Hayat Sharq
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Genres
أما الفرنسيون ففصلوا لبنان عن سورية وجعلوها حكومة مسيحية ودشنوها في الكنيسة الكاثوليكية في بيروت، وهم أنفسهم الذين يباهون بفصل الدولة عن الكنيسة من سنة 1904، ويباهون بأن دولتهم لا دينية (لاييك)! ثم تناولوا كليكية وأعدوها وطنا قوميا للأرمن.
وكان الأمير فيصل يحكم دمشق وحلب وشرقي الأردن، ولم يكن لهذه الحكومة الفيصلية في أول أمرها لون معروف، فكانت تارة تعد تابعة للحجاز وأن فيصل يستمد سلطة الملك من أبيه الحسين زعيم العرب والمنقذ الأعظم، وتارة يحسبونها مستقلة لا تصدر إلا عن إرادته وإرادة الشعب السوري، وطورا كانوا يعتبرونها تمت بحبل دقيق إلى الفيلد مارشال اللنبي - الذي مر بمصر اليوم في طريقه إلى بورما - رئيس فيصل الأعظم بحسب نظام الجيوش.
ولكن هذا النظام لم يكن يرضي الفرنسويين، فكانوا يتشاجرون ويعربدون ويتنابزون بالألقاب في حظيرة الصلح تحت سمع ويلسون وبصره، فاخترع ويلسون فكرة الاستفتاء وتألفت لجنة أمريكية برياسة مستر كرين سفير أمريكا سابقا في الصين، فلما سار في سورية ووقف على حقيقة الحال بنفسه قال لزعمائهم: «إن الانتداب لا بد منه على كل حال لمساعدتكم مؤقتا على إنعاش البلاد.»
وقد جرى في سورية بعد ذلك ما رويناه في موضع آخر. أما العراق فلم يمالئ أهله الإنجليز بل أخذوه عنوة بالحرب والقتال. وكان العراق دائما مشهورا برجال أشداء أقوياء يفضلون الاستقلال على الحياة، ومنذ تولى الملك فيصل عرشه ظنوا أن وجوده يكون سببا في تهدئة الخواطر واستسلام البلاد، فكان الأمر على غير ما يظنون، فقد تولاه أربعة من المندوبين السامين أولهم برسي كوكس فالجنرال كليتون فالسير هنري دوبن فالسير فرنسيس همفريز، وكانت روح الإدارة الإنجليزية متقمصة في جسد الآنسة بيل إلى أن ماتت. وقد خرج أحد هؤلاء الأربعة لأنه كان شديدا لا يطاق، فاستغاث منه أكبر مقام في البلاد وخير الإنجليز بين بقائه وبين استمرار دوبن فأرضوه بعزله. واستمرت الوزارات في العراق تقوم وتسقط وكل زعيم يدخل الوزارة يفقد ثقة الشعب فينزوي، بحيث أصبح عدد المستوزرين يربو على عدد الموظفين العاديين، ولكن كان بين العراقيين رجال احتفظوا بكرامتهم داخل الوزارة وخارجها مثل ياسين باشا الهاشمي.
وفي كل حين تقوم في العراق حركة وخلاف فتؤلف وزارة جديدة ويعتقل بعض الأشخاص وتقفل بعض صحف، إلى أن شرعوا في إلغاء الانتداب وانضمام العراق إلى جمعية الأمم وأن تحل محل الانتداب معاهدة تحفظ مصالح الإنجليز، وقد احتوت هذه المعاهدة على شروط أقسى من شروط الانتداب وتجعل القول والفعل في العراق للمستعمرين الذين رضوا بنظام الاحتلال العسكري ورأوا أنه أفضل نظام.
وقامت في سورية ثورة 1925 و1926 وتخربت مدنها، وتشتت شمل الدروز، ومنح الدستور وعقد البرلمان ثم حلوه، ونصبوا حكومة وطنية ترجع إلى المندوب السامي في كل الأمور فليست سورية دولة لها ملك أو رئيس ولكنها ولاية تابعة لفرنسا مباشرة يحكمها حاكم حربي تارة مثل جورو وڤيجان وطورا حاكم ملكي وهو المسيو بونسو، وهذه الحكومة الوطنية قد فقدت صبغتها شيئا فشيئا وأصبحت خاضعة للحاكم في كل الأمور.
أما فلسطين فيحكمها حاكم إنجليزي يكون تارة يهوديا وطورا مسيحيا، ويكون النفوذ طورا لليهود وطورا لوزارة الخارجية الإنجليزية، فتقوم الثورات والفتن ويقتل العرب واليهود ثم يسود السكون مؤقتا خوفا من السلطة الحاكمة ولكن تحت الرماد نارا لا تنطفئ، ويفكر الإنجليز والفرنسيون في جعل أمراء على تلك الممالك فينصبون ملكا على سورية وآخر على فلسطين ولعله الأمير عبد الله بن الحسين، ولكن الفرنسويين يخشون من هذا النظام لأنهم رأوا عواقبه في عهد فيصل ويخشون مناوأته لهم تحت ضغط الرأي العام.
أما عرب الجزيرة فقد أتينا على موجز أحوالهم، ففيهم الإمام يحيى القوي باستقلاله وإيمانه وجيشه، والأمير ابن سعود ملك الجزيرة بأسرها ما عدا الجنوب، وهذان لا ينضجان في قدر واحدة ولا يتنزل أحدهما للآخر عن حق من حقوقه. والجزيرة وإن كانت هادئة في الظاهر إلا أن ثورة فيصل الدويش دلت على أن المستعمرين يملكون خيوط الفتنة، ويمكنهم في أي وقت شاءوا أن يشعلوا نارها ويحطموا أعظم قوة فيها بما لهم ورجالهم، وهم يطلبون ثمنا للهدوء تنفيذ رغباتهم بمثل الحلف العربي الذي يريدونه حماية لسككهم الحديدية وأنابيبهم.
هذه هي حالة الأمم العربية التي شقت عصا الطاعة على الأتراك من سنة 1895 إلى سنة 1918، فكانت سببا في إضعافها وتمكين أعدائها منها، فذهبت وذهب معها كل ما كان للعرب من استقلال وسلطان.
الفصل العشرون
Unknown page