بعد العشاء ذهبت إلى شارع ميسون ومررت من أمام بيت الآنسة فاريس، لم تكن لدي فكرة عما أنتوي فعله، أخذت أقطع الطريق جيئة وذهابا على الثلوج المتصلبة دون أن أصدر صوتا. لم تكن الآنسة فاريس تسدل ستائرها، لم يكن من عاداتها. كان بيتها صغيرا كبيوت ألعاب الأطفال، وكان أبيض اللون ذا مصاريع زرقاء، وله سطح مدبب ذو قمة مثلثة صغيرة، وفوق الباب والنوافذ ألواح ذات نتوءات مدورة. وقد جعلت البنائين يبنون هذا المنزل من أجلها بالنقود التي ورثتها بعد وفاة والديها. ورغم أنه كان من الشائع رؤية بيوت كهذه في الأفلام السينمائية - بيوت ساحرة غريبة تبدو كما لو كانت مصممة للعب لا للسكنى - فلم يكن أحد في جوبيلي قد رآها من قبل. ومقارنة بالبيوت الأخرى بالمدينة، كان بيتها يبدو خاليا من الأسرار والتناقضات. وكان الناس يقولون: «إنه بيت جميل، لا يبدو حقيقيا.» لم يكن بإمكانهم تفسير ما كان يريبهم في ذلك المنزل أكثر من هذا.
بالطبع، لم يكن بوسعي ما أفعله، وبعد وهلة عدت إلى المنزل.
لكن في اليوم التالي، جاءت الآنسة فاريس إلى الفصل ومعها جون جانيت، وسارت بها مباشرة نحو مقعدي قائلة: «قفي يا ديل.» كما لو كان علي أن أفعل هذا دون أن يطلب مني - فقد كانت تسترد المزيد والمزيد من طباعها أثناء فترة عروض الأوبريت - وجعلت كلتينا تقف وظهري في مواجهة ظهرها. أدركت أن طول جون لم يكن مناسبا، لكني لم أعرف هل هي أطول مما ينبغي أم أقصر مما ينبغي؛ ومن ثم لم أتمكن من الانبساط أو الانكماش. وضعت الآنسة فاريس يديها على رأسينا ثم رفعتهما ببطء. كانت تقف على مسافة قريبة جدا حتى إنني شممت رائحة عرقها الأشبه برائحة الفلفل، وارتجفت يداها ارتجافة خفيفة، وسرت في جسدها همهمة حماس صغيرة خطيرة. «إنك أطول مما ينبغي بنصف بوصة يا عزيزتي جون، سوف نفكر في إمكانية إعطائك دور أم.»
تبادلت أنا وناعومي - وآخرون - نظرات سعادة تواقة، فقطب السيد ماكينا ما بين حاجبيه وأدار وجهه بنظرة عابسة بين أرجاء الفصل. «من شريكك؟» هكذا همست لي ناعومي فيما بعد ونحن في حجرة الملابس نتدافع لانتعال أحذيتنا ذات الرقاب الطويلة. كان علينا أن نخرج في صفوف، ونحضر ثياب الخروج ونأتي بها إلى الفصل، ونلبسها على مقاعدنا بشكل منظم.
أجبتها: «جيري ستوري.» لم أكن سعيدة بتوزيع الأدوار. لقد بدا كما لو كان مقصودا به التوافق؛ فقد كان شريكا جوين موندي ومارجوري كوتس هما موراي هيل وجورج كلاين، اللذان كانا بشكل أو بآخر قرينيهما بين الصبية؛ حيث كانا ذكيين رياضيين وكانا - حيثما كان ذلك مهما - مهذبين. وكان شريك آلما كودي هو دايل ماكلوفلين ابن كاهن الكنيسة المتحدة والذي كان طويلا ذا أطراف مرتخية، وجريئا بحماقة يرتدي نظارات سميكة فوق عينين إحداهما حولاء، وكان قد مارس الجنس بشكل أو بآخر مع فايوليت تومز في مرأب الدراجات خلف المدرسة. وكان من نصيبي أنا جيري ستوري، وهو فتى يغطي رأسه شعر متموج طفولي وتجحظ عيناه بحماس علمي جلي. وفي حصص العلوم، كان يرفع يده ويتكلم بصوت أخنف ممل شارحا التجارب التي أجراها بأدواته الكيميائية. وكان يعرف أسماء كل شيء: العناصر والنباتات، وكذلك الأنهار والصحاري الموجودة على الخريطة، وكان يعرف موقع بحر سارجاسو. وطوال فترة تدريبنا على تلك الرقصة لم ينظر إلى وجهي قط، وكانت يداه تتعرقان، وكذلك يداي.
قالت ناعومي: «إنني أشفق عليك، سيظن الجميع الآن أنه يروق لك.»
لا أبالي، فليس في المدرسة الآن إلا الأوبريت. وكما في الحرب حيث لا يمكن للمرء أن يتخيل فيما كان يفكر الناس، أو ما كان يشغل بالهم، أو عما كانت الأخبار قبل اندلاع الحرب، من المستحيل الآن أن أتذكر ما كانت عليه المدرسة قبل هذا التشويق والارتباك والتوتر الذي صحب الأوبريت. كنا نتدرب على الرقص بعد المدرسة، وخلال ساعات الدراسة، في حجرة المعلمين. لم يسبق لي أن دخلت حجرة المعلمين من قبل، واندهشت لمرأى الخزانة الصغيرة ذات الستائر المصنوعة من الكريتون، وفناجين الشاي والسخان الكهربائي وزجاجة الأسبرين، والأريكة الجلدية المتكتلة. فلم يكن أحد يربط بين المعلمين وبين مثل هذه الأغراض المنزلية المألوفة، بل والمهترئة.
واستمرت مشاهد غريبة غير متوقعة في الظهور أمامنا، فقد كانت هناك كوة في سقف حجرة المعلمين، وذات يوم عندما دخلنا الحجرة للتدريب وجدنا السيد ماكينا - من بين كل المعلمين السيد ماكينا نفسه - تتدلى مؤخرته وساقاه في بنطلونه البني المليء بالغبار من الكوة وهو يبحث عن السلم. وكان ينزل صناديق من الورق المقوى التي كانت الآنسة فاريس تتناولها منه وهي تقول: «نعم، ذاك، وذاك! آه ماذا لدينا هنا؟ لنر ما إذا كان لدينا ثروة هنا!»
قطعت الخيط بحركة سريعة قوية، وأخرجت ما في الصندوق من أقمشة قطنية خفيفة مصبوغة باللونين الأحمر والأزرق، محفوفة أطرافها بحلقات ذهبية وفضية مصنوعة من الخيوط التي نزين بها أشجار عيد الميلاد، وكذلك تيجان مغلفة برقائق ذهبية وفضية، وبناطيل مخملية ذات لون بني ضارب إلى الصفرة، وشيلان صفراء ذات أهداب مصنوعة من قماش بيزلي، وبعض من أثواب المحاكم مصنوعة من قماش تفتة رقيق مترب. ولم يملك السيد ماكينا سوى أن يأخذ في الضرب على بنطاله نافضا عنه الغبار دون أن يتلقى أي شكر. «لا رقص اليوم! ليخرج الأولاد، ليخرجوا ويلعبوا الهوكي.» (كان هذا واحدا من خيالاتها إذ كانت تظن أن الأولاد يلعبون الهوكي حين لا يكونون في المدرسة.) «الفتيات يبقين ويساعدنني في الفرز. ماذا لدينا هنا يصلح لقرية ألمانية في العصور الوسطى؟ لا أدري، لا أدري. هذه الملابس واسعة جدا، وسوف تسقط منكم على المسرح على أية حال، لقد شهدت أعظم أيامها في مسرحية «التاج المسروق». هل ستلائم تلك البناطيل العمدة؟ هذا يذكرني بأن علي أن أصنع سلسلة العمدة! وعلي أن أصنع زي فرانك ويلز كذلك، إن آخر من لعب دور زمار هاملين لدينا كان حجمه ضعف حجم فرانك، من كان ذاك؟ لقد نسيت حتى من كان، كان فتى بدينا، ولم نختره إلا لصوته.»
سألت جوين مونداي - التي كانت تشعر بالراحة والألفة في التعامل مع المعلمين - بنبرة صوتها المهذبة الرقيقة: «كم يصل عدد الأوبريتات المختلفة؟»
Unknown page