وإهراق الدماء. وترى بنغال كذلك مركز التمسك الجديد بعادة الحجاب فترى المنازل في حالة الموت والعدم، فلا يجد الشبان الملتهبون غيرة على وطنهم مجالا لتصريف مواهبهم الاجتماعية، ويجتمع ذلك إلى المبادئ الأوروبية التي أساءوا هضمها فينتج الإجرام السياسي. ا.ه. كلام كاترين مايو
وليس لنا كلام على هذه النبذة، والقارئ وحده يرى المجهود الشديد الذي بذلته تلك المرأة لترد الأعمال السياسية والثورات القومية التي ظهرت في الهند إلى الهياج التناسلي! وهذا أغرب تعليل قرأناه في حياتنا، فهل كان كل الأيرلنديين المطالبين بالحكم الذاتي، والفرنسيين في عهد الثورة، والإنجليز لدى محاكمة شارل الأول، والروس في الفتنة البلشفية، والبولونيين والإيطاليين، وأهل الولايات المتحدة في حرب الاستغلال والاستقلال عند أخذ الدستور، والصينيين في حركة الجمهورية، وقد قام كلهم بأضعاف ما قام به الهنود؛ هل كان كل هؤلاء مفرطين في العلاقة الجنسية؟ وهل كانت كل نسائهم الأوروبيات محجبات وبيوتهم مائتة لا تكفيهم ومبادئهم التي تعلموها أو التي اكتشفوها ببصائرهم القوية؛ كانت كلها مهضومة هضما سيئا؟
ألا إن البنكنوت الإنجليزي يفعل أكثر من ذلك في مثل هذه المرأة.
هذا قليل من كثير مما جاء في كتاب كاترين مايو، وأنت ترى أن سادتها الإنجليز سواء أكانوا في دوننج ستريت أم في سكوتلانديارد لم ينفقوا أموالهم عبثا ولم يضيعوها على باب كاترين مايو، بل استوفوا ثمنهم وأخذوا «بحقهم حلفا» وزيادة. وجاء كتاب كاترين مايو في وقته فنشرت منه مئات ألوف النسخ في القارات الخمس، فكان أبشع صورة ترسم للهند وأفظع دعاية تذاع ضدها في الوقت الذي قامت فيه قيامتها الكبرى.
وقد ألف كثيرون من الهنود والإنجليز أنفسهم كتبا قيمة في الرد عليه وتفنيد ما جاء به، وكان في مقدمة الذين ردوا عليها المهاتما موهانداس كرمشند غاندي نفسه، وقد عاب عليها أنها شوهت النبذ التي اقتبستها من كتبه ومقالاته ولامها على أنها طعنته من خلفه وهو راقد في سجنه في ص387، إذ نسبت إليه أنه وقد أصيب بالزائدة الدودية طلب أن يعمل له العملية طبيب إنجليزي لا طبيب هندي ، في حين أنه قد نشر مقالا انتقد فيه الطب الغربي، فكانت عدم ثقته بالأطباء من أبناء وطنه أكبر دليل على عدم صدقه في نظر كاترين مايو.
وقد كذبها غاندي في مواطن كثيرة، منها ادعاؤها أنها طلبت إليه أن يبعث معها رسالة إلى أمريكا فقال لها: «أرسل إلى أمريكا صوت هذا المغزل!» ومنها ادعاؤها حدوث هتاف عظيم للبرنس دي غال في 22 نوفمبر سنة 1912 إبان الثورة الهندية الأولى.
الفصل الثامن عشر
محمد علي وأخوه شوكت
جهاد محمد علي قبيل وفاته
في 4 يناير سنة 1931 توفي إلى رحمة الله المغفور له مولانا محمد علي الزعيم الهندي الشهير وأحد أبطال الاستقلال العالمي في العصر الحاضر، وكانت وفاته في منتصف الساعة العاشرة من صباح الأحد 4 يناير، وقد وصفته برقية روتر من لندن بأنه
المندوب الهندي المسلم إلى المؤتمر الهندي العام، وأحد الأخوين علي المشهورين، وقد اشتركا اشتراكا وثيقا مع غاندي في حركة عدم التعاون الأولى في الهند، ولكنه عارض حركة العصيان المدني الحالية، وسينقل جثمانه إلى الهند، ولكن جثمانه دفن بالمسجد الأقصى ببيت المقدس.
وكان محمد علي زعيما لثمانين مليونا من المسلمين، فكان لنعيه مأتم عام في جميع أنحاء الشرق عامة والعالم الإسلامي خاصة، وأرسل غاندي إلى أخيه يعزيه من سجنه ببرقية هذا نصها:
مصابكم مصابنا.
ويجب علينا أن ننوه بالفرق العظيم بينه وبين أخيه.
وقد جاهد هذا البطل الراحل في سبيل جميع الشعوب المظلومة، فناضل عن الهند وعن تركيا وعن فلسطين وعن كل أمة مسلمة أو شرقية واقعة تحت نير الظلم الأجنبي، وقد وصفه بعض عارفيه بأنه كان أخطب مسلم في الدنيا باللغة الإنجليزية، وهو يعد من أكبر علماء المسلمين وأزهدهم وأطهرهم يدا وأعفهم نفسا.
وقد سافر إلى مؤتمر لندن وهو مريض وحالته الصحية سيئة، ونهاه أطباؤه عن السفر وأنذروه بالخطر فلم يكترث وشد رحاله وأخذ معه أخاه وأهله في انتظار الموت، ولما وصل نعيه إلى فلسطين أعلن خبره على المنائر والمآذن في جميع مساجدها وأقيمت عليه صلاة الغائب، وفي بومباي قررت المدينة وقف دولاب العمل وأغلقت مخازن التجارة، وقد وافقت وفاته مضي ثمانية أشهر على سجن غاندي فأغلق خمسون مصنعا من مصانع القطن يعمل فيها مائة ألف عامل.
وكان لنعي الزعيم الراحل في مصر أثر لا يقل عن أثره في فلسطين، لأن الرجل كان معروفا للعالم الإسلامي والشرق كله وكان متصلا بجميع أركان الحركة القومية في العالم.
وبادر المجلس الفلسطيني الأعلى الذي يرأسه السيد أمين الحسيني مفتي القدس إلى تعزية أهل الفقيد ودعوتهم إلى قبول دفنه في المسجد الأقصى، فلبيت تلك الدعوة. وكان لهذا القبول أجمل أثر في العالم الإسلامي، فإن وجود جثمان الفقيد في فلسطين وفي إحدى البقعتين الطاهرتين المقدستين للإسلام رابطة بين مسلمي الهند وبين مسلمي العرب لا تزول ولا تنفصم عروتها وتوثيق للصداقة بين المؤمنين.
وهي فكرة سياسية بديعة جاءت بها قريحة السيد أمين الحسيني نابغة فلسطين ورافع لوائها، وقد خدمت الشرق العربي أجل خدمة، وهي أكبر دليل على تمام الاتحاد والألفة بين المسلمين في أنحاء العالم، وقد قال شوكت علي لبعض المعزين العبارة الآتية:
لقد أحببنا العرب من صميم أفئدتنا، وقد عزمنا على أن نعطيهم أخانا ليرقد بينهم.
وإنها في الوقت نفسه عاطفة تكريم جليلة للفقيد، فإنه طبعا كان يجد مرقدا كريما في وطنه وكان قبره يكون كعبة للقاصدين من مقدريه من المسلمين والهندوس، ولكن مثواه في جوار المسجد الأقصى إحدى الكعبتين ومهبط الوحي حيث قبة الصخرة وحيث مربط البراق الذي دافع عنه في حياته؛ لأمر ينطوي على أجمل الرموز وأسماها. وقد وفق السيد المفتي في إيجاد الفكرة وتنفيذها، كما وفق إلى المكان الجميل الذي جادت به أسرة الخطيب من أوقافها.
وقد فطن فحول اليهود إلى خطورة هذه الفكرة، فاحتجوا واعترضوا وأرسلوا برقيات المقاومة إلى سادتهم الإنجليز الذين أعطوهم وعد بلفور، ثم رأوا أن صوتهم قد غرق في الزوبعة ولم يعد مسموعا، فرأوا أن يتقهقروا وهم يتقنون التقهقر عند اللزوم، فلزموا الصمت أولا ثم أخذوا يرسلون برسائل التعزية لمولاه شوكت علي، عملا بالمثل المنسوب للأتراك «اليد التي لا تملك قطعها قبلها».
وهكذا مثلوا أيضا في هذه الفاجعة الإسلامية دورا دنيئا لا يصدر عن قوم يريدون المسالمة.
ترجمة حاله
وقد كان تاريخ حياة محمد علي وأخيه شوكت ... الله في أجله تاريخ كل مجاهد مستنير في الشرق المستعمر المغلوب على أمره، فإن الشاب الشرقي يولد وينمو فيتعلم ويتيقظ فيرى الويلات المنصبة على وطنه ويرى الهوة التي تفصل بينه وبين أصدقائه من قومه الممالئين لأعدائه فيقاطعهم ويناصبونه العداء، ثم إذا كبر شأنه ناوأته السلطة الأجنبية وضيقت عليه الخناق، فإذا سنحت الفرصة شنقته أو نفته من وطنه أو سجنته وهذا أضعف العذاب فيقضي الأعوام في غيابة السجن معتل الصحة أو مشرفا على الهلاك وأهله وبنو قومه الذين يدافع عنهم لا يحركون ساكنا في سبيل خلاصه إلى أن يموت، فيذهب من هذا العالم بعد أن ذاق مرارة العيش ولم تكتحل عينه برؤية وطنه في بحبوحة الحرية أو في هناء الاستقلال.
هذه حوادث تتكرر منذ نهض هذا الشرق البائس، تتكرر في جميع أنحائه سواء في ذلك الشرق العربي أو التركي الإسلامي أو الوثني، ولكن كان نصيب المسلمين من البلاء والعذاب أعظم لأن بلواهم مزدوجة، فالزعيم الإسلامي أو المصلح الإسلامي يجاهد جهادا ضد أعداء وطنه وآخر ضد أعداء دينه.
وهكذا كانت حياة المرحوم محمد علي الذي قضى وهو لا يزال كهلا في العقد الخامس من عمره ولا يزال أقرانه في أكسفورد على قيد الحياة وعلى أتم ما يكون من الصحة والعافية، ولكن جهاده هو أضناه وأضعفه وحياة السجن سبع سنين أدنت أجله.
أما ترجمته فهو من أكبر السلالات الإسلامية في الهند ذات التاريخ الحافل بالمفاخر. وقد ولد في ولاية رامبور وكان أبوه يومئذ يشغل وظيفة عالية في الحكومة وذلك في 1878، فقد مات إذن في الثانية والخمسين من عمره. وقد توفي والده وهو طفل فكفلته أمه التي كانوا يسمونها «أم الهنود» لأنها أنجبت ولدين اشتركا في خدمة الإسلام والهند أعظم خدمة وكانت تخطب في الجماهير وتحثهم على النهضة، وكلما سجن أحد ولديها أو كلاهما معا فرحت وشجعتهما وجعلتهما نموذجا وقدوة لغيرهما من أبناء الهند، ويلوح لي أنني قرأت في إحدى الصحف خبر اعتقالها حينا أو تهديد السلطة لها في إبان اشتداد الثورة. ولما ماتت الأم منذ بضع سنين كان لوفاتها رنة أسى في جميع أنحاء الهند ورثيت من جميع الخطباء ورجال السياسة في شتى المحافل والمجامع، اعترافا بفضلها وفضل ولديها على الهند والعالم الإسلامي.
وكانت الأم امرأة فاضلة ورعة، ويرجع الفضل إليها فيما شب عليه الفقيد الشهيد من الورع والتقوى والغيرة الدينية والوطنية.
وعندما شب كانت كلية عليكره قد ظهرت في الوجود فالتحق بها وأتم دروسه الثانوية في معاهدها، ثم صنع كما يصنع أعيان الهنود فشد رحاله إلى أكسفورد لإتمام دراسته الإنجليزية على النمط السكسوني. وقد روى مولانا شوكت علي في خطبة ألقاها في شهر رمضان في جمعية الشبان المسلمين أنه بعد أن عاد هو من أكسفورد وكان يكفل أخاه محمدا أرسله إلى أكسفورد ليتم علومه ثم التحق بلنكولنزاين حيث يتخرج رجال القانون وعاد حائزا لأعلى الدرجات في الأدب والتاريخ.
ومن تهكم القدر أنه التحق بخدمة الحكومة في الهند فقلد منصبا رفيعا في ولاية بارودا أعظم ولايات الهند الوثنية وأغناها وأرقاها! وقد أحبه راجاه بارودا وقربه وفضله على الوزراء الوثنيين، وصارت الكلمة كلمة محمد علي والرأي له إلى أن حدث خلاف بينه وبين الراجا فاستقال وأنشأ الصحف. وكان كاتبا قديرا باللغة الإنجليزية، فكتب المقالات الضافية في عدة صحف وأسس جريدة الرفيق «كومراد» فنالت من النجاح ما لم تنله جريدة قبلها.
وكانت غايته الشريفة بادية من خلال سطوره، وكان شعاره التوفيق بين طوائف الهندوس والحكومة والأهالي.
وقد صادف وقت جهاده وقت جهاد المرحوم مصطفى كامل، وكانت بينهما مكاتبات اطلعت على بعضها بينه وبين المرحوم مصطفى كامل في سنتي 1906 و1907، وكان يرسل مكاتيب التشجيع والمحبة إلى البطل المصري ولا سيما عقيب عودته من لندن بعد دفاعه المجيد في حادثة دنشواي، وكانت جريدة الكومراد ترد اللواء وتنقل عنها مقالات كثيرة في تلك الفترة.
مسلمو الهند بين الإنجليز والترك
وفي سنة 1906 ألفت الجامعة الإسلامية المذكورة في الهند، ويرجع الفضل في الشهرة التي نالتها الجامعة الإسلامية لصيانة مصالح المسلمين إلى همة المرحوم محمد علي وجهوده. كما أنه ساعد في إنشاء مسجد كونبور وأسس جمعية الهلال الأحمر لإعانة منكوبي حروب البلقان، وقام بأعمال كثيرة أخرى في الإصلاح مما جعله محبوبا ومعروفا في العالم الإسلامي بأسره. وكان دائبا على العمل في ترقية شئون المسلمين بعد أن أدرك بثاقب فكره أن طائفته كانت متلكئة في الرقي العصري، فمضى يعمل بلا كلال في سبيل إنهاضها وإذكاء نار الحماسة الوطنية في قلوب بنيها.
وعندما نشبت الحرب العظمى شعر مسلمو الهند بتنازع الولاء في نفوسهم ووقعوا بين عاملين: فكانوا من جهة يشعرون بأنهم مرتبطون بالخلافة في تركيا، ويشعرون من الجهة الأخرى بأن الواجب يقضي عليهم بأن يعترفوا بسيادة إنجلترا وإعانتها في الحرب والانضمام إلى صفها في مقاتلة دولة الإسلام الكبرى، وأخيرا اضطروا اضطرارا للانضمام إلى إنجلترا. ولكن الصحف الاستعمارية كالمورننج بوست والتيمس اندفعت في القذف في تركيا ووصف الأتراك بأنهم مطايا الألمان وخدمهم، فرأى محمد علي أن تلك الحملة لا تطاق وأنها ليست من الإنصاف في شيء فانبرى للمنتقدين بقلم من نار وأخذ يحرض المسلمين على عدم محاربة الأتراك جهارا، فصودرت جريدتا «الكومراد» و«هواداراه» واعتقل محمد علي نفسه في شهر مايو سنة 1915 لاعتباره خطرا على الأمن، ولم يستطيعوا أن يوجهوا إليه تهمة الخيانة أو المروق من الوطنية، وقد سار أخوه شوكت علي على خطته فاعتقلوه هو أيضا وقد بقيا في السجن من مايو سنة 1915 إلى عيد الميلاد سنة 1919، أي بعد الهدنة بعام وشهر.
ولما وضعت الحرب الكبرى أوزارها وظهر الحلفاء بمظهر عدم الوفاء بوعودهم، اشتد سخط المسلمين في الهند وعظم تبرمهم بالحالة وزادت نقمة محمد علي على الإنجليز، فاتفق هو والزعيم غاندي وشرع في نشر الدعوة للخلافة الإسلامية في طول البلاد وعرضها، وسافر في سنة 1920 إلى لندن من أجل النزاع الذي شجر في سبيل الخلافة، ولما رأى أن لا خير يرجى للإسلام من الإنجليز قفل راجعا وانضم إلى حزب غاندي، وطاف البلاد يدعو السكان إلى عدم المعاونة فاعتقلته السلطة الإنجليزية في سنة 1921 وبقي في السجن سنتين يقاسي أشد الآلام، لأن الحكومة في هذه المرة وجهت إليه تهمة تحريض الجيش الهندي على العصيان، وأخلي سبيله في سنة 1923. وكان اعتقاله هذه المرة أثناء سياحته مع المهاتما غاندي في نيزجاباتام في جنوب الهند وحوكم في كراتشي، وكانت لمحاكمته ضجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الهند وكان أخوه معه في المحاكمة والحكم، ونحن ننوه بفضل شوكت أثناء إخلاصه.
ولم تكن المدة التي قضاها في السجن إلا لتزيده تمسكا بمبادئه الوطنية. وبعد خروجه من السجن اتخذت الحركة الوطنية شكل المجلس الوطني وخطت خطوة كبيرة في سبيل التقدم. وفي هذه الآونة طلب بعضهم إليه أن يرأس مجلس الأمة في دلهي، فأدرك بفطنته مبلغ التطور مدة اعتقاله فاجتنب خطأ العثور وقاد النهضة الوطنية بهمة وحكمة فسارت في سبيل النجاح، وفي العام التالي رأس مجلس الأمة الذي عقد في كوكندا للمرة الثانية وقبلت جميع الأحزاب خطابه وأجمع الكل على أن خطبته كانت من أبلغ الخطب وأشدها تأثيرا في شئون الهند السياسية. ومنذ ذلك اليوم بات محمد علي الصديق الحميم والحكيم المرشد لغاندي، وأعاد إصدار جريدتي «كومراد» و«هواداراه» في دلهي فكانتا شعلة الإيمان الوطني ومثال الحمية المتوقدة.
محمد علي بعد عودته إلى وطنه
وكان في المباحث الخاصة بالتاريخ والاقتصاد والاجتماع فردا متوحدا وأنداده نادرون، وليس في البلاد من يفوقه في رجاحة العقل ولين العريكة وحسن السياسة، وكان يعرف الناس وشئون الحياة حق المعرفة ولذلك وجد السبيل إلى قلوب الرجال في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وقد ساءت صحته في السنتين الأخيرتين من عمره فاعتزل السياسة وخفت صوته إلى أن ذكرت أسماء المدعوين إلى المؤتمر الهندي فورد اسمه في طليعة المندوبين. وكان هو يشعر بالمرض بل بالموت وقد أخذ يسير نحوه حثيثا، وأنذره أطباؤه وأصدقاؤه بالخطر ولكنه لم يبال بحياته في سبيل خدمة وطنه فسافر وربما كان يشعر بأنه لن يعود إلى وطنه حيا.
ولما افتتح المؤتمر جلسته التمهيدية ألقى المرحوم محمد علي خطابا هاج النفوس ولمس أعماق الأفئدة فطلب استقلال بلاده بعبارة مؤثرة وقال: «إنني لسوء حظي لن أعود إلى الهند المستقلة، ولعلني أموت قبل أن أرى حرية بلادي ولعلكم تخطون لي قبرا في بلادكم.»
وقد صدق ظنه وصحت نبوءته، وكانت أعماله في المؤتمر ختام حياته وتاج جهاده.
ومن البديهي أن رجلا مثله عاش عهودا طويلة في بلاد الحرية أصبح لا يرضى العيش في غير آفاق الاستقلال، وهو إذ كان يعمل لخلاص وطنه من الاستعمار الأوروبي لم ينس إخوانه المسلمين في الهند، بل جعل خلاص بلاده وإسعاد طائفته وكفالة حقوقها أمرين متلازمين في جهاده الدائم المستمر. على أن الذين اختاروا أخيرا أن يثوى مثواه الأخير في القدس وهم السيد أمين الحسيني وإخوانه أعضاء المجلس الأعلى إنما نفذوا إرادة الله الذي أراد أن يكرمه بهذا الجوار الطاهر في تلك البقعة المباركة، كما نفذوا إرادته لأنه كان من أنصار الوحدة العربية الإسلامية، وكانت كل أمانيه وآماله أن يجتمع العالم الإسلامي والعالم العربي على قلب رجل واحد. وقد هب العالمان العربي والإسلامي لتشييع جنازته إلى مقره الأخير، وهما لا يصنعان أكثر من أنهما يوفيانه بعض الجزاء على ما بذل في حياته من جهود أكبر من أن يوفيها جزاء، ثم هما بعد ذلك يجتمعان على قبر رجل كان يعمل لأن يجتمع العالمان العربي والإسلامي في صعيد واحد.
وقد وصل جثمان المرحوم محمد علي إلى بورت سعيد صباح الأربعاء 20 يناير سنة 1931 (2 رمضان 1349) في الساعة السادسة صباحا ومعه أخوه وزوجته وابنته وابن أخيه، وقد أنزل الجثمان في السادسة صباحا بمسعى بعض رجال الطرق المشهورين، وساء مصر كلها أن النعش نقل إلى المسجد وشيع من المسجد تشييعا حكوميا محضا في الساعة العاشرة صباحا في رمضان، وقبل أن يستيقظ أهل بورت سعيد الذين لم يتمكنوا من الاشتراك في تشييع الجنازة، ولم يكن هناك ما يدعو إلى السرعة لأن النعش وصل إلى المحطة في الساعة الحادية عشرة من صباح الأربعاء وبقي بها إلى مساء الخميس 21 يناير حيث نقل في القطار إلى القدس، وكان يمكن تأجيل التشييع إلى ظهر اليوم أو بعد الظهر بساعة ولكن هكذا شاء المتحالفون على عدم إشراك الشعب المصري في تشييع جنازة الفقيد الراحل.
وقد رويت عن السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسي الشهير في خطبة رثائه في ظهر الجمعة 22 يناير سنة 1931 بالمسجد الأقصى نبذة من تاريخ حياته كما شهدها بنفسه، قال:
كنت نزيلا عليه أيام إقامتي في دلهي سنة 1925، وكان يعالج بياض نهاره وهزيعا من الليل بالكتابة والخطابة والتفاهم مع الأحزاب وملاقاة الزعماء ومحادثة رجال الهند وأقطابها، ولكن كان له عمل آخر لا يشغله عنه شاغل في الهزيع الأخير من الليل هو تزكية القلب وتصفية الروح فقد كان ينقطع للتهجد وقراءة القرآن حتى مطلع الشمس ثم يعود إلى استئناف عمله، وهكذا دواليك.
وختم الثعالبي رثاءه بقوله:
إن محمد علي كان عظيما بكل ما في هذه الكلمة من معان، وسر عظمته كان في عقيدته وفي إيمانه وإخلاصه. لقد مات الرجل الذي وضع أساس تحرير الشرق، ولكن هذا لا يعني أن العمل الذي بدأ فيه سوف يتوقف، إن المعول على الإخلاص! لم تكن مواهبه في ذكائه وخطابته وعلمه ولكنها كانت على الأخص في إيمانه ويقينه وإخلاصه.
ولا يقل فضل شوكت علي عن فضل أخيه، فقد كان مربيه وصديقه وقد خطب في جمعية الشبان المسلمين 30 يناير سنة 1931 باللغة الإنجليزية، فذكر فتوح الإسلام وهمة العرب ونهضة الشرق، ثم قال: «إنني ربيت أخي ثم صرت له تلميذا، وكنا نعيش في بداية أمرنا كما يعيش الإنجليز نحلق لحانا وشواربنا ونلبس الثياب الأجنبية ونشترك في الألعاب السكسونية ونتقنها، وقد بنينا دارا على الطراز الإنجليزي وأثثناها على الطريقة البريطانية وأخذنا نستقبل أضيافنا من الأجانب فكانوا يأكلون طعامنا ويشربون شرابنا ويطعنون في شعبنا أمامنا ثم يحتقروننا في قلوبهم، فلما بانت لنا الحقيقة خلعنا ثيابهم وأرخينا لحانا لتكون احتجاجا على الظلم الأجنبي ورضينا بالثياب الوطنية التي تستر أجسامنا وتقينا البرد، وهي أقل في مظهرها من الثياب الإفرنجية الفاخرة ولكنها صنع أيدينا وبضاعتنا التي نفتخر بها. ومنذ صار لنا هذا المظهر الإسلامي الشرقي أخذ الإنجليز ينظرون إلينا بعين الاحترام والاعتبار ويعتبروننا أشخاصا نمثل الإسلام والشرق فكفوا عن احتقارنا، ونحن كففنا عن مظاهر الثروة ورضينا بالكفاف والزهد في العيش.
ومن أغرب ما حدث أنه في صبيحة إلقاء هذه الخطبة البريئة انبرت سيدة سورية تنتمي إلى العقيدة المارونية في إحدى الصحف السورية الموالية لفرنسا في الشرق تنتقد وترغي وتزبد وادعت باطلا أن خطبة شوكت علي تعني وجوب مقاطعة كل فكرة جديدة وكل أسلوب مستحدث والاكتفاء بما خلفه الماضي من الأفكار والأساليب ووسائل المعيشة، ولم تكن تلك الآنسة أو السيدة قد حضرت الاجتماع أو سمعت الخطاب الذي ألقاه مولانا شوكت علي ولم تكن قرأته في الصحف ليدلها على حقيقة أفكاره، ولكنها كانت آلة في يد أعداء الشرق والإسلام الذين أوعزوا إليها أن تهاجم شوكت علي وتتهمه باطلا بأنه يدعو إلى الرجعية والقهقرى وينشر فكرة المقاطعة والرجوع إلى الماضي واحتقار أوروبا ومدنيتها، وهذه شنشنة عرفناها من أخزم.
وفي الحق أن تلك الكاتبة المسترزقة وسادتها وأساتذتها ليس لهم دخل في شئون الإسلام كما أننا لا دخل لنا في شئون الموارنة أو الكثالكة، ولكنها سلاطة وإسفاف وغدر مبيت تظهر بوادره كلما سنحت من المصلحين سانحة، فهؤلاء القوم الذين آواهم الإسلام وفرش لهم وأنامهم وأسعدهم في كنفه، يفتئون يحاربونه بكل سلاح ولا يخجلون أن يسخروا صبيانهم ونساءهم لمناوأته. ومما يدل على جهل تلك الكاتبة وتعصبها وعدم فهمها الخطابين اللذين ألقاهما الثعالبي وشوكت علي في ذلك الاجتماع أنها خلطت بين الخطابين خلطا مدهشا.
فقد كان موضوع الثعالبي «انتشار الإسلام بغير حرب ولا سلاح»، وكانت خطبة شوكت علي شكرا للذين احتفلوا به وعزوه في أخيه، فسرد الثعالبي وقائع تاريخية تؤيد نظريته وهي نظرية جاء بها كثيرون من المؤرخين الإفرنج في كتبهم، مثل
G.H. Wells
وستودارد ومؤلف تاريخ عبد الحميد وغيرهم، وكلام شوكت خاص بتاريخ أخيه وأعماله في الهند. ومع هذا التباين العظيم في الموضوعين ومع حضور مئات من العلماء والأدباء لدى إلقاء الخطابين المختلفين، فإن السيدة الكاتبة المارونية الملة والمتعصبة النزعة قالت في استهلال مقالتها:
ومع أن خطاب الأستاذ الثعالبي كما نشرته الصحف في وصف الاجتماع الذي أقامته جمعية الشبان المسلمين أوفر إسهابا، فإنه في الجوهر وفي طائفة غير يسيرة من التفاصيل متوافق وخطاب مولانا شوكت علي، فحمدنا للأستاذ الثعالبي بيانه عن روح السلم والسماحة في الإسلام كما حمدنا لكل من الزعيمين الكبيرين محبتهما لهذا الشرق العظيم ورغبتهما في إنهاضه وتحريره وإسعاده باستعادة مجده السالف.
ولكن هذه مقدمة، ولين مدخل، واستدراج للقارئ ليتناول السم المدسوس في الدسم، وهذه طريقة تنبئ بحسن القصد وسلامة النية والتجرد عن الهوى ولكن وراءها الغدر والنكاية وإيغار صدر أوروبا والسلطات الحاكمة في الشرق على هذين الزعيمين، فإنها بعد أن نبهت إلى أنهما زعيمان يرميان على إنهاض الشرق حذرت أوروبا منهما لأنهما رجعيان ومتعصبان يقولان بمقاطعة أوروبا في أفكارها وبضائعها. قالت:
وقد استوقفنا من خطابي الزعيمين القول الواحد الذي يعني وجوب مقاطعة كل فكرة جديدة وكل أسلوب مستحدث والاكتفاء بما خلفه الماضي من الأفكار والأساليب ووسائل المعيشة.
واستمرت على هذه النغمة تنسج خيوطها وحبائلها للوقيعة والفتنة، وهذا من أشنع أنواع التجسس والاختلاق والبلاغ الكاذب والنميمة التي يجب على كل عاقل أن يتبينها قبل أن يأخذ بها أو يصدقها، عملا بنصوص القرآن الكريم وأحكام القوانين.
وفي يوم الأربعاء 2 فبراير سنة 1931 ألقى مولانا شوكت علي خطابا على نخبة فاضلة من سيدات القاهرة فقال إنه مدين بكل ما هو فيه من حب الإسلام والشهرة المكتسبة هو وأخوه لامرأة وهي أمهما التي كونتهما وثقفتهما ولم تكن متعلمة ولكنها سيدة علمها الزمن، وكان لها عقل راجح وصدر رحب فعلمت ولديها حب دينهما وأهله، وكل ما قاما به من جهاد في سبيل الإسلام والمسلمين إنما هو ثمرة لهذا الغرس الذي غرسته أمهما في نفسيهما. وكان محمد علي عمره سنة واحدة عندما توفي والده، وكان عمر الخطيب (شوكت) سبع سنين وكانت تركة أبيهما مستغرقة بالديون، فقلبه مفعم بالحب لأمه العظيمة التي جاعت كيلا تبيع أرضهما المرهونة وباعت كل ما كانت تملك حتى ربتهما هذه التربية التي نشأا عليها، ومن أجلها هو يقدس المرأة ويعمل كل ما يمكنه في خدمتها إكراما لأمه.
ثم تكلم عن حجاب المرأة الهندية وهو المسمى بنظام البوردا (ولعله مأخوذ من كلمة بردة أي ثوب)، فقال إن سببه فتوح الموغول فأصبح الهنود محكومين بعد أن كانوا حاكمين فاضطر المسلمون إلى حجب النساء وقاية لهن من التعدي والأذى، وإن الذي ساعد والدته على تربيته وتربية أخيه وأخواتهما الأربع إنما هو الحجاب، لأنها اقتصدت ولم تر بذخ السيدات ولم تتأثر بأفكارهن بالعدوى، فكان ذلك معينا لها على الانصراف إلى تكوين أسرتها بالطريقة المجدية النافعة، وإن أول واجب على المرأة المسلمة أن تكون الأسرة تكوينا يخرج الناشئة على جميع الأخلاق الفاضلة.
ثم قال: إننا وقفنا مكتوفي الأيدي والروح الإسلامي يضعف شيئا فشيئا وخصوم الإسلام يعملون على هدمه والاستيلاء على مقدساته ويحاربون المسلمين في دينهم وأعز شيء عليهم، وإن الأخطار التي تحوط جميع الأمم الإسلامية اليوم يجب التفكير الجدي في وسائل صدها ودفعها عنها.
لا ينبغي أن نبكي إذا أخذ وطننا منا، ما دمنا نصرف أوقاتنا في التافه من الشئون ونضن على الله ببعض أوقاتنا.
لا نريد أن نتصوف ولا أن نتقشف، ولكن نلبس زينة الله ونتمتع برزقه في حدود الضرورة. ولكن علينا أن نعطي أرواحنا قسطا من التربية والتهذيب النفسي كما أعطيناها من الملاذ والشهوات.
التفكير في الدفاع عن الشرق واجب
ولم يكد المرحوم محمد علي تجف دموع الباكين عليه حتى أطلق سراح غاندي وتوفي المرحوم متولال نهرو أحد عظماء الهنود وقد خرج من السجن إلى القبر. وانتهى مؤتمر لندن، والتقى غاندي بلورد إروين الحاكم العام في الهند واتفقا في النهاية على منهاج الهدنة ووقف الحرب السياسية ريثما تتم خطة الاتفاق النهائي التي تنيل الهند أمانيها المقدسة.
وربما كان هذا من المصادفات ولكن من العجيب حدوثها عقيب وفاة الزعيم الراحل، فقد صدق من قال إن دماء الشهداء تغذي شجرة الحرية، وهذا الشهيد قد سقط في ميدان الوغى يدافع عن وطنه وعن دينه وعن الشرق أجمع، وقد تحقق بعد موته أمله الذي كان يسعى إليه طول حياته وكاد يتحقق عن قريب بإذن الله.
إن الذي حدث وظهر فيما يتعلق بإخواننا الهنود المسلمين أمر على أعظم جانب من الخطورة، وقد سبب دهشتنا وغير مجرى أفكارنا. إنه من المبالغة أن نقول إننا واقفون على أحوال المسلمين في الهند، وكل ما يمكننا أن نقول به هو ما ظهر لنا من نهضتهم بسبب إنشاء كلية عليكره التي أسسها سيد أحمد خان الزعيم الهندي المسلم وكانت جريدة المؤيد تدعو للاكتتاب لتلك الكلية، وقد جمعت مبالغ لا بأس بها من كرام المصريين. وفي ظني أن فكرة الوطنية أو الاستعمار لم تكن هي الحافز لنا في ذلك العهد على مد يد المعونة لتلك الكلية، بل كان الحافز لنا هو الرابطة الدينية بين المسلمين الهنود وبين المصريين، وأخذ بعض الهنود المسلمين المتعلمين لا سيما الذين ختموا دراستهم في بلاد الإنجليز يمرون بالقطر المصري فيلقون إكراما وعناية واحتراما من رجالنا العموميين، ومن هؤلاء ضياء الدين أحمد الذي مر بمصر في سنة 1907 وغيره، وكان بعض العظماء أمثال أبو الكلام والسهروردي وسير شافعي وبعض رجال حيدرآباد الدكن يمرون بمصر فيكرمون على اعتبار أنهم مسلمون. ولم تكرم مصر هنديا وثنيا على اعتبار أنه وطني قبل برمشاور لال المحامي الهندوكي البنغالي الذي زار مصر في سنة 1908، وكان من أهل النبوغ والفطنة والإخلاص لوطنه وللشرق.
ولم يكن جميع المصريين قاطبة ما عدا أفرادا يعدون على أصابع اليد الواحدة يعلمون أي شيء عن الحركة الهندية قبل سنة 1909 عندما اتصل بعضهم ببعض زعماء الهنود الذين كانوا يجاهدون في سبيل وطنهم في أوروبا، أمثال كريشنا ڤارما بلندن وباريس ومدام كاما بباريس وجنيڤ وساڤاركار بلندن وباريس، وهارديال وشاتوبادايا.
وكانت الهند مرموقة بعين الاحتقار في الشرق ولا سيما في القرن التاسع عشر، فكانوا يضربون الأمثال بمذلتها للإنجليز، وكان بعض المصريين يظنون أن الإنجليز يسرجون الهنود ويتخذونهم مطايا، وينذرون بعضهم بحظ سيئ لا يقل عن حظ الهنود. وقد تحققنا من صدق هذه الأقوال إلى حد ما وإن كان فيها بعض المبالغة، فإن الإنجليز حقيقة يسيئون إلى الهنود في بلادهم ويهينونهم كما هي عادة كل فاتح أجنبي قليل العدد في البلاد المفتوحة فهو يستعين على قلته بالقسوة والإرهاب. ولكن يظهر أن الهنود الذين سافروا إلى أوروبا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وتلقوا العلوم الحديثة في إنجلترا وألمانيا وأمريكا تمكنوا من استرجاع مكانتهم في أوطانهم، ويرجع الفضل في النهضة الأخيرة إلى بضعة رجال من الهندوس والمسلمين، وإلى قسط من الحرية أرغمت إنجلترا على إعطائه للهنود؛ فكانوا يجمعون في كل عام مؤتمرهم الوطني، وكانوا ينشرون في بلادهم وفي الخارج جرائد ومجلات متطرفة في الحرية ساعدت على تشجيع الهنود وهدم صروح الأوهام القديمة التي كانت قائمة في وجوههم. وربما كان أعظم رجال النهضة الحديثة قبل «جاندهي» الأستاذ المرحوم تيلاك الزعيم الهندي الشهير الذي حوكم في سنة 1906 وحكم عليه بالسجن ست سنوات، وهو يعد بحق مؤسس حركة «سواراج» أو الاستقلال التي قامت في الهند في الثلاثين سنة الأخيرة ... ومن المسلمين سير شافعي الذي توفي اليوم.
1
أصول المسلمين الهنود وخططهم
وأخبار النهضة الهندية الحديثة تهمنا في مجموعها كما يهمنا أمر المسلمين في تلك البلاد، فإنهم يبلغون ثمانين مليونا، وقد رأينا منهم في العهد الأخير عددا وفيرا، وكلما حادثنا أحدهم أبهم الأمر علينا لكثرة ما نراه من التناقض في مقاصدهم، ولكن يمكننا الاستنتاج بالإجمال أن معظم المسلمين الهنود جهال كغيرهم من المسلمين في جميع أنحاء العالم، وأن المتعلمين منهم أقلية، والذين يتعلمون منهم يتمايزون على غيرهم وتظهر كفايتهم ونبوغهم بدرجة مدهشة. وليس كل المسلمين في الهند من أصول عربية أو تترية أو موغولية أو فارسية، بل معظمهم من الهنود الأصليين الذين انتحلوا الإسلام عند دخول المسلمين فاتحين إلى بلادهم، وربما كان الكثيرون منهم من الطبقات المقصية أو القليلة المجد والتي وجدت في الإسلام حرية وإخاء ومساواة وضمانا لحقوق الضعيف والمظلوم فاتخذته درعا ضد اضطهاد البراهمة.
غير أن هؤلاء المسلمين مهما كانت أصولهم فقد احتفظوا بكثير من شجاعتهم وسلطتهم الأدبية، حتى ترى بعضهم يقول مفاخرا:
نحن فاتحون ونحن حكام، ونعرف وسائل الحكم والسلطة والسيادة في هذه البلاد وهذا وجه خوف الهندوك منا، فهم يخشون جانبنا لأننا سادة البلاد.
وكان أعظم المصرحين بهذه السخافة السياسية الرجل المدعو شوكت علي، الذي ثبت لنا كما ثبت لكل شرقي متصل بالحياة العامة أنه يعمل للاستعمار ويخدم الدول الأجنبية في بلاده، وقد اتخذ الإسلام والخلافة ستارا يعمل وراءه لمصلحته الشخصية، لأنه لو سلمنا جدلا بصحة هذه النظرية وبصدق قولهم بأنهم سادة البلاد وحكامها، فقد آن لهم أن يتنزلوا عن هذه الدعوى ويتخلوا عنها لمصلحة الوطن، وهي أعظم من مصلحة فئة من فئاته أو طائفة من طوائفه. فإن العالم المتحضر يسير في طريق المساواة لا في طريق الاستبداد، وإن هذه الدعوى الباطلة لا تفيد مطلقا الآن لأن المسلمين أقلية والهندوك يزيدون على ثلاثمائة مليون، فأين يذهب سبعون أو ثمانون مليونا في بحر هذه الأغلبية؟ فضلا عن أن الهنادك متعلمون ومنورون ومنهم الشعراء والفلاسفة ورجال السياسة والاقتصاد والقانون. وقيام حرب بين الطائفتين الآن مستحيلة، ولو قامت فإنها تدور دائرتها على المسلمين لا محالة. ثانيا: إن المسلمين بالاستمرار على إذاعة هذه النعرة السخيفة يعطون للإنجليز سلاحا قويا جدا يتقربون به لدى الهندوس ويهددونهم به بعد أن يعيروهم بالتفريق الكائن بينهم وبين المسلمين، والهندوس أنفسهم إذا سمعوا ذلك القول تأخذهم العزة ويبغضون المسلمين ويضمرون لهم السوء ولا يأمنون جانبهم مطلقا، وقد يعملون على أذاهم بكل الوسائل إما بنزع ملكية أراضيهم أو بإذلالهم أو بغوايتهم ليعودوا إلى حظيرة الوثنية، وقد حدث شيء من هذا فعلا، وهذا نفس ما ترغبه إنجلترا لأنه عين الشقاق الذي يمكنها من السيادة والحكم المطلق في الهند. فنحن وإن لم يكن لنا أن نلقي على الهنود درسا إلا أننا نرى وجوب الاتحاد بين طوائف البلاد الشرقية جميعا حيال العدو الأجنبي، ويسوءنا عزلة المسلمين عن غاندي.
وقد قابلنا كثيرين من الهنود المسلمين وغيرهم في طريقهم إلى مؤتمر المائدة المستديرة، وقابلنا غاندي ومن معه من الأبطال والزعماء والقادة والشعراء والفلاسفة، وحادثناهم فكانوا جميعا متفقين فيما بينهم على تمام الوفاق مع المسلمين. وقد رأينا من شوكت علي بعد أن جمعنا بينه وبين غاندي وتعانقا على ظهر الباخرة «راجبوتانا» نفورا وتكبرا ظنناه في أول الأمر تهوسا بالعظمة، فإذا به تعلق بحكم الإنجليز الذي كان شوكت علي يدافع عنه بحياته حتى في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس في ديسمبر سنة 1931.
وقد سرنا أن رأينا أفضل عناصر الإسلام منضمة إلى غاندي ولم يمكنوا الإنجليز من أن يقولوا لهم: «اتفقوا فيما بينكم أولا ثم تعالوا إلينا لتتفقوا معنا.»
محمد علي جناه سياسي حذر «حر دستوري»
وقد قابلنا من المسلمين الهنود شبانا متعلمين في طريقهم إلى لندن وهم من تلاميذ كلية عليكره التي أسسها السيد أحمد خان، وحادثناهم على انفراد فإذا بعضهم متمسك بالفكرة الإسلامية وحجته في ذلك أن الهنادك قد اضطهدوا المسلمين جملة قرون وقاطعوهم واعتبروهم من الأنجاس تقريبا والذين لا تجوز معاشرتهم، وقد تعطلت مصالح المسلمين في البلاد وزاد جهلهم وصاروا في بلادهم أذلاء، وكان الهندوس يبغضونهم بظن أنهم معادون للوطنية الهندية، فلما ظهر نوابغ من المسلمين ومن الهنادك تمكن الفريقان من جمع الكلمة ولم شمل الفريقين. وأخذ الجميع يعملون للمصلحة المتحدة في الهند وإنجلترا، وعلى رأسهم المغفور له سير أمير علي الذي ألف كتبا جليلة في تاريخ الإسلام والشريعة والحضارة الإسلامية، ومن فضلائهم المرحوم أبو الكلام وسير إقبال وسير شافعي وظفر علي خان وعباس طبيجي.
وممن لقيناهم في العهد الأخير محمد علي جناه وهو محام هندي مسلم متعلم ذكي وسياسي محنك، ويكاد يكون إنجليزي النزعة في هيئته وحديثه وعاداته ولكنه وطني مخلص وهو شديد الحذر سيئ الظن برجال السياسة في الشرق والغرب، ولكنه يتلهب غيرة على بلاده، وهو قليل العلم بأحوال الشرق والإسلام وإن كان قد انقطع لدرس المسألة الهندية. وهذا الرجل وضع منهاجا مؤلفا من أربع عشرة نقطة (تذكرنا بأربع عشرة نقطة وضعها ويلسون منذ أربع عشرة سنة)، ومعظمها خاص بحقوق الانتخاب وامتيازات المسلمين في الولايات التي يكثر عددهم فيها. ومن آرائه التي تلقيناها عنه مباشرة في 12 سبتمبر سنة 1931 أن المسلمين والهنادك لا يجوز لهم أن يذهبوا إلى مؤتمر المائدة المستديرة قبل أن يتفقوا فيما بينهم. وهو قليل الثقة بغاندي ويتهمه بأنه يخدم طبقته وهي طبقة أرباب المتاجر الصغيرة، ولا يظن أن الهند تنال استقلالا على يديه لأنه لابس «لانجوته» أي سراويل قصيرة، إشارة إلى الزي الذي اتخذه غاندي. أما محمد علي جناه نفسه فهو يلبس الملابس الإفرنجية والقبعة الإنجليزية ويدخن الجحشة على طريقة السكسون، وهو يقدر ما حصل عليه الهنود من الإنجليز حتى الآن بثلث حقوقهم وينتظر الحصول على الثلثين الباقيين. وقد علمنا أن محمد علي جناه أشبه الناس في السياسة بالأحرار الدستوريين، وهو زعيم له أنصار من طبقة المتنورين، وهو طبعا يرفض زعامة شوكت علي وأمثاله، لأنه يعتبر نفسه أرقى منه عقلا وعلما ولا يقل عنه إخلاصا وانتسابا للإسلام. وهذا النوع من الرجال نحترمه ونقدره قدره، ولكنه ينفع وطنه بعد حصوله على الاستقلال المنشود، أما الآن فإنه يثير الشكوك وقد يخيب الآمال، لأنه محام حريص أكثر منه زعيما وطنيا، ولعله مساوم أكثر من سياسيا، وقد قيل لنا إنه خطيب قدير بلغته وهو يجيد الإنجليزية.
ولكن ليس بالدرجة التي يجيدها سير محمد إقبال الذي سموه بحق شاعر الهنود المسلمين وفيلسوفهم، فإنه يمثل نوعا آخر من الرجال، فهو كهل في منتصف العقد السادس أسمر اللون حسن التقاطيع سليم القلب صادق النظر، مملوء بالعواطف الكريمة والآمال العالية. وقد تلقى علومه في ألمانيا وفي إنجلترا، واشتغل بالمحاماة والأدب والفلسفة في بلده لاهور. وهذا الرجل كان صديقا حميما لمحمد علي المتوفى في العام الماضي 1931، وكان على ما ظهر لنا لا يحب أن يتحد محمد علي مع غاندي، ولا يزال يجاهر بهذا الرأي لاعتبارات طويلة وجيهة في نظره، ولكنه لا يرفض الاتحاد معه ولا يأبى العمل في كنفه، ولكن له وجهة نظر قد تختلف عن وجهة نظر غاندي.
ويهمني قبل كل شيء أن أقول إنه ليس من نوع شوكت علي وليس على مبادئه ولا علاقة بينهما في شيء، وقد قال لنا: «لقد كان من سوء الحظ أن سافرنا من إنجلترا إلى مصر على مركب واحد.» وقد رأيناه في أثناء إقامته القصيرة في مصر يتهرب من مقابلة الرجل ويحسن التخلص من فرصة الاجتماع به، ويصرح بأنه ليس على رأيه في شيء. وقد نزل في مكان غير الذي نزل به شوكت علي، وسافر بمفرده إلى القدس لحضور المؤتمر، ولم ينضم إلى الرجل المذكور في فكرة أو رأي.
وعندنا أن إقبال من نوع تاغور الشاعر الفيلسوف، وهو مسلم بمعنى الكلمة، ولعله من سلالة الفاتحين، وهو أديب في اللسان الفارسي الذي يتقنه إتقانه للغة الهندوستاني والأوردي، والإنجليزي والألماني، وهو عظيم الأمل في نهضة الإسلام ومستقبله وظهوره بمدنيته ومجده كما كان في سالف الزمان. وهو يرفض الوطنية الجنسية والفكرة القومية ويعتبر الإسلام رابطة ووطنا وجامعة أقوى من كل تلك الروابط. ويقول إن أوروبا أفسدت الشرق بأن أدخلت عليه فكرة الوطنية بالقومية أو بالانتساب إلى بقعة معينة، فإن الشرق تجمعه الروابط الروحية والدينية أكثر من الروابط الأخرى. وقد صرح لنا أنه عندما أراد محمد علي الانضمام إلى غاندي سنة 1922 أو 1923 زاره في لاهور وعرض عليه الفكرة فعارضها إقبال وقدم حججه على رفضها، ولكن محمد علي أصر عليها.
وبعد حين عاد محمد علي إليه وهو مريض قبيل سفره إلى مؤتمر المائدة المستديرة 1931، وقال لإقبال إنه آسف على أنه خالف رأيه وقد رأى خطأه بالاختبار ولكنه يرى نفسه مضطرا للسفر إلى لندن، حيث لقي منيته. وقال إقبال عن نفسه إنه لم يكن سياسيا ولم يكن مشتغلا بالسياسة وكان يعيش دائما بعيدا عن الأوساط السياسية، وهو يحب أن يخدم قومه بالفكر والكتب والفلسفة والشعر، وله نظريات جديدة في تجديد التفكير في الإسلام وفي استنباط أساليب حديثة في الفقه والحديث وعلم الكلام وفتح باب الاجتهاد لأنه عدو للجمود، ويعتقد أن القرآن ينطوي على كل شيء يؤدي إلى تقدم المسلمين ونهوضهم، ويجاهر بأن الإسلام خدم المدنية والإنسانية والعلوم الحديثة. فهو زعيم إسلامي أو مفكر إسلامي من طبقة أرقى من طبقة سيد أمير علي المؤرخ، لأن إقبال ينظر إلى الإسلام باعتباره كائنا حيا قابلا للتطور والتحول نحو التقدم والإصلاح والنهوض بعد الركود والحياة بعد طول الرقاد والمرض. وربما كان هذا النوع من الرجال لا يكترث كثيرا للحياة السياسية العملية، لأنه ليس رجل كفاح فهو لا يحارب الإنجليز جهارا ولا يشهر في وجوههم سلاحا، ويكفي دلالة على ذلك أنه يحمل لقبا من ألقاب شرفهم، ولكن هذا اللقب في اعتقادي لا يقدم ولا يؤخر ولا يقلل من وطنية الرجل فإن كثيرين من الزعماء في الشرق باشوات دون أن يكون لتلك الباشوية أو الميرميرانية شأن في أخلاقهم أو في تقليل وطنيتهم. بيد أننا بعد أن عاشرنا إقبال وأحببناه واحترمناه لا يسعنا إلا الأسف على أن لا يكون لرجل مثله في خدمة بلاده نصيب أكبر، ولعل سياحته الأخيرة في الغرب والشرق تساعده قليلا على الخلاص من موقفه الحالي. ومن أمثاله ذو الفقار علي خان وجاودري ظفر الله خان وشفاعت أحمد خان وسردار سليمان قاسم الحاج ميتا وغيرهم.
ومن الرجال الذين رأيناهم شفيع داودي، وهو محام هندي مسلم وشاعر، وهو شيخ أشيب ولكنه محتفظ بقوة الشباب وحرارته وحياته. وقد كان في اجتماعنا به في نفس الوقت الذي التقينا فيه بمحمد علي جناه تناقض غريب بين ذلك الشيخ الصريح الوطني المخلص الصادق النزعة المتمسك بالزي الشرقي في وقار واحتشام المملوء بالثقة في مستقبل الإسلام الواضح الحديث الجلي الرأي، وبين الكهل النحيف الجاف المتفرنج الذي أخذ يساوم محادثه المصري (وهو دكتور فاضل) وينظر إليه شزرا ولا يبوح له بكلمة إلا إذا استدرجه في عشر كلمات. ولكن شفيع داودي من نوع أصدق معدنا وأرقى جوهرا وهو من مندوبي الشعب، وقد اشتغل بالحركة الوطنية منضما إلى جمعيات الخلافة التي تأسست وتطورت واندثرت ثم بعثت. ولكنها تمثل دائما فكرة واحدة وهي وجود دولة إسلامية قوية ينضوي تحت لوائها جميع شعوب الإسلام، وهي فكرة سليمة في ذاتها وليس عليها غبار ولكن الذي يضعفها ويؤذيها هو دسائس المشتغلين بها وفتنتهم، أمثال شوكت علي الذي تلون وتلوى واتخذ جملة صور وأشكال في بضعة أشهر. فقد كان أول ما رأيناه في تشييع جنازة أخيه محمد علي ودفنه فقد كان وطنيا هنديا مخلصا يقول بقول أخيه الذي انضم إلى مطالب غاندي إلى آخر لحظة من حياته، وسافر من الشرق ونحن نعتقده زعيما عظيما، وما زلنا على اعتقادنا حتى عاد من الهند في صيف عام 1931 يقصد مؤتمر الدائرة المستديرة، فكان أول ما سمعناه منه من الحط من شأن غاندي والتقليل من مكانته في الهند وأوروبا فدهشنا من ذلك وحذر من التصريح بهذا الرأي، ثم ظهر الرجل بمظهر المصلح والموفق بين الأحزاب المصرية فقوبل في بعض الأوساط بالاستهزاء والاحتقار فعذرناه وأعيد له النصح. وجمعنا بينه وبين غاندي على ظهر الباخرة فظهر إخلاص غاندي، وإن كان غاندي ماكرا وماهرا في إخفاء ما يبطن فيجب على الأقل أن ننتهز فرصة ظهوره بالإخلاص لنا والعمل على الاتحاد. ولكن شوكت علي كان يضمر الغل، ولما سافر إلى إنجلترا لم يسمع له صوت في المؤتمر سوى صوت الدسيسة والتفريق، ولا غرابة فقد كان هو وبعض المندوبين الآخرين ضيوفا على حكومة دوننج ستريت ونزلاء سانت جيمس.
ولما عاد من المؤتمر بعد فشله كان من الفرحين بهذا الفشل ومن المباهين بأنه كان من أدوات فشله، وظهر في القدس بمظهر الدساس صاحب الفتن فحارب الاتحاد ونصر الانتداب والاستعمار وتلاعب بالأفكار وتظاهر بجملة ألوان وعند اللزوم بكى بكاء مرا مثل النساء، ووصف المعارضين بأنهم أعظم الشرفاء وخالف أصدقاءه في كثير من الأمور، وانتهت الحال باكتشاف حقيقته وتسجيل فضيحته. والرجل في ظاهره أشبه الناس بصورة سانتا كلوز أو نويل، وهو الشخص الخيالي الذي يمثل الشيخ الذي يأتي للأطفال بالهدايا في عيد الميلاد.
ومن سوء حظ الهندان شوكت علي أو سانتا كلوز الهندي سيعود إليها في عيد الميلاد يحمل في جعبته بدلا من الهدايا بضع مصائب وفتن وحيل دنيئة تؤدي إلى إذلال الهند واعتقال الزعماء وضيعة آمال تلك الأمة العظيمة. وقد لعب الرجل دورا مخزيا وهو دور الخاطب أو الخاطبة بين أميرين من حيدرآباد وأميرتين من سلالة عثمانية، وقال بعضهم إنه يرمي بذلك إلى تجهيز سلالة جديدة تتولى الخلافة الإسلامية تحت إشراف سادته الإنجليز لا حقق الله له أملا ولا أسعده برؤية هذا البلاء! وترى هذا الرجل الغريب الأطوار يحيط نفسه في حله وترحاله ب «زيطة وزنبليطة» من الإعلان عن نفسه في الصحف ونشر الإشاعات الكاذبة عن حركاته وسكناته كأنه يقول إنه سيقابل الملوك والأمراء والوزراء والبابا وشيخ الإسلام ومصطفى كمال والخليفة المعزول في سياحة واحدة! كما يصنع سائح إنجليزي في زيارة الآثار! وشوكت لا يبالي بالتناقض في خططه ولا بالشخصيات التي يجمع بينها في رحلة واحدة. ونحن نمحو هنا كل ما أثبتناه في هذا الكتاب من الثناء عليه مما كتبناه عنه عقيب وفاة أخيه فقد كنا كغيرنا نحسن الظن به، ولكن هذا الظن الحسن لم تطل مدته وقد أبقينا ما كتبناه في فترة انخداعنا به ليكون حجة عليه وعلى أمثاله في تقلبهم وتلاعبهم. وقد أشاع بعد عودته من القدس كعادته أن سيقابل «فلان وعلان وترتان» وأنه ذاهب إلى بلاد اليمن تلبية لدعوة الإمام يحيى خليفة اليمن،
2
ولعله ذاهب لينقل أخبار الرجل إلى أعدائه، أو ليحاول بلف «الزيود» كعادته في بلاد الشرق والإسلام. ولكن أهل اليمن أحرص وأعقل من أن يدخل مثل هذا المهرج المهوش في «زوارقهم» وهم الذين لم تنطل عليهم حيل الإنجليز والروس والطليان. وإذا كان أهل الهند المسلمون لم ينخدعوا بهذا الرجل بعد ظهور حقيقة أمره وبرأوا إلى شعوب الأرض منه في جرائدهم وصحفهم وعلى منابرهم وأعلنوا أنهم كانوا يطلقون عليه لقب أسد الإسلام، ولكنهم نزعوا عنه هذه الصفة وخلعوه بعد أن رأوا ما رأوا.
وحقيقة الأمر تلخص في كلمتين وهما أن محمد علي كان هو الرجل الصحيح العقل والقلب السليم التفكير الصادق النظر، وأنه كان الروح المحرك وكان شوكت علي بمثابة الشبح له فمات الروح وبقي الجسم أو الشبح، والأشباح عادة تكون دميمة ومزعجة، والموت نقاد على كفه وقد اختار الأفضل وترك الجعجاع والدوشن فلا حول ولا قوة إلا بالله! ولا يجوز لنا أن نسيء الظن بمسلمي الهند لأجل شوكت علي أو عشرة من السخفاء أمثاله.
الفصل التاسع عشر
أسباب الانشقاق بين الترك والعرب
الشقاق المهول بين الترك والعرب
لا يزال البحث دائرا بين لفيف من العلماء على أسباب الانشقاق الهائل بين الترك والعرب، وهو الانشقاق الذي أدى إلى زوال ملكهما معا، ومكن منهما أعداءهما حتى قضيا على البقية الباقية من دول الإسلام.
وقد رأيت وجهة النظر التركية منصبة على تخطئة العرب، وكل ما قالوه في هذا الباب صحيح، وأيدته الحوادث التاريخية المصاحبة للثورة العربية واللاحقة للحرب العظمى وافتراس الحلفاء للدولة العثمانية، وقد ندم العرب أنفسهم ولكن لا نفع في ندم بعد فوات الفرصة، وفاز من أمراء العرب من فاز بالعروش والمناصب وضحى بأمم بأسرها.
أما وجهة نظر العرب المنصفين في قضية الترك فهي أن الحركة التورانية كانت سبب البلاء، وأصلها أنه بعد الدستور العثماني ظهر في القسطنطينية أحمد أغاييف التركستاني (وهو الآن يعيش في موسكو) ومعه لفيف من أبناء وطنه في أواسط آسيا مثل تركستان الغربية وغيرها، وكانت تحت حكم الروس ولا تزال، وربما كان معه حميد الله صبحي، وكانوا يعيشون في الأستانة قبل إعلان الدستور ولكن في الخفاء، أو أن استبداد عبد الحميد لم يسمح لهم بإظهار ما تكنه نفوسهم، فلما أعلن الدستور تشجعوا واتصلوا بالاتحاديين جهرا وأقنعوا زعماءهم أمثال المرحومين محمد طلعت وأحمد جمال ودكتور ناظم ووهيب باشا وآخرين بأن في آسيا شعبا يتجاوز عدده أربعين مليونا يمتون كلهم إلى الأتراك بأواصر القرابة والجنس والدين واللغة، وتربطهم بالترك رابطتا التاريخ والماضي، وأن هذا الشعب متعطش إلى الانضمام إلى تركيا التي يجب أن يكون مستقبلها في آسيا بعد الذي رأته من تنمر أوروبا وتألبها وتهجمها على أملاكها، ولا سيما بعد ظهور الدستور فإن تعميمه في تلك البلاد الشرقية الإسلامية كفيل بأن يخلق في وسط آسيا دولة إسلامية من أقوى دول العالم، لا تقل بأسا عن اليابان في الشرق الأقصى. ويظهر أن أغاييف ومن معه كانوا مطلعين على فتنة العرب وما يبطنه بعض هؤلاء للترك، لا سيما وأن ثورة اليمن كانت لا تزال مشتعلة وإن كان قد مضى على قدح زنادها ثلاث سنين. فلقيت هذه الدعوة ارتياحا في نفوس الاتحاديين وقبلوها وخلقت في أذهانهم سرابا جميلا وحلما لذيذا لو تحقق كان بمثابة تجديد للدولة العثمانية في صورتها الأولى، ولا سيما أن العالم كان قد تخلص نوعا من رابطة الدين وأخذ يسير حثيثا في طريق الجنسيات. وإن الحق يقضي علينا بالقول بأن أنور باشا - رحمه الله - لم تكن له يد في هذه الحركة ولم يمل إليها، لأنه وبعض إخوانه كانوا يفضلون الرابطة الإسلامية ويرون إنعاش الإسلام وإحياءه، بغض الطرف عن الجنس والقومية. وكان أنور ومن على شاكلته من أبطال الإسلام وحماته يعرضون على اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات ويرفضون أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم الإسلامية، لأن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو به عن جنسه وشعبه، وهذه كانت معقولية أنور في سنة 1908، ولكن سير الحوادث كان أقوى من العقائد. وقد لقي أنور - رحمه الله - حتفه وهو يقاتل مستبسلا في بلاد تركستان (أغسطس سنة 1922)، فاستشهد في سبيل الفكرة التي لم يوافق عليها قبل ذلك بأربع سنين كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه.
ويظهر أن أحمد أغاييف كان على نصيب من علم تاريخ الشعوب وأصول الأجناس البشرية، فأدخل في روع الاتحاديين أن الشعوب (الأورالوالطايك) أو الجنس الطوراني لا يشتمل على الترك العثمانيين في أوروبا والأناضول، بل إنه يشتمل أيضا على التركمان والتتر والقوقاس، وتطرف بعضهم فصار ينادي بأن المجر والفنلنديين وولايات البلطيك والبلغار وأهل سيبريا والموغول والمنشوس كلهم أقارب وإخوان أو أبناء عمومة، وأنهم أقرب إلى الترك القائمين بأمر الدولة من العرب الذين يشقون عليها عصا الطاعة ويخلقون القلاقل والفتن.
على أن التحقيق العلمي لم يكن له مجال أبعد من هذا، وكان يكفي التلويح بهذا الخاطر ليعتقد الأتراك بأن ما بينهم وبين الشعوب الآنفة الذكر من النسابة اللغوية والخلقية الغريزية وما هي عليه من التقاليد التاريخية الجمة الحية؛ كاف لأن يحملها على الاعتقاد بأنها متحدرة من أصل واحد.
عالم تركستاني يتجسس على الأتراك
فلما استتب الأمر للاتحاديين بدءوا يفكرون في تنفيذ الخطة، فاتفق أمرهم على إيفاد مائتي ضابط من أمهر رجال الجيش وأعلمهم وأشجعهم وكلفوهم بالسفر إلى تلك الأقطار النائية تحت ستار المشيخة والأساتذة والدراويش، فأتقنوا التخفي وساروا إلى أواسط آسيا حيث انتشروا واتصلوا بالمدارس الأولية يعلمون الأطفال ويبثون فيهم روح الرابطة الطورانية في سر وخفاء. وكانت الحكومة العثمانية التي اتخذت لهذا الأمر ما يحتاج إليه من الحيطة والحذر قد حفظت حقوق هؤلاء الضباط في الترقي والمرتبات حتى لا يضيع عليهم الوقت الذي يصرفونه في غاية الإمبراطورية السامية.
وقد أقام هؤلاء الضباط المعلمون نحو سنتين لقوا فيهما أكثر مما كانوا ينتظرون من حسن الاستعداد وكمال القبول، ولمسوا بأيديهم علائم النجاح التي تبشر بتحقيق هذا الحلم الجميل.
ويظهر أنه في أثناء تلك المدة أخذ الكتاب الأتراك في العاصمة ممن اقتنعوا بصحة الرأي يدعون إليه بالكتب والمقالات حتى بالأناشيد والقصص. ولما كان أمر كهذا لا يمكن أن يبقى سرا مكتوما على رجال الخفية والجواسيس الروس وغيرهم، فقد اشتموا رائحة الخبر بما حرك شكوك حكومة بطرسبرج، فأوفدت عالما مسلما تتريا ووكلت إليه تحقيق الأمر في الآستانة، فسافر إليها محاطا بمظاهر الصلاح والتقوى، وأظهر من ضروب الوطنية التترية والطورانية ما جعل زعماء الاتحاديين يتصلون به ويأمنون جانبه ويفضون إليه بحقيقة الأمر، وقد طالت إقامته عاما.
وعندما عزم على الرحيل زودوه بالمال والكتب وأطلعوه على أسماء الضباط ومهمتهم وفوضوا إليه معونتهم عن طريق العلماء والطلاب، فوعدهم خيرا وعاد محملا بالخيرات والخطط، ولكن لا ليشد أزر الطورانية، إنما ليبوح بالأسرار كلها لسادته الروس الذين أرسلوه وكانوا يدفعون إليه المرتب، فانظر إلى خيانة عالم شرقي لوطنه وإخوانه!
ولم يمض على وصوله شهر حتى صدر أمر الحكومة الروسية بالقبض على جميع الضباط الأتراك المتخفين ونفيهم من آسيا الوسطى وردهم إلى تركية أوروبا، وكان قد مضى عليهم في آسيا سنتان أو ثلاث، ولكنهم عندما وصلوا إلى الأستانة في يوليو سنة 1911 ونقلوا إلى الاتحاديين أخبار رحلتهم وإقامتهم في التركستان وسمرقند وطاشكند وبخارى وخيوه. كانت الفكرة الطورانية قد بلغت أشدها وقد ساعدتها كتب البحاثة المستشرق أرمنيوس ڤامباري المجري الذي هو في طليعة علماء الجنسيات في العالم، ولعل انتسابه إلى الشعب المجري هو الذي جعله يعطف هذا العطف العظيم البادي في كتبه ومقالاته على الشرق والترك والإسلام، ولم يكن ليون كوهين الكاتب الفرنسي ليقل عنه سعيا في نشر الفكرة الطورانية ولكن غايته كانت علمية محضة.
على أن بعض الباحثين يرى أن الفكرة التي كان رسولها أحمد أغاييف وعصبته لم تكن وليدة فرد من الأفراد ولم تكن أوروبية النشأة، إنما كانت ترجع إلى الشعب التتري نفسه الذي تذكر ماضيه الحافل بأخبار الفتح والغزو والاستيلاء على الممالك ورأى نفسه في أواخر القرن التاسع عشر رازحا تحت قهر الروس واستبدادهم وتعصبهم، فنهضوا نهضة جنسية وأظهروا من الذكاء والفطنة ما كان كفيلا بحفظ كيانهم السياسي، إلى أن جاءت الثورة الروسية الأولى في سنة 1905 فظهرت نهضتهم واعتزت. ولما كانوا يبلغون في ذلك الحين نحو خمسة وثلاثين مليونا فقد اشتمل مجلس الدوما الأول في روسيا على عدد كبير منهم كانوا في جهادهم السياسي عصبة متحدة فغالبوا الصعاب بغاية البذل في الذكاء والدهاء والحنكة حتى غدا الرأي العام الروسي على خشية منهم، فأخذ يحمل الحكومة الروسية على أن تقلل من عدد النواب المسلمين التتر كيما يقل بذلك نفوذهم في دور الحياة الدستورية الجديدة.
فإذا نظرت إلى أن البرلمان الروسي سابق للبرلمان التركي بأربع أو خمس سنين، وأن التتر ومسلمي روسيا والقريم كان منهم مهذبون وكتاب وسياسيون أمثال المرحوم إسماعيل عضبرنسكي الذي زار مصر حوالي سنة 1904 أو سنة 1905 وإسحاق عياض بك المنفي والمقيم ببرلين؛ أدركت أن الحركة الطورانية كانت حركة محتمة الحدوث، وأنها كانت ذات شعبتين الأولى في الشرق ومركزها تركستان وبطرسبرج والثانية في الغرب ومركزها في الآستانة، وأن أحمد أغاييف لم يكن إلا رسول الطورانية الشرقية إلى الطورانية الأوروبية، وقد وجدوا غير ڤامباري وكوهين رجلا منهم يعد كاتب الحركة غير مدافع هو يوسف أقشورة أوغلي المسلم التتري مؤلف «الأنظمة السياسية الثلاثة» وهو يعد بحق الكتاب الاتباعي في هذا الموضوع.
وما ناله يوسف أقشورة أوغلي بكتابه نال أكثر منه أغاييف بجريدة «تورك يوردي» أو الوطن التركي التي كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم الطوراني.
خرافة الدب الأبيض
وكان في هذه الفترة تياران عظيمان يتنازعان الدولة العثمانية؛ الأول: تيار الجامعة الإسلامية، الذي كان بطله الأكبر عبد الحميد الثاني، وكان هذا التيار يقتضي انضمام العرب وإخلاصهم، وهذا التيار قد ضعف وتلاشى بسقوط عبد الحميد وبتألب العرب واتفاقهم مع أعداء الترك من وراء ظهورهم. ولم يبق إلا التيار الطوراني الذي كان يرتكن أولا إلى الجنسية وهي نظرية حديثة ملائمة للزمان والتطور، وثانيا إلى الدين، لأن كل الطورانيين الحاليين مسلمون، ولا نأبه مطلقا لما شاع وملأ الأسماع من اتهام الأتراك بعبادة الدب الأبيض ورجوعهم إلى الوثنية أو عبادة الفتيش. وإن كان الدب الأبيض قد ذكر في بعض كتابات هؤلاء الدعاة، فلعله ذكر بمثابة توتيم كما يذكر الرومان الذئبة التي أرضعت التوءمين روميلوس ورينوس، وليس في هذه الذكرى عبادة أو تقديس، ولا يزال بعض قبائل العرب ينتسبون إلى «صقر» و«كلاب» ولا يطعن هذا في دينهم ولكنه بقايا من عادة اتخاذ كل قبيل لشعار من فصائل الحيوان.
وإنني على يقين من أن خرافة الدب الأبيض كانت دسيسة لإضعاف شأن الطورانية في نظر العالم وإهاجة الرأي العام الإسلامي ضدهم، فإن طلعت وجمال وناظم وضياء كوك آلب وشكري بك لم يكونوا وثنيين، كما أن أنور الذي كان متمسكا بدينه كان يعتقد أن أتراك آسيا الذين كانوا يحنون إلى أتراك أوروبا ويعقدون آمالهم على أهل اصطامبول إنما يحنون إليهم لكونهم مسلمين لا لكونهم أتراكا، فلو كان أتراك أوروبا وثنيين ما عرفهم أتراك آسيا ولا سألوا عنهم، وقد دلل علماء تركستان على صدق إيمانهم بأعمالهم.
صحيح أن الأتراك أخذوا في صبغ كل شيء بالصبغة التركية، وكانوا يضمرون أنهم إذا تقووا بأتراك آسيا يستطيعون استرداد قوتهم في العالم، وربما كان ذلك يكون في مصلحة العالم الإسلامي كله؛ ولكن العرب ومن ورائهم الأوروبيون المستعمرون والسوريون المسيحيون المتوطنون في باريس والقاهرة وبعضهم باعوا أنفسهم وضمائرهم للأجانب، لم يمهلوهم وانتهزوا هذه الفرصة لإشعال نار الفتنة، فكان رجال أمثال جورج سمنة وأيوب ثابت ويوسف هاني وشكري غانم وندرة مطران ونجيب عازوري وغيرهم حلقة اتصال بين أوروبا المستعمرة وبين العرب البسطاء سواء في الحجاز والجزيرة العربية وفي سورية وفلسطين، وهاجوهم فعلا على الأتراك بكتب وصحف ومجلات ومؤتمرات.
وكنت في الأستانة في شتاء سنة 1910 وأوائل سنة 1911 وقد رأيت بوادر هذه الحركة ولقيت بعض زعماء العرب مثل شفيق المؤيد وعبد الحميد الزهراوي، وكانوا إذ ذاك أعضاء في مجلس الأعيان العثماني، وحولهم لفيف من عرب الأستانة وطلاب العلم في المدارس العليا وهم من العرب، وقد رووا لي أخبارا كثيرة عن اضطهاد الترك للعرب في الدواوين والمدارس والصحافة وغيرها.
وقد روى لي بعد ذلك أحد الثقاة المطلعين على دخائل تلك الحركة وممن عاشوا في الأستانة في سنة 1911 وسنة 1912 ولم يكن ينقطع عن التردد عليها وكان على اتصال دائم بالاتحاديين ولا سيما المرحومين طلعت وأنور؛ أن كوك آلب السالف الذكر كان كرديا وكان داعية إلى الجامعة الكردية وألف كتبا في النحو والصرف الكرديين ورسم خطة للوحدة الكردية، ولكنه انقلب في عشية وضحاها إلى الحركة الطورانية وسايرها ودعا إليها وألف فيها شعرا ونثرا. وأخذ شبان الأتراك لا سيما الضباط يغيرون أسماءهم ويبدلونها من الأعلام العربية إلى أعلام آسيوية تترية مثل ألب وجنكيز وتيمور، وأخذ ولاة الأمور يتخلصون من الألفاظ العربية في لغتهم.
وألف عبيد الله أفندي النائب في البرلمان العثماني كتاب «قوم جديد»، دعا فيه إلى تقديس أسماء طلعت وأنور وجمال وناظم وإحلالها محل محمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في القبة الكبرى بمسجد أجا صوفيا. وأخذ الترك يضطهدون العرب الذين يشغلون المناصب في الدولة، فيضعون أمام كل عربي حرف «ع» وينتهزون الفرصة الأولى لفصله من خدمة الدولة بإقصائه إلى أطراف المملكة أو إلى قلب الأناضول ليحلوا محله موظفا تركيا يكون أكثر ائتمانا على أسرار الدولة. وسرت هذه الحركة إلى الجيش، فزعموا أنه بعد أن كانت الفرق تنهض صباحا على أذان المؤذن والوضوء فالصلاة الإسلامية أخذوا يوقظونهم بأجراس لينشدوا نشيد الدب الأبيض. وقد أخذ شبان الأتراك يتقربون إلى الأرمن واليهود والأروام ويحتقرون العرب ويبتعدون عنهم، كذلك كانت حال العرب نحوهم. وقد سمعت هذه الشكاوى بأذني من بعض طلاب العرب في المدارس الحربية ومكتب الحقوق والطب.
كتاب «قوم جديد» والنفور بين العرب والترك
وكان العرب المقيمون في الأستانة قد غضبوا لهذا مع أن أقاربهم وإخوانهم في الحجاز وسوريا واليمن هم أصل هذا البلاء، فاجتمعوا وألفوا فيما بينهم جمعية العهد العربية السرية ليناهضوا بها جمعيات الوطن التركي والجنسية الطورانية التي تألفت في الأستانة، وحسبوا أن العالم العربي في العراق وجزيرة العرب وسوريا وشمال أفريقيا يبلغ نحو ثلاثين أو خمسة وثلاثين مليونا وهم أغلبية بالنسبة إلى أتراك أوروبا، وإن كانوا مغبونين في التمثيل السياسي لأنهم مع كثرتهم في الحقيقة لا تمثلهم في البرلمان التركي إلا أقلية، لأن الأتراك احتفظوا لأنفسهم بالأغلبية.
وهذه حقيقة لا ريب فيها ولكن العرب تجاهلوا المقصود منها، وهو أن الترك كانوا حتى هذه الساعة هم العنصر الغالب في الدولة فيجب أن يكون الحكم في أيديهم، ولا يكون ذلك إلا بكثرتهم في المجلس وتشكيل الوزارة منهم مع تمثيل العرب بوزيرين أو ثلاثة . وكان يمكنهم أن ينتظروا حتى يطمئن النظام الدستوري في البلاد ويطلبوا بالتدريج تعميم حق الانتخاب وتعديل قانونه بحيث يكفلون الكثرة البرلمانية على ممر السنين، ولكنهم تعجلوا واتخذوا من خطة الأتراك التي كانت عبارة عن وسيلة من وسائل الدفاع عن الكيان التركي سببا للمعاداة والشغب.
ومما يؤسف له أن رجالا من أعظم رجال العرب في الجيش العثماني ومن أشهر قواد تركيا الذي أحلهم الأتراك أعلى محل، كان لهم أيد في تلك الجمعية التي ضمت إلى صدرها كثيرين من جهلاء العرب ودهمائهم ممن لم يكن لهم في السياسة نظر قريب ولا بعيد.
وقد اشتعلت نيران الفتنة بفضل هذه الجمعية في المدارس، حتى كان الطلاب الترك ينشدون الأغاني في مدح جنكيز خان وتيمور لنك فيجيبهم الطلبة العرب بذكر صلاح الدين وخالد بن الوليد والزبير بن العوام وطارق بن زياد والعبادلة السبعة. ومن تلك الأغاني ما نثبته لا للاستشهاد ببلاغته وجماله ولكن لندلل على الروح التي أوحت به، ما نظمه سليم الجزائري الذي ثبتت تهمته بالانضمام إلى أعداء الدولة قبل الحرب العظمى وفي أثنائها؛ الأغنية الآتية بعنوان «أم عربية تناجي طفلتها»، قال:
لتدم هذه البنية
تنمو وتغدو صبية
أزفها شجاعا
فلا ترى مسبية
تلدن كل همام
من فارس مقدام
يمزق الطغام
بهمة عربية
تلدن كل «عزيز»
يجود بالنفيس
يدق هام خسيس
بشجاعة وحمية
يشعل نار الحرب
لدق عنق الكلب
ونيل عز العرب
من أمة تركية
ومما ساعد على اشتعال النار بين العرب والترك الاتحاديين أنه لما تألف حزب الائتلاف، وهو حزب تركي ينازع الاتحاديين السلطة حبا في المناصب ورئيسه الكولونيل صدقي بك (ويعيش الآن في رومانيا)؛ أفضى الائتلافيون بأسرار الاتحاديين للعرب وأطلعوهم على خططهم نكاية في الاتحاديين وحبا في الانتقام منهم.
وفي تلك الظروف السيئة المشئومة أعلنت الحرب البلقانية وهي الهجوم الصليبي الأخير على الدولة العثمانية. وقد كانت أسباب هذه الحرب خافية على المعاصرين وظنوها جاءت مصادفة، والحقيقة أنها كانت مدبرة من جهتين كما أثبتته مباحث المؤرخين الأولى: روسيا التي شعرت بقوة الحركة الطورانية وخشيت عاقبتها، لأن الأتراك كانوا يشيعون أنه لن تقوم للوحدة الطورانية قائمة إلا بزوال الدولة الروسية، فضلا عن أن اتجاه نظر الأتراك إلى أواسط آسيا مع وجود وحدة الأصل واللغة والجنس والدين، كان خطرا دائما يهدد الروس وهم يرون في التتر المسلمين والتركستان من قوة الشكيمة وحدة الأذهان وقوة الإرادة والشجاعة الفطرية ما يجسم الوهم ويجعل حالتهم بمثابة «الخطر التتري»؛ فدفعت بأذنابها وخراطيمها المسمومة وهي دول البلقان إلى مناوشة الأتراك ومحاربتهم ليشغلوا بملكهم في أوروبا عن الحلم المؤمل في آسيا. والجهة الثانية كانت ساسة إنجلترا وفرنسا، فإنهم يطربون لهذه الحرب ويشجعونها، لا من حيث إنها تضعف الأتراك وقد تذهب بريحهم، بل لأنها تفقد ألمانيا حليفا قويا يخشون منازلته في ميدان الحرب الكبرى التي أمست في سنتي 1911 و1912 أمرا مؤكدا. وهكذا كانت حرب البلقان نتيجة هاتين المؤامرتين الأوروبيتين. وكانت تركيا لا تزال ضعيفة من فتنة اليمن بحيث لم تستطع في 1911 أن تظهر بمظهر الحرب ضد إيطاليا عند اعتدائها على طرابلس الغرب وهي إحدى الولايات التركية التي اغتصبتها إيطاليا.
دسائس بعض العرب في الأستانة
وكانت نتيجة تلك الحروب البلقانية أن خرج الترك من أوروبا وتقلص ظلهم عن تلك الديار حتى أدرنه مدينتهم المقدسة المحبوبة، وإذ رأوا ذلك أخذوا يحصرون آمالهم في آسيا. وكانت الدعوة الطورانية قد اشتد ساعدها وظهرت قوتها وأراد الأتراك أن يضموا إليها فكرة الجامعة الإسلامية، ولكن العرب كانوا قد خرجوا من أيديهم. فلما جاءت الحرب العظمى انضمت تركيا إلى دول الوسط وتنمرت للحلفاء الذين كانوا يحكمون أعظم عدد من المسلمين والعرب في العالم، لأنهم - أي الحلفاء - الأعداء الفطريون للدولة العثمانية ولدول الشرق الإسلامي.
قلنا إن الترك لم يستطيعوا استنفار العرب لأن العرب خرجوا من أيديهم للعوامل التي فصلناها آنفا. وإن العرب كانوا في نفس العاصمة العثمانية يجتمعون ويتآمرون ليفصلوا ويمزقوا أجزاء الدولة العثمانية مملكة مملكة بحجة اللامركزية وهي فكرة في ظاهرها عادلة وفي حقيقتها خبيثة ضارة، لأنها تؤدي حتما إلى الانفصال والتمزيق لا سيما بعد أن ظهرت نيات العرب الذين كانوا يسلمون لحاهم لفئة المغامرين والأفاقين من السوريين المسيحيين والمسلمين، الذين كانوا يعيشون كالأفاعي في باريس والقاهرة ولقينا بعضهم أحياء، وعلمنا أن رءوس بعضهم قد طارت عن أكتافهم، ولا يزال بعضهم على قيد الحياة.
وقد وصف لنا أحد ثقات المؤرخين المسلمين أنه في سنة 1913 كان في الأستانة فدعي إلى اجتماع في إدارة جريدة الحضارة، التي كان ينشئها عبد الحميد الزهراوي واتخذ لها دارا في عمارة بجادة نوري عثمانية أمام نادي الاتحاد والترقي، فوجد بالاجتماع عشرين شخصا من خيرة رجال العرب في الأستانة وكلهم من رجال البرلمان والجيش والبحرية والعلماء ومعظمهم من سوريا، وكان هؤلاء السادة قد اجتمعوا لينظروا في الوسيلة التي يطلبون بها وضع بلادهم تحت حكم فرنسا، فاعترض عليهم أحد الحاضرين وبين لهم ما في ذلك العمل من الخيانة لأنفسهم ولدولتهم، وأن فرنسا إذا دخلت بلادهم لا ترحمهم وتاريخ استعمارها حافل بالمظالم والمغارم وظاهر كالشمس في أفريقيا وآسيا، فانبرى له بعضهم واتهمه بالجهل وعدم الحضارة، وكان في مقدمة المعترضين عليه الزهراوي، الذي كان سليم النية وجاهلا بالأمور السياسية وكان ظاهره يخدع ويغر، ولم يكن يصلح لأكثر من كتابة مقال في تاريخ الإسلام على الطريقة القديمة، لأنه لم يكن يعرف لغة أجنبية ولم يكن له اطلاع على العلوم الحديثة، وقد راح ضحية استسلامه لعمون وسمنة ومطران وغيرهم من الخونة.
فلما أخذ المعترض يشرح بعض مظالم فرنسا ويتهم المجتمعين بالغفلة والغرور، انبرى له قبطان في البحرية العثمانية وهو سوري الأصل اسمه «سالم الغلبان»، وقال له: «كم قبضت من طلعت أمس؟» يتهمه بالرشوة وبيع الذمة، وكان هذا دائما دأب الشرقيين لا يثق بعضهم ببعض ويسيئون الظن بأفاضلهم ولا يحسبون أحدا يخلص لله، لأنهم خلو من فضيلة الإخلاص وأسهل شيء لديهم اتهام الناصح أو المخالف للرأي بالخيانة والرشوة! فسكت الناصح، وانسحب.
وقد شاءت الأقدار أن يلقى المعترض ذلك القبطان بعد عشر سنين في أشد حالات الشقاء في شرق الأردن يستجدي بعد أن ملك الفرنسيون بلاده وطردوه منها وكان بالأمس قبطانا في البحر ، وكان يمكن أن يكون أميرالا لو أنه أخلص لدولته.
وكان بعض المجتمعين مواليا للأتراك، ويدفع مشروع التنازل عن الوطن بكل ما أوتي من قوة، ولكن التيار كان جارفا فاستدرجوهم إلى مؤتمر باريس الذي عقد في تلك السنة نفسها برياسة عبد الحميد الزهراوي الذي لم يكن إلا صورة، يخفون مقاصدهم السيئة وراء عمامته وجبته ولحيته الحمراء، رحمه الله وغفر له!
وكانت الروح المحركة لهذا المؤتمر هم شكري غانم وجورج سمنة ويوسف هاني وأيوب ثابت وشفيق المؤيد وندرة مطران وخليل زينية، ومنهم من وقع على المضبطة التي عثر بها جمال باشا في سورية وفيها يطلبون حكم فرنسا في الشام، وبناء عليها شنق بعضهم ولم تصل يده إلى الآخرين، ولا أشك في أن بعض الذين حضروا هذا المؤتمر كانوا مخلصين للأتراك مثل المرحوم مختار بيهم وغيره ولكنهم قلة.
وقد نشرت أعمال هذا المؤتمر في الصحف وفي كتاب خاص.
ولكن المسيو باريتو دي لاروكا أحد كبار موظفي وزارة الخارجية الفرنسية أفضى في سنة 1920 بحقيقة أعمال هذا المؤتمر التي كانت جارية وراء الستار، فقد قال: «إنه لما طلب السوريون الأحرار (كذا) عقد المؤتمر في باريس لوضع سورية تحت الحكم الفرنسوي (كذا) وطلبوا التصريح بذلك، طلبنا منهم أن تكون جميع قراراتهم من صورة مزدوجة، واحدة منهما ترسل إلى وزارة خارجية إنجلترا والأخرى ترسل إلى كي دي أورساي مقر وزارة الخارجية الفرنسوية. وقد طلبوا الحماية الفرنسوية رسميا. وإن طلب السوريين حكم فرنسا لم يكن نتيجة الحرب العظمى ولا ثمرة المعاهدات السرية ولا معاهدة سايكس بيكو، بل كان قديما جدا.» ا.ه. كلام دي لاروكا. أما الذين ذهبوا ضحية بريئة وشنقوا ظلما على يد جمال باشا فهم شكري العسيلي وعبد الوهاب الإنجليزي وعبد الغني الفرنسي ولا رابع لهم.
وكان حنق الفرنسيين على الإنجليز بعد الحرب بالغا، لأنهم أضاعوا عليهم آبار الموصل وكليكية ولم يعطوهم سوى سورية ولبنان، مع أن سورية ولبنان - على حد قولهم - كانت مضمونة لهم من قبل الحرب، فكأنهم لم يربحوا شيئا. وإن حقدهم على فيصل لا يزول مطلقا، لأن الإنجليز اتخذوه وسيلة للمساومة فدخل دمشق في سنة 1920 بوصف كونه قائدا خاضعا للقائد اللنبي، فعقد المؤتمر السوري وأعلن استقلال سورية ونودي به ملكا عليها، وعين رضا الركابي حاكما للبلاد الداخلية، فكلفهم ذلك العمل ثمنا غاليا لأنهم حشدوا جيشا قوامه 100 ألف عسكري وهاجموا دمشق بثلثيه وحارب فيصل حربا صورية في موقعة ميسلون الشهيرة باستسلامه، حيث مات يوسف العظمة وزير حربيته شهيدا وقبض على بقية الوزراء وحوكموا وحكم عليهم بالسجن المؤبد في جزيرة أرواد، ومنهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي كان وزير الخارجية في تلك الحكومة الخيالية التي لم تدم أكثر من بضعة أشهر.
وقد روينا في مكان آخر من هذا الكتاب ما كان من شأن فيصل الذي سافر إلى أوروبا وعاد بعد سنتين ملكا على العراق.
ولو رجعنا إلى حقائق الأمور والاستنتاج لرأينا أن الأتراك كانوا معذورين في القيام بالحركة الطورانية، لأنها مغرية ومطابقة للحقائق التاريخية، ولا يلامون على أنهم أرادوا إنعاش جنسهم وإنقاذ إخوانهم في آسيا. ولكن العرب لم يكن لهم عذر في فتنتهم لا سيما وأن الدافع لهم عليها كان مطامع الأجانب المستعمرين الذين كانوا ينصبون الحبائل لدول الإسلام، ولم يكن خافيا على زعماء العرب أن فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت متربصة للدولة وكانت تترقب الفرص للبطش بها، ولم يكن رجالها ووسطاؤها وجواسيسها بالغافلين. وقد نبه العرب إلى حقيقة الحال بعض الأفاضل أمثال الأمير شكيب أرسلان الذي كان عضو المبعوثان، وكان على اطلاع مستمر بدخائل السياسة الأوروبية، وقد أنذرهم بأن الفتنة العربية ستؤدي إلى القضاء على الدولة العثمانية. وكان الأتراك لا يألون جهدا في بذل النصح لإخوانهم العرب بعد أن اطلعوا على مقاصدهم، والترك قوم في غاية الذكاء والفطنة وكانوا يعلمون «خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، ولكنهم كانوا في السياسة مشربين بالرحمة ويأبون الغدر ويكرهون الخئون.
وكانت كل تلك الحوادث قد سممت عقول العرب وجعلتهم طعاما طيبا لنار الحلفاء، فلما نادى الحسين بالثورة لباه كل عربي في أنحاء البلاد والتفوا حوله لأنهم كانوا يتلمسون علما ينضمون تحته. والخطأ الذي ارتكبه العرب أكبر من الخطأ الذي ارتكبه الأتراك، وكانت نتيجته ضياع دولة العثمانيين وضياع الممالك العربية وفقد استقلالها وتحطيم آمال العرب وخضوعهم للحكم الأجنبي، وبعضهم يظهرون الندم بعد الأوان وبعضهم فاز بثمرة الخيانة.
عندما انتهت الحرب العظمى، وظهرت حقيقة وعود الحلفاء الذين كانوا «يدافعون عن المدنية والحضارة من وحشية الألمان، وأنهم سينهون هذه الحرب بلا ضم ولا غرامة»، وأراد الإنجليز القضاء على البقية الباقية من الدولة العثمانية باقتسام البلاد العربية المتفق على ابتلاعها من عشرين عاما؛ سقطت سورية في أيديهم في أول الأمر بغير حرب ولا ضرب، لأن سورية كانت خالية من وسائل الدفاع ولأن بعض أهاليها ساعدوا الحلفاء على احتلالها، وكان الناس موتورين من الترك بفعل الدعاية الاستعمارية والنعرة العربية، ومخدوعين ببيان الحلفاء ووعودهم وخطب ويلسون ونقاطه الأربع عشرة، وكان الحلفاء فوق هذا مسلحين ولهم قوة عسكرية عظمى.
حسين رشدي باشا ونظرية «الفاتورة»
وقد ثبت لكل ذي عينين أن العرب هم الذين جروا الخراب على الدولة العثمانية ولم يكن دخولها الحرب في صفوف دول الوسط هو السبب، لأنها دخلت الحرب مرغمة وقد اختارت أخف الضررين لتدفع عن نفسها عادية الحلفاء الذين كانوا متآمرين عليها. وقد بلغ من فجور هذه الدول المتحالفة أنها جندت جيوشا من المسلمين في شمال أفريقيا والهند وغيرها قبل إعلان الثورة العربية، لمحاربة تركيا دولة الإسلام العظمى، ولم تثر تلك الجيوش ولم تنشر علم العصيان لأنها كانت مقهورة بحكم الأنظمة العسكرية القاسية. ومما يتمزق له قلب كل مخلص شرقي أن هذه الأمم التعسة التي اشترك جنودها في محاربة الألمان والترك بعد أن رأت ما رأت من انتصار الحلفاء ونكثهم بالوعود وخيانتهم للعهود، قام منهم فريق (وكان بعضه في جريدة عربية) يطالب الحلفاء بالحساب ويقولون لهم نحن ساعدناكم في الحرب وضحينا بمئات الألوف في سبيل قضيتكم فادفعوا لنا الثمن وهو حرية بلادنا، وكان الحلفاء يضحكون من تقديم هذه الفاتورة التي لم تكن في الحسبان، لأنهم يعلمون علم اليقين أن تلك الجيوش الشرقية لم تحارب في صفوفهم مختارة، ولكنها أرادت أن تستخرج نتيجة حسنة من عملية مشئومة ... فلم يعيروها أقل التفات وعاملوا الناطقين بهذا القول معاملة الخادم الذي يقول لمولاه: «كافئني اليوم فإنني أحسنت الكنس والرش ولم أسرق من ثمن اللحم والبقول!»
وكانت هذه النظرية هي التي حاول الاختفاء وراءها حسين رشدي طبوزاده رئيس وزراء مصر الأسبق، فإنه كان يدافع عن نفسه بأنه انتوى أن يمد الإنجليز بالمال (3 ملايين) والرجال (فرقة العمال مليون رجل) ليطالبهم في نهاية الحرب بالحساب! وتفصيل هذا التاريخ معلوم ولا يحتاج إلى تطويل، وقد حكم التاريخ على الرجل حكمه في حياته وقبيل أن يموت بأسابيع فلقي بعض ثمرات ثقته بالحلفاء قبل أن ينطوي في لحده.
على أن الإنجليز لم تقف بهم تلك الحجج الواهية، فإنهم بعد أن احتلوا سورية كلها إلى ولاية أطنة سلموا لبنان وكليكية وساحل سورية لفرنسا، وسلموا دمشق وشرقي الأردن وحلب لفيصل، وقبعوا هم في فلسطين والأراضي المقدسة، ثم نشروا منشورهم الشهير في أواخر أكتوبر سنة 1918 عن إقامة الحكومات الوطنية وتعيين القضاء العادل وإنصاف الرعايا في البلاد «المخطوفة» حديثا، ولم يكن هذا المنشور الذي قابله العرب بالفرح أو بالخيبة إلا مقدمة لمشروع التمزيق والتشتيت والتفريق أو عملية التشريح التي انتواها الحلفاء.
فإن الإنجليز فصلوا فلسطين عن سورية وأنشئوا حكومة صهيونية فيها، فلما احتج العرب من مسلمين ونصارى على هذا العمل قال الإنجليز: إننا لا نفعل أكثر من الوفاء بوعد بلفور الشهير الذي وعد بتأسيس وطن قومي لليهود! ودهش الناس لأن الإنجليز الذين أعطوا لمصر مائة وعد بالجلاء لم ينفذوها وكانت كلها صادرة عمن هم أعظم من بلفور، وفي مقدمتهم الملكة ڤيكتوريا وغلادستون وسالسبوري وغيرهم، ويرجع بعضها إلى سنة 1882، ولم ينقطع سيل تلك الوعود طوال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكان الحزب الوطني لا يفتأ كل عام يذكر الإنجليز بوعودهم، حتى في أيام رئيسه الأخير الأستاذ محمد حافظ رمضان، وقد ألفنا ذلك الأكلشيه الذي يكاد يكون مطبوعا وينتهي دائما بالملحقات، مما كان يضحك بعض الساسة السفهاء وصغار العقول! ولكن الإنجليز بروا بوعد بلفور لا وفاء ولا صدقا ولكن لأن وراءه السادة اليهود خزنة المال وسدنة الإله بعال العظيم!
العراق
أما الفرنسيون ففصلوا لبنان عن سورية وجعلوها حكومة مسيحية ودشنوها في الكنيسة الكاثوليكية في بيروت، وهم أنفسهم الذين يباهون بفصل الدولة عن الكنيسة من سنة 1904، ويباهون بأن دولتهم لا دينية (لاييك)! ثم تناولوا كليكية وأعدوها وطنا قوميا للأرمن.
وكان الأمير فيصل يحكم دمشق وحلب وشرقي الأردن، ولم يكن لهذه الحكومة الفيصلية في أول أمرها لون معروف، فكانت تارة تعد تابعة للحجاز وأن فيصل يستمد سلطة الملك من أبيه الحسين زعيم العرب والمنقذ الأعظم، وتارة يحسبونها مستقلة لا تصدر إلا عن إرادته وإرادة الشعب السوري، وطورا كانوا يعتبرونها تمت بحبل دقيق إلى الفيلد مارشال اللنبي - الذي مر بمصر اليوم في طريقه إلى بورما - رئيس فيصل الأعظم بحسب نظام الجيوش.
ولكن هذا النظام لم يكن يرضي الفرنسويين، فكانوا يتشاجرون ويعربدون ويتنابزون بالألقاب في حظيرة الصلح تحت سمع ويلسون وبصره، فاخترع ويلسون فكرة الاستفتاء وتألفت لجنة أمريكية برياسة مستر كرين سفير أمريكا سابقا في الصين، فلما سار في سورية ووقف على حقيقة الحال بنفسه قال لزعمائهم: «إن الانتداب لا بد منه على كل حال لمساعدتكم مؤقتا على إنعاش البلاد.»
وقد جرى في سورية بعد ذلك ما رويناه في موضع آخر. أما العراق فلم يمالئ أهله الإنجليز بل أخذوه عنوة بالحرب والقتال. وكان العراق دائما مشهورا برجال أشداء أقوياء يفضلون الاستقلال على الحياة، ومنذ تولى الملك فيصل عرشه ظنوا أن وجوده يكون سببا في تهدئة الخواطر واستسلام البلاد، فكان الأمر على غير ما يظنون، فقد تولاه أربعة من المندوبين السامين أولهم برسي كوكس فالجنرال كليتون فالسير هنري دوبن فالسير فرنسيس همفريز، وكانت روح الإدارة الإنجليزية متقمصة في جسد الآنسة بيل إلى أن ماتت. وقد خرج أحد هؤلاء الأربعة لأنه كان شديدا لا يطاق، فاستغاث منه أكبر مقام في البلاد وخير الإنجليز بين بقائه وبين استمرار دوبن فأرضوه بعزله. واستمرت الوزارات في العراق تقوم وتسقط وكل زعيم يدخل الوزارة يفقد ثقة الشعب فينزوي، بحيث أصبح عدد المستوزرين يربو على عدد الموظفين العاديين، ولكن كان بين العراقيين رجال احتفظوا بكرامتهم داخل الوزارة وخارجها مثل ياسين باشا الهاشمي.
وفي كل حين تقوم في العراق حركة وخلاف فتؤلف وزارة جديدة ويعتقل بعض الأشخاص وتقفل بعض صحف، إلى أن شرعوا في إلغاء الانتداب وانضمام العراق إلى جمعية الأمم وأن تحل محل الانتداب معاهدة تحفظ مصالح الإنجليز، وقد احتوت هذه المعاهدة على شروط أقسى من شروط الانتداب وتجعل القول والفعل في العراق للمستعمرين الذين رضوا بنظام الاحتلال العسكري ورأوا أنه أفضل نظام.
وقامت في سورية ثورة 1925 و1926 وتخربت مدنها، وتشتت شمل الدروز، ومنح الدستور وعقد البرلمان ثم حلوه، ونصبوا حكومة وطنية ترجع إلى المندوب السامي في كل الأمور فليست سورية دولة لها ملك أو رئيس ولكنها ولاية تابعة لفرنسا مباشرة يحكمها حاكم حربي تارة مثل جورو وڤيجان وطورا حاكم ملكي وهو المسيو بونسو، وهذه الحكومة الوطنية قد فقدت صبغتها شيئا فشيئا وأصبحت خاضعة للحاكم في كل الأمور.
أما فلسطين فيحكمها حاكم إنجليزي يكون تارة يهوديا وطورا مسيحيا، ويكون النفوذ طورا لليهود وطورا لوزارة الخارجية الإنجليزية، فتقوم الثورات والفتن ويقتل العرب واليهود ثم يسود السكون مؤقتا خوفا من السلطة الحاكمة ولكن تحت الرماد نارا لا تنطفئ، ويفكر الإنجليز والفرنسيون في جعل أمراء على تلك الممالك فينصبون ملكا على سورية وآخر على فلسطين ولعله الأمير عبد الله بن الحسين، ولكن الفرنسويين يخشون من هذا النظام لأنهم رأوا عواقبه في عهد فيصل ويخشون مناوأته لهم تحت ضغط الرأي العام.
أما عرب الجزيرة فقد أتينا على موجز أحوالهم، ففيهم الإمام يحيى القوي باستقلاله وإيمانه وجيشه، والأمير ابن سعود ملك الجزيرة بأسرها ما عدا الجنوب، وهذان لا ينضجان في قدر واحدة ولا يتنزل أحدهما للآخر عن حق من حقوقه. والجزيرة وإن كانت هادئة في الظاهر إلا أن ثورة فيصل الدويش دلت على أن المستعمرين يملكون خيوط الفتنة، ويمكنهم في أي وقت شاءوا أن يشعلوا نارها ويحطموا أعظم قوة فيها بما لهم ورجالهم، وهم يطلبون ثمنا للهدوء تنفيذ رغباتهم بمثل الحلف العربي الذي يريدونه حماية لسككهم الحديدية وأنابيبهم.
هذه هي حالة الأمم العربية التي شقت عصا الطاعة على الأتراك من سنة 1895 إلى سنة 1918، فكانت سببا في إضعافها وتمكين أعدائها منها، فذهبت وذهب معها كل ما كان للعرب من استقلال وسلطان.
الفصل العشرون
بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية
بداية عهد عبد الحميد
وقد آن لنا أن نبحث في الأسباب التي أدت إلى انحلال الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الذي هو آخر الخلفاء العثمانيين. وإننا مع احترامنا للسلطان رشاد الذي حدثت الحرب العظمى في عهده أو السلطان وحيد الدين أو عبد المجيد أو غيرهما لا نعرف غير عبد الحميد خليفة، لأنه كان الملك المطلق المستبد الذي حكم الدولة أكثر من خمسة وثلاثين عاما بفكره وإرادته محكما عقله ومنفذا سياسته في السلم والحرب. وفي عهده حدثت أعظم حوادث التاريخ العثماني في دوره الأخير، أما بعد عزله في سنة 1909 فقد بدأ للأتراك عهد جديد هو عهد الدستور والبرلمان وسيادة الأحزاب، وقد دام هذا العهد إلى سنة 1914 عندما أعلنت الحرب، وفي فترة الحرب تغير العالم ومنه تركيا.
فكان سلاطين آل عثمان الذين جاءوا بعد عبد الحميد أشباحا وخيالات إلى أن محا مصطفى كمال آية الخلافة وأسس جمهورية أنقرة.
ولد عبد الحميد في سنة 1842، وتولى عرش الخلافة في سنة 1876 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وخلع في أبريل سنة 1909، فكان حكمه ثلاثا وثلاثين سنة. وقد حدثت في عهده حوادث ذات شأن عظيم في تاريخ الشرق والغرب، فقد شهد في شبابه وقبل تولي الملك ثورة الهند (1857) والحرب الأهلية الأمريكية والحرب النمسوية الألمانية وحرب السبعين وفتح قنال السويس وحكم ديزرائيلي، وعندما تولى بدأت الحوادث بفتنة بلغاريا وحرب الصرب وعهد الدستور الأول، الذي دعا إليه مدحت باشا، وحروب روسيا وتسليم بلڤنا وموقعة شنوڤا التي أسر فيها ستون ألف جندي ومعاهدة سان استفانو وضياع قبرص واستقلال بلغاريا والرومللي الشرقية وثورة عرابي وضياع تونس وضياع مصر وحروب السودان وظهور المهدي وحوادث كريت وأرمنيا وحروب اليونان ونهضة اليابان وهزيمة الترك في فتنة اليمن وحرب البوير ثم الثورة الاتحادية فالدستور فالثورة الرجعية فالعزل والنفي إلى سالونيك، حيث شهد ضياع طرابلس وحروب البلقان والحرب الكبرى وهو أسير.
وإنها في الحق لصحيفة ملآنة بالحوادث التي لا تزال آثارها في العالم إلى الآن وقد مضى على زوال ملكه أكثر من عشرين عاما.
فلنبحثن إذن في الأسباب التي أدت إلى ضياع هذا الملك وانسلاخ أجزاء الدولة العثمانية الجزء بعد الجزء في مدى ثلاثين أو أربعين عاما، مع أنها اقتضت لتأسيسها أربعمائة عام فكأنها هدمت في عشر الزمن الذي تأسست فيه.
فما هو هذا الداء الذي أزمن وتأصل وفشا في عروق دولة الإسلام واستفحل؟ وما هي تلك العلة التي انبسطت في بدنها وسرت في دمها وامتدت في شرايينها وتشعبت في أعصابها وصارت لا يرجى لها برء ولا علاج حتى أخذوا يمثلون تركيا بالرجل المريض؟!
ولقد زعم البعض أن الدولة العثمانية قد هرمت وشاخت وخارت قواها وانحلت عزائمها كالدولة الرومانية في أواخر أيامها، وترى أنصار هذا الرأي قد كانوا استسلموا للقنوط ويئسوا من رحمة الله وحياة دولتهم وأخذوا ينهبون الأموال ليدخروها وقاية لهم وأهليهم من الفاقة بعد انحلال الدولة، ومن هؤلاء أحد الباشوات بلغ العزة كلها في عهد عبد الحميد ولكنه كان للدرهم والدينار عابدا، فلما دق ناقوس الدولة فر على باخرة أجنبية إلى مصر ونقل معه أمواله أو أنها سبقته إلى ضفاف النيل، فاشترى القصور والضياع وعاش أمدا ممتعا ثم قضى كالكلب المدلل في فراش من حرير على سرير من ذهب وشيعته النفوس باللعنات! وغير هذا الوغد الذي كان يحمل على ظاهر يده من الوشم آثار تاريخ حياته الأولى في وديان سورية وبلدانها كثيرون من الباشوات والأمراء والشيوخ قد انتظروا النهاية ليفوزوا بالأسلاب، وقد نهبوا فعلا أموال المسلمين فكانت الدولة العثمانية في نظرهم بمثابة بيت أصابه الحريق فانثال حوله الشطار من كل حدب لنهب ما احتواه من أثاث ومتاع والسعيد من اختطف شيئا قبل أن تلتهمه النيران كأهل بومبي لدى خرابها، وقد فر هؤلاء بعد أن أفرغوا وسعهم في الاغتيال وساعدوا على تعجيل ساعة الاضمحلال.
تعليل سقوط الدولة العثمانية
ويرى فريق آخر أن السبب فيما وقع للدولة العثمانية هو تحزب أعدائها عليها وتمالؤهم على اضطهادها، ومع تكوينها من عناصر متباينة تفتأ تتنافر ميلا إلى الانفكاك، وكلما شغبت تلك العناصر ساعدها الأعداء ومدوا لها أيدي المعونة والمناصرة، بحيث لو كانت تركيا في مكان بريطانيا العظمى ما جلدت على احتمال ما تحتمله ولا صبرت لمعاناة ما تعانيه.
وقال فريق ثالث إن سبب سقوط الدولة العثمانية هو سيادة الفرد الذي يكون بشخصه ضعيفا لأنه فرد، ولكنه يتسلط على الملايين من النفوس فيجور ويظلم ويسلب ويهتك وهم ذاهلون لا يقدرون على الملايين، وإذا تكرر مثال هذا الحكم كان ذلك سببا في امتصاص دماء الدولة فلا تقدر على اليقظة من رقدتها وهذا الذي حدث في تركيا، وعندما آن الأوان لإنهاضها كان معين قوتها قد نضب وجاءت الحرب العظمى على البقية الباقية.
وإن الناظر في تاريخ الدولة أثناء تلك الحقبة ليسألن نفسه «أين القادة الذين فتحوا الممالك بمفاتيح السيوف ووضعوا على أعدائهم أقفال الصغار والهوان؟ وأين الساسة الذين ضبطوا تلك الممالك بحكمتهم ودهائهم؟»
كيف انفصلت رومانيا واستقل الصرب وزال الجبل الأسود وذهب الرومللي الشرقي وانفصمت بلغاريا وضاعت قبرص وبانت تونس وطرابلس وانسلخت بوسنة وهرسك وانقطعت باطوم وخرجت قارص وأردهان وانحلت تساليا وولت مصر وضاعت تركية أوروبا وجزائر البحر وخطفت العراق والموصل وطارت بلاد العرب وانسلت سورية وفلسطين ووقعت زيلع وطاحت مصوع وهجر السودان؟ دع عنك مقدونيا وكريت وأرمنيا وساموس وعشرات أخرى من أجزاء الدولة التي تناثرت في مدى أربعين عاما كما تتناثر أوراق الشجر لدى حلول فصل الخريف!
فأول ما نراه في حياة عبد الحميد انفراده بالملك واستبداده بالأمر وسجنه أخاه مراد ثلاثين عاما في قصر أوسراي جراغان وانتشار الدعوى بأنه مجنون مع أن أمراض العقل لا تصل بأصحابها إلى سن الكهولة أو الشيخوخة وقد اعتقل مراد في سنة 1876 وتوفي في سنة 1904 إلى رحمة الله. وقد أحاط عبد الحميد نفسه بفريق من المملقين والجواسيس والخصيان ومشايخ الطرق، وجعل نفسه نهبا لتزاحمهم على الحظوة لديه، بل جعل من قصره ميدانا لحروبهم في سبيل الحصول على المال والنياشين والمناصب، فصارت هذه الطغمة مصنعا للتجسس والتضليل والاختلاق، فطاف حول عرش عبد الحميد زمرة مختلفة الأجناس والأنواع من نزاع الآفاق، وقد تمكنوا بحيلتهم ودهائهم من كسب ثقة السلطان فصار يركن إليهم فشغلوه بالخوف على حياته، وأبعدوا عن عرشه كل مخلص أمين وكل شهم صادق، وصار كل واحد منهم يتجسس على غيره حتى تجسس الولد على أبيه والوالد على ابنه، وأخذوا يقلبون الحقائق للسلطان ويحسنون له القبيح ويقبحون له الحسن، وقد صاغوا له أكثر من عشرين لقبا من ألقاب العظمة والأبهة والمجد حتى ما يكاد يشعر بمشاركته للقدرة الربانية، أعظمها «ظل الله على الأرض» وأقلها «غياث الأمم وغيوث الديم»!
سفير يوناني يمثل تركيا
كانت الدولة العثمانية في سنة 1876 من أجل الدول قدرا وأعزها شأنا وأبعدها صيتا وأرفعها صوتا، وكانت أساطيلها في الدرجة التالية للدولة الفرنسوية في ترتيب قوى الدول البحرية، وكان سكان الدولة يزيدون على سكان بريطانيا العظمى في وقتنا الحاضر (42 مليونا)، فكان من رعاياها في أوروبا 10 ملايين وفي آسيا 14,5 مليونا وفي أفريقيا 11,5 مليونا، وكانت لها رومانيا والصرب، وعدد سكانهما 6 ملايين. وقد ضاع من سكان الدولة العثمانية أكثر من اثنين وثلاثين مليونا، ولا يتجاوز عدد الأتراك الآن أكثر من تسعة أو عشرة ملايين.
كانت فتنة البلغار فقامت دول أوروبا تطلب الإصلاح فوعدت الدولة بتعميم الإصلاح في أنحاء البلاد، وصدر فرمان السلطان بتشكيل البرلمان العثماني الأول، وأراد مدحت باشا تنفيذ هذا الوعد فعمل لذلك بكل قوته. وقد اجتمع مجلس المبعوثان العثماني الأول في 19 مارس سنة 1877، وعين أحمد رفيق باشا رئيسا له وكان سفيرا بفرنسا في بلاط نابوليون الثالث، وكان متعلما ولكنه كان متغطرسا مستبدا، وقد شهد دكتور واشبورن مدير كلية روبرت الأمريكية أنه حضر إحدى الجلسات حيث نهض أحد الأعضاء وكان معمما وأخذ يتكلم في موضوع يهمه فقاطعه الرئيس أحمد وفيق قائلا: «سوس أشيك» أي «اخرس يا حمار!» فسقط الرجل على مقعده كأنه مصعوق (ص51 «تاريخ عبد الحميد» تأليف سير إدوين بيرس، طبع لندن سنة 1917). ونفي مدحت باشا لأنه صاحب فكرة الدستور، وخسرت الدولة حرب روسيا لأن السلطان كان يدبرها من السراي، وقد فعل ذلك أيضا في حرب تركيا واليونان 1897، ولكن اليونان لا تعدل روسيا في القوة والسلاح والشجاعة. ويقال إن كثيرا من الحركات العسكرية التي كانت تصدر الأوامر بها من يلديز إلى ساحة القتال في حرب الروس كان مبنيا على التنجيم وضرب الرمل والأحلام، وقد قاست الجنود العثمانية ما يفتت الأكباد ويذيب القلوب لعدم الاستعداد في مأكلها وملبسها وعلاج جرحاها ودفن قتلاها. وفي هذا الوقت والعساكر الذين يدافعون عن الإسلام والدولة على ما وصفنا من الشقاء والجوع والضنك كان السلطان يأكل في آنية من الذهب ويغسل يديه في طست من الذهب الأبريز. ولما عقد مؤتمر الصلح أرسلت الدولة العثمانية لتمثيلها في المؤتمر رجلا يونانيا مثل صاحب السعادة فينزيلوس ومن وطنه اسمه إسكندر باشا قره تيودوري، وقد كان نصيب اليونان من أسلاب الدولة تساليا وأيبير مع أنه لم يكن لها عضو في المؤتمر ولم تكن لها يد في الحرب، ولكن الدول كافأت وطن إسكندر تيودوري على تساهله في حقوق تركيا. وقد عقد هذا المؤتمر في باريس، واشترطت فرنسا للاشتراك فيه أن لا يبحث فيه مصير مصر وسوريا وبيت المقدس (مما دل الإنجليز أن الفرنسويين كانوا يبيتون لتلك الجهات، كما أن إيطاليا كانت تضمر السوء لطرابلس)، فبادرت إنجلترا بوضع يدها على مصر كما هو معلوم، وانتهى المؤتمر على استقلال الممالك التي كانت تحت الدولة وانفصال بلادها عنها، وعاد نائب السلطنة الرومي بنصفها وترك النصف الآخر على المائدة الخضراء ... يا خسارة!
وقد تنبه عبد الحميد بعد هذه الصدمة التي أصابته في بداية ملكه فاختار أن ينتخب للدولة وزيرا من الخارج، فوقع اختياره على خير الدين باشا التونسي وأصله شركسي. ولد في أوائل القرن التاسع عشر وجاء تونس صغيرا وتقرب من الباي أحمد فعلمه وتقلب في مناصب عدة وسافر لفرنسا، وتقلد وزارة البحرية في 1855 وتقلد الوزارة الكبرى بعد أن ألف كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». فلما استقدمه السلطان عبد الحميد في سنة 1878 بعد حرب الروس أقبل على الأستانة، وكان الباي قد عزله وغضب عليه ومنعه الاختلاط بالناس، فلما قابله السلطان عبد الحميد استحلفه على القرآن والحديث أن لا يدخل في مؤامرة على ذات السلطان، وحلف له جلالته أنه لا يعزله. وتولى الصدارة العظمى والدولة في غاية الاضطراب فوضع التقارير للإصلاح فلم يتفق عمله مع رجال «المابين» وهم رجال البلاط الملكي العثماني، وهم من وصفناهم من الجواسيس والدساسين والمنافقين ومشايخ الطرق والخصيان والمخنثين والقواد الذين يكونون أسودا في الحرب ونعاما في السراي. لم يتفق طبعا خير الدين مع هؤلاء الخطافين ولم يطل عهده أكثر من عام فاستقال في سنة 1879، ولكنه أقام في الأستانة ولم يبارحها وعينه السلطان في مجلس الأعيان وأكرمه إلى أن مات في سنة 1890 وهو في الثمانين من عمره. وهنا يروي المرحوم إبراهيم بك المويلحي قصة لا أعلم مكانها من الحقيقة ولكن أذكرها، قال في ص113 من كتاب «ما هنالك»: «كان أول آمال خير الدين باشا الانتقام من الصادق باي والي تونس، فساعد (خير الدين) على عزل إسماعيل باشا خديو مصر، وبعد إلى سيده الباي يهدده بأن ستكون له تلك العاقبة قريبا، فأسرع الصادق باي بالالتجاء إلى الحكومة الفرنسوية ليأمن على نفسه شر مملوكه الذي صار مالكا، ووجدت فرنسا فرصة لإسكات الدولة عن تونس بتسليم مدحت باشا لها حين التجأ إلى قنصلها في أزمير، واشتغلت الدولة بمحاكمة مدحت وأصحابه واشتغلت فرنسا بإدخال تونس تحت حمايتها فنجح الفريقان.» وقد كرر المويلحي هذه الرواية في ص51 حيث قال:
أرادت الدولة أن تقبض على مدحت باشا وهو وال على أزمير، فهرب إلى قنصل فرنسا فطلبته الدولة فتوقفت فرنسا في تسليمه، وانتهت المسألة بين الدولتين بعد المخابرات على أن فرنسا تسلمه بالشمال وتستلم تونس باليمين وتم الأمر واشترت الدولة رجلا بمملكة، ولما قرب الفرنسويون من تونس صاح الباي وبعث بالرسائل والرسل يستنجد الدولة، فما أصغى إليه مصغ. ا.ه. كلام المرحوم إبراهيم المويلحي.
وقد كان هذا الفساد كله نتيجة حكم الفرد واستبداده بالأمر، فكان تعظيم شخصه وخوفه على ذاته ومحافظته على كرامته من الأوهام واستسلامه للجواسيس واعتماده على الخصيان والمشايخ، لأنه نشأ بين الأولين وكان يستعين بما للآخرين من مسابح وأحجبة وتمائم وأوراد لحفظ شخصه من كل مكروه وللوقوف على أمور الغيب وحوادث المستقبل. وهكذا ضاع ملك عظيم ضحية الرقاعة والتخريف والبله وعدم الإيمان بالله الذي يجعل الإنسان متكلا عليه.
أين هذا من عدل أمراء الإسلام العادلين، الذين كانوا يعملون على سعادة أممهم وطاعة الله وإعلاء كلمة الإيمان والتوحيد ونشر لواء الحضارة الإسلامية؟!
لقد سرى الجبن والخوف إلى النفوس وصار النطق بالألفاظ جريمة يعاقب عليها بالإعدام والنفي، فمثلا أحرقوا كتاب «الطريقة المحمدية» للنابلسي لأن فيه حديث «الأئمة من قريش»، وصادروا كل كتاب فيه آية الجهاد أو آية
الذين كفروا
خوف أن تحاربهم أوروبا على هذا، ونفيت كلمة «الملة» والدولة ولم تبق إلا الذات الشاهانية، ونفيت من أحد القواميس كلمة «سيف» لأنها قد تنبه الأرمن للحرب، ولا يقولون جمهورية أمريكا بل مجتمعة أمريكا، ولا ولي عهد روسيا، واستنطق أحد المنشدين المصريين لأنه تغنى بقصيدة منها «أنت المراد»، خوفا من الإشارة إلى الأمير مراد المسجون! دع عنك ألفاظ العدل والظلم والإنصاف فإنها من المحرمات. وعند صلاة الجمعة أو حفلة السلاملك أمر الخطيب أن يتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل أو تنفير من الظلم أو إيماء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف، ولا يدور في الخطبة إلا حديث واحد اختاروه لبعده عن كل تأويل وهو «إن الله جميل يحب الجمال»، فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بقوله: «سمنوا ضحاياكم.» وهكذا صار القصد الحقيقي من السلطنة والدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون والرتب والنياشين هو حفظ ذات السلطان!
ومن نوادر خير الدين باشا بل من الحوادث التي أدت إلى استقالته أنه استؤذن عليه يوما لبهرام أغا أقوى خصي في عهد عبد الحميد وكان في ذلك الوقت باشمصاحب، ولما دخل عليه قدم إليه قائمة بأسماء أشخاص يوظفهم وآخرين يزيد في مرتباتهم، فقال له الصدر الأعظم خير الدين باشا: ما لك وهذا يا وصيف؟! قف حيث وقفتك وظيفتك بباب الحرم ولا تدخل في شغل غيرك!
ولما خرج بهرام أغا سأل عن معنى «وصيف» فقيل له معناه في تونس الخويدم، فامتلأ إهاب الأغا الخصي على الصدر الأعظم حقدا.
ودخل عليه عقب هذا السيد أحمد أسعد ومعه قائمة كالأولى، فسأله عن وظيفته فقال: «وكيل الفراشة الشريفة» فقال له: أيها الشيخ، وظيفتك هي أن تدعو لجلالة السلطان. فخرج من عنده يعض على ناجذيه لطلب الانتقام منه.
ولما رأى خير الدين باشا أن لا قدرة له على مقاومة أهل «المابين» استعفى من الصدارة كما تقدم، وثبت له كما ثبت لكل محب لخير الدولة العثمانية أنها شاخت ودب الفساد إليها من رأسها كما هي العادة في الممالك والدول، وعند الترك مثل شهير قديم وهو قولهم السائر: «الشجرة تفسد من رأسها ويعتورها الفناء من قمتها» وقد صح هذا المثل وصدق في تطبيقه على دولتهم.
فإذا كان القصد الحقيقي في السلطنة العثمانية قد انقلب إلى أن الغاية من الدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون هو حفظ ذات السلطان؛ فكيف ترجى حياة لهم بل أين هذا من عمر بن الخطاب الذي أنزل رضي الله عنه نفسه في كثير من الأحوال منزلة واحد من أفراد الأمة ليبني صرح المجد للإسلام وليقنع الأجنبي بعظمته؟ فقد كان يخرج بنفسه لما جاءه الخبر بنزول رستم إلى القادسية فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية منذ حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، وكأنه قد تسلم أخبار البريد أو قرأ التلغرافات لو كان من أهل هذا الزمان.
فلما جاء البشير بالفتح لقيه عمر كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره فجعل يقول: يا عبد الله، حدثني. فيقول: هزم الله العدو! وعمر يحث معه ويسأله وهو راجل والبشير يسير على ناقته! فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه بإمرة المؤمنين ويهنئونه، فنزل الرجل وقال: هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين، رحمك الله! وجعل عمر يعتذر له قائلا: «لا عليك يا بن أخي، لا عليك يا بن أخي!»
الفصل الحادي والعشرون
الحركة العربية والخلافة
الحلف عند العرب
يلجأ المستعمرون دائما إلى الوسائل الفعالة في البلاد التي يرمون للاستيلاء عليها، فهم يجذبون الشعوب بإحياء عاداتها القديمة أو بالضرب على الأوتار الحساسة في نفوسها، وليس الحلف العربي بدعة تخيلها الأجانب إنما هو إحياء لعادة قديمة يريدون أن يتخذوا منها سلاحا.
فقد ألف العرب في الجاهلية حلوفا شتى لحفظ التوازن بين القبائل وذود القوي عن الضعيف، وأشهرها وأقربها حلف الفضول، وقد وصفه الخثعمي قال:
كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب. وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان ذا قوة بمكة وشرف، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزوما وجمح وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل وانتهروه.
فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والثغر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
ياللرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك! فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه، ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش. ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه ، وقال الزبير:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول وإن عقدنا
يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا
أباة الضيم نمنع كل عار
فيظهر من ذلك أصل الحلوف العربية أنها كانت أنظمة عرفية غايتها إنصاف المظلوم من الظالم وحماية الغريب المسلوب من الوطني السالب. أما الحلف العربي الذي ظهر في السنين الأخيرة فلم تكن غايته إلا خدمة السياسة الأجنبية، ولم نسمع بحلف يكون لرد غارة الأجنبي الفاتح أو لحماية الوطن من اعتداء صارخ، إذ العرب لا يتحدون ضد الأجنبي ولكنهم يمالئونه للقضاء على أنفسهم ، فهم يأبون الحلف حيث يجب الحلف ويسعون إليه حيث يكون ضد مصلحتهم.
وكان الملك حسين قبل أن يفقد عرشه في مكة ينادي بحلف عربي، بل بالغ في الأمر فنشد الوحدة العربية، ولكن الواقفين على بواطن الأمور يعلمون أن دعوته لم تتعد حد التمني، ولم يكن الحسين يعني ما يقول لأنه يعلم أنه مهما نادى فلن يتعد نداؤه آذان الحجاز وشرق الأردن وفلسطين، وإن كانت المملكتان الأخيرتان تحت الحماية الإنجليزية، أما العراق فهو حتما أجنبي عنه وعن دعوته. فالوحدة العربية التي نادى بها الحسين قبيل هجوم ابن سعود عليه كانت خيالا، لأنها إن لم تضم عامة أمراء الجزيرة فلا تعد وحدة. واجتماع كلمتهم في عهد الحسين كان محالا، لأن اليمن لا يعترف له بنفوذ، وابن سعود يتحفز للهجوم عليه والقضاء على ملكه، وإمارة العسير في حكم الأدارسة وواقعة تحت نفوذ الإنجليز، وأمراء البحرين وإمام عمان ومسقط وشط العرب وكل السلاطين الذين على الخليج الفارسي كسلطان لحج والأمير خزعل وغيرهم لا يلبون هذا النداء لأنهم لا مصلحة لهم في الحلف، وهم يطيعون أوامر القنصل البريطاني، ومعظمهم ألهاه الغنى أو المرتب الذي يتقاضاه عن المسائل السياسية. فكيف يوجد حلف عربي أو وحدة عربية وكل الممالك التي يؤلف منها خاضعة لحكم الأجنبي ومغلوبة على أمرها؟ وكل حلف لا يدخله الإمام يحيى لا يعد حلفا، وبعد زوال الملك حسين كل حلف لا يدخله ابن سعود والإمام يحيى لا يعد حلفا، وإذا رأى صغار السلاطين والأمراء في الشرق والجنوب الشرقي كبار الجزيرة يأتلفون فهم لا شك يقلدونهم وينضمون إليهم.
وكان الملك حسين في الفترة التي دعا إليها للحلف العربي يبغض ابن سعود ويخشاه، يخشاه لأن ابن سعود كان يهاجم شرق الأردن وقد هزم الأمير عبد الله في وقعتين ويهدد فلسطين، والحسين يعرف قوته وبأسه، وكان يبغضه لأنه رأى أنه رجل المستقبل في الجزيرة بعد أن خاب هو في سياسته وحربه وبعد أن جر الخراب على العرب والأتراك معا، فكانت دعوته إلى الحلف العربي بمثابة الخدعة لنفسه والإيهام لغيره بأنه لا يزال الزعيم المفدى والمنقذ المرتقب. فذهبت صيحته صرخة في واد.
الخلافة والملايين
لما توفي الحسين بن علي ملك الحجاز الأسبق، وخليفة المسلمين لبضعة أيام، وسجين قبرص تحت إمرة صديقه ستورز، وطليق مرض الموت الذي لجأ أثناءه إلى عمان التي يحكمها ولده عبد الله ويزوره فيها الملكان فيصل وعلي والأمير زيد، لما توفي المذكور في يونيو سنة 1931 ودفنوه في قبر في بيت المقدس (كأن دفن المشهورين من المسلمين صار خطة تقتدى أو «مودة» تتبع بعد دفن المغفور له محمد علي الهندي)؛ أخذ كتاب العرب وغيرهم يتبارون في الكتابة عن الرجل كعادتهم ليقول كل منهم كلمته، فأجمع كلهم على أن الرجل كان حسن النية في ثورته ولكن الحظ خانه ورجال السياسة من الحلفاء خدعوه وضحكوا على لحيته، ولكنه لم يخدع مجانا بل خدع مقابل بضعة ملايين من الجنيهات وصلت إلى يده ويد قومه والمحاربين من أتباعه والجواسيس والخونة وغيرهم ممن التفوا حوله في ظروف الحرب الحرجة، وهم أشبه الأشياء بالطيور الجارحة التي تحوم حول الرميم والجيف. (انظر كتاب «الثورة في الصحراء» تأليف لورنس، طبع لندن سنة 1927، وهو وجيز لكتاب «عمد الحكمة».)
وقد جمعتنا مجالس شتى برجال ممن عرفوا الحسين وعاشروه واختلطوا به وساعدوه في عمله أو نصحوه في أثناء قيامته وحذروه من المستقبل القريب والبعيد، فكان الوصف الذي ظفر به من معظمهم هو العناد وشدة المراس في أفكاره التي تنبت في ذهنه المريض، والاعتداد بالنفس إلى درجة بعيدة جدا.
وكان يظن نفسه أعظم الناس طرا، وأقدرهم في مواطن السياسة والتدبير والحرب، وأن الإنجليز وغيرهم لا يقدرون على خداعه. ونسب إليه أحد المقربين منه أنه قال أثناء الحرب:
إن الحلفاء الآن محتاجون إلينا أشد الاحتياج، فيجب علينا أن نستغل احتياجهم بأقصى ما نستطيع من وسائل الاستغلال، لأنه سيأتي يوم يستغنون هم فيه عنا، وحينئذ يلفظوننا لفظ النواة.
رواها الريحاني وأرسلان والخطيب.
ولكن هذا الرجل لم يكن يعلم أن الحلفاء وغيرهم من الأوروبيين، ولا سيما الدولة التي استخدمته في الثورة ، تتخذ لكل الأمور عدتها، وهي تدفع له المال وتبسط يدها لا على أنها مخدوعة أو مضحوك عليها ولكن على أنها تستأجره وتستخدمه هو ومن معه ومن يمت إليه بعلاقة، وقد دفعت بسخاء حتى إن لورنس قال لبعض أخصائه: إن الثورة العربية كلفت خزانة الحلفاء سبعة ملايين من الجنيهات (وكان يقول من الفارس الخيال يقصد الجنيه الإنجليزي). حتى إذا جاء اليوم الذي يحتج فيه الحسين أو غير الحسين عليهم بنقض العهود وخلف الوعود ردوه بأن العرب كانوا مأجورين وقد أخذوا أجرهم وزيادة. وماذا يهمهم أن الحسين يبايع بالخلافة في عمان أو في غير عمان إذا كانوا يعلمون أن العاقبة لهم ولمن يمدونه بأموالهم وأسلحتهم؟
إن مسألة الخلافة كان لها خطرها وشأنها بعد أن طرد كمال باشا الخليفة والأسرة السلطانية من تركيا. قال محدثي: وقد ظن الحسين أن الفرصة سانحة لجلوسه على عرش الخلفاء، فجاء عمان في يوم من أيام يناير سنة 1924 وكان استقباله فخما جدا، وصار العرب يهتفون له باسم المنقذ الأعظم وصاحب النهضة، وألقوا على مسامعه الخطب والقصائد، فرد عليهم بكلمة وجيزة جاء فيها قوله:
أنا لا أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد! لا أقبل بالتجزئة ولا بالانتدابات، ولا أسكت وفي عروقي دم عربي عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتها للعرب، إذا رفضت الحكومة البريطانية التعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلها ولا أوقع المعاهدة إلا بعد أخذ رأي الأمة. إني عامل دائما في سبيل الوحدة العربية والاستقلال التام للأقطار العربية كلها في الحجاز وسورية والعراق ونجد!
وبعد الولائم والمآدب التي حضرها كبار الإنجليز وهم الذين سمعوا الخطبة، بويع الحسين بالخلافة ونودي به خليفة على المسلمين وأميرا للمؤمنين، وكانت هذه المبايعة في نظر رجال السياسة «صحوة الموت» التي تسبق الوفاة بقليل! ثم عاد الملك إلى مكة وقد صار خليفة المسلمين!
وكان الإنجليز يعلمون مدى هذه المبايعة، وقد علموا من عناد الحسين وتشبثه ببعض الأمور التافهة ما علموا فأعدوا ابن سعود لمحاربته، فعقد في غرة ذي القعدة من السنة نفسها (1343) مؤتمرا صوريا في الرياض تباحثوا فيه في ضرورة الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج، وأفتى علماء الوهابيين ومنهم سعد بن عتيق بوجوب الحج، وخطب ابن سعود خطبة من خطبه البدوية، وقال سلطان بن بجاد: «إذا منعنا الشريف حسين دخلنا مكة بالقوة!»
ومما جاء في أقوال ابن سعود:
إن شريف مكة هو الوارث من أسلافه بغضنا، وكلما دنوت منه تباعد عنا أي ورب الكعبة! لا أرى الاستمرار في خطة لا تعزز حقوقنا ومصالحنا!
فهتف الجميع: «توكلنا على الله! إلى الحجاز! إلى الحجاز!»
فإذن لفظ الإنجليز عرب الحجاز وملك الحجاز والمنقذ الأعظم لفظ النواة وحركوا عليه الإخوان بعد أن رأوا تشبثه وعناده وحرصه (بعد فوات الأوان وضياع الفرصة) على الاستقلال والكرامة. ولكن السلطان عبد العزيز لغرض حربي أمر بغزو الشرق العربي قبل الزحف على الحجاز، واتخذ عبد العزيز ذريعة لذلك تغريم قبيلة بني صخر 200 ألف ليرة تضمينا لسلامة التجارة والتجار بين نجد وسوريا، ولم تكترث حكومة عمان لهذا الحكم فلجأ ابن سعود إلى القوة وسار بجيش لمحاربتها.
ووقعت معركة بين النجديين وعرب الأردن وكان بيك باشا القائد الإنجليزي لجند الأمير عبد الله فأرسل الطيارات والسيارات على الفريقين! وكان الملك حسين في تلك اللحظة راقدا بمكة متوسدا وسادة الخلافة العظمى مطمئن البال واثقا مما تضمره الأيام وهو يدبج المقالات لجريدة «القبلة» ويذكر «كمالات حكومة بريطانيا ويشكر حسياتها الرقيقة» ولكنه في الوقت نفسه لا يتنازل عن حقوق العرب ولا يوقع المعاهدة!
الوهابيون يهاجمون الحجاز بأمر من؟
وفي هذه اللحظة نفسها التي كان يحلم فيها الحسين بخلافة العباسيين والسيادة على سائر المسلمين في أنحاء الأرض كان جيش من الوهابيين مؤلف من 15 لواء يزحف على الطائف، وقد هزم جيش الحسين أولا في الحوية، ثم سار الأمير علي الذي صار فيما بعد ملكا إلى الطائف ثم خرج منها، وفي 7 سبتمبر 1924 دخل الوهابيون الطائف فاتحين وذلك بعد مبايعة الحسين بالخلافة بثمانية أشهر، وقد أتى بعض الوهابيين الحفاة العراة السلابين النهابين القساة من ضروب الفتك والقتل والخطف في مدينة الطائف أمورا بشعة، ولا غرابة فهم يعتبرون المسلمين من غير الوهابيين أعداء لهم ألداء، وترى الوهابي يفضل المسيحي واليهودي على العربي السني، ويقولون: إن المسلمين الذين لم يتوهبوا «إنهم لا يزالون في الجاهلية»! فهم يعتبرون الإسلام على حالته الحاضرة جاهلية بالنسبة لعقيدتهم، ولذا فقد انتقموا من أهل الطائف شر انتقام. ونحن نعتقد أن دماء القتلى واقعة على رأس الحكومة الحسينية، فقد بقي الحسين مستقلا تسع سنوات واستولى على القناطير المقنطرة من الذهب، وهو مع ذلك لم يعمل عملا صالحا لوقاية هذه الأسر والبيوت المطمئنة في مدن الحجاز، وكان فعله وفعل أولاده في أوائل الثورة المنحوسة أنهم أهلكوا المدينة والطائف لأنهما كانتا في أيدي الترك، وحل بنسائهم وأولادهم وبأعيان البلاد ما حل. والآن جاء دور الانتقام فترى سلطان بن بجاد وخالد بن منصور وأمير الخرمة، وهما من قواد الإخوان، يمثلون الدور الذي مثله فيصل وعلي وعبد الله في سنة 1917 فكانت ساعة الهول والفجع، فإن بعض الوهابيين الذين ادعوا الإيمان كانوا يدخلون البيوت بعد تأمين أصحابها ثم يقتلونهم وينهبونها، ولم يفرق هؤلاء الأوغاد بين عربي وأجنبي فامتدت أيديهم بالقتل والنهب إلى الهنود والجاويين، وقد أظهر الملك عبد العزيز أسفه فأمر بتأليف لجنة للتعويض على الضحايا. وقد قتلوا الشيخ الزواوي مفتي الشافعية، وروى شاهد عيان أنه رأى بعض الوهابيين يقتلون امرأة وطفلها وهي تحتضنه. وقتلوا أولاد الشيبي سادن الكعبة انتقاما من أبيهم الشيخ عبد القادر.
وقد اضطر الشيبي أن يمثل دورا محزنا لينجو من القتل، فقد قبضوا عليه وهو أعزل واستلوا سيوفهم لقتله فبكي، فقال أحدهم:
وليس تبسي يا تسافر؟
أي ولماذا تبكي يا كافر؟
أجاب الشيخ: «أبكي والله من شدة الفرح، لأني قضيت حياتي كلها في الشرك والكفر ولم يشأ الله أن أموت إلا مؤمنا موحدا! الله أكبر، لا إله إلا الله.» فتركوه. ولما دخل سلطان بن بجاد الطائف طرد الناس من بيوتهم وساقهم إلى حديقة شبرا وحبسهم ثلاثة أيام وبعد أن نهب منازلهم وكنوزهم وأسلحتهم أطلق سراحهم!
وقد حاول الحسين وولده علي استرجاع الطائف ومقاومة الإخوان فهزم جيشهما في «الهدى» في أواخر سبتمبر سنة 24. ومن العجب أن كثيرين من عرب الحجاز واسمهم «المتدينة» بالنسبة إلى الإخوان، وكثيرين من جنود الجيش العربي قد شقوا عصا الطاعة على الحسين وأهله وانضموا إلى الوهابيين، وذلك فرارا من الظلم والاستبداد وضيق العقل وسخافة الآراء. ولم يكن هؤلاء اللاجئون المساكين ليلتمسوا الرحمة من ألد أعدائهم إلا لعلمهم بأن الظلم أشد من العداوة وتحمل لؤم الحاكم القومي أقسى على النفس من ذل التسليم للفاتح الأجنبي. ولعنة الله على أهل اللؤم وأهل الظلم أجمعين!
من أكتوبر 1917-أكتوبر1924
ومما يدل على عقلية الحسين أنه كان يعتقد أن في إمكانه طرد ابن سعود من الطائف ومن الحجاز، وطالما قال إن ابن سعود أمير من الدرجة الخامسة بين أمراء العرب. وفي الوقت الذي كان الحسين يرتب درجات الأمراء الذين انتصروا عليه وعلى جيشه اجتمع لفيف عظيم من الأعيان والأشراف والتجار واللاجئين من المدن المأخوذة (3 أكتوبر 1924) وطلبوا من الحسين أن يتنازل عن الملك لولده علي. ودارت بين الحزب الوطني الذي تألف في جدة وبين الحسين مراسلات مضحكة مدارها رغبة الحسين عن تعيين علي خلفا له، ولكنه في 25 ربيع أول 1343 قبل، وفي اليوم التالي بويع علي ورجع إلى مكة، وفي 9 أكتوبر سنة 1924 وصلت إلى جدة القافلة الحسينية التي تحمل أمتعة الخليفة المخلوع والملك المعزول والمنقذ الذي نفر شعبه من إنقاذه ، وفيها عشرون جملا تحمل أربعين صفيحة من صفائح البترول مملوءة ذهبا أي حوالي 160 مائة وستين ألف جنيه.
وأقام الحسين أسبوعا في جدة إلى 16 أكتوبر سنة 1924 (سبع سنوات بالدقة بعد تسلمه كتاب مكماهون)، وفي تلك الليلة نزل إلى البحر هو وحرمه وعبيده، وكان نزوله إلى اليخت الذي اشتراه وأطلق عليه اسم الرقمتين، وكان يعده حتما لهذه السفرة الأخيرة.
يدعي الكثيرون من المؤرخين وكتاب الصحف أن سقوط الحسين يرجع إلى أسباب سياسية، أهمها رفضه المعاهدة الإنجليزية التي استمرت المفاوضة بشأنها ثلاث سنوات. والحقيقة أن الحسين قبل في الساعة الأخيرة - أي في الأيام التي تخللت الاستيلاء على الطائف ومعركة الهدى - أن يفاوض الحكومة الإنجليزية في تعديل مطالبه، فجاء وفد من مكة إلى وكيل إنجلترا في جدة ولكنهم ردوه خائبا لأنه سبق السيف العذل أو الصيف ضيعت اللبن. وكانت جريدة التيمس تتشفى في المنقذ الأعظم وتقول بأنه لو وقع المعاهدة لأنقذته من ابن سعود وهذا صحيح، وإن كان أنصار الوهابي يدعون أن ذلك كان مستحيلا بعد سقوط الطائف والهدى.
كان الحسين يحتقر أمراء العرب وقد جعلهم درجات، وكان يظهر في السياسة غير ما يبطن دائما، وهو يظن أن هذا منتهى الحذق والمهارة.
وكان شديد الاعتداد بنفسه ويعتبر شخصه أعظم شخص في العالم، وكان يزعم أن الحلفاء ينفذون خطته الحربية التي يضعها في جريدة القبلة، وأن آراءه وحي منزل، وأن تفسيره لبعض آيات القرآن أصح من تفاسير كبار الأئمة كالزمخشري والطبري والرازي، وأنه يستطيع بديوانه الخاص «مخلوان» أن ينقذ العالم العربي ويؤسس الدولة الشريفية كما يستطيع (بالقبو) أن يقتص من جميع أعدائه، والقبو أحد سجون القرون الوسطى أعاده الرجل إلى الوجود وأخذ يسجن فيه من يشاء لمدة غير محدودة ولأسباب مجهولة ولغاية لا يعلمها إلا الله، وهو أشبه بالباستيل في وسط مكة! كان الرجل مغرورا وكانت حاشيته تساعده على الغرور بالمدح والنفاق. وقد اجتمعت في حاشيته الأضداد: ظلم الرعية وظلم نفسها وظلم العرب والإسلام وظلم كل من في حكومتهم، إلا المنافقين والمختلسين الذين سرقوا أمواله وأموال الأمة. وقد أقصى الرجل كل الرجال الصادقين المخلصين وأبغضهم وكرههم وكاد يهم ببعضهم قتلا وانتقاما، وبحسن نية كان يقرب الخونة واللصوص والفاسدين فخرجوا من جدة قبل خروجه وبعده وفي حقائبهم بعض ما نهبوا، وقد سلبه أحدهم عشرات الألوف أخذها باسم شراء السلاح فاشترى بها في مصر ضياعا وقصورا، وكان موظف آخر مقرب منه نهب سبعين أو ثمانين ألف جنيه وابتنى بها قصورا واشترى أطيانا وهو يعيش الآن عيشة الملوك، وكان له جملة وكلاء في مصر وغيرها فاختلسوا عشرات الألوف. وهكذا تبدد معظم المال الذي ناله الحسين سواء من الإنجليز إبان الثورة أم من الحجاج المساكين الذين كانوا يدفعون الضرائب على كل شيء وحتى صفيحة الماء بيعت لهم في بعض الأحيان بجنيه إنجليزي ذهب. ومن هؤلاء الذين سلبوا ونهبوا غير الكاتب البليغ والخطيب الفصيح والتاجر الحاذق، ترى حامل ختم الوكالة الحجازية وتاجر الغنم وقيم المطوفين، وسماسرة الجمال والشقادف. كل هذا النهب والسلب والظلم والحسين يقول لمن يطلب منه المعونة: «لا، لا، أيها النجيب، المال يفسد الرجال!»
يرجح العارفون أن الحسين وصل إلى يده من مال إنجلترا أثناء الثورة العربية مليون و200 ألف ليرة، ويقول بعضهم نقلا عن لورنس إن الحملة كلها تكلفت سبعة ملايين. وكان المسلمون في الهند - وعددهم نحو أربعين مليونا، أي يعدلون سكان إنجلترا أو فرنسا - يبذلون كل جهدهم لإنقاذ البلاد المقدسة من الظلم، فألفوا لجنة الخلافة وجعلوا على رأسها شوكت علي (الذي زار مصر في أوائل سنة 1931)، وأرسل شوكت علي إلى الحجاز بالبرقية الآتية:
إن مسلمي الهند لا يوافقون على بقاء الشريف حسين ولا أبنائه في الحجاز، وإن حكومة الحجاز يجب أن تكون ديمقراطية حرة خاضعة لرأي العالم الإسلامي، وإن جمعية الخلافة لا تعترف بإمارة الشريف علي.
وكان الإخوان الوهابيون قد دخلوا مكة في 17 ربيع أول 1343 بغير حرب ولا ضرب.
وكان ابن سعود في أول الأمر يدعي أنه لا يريد أن يملك الحجاز إنما يريد أن يحتفظ به للعالم الإسلامي!
فقال في برقية إلى علي:
أنتم تعلمون أن الحجاز للعالم الإسلامي، فلا ميزة لطائفة من المسلمين على طائفة أخرى.
وكتب للسيد أمين الحسيني، الذي توسط لديه في الصلح بينه وبين الملك علي:
إنا نرغب في وجود إدارة في الحجاز تكفل حقوق جميع المسلمين بوجه المساواة، وتضمن راحة الحجاج وتزيل عنهم المظالم كلها.
وكتب ابن سعود يقول في هذا المعنى:
يجب إخلاء الحجاز من أولاد الحسين وانتظار حكم العالم الإسلامي الذي له الحق في أمر الأماكن المقدسة وطريقة إدارتها.
وأخيرا في 16 نوفمبر 1924 أرسل ابن سعود إلى الشريف علي بما يأتي:
أخلوا الحجاز وانتظروا حكم العالم الإسلامي، فإن اختاركم أو اختار غيركم فنحن نقبل حكمه بكل ارتياح.
والعالم الإسلامي كان ضائعا بين جمعية الخلافة في الهند والحزب الوطني في الحجاز وبين سلطان نجد وبين الحسين وأولاده، ولعله - رحمه الله - كان مظلوما.
وقد اتخذ اسم العالم الإسلامي ستارا لكل من أراد الكذب أو الدس أو المخادعة، وكل منهم يعلم أن العالم الإسلامي شيء خيالي، لأنه ليس له قوة مادية تنفذ حكمه أو تحمي ذماره، حتى إن ابن سعود عرض في النهاية أنه يترك الحكم ل «العالم الإسلامي» في اختيار من يتولى الملك في الحجاز! فوارحمتا للعالم الإسلامي والحسين لأنهما كانا ضحية!
سخافة عقل سفير سوري
ولا نغفل من أسباب انقلاب الإنجليز على الحسين غير ما تقدم من أحوال ضعفه وذهاب أهميته وانتهاء الحلفاء من مآربهم؛ سببا مهما جدا وهو أنه في تلك الفترة كان له سفير أهوج في رومة وهو من أسرة سورية في مصر القاهرة قيل إن الحسين منحهم أحد ألقاب الشرف، وكان هذا السفير محبا للفخفخة، وهو على أكبر نصيب من الحماقة والطيش والتسرع في الأمور لأنه لا يعلم من أسرار السياسة شيئا، وناهيك بمن يكون ذا مال وحسب ولقب ويرضى أن يكون ممثلا سياسيا للحسين في عواصم أوروبية ودولها للأسف لا تكترث للحسين ولم ترسل إليه سفيرا!
هذا السفير الأهوج سافر إلى روسيا في سنة 1924 واتصل بحكومة السوفيت وطلب منها تعيين سفير لها في بلاد الحجاز، وادعى أنه هو سفير الحسين إلى حكومة موسكو، فاختار الشيوعيون رجلا مسلما منهم وبعثوه سفيرا إلى مكة، فاجتمع بالمسلمين في المؤتمر الذي عقد سنة 1924 وأخذ يوزع عليهم منشورات شيوعية، فاغتاظ الإنجليز من ذلك أكثر من أي شيء آخر وصمموا على القضاء على الحسين بعد أن ظهر لهم منه هذا الخرق. وربما خدع الحسين وأوهمه سفيره السوري أن استقباله لهذا الروسي الشيوعي المسلم يهدد الإنجليز ويرعبهم ويخيفهم فيرتدعوا ويخشوا عاقبة الاتفاق بين روسيا «والخلافة العربية».
ولأجل هذا قابله الحسين مقابلة رسمية مقابلة الخلفاء السفراء، فكانت النتيجة أن الإنجليز وقفوا على ما يضمره الحسين وعلموا مقدار حقده عليهم، ورأوا أنه يلعب بالنار، فتركوه حتى يحرق أنامله وأيديه وأوعزوا إلى ابن سعود أن يتم إشعال النار حتى تصل إلى جبة الرجل وعمامته، فلما اتصلت وعلا لهبها فر من كانوا أول مشعليها، ولم يفروا خفافا بل فروا ثقالا بما سلبوه ونهبوه من مكان الحريق، وجاء ابن سعود رئيس فريق المطافئة «الأنجلونجدية» فأطفأ ما استطاع إطفاءه وأنقذ ما استطاع إنقاذه ... باسم العالم الإسلامي أولا ثم باسمه ثانيا.
وفي ربيع الثاني خطب ابن سعود قائلا:
إن مكة للمسلمين كافة، وسنجتمع هناك بوفود (العالم الإسلامي) فنتبادل وإياهم الرأي، وسيكون الحجاز مفتوحا لكل من يريد عمل الخير من الأفراد والجماعات!
وفي أوائل ديسمبر سنة 1924 دخل ابن سعود مكة فجاء بعض أعيانها وبادروا إلى يده يريدون تقبيلها، فمنعهم قائلا: «المصافحة من عادات العرب، أما عادة التقبيل فقد جاءتنا من الأجانب، ونحن لا نقبلها.» ثم خطب خطبة قصيرة جاء فيها:
كان من أحب الأمور عندي أن يقيم الحسين بن علي شرع الله فأجيئه مع الوافدين أحب على يده (أقبلها) وأساعده في جميع الأمور ...
وبعد ذلك بيومين اجتمع علماء نجد الوهابيون بعلماء مكة، فأقر علماء مكة المسائل الجوهرية في المذهب الحنبلي الوهابي وقبلوها، وفي اليوم نفسه أقر ابن سعود ما كان لعلماء مكة من المرتبات والمنح والوظائف. فأنت ترى سياسة «شيلني وأشيلك» معروفة ومعمولا بها حتى في مكة المكرمة بين الوهابيين والسنيين ، فعلماء مكة الذين كانوا يعتبرون أهل نجد الوهابيين كفارا قد أقروا عقيدتهم عند دخول هؤلاء الوهابيين عاصمة ملكهم، فكافأهم ابن سعود بإقرار أرزاقهم في منشور جاء فيه:
كل من كان من العلماء في هذه الديار من موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذا راتب معين، فهو له على ما كان عليه من قبل إن لم نزده. وكل من له حق ثابت في بيت مال المسلمين أعطيناه حقه. ا.ه.
فالجزاء من جنس العمل، أنتم يا علماء مكة تؤمنون بعقيدتنا، ونحن نقرر أرزاقكم ونزيدها ونفتح لكم باب بيت مال المسلمين على مصراعيه.
وانتهى الأمر باستيلاء ابن سعود على الحجاز وخطب خطبة طويلة جاء منها:
لم يفسد الممالك إلا الملوك وأحفادهم وخدامهم والعلماء المملقون وأعوانهم. ومتى اتفق الأمراء والعلماء ليستر كل منهم على صاحبه فيمنح الأمير المنح والعلماء يدلسون، ضاعت حقوق الناس، وفقدنا والعياذ بالله الآخرة والأولى.
ا.ه. عن كتاب «ملوك العرب» للريحاني.
قيل إن موظفا كبيرا من موظفي حكومة الحجاز مرض في أوائل سنة 1931 مرضا خطيرا ونقل بسببه إلى مصر، فلما توهم أن أجله قد دنا أوصى طبيبه الخاص بأن يبلغ ملك الحجاز وصيته الخيرة، وهي تحذيره من ثلاثة أمور: الإفراط في شراء السيارات، واتقاء دسائس «فيلبي»، وسماع نصيحة عبد الله بن حسن شيخ الإسلام في مكة وهو سليل صاحب المذهب الوهابي. ولكن الموظف الكبير نجا من خطر الموت وأبل بعد دائه وسافر إلى مقر عمله، ولم يكن يستطيع أن يمنع إذاعة وصيته التي تناقلتها الألسن.
فقد روى كل من عرف الملك الوهابي أنه يشتري السيارات بالمئات ويقتنيها هو وأولاده بالعشرات تقطع المسافات البعيدة بين الحجاز والرياض (عاصمة نجد) في سباق يتكرر كل يوم وهي من أفخر السيارات، فإذا أدركها العطب أهملت ولم تجد من يصلحها فتمسي هياكل حديدية لا تصلح للبيع والشراء، وقيل إن عدد السيارات التي أصابها التلف على هذه الصورة يزيد على سبعمائة.
أما فيلبي فلم يصلنا من أخباره ما يدل على إخلاصه وصدق إسلامه، غير أننا قرأنا في جريدة التيمس مقالة بعنوان «أربعة أيام في مكة» تكلم فيها فيلبي كما يتكلم السائح الأجنبي في بلاد شرقية، وكنا نشعر ونحن نتلوها أنها فصل من فصول كتبه عن جزيرة العرب، فقد وصف أيام العيد في مكة وهو يقول:
وهكذا أتاحت لي الأقدار أن أشهد أعظم منظر إنساني من ناحية غرابته في حياتي ... وما هو؟ هو اجتماع الفتيان حيال القصر في مساء أول أيام العيد ومعهم طبولهم فيقرعونها ويرقصون ويغنون بنغمات واحدة لا اختلاف بينها لا تبعث على الطرب ولا على الشجى، ثم يطل عليهم الملك من نوافذ قصره ثم تصلهم الجوائز والمنح .
ثم أخذوا يرقصون بالسيف حتى نضحت جباههم بالعرق الغزير.
وبمجرد انتهائهم من رقصتهم نهض الملك عبد العزيز بن سعود واقفا وطرح عباءته عن كتفيه، ثم مد يده فأمسك بها أقرب سيف إليه وأخذ يلوح به كما يفعل الأبطال فوق رءوس هؤلاء الراقصين. وتقدم الملك بعدها إلى الأمام خطوتين وطفق يرقص بمهارة عجيبة فتارة على أطراف أخمصيه وطورا ناكصا على عقبيه وأخرى متشادا إلى أعلى ... وهكذا كانت حركات الرجل الذي قام بتكوين إمبراطورية مترامية الأطراف لم يشترك معه فرد أو دولة في إنشائها ...
ا.ه. ونحن نعجب لدهشة فيلبي من عادات العرب.
وقد علقت إحدى الصحف العربية على هذا المقال بقولها: «وهل هذا كل ما أفاده المسلمون من إسلام مستر فيلبي؟» ...
وقد روى للصحف خبير بشئون الحجاز أن ابن السعود يجمع في كل عام مليونين من الجنيهات وينقلها في خزائن إلى الرياض ولا يستبقي بمكة مالا، وهو يعامل الحجاز معاملة الأرض الأجنبية المفتوحة، ويتقاضى الضرائب من أهلها ومن الحجيج على السواء. أما دعوى ترك حكومة الحجاز للعالم الإسلامي فكانت لتخدير الأعصاب وتطمين المتحمسين والمتهوسين الذين يخافون على الأراضي المقدسة. ولكن بعد أن استتب له الأمر فيها ودعا إلى مؤتمر سنة 1926 الذي كان مؤتمرا صوريا، فقد ضرب بوعوده عرض الحائط وأخذ يعامل الحجاز كما أسلفت معاملة المستعمرة والبلد المفتوح. ومن الحق أن نقول إن الأمن مستتب والنظام سائد والجرائم معدومة لا سيما جرائم قطع الطريق والنهب والسلب. ولكن ذلك تم لمصلحة الحاكم نفسه، فإنه إن لم يستتب الأمن لا يحضر الحجاج إلى الحجاز ولا يدفعون الضرائب والأموال التي يستخلص منها الفاتح الوهابي مليونين من الليرات. وقد ضربنا صفحا عما صنعه الوهابيون من الفظائع عند الفتح لا سيما هدم الآثار النبوية، مثل البيت الذي ولد فيه النبي وبيوت الخلفاء الراشدين، بحجة أن في وجودها تمجيدا لذويهم يكاد يكون عبادة، مع أن الأمم المتحضرة تحتفظ بكل آثارها القديمة وإن كانت تخالف معتقداتها، وذلك احتراما لقيمتها التاريخية.
وقد قرأنا وسمعنا من سوء معاملة الوهابيين المتوحشين للحجاج المصريين إذا رأوهم يتبركون ببعض الآثار أو يقرءون الفاتحة لأحد الصحابة، ويضربونهم إذا رأوهم يدخنون، وحدثت معارك دموية بين حرس المحمل وبين الجيش الوهابي وأصيب كثير من الجنود المصرية ومن الحجاج أيضا، وانقطع المحمل والكسوة من سنة 1926 إلى هذه السنة على الرغم من أن عبد العزيز أرسل ابنه فيصل يستشفي من رمد في عينيه فقوبل في مصر مقابلة الأحباب والحلفاء وذلك بعد الاعتداء على المحمل بالضرب والقتل. فانظر إلى كرم المصريين وحلمهم وتسامحهم التي تكاد تكون ضعفا وحلما وعفوا في غير موضعها، فنحن لا نستنيم للأجانب والأوروبيين فقط، بل تمتد استنامتنا وضعفنا إلى عرب الصحراء ... فلا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن أهل مصر قد جبلوا على مكارم الأخلاق، فلعل هذا يقدر حق قدره من أمم الشرق والغرب.
الفصل الثاني والعشرون
السياسة الأوروبية في بلاد العرب
أثر من القرون الوسطى
كانت أحكام العصور المظلمة عادت إلى الحجاز بانتصاب الشريف س. بن ل. حاكما على الحجاز، عاد البطح على البطن والجلد على القفا بسيور الجلد المضفور وسياط الخيزران، ويوجد تحت القصر سرداب اسمه «القبو الدامس» لأن البشر يدمسون فيه أحياء، وهذا القبو الدامس أو القبر الرهيب عبارة عن جحر مظلم تحت قصر أمير بالحجاز ليس فيه كوة للهواء أو منفذ للنور وأرضه ملآنة بالتراب الذي تتولد فيه الجرذان والعقارب، وهو سجن المتهمين من رعايا الأمير بغير تحديد لوقت أو لحكم كأنه جزء من حصن الباستيل. وليس هذا القبر معدا للصوص والجناة من قطاع الطريق وقتلة الحجيج فإن هؤلاء خاصة المنفذ وحاشيته وأقرب الناس إليه، وإنما القبر أو الدامس جعل لمن ينبس بكلمة أو تصعد من صدره زفرة حزن أو أسى على العرب والإسلام، وقد يضع فيه خصومه من الأعيان أو التجار الأغنياء الذين يحاول مصهم فيرفضون بعذر العدم أو الحاجة.
فإذا ألقى باثنين في الدامس فلا يستطيع أحدهما أن يرى وجه الآخر لشدة الظلام، ولا يستطيع من يدخل الدامس أن يبقى بثيابه، بل يضطر لخلع ما عليه ويتجرد من ثوبه لشدة الحر لأن الدامس لا يتخلله الهواء، وفي الدامس سلاسل وأغلال تصلح لتقييد السفن ويقيد بها الأشخاص! والحمد لله على أن هذا المكان قد بطل استعماله.
وكانت هناك فوق ذلك أداة للعذاب اسمها الخشبة، وهي عمود ممدود فوق الأرض من الجدار إلى الجدار به عدة ثقوب، وطريقة التعذيب بها أن توضع رجلا المعذب في ثقبين من تلك الثقوب على مسافة مترين أو مترين ونصف، ويبقى الرجل ملقى على هذه الحالة على أرض تمرح فيها الجرذان والحشرات فتتمزق أعصابه ويوقع على نفسه ويتخبط في فضلاته.
وبعد مدة مقررة يخرج المعذب ويضرب بالسياط وأعصاب البقر إلى أن يشرف المتهم على عالم الموت والشهادة، وكثيرون يموتون وآخرون تتعطل أعضاؤهم.
وقد نشرت هذا الوصف جريدة «بورو بودور» التي تصدر في جاوه بقلم محمد الهاشمي التونسي، عدد 4 سنة أولى الصادر في 10 ديسمبر سنة 1900، وقال المحرر:
نحن نكتب هذا وننشره في عصر النبيل نفسه وأهل مكة منتشرون في كل مكان، فمن ارتاب فليتحقق منهم، وأهل مكة أدرى بشعابها.
وقيل إن بعض أولاد النبيل كانوا أجروا في دولة «ش» أحكام الجلد القاسي، وتقدمت بذلك شكاوى إلى وزارة الخارجية الفرنسوية ورياسة الوزراء، لأنهما تمثلان الحضارة الإنسانية.
انتقد الشاعر الأندلسي ضخامة الألقاب بقوله:
ألقاب سلطنة في غير موضعها
ومع هذا فقد كانت الأندلس من أغنى بلاد الأرض في المياه والزرع والمعادن والحيوان والمنتوج، وكانت ملآنة بالناس وعامرة بالمباني الفخمة وآهلة بالعلماء.
فماذا عساه يقول لو بعث اليوم في بلاد العرب الصحراء الجرداء، وهي واد غير ذي زرع وفيها النفود والربع الخالي والوديان السحيقة والجبال الشاهقة التي لا نبات فيها ولا نبع ماء، وسمع في مكة صاحب الجلالة ال ... (وقد صار بعضهم في سنة 1924 خليفة المسلمين وأمير المؤمنين وحامي حمى الدين)، وفي حضرموت صاحب العظمة القصيطية وصاحب الشوكة الكثيرية، وفي الكويت صاحب المهابة الصباحية، وفي نجد صاحب الجلالة ال ... وفي سورية صاحب الراية ال ... (قبل زوالها وما يوم حليمة بسر)، وفي اليمن صاحب الإمامة اليمنية وحامي الشريعة الزيدية؟
الماضي والحاضر
كان أبو بكر وعمر وعثمان يدين لهم الشرق والغرب ولم يرد في التاريخ لأحد منهم مثل هذه الألقاب، ولم تكن لهم مواكب ولا جحافل ولا حاشية ولا خاصة ولا معية ولا فيالق من الجند تسير في ركابهم أمامهم ووراءهم، بل كان التراب فراشهم والسماء غطاءهم. ولم يكونوا أهل طمع ولا جشع في المال، ولم يكن لأحدهم جريدة تنشر له قرارا مثل القرار الآتي:
أصدر معالي نائب رياسة النظار الجليلة قرارا يقضي بأخذ خمسة قروش على كل حمار يسافر بين جدة ومكة، ثلاثة منها ترجع إلى البلدية واثنان إلى مرجع آخر.
كان الشريف ل. ن. يعلن أنه قام لتطهير بيت الله من طغمة الطورانيين المارقة في الوقت الذي كان يقبل فيه رسل الإنجليز في الحرم المكي متنكرين بلباس البدو، وشفيعهم ومطهرهم هو ما يحملونه له معهم من الأصفر الرنان، حسبما صرح به بنفسه في كتابه إلى نائب ملك إنجلترا بمصر. وقد لقب الكولونيل «ر» بلقب أمير من أمراء الأشراف وسلمه الخنجر المرصع الذي لا يحمله إلا أهل البيت، وأصبح «ر» عربيا وشريفا على مذهب ن. بن ج.
أما الجندي التركي الذي شهد له العالم كله بطهارة الذيل والنزاهة فيقول عنه ابن «ج» هذا إنه عدو للإنسانية وللأديان. ويقبض «ن» على عذارى الجنود وحليلات الضباط وعقائلهم الذين تسلسلوا 600 سنة يحمون مكة وسكانها أسرى في أيدي العساكر الأجنبية تحملهم إلى مصر.
أليس أعمال النبيل ن داعية إلى أن يكفر الأتراك بمكة وساكنيها من وقت الخليقة إلى يومنا هذا؟! وقديما قال ابن الأثير ج6 ص211: «العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه.» وقد بالغ في الإهانة بما لا نوافقه عليه.
وقال الله:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، قال أحد الكتاب: «فكيف إذا لم نطرح كسرة بل طرحنا أكداسا من الذهب الوهاج؟»
وروي عن الشيخ علي القانص الهندي أنه قال:
العربي في حضرموت لو أعطيته مجا وأمرته بقتل نفس مؤمنة ما تأخر.
وقال الشيخ سالم بن سعد بن نبهان: «نحن العرب لم تحكمنا دولة أجنبية، إذا صاحبنا إفرنجي تكبرنا على أصحابنا فإذا ملكتنا حكومة أجنبية يوما ما فلا شك في أننا سنكفر.» وقال آخر خبير: «لو طلبت الحكومة الإنجليزية من بعض العرب أن يتنصروا للبرهان على صداقتهم لها ما تأخروا عن اعتناق الصليب.» وهذه مبالغة تدل على القسوة في الحكم.
ولأجل هذا أعطى أحد أمراء مكة للكولونيل «ز» مأذونية واسعة وتوكيلا مفوضا، بحيث يمضي بالنيابة عنه كل ما شاء من العهود والاتفاقات حتى كأنه الأمير بنفسه، في الوقت الذي يخفي فيه الحاكم كل شيء حتى على أولاده.
بعد أن حدث النفور بين المرحوم جلالة الملك حسين بن علي والإنجليز، كتب كاتب في التيمس في مايو سنة 1921 يقول ما تعريبه:
إن القيام الذي حصل ضد الأتراك لم يكن وقوعه بصورة عامة من جميع العرب، بل وقع من جانب الشريف حسين، وبالرغم من كون الأمة العربية تتألف من خمس حكومات فإنه ليس فيها أضعف ولا أصغر من حكومة الحجاز، التي تحولت إلى حكمدارية. ومع أن أمير نجد ساعد الحلفاء في الحرب العامة، فإننا لا ننكر أن الحركة بدأت من الحجاز. وكما أن شريف مكة حسين باشا صار حكمدارا على الحجاز، فقد رشح أولاده لإمارات عربية متعددة. ولو رجعنا إلى مطالب عائلة الشريف حسين لوجدنا أن هنالك أشرافا أسمى منهم حسبا ونسبا وأعرق منهم مجدا وفخارا ، وأنهم أليق وأحق بإمارة مكة من حسين وأولاده، وإنما أولاد الشريف حسين يرتكنون في مطالبهم على المساعدات التي قاموا بها للحلفاء في أثناء الحرب.
إن العراق لا تستطيع أن تسمع باسم شريف مكة وأولاده وليس لأحدهم قبول حسن هناك، ويجب موافقة الأمم قبل ترشيح الأمراء لها. وكذلك سورية فإنها لا تنقاد ولا تذعن لأوامر مكة. أما نجد فإن ساحة شاسعة مترامية الأطراف تلتف حول أميرها.
إن أمير نجد من أشد الناس بغضا لشريف مكة أو حكمدار الحجاز، وذلك لمطامع الحسين وحرصه وتفانيه في تضحية كل شيء لمنافعه الذاتية، ولأنه أصبح في منتهى الانتقاد في نظر العرب بل في نظر العالم الإسلامي كله.
وفضلا عن ذلك فإن الإمام يحيى منقطعة بينهما العلائق للسبب الذي يبغضه لأجله العالم الإسلامي كله.
وكذلك الإدريسي لم يقبل أن يتفق معه بوجه من الوجوه. والسنوسي يرى أن الخلافة لا يمكن حصرها في أشراف مكة، وقل مثل ذلك عن عبد الله أمير حائل.
وعلى ذلك فتأسيس الوحدة العربية لا يتأتى تحقيقه الآن، ولذلك فأنسب أن تبقى الأمة العربية على حالها لنوفر على أنفسنا مبالغ طائلة يقتضيها خيال أرباب الأحلام، ونحن في حاجة إلى تلك النفقات التي لا طائل تحتها.
ا.ه. كلام التيمس. وهذه عادة الإنجليز إذا فرغوا من الانتفاع من حاكم أو أمير شرقي قلبوا له ظهر المجن.
بعض مقالات جريدة القبلة
نشر شريف مكة في عدد 447 من جريدة القبلة استغاثة بالمسلمين من الحلفاء، جاء فيها:
يا بني الأمة الخالدة!
أما وقد أخلف الحلفاء وعودهم لكم وداسوا عهودكم ومزقوا مواثيقهم التي عقدوها مع أبيكم ومنهضكم الأكبر فلم يبق لكم سبيل غير المفاداة والاستماتة في رد عاديات الظلم والشر عنكم وعن بقاعكم المقدسة.
ثم أخذ يصف الحلفاء بأنهم «الفرنجة الغدارين».
ثم قال: فإما ميتة تغسل العار وتمحو الذل وإما فوز يؤيد الحق.
اقتحموا نيران الغاصبين أطفالا ونساء وشيوخا وشبانا وعجائز.
أظننتم أن الإفرنج يصدقون في وعودهم لكم؟ لا والله، فلا تخدعوا أنفسكم.
خافوا نهب منازلكم وتدنيس معابدكم وانتهاك أعراضكم، اقضوا ما بقي من هذه الحياة في الثأر. ا.ه. ما جاء في الاستغاثة.
وقد رد عليها مؤرخ شرقي بقوله:
ولنا الحق في أن نضحك من هذه الدعوة إلى الجهاد بعد فوات الوقت، وبعد أن بلع الحجاز ما بلع من الذهب حتى تخم وسدت لهاته سدا بالأصفر الرنان. فلما جفت يد الحلفاء أخذ بعضهم يستنفر العرب ويقدمهم ضحية رجالا ونساء وأطفالا تحقيقا لمطامع الوادي، ويحتفظ بنفسه ويدعي أن الإفرنج الغدارين نقضوا عهود العرب، مع أن العرب لم يتعاهدوا معهم على شيء! وهكذا يكون خبث السياسة المتلوية كالأفاعي.
ترجع مطامع الإنجليز في بلاد العرب إلى عهد غارة نابوليون على مصر وسوريا، ولكنها لم تدخل في طور العمل إلا بعد ظهور نفوذ الخلافة العظمى بين مسلمي الهند إبان ثورة 1857. والإنجليز الذين اتخذوا مسقط وبوشير مركزا لحركات توسعهم في شرق الجزيرة وثغر عدن للتوسع في جنوبها، اتخذوا احتلالهم لمصر قاعدة لحركاتهم ودسائسهم في سورية والحجاز.
وقد وفقوا في الزمن الأخير لإيجاد زمرة من الخونة بمصر من أهل سورية ولبنان وفريق من المصريين رغما عن رفعة مراكزهم في الهيئة الاجتماعية ورغم ما يتظاهرون به من العلم والفضل والغيرة على الإسلام وأهله، وقد باعوا ذممهم للإنجليز واشتروا الدنيا بالآخرة وانقطعوا لكيد الدولة العثمانية خصوصا وللإسلام عموما، بتوهين آخر حصونه.
وقد حاول أولئك الأوغاد تأسيس روابطهم مع الأمير عون الرفيق فعاجلته المنية فالتفتوا نحو حسين بن علي وابن سعود. إن الاحتفالات التي كانت تقام في مصر لعبد الله بك عند مروره المتوالي بمصر أظهرت خطتهم وكرروا المساعي مع الأمير علي باشا فانتهرهم، وحاولوا التودد إلى الإمام يحيى فلم تخف عليه حقيقتهم، ثم اتصلوا بالإدريسي وأسرة النقيب في بغداد وخزعل الذي كان يقابل غورست كلما جاء مصر، وكذلك أسفار إسماعيل حسن وعزت الجندي وحسن صبري وحسن حمادة وأتباع الشيخ علي يوسف ورجل آخر صحفي سوري مسلم من رجال الدين؛ كل ذلك صار سرا مذاعا، وخطب محيي الدين بك متصرف عسير، ومسألة الشيخ أحمد الهزازي وكذلك المخابرات بواسطة عارف القوم بمصر وعبد الرحمن قنصل الإنجليز بجدة.
والتقارير المرفوعة بواسطة الباشا الذي كان بالمعية الخديوية وقيلت في حقه قصيدة «البال»، وسياحات المحامي الشرعي الذي توفي، وإرسال بعض سكان قرية اليوسفية بقنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ فمصدرها معروف. كما أن خطبة عبد الله وطعنه في الدولة أمام ضباط «أمدين» لمحالفتها ألمانيا دون إنجلترا فقد خرقت الستار الرقيق. وجاء طلب الأمير من وهيب باشا قبيل سفره أن تعلن الدولة .انفصال الحجاز عنها تماما إلا في العلاقة الدينية فأفصح عن الغرض المنشود. ا.ه. كلام المؤرخ الشرقي.
خطاب إلى بوانكاريه
نشرت جريدة المستقبل الباريزية في عدد 116 الصادر في 10 أكتوبر سنة 1918 برقية أرسلها المرحوم جلالة الملك حسين بن علي إلى بوانكاريه رئيس الجمهورية، هذا نصها:
إلى فخامة المسيو ريمون بوانكاريه رئيس الجمهورية بالإليزه
انتهينا في هذا اليوم السعيد، الذي تعده الأمة من أيامها التاريخية، بإرسال تهنئتنا إليكم بمناسبة استيلاء جيشكم على دمشق. وإنه لظفر كلل مساعي فخامتكم ومساعي شعبكم النبيل بالنجاح، وهو من ثم بشارة لاقتراب النصر النهائي أي انتصار العدل وحقوق الأمم وضمانها من خرق حرمتها ومن كل اعتداء عليها في المستقبل.
الحسين الأول
وفي نوفمبر سنة 1920 أي بعد إرسال هذه البرقية بسنتين وبضعة أيام، أرسل المرحوم الحسين بن علي ملك الحجاز نفسه كتابين إلى خديو مصر السابق عباس حلمي الثاني وإلى سلطان تركيا يحتج فيهما على أعمال فرنسا في سورية وينسب إليها أنها تعمل في سورية عملا عدائيا لدين المسلمين ويطالب بجلاء جنودها عن عاصمة الأمويين.
ولم ننس من الذي قدم سورية هدية لفرنسا، وفلسطين والعراق هدية لإنجلترا، والفضل للجنيهات الإنجليزية التي كان ينفقها بعضهم بمكة بنفسه وبواسطة صنائعه لتمزيق أجزاء الإسلام والدولة العثمانية. فكيف يعترف الحسين أمس بأن فرنسا فتحت سورية واليوم يطلب الجلاء عنها؟! فأين ثمرة الفتح وأين ثمن الدماء الأوروبية التي أريقت في سبيله؟ هل كان يظن الشريف أن دماء الحلفاء رخيصة مثل دماء العرب والشرقيين؟
أليس الإنجليز والفرنسويون هم الذين كان المرحوم الحسين يصفهم بأنهم «حلفاؤنا الكرام المحاربون لنصرة الحق والإنسانية.» ثم يصفهم بأنهم أعداء يستأجرون الناس لمصالحهم؟ أفلم يستأجروا جيوشا وقوادا من العرب من قبل؟
هل كان يظن أن فرنسا تتخلص من الترك لتشترك مع البدو الحفاة، أم أنها تفتح بلاد الشرق لتسلمها لقمة سائغة للحسين بن علي وأقاربه وأعوانه؟
كان الحسين ينتقد سياسة الأتراك الذين عاشوا في أوروبا 700 سنة وهم في درس مستمر لأعوص مشاكلها السياسية ويبدو للعيان في جريدة القبلة التي كان يحررها أنه سياسي محنك؛ فكيف خدع لوعود إنجلترا؟ وكيف لعبوا به بأسهل الطرق وأهونها فسارع إلى الخلاص من الترك الذين تربى في حجورهم سابحا في بحر من نعمة الله عشرات السنين هو وأولاده وأحفاده وكل أهل بيته؟
قال مؤرخ شرقي: نحن الشرقيين يصح في حق بعضنا قول الشاعر:
غذيت بدرها ونشأت معها
فمن أنباك أن أباك ذيب؟
وما أشبه بعض العرب في ثورتهم على آل عثمان بالزبير بن العوام في ثورته على عبد الملك بن مروان فعطل الفتح الإسلامي وأورث الدولة جراحا وقروحا؛ فباء بسخط من الناس وغضب من الله، وكان جزاؤه أن سجل التاريخ اسمه بأحرف من عار وفضيحة.
كان زعيم عربي يقول في منشوراته: «لا نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة في أيدي الاتحاديين وقد يسر الله للبلاد نهضتها وأخذت استقلالها واستقلت فعلا وانفصلت عن البلاد التي لم تزل تئن تحت سلطة المتغلبين من الاتحاديين انفصالا تاما بكل معاني الاستقلال لا تشوبه شائبة مداخلة أجنبية ولا تحكم خارجي، جاعلة غايتها ومبادئها نصرة دين الإسلام والسعي لإعلاء شأن المسلمين.»
ولكن نتيجة هذا المنشور وقوع بلاد الإسلام في أيدي الاستعمار الأجنبي فتربع جورو في دمشق وهربرت صموئيل في أورشليم، وغيرهما في العراق وشرقي الأردن، في حين استقلت أرمنيا وعشرات الأمم الأوروبية. كان بعض الناس مخدوعا في النبيل «ش» وأعماله ويظن أنه مخلص في ثورته وأنه حقيقة يغار على الإسلام والمسلمين، وكان بعضهم يظن أنه ضعيف العقل والتدبير وأن من حوله يطيعونه خوفا واحتراما، ولكن كان رأي الكثيرين أنه لم «يثر» ولم «ينهض» ولم «ينقذ» إلا حبا بالمال ولأمور أخرى لا علاقة لها بالدين والوطن، فقد جاء في عدد 391 من جريدة «ط» التي يكتبها بنفسه نص خطاب وجهه «ش» إلى نائب حكومة «ك» بمصر، صرح فيه بأنه لم يقم بالفتنة إلا إرضاء لحكومة «ك» وتنفيذا لخطتها الحربية، «فإن كان ولا بد من التعديل، فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب، ولا أشتبه في مجد دولتكم، وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تبينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول فرصة، وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقضي بتأجيله إلى ختامها فحقوق الوفاء والجميل تفرض علينا الثبات.»
فقيام النبيل «ش» وإقامته في مكة لم يكونا حرصا على حمى الدين كما زعم في منشوراته للمسلمين، بل كان مقابلة لجميل الجنيهات التي قدمت إليه كما قال هو نفسه في فقرة أخرى من كتابه السابق:
وإلا باقي المواد فإنا نعجز عن أداء شكر الوفاء بها شكرا يملأ الخافقين خصوصا أمر الإعانات.
وليس للحرمين أو غير الحرمين حرمة في نظر بعض حكام مكة من العرب، فقد سمعنا وقرأنا ألوف المرات ما ارتكبه هؤلاء في الحرمين وما سفكوه من دماء واقترفوه من آثام. راجع ابن خلدون ج4 ص18، وراجع كل صفحة تقريبا من تاريخ الجبرتي.
فالقول بأن أي رجل منهم كان مخدوعا أو أنه كان في نوبة عصبية أو أنه كان نائما يحلم ثم أفاق؛ كل هذه أعذار باطلة لا يبديها إلا جاهل بالحقائق لا يحق له أن يتكلم أو شريك في الجريمة.
الفصل الثالث والعشرون
العراق قديما وحديثا
العراق من العباسيين إلى العثمانيين
إن شعب العراق شعب مسلم شرقي، وهو قريب الشبه إلى المصريين من حيث الأخلاق، ولكن فيه علماء وأدباء من أهل المكانة السامية في العالم الإسلامي.
بيد أن حب الرخاء والترف الذي اشتهر به الأغنياء والسادة في عهد الدولة العباسية لا يزال سائدا في بعض البيوت والأسر، وربما كانت حياة أهل بغداد التي وصفت في القصص لم تكن كلها من صنع الخيال، وبعض مظاهر تلك الحياة ما زالت في العراق ولم يكن العهد التركي ليزيل آثارها وإنما كان ذلك العهد من مسببات قوتها. ولكن معظم أهل العراق فيما عدا المدن هم من القبائل العربية ذات العصبية، وهذه القبائل لا تزال قوية الشكيمة ذات شجاعة وإقدام في الحرب وكثيرون منهم على الفطرة من حيث أخلاق العرب وكرم أخلاقهم ونخوتهم (قتل أحد أفراد أسرة السعدون رجلا بسبب زواج شرعي).
1
وربما كانت حياتهم العقلية كذلك على الفطرة، فإن الحكم العثماني لم يعمل شيئا في سبيل تعليم هذا الشعب الذي كان يبلغ ثلاثة ملايين ونصف مليون، وكانت بلاده ووديانه مقر مدنيتين من أعظم مدنيات العالم وهما المدنية البابلية الآشورية والمدنية الإسلامية.
بل تركه الأتراك يسير سيرا حثيثا في سبيل الخراب ولم يفتحوا به مدارس ولا معاهد للعلم ولم يصلحوا من أموره شيئا، وكانوا يحتقرون العرب ويحاربون اللغة العربية ويرسلون إلى البلاد ولاة من الترك دأبهم إذلال العربي مهما بلغت مكانته، وكان في البلاد علماء أعلام أمثال آل بيت الألوسي يصح أن يتولوا القضاء فلم يعيروهم التفاتا، وأرسلوا إليهم قاضيا تركيا ليقضي بينهم بما يعلم وهو أقل مما يعلم هؤلاء العلماء من أهل البلاد، وكان من بينهم رجال يصلحون للاستعمال ولكن الترك لم يعينوا منهم واليا. وقد سرى على العراق ما سرى على جميع أجزاء الدولة العثمانية من الإهمال والتأخر، فكانت البلاد مقضيا عليها حتما أن تقع في يد الأجنبي (راجع كتاب «ولاية بغداد» تأليف نجيب شيحة بالفرنسية، طبع مصر 1908).
بيد أن هؤلاء العراقيين حاربوا في سبيل استقلالهم وحريتهم حروبا شهدت لهم بعلو الكعب وسمو الأخلاق وحب الوطن والشجاعة الفائقة.
ومما يكتب بمداد الحسرة أن الأتراك أهملوا استثمار البلاد لمصلحتهم أنفسهم ولمصلحة أهليها، فإن بلاد العراق من أغنى بلاد العالم وثروتها مزدوجة، فمن حيث الزراعة يوجد بها ستون مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة وقد أهملت جميعها ما عدا بضعة آلاف من الأفدنة، ولما جاء الاتحاديون شرعوا في الإصلاح الاقتصادي فكلفوا سير ويليام ويلكوكس ببحث مشروعات الري في العراق، فأقام هناك عاما وبعض عام وعرض عليهم مشروع إصلاح واسع النطاق يقتضي خمسة عشر مليونا من الجنيهات ليعيد العراق إلى حالته الأولى ولكن خزانة الأتراك كانت شبه خالية، ثم إنهم لم يرغبوا في تحسين حال العراق ليجعلوا منه مقر دولة إسلامية جديدة ربما تزاحمهم بثروتها وقوتها، فأنفقوا مليونا واحدا تمكن ويلكوكس بواسطته من تصليح مليون فدان، وقد علمت من بعض العارفين أنه قبض المبلغ قبيل إعلان الحرب الكبرى. والأراضي الزراعية في غاية القوة لأنه قد مضى عليها أكثر من سبعة قرون بغير زرع فتجددت قوتها وأصبحت في حكم البكر، حتى إن القمح والشعير قد تعلو سنابلهما على الفرس والفارس. وهناك ثروة أخرى منحتها الطبيعة للعراق وهي الزيت أو البترول، ومنه يخرج البنزين وغاز الاستصباح وغيرهما من العناصر النافعة للصناعة، وشهرة آبار الموصل قد طبقت الخافقين. وهذه الثروة العظيمة كانت في زمن الترك وكانوا يرونها بأعينهم، لأن البترول طافح على الأرض وقد كون بركا وبحيرات فلا يمكن أن تخفى رؤيته على أحد، وفيه ثروة تقدر بملايين الملايين من الجنيهات مما كان يعود على الدولة العثمانية كلها بخير لا حد له، ومع ذلك فإنهم لم يوجهوا أقل عناية نحو استثمار تلك المنابع الطبيعية العظيمة إلى أن جاء الأجنبي بخيله ورجله ووضع يده على تلك الآبار واستغلها وسلمها إلى شركة تجارية أجنبية ومدوا الأنابيب من بغداد إلى حيفا لينقل البترول بسهولة عظيمة من منابعه إلى شاطئ البحر فالبواخر النقالة.
وفي العراق معادن أخرى لا تحصى وكلها مصادر ثروة طائلة، وقد روى لي ثقة أن بها مناجم للفحم لم تفتح.
هذه بلاد العراق التي بلغ الجهل ببعض أهلها إلى درجة أنهم منشقون على أنفسهم سنيين وشيعة، وبعضهم لا يزالون بحالة وحشية يسفكون دماء أنفسهم ويقيمون المآتم في سبيل تشيعهم لأمر قد مضى وانقضى عليه ألف وأربعمائة عام. ولا تزال في تلك المملكة مدن مقدسة هي كربلاء مدفن الحسين والنجف مدفن الإمام علي والكاظمية مدفن الحسن، وتجرى في تلك المدن أمور تشبه ما كان يجري في الهياكل الوثنية. وقد اتصف رجال الشيعة بأخلاق غريبة لا تتفق مع الشرع ولا غيره في شيء، وهم يعللونها بأنها «تقية» ينجون بها من كيد السنيين وهو وهم باطل لا حقيقة له. وكل هذه تقاليد وثنية دخلت على الإسلام ودسائس سياسية اتخذ الإسلام ستارا لها لتتم دعوة أبي مسلم الخراساني للعباسيين، فلما نال العباسيون مأربهم تخلوا عن شيعتهم وقاتلوهم.
ولكن القوم تركوا الجوهر وتمسكوا بهذا العرض الذي كان سببا في هلاكهم، لأن العباسيين لم يستطيعوا إلا أن يبقوا على السنة.
وفي العراق غير المسلمين نحو مائة ألف كلداني، يقومون على الصناعات الدقيقة مثل الصياغة والحياكة والنجارة والنقش في المعادن وما إليها، وهم بقايا الكلدانيين الأصليين ولكنهم نصارى ولا يزالون يشبهون في مجموع خلقتهم وجوه أجدادهم الأولين، وإن كان بين العراقيين أنفسهم كثيرون لا يزالون محتفظين بتلك السحنة القديمة.
وقد كان هذا دأب الأتراك في جميع أملاكهم العربية، فإنهم لم يحصنوها ولم يعدوا لها جيشا ولم يعلموا أهلها ولم يحترموهم وكأنهم كانوا تاركيها ليعتدي عليها أجنبي فاتح.
وقد شهد الكثيرون من العقلاء الذين زاروا الأستانة احتقار الترك للعرب وازدراءهم بهم وعدم عنايتهم بتحسين حالتهم في بلادهم، مما هاج سخط العرب في جميع أنحاء السلطنة. وروى لي ثقة من الشبان الذين عاشوا في تركيا وفي ألمانيا قبيل الحرب العظمى وفي أثنائها أن شبان العرب الذين كانوا في المدارس العليا الألمانية موفدين بعثات على نفقة الحكومة العثمانية كانوا يحسدون المصريين على احتلال الإنجليز بلادهم ويتمنون أن يحكم الإنجليز بلادهم هم كالعراق وسوريا، والغريب أنه لم يخطر ببالهم أن يستقلوا في أوطانهم، بل كانت غاية آمالهم أن يحكمهم شعب أوروبي راق مثل إنجلترا! وسبب ذلك ظلم الأتراك لهم في أوطانهم وتركهم بغير تعليم ولا حضارة. وكانوا يعجبون من حب المصريين للترك وتعلقهم بهم، ويدهشون لأن المصريين يريدون الاستقلال والخلاص من الحكم الإنجليزي. ولم ينكر محدثي أن الأتراك كلهم لم يكونوا سواء في كره العرب واضطهادهم، بل كان منهم رجال يحبون الشعوب الشرقية كلها على السواء مثل أنور فإنه كان ينظر إلى الجنس دون العصبية كان يحب كل شرقي. وكان الألمان لا يثقون بالأجانب ولم يقبلوا أجنبيا واحدا في جيوشهم، ولكن الشرقيين من غفلتهم يثقون بكل أجنبي.
بيد أن الشرقيين الذين يولون الأجنبي ثقتهم يكرهون بعضهم بعضا وهم أبدا متقاطعون متدابرون.
وقد وقفت على حقيقة الحال في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وما كان للمصريين والشرقيين سواء أكانوا سراة أو سوادا من المخازي والفضائح ما يحرق الأكباد ويلين من هوله الجماد! فقد كانت بين الشرقيين معارك وحروب في سبيل النفوذ والمال، ولم يكن سلاحها إلا الدسائس التي اشتغل بها لفيف من الأذكياء الذين وقفوا فطنتهم ودهاءهم على إلحاق الأذى بأوطانهم. وكان بعضهم يتجسس للأجانب وينقل إليهم أنباء بني وطنه ويعاكس أعمالهم ليعكسها، وقد اضطهدوا كل مخلص وحرضوا عليه أولي الشأن فكان نصيبه الطرد والنفي حتى مات بعض الزعماء جوعا واضطر بعضهم للاقتراض وسجن البعض في سبيل القوت، وكان البعض يغتال المال المرسل للطلاب ويشتري لأهله مصوغا وحليا ولنفسه كساء من الفرو وما إليه، ويدخر الأموال ويتقلد المناصب وأصدقاؤه وأحبابه وأبناء وطنه من المجاهدين يتضورون جوعا ويشكون ألم الفقر والمسغبة.
وكان بعض هؤلاء الأذكياء المجرمين يستعملون ذكاءهم كما تستعمل المعاول للهدم والتخريب ولم يستعملوه للبناء والتعمير، وكان المشاهد لتلك المناظر يدهش لحصولها ويحاول البحث عن أسبابها فلا يهديه العقل إلى أكثر من أنها ثمرة الحسد والطمع وميل غريزي إلى الخيانة والغدر والنميمة، وقد تأصلت تلك الرذائل في النفوس فلم يكن من السهل اقتلاعها، بل إن هؤلاء الأشخاص لم يكن يحلو لهم عيش بدونها كأنها عنصرهم الذي خلقوا منه وبه يعيشون، وقد كانت نتيجة ذلك ما رأينا من خيبة الجميع إلا واحدا تمكن بالحيلة من الوصول إلى مكانة عالية ولم يكن بلوغه إياها إلا بالدسائس والفتن ثم ظهر خلقه الفطري فهوى.
العراق بين ويلسون وكوكس
تعود الإنجليز أنهم إذا حكموا بلادا شرقية قلبوا عليها صنوف الحكام من عمالهم الحربيين والملكيين بين قاس ولين وفظ وظريف ومتكبر ومتواضع، فيصحح أحدهم أغلاط الآخر ويستغفر الخلف للسلف، والأمم المظلومة المغلوبة على أمرها تلعن الجميع.
ولم تكن العراق لتشذ عن هذه القاعدة، فقد عينوا لها ويلسون الذي عرف بالشدة وقوة الشكيمة والرياء حتى يبطش بها في الفترة الأولى بعد أن يعجم عودها.
ثم رموها ببرسي كوكس وهو داهية البحرين، الذي جاس خلال تلك الأقطار وعرف لغة القوم ولهجاتهم ووقف على تاريخ أمرائهم ودسائس الحكومات المختلفة من عجم وعرب. وقد عينته وزارة الخارجية بعد أن أدركت أن الثورة قد ضعفت ودخلت العراق الجريحة الغضوب في دور الاستكانة والاستسلام، وهي فترة لم يعد يصلح لها ويلسون رجل الشدة والاصطدام، وبعبارة أخرى جاء برسي كوكس في الوقت الذي بدأ الإنجليز فيه يشتغلون بتأليف الوزارات القومية، أي المكونة من رجال من أهل العراق يعملون بأوامر الاحتلال أو قل الانتداب وهو الاسم الأخير الذي وضعوه للاستعمار. وبعد أن كان ويلسون يدعو شيخ الشريعة للمفاوضة وهي إحدى طرق التسوية في الثورات التي تعد نوعا من الحرب، طلب كوكس من مشايخ العشائر أن يبلغوا ما في أذهانهم من سوء التفاهم إلى أقرب حاكم سياسي في ناحيتهم.
وشتان بين الحالتين! ولذا يرى بعض المؤرخين لقضية العراق أن الثوار وعلى رأسهم شيخ الشريعة قد فرطوا في الفرصة التي منحهم إياها ويلسون، والحقيقة أن شيخ الشريعة لم يفرط في شيء، لأن ويلسون لم يكن أشد إخلاصا من كوكس، غير أن شيخ الشريعة أحسن في التمسك بموقف الكرامة والشمم.
وعلى كل فإن الثورة كانت قد قطعت شوطها فسلم معظم زعماء العرب بعد هذا المنشور الذي نشره كوكس في 26 تشرين الأول سنة 1920، ومن بقي من الثوار استعملت معه بريطانيا سياسة الطيارات ومن كان يسلم تلزمه بتقديم السلاح والذخيرة، ولا غرابة فإن إنجلترا فقدت ألوفا مؤلفة من ضباطها وجنودها الإنجليز والهنود بين قتلى وجرحى وأسرى ومفقودين، وكان العرب يعاملون الأسرى والجرحى بغاية الشفقة والحنان.
كان الملك فيصل قد خرج من سورية بعد موقعة ميسلون أو أثناءها طاعة لأمر الحلفاء، وهو مبغوض من الفرنسويين ومحبوب من الإنجليز أو على الأقل والإنجليز يغضون عنه الطرف ويتمنون بقاءه في سورية، وإن كانوا في الظاهر قد اشتركوا مع فرنسا في التصريح باعتبار قرارات مؤتمر دمشق باطلة، ولكن السياسة الإنجليزية كعادتها تعمل بوجهين فكانت وزارة الخارجية تمالئ فرنسا في عدم الاعتراف بصحة اختيار فيصل ملكا على سورية وبعض كبار الساسة البريطانيين يوعزون إلى نوري السعيد باشا الذي أوفده فيصل ليجس نبض السياسة الأوروبية أن إنجلترا تعطف على حكومة دمشق وتنوي أن تمد لها يد المساعدة، وليس على هذا القول غبار بعد أن عركت إنجلترا بعض الأمراء وعجمت عوده وعرفته هادئا وديعا مطيعا إبان تلك الثورة التي كان بطلها لورنس، وكان مثل هذا الأمير بلا ريب يكون سدا منيعا بمملكته بين إنجلترا وبين مطامع فرنسا في الشرق.
فلما برح فيصل دمشق على ما فصلناه في بضعة أماكن من هذا الكتاب، كان معه لفيف من حاشيته من أهل العراق وأهل سورية وبعضهم لا يزال معه حتى الآن 1931، ولكنهم في تلك الساعة كانوا الباشوات جعفر العسكري ونوري السعيد وعبد الرحمن شهبندر وساطع الحصري، وهو الذي ذكرنا خبر سفره إلى الأستانة بخصوص مسألة الحلف العربي في ربيع سنة 1931. وسافر فيصل إلى إيطاليا وسويسرا ولندن وتفاوض مع حكومتها في أمر توليه عرش العراق ما دامت مغامرة دمشق لم تفلح، ولا بد أن لورنس وأنصار لورنس لا سيما تشرشل الذي كان يعول على لورنس كل التعويل وجورج لويد وهو صديق الاثنين قد بذلوا قصارى جهدهم في إبلاغ فيصل غاية ما يتمنى بعد إساءة كلمنصو إليه، فإن هذا الرجل رفض مقابلة فيصل واعتبره عدوا وخارجا على حكومة الجمهورية.
ولكن هذه «الثلة» أو الكليك من الإنجليز الشبان الاستعماريين يعتبرون فيصلا رجلهم الذي ساعدهم في ثورة العرب فلا يجوز أن يتخلوا عنه، وهم يعلمون أن إنجلترا قد نقضت عهودها لأبيه المنقذ الأعظم، وضربتان في رأس تشجانها، فيكفي نقض العهود وضياع حلم دولة العرب المستقلة من حدود البحرين إلى المحيط الأطلنطي، وقد أسفر هذا الحلم عن كونه سرابا.
كلمة جامعة للملك فيصل
وكانت الأسرة الشريفية قد اقتسمت ممالك العالم العربي، وكان الأمير عبد الله يتمنى عرش العباسيين ويطمع أن يجلس في موضع الرشيد والمأمون، وقد قويت الفكرة في رأسه بعد أن قنع فيصل بالشام، ولكن بعد زوال ملك الشام من يد الأسرة تغير المركز نوعا ما فهل يليق تزاحم الأخين على عرش العراق؟
ولا سيما وأن الملك حسين يحب الأمير عبد الله ويفضله ويثق به ويكثر من استشارته، ولهذا كان من واجبات نوري السعيد باشا أن يكتب من مصر إلى حسين صاحب القبلة والنهضة بما جرى في لندن وأن يطلب موافقته وموافقة الأمير عبد الله على قبول فيصل عرش العراق، لأن فيصلا وهو يعلم حلم أخيه ومكانة أخيه عند أبيهما صرح بأنه ليس في إمكانه أن يتقلد تاج المملكة العراقية ما لم يقترن ذلك بموافقة أبيه وأخيه.
ولما اطمأن نوري باشا من هذه الجهة أو كاد، سافر إلى بغداد ليقوم بدعاية واسعة النطاق لمصلحة الأمير أو الملك فيصل الذي صار في نظر القوم مواليا للحلفاء بحيث يولونه أو يتولى من قبلهم الإمارة أو الملك الذي يرغبون (جمادى الأولى سنة 1339).
وفي تلك المدة عقد في لندن مؤتمر اسمه مؤتمر شرق الأردن أرسل إليه فيصل احتجاجا باسم أبيه وأسرته، وطلب فيه من الحلفاء أن يبروا بوعودهم وذكرهم بأن أباه خاض الحرب تنفيذا للوعود والعهود، ولكن حلول عصر السلام خيب آمال العرب تخييبا لم يذق مثله سواهم من الحلفاء، وأن العرب لم ينالوا الاستقلال بل «أضاعوا ما كان لهم من الوحدة النسبية لما كانوا تابعين للأستانة، وليس بين الاعتبارات الصحيحة ما يسوغ التفريق بين الولايات العربية ...» وقد أصاب فيصل حفظه الله كبد الحقيقة ودل على سمو الإدراك.
والمذكرة التي اقتطفنا منها هذه النبذة كتبت في الظاهر باسم العرب والوحدة العربية ووعود الحلفاء لهم، ولكن حقيقتها ترمي إلى ترويج الدعوة عند الحلفاء لمصلحة الحكم والمبادرة بتعيين ملك على العراق، فهو أقل ما يمكن أن يرضى به العرب بعد أن خابت آمالهم وأقل نذر يعد وفاء ويقبل. وقد نالت المذكرة بغيتها وكانت ذات أثر بليغ في سير المداولات في القضية العراقية بصفة خاصة، وهذه المذكرة تعد في نظرنا عملا سياسيا موفقا لمصلحة الملك فيصل، ومثله كمثل من يقول: «أنت وعدتني بألف دينار وقصر وحديقة وكذا من الجياد، وأن ترد لي أملاكي المغتصبة وكذا وكذا، والآن وقد نكثت بوعدك وحنثت في يمينك فلا أقل من أن تعطيني القصر أو الحديقة.»
هذا كلام وجيه ولا يمكن لمغتصب مهما كان سيئ النية قاسي القلب أن يهمله، لأجل هذا عقد مؤتمر خطير في القاهرة في آذار سنة1921، ونحن نذكر أن تشرشل عندما وصل مصر أنزلوه في محطة شبرا وأدخلوه القاهرة خفية خوفا عليه من الانزعاج بالمظاهرات، وكان تشرشل وزيرا للمستعمرات في تلك السنة وكان مستشاره المقرب إليه لورنس صديق فيصل الحميم الذي صاحبه في ثورة العرب، وهو يعرفه معرفة جيدة ويحبه منذ التقيا في سنة 1916 على ما وصفناه في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد استدعي سير برسي كوكس وجعفر باشا العسكري وساسون أفندي أحد وزراء العراق اليهود وميس جرترود بيل أفعى العراق العانس وجنرال أتكنسون وآخرون، وعقد هذا المؤتمر في فندق سميراميس وطرحت فيه مسألة العراق على بساط البحث، وهو المؤتمر الذي ذكره دكتور شهبندر في إحدى مقالاته على لورنس في مجلة المقتطف، وقال إن لورنس خدعه وأظهر له في أثنائه غير ما يبطن. وقد تم في هذا المؤتمر مشروع تمليك فيصل على العراق وإعلان العفو الشامل ونفي السيد طالب النقيب لأنه كان يطالب بالعرش أو يدعي أنه أحق من في العراق بالسيادة، وكان الإنجليز والعرب يخشون دسائسه، ولكن هذا العفو الشامل لم يكن ليشمل أمثال الشيخ ضاري الذي أمر ولده خميس وأتباعه بقتل الكولونيل ليتشمان.
وكان طالب النقيب قد أفسد على نفسه باتصاله بسير ويلسون اتصالا أظهر اتفاقه مع الإنجليز على وطنه، وقد نفي النقيب من العراق إلى الهند وأوروبا. أما الشيخ ضاري الذي استثني من العفو العام هو وولداه خميس وسليمان وسرب وأسلوبي ولدا مجباس ودهان بن فرحان وكلهم من عشيرة الزوبع، وتهمتهم قتل ليتشمان أو التحريض على قتله؛ فلم يقع منهم في قبضة الحكومة سوى الشيخ ضاري، فقد فر من العراق وجعلت الحكومة مكافأة كبيرة لمن يقبض عليه، فتعقبه أرمني صاحب سيارة وصار يتقرب إليه ويدعي الإخلاص له وينقله من مكان إلى مكان إلى أن ركب معه يوما فساق به إلى بغداد وسلمه وقبض المكافأة، وبذلك أضاف صفحة جديدة لسجل أعمال بني جلدته الأرمن الذين جبلت نفوسهم على الغدر والخيانة وامتزجت دماؤهم باللؤم والدناءة وكراهية الإسلام والعرب والترك، وعاقبهم الله على ذلك بتبديد دولتهم وتشتت ملكهم وصاروا كاليهودي التائه في أنحاء العالم يربحون من أقبح الأعمال وأدنسها وأحطها ويزجون في أعماق السجون لاقترافهم أنواع الجرائم التي ننزه القلم عنها، وكان الدور الذي مثلوه في تركيا ومصر وسوريا ولبنان وبلاد الفرس يدل على صدق فراسة السلطان عبد الحميد في طباعهم.
وقد وصل الشيخ ضاري إلى بغداد وهو في مرض الموت، ولكن الأطباء الإنجليز الشرعيين أصحاب الذمم الطاهرة قرروا قدرته على احتمال المحاكمة، وفعلا حاكموه وحكموا عليه بالإعدام، وكان يوم تشييع جنازته يوما خطيرا في بغداد.
وجاءت الصحف بوصف المظاهرات التي لازمت المشهد والأناشيد التي كانت تنشد واسمها «هوسة» وفيها بعض عبارات الوعيد للندن، وهو وعيد لا يتلوه لحسن الحظ تنفيذ فأين بغداد من لندن؟!
ومما يلاحظ في هذه المسألة أن الإنجليز تعودوا أن يتساهلوا في إسداء العفو الشامل عقيب الثورات في البلاد المحتلة أو المغتصبة، ولكنهم لا يتساهلون في توقيع القصاص على من قتلوا فعلا ضباطا أو موظفين إنجليز مهما كلفهم ذلك من استمرار الخصومة أو الاشتهار بالقسوة.
وقد شاهدنا ذلك في حوادث ديروط في مصر سنة 1919 وفي العراق بشأن الشيخ ضاري الذي حرض على قتل ليتشمان وفي قضية جميل وحميد دبوني المتهمين بقتل بارلو وستيوارد في تل عفر وقاسم المويلي وبسبوس بن محاوبس وغيرهم، وكلهم متهمون بقتل ضباط إنجليز وثبتت عليهم التهمة. أما الأفراد الذين كانت لهم علاقة بتهم سياسية أخرى وكانوا معتقلين أو منفيين فإن الإنجليز شملوهم بعفو عام.
وحدث كذلك في الهند في سنة 1931، فإن الصلح الذي تم بين لورد إروين وبين غاندي كاد تنفصم عروته لتنفيذ الإنجليز عقوبة الإعدام في بهجت سنغ وآخر لثبوت تهمة قتل بعض ضباط الإنجليز عليهما، ولم يكن أحد في العالم يعرف مقدار بهجت سنغ في الهند حتى نفذ الحكم فيه فدوت التلغرافات بذكره وبوصف الهياج الذي حدث في الهند عقيب ذلك ونصوص الخطب العنيفة التي ألقيت ضد إروين وغاندي، وأنذر أحد الزعماء بأن جو التفاهم قد تعكر بين الهنود والإنجليز إلى الأبد ولن تعود المياه إلى مجاريها، وأقيمت مآتم وحفلات دينية وقومية في سائر أنحاء الهند تكريما لذكرى بهجت سنغ، ولكن الزوبعة مرت في النهاية.
وهذه المسألة تدل على أن الإنجليز يقدرون حياتهم حق قدرها ويجعلون لشخص البريطاني شأنا فوق كل شأن، وعندهم أن من اعتدى على إنجليزي من الشعوب المحكومة لا بد أن يعاقب بما يستحقه.
اجتماع ملكين
نرجع إلى ما كنا بصدده بخصوص العراق فنقول في الوقت الذي نفي فيه طالب النقيب من العراق عاد الأمير فيصل من إنجلترا ومر بمصر فأقام في القاهرة أياما ثم سافر إلى الحجاز، وكان وجوده في مصر جزءا من الخطة المرسومة ففيها أذيع أولا تفكير «العراق» في ترشيح الأمير لعرش بغداد، وكان الأمير إذا سئل في ذلك ارتسمت على فمه ابتسامة ذات معنى وأجاب أن بلوغه ذلك العرش يرجع إلى إرادة الله ومشيئة الشعب العراقي، وأن كلمة بريطانيا العظمى تقيدها، وكل هذا صحيح وكأنه كلام حكيم ماهر ينبئ بالمستقبل القريب. وكانت الخطوة الثانية انتقاله إلى الحجاز فوصل إلى وطنه وركب الهجين من جدة إلى مكة ليقدم بين يدي والده واجب الاحترام والطاعة البنوية، فنسي الولد غضب والده واستيقظت في صدر صاحب الجلالة الهاشمية عواطف الرحمة والحنان وأخذ بعض الأصدقاء والساسة العراقيين يطلبون بالبرق من الحسين أن يختار أحد أولاده لعرش العراق، ومن هؤلاء محمد مهدي صدر الدين وناجي السويدي والباجه جي وزين الدين. ومما هو جدير بالذكر أن كلا من جمعية العهد والحرس انضم في هذا الطلب، وقد وقع اختيار الحسين على نجله فيصل مع أن روح عبد الله كان معلقا بالعراق، وذلك في عهد الأحلام العذبة أحلام الدولة العربية العظمى واقتسام تراث الدولة العثمانية بين الملك حسين وأولاده الأربعة.
فغادر فيصل الحجاز محفوفا بوفد من أهل العراق كأنه عرس يزف إلى عروس فيؤنسه في طريقه لفيف من الأهل والخلان، فاختار تشرشل ذلك الوقت المناسب وألقى خطابا ذا شأن في البرلمان عن العراق ومستقبله، وهذا الخطاب خليط من الأسف على التفريط في الاستبداد بالعراق وحكمه حكما مطلقا بواسطة حاكم عام ، وتبرير لهذا التفريط بما سبق وقطعته إنجلترا للعرب من العهود والوعود، وفي الفقرة الأولى ترى روح تشرشل الاستعمارية ثم روح لورنس وتأثيره واعترافه باضطرار إنجلترا حيال ثورة 1920 إلى تنصيب حاكم عربي على البلاد. وأراد أن يطمئن قلوب الذين يظنون فيصلا كغيره من أمراء الشرق وحكامه الأتراك فقال: «من المحال السماح بعودة العراق أو أي قطر من الأقطار المحررة إلى سلطان الحكم السابق.»
وأراد تشرشل أن يرد على بعض ساسة العراق الذين كانوا يدعون إلى الحكم الجمهوري في العراق مثل المرحوم توفيق بك خال ناجي الأصيل، الذي لقي حتفه بصورة غامضة ولم يكشف القناع عن قاتله حتى هذه الساعة، وإن كان بعضهم يهمس باسمه أحيانا في أذن من يأتمنه، فقد كان توفيق بك المذكور يدعو إلى الحكم الجمهوري ويدعي بأن الملك فيصل وأعضاء البيت الشريفي غرباء عن العراق ولا حق لهم في الجلوس على عرش بغداد، وكان المرحوم من أهل الذكاء والفطنة وكاد يصل إلى تحقيق غايته لولا اغتياله الذي ما زال كما قلت سرا غامضا إلا عند القلة من الواقفين على دخائل الأمور. ولما كانت هذه الدعوة قد بلغت مسامع الإنجليز وكادوا يتأثرون بها فقد ذكرها تشرشل في خطابه السابق ذكره، حيث قال:
وليعلم كل واحد جليا أن درجة رقي العراق تجعله غير صالح لإنشاء جمهورية، كما أن حكومة جلالته لا يمكن أن تتساهل فتقبل حاكما تركيا.
ومن الغريب أنك ترى في خطبة تشرشل بغير مجهر جراثيم الحلف العربي الذي ظهرت الدعوة إليه في سنة 1931 قبل ذلك بعشر سنين، فقد قال:
إن اتباع سياسة شريفية في العراق وفي عبر الأردن يؤثر حتما في علاقاتنا بأمراء العرب الآخرين، وكل مساعدة ودية نسديها لبعضهم تحتم عليهم مسالمة جيرانهم.
ونذكر في هذا الصدد أن جلالة الملك حسين قد أفصح مؤخرا عن رغبته في فتح باب المفاوضة مع ابن سعود، فنرجو أنهما يتوصلان بذلك إلى اتفاق دائم بينهما، ولا مشاحة إننا نرغب في توطيد عرى الصداقة مع كلا الزعيمين.
والغريب أن المستر تشرشل لم يصف الأمير فيصل بصفة الملك، بل كان من أول الخطاب إلى آخره يعبر عنه بالحاكم (جريدة العراق عدد 12 شوال 1339).
ودخل فيصل بعد عيد الفطر من سنة 1339 بعشرين يوما فاستقبلته استقبال الفاتحين، وألقى الزهاوي - شاعر السير برسي كوكس وغيره من الحكام - قصيدة بليغة مطلعها:
عج العراق مرحبا
بك أيها الملك الجليل
وعلى الرغم من قول تشرشل: «وليس في النية إكراه الشعب على قبول حاكم مخصوص، وستطلق الحرية التامة في البحث والإفصاح عن الرأي في أمر انتخاب الحاكم.»
وتعقيب سير برسي كوكس عليه بقوله:
إن حكومة جلالة الملك ترغب في أن تبين بوضوح كما سبق وتبين تكرارا بأن ليس لها قصد أو رغبة ما في إكراه الشعب على قبول حاكم معين، بل الأمر بالعكس فإنها ترغب في وجود الحرية التامة في الاختيار وإبداء الرأي.
وكان الرأي في العراق منقسما فبعضهم يرغب في الجمهورية وبعضهم يرغب في حكم العراق بواسطة إنجلترا مباشرة، وتطرف بعض أصحاب هذا الرأي فاقترح تعيين كوكس ملكا عليهم.
وقال بعضهم بتعيين حاكم تركي تحت إشراف إنجلترا.
وكان السيد النقيب يرى نفسه أجدر الناس بتولي الحكم.
أما عن الرأي الجمهوري فقد رأينا صاحبه يقتل اغتيالا والوزير الإنجليزي يصرح بأن العراق لا تصلح لهذا النظام.
وعن حكم إنجلترا المباشر قال تشرشل:
نعلم بحركة حديثة العهد ترمي إلى طلب الاستمرار على الحكم البريطاني مباشرة ، وجل هذا التغير في موقف الشعب دليل ناصع على ثقته بالسير برسي كوكس ولكن لا أمل لنا أن نتمكن من الاستمرار على حمل التبعة مباشرة.
أما السيد النقيب فقد أفسد على نفسه، فقد حاول نشر الدعوة لنفسه في العراق، ثم أدب مأدبة لبعض رجال الصحافة من الإنجليز وحضرها عدد من الوجهاء الوطنيين ورؤساء العشائر، وبعد أن دارت الكئوس وقف خطيبا فقال ما معناه: «إن في دار الانتداب من لا نحبهم، لأنهم يتدخلون في شئون الأمة التي لها الحق ولها وحدها أن تؤمر أو تملك عليها من تشاء، وقد صرحت حكومة الانتداب بأنها ستحترم إرادة الشعب العراقي ونحن نحترمها إذا فعلت ... أما إذا أخلفت فها هنا عليها ... ونظر إذ ذاك إلى رؤساء العشائر ... عشرون ألف بندقية.»
وبعد المأدبة، دعت اللادي كوكس طالب النقيب للشاي وعند خروجه أركبوه سيارة سابقت الرياح حتى خرجت به عن حدود العراق وبات النقيب منفيا.
ولما كان تعيين أمير تركي غير ممكن لمخالفته لتقاليد بريطانيا فأصبحت الأمة العراقية المطلقة الحرية نظريا في اختيار من تشاء من الحكام مقيدة بانتخاب الأمير فيصل بعد أن سدت في وجهها أبواب من عداه لا سيما وأن تشرشل وكوكس بعد أن وعدا خفية بأنه إذا تم انتخاب فيصل تعتقد حكومة جلالة الملك أن الشعب العراقي يكون قد وصل بذلك إلى حل ينطوي على أكبر الآمال في مستقبل سعيد لهذه البلاد، وهذا ما نتمناه للعراق ولجلالته.
تتويج الملك ونبأ المعاهدة
وكان تتويجه في 23 أغسطس 1921، وبلغت نسبة منتخبيه على حسب ما قاله سير كوكس 96 في المائة من السكان.
وخطب الملك خطابا بليغا وأطلقت المدافع مائة طلقة وطلقة وسار موكب الملك الجديد إلى بلاطه وأرسل إليه الملك جورج برقية بالتهنئة، وللمرة الأولى ورد ذكر اللغز التاريخي الذي لا يزال معقدا من سنة 1921 إلى 1931 ولا يعلم إلا الله متى يحل ألا وهو المعاهدة:
وإني لواثق بأن المعاهدة التي ستعقد بيننا قريبا ستمكنني من توثيق عرى المحالفة التي ارتبطنا بها أيام الحرب المظلمة، من القيام بتعهدي المقدس بافتتاح عهد سلام وإقبال مجيد للعراق.
وأجاب الملك فيصل على هذه البرقية بمثلها وجاء في برقيته هو أيضا، ولا شك أن البرقيتين كانتا معلومتين لدى وزارة الخارجية الإنجليزية:
لا أشك بأن المعاهدة التي ستعقد قريبا بيننا ستؤكد صلات التحالف التي شيدتها في ميادين الحرب الضروس دماء الإنجليز والعرب، وستكون مؤسسة على دعائم لا تتزلزل.» والشعب في حماسته والأمة في ابتهاجها والصحف في اندفاعها والملك فيصل في فرحه ببلوغ أمنيته بعد سفره من سورية، فلم يدرك أحد أهمية هاتين البرقيتين ولعلهم أدركوا ولم يكترثوا، وظنوا أن الانتداب قد زال والاستقلال التام قد أعلن، ولكن وزارة الخارجية في لندن لم تكن هائجة الأعصاب عند تبادل الرسالتين ولم تخطئ في تقديرها لدى اختيار زمان الإرسال ومكانه. لقد ارتبط الملكان والحكومتان، والملك فيصل يعلم مكانة إنجلترا وقوتها وبعد مراميها وهو يعلم بأمر من وبرضا من حلت مسألة عرش العراق.
ولا يزال لغز المعاهدة معقدا لا يرجى له حل.
ففي السنة الأولى من الحكم الفيصلي بدأت المفاوضات لعقد المعاهدة وأرسلت إنجلترا الميجور يونج فحضر إلى بغداد، وفي أثناء المفاوضات التي هددت مرات عدة بالانقطاع هجم بعض رعايا ابن سعود من «الإخوان» على بعض عشائر العراق في أبو الغار وقتلت ونهبت كثيرا، وانتهت هذه الحادثة باستقالة خمسة من وزراء العراق، وتمكن سير كوكس من تنفيذ خطته وحل مسألة الحدود وفقا لسياسته بمؤتمر المحمرة، ثم أخذت العراق تفكر في تأليف حزب سياسي وطلبت ذلك من الحكومة فماطلتها ثم سمحت لها بتأسيس الحزب الوطني العراقي وغايته المحافظة على استقلال العراق ثم تأسس حزب النهضة والحزب الحر. وتقدم الحزب الوطني إلى الملك بمطالب ثلاثة، أولها: الكف عن التدخل الإنجليزي في إدارة الحكومة، وتأليف وزارة حرة، وتأجيل المفاوضة والمعاهدة إلى ما بعد تأليف المجلس التأسيسي.
وأوفد جلالة فيصل الأستاذ فهمي المدرس كبير أمنائه ليشرف على سماع الخطبة الوطنية، وكان الجمع حافلا والزحام شديدا وألقى الشيخ مهدي البصير خطبة الحزب الوطني وفيها المطالبة بتعيين وزارة حرة وعقد المجلس التأسيسي والوفاء للعراق بعهود الملك فيصل وكلام إنجلترا ... وفي أثناء الزحام والخطاب جاء سير كوكس للتهنئة فتعذر عليه المرور وسط الزحام، ولذعه أحد العوام بكلمة جارحة اعتبرها المندوب السامي صادرة من الاجتماع كله وموجهة إلى حكومته في ذلك اليوم السعيد وهو ذكرى عيد التتويج وطلب إقالة الأستاذ فهمي المدرس لشبهة أنه مسئول عن هذا الهياج.
وذهب ذلك الرجل الفاضل ضحية هذا الحادث مع أنه لم يفعل أكثر من طاعة أمر مولاه بحضور الاجتماع وسماع الخطاب، ولم تكن له يد في الاجتماع ولا في الكلمة المؤلمة التي جرحت عواطف سير برسي كوكس.
وعقيب ذلك مرض الملك فيصل بالزائدة الدودية واعتكف وتولى سير كوكس حكم العراق بالإرهاب فنفى وطرد من شاء من الزعماء وصادر الأحزاب السياسية، وشاع أن عرش العراق قد بات خاليا بعد العملية الجراحية وتلا ذلك تعطيل بعض الصحف الحرة والقبض على أصحابها ونفي بعض الخطباء والرجال العموميين إلى جزيرة هنجام القاحلة في الخليج الفارسي، ثم أفرج عنهم بعد بضعة أشهر وبعد أن وقعوا على قسم باتباع سياسة الملك فيصل ما عدا الشيخ مهدي البصير الذي تردد وكان آخر من وقع وقد وصف توقيعه بأنه «لطخ صورة العهد بإمضائه وهاجر هنجام».
خطة الاستعمار في الشرق واحدة
وهذه الحادثة السياسية التي انتهت بفشل القائمين بها تبين سياسة الإنجليز في الشرق الإسلامي وغير الإسلامي أفضل بيان، فإنه بعد الثورة المسلحة التي تركوها تأخذ شوطها حتى فنيت قوتها وشالت كفتها حيال ازدياد قوة الإنجليز ورجحان كفتهم؛ حولوا الحاكم العام الذي عاصر الثورة وأتوا بحاكم آخر هو السير كوكس وهو رجل قضى خمسا وأربعين عاما من عمره في الخليج الفارسي وجزيرة العرب والبصرة وبعض ناحيات العراق، ويفهم العربية ويعرف معقولية البلاد وأهلها وله اتصال بالأعيان والأذكياء والزعماء ورؤساء العشائر، وهذا الرجل يكاد يكون ملك العراق قد عرض عليه فأبى، ولكنه نصح للإنجليز أن يجعلوا عليه ملكا عربيا، وهو يظهر اللين تارة والشدة طورا، وقد وعد أهل العراق باسم حكومته بالحرية والاستقلال والمجلس التأسيسي والبرلمان والشعب العراقي يصدق ويؤمن حتى ظنوا أن الانتداب قد زال وأن الاستقلال قد حل، ولكن الوعود لم تنجز فألفوا الأحزاب وكتبوا في الصحف وعقدوا الاجتماعات - صمامة الأمان - فلما زاد الغليان أظهر سير كوكس يده القاتمة واختفى الملك بفعل الزائدة الدودية واستقالت الوزارة وأعلن كوكس أنه انفرد للأسف بحكم العراق. لو غيرنا الأسماء والتواريخ لانطبقت هذه الخطة بعينها على أي بلد وأي قطر من أقطار الشرق، فإنه بعد الثورة المسلحة تتطلع الأمة للعمل السياسي فتؤلف الأحزاب وتنشئ الصحف وتكتب المقالات وتذيع الاحتجاجات، فتمد إنجلترا يدها بهدوء وهي جالسة على «شيزلونج» وتغلق باب الأحزاب وتعطل الصحف وتلتقط بعض الرجال لتسجنهم أو تنفيهم ولا تعيدهم إلا بعد أخذ العهود والوعود بأن لا يعودوا إلى ما كانوا عليه من المطالبة بالوفاء ... ويستريح دماغ إنجلترا بعد ذلك بضع سنين، فإذا عادت الحركة من جديد عادت ومدت يدها، وهكذا.
وفي تلك الفترة أي بعد هدوء عاصفة الأحزاب قام أحمد باشا الصانع وعبد اللطيف باشا المنديل وناجي بك السويدي بطلب انفصال ولاية البصرة عن ولايتي الموصل وبغداد وإلحاق البصرة بالهند وقدموا بذلك مذكرة للسير كوكس.
والإنجليز ينظرون من زمن طويل إلى البصرة بعين الشراهة والاغتصاب، لأنها رأس الخليج الفارسي ورأس العراق، وقد فصلنا أهمية الخليج الفارسي في نظر السياسة الإنجليزية ولهم فيها تاريخ حافل بالدسائس، ولم يستميلوا جانب خزعل ومبارك الصباح إلا لأجل الاستيلاء على البصرة، وكانت الفكرة تجول في صدر تشرشل فأشار إليها في خطبة البرلمان التي جعلها مفتاحا لسياسة إنجلترا في العراق قبيل تتويج فيصل بأيام، حيث قال: «وكذلك قد طلب البعض فصل البصرة عن العراق ووضعها تحت إدارة بريطانية تامة، ولا نرى أن هذا الأمر أيضا ممكن لأنه يخالف مصلحة الحكومة الوطنية إجمالا.»
وكانت هذه الحركة الانفصالية بلا ريب حركة تهديدية أوعزت بها دار الانتداب لتخويف أحرار العراق، كما أن هجوم الوهابيين كان المقصود به إرهاب القبائل العراقية من الإخوان، ولكن هذين الحادثين لم يفتا في عضد العراقيين المطالبين بالاستقلال وإلغاء الانتداب.
وقد أمضيت المعاهدة في 10 تشرين 1922، والمعاهدة يمكن تلخيصها في كلمتين وهما: «إن إنجلترا تمد حكومة العراق بالمال والسلاح والمساعدة الفنية والنصيحة الحسنة في الإدارة، وفي مقابل ذلك تقبل العراق نصيحة إنجلترا وتطيع أوامرها» وبعبارة أخرى تستقل العراق عن كل دولة في العالم ما عدا إنجلترا، وهذه بعينها كانت سياسة الاحتلال في مصر.
واللذان وقعا على المعاهدة هما سير زكريا كوكس المعتمد السامي وسير عبد الرحمن النقيب رئيس وزراء العراق، وهي في ثمانية عشر بندا.
وصدر الأمر بالانتخابات ووضع قانون مجلس التأسيس الذي تألف من مائة نائب، ودعت الحكومة أهالي العراق لقيد أسمائهم في دفاتر الانتخاب فقام علماء النجف والكاظمية وأفتوا بمقاطعة الانتخابات وعلقوا دخول الانتخابات على شروط، منها إلغاء الحكم العرفي وإطلاق حرية الاجتماع والنشر وعقد الجمعيات السياسية، فلم تذعن الحكومة لهذه الشروط، وكذلك لم تقبل الأمة على الانتخاب، وضاقت الحكومة ذرعا بالحال فاستقالت وزارة النقيب وتألفت وزارة عبد المحسن السعدون فنشر هذا الوزير منهاج وزارته وهو منهاج حر، ولكن قول الوزارة أكثر من فعالها فاستمرت حركة المقاطعة لا سيما وأن الحكومة لم تسحب المستشارين الفنيين من الألوية ولم تستدعهم إلى بغداد، فسنت الحكومة نظام التفتيش الإداري ولكن هذا لم يغير شيئا من نظام الإدارة في الألوية.
ثم حدد زمن المعاهدة بدلا من عشرين سنة كنص البند 18 بدخول العراق في عصبة الأمم (3 أيار 1923) أو على أثر انتهاء أربع سنين تبدأ من تاريخ إبرام الصلح مع تركيا وأخذت الحكومة تستعطف رؤساء العشائر في دخول الانتخاب فأبوا فنفت بعضهم.
وفي ربيع سنة 1924 أيقنت الحكومة الإنجليزية أن سير زكريا قد أتى غاية جهده، وأنه وإن لم يوفق في نهاية الأمر إلى ما كان يظن أنه ناجح فيه فقد كفاه فخرا أنه ألف حكومة مؤقتة ونصب لعهده على العراق ملك، وعقد المعاهدة بين الحكومتين ... وحل محله دوبس وهو أضيق من ناب عن الإنجليز في العراق عطنا، وقد ضايق كل من احتك به من الملك فنازلا.
أما أهل العراق فقد أكرموا زكريا كوكس عند سفره كعادتهم وأهدوا إليه تمثالا لمنارة السيدة زبيدة من الذهب الخالص ونخلة من الفضة عليها تسعة عذوق من الذهب إشارة إلى السنوات التسع التي عالج أثناءها شئون العراق.
أما دوبس فقد خدم هو أيضا في الهند من سنة 1896 وتنقل بين ميسور وإيران وسيستان وبلوخستان وهيرات.
اعتراف أهل العراق بالجميل لسير زكريا
وفي عهد دوبس انشقت الأحزاب على بعضها ودخل بعضها في الانتخاب وتنحى البعض الآخر وممن قاطعوه الحزب الحر العراقي. وفي تلك الفترة وبينا تذيع وزارة السعدون عزمها على تعيين موعد لانتخاب النواب فاجأتها أزمة قضت بسقوطها ولعلها أسباب مالية. وحل جعفر العسكري محل السعدون ونشر جعفر باشا برنامجا ضخما ولكنه تقليدي ويصعب تنفيذه ولم توفق الوزارة إلى تنفيذ أكثر من أربعة شروط، أهمها تنفيذ المعاهدة الإنجليزية العراقية فيما يختص بالموظفين الإنجليز بالعراق وانتخاب أعضاء مجلس التأسيس والاتفاقية العسكرية والاتفاقية العدلية المتعلقة بحقوق رعايا الدول الأجنبية.
الفصل الرابع والعشرون
العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل
حكم العراق من عهد العباسيين
خفق العلم العثماني على بلاد العراق من أواسط القرن الحادي عشر الهجري (حوالي 1050ه) مذ استردها السلطان مراد الرابع من دولة العجم، وما زال خافقا من أعلى الموصل شمالا إلى الخليج الفارسي جنوبا ثلاثة قرون حتى أنزلته يد الحلفاء المحاربين للدولة والجنود المرتزقة الذين أعانوهم من عرب الجزيرة وغيرهم.
وفي خلال تلك الأعوام الثلاثمائة حكم الأتراك بلاد العراق تارة حكما عسكريا وطورا حكما مدنيا، وكان من حسن حظ البلاد أن استعمل عليها مدحت باشا، ولولا إصلاح هذا الرجل ما كان في البلاد شيء يذكر فقد أنبت جماعة من المنورين في بغداد الذين يعدون خميرة الإصلاح والحياة القومية.
لقد شقي العراق من عهد العباسيين الأخير ومضى عليه أكثر من سبعة قرون في انحطاط وخراب، ولم يستطع الأتراك في الثلاثة قرون الأخيرة أن يعيدوا إليه مجده أو حياته لأسباب يطول شرحها، ولكنه بلا ريب أكثر بلاد الإسلام تماسكا وأخلاق أهله أقل أخلاق أهل الشرق الإسلامي تدهورا، فيه ضعف وملاينة وتساهل في الحقوق ولكن ليس فيه جبن ونفاق وخيانة على الصورة المخزية التي نراها في بلاد الشرق الأخرى، وذلك لأن عصبية العرب وحياة القبائل وتضامن الطبقات لا تزال مصدرا لقوته أمام الأجنبي. نعم، فيه انشقاق الشيعة والسنة، وفيه مبدأ «التقية» المذموم، ولكن الشيعيين أظهروا أنفسهم على أكبر نصيب من الشجاعة وحب الوطن والإخلاص له وقد انضموا إلى أهل السنة في النزاع القومي وقاموا بنصيب وافر من الكفاح الوطني، وكانوا أشبه الناس في نهضة العراق بالدروز في ثورة سورية من حيث الثبات والتمسك بالمبادئ، وكان منهم زعماء يكادون يقودون الحركة بأسرها، وقد ضحوا بكل شيء في سبيل نصرة القضية العراقية.
وللأسف كانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وهذا من علائم الانحلال، نهبا بين العنصرين العربي والتركي، وقد ظهر هذا الانقسام في جميع أنحائها، وقد شهدت هذا الانقسام على أشده في سنة 1910 وسنة 1911 في الأستانة، فكان العربي يريد أن يزاحم التركي على مناصب الحكم ويريد التركي أن يسيطر على الجيش والسياسة والإدارة ويكون العنصر السائد على جميع العناصر التي تتكون منها السلطنة.
وكان شبان الترك لا يحترمون العرب، وأول من لفت الأنظار لهذا الأمر ع. ع. بك المصري (وهو الآن مقيم بأحد بلاد القطر المصري)، فقد وصفه الاتحاديون بأنه مصدر الفكرة العربية في الجيش، وكان «ع» بك ذا مكانة سامية بين العرب والترك ولكنه كان بعد ظهور الدستور العثماني يبث فكرة الثورة وإشعال نارها في جزيرة العرب، وغايتها إنشاء دولة عربية في مكة يقلد صولجانها وتاجها للأسرة الشريفية (الحسين بن علي وأولاده)، وذلك لمقاومة فكرة الاتحاديين التي ترمي لسيادة العنصر التركي في أنحاء الدولة، وأسس العرب بإرشاد «ع» بك جمعية الإخاء العربي في سنة 1326 وكانت جمعية رسمية سياسية، ولكن كان وراءها جمعيات سرية كثيرة.
وهذه الجمعية لم تقم بعمل يذكر للدولة ولا لأعضائها ولكنها حلت وأعدم رئيسها الصوري شفيق بك المؤيد، الذي رأيناه في الأستانة سنة 1910 وكان من أعضاء مجلس الأعيان، وتألفت بعدها الجمعية القحطانية في 1909 وترأسها حمادة باشا. وهاتان الجمعيتان اللتان ربما كانتا حسنتي النية نحو الدولة قد سببتا ظهور جمعيات أخرى أثبتت خيانتها ومنها حزب اللامركزية الإدارية العثماني، وانتشر منهاج هذا الحزب في الأقطار العربية بسرعة البرق وذلك بفعل الدعاية الاستعمارية، لأن بعض هؤلاء الأعضاء الذين ادعوا حب العرب وإحياء مجد العرب كانوا جميعا متصلين بالسلطات الإنجليزية في الشرق وفي أوروبا.
فقد قامت في البصرة جمعية على هذا النمط تحت رئاسة طالب النقيب بك وهو وجميع أسرته مشهورون بممالأة السياسة الإنجليزية في الشرق العربي.
ومن أعمال حزب اللامركزية المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1913 الذي كان رئيسه المسكين عبد الحميد الزهراوي وقد أعدم هو أيضا. وكان للحزب وللمؤتمر قرارات ترمي إلى تفكيك أجزاء الدولة وتؤدي إلى الحكم الذاتي وتشتيت شمل الإمبراطورية العثمانية بغير حرب ولا قتال، وهذا ما كان يرمي إليه المستعمرون، وقد أسهبنا القول على مؤتمر باريس في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد اتصل طالب النقيب من البصرة بمؤتمر باريس ووافق على قراراته، و«تشرف» رئيس المؤتمر وبعض أعضائه بمقابلة وزير خارجية فرنسا وإبلاغها القرارات وتوسلوا إليها في أن تساعدهم وأفصحوا عن ميولهم نحو فرنسا وطلب حكمها في بلاد سورية، وكانت وزارة خارجية إنجلترا ووزارة خارجية فرنسا على علم بما يجري وعلى اتصال بالأعضاء، وهذه هي الأسباب التي دعت الأتراك للحكم على بعض هؤلاء الناس بالإعدام فقد اقترفوا جناية الخيانة العظمى نحو حكومتهم ووطنهم.
الحركة العربية خدمة للاستعمار
كان الحلفاء قبل الحرب ولا سيما من سنة 1911 إلى أوائل سنة 1914 يعتقدون بحدوث حرب عظمى في أوروبا وينتظرون أن تنضم تركيا إلى ألمانيا، وكانوا يعلمون قوة الأتراك الحربية لا سيما إذا وجدوا مدربين من الألمان، ولهذا أخذوا يعملون بشدة في سبيل تفكيك روابط الألفة بين الترك والعرب حتى يدب الفشل في عناصر الدولة فإذا جاءت الحرب يكون العرب قد خرجوا على الدولة، فلجئوا إلى الطرق السياسية بشراء ذمم بعض الخونة الذين لبسوا ثياب النعرة العربية، ووحدة العرب، والدولة العربية المستقلة، ومبدأ العروبة وغير ذلك من الترهات، وأنفقوا عليهم الأموال الطائلة وجعلوهم في كل مكان في الشرق والغرب، ومعظمهم من السوريين المسلمين وغيرهم لأنهم أقدر الناس على العمل في مثل هذه الدسائس وأشره خلق الله في حب المال، ولم يفت هؤلاء الخونة أن يستروا مقاصدهم الحقيقية بثوب الرياء السياسي فجعلوا للبرنامج أسلوبا خلابا يرمي إلى تبديد أوصال الدولة العثمانية فإنهم لم يطالبوا فقط بحكم ذاتي لا مركزي للعرب، بل طالبوا بمثله لكل العناصر التي تتألف منها الدولة، فقد جاء في المادة الثانية:
القصد من تأليف هذا الحزب بيان محسنات الإدارة اللامركزية في السلطنة العثمانية للشعب العثماني المؤلف من عناصر ذات أجناس ولغات وأديان وعادات مختلفة، والمطالبة بكل الوسائل المشروعة بحكومة تؤسس على قواعد اللامركزية الإدارية في جميع ولايات الدولة العثمانية.
ولما كان المريب يكاد يقول خذوني، وكانت هذه الطغمة تعلم أن الحزب مظهر كاذب لأعمال سرية خطيرة، فقد جاء في المادة الثانية ما ينفي تهمة لم يوجهها إليهم أحد غير ضمائرهم:
ليس هذا الحزب خفيا وليس فيه ما يعد من الأسرار، فهو ينشر مقصده المبني على المطالبة باللامركزية الواسعة جهرا وعلانية دون الخشية من أحد (؟!) لاعتقاده يقينا أن الدولة لا تبقى في العالم السياسي إلا إذا بنيت حكومتها على أساس اللامركزية الإدارية.
وكان «ع» بك قد أسس جمعية العهد التي تعد أكبر حزب عربي عسكري ألفه ضباط العرب في الجيش العثماني لإصلاح أحوال العرب السياسية والاجتماعية، و«ع» بك مؤسس هذا الحزب بطل من أبطال الجيش العثماني ويسمى بطل برقة، وقد أبلى بلاء حسنا في مقدونيا وألبانيا وبلاد البلغار وفي طرابلس حيث انتصر في 16 يوليو سنة 1911 في موقعة «كان»، ولما عاد إلى طرابلس اعتقلوه برهة قصيرة وذلك في سنة 1914 وحاكموه عسكريا ثم أفرج عنه بناء على وساطة الخديو عباس وتدخل سفير إنجلترا في الأستانة إكراما لأسرة «ع» بك، وقد اتهموه بالرغبة في تأسيس دولة عربية في طرابلس يتولى هو سيادتها.
وقد أذيعت عبارات كثيرة في أثناء الاعتقال والمحاكمة كانت يشتم منها التحامل لأنه يحوم حولها، ولكن لم تثبت على الرجل تهمة معينة كما هي عادة الزعماء أهل الذكاء والحذر، فقد قيل عنه إن فكرته تناقض المصلحة العثمانية فقد سعى وهو في طرابلس الغرب في بث الفكرة العربية بين الأهلين وفي إنشاء دولة عربية مستقلة يتولى إدارة شئونها وكاد ينجح لولا معارضة بعض ضباط الترك، وقيل إنه اجتمع بالإيطاليين أثناء الحرب (حرب طرابلس) اجتماعا مهما ولكن لم يعرف أحد ما دار في هذا الاجتماع من الكلام، وقيل إنه عدو لأنور ولتركيا، وقيل إنه اتفق مع الإمام يحيى على ضم اليمن إلى مصر وكان يسعى وهو في بنغازي إلى تنفيذ هذه الفكرة وجعل بنغازي واليمن دولة عربية واحدة، وقال آخر إن الإيطاليين دفعوا له مالا كبيرا وإنه اتصل بخديو مصر واتفق معه على خطة لمصلحة الطليان، وقيل إنه احتفظ بثلاثين ألف ليرة من أموال الحكومة سلمها إليه أنور باشا. وقد حكم على «ع» بك بالإعدام ولم يثبت مطلقا أنه اختلس مالا أو خان الوطن لمصلحة الطليان، ولكن أنور - رحمه الله - أظهر شمما في قبول وساطة إنجلترا والخديو في حق صديقه القديم فأطلق سراحه وعاد البيك إلى مصر، ولما قامت الثورة العربية في الحجاز في سنة 1917 تولى قيادة جيوشها وقتا قصيرا، وسافر إلى بلاد الأفغان وبلاد الفرس وحاول تنظيم الجيوش هناك ولكن إقامته لم تطل وعاد إلى مصر، وبقي مدة طويلة في راحة واعتزال إلى أن اختير لرياسة عمل مفيد، وليس ع. ي. بك ضابطا شجاعا حاذقا فقط بل هو من ذوي الرءوس المدبرة في السياسة فقد أسس جمعية العهد كما أسلفنا وجعلها جمعية سرية وغايتها السعي وراء الاستقلال الداخلي للبلاد العربية على أن تكون متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر مع النمسا، وهو يرى ضرورة بقاء الخلافة الإسلامية في ملوك العثمانيين والاحتفاظ بالقسطنطينية.
وكان حزب اللامركزية مصادقا لحزب العهد ثم حصل بينهما شقاق، وسبب ذلك قبول عبد الحميد الزهراوي منصبه بمجلس الأعيان بعد أن أنذره «ع» بك برفضه، وقد وصف البيك صديقه الزهراوي بإحدى خلتين البله والسذاجة أو الخيانة، والأولى في نظرنا أصح وذلك لأن الزهراوي ومن كانوا على شاكلته قبلوا إصلاحات تافهة لا تكفل سوى المنافع الذاتية لأشخاصهم.
وكان الترك في أثناء انعقاد المؤتمر العربي بباريس قد استدرجوا الزهراوي واستمالوه وصالحوه فقبل وعودهم وعاد إلى الأستانة (بعد أن تورط مع فرنسا وإنجلترا) وقبل المنصب المشار إليه فأغضب الناحيتين، وكان هذا محض بله وسخف منه، لأنه - رحمه الله - لم يكن سياسيا ولا مفكرا.
وكان في مصر رفيق العظم وأحد أصحاب المجلات الدينية الإسلامية وهو سوري مسلم، وكان في البصرة طالب النقيب مطالبا بالإصلاح على شاكلة هؤلاء، وله علاقة متينة بقنصل إنجلترا في البصرة فسهل في سنة 1919 لقنصل المحمرة الإنجليزي وقنصل بندر بوشهر الإنجليز التوغل سرا بين الفاو والسبيليان ووضعا خريطة لسياحتهما، وأراد أن يسمح لضباط إنجليز بمثلها في «قرمه علي» فلم يفلح.
وكان كل فريق من هؤلاء المطالبين بالإصلاح واللامركزية والثورة العربية سواء كانوا في مصر أو في سورية أو في بغداد أو في البصرة يظهر بمظاهر تخالف الحقيقة، فإن بذخهم وإسرافهم كانا يدلان على اتصالهم بمصادر غنية تنفق الذهب جزافا ومن غير حساب، فكنت ترى بعض هؤلاء من المقيمين في مصر يقتنون الأملاك وليس لهم مصادر ثروة معروفة وتراهم أبدا يعملون في الخفاء وفي غموض يشبه أحوال المتآمرين وهم أبدا في انتقال بين ممالك الشرق، وتراهم إذا كتبوا لم يقصدوا إلا الدفاع عن فكرة الاستعمار ولكنهم يحاولون إخفاء فكرتهم، ولم يتصلوا بأحد من ذوي النفوذ والجاه إلا وابتزوا منه الأموال باسم الدين أو باسم الإصلاح. وكان أحدهم وهو المقيم في البصرة يكثر من الاجتماع بخزعل ومبارك الصباح وهما ثعبانان من ثعابين الشرق العتيقة السامة، وقد قضى أحدهما بعد أن لدغ الإسلام وكان على وشك أن يقضي عليه ابن سعود وقد تربى في حجره في خبر يطول شرحه، ولا يزال الثاني أسيرا في قبضة الفرس. وكما فاز الترك في استدراج الزهراوي لقاء منصب مجلس الأعيان كذلك فازوا بفضل دهاء المغفور له المرحوم طلعت باشا في إسكات طالب النقيب، فأعلن في 7 ربيع أول سنة 1332 أنه تنازل عن مطالبته بالإصلاح «وصرنا مع الحكومة السنية العثمانية كتلة واحدة نعمل على سعادة دولتنا الأبدية ونسعى في المحافظة على وحدتنا العثمانية بكل قوانا حتى لا يبقى منا فرد واحد» ...
من تونزند إلى مود
ولما أعلنت الحرب العظمى كان طالب النقيب أول من فر من السلطة العسكرية العثمانية فحج وقصد نجدا ثم نفي إلى الهند.
ولما اشتعلت نار الحرب بالعراق احتلت إنجلترا البصرة بمعونة مبارك الصباح وخزعل وخيانتهما التي لا شك فيها، ولكنها هزمت في موقعة الإيوان وسلمت كوت الإمارة ووقع تونزند أسيرا في يد الجيوش العثمانية، وقد ألف كتابا ضخما في خواطره في حوادث تلك الحرب، وقد حاول فيها تبرير مسلكه الحربي واتباعه قواعد الحرب الفنية مقتديا بآراء نابوليون ولدندورف والكتاب مترجم إلى العربية ومطبوع في بغداد، وقد مات تونزند بعد ذلك، قيل من شدة الحزن والندم، ولأم المخطئ الهبل. وفي 11 آذار 1917 سقطت بغداد في أيدي الجنرال مود الذي ذهب ضحية مروءته، لأنه دعي إلى خيمة أحد شيوخ القبائل وحذروه من شرب القهوة لانتشار الوباء فعز عليه أن يأبى كرامة العربي وشرب قهوته وهو يعلم أن فيها الموت الزؤام، ومرض ومات فعلا بعد ذلك ببضعة أيام فأقاموا له في عاصمة العباسيين تمثالا! وقد اتبع مود بعد دخول بغداد ما اتبعه كل غزاة الإنجليز من تخدير الأعصاب فنشر منشورا مثل الذي نشره الجنرال ولزلي الإنجليزي الذي دخل مصر فكلاهما جاء البلاد منقذا محررا لا غازيا ولا فاتحا، وما ذلك إلا ليأمنوا عاقبة هياج الشعب المغلوب. حتى إذا بردت تلك الهمة وأطفئت نار النخوة التي تتأجج في صدور الشعب المغلوب، أظهروا لنا إن كانوا جاءوا منقذين ومحررين أم غزاة وفاتحين وسالبين ومغتصبين أم أصدقاء كرماء وحلفاء يستحقون المصافاة والوفاء.
عمل مود عمله، وحل محله ويلسون الذي أراد تنفيذ فكرة المجالس البلدية، وهو أشبه الناس باللورد دوفرين الذي جاء مصر بعد موقعة التل الكبير مباشرة ووضع دستورا يقوم على إيجاد المجالس البلدية ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولكن مود الذي كان قائدا مجدودا في الحرب لم يكن هو الآخر إلا منفذا لخطة مرسومة، فإنه أخذ يذكر أهل العراق بمظالم الأتراك (إحنا في إيه ولا في إيه؟!) فذكرهم بهولاكو الذي هزم الدولة العباسية وخرب القصور والحدائق والحقول وقتل الناس وأغرق الكتب (تلميح إلى أن احمدوا الله على أننا لم نفعل فعله)، وذكر لهم وعود مدحت بالإصلاح وعجزه عن الوفاء وبشر العراق بالارتباط بدولة جلالة جورج الخامس، ولم ينس في هذا المنشور أن يذكر جلالة الحسين بن علي الذي طرد الترك والألمان من الجزيرة. «وإن بريطانيا العظمى مصممة هي وحلفاؤها العظام على أن لا يذهب ما قاساه هؤلاء الأعراب الشرفاء هباء منثورا ...»
وقد جاءت حوادث التاريخ اللاحقة بما يدل على مكانة هذا الوعد من الصدق والوفاء أو ضدهما.
ولم يقصر الإنجليز في إيهام العراق بما أوهموا به كل الممالك العربية من أنهم والحلفاء يحاربون لتحرير الشعوب المستضعفة ولتشجيع تلك الأمم التي كانت تحكمها تركيا بالظلم والاستبداد في إنشاء حكومات وإدارات وطنية في كل من سورية والعراق وفي الأقطار العربية التي يسعى الحلفاء في تحريرها والاعتراف بهذه الأقطار بمجرد تأسيس حكوماتها تأسيسا فعليا. (راجع جريدة العرب عدد 140).
وبدأ الإنجليز يحكمون العراق بموظفين ملكيين جعلوا البلاد على عادتهم ميدانا للتجارب الحكومية، لأنهم لا يعرفون الشعب الذي قدر لهم أن يحكموه ويستفيدون يوما فيوما أمورا جديدة. ومثل ذلك حدث في الهند وفي مصر وفي السودان، فالإنجليز يعتقدون أن الفرد منهم قادر على كل شيء وقليل من التعليمات وكثير من الاختبار الشخصي يكفيانه لحكم العالم، وذلك بفضل الغرور والكبرياء وفكرة الترفع عن الشعوب المحكومة والوقوف منها بموقف الأرباب والآلهة، وكان من نتائج تلك الحال أن الشعب العراقي لم يقنع بفكرة المجالس البلدية التي أدرك أنها حيلة وقتية. وبدأ الإنجليز يصادرون حرية الفكر والقول والكتابة في الصحف، وقربت الحكومة إلى حظيرتها جماعة الأعيان الذين يشبهون باشوات مصر وجعلتهم المرجع الأعلى في حكم الأمة، وهم أرباب مصالح تتنافى مع الوطنية وكلهم أهل تزلف وتمليق حتى إن سبعة من هؤلاء الأشراف والأعيان اجتمعوا وقرروا طلب تعيين السير برسي كوكس ملكا على العراق مع إعلان حماية بريطانيا عليه.
ثورة العراق في رأي جرترود بل
كان العراق يعاني ما يعاني في الداخل وهو متصل بالأقطار العربية اتصالا فعليا سواء بالصحافة أو بالأخبار المنقولة في البريد والبرق، فعلم بما جرى في سورية وفي مصر وتأثر العراقيون بالثورة المصرية تأثرا شديدا، وما زالت مراجل الوطنية تغلي فيه حتى هب بثورته. وكان في العراق امرأة إنجليزية اسمها الآنسة جرترود بل وصفها بعضهم بأنها أفعى العراق وقد قضت نحبها منذ بضع سنين، كانت هذه المرأة المسترجلة كاتبة أسرار المندوب السامي وتعمل عمل الرجال وتكاد لا تعد امرأة، وكانت رئيسة القلم الشرقي في دار الانتداب وكانت عالمة نشيطة حصيفة وفيها نزعة إلى الشرق والعرب تغلبت على كل مطامعها وأمانيها، جاءت إلى الشرق طالبة علم وسائحة فآخت العربان مثل ما فعلت قبلها لادي ستانهوب، ولكن اختلاف الأجيال والأزمان يغير الأوضاع. وقد حطت رحالها في بغداد فكانت معينة لرجال الحرب والسياسة، وكانت تعلم عن العراق ما لا يعلمه سواها، وهي تجيد الكلام بالعربية ويغلب عليها الميل السياسي وهي تعتمد على عقلها ومنطقها، وطريقتها في الإيقاع بالزعماء طريقة ماكياڤيلية قديمة وذلك أنها تقدم الهدية فإذا رفضت الهدية قدمت السجل وفيه تاريخ حياتك منذ دببت ودرجت إلى يومنا هذا! وفي هذا من التهديد والبطش ما فيه.
تقول ميس جرترود بل إن الثورة العراقية ترجع إلى أسباب عدة، منها: وعود الحلفاء، وقيام الحكومة العربية في سورية، ووعود ويلسون، والثورة المصرية.
وأراد جمهور العراقيين في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وفيهم المفكرون وعلماء الدين أن ينشئوا حكومة عربية مستقلة يرأسها أحد أنجال الملك حسين وكان الأمير عبد الله هو المقصود بالذات، وبدأ العراقيون يرفعون العرائض ويصدرون الفتاوى وبدأ الإنجليز يعتقلون بعض الأحرار وينفون البعض الآخر. ومن هؤلاء جماعة لم تنطل عليهم حيلة المجالس البلدية، لأن هذه الحيلة تنطوي على ما هو أشد فتكا بالحرية فإن الإنجليز يلحقونها بنظرية إعداد الأمم للحكم الذاتي وأن البلاد في حاجة إلى رجال من ذوي الخبرة والمعونة من الأجانب، ويحتاجون إلى زمن طويل لتدريب الوطنيين على أصول الإدارة الحديثة، والمعلوم لدى الشعوب المستقلة أن الحصول على الاستقلال التام والحكم النيابي منوط بتربية الشعب وتدرجه في مراقي الحكم الذاتي والاستقلال الإداري.
وهذا يا عم أمور يطول شرحها وقد عاناها أهل الهند وأهل مصر.
وقد تأسست جمعية العهد العراقي وكان ياسين باشا الهاشمي يدير دفتها لمدة عام، وياسين باشا يعد من أبطال الشرق العربي وقد يعد بحق زعيم العراق، وكان تارة في الحكم وطورا في المعارضة، وقد ألف في سنة 1931 حزب الإخاء لمعارضة وزارة نوري السعيد باشا واستقال من عضوية مجلس النواب مع لفيف من أنصاره ليحرج مركز الحكومة. وقد تخرج في المدارس الحربية العثمانية واشترك في الحرب العظمى وأبلى فيها بلاء حسنا، وكان يجهر بآرائه ضد الانتداب، فدعته يوما زوجة أحد قواد الإنجليز إلى حفلة شاي ومن هناك ساقوه إلى المنفى في فلسطين، أي إنهم خطفوه غدرا باسم دعوة من سيدة، فأقيمت المظاهرات في دمشق ورفعت الاحتجاجات إلى بلاد الإنجليز وانتهى الأمر بإطلاقه فاستقبل استقبالا فخما، وقد تولى الوزارة في بغداد مرات بعضها رئيسا وبعضها وزيرا، وهو بلا ريب من أكبر رجال العراق إن لم يكن أكبرهم.
وفي 8 آذار 1920 أعلن المؤتمر العراقي استقلال العراق في دار بلدية دمشق وتعيين الأمير عبد الله ملكا عليه، وأعلن سمو الأمير زيد نائبا عن أخيه الملك عبد الله.
وتألفت جمعية حرس الاستقلال العراقي السرية، وغايتها الاستقلال المطلق بأقصى ما يمكن من التدابير مشتركة مع الجمعيات والأحزاب الأخرى، ولا يجوز للجمعية الاعتماد على إنجلترا في طلب المعونة الفنية. وحدث انشقاق في بغداد بين رجال جمعية العهد ورجال جمعية الحرس، ومن أهم رجال هذه الأخيرة علي البزركان ورفعت الجادرجي وجميل المدفعي وغيرهم، ومما يؤسف له أن بعض هؤلاء قبلوا وظائف حكومية وتخلوا عن العمل السياسي بسببها وقنعوا بالمنصب والمرتب كأنهما الغاية التي كانوا يسعون إليها.
وعندئذ بدأت السلطة الإنجليزية تتعرض لحرية الاجتماع، فنشر القائد ساندر وهو القائد العام للجيوش المحتلة بالعراق منشورا ختمه بقوله: «فلهذا وجب علينا أن نعلن أن انعقاد المواليد ممنوع، وأن انعقاد الاجتماعات لمقاصد سياسية يعرض القائمين بها لأشد العقاب.»
ثم بدأ المفاوضات فدعا السير ويلسون ومعه وزير العدلية السير بونهام كارتر (صهر ونسيب اسكويث) والكولونيل بلفور لفيفا من الأحرار والوطنيين العراقيين، وأخذ سير ويلسون «يبلفهم» البلف الإنجليزي المشهور فذكر عصبة الأمم وتحرير الشعوب الرازحة تحت نير الاستبداد التركي، وأن حكومة جلالة مولاه الملك تريد تأسيس حكومة وطنية في العراق بأقرب فرصة، وأن العراق كان تحت حكم أجنبي أكثر من 200 سنة، ومهما سلمت النيات فلا يمكن تأسيس حكومة وطنية في لحظة، واحمدوا الله على أن العراق لم يتأثر بويلات الحرب. فلما ذكروه بمؤتمر سان ريمو أجاب:
إن مؤتمر سان ريمو قرر استقلال سورية والعراق، على أن تكون الأولى تحت وصاية فرنسا والأخيرة تحت وصاية إنجلترا. (راجع جريدة العراق 15 رمضان 1338).
ثم بدأ عهد الإرهاب، لأن أكابر حكام العراق من الإنجليز تنازلوا بهذه المفاوضة وكانوا يظنونها كافية لتهدئة الخواطر وتسكين ثائرة الشعب، وظنوا أن هذا التفاهم عن قرب مع الزعماء يلقي على نيران الثورة بردا وسلاما، فلما رأوا الأمر على العكس أخذوا يعتقلون ويفتشون المنازل ويحكمون بالسجن والإعدام في مجالس عسكرية وينفذون الإعدام فعلا، وشنقوا عبد المجيد كنه في محرم سنة 1339، ونفوا أخاه حميد أفندي كنه إلى جزيرة هنجام.
ومن أبطال تلك الفترة الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي قوى روابط المودة بين السنيين والشيعيين، وقبضت الحكومة على نجل الإمام الشيرازي وهو ميرزا محمد رضا ونفته إلى جزيرة هنجام فتدخلت حكومة إيران في الأمر وأفرجت حكومة العراق عنه وأمرته بالإقامة في إيران.
وأخذت السلطة تعتقل مشايخ القبائل فينقذهم رجالهم من السجون بالقوة، ثم بدأت الثورة في البادية بين القبائل وأطرى بعض ضباط الإنجليز ولا سيما هولدن بسالة الثوار ومهارتهم وقال: إنهم كانوا سريعي الحركة واسعي الحيلة وخططهم المرسومة للدفاع منطوية على مهارة حربية. وقد نكل الثوار بالجيوش المحتلة في أماكن كثيرة تنكيلا عظيما، والمدهش في أمرهم أنهم كانوا فقراء في السلاح والذخيرة ولم يعلم عن أحدهم مكابدة الحروب بمثل هذه المهارة الفائقة، وقد دهش الفريق هولدن من حسن اختيارهم للزمان والمكان.
وعاد ويلسون إلى المفاوضات والتهديد فأرسل إلى شيخ الشريعة الأصبهاني في 27 أغسطس سنة 1920 خطابا مطولا جاء فيه أن الحكومة الإنجليزية المعظمة قد اعتمدت دائما على الأركان الثلاثة وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني، وأن «جيشنا الإنجليزي كان قبل الحرب صغيرا، والآن صار عدده خمسة ملايين» وأن ثروة إنجلترا لا تقدر، وأن الثوار لم يمكنهم أن يعملوا فوق ما عملوا، ولو استمروا هلكوا من الجوع لتلف الزراعة، وأن قوتهم قد مالت إلى الزوال ... إلخ.
فكان رد شيخ الشريعة بليغا قويا مقنعا جاء فيه:
أخذتم بعد الوعود بالوعيد وبعد التأميل بالتضليل، واستعملتم الشدة والغلظة فنفيتم وقتلتم وسجنتم وأخفتم وأضمرتم العداء الذي أظهرتم آثاره. وتعريف الفساد عندكم هو المطالبة بالحق، فمن طالبوا بحقوق الوطن صاروا في نظركم من المفسدين.» في 2 محرم 1339.
وكان كتاب شيخ الشريعة خير رد على كتاب ويلسون الذي رأيناه يتلون كالحرباء في مفاوضته وكتبه، يعطيك تارة حلاوة وطورا سما زعافا، وهو صورة طبق الأصل من رجال السياسة في وطنه.
وكانت النجدات قد وردت على الإنجليز من حكومة الهند، وبنى الإنجليز حصونا ملئوها بالجنود، وكان معظم الشبان وبعض زعماء القبائل يرغبون في مفاوضة الحكومة بالصلح غير أن أقلية محدودة هي التي رفضت المفاوضة ودفعت شيخ الشريعة إلى إرسال هذا الكتاب الذي يعد بمثابة رفض المفاوضة.
وقد ضحى العراقيون بأرواحهم وأموالهم في سبيل الحرية واستشهد منهم من استشهد، فضعفت قوتهم قليلا من تخاذل بعض القبائل ومن ورود النجدات المتوالية على الإنجليز. وفي هذه الظروف التعسة سقطت الحكومة العربية في سورية (موقعة ميسلون)، وحدثت في 23 حزيران 1920 في مجلس العموم مناقشة حادة جدا وفيها تبرم اسكويث رئيس المعارضة بفداحة نفقات الاحتلال في العراق وأنها أثقلت كاهل ميزانية الدولة، وأشار إلى ضرورة الجلاء عن العراق والاحتفاظ بالبصرة.
ولكن لورنس وهو مستشار تشرشل في مسائل الشرق، بعد أن أتم غزو بلاد العرب وسورية وهو صديق العرب الحميم ، التفت إلى العراق وقال إنه لا يفتي بالجلاء، لأن الدولة الإنجليزية ليست وحدها التي تتحمل عبء الحملة والاحتلال، بل إن أهل العراق أنفسهم سوف يشعرون بالضيق والغلاء من وجود الجيش الإنجليزي بين ظهرانيهم ما داموا ينزعون إلى الثورة، فإن عدد الجيش 83 ألف جندي ونفقاته 300 ألف ليرة. وأشار بإيجاد رجل صالح في العراق يشبه كرومر عندما كان في مصر، فعينت الحكومة الإنجليزية برسي كوكس بدلا من ويلسون. ولم يكن في البلد من يكرم ويلسون قبل رحيله سوى طالب النقيب، فكان ويلسون رجل الشدة الذي حدثت في عهده الثورة، وجاء بعده كوكس الذي تسلم زمام الأمور بعد أن هدأت الزوبعة، فخطب ويلسون في ذلك الاجتماع خطبة دافع بها عن نفسه وعن حكومته بكل قواه وتحامل على الثوار تحاملا شديدا مع أن الثورة العراقية كانت نتيجة طبيعية للسياسة التي جرى عليها مدة تقلده زمام الحكم الملكي في العراق. وهو من حيث مسلكه وكلامه وخططه أشبه الناس بلورد لويد الذي عزلته حكومة العمال بعد أن استعمله شامبرلين على مصر مندوبا ساميا، فكلاهما يحب «الرغي» وكلاهما استعماري متطرف يؤمن بالقوة المادية ويختفي وراءها ويتوعد بها الشعوب الشرقية، وكلاهما ناعم الملمس يخفي يده الحديدية في قفاز من المخمل، وكلاهما سقط سقطة شنعاء من حيث لا يحتسب، ولعله في خطبته الأخيرة ثاب إلى رشده برهة فنطق في بعض المواطن بالحق حيث قال:
إن الحقيقة التي أعتقدها هي أن العوامل الأدبية كانت منذ القدم تؤثر في العالم أكثر من القوى المادية، فاشتد تأثيرها في الأعصر الحديثة إلى درجة أصبحت معها المعنويات والنظريات تفعل في النفوس أكثر مما تفعل فيها الحقائق الحسية وعوامل الحكومات.
إن العوامل الفكرية التي امتاز بها الغربيون على الشرقيين في عصورنا الحديثة أحدثت بين الشرقيين انقلابا فكريا، ومن ذلك أن روح الوطنية أو الجنسية دب مرة أخرى في نفوس الشرقيين والآسيويين.
وفي يوم 22 أيلول سنة 1920 وصل سير برسي كوكس، وقد كان في حضوره مظهر من مظاهر النفاق بين أهل الشرق، فإن شاعرا عراقيا شهيرا معروفا بين إخوانه بشذوذه وإلحاده استقبل سير كوكس بقصيدة جاء منها:
عد للعراق وأصلح منه ما فسدا
وابثث به العدل وامنح أهله الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد
فيما يكون كما قد كان معتمدا
وتكلم عن الثورة فقال: «إنها حركة ذمها المفكرون في إبانها.» مع أن هذا الشاعر نفسه كان قد عطف على شهداء الثورة فرثى أبطالها بقصيدة مطلعها:
ماذا بكثبان الرميثة من غطارفة جحاجح؟
وتكلم سير كوكس عن استقلال العراق بإشراف إنجلترا.
وعضده الشيخ إبراهيم الراوي فقال: إن العراق لا يستغني عن الوصاية البريطانية.
وكانت الوزارة الأولى التي ألفها سير كوكس مكونة من رجال ميالين للإنجليز وهم اثنان من آل النقيب والعسكري والألوسي وساسون.
كلام الملوك ملك الكلام
قالوا في الأمثال: «كلام الملوك ملك الكلام»، يقصدون أنه أرقاه وأصدقه وأحكمه وأمتعه وأنفعه.
ولما كان جلالة الملك فيصل بن الحسين من ملوك الشرق الإسلامي المعدودين على الأصابع، ولجلالته في نفوس المصريين منزلة خاصة؛ كان من حقنا ومن واجبنا أن ننظر إلى أقواله بمنظار الاكتراث والاهتمام، وأن نتحرى التدقيق في معانيه لننتفع بها، إذ لا يمكن أن يصدر عن هذا الملك الجليل الذي تقلب في عرشين وأبوه ملك وأخوه ملك قول خال من الحكمة والموعظة الحسنة.
سافر جلالة الملك فيصل منذ نحو عام من بغداد عاصمة ملكه التي كانت عاصمة ملك العباسيين ومر في طريقه إلى أوروبا بالقطر المصري، ولقيه أحد فضلاء الصحفيين للمرة الثانية فسأله عن الأمر الذي أثر فيه أكثر من سواه في خلال إقامته في أوروبا، فأطرق الملك العربي العراقي لحظة وقال:
1
لقد كان لما رأيته في البلاد السويسرية من دلائل المدنية الحقيقية أعظم وقع في نفسي، فمدنية سويسرا لا تقتصر على المدن والمظاهر الخارجية كما هو الحال في سائر البلدان الأوروبية، بل إن كل قرية في سويسرا متمدينة وكل قروي في سويسرا متمدين. وكنت أتنزه مرة في ظهر قرية من القرى السويسرية فأبصرت براعية ترعى قطيعا من الغنم وهي تدفع أمامها مركبة صغيرة نظيفة أركبت فيها طفلها، فاغتبطت بمنظر هذه الراعية التي تسهر على عملها وعلى رفاهية طفلها في آن واحد، وقلت في نفسي: إذا كانت الراعية السويسرية قد بلغت هذا المبلغ من الرقي والمدنية، فلماذا أعجب بما أراه في سائر طبقات الأمة السويسرية؟
إلى هنا انتهى الجزء السلبي من ملاحظة جلالة الملك العربي العراقي، ثم انتقل إلى الجزء الإيجابي أو التطبيقي فقال:
أجل لقد أثرت في مدنية سويسرا تأثيرا شديدا لا يمحى، وثبت لي أن المدنية الحقيقية لا تكون بالقصور الشامخة والبنايات الفخمة ولا بالمظاهر الخارجية الكاذبة والزينات السطحية الفارغة، ولا بكتابة المقالات وعقد الاجتماعات، ولا بالتغني بالحرية والاستقلال، ولا ببسط الأماني والآمال
إن الاستقلال الحقيقي لا يشيد إلا على دعائم المدنية، والمدنية الحقيقية لا تقوم إلا على التعليم ... إلخ.
فأتقدم إلى جلالة الملك العربي العراقي الهاشمي وارث عرش الرشيد والمأمون في أدب واحترام وألتمس من جلالته أن يعفو عن ملاحظتي هذه:
اعلم يا مولاي أنني فهمت قصدك من مدح المدنية والتعليم، ولكنني لم أفهم قصدكم من الحط من قيمة «كتابة المقالات وعقد الاجتماعات، وبسط الأماني والآمال، والتغني بالحرية والاستقلال.
قد تكون جلالتكم تشير بذلك إلى دولة شرقية لا نعرفها نحن، ولكننا في مصر - والآن على الأخص - لا وسيلة لنا إلا كتابة المقالات وعقد الاجتماعات وبسط الأماني والآمال، والتغني بالحرية والاستقلال.
فأنا الضعيف قد تألمت من هذا التلميح في هذا الظرف الدقيق، ومثل جلالتكم أدرى بما أقصد، ولم يكن يعدم وسيلة أخرى للتعبير عن آرائه فيما يتعلق بدولة شرقية أخرى غير مصر.
واعلم أيضا يا مولاي وأنت من خيرة العالمين أن سويسرا هذه في مقدمة الشعوب التي كافحت في سبيل استقلالها بكتابة المقالات وعقد الاجتماعات وبسط الأماني والآمال والتغني بالحرية والاستقلال، ولو أن جلالتكم تنزلتم واطلعتم على كتاب «تاريخ سويسرا» الذي يدرسه تلاميذ مدارسهم الابتدائية لرأيتم صفحات جهادهم المجيد منذ القرن الثالث عشر، فتاريخهم القديم والحديث حافل بأخبار الأبطال الأمجاد أمثال غليوم تيل وبونيفار والماجور دافل، وقد سجنوا وقيدوا بالحديد وقتل بعضهم في سبيل الاستقلال.
الفصل الخامس والعشرون
أفريقيا والإسلام والاستعمار
أفريقيا والعرب
لقد كان اتصال العرب بأفريقيا قديما جدا وربما يرجع إلى ألوف السنين، وما زال هذا الاتصال حتى ظهر الإسلام فهاجر بعض العرب المضطهدين من الحجاز إلى شواطئ أفريقيا الشرقية، وقيل إنهم بلغوا بلاد الحبشة واتصلوا بالنجاشي فأكرم وفادتهم.
وبعد قليل من ظهور الإسلام فتح العرب المسلمون أفريقيا فتحا سريعا، فاكتسحوا شمالها في فترة وجيزة وانحدروا على السواحل الغربية وأسسوا المدن، وزكت حضارتهم بين الزنوج.
ولما تأسست الخلافة العباسية واضطهدت الأمويين وطاردتهم هاجروا إلى السودان فلجئوا إلى سائر ناحياته ونشروا في ربوعه دين الإسلام واللغة العربية، وخرجت من السودان نفسه قبائل غزت شمال أفريقيا وغربها وصارت حلقة اتصال بين السودان وبين سائر أفريقيا.
واستفاد الزنوج من العرب أن دانوا بالإسلام واهتدوا بهديه.
وقد روى سير هنري جونستون - وهو من أكبر علماء الإنجليز - في كتيب ألفه على أفريقيا عن الرحالة ريد ما ملخصه:
قد تمر بالقرية الزنجية الوثنية في قلب أفريقيا فتجد أهلها في أحط درك البشرية من حيث النظافة والبر بذوي الأرحام، لا يتقذرون من فضلاتهم ولا يغتسلون من دنس، ويأكلون الميتة ويشربون الدماء، ويذبحون أجدادهم وآباءهم إذا شاخوا وعجزوا، ويغيرون على الجار ولا يرعون له حرمة ويغتصبون امرأته وبنته نهارا لا يرون في ذلك عيبا ولا نقيصة.
فإذا مررت بالقرية نفسها بعد عشر سنين وقد دخلها الإسلام، فتراهم يدركون معنى النظافة والطهر، يستعملون الماء للاغتسال والوضوء وتنظيف الأجسام والثياب، يصلون أرحامهم ويحمون جارهم ويرعون حقوق القريب والغريب ... فلا تكاد تتعرفهم لشدة ما لحقهم من الفضائل ومكارم الأخلاق ومظاهر الرقي والحضارة.
فالإسلام وهو دين العرب يزرع الآن بذور المدنية في قلب أفريقيا المظلمة أو القارة السوداء ويبدد سواد ليلها، وفي وسط تومبكتو أو السنجال أو الداهومي تلقى أناسا سود الوجوه يقرءون فلسفة ابن رشد ومؤلفات الغزالي ويتأدبون بأدبهما، وربما كان بين أسلافهم الأقربين من كان يأكل لحوم البشر. ولم يكونوا ليقرءوا تلك الكتب لولا دين الإسلام الذي تتبعه اللغة العربية أينما ذهب لاستحالة ترجمة القرآن وضرورة درسه كما أنزل.
هذه شهادة إنجليزي منصف تدل على الخير الذي يصنعه الإسلام في أفريقيا التي كانت مهدا لبضع أسر مالكة شرقية أو عربية أو إسلامية تأسست على شواطئها وفي سائر نواحيها، وكانت مهدا للمدنية المصرية أم مدنيات العالم، ومعتركا لأمم كثيرة، ولا يوجد بها للأسف سوى أمة مستقلة حرة واحدة هي الحبشة. وهذه القارة إذا تهذبت ونظمت وحسنت قيادتها لا نقول إنها تفتح العالم بل نقول إنها على الأقل تحمي ذمار شعوبها وتدفع عنها غائلة الأجانب وتنتفع بكنوز خيراتها الدفينة بين معادن نفيسة وأحجار كريمة ومواد كيميائية وأرض خصبة وأنهار غنية. ولا يمكن أن يقوم بهذه النهضة الأفريقية سوى أمة عربية مسلمة تنفع الملايين من الخلق وتحيي موات الأرض.
طلب الدستور في تونس
لما أقيم الاستقبال الحافل في عيد الفطر في يوليو سنة 1920 بتونس، زار وفد من الشبان التونسيين سمو الباي وقدموا إليه عريضة طلبوا فيها إنشاء دستور للإيالة التونسية يكون مكتوبا يعلن الحقوق ويضمن الحريات العامة ويفصل السلطات عن بعضها بعضا ويشرك الأمة في حكم البلاد إشراكا تاما من غير تمييز الأجناس والأديان، وتراعى فيه الحقوق والواجبات الدولية.
فأجاب سمو الباي:
إننا ننتظر من رجال فرنسا الخير والسعادة مع العدل والإنصاف للإيالة وأهلها.
وقررت الحكومة الفرنسوية في تونس معاقبة الموظفين الذين اشتركوا في الوفد المذكور، وأن تحاكم أمام مجلس عسكري حسن كمال الصحفي المتهم بإثارة الفتن بين الجاليات الأجنبية والفلاحين من أهل تونس، وصادرت جريدته ومنعتها من الصدور.
وإليك الآن نص العريضة التي رفعت إلى الباي:
هب نسيم الحرية في العالم كله فأخذت جميع الأمم تعلن ما لها من الحق والحرية بعد خروجها من المعترك العظيم، وإن الأمة التونسية لبت دعوة العالم المتمدن إلى الدفاع عن الحرية والحق والعدل، وأظهرت من الإقدام والبسالة ما يرفعها إلى مراتب الأمم العريقة في القدم، ولولا ما ترجوه من تأييد حقوقها وحريتها لما سارعت إلى تلبية تلك الدعوة. فهي إذن ترجو أن تنال دستورا يضمن حريتها وحقوقها ويقضي باشتراكها في إدارة شئون بلادها من غير تمييز بين الأديان والأجناس.
وكانت فرنسا قد تعهدت منذ 30 سنة بتحرير تونس، وتونس قدمت 65000 مقاتل و30000 عامل وبلغت خسارتها 45000 بين قتيل وجريح، وأظهر جنودها ما أدهش العالم في أوروبا، وشهد لهم المارشال فوش بالتفوق والشجاعة.
أما الأحوال الاقتصادية في الساحل التونسي فإليك عنها بيانا وجيزا:
من أقدم العصور والساحل التونسي يعاني الآلام، ناهيك بأن الشيوخ الذين قضوا به عمرا طويلا يشكون مر الشكوى من الأزمات التي تحل بهم. ورغما من تطاول الدهور واستفحال هذه الأزمات في بعض أزمنة التاريخ، فإن الحالة الراهنة لا نظير لها فيما علمنا، وإليك البيان: لا يخفى على أحد أن مصدر الثروة الساحلية بل حياة المقيمين بالساحل موطنان بما تنتجه الشجرة المباركة التي هي عمدة الفلاح وقوام حياته يسعد بنموها ويشقى بنقصها وكساد نتاجها ويشقى خلفه الألوف من المنتفعين بالعمل فيها، وقد مرت بضع سنوات عم الرخاء فيها سائر الطبقات حتى الرعاة وما تلفظه نواجع العربان من فقراء البدو، لكنها للأسف انقضت كأنها أحلام. وفي الأعوام الأخيرة أخذت الكآبة تبدو على الجميع والفقر يحل والبؤس ينشر ألويته على هذه الربوع من جراء التقهقر الاقتصادي الذي أثر تأثيرا فاحشا على سوق نتاج الزيتون، فالتجأ الناس إلى التداين والتعامل بالربا الفادح حتى شمل هذا المصاب سائر الملاك واستغرق ذممهم ولم ينج من مخالب المرابين إلا النزر القليل، بحيث أصبح الجمهور راسفا في قيود لا سبيل لحلها ما دامت أسواق الزيوت في انحطاط. وقد استقبل أرباب الزياتين هذه السنة موسم الزيتون بتجهم وامتعاض ويأس، حيث إن الفلاح مثقل الكاهل بالديون مفكر في الحالة التي أصبح فيها، إذ ليس له من الدخل ما يفي بدفع الضرائب فضلا عن إصلاح شئونه والقيام بما يتطلبه زيتونه من العمل ودفع ما عليه والذي يزداد حينا فحينا.
تلك هي الحالة بالساحل الذي يعد من الجهات المهمة بالقطر التونسي لأهمية ما به من شجر الزيتون الذي آل إلى ما آل، والظاهر أن الدواء الناجع لهذه الحال هو التسهيلات الكافية لوسق الزيوت إلى الخارج والتخفيف من الضرائب خشية ازدياد الألم الناشئ عن المطالب المتعددة. وغني عن البيان أن الشجرة الواحدة أصبحت في هذا اليوم لا تعطي الفلاح ما يكفيها من العمل في حد ذاتها من حرث وغيره، فكيف يرجى منها إسعاد مالكها والتخفيف من ويلاته؟ وأي دليل نقيمه على ذلك والزيتونة التي كانت بالأمس تساوي ألف فرنك صارت الآن تساوي ثلاثمائة فرنك؟ وهذا النقص الفادح في الثمن من أقوى الأدلة على انحطاط نتاج ركن من أركان الثروة التونسية له أثره في الميزان التونسي الذي يهم الحكومة والرعايا، لذلك ليس من المتعذر اتخاذ الوسائل النافعة وسلوك طريقة التخفيف إبقاء على البقية الباقية ووقاية للفلاح من المصائب الكثيرة التي كادت تحول بينه وبين مواصلة العمل بانتظام ونشاط، فإن من أيقن بسوء عاقبة عمله وخسرانه في الختام ذهبت آماله وانقبض عن السعي، ولا تزال الحالة تزداد شيئا فشيئا إلى أن تعم البطالة ويعظم الخلل ويسود الشقاء ويبدو الخراب في أبشع المناظر.
أصل الاحتلال في تونس
صادف عام 1931 الذي وضعنا فيه هذا الكتاب مرور خمسين عاما على احتلال فرنسا بلاد تونس لا لخير أهلها ولا احتجاجا على ضربة مروحة على وجه سفيرها (كما حدث في الجزائر) ولا لأنها على طريق الهند (كما هي عادة إنجلترا في تبرير احتلال مصر)، ولكن لأن تونس بلاد غنية في زراعتها ومشهورة بزيتها وزيتونها وتمرها وبلحها وحبوبها وبساتينها وفاكهتها وغنية بمناجمها وفوسفاتها، وقد صنع بعض الفرنسيين بتونس ما تصنع عصبة من الخطافين بضيعة خالية من الملاك أو قرية ليس لها صاحب ولا سكان. وإليك ملخص وجيز لتاريخ الاحتلال الفرنسي بتونس:
ارتأى الوزير خير الدين لما تنكر له الباي وغضب عليه أن يبيع أطيانه الواسعة، التي تمتد من زغوان إلى بوفيشة والنفيضة التي كان وهبها إياه محمد الصادق باي، لشركة بنك مرسيليا. ولكن الشريعة الإسلامية تعطي حق الشفعة للجار، ولما كانت إنجلترا لا ترضى أن ترى شركة فرنسية تملك