من أفضل ما قيل عن الكتاب
طريق فلاتس
ورثة الجسد الحي
الأميرة إيدا
عصر الإيمان
تغيرات واحتفالات
حياة الصبايا والنساء
التعميد
الخاتمة: المصور
من أفضل ما قيل عن الكتاب
طريق فلاتس
ورثة الجسد الحي
الأميرة إيدا
عصر الإيمان
تغيرات واحتفالات
حياة الصبايا والنساء
التعميد
الخاتمة: المصور
حياة الصبايا والنساء
حياة الصبايا والنساء
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
سهى الشامي
شهاب ياسين
مراجعة
هبة نجيب مغربي
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تتمتع أليس مونرو بموهبة فذة في إماطة اللثام عن الجوانب الاستثنائية في الأمور التي تبدو عادية.
مجلة «نيوزويك»
أليس مونرو واحدة من أكثر الأدباء المعاصرين بلاغة وموهبة.
صحيفة «ذا نيويورك تايمز»
نجحت أليس مونرو في تصوير الشخصيات بواقعية مذهلة وبلمسة من التعاطف جعلتها أقرب ما تكون إلى الواقع.
مجلة «ذا نيويوركر»
رائعة ... تصوير جريء وطريف لحياة الفتيات ... متعة حقيقية في القراءة!
مجلة «إم إس»
إلى جيم
طريق فلاتس
قضينا أياما على ضفاف نهر واواناش نساعد العم بيني في الصيد. كنا نصطاد له الضفادع، نتتبعها ونطاردها ونتسلل خلفها على ضفة النهر الموحلة، تحت أشجار الصفصاف وفي الأغوار الموحلة الملأى بأسماك ذيل الفأر ونباتات السيف التي تترك في سيقاننا العارية جروحا دقيقة غير مرئية في بادئ الأمر. كانت الضفادع الكبيرة في السن تفهم جيدا أن عليها الابتعاد عن طريقنا، ولكننا لم نكن نسعى خلفها هي، بل كانت الضفادع الخضراء الصغيرة النحيلة، وتلك الفتية الغضة هي ما نبحث عنه. كانت باردة ولزجة، وكنا نضمها برفق في أيدينا ثم نغمسها في إناء عسل ونضع الغطاء فوقها، وتظل قابعة هناك حتى يصبح العم بيني مستعدا لوضعها في الصنارة.
لم يكن العم بيني عمنا حقا، أو عم أي أحد.
كان يقف قريبا في المياه البنية الضحلة حيث يحل الحصى والرمال محل القاع الموحل، وكان يرتدي نفس الثياب كل يوم وأينما رأيته؛ ذلك الحذاء المطاطي ذا الرقبة، والرداء السروالي (الأفرول) بلا قميص، وسترة ذات أزرار لونها أسود باهت بها فتحة عنق على شكل رقم 7، تكشف عن بشرة حمراء خشنة حافتها بيضاء رقيقة، بالإضافة إلى قبعة من اللباد على رأسه بها وشاح دقيق وريشتان صغيرتان اكتسبتا لونا داكنا من العرق.
مع أنه لم يكن يلتفت قط كان يعلم إذا ما وضعنا أقدامنا في الماء. «أيها الأطفال، إذا كنتم ترغبون في الخوض في الوحل وإخافة الأسماك، فاذهبوا وافعلوا ذلك في مكان آخر، ابتعدوا عن ضفة النهر الخاصة بي.»
ولكنها لم تكن ضفة النهر الخاصة به، بل هنا بالضبط حيث كان يصطاد عادة، كانت ملكنا نحن، ولكننا لم نفكر في ذلك قط. بالنسبة له، كان النهر والدغل ومستنقع جرينوش بأكمله تقريبا ملكا له؛ لأنه كان يعرفها أفضل من أي شخص آخر. وكان يزعم أنه الشخص الوحيد الذي توغل في المستنقع، ولم يقم بمجرد رحلات قصيرة حول حافته، وقال إنه توجد حفرة من الرمال المتحركة هناك يمكنها ابتلاع شاحنة تزن طنين كما لو كانت لقمة واحدة في وجبة الإفطار. (وفي خيالي رأيتها تلمع وبها أسطوانة جافة سائلة، فقد اختلط علي الأمر مع الزئبق.) وقال أيضا إنه ثمة فجوات في نهر واواناش يصل عمقها إلى عشرين قدما في منتصف الصيف، وقال إنه يمكنه اصطحابنا إليها، ولكنه لم يفعل قط.
وكان مستعدا للشعور بالإهانة عند أدنى بادرة من الشك. «عندما تسقطون في إحداها، سوف تصدقونني.»
كان للعم بيني شارب أسود كثيف، وعينان قاسيتان، ووجه حاد لا يخلو من بعض الرقة. ولم يكن عجوزا كما توحي ثيابه العتيقة وشاربه وعاداته، بل كان ذلك النوع من الرجال الذي يصبح غريب الأطوار بشدة قبل أن تنتهي سنوات مراهقته. وفي كل أقواله وتوقعاته وأحكامه، كان ثمة عاطفة قوية؛ فذات مرة، كان في فناء منزلنا وعندما نظر إلى قوس قزح، بكى قائلا: «أتعلمون ما هذا؟ إنه وعد الإله بأنه لن يكون ثمة طوفان آخر أبدا!» وأخذ يرتجف لشعوره بأهمية هذا الوعد كما لو أنه قد قطع للتو، وكان هو شخصيا حامله.
وعندما كان ينتهي من اصطياد ما يكفيه من الأسماك (كان يلقي أسماك القاروس الأسود في البحر مرة أخرى، ويحتفظ بأسماك الشوب والزعنفة الحمراء قائلا إن أسماك الزعنفة الحمراء لذيذة المذاق، مع أنها مليئة بالأشواك كما تمتلئ وسادة الدبابيس بالدبابيس)، كنا نخرج جميعا من مجرى النهر الهادئ ونتجه عبر الحقول نحو منزله. كنت أنا وأوين نسير حفاة الأقدام بسهولة على القش، وأحيانا كان كلبنا الانطوائي ميجور يتبعنا على بعد مسافة. وبعيدا عند حافة الدغل - الذي يتحول بعد ميل إلى مستنقع - يقع منزل العم بيني؛ وهو عبارة عن منزل من ألواح قديمة طويلة فضية غير مطلية، حولتها حرارة الصيف إلى لون شاحب، وللمنزل ستائر خضراء داكنة متشققة ومتمزقة مرخية على كل النوافذ. وكان الدغل خلفه أسود اللون، حارا، كثيف الشجيرات ذات الأشواك ومليئا بالحشرات التي تحوم في دوائر.
وبين المنزل والدغل كان ثمة العديد من الحظائر التي كان يحتفظ فيها العم بيني دائما ببعض الحيوانات؛ مثل نمس ذهبي شبه أليف، واثنين من حيوان المنك البري، وأنثى ثعلب أحمر قطعت ساقها في مصيدة، فكانت تعرج وتعوي ليلا، وكان اسمها داتشيس. أما حيوانات الراكون، فلم يكن العم بيني بحاجة لحظائر يضعها فيها؛ إذ كانت تعيش حول الفناء وفي الأشجار، وكانت أكثر وداعة من القطط وتأتي إلى باب المنزل كي تحصل على الطعام، وكانت مغرمة بمضغ العلكة. وكانت السناجب تأتي أيضا وتجلس بجرأة على أفاريز النوافذ، وتبحث عن الطعام في أكوام الصحف الموجودة على الشرفة.
كان ثمة أيضا حظيرة منخفضة العمق من نوع ما، أو - بمعنى أدق - تجويف في التراب إلى جانب حائط المنزل مثبت حوله - باستخدام مسامير - على الجوانب الثلاثة الأخرى ألواح يبلغ ارتفاعها حوالي قدمين؛ إنه المكان الذي يحتفظ فيه العم بيني بالسلاحف. ففي صيف أحد الأعوام، ترك العم بيني كل شيء وخرج ليصطاد السلاحف، وقال إنه سوف يبيعها لشخص أمريكي من ديترويت سوف يدفع له خمسة وثلاثين سنتا لكل رطل.
قال العم بيني وهو يتدلى فوق حظيرة السلاحف: «سيصنعون منها حساء.» فعلى قدر ما كان العم بيني يستمتع بترويض الحيوانات وإطعامها، كان يستمتع بمصائرها المؤلمة. «حساء السلاحف!» «للأمريكيين»، قالها العم بيني كما لو كان هذا يفسر الأمر، مستأنفا: «ولكنني شخصيا لم أكن لأمسه.»
ولم تسفر هذه الخطة عن شيء، سواء كان ذلك لأن ذلك الأمريكي لم يظهر، أو لأنه لم يوافق على المبلغ الذي حدده العم بيني، أو لأن الأمر برمته لم يكن سوى إشاعة من الأساس. وبعد بضعة أسابيع، كان العم بيني لا يبدي أي تعبير إذا ذكرت السلاحف، بل يقول: «إنني لم أعد أشغل نفسي بهذا الأمر.» كما لو كان يشفق عليك لكونك ما زلت منشغلا بمثل هذا الأمر القديم.
كان العم بيني يجلس على مقعده المفضل خلف باب مطبخنا مباشرة - وكان يجلس كما لو كان لا وقت لديه للجلوس أو لا يرغب في إزعاج أحد، ويرحل في أسرع وقت - وكان دائما في جعبته أخبار عن مغامرة تجارية، وهي دائما مغامرة غير عادية، يكسب منها أشخاص لا يسكنون بعيدا - في جنوب المقاطعة أو في بلدة جرانتلي القريبة - مبالغ خرافية؛ فكانوا مثلا يربون أرانب الشانشيلا، أو الببغاء الأسترالي، ويكسبون عشرة آلاف دولار في العام دون بذل أي مجهود تقريبا. ولعل السبب الذي جعله يستمر في العمل لدى والدي، مع أنه لم يستمر بانتظام في أي عمل آخر، هو أن والدي كان يربي الثعالب الفضية، وهو مشروع به شيء غير عادي ومحفوف بالمخاطر، ويحمل أملا خفيا براقا - لا يتحقق قط - بإمكانية تحقيق ثروة.
كان ينظف السمك في شرفته، وإذا شعر برغبة في تناول الطعام كان يقلي بعض السمك على الفور في مقلاة بها طبقات من الدهون العتيقة التي تطلق الكثير من الدخان، ويأكل من المقلاة مباشرة. ومهما كان الجو حارا أو مشمسا بالخارج، كان يترك النور مضاء؛ مصباحا واحدا يتدلى من السقف، غير أن الفوضى الجامحة التي تسيطر على المكان والتراب من شأنهما أن يبتلعا أي بصيص للضوء.
وفي طريقنا أنا وأوين للعودة إلى المنزل، كنا نحاول أحيانا إحصاء الأشياء التي يملكها في منزله أو حتى في مطبخه فحسب. «جهازان لتحميص الخبز؛ أحدهما ذو أبواب والآخر تضع الخبز فوقه .» «مقعد سيارة.» «حشية فراش مطوية، وأكورديون.»
ولكننا لم نكن نستطيع إحصاء نصف الأشياء، وكنا نعلم ذلك، فما كنا نذكره كان يمكن أن يؤخذ من المنزل ولن يكتشف العم بيني غيابه قط، فما هي سوى حفنة أشياء بارزة على سطح ثروة هائلة من الحطام؛ كومة ضخمة مظلمة متعفنة من السجاد، والمشمع، وقطع من الأثاث، وأجزاء من آلات، ومسامير، وأسلاك، وأدوات، ومعدات. كان ذلك هو المنزل الذي عاش فيه والدا العم بيني طوال حياتهما الزوجية. (كنت بالكاد أتذكرهما، عجوزان ضخما الجثة شبه كفيفين يجلسان في الشرفة في ضوء الشمس، ويرتديان طبقات عديدة من الثياب الداكنة المتنافرة.) وهكذا فإن جزءا من تلك الأكوام عمره تقريبا خمسون عاما أو نحو ذلك من الحياة العائلية، ولكنه يشمل أيضا الأشياء التي يتخلص منها الآخرون، أو أشياء كان العم بيني يطلبها من الغير ويحصل عليها، أو حتى يجرها بمشقة من مقلب نفايات مدينة جوبيلي. ويقول إنه يأمل في إصلاح تلك الأشياء وجعلها قابلة للاستخدام وبيعها، فلو كان يعيش في مدينة، كان سيدير متجرا ضخما للخردة ويقضي حياته بين أكوام الأثاث المتسخ والأجهزة التالفة والأطباق المكسورة، وصور أقارب الآخرين التي تراكم فوقها التراب. لقد كان يرى قيمة وأهمية للحطام في حد ذاته، ولكنه كان يتظاهر - أمام نفسه وأمام الآخرين على حد سواء - أنه يقصد الاستفادة منه على نحو عملي.
ولكن ما كنت أفضله في منزله ولا أمل منه أبدا هو أكوام الصحف المتراكمة على الشرفة. لم يكن لديه جريدة «هيرالد أدفانس» الخاصة بمدينة جوبيلي، أو جريدة المدينة التي تصل لصندوق البريد لدينا بعد صدورها بيوم، ولم يكن مشتركا في «فاميلي هيرالد» أو «ذا ساترداي إيفينينج بوست»، ولكن صحيفته كانت تأتي مرة في الأسبوع، وكانت سيئة الطباعة على ورق خشن وتبرز العناوين الرئيسية بخط ارتفاعه ثلاث بوصات. وكانت تلك الصحيفة هي نافذته الوحيدة لمعرفة أخبار العالم الخارجي؛ إذ نادرا ما كان لديه مذياع يعمل، وقد كان ذلك العالم مختلفا عن ذلك الذي يقرأ والداي عنه في الصحف أو يسمعان عنه في الأخبار اليومية. فلم تكن العناوين الرئيسية لها علاقة بالحرب التي كانت قد بدأت في ذلك الوقت، أو بالانتخابات، أو موجات الحرارة، أو الحوادث، بل كانت كالتالي:
أب يطعم ابنتيه التوءمين للخنازير
امرأة تلد قردا بشريا
رهبان مخبولون يغتصبون عذراء على الصليب
امرأة ترسل جسم زوجها في البريد
كنت أجلس وأقرأ على حافة الشرفة المتهاوية وقدماي تداعبان نبات قرنفل الشاعر، الذي لا بد أن والدة العم بيني هي التي زرعته، وأخيرا يقول العم بيني: «يمكنك أخذ تلك الصحف معك إذا أردت، فقد انتهيت من قراءتها كلها.»
ولكنني كنت أعقل من أن أفعل ذلك، كنت أقرأ أسرع وأسرع كل ما يقع تحت يدي، ثم أتهادى في السير تحت أشعة الشمس على الممر الذي يقود إلى منزلنا عبر الحقول. كنت مزهوة وأشعر بالإثارة الشديدة من مظاهر الشر، من تقلبه وقدرته على الابتكار ومزاحه المروع، ولكنني كلما اقتربت من منزلنا، كانت تلك الصورة تخبو. لماذا كان الحائط الخلفي البسيط لمنزلنا، والطوب الباهت المتكسر، والرصيف الإسمنتي خارج باب المطبخ، والأحواض المثبتة بمسامير، والمضخة، وشجيرة الليلك ذات الأوراق المنقطة باللون البني؛ لماذا كان كل هذا يثير الشكوك في أن هناك امرأة يمكنها بالفعل إرسال جسم زوجها مغلفا بورق هدايا عيد الميلاد إلى عشيقته في كارولاينا الجنوبية عن طريق البريد؟
كان منزلنا يقع في نهاية طريق فلاتس الذي يمتد غربا من «متجر باكلز» عند أطراف المدينة. كان ذلك المتجر - الخشبي المتهاوي الشديد الضيق من الأمام إلى الخلف كما لو كان صندوقا من الورق المقوى يقف على جانبه، والمغطى على نحو عشوائي بلافتات معدنية ومطلية تعلن عن منتجات مثل: الدقيق والشاي والشوفان المطحون والمشروبات الغازية والسجائر - علامة على انتهاء حدود المدينة؛ فالأرصفة وأضواء الشوارع والأشجار الظليلة المصطفة وعربات بائعي اللبن وبائعي الثلج ومسابح الطيور وأحواض الورود والشرفات ذات مقاعد الخيزران التي تشاهد منها السيدات الشوارع، وكل تلك المظاهر المتحضرة اللطيفة؛ قد انتهت، فكنا نسير (أنا وأوين أثناء عودتنا من المدرسة، أو أنا وأمي أثناء عودتنا من التسوق بعد ظهيرة أيام السبت) في طريق فلاتس الواسع المتعرج دون أي ظلال من متجر باكلز حتى منزلنا بين الحقول المغطاة بالأعشاب الصفراء بلون الهندباء البرية أو الخردل البري أو القضبان الذهبية بحسب الموسم. كانت المنازل هنا على مسافات أبعد من بعضها، وتبدو عامة كما لو كانت أكثر إهمالا وفقرا وغرابة من منازل المدينة، حيث يمكنك أن تجد نصف حائط مطليا، في حين لم تمس يد الطلاء النصف الآخر، والسلم الخشبي متروكا قائما في مكانه، وآثار شرفة محطمة تركت مكشوفة، وباب منزل أماميا يرتفع عن الأرض ثلاثة أقدام بلا درج، ونوافذ مغطاة بأوراق الصحف التي تحولت إلى اللون الأصفر بدلا من الستائر.
لم يكن طريق فلاتس جزءا من المدينة، ولكنه لم يكن أيضا جزءا من الريف؛ إذ إن منحنى النهر ومستنقع جرينوش يعزلانه عن بقية البلدة التي ينتمي إليها اسما، فلم تكن ثمة مزارع حقيقية إلا المزرعتين الموجودتين في منزلي العم بيني وعائلة بوتر، اللتين تبلغ مساحتهما خمسة عشر وعشرين فدانا على التوالي، غير أن مزرعة العم بيني كانت تمتد لتصل إلى الدغل. وكان أبناء آل بوتر يربون الغنم، وكنا نحن نملك تسعة أفدنة ونربي الثعالب، ومعظم الناس هنا لديهم فدان واحد أو اثنان والقليل من الماشية؛ عادة بقرة وبعض الدجاج وأحيانا شيء أكثر غرابة لا يوجد في مزرعة عادية. كان لدى أبناء آل بوتر عائلة من الماعز يطلقونها كي ترعى على طول الطريق. وكان ساندي ستيفنسون الأعزب يملك حمارا رماديا صغيرا - يشبه الصور الإيضاحية لإحدى قصص الإنجيل - يرعى في الركن المغطى بالحصى من أحد الحقول. ولم يكن مشروع والدي بالشيء الغريب ها هنا.
كان ميتش بليم وأبناء آل بوتر يعملون بتهريب الكحول في طريق فلاتس، ولكن كان لكل منهم نمطه الخاص؛ فآل بوتر مرحون رغم أنهم يميلون إلى العنف عندما يثملون. وقد أوصلوني أنا وأوين ذات مرة من المدرسة إلى المنزل في شاحنتهم. جلسنا في الخلف نتقاذف من جانب إلى آخر؛ لأنهم ينطلقون بسرعة كبيرة ويصطدمون بمطبات كثيرة، وقد حبست والدتي أنفاسها عندما سمعت بذلك. أما ميتش بليم فكان يعيش في ذلك المنزل المغطاة نوافذه بأوراق الصحف، ولم يكن يتناول المشروبات الكحولية هو نفسه؛ إذ إنه أصيب بالعجز من جراء إصابته بالروماتيزم، ولم يكن يتحدث مع أحد، وكانت زوجته تخرج من المنزل في أي وقت من اليوم متجهة لتفحص صندوق البريد مرتدية ثوبا منزليا رثا وهي حافية القدمين. وكان منزلهما بأكمله يبدو تجسيدا لشيء شرير وغامض، حتى إنني لم أكن أنظر إليه مباشرة قط، وكنت أمر من أمامه وأنا أثبت عيني على الطريق أمامي مباشرة وأقاوم رغبتي القوية في الركض.
كان ثمة أحمقان آخران في الطريق؛ أحدهما يدعى فرانكي هول، وكان يعيش مع شقيقه لوي هول، الذي كان يدير مشروعا لإصلاح الساعات في متجر غير مطلي ذي واجهة مختفية بجوار متجر باكلز. وكان بدينا وشاحبا كما لو كان منحوتا من صابون العاج، وكان يجلس في الشمس، وإلى جوار نافذة المحل القذرة تنام القطط. أما الحمقاء الثانية فهي إيرين بولوكس، ولم تكن لطيفة أو بلهاء مثل فرانك، بل كانت تطارد الأطفال في الطريق، وتتدلى من بوابتها وهي تصيح وتلوح بذراعيها كالديك الثمل، وهكذا كان منزلها هي الأخرى مكانا خطرا للمرور من أمامه، وكان ثمة أغنية يرددها الجميع:
لا تأتي خلفي يا إيرين
وإلا فسوف أعلقك من ثدييك في شجرة التفاح البري.
كنت أردد تلك الأغنية وأنا أمر مع والدتي، ولكنني كنت أملك من الحكمة ما يدفعني لأن أستبدل كلمة «كعبيك» ب «ثدييك». من أين أتت تلك الأغنية؟ حتى العم بيني كان يرددها. كانت إيرين ذات شعر أشيب، لم تكن طاعنة في السن ولكنها ولدت هكذا، وكانت بشرتها أيضا بيضاء اللون كريش الإوز.
كان طريق فلاتس هو آخر مكان ترغب أمي في الحياة به، وفور أن تلمس قدماها رصيف المدينة ترفع رأسها شاعرة بالامتنان لظلال المدينة بعد شمس طريق فلاتس الحارقة، كان يغمرها شعور بالارتياح، ويتدفق منها شعور جديد بالأهمية. كانت ترسلني إلى متجر باكلز عندما ينفد أحد الأغراض من منزلنا ، ولكنها كانت تقوم بالتسوق الحقيقي في المدينة. قد يكون تشارلي باكل يقطع اللحم في الغرفة الخلفية عند مرورنا، وكان بوسعنا رؤيته عبر الساتر الداكن كما لو كان كيانا مختبئا جزئيا في قطعة من الفسيفساء، وكنا نحني رءوسنا ونمر سريعا آملين ألا يكون قد رآنا.
كانت أمي تصحح لي عندما أقول إننا نسكن في طريق فلاتس قائلة إننا نسكن «في نهاية» طريق فلاتس، كما لو كان ذلك يحدث فارقا. لكنها اكتشفت لاحقا أنها لا تنتمي لجوبيلي أيضا، ولكنها كانت تتمسك بها في الوقت الراهن ويغمرها الأمل والسعادة عندما تذهب إليها، وتحاول جاهدة أن تجذب انتباه الآخرين إليها؛ حيث كانت تحيي السيدات اللواتي يلتفتن بوجوه متفاجئة ولكن لطيفة، وتدلف إلى متجر الأقمشة والملابس الجاهزة المظلم وتجلس على أحد المقاعد الصغيرة الطويلة، وتطلب من أحدهم بأدب أن يناولها كوبا من الماء بعد رحلة السير المتربة الحارة تلك. وكنت أتبعها دون إحراج مستمتعة بالصخب الذي تحدثه.
لم تكن أمي محبوبة في طريق فلاتس؛ فلم تكن تخاطب الناس بلهجة ودية كما تفعل في المدينة؛ حيث كانت تتعمد المجاملة الشديدة والاستخدام الملحوظ للقواعد النحوية الصحيحة. أما زوجة ميتش بليم - التي كانت تعمل يوما ما في بيت السيدة ماكويد للدعارة مع أنني لم أكن أعلم ذلك وقتها - فلم تكن تخاطبها على الإطلاق. كانت أمي تنحاز لجانب الفقراء في كل مكان؛ لجانب الزنوج واليهود والصينيين والنساء، ولكنها لم تكن تحتمل الإفراط في الشراب أو الانحلال الجنسي أو اللغة البذيئة أو الحياة العشوائية أو الرضا بالجهل، وهكذا كان عليها أن تستبعد أهل طريق فلاتس من فئة المظلومين والمحرومين، من فئة الفقراء الحقيقيين الذين ما زالت تحبهم.
أما أبي، فكان مختلفا؛ فالكل يحبه، وكان يحب طريق فلاتس، مع أنه لم يكن يتناول الشراب تقريبا ولم يكن يتصرف بانحلال مع النساء أو يستخدم لغة بذيئة، ومع أنه كان يؤمن بالعمل ويعمل بجد طوال الوقت. كان يشعر بالراحة هنا، أما أثناء وجوده مع رجال من المدينة؛ مع أي شخص يرتدي قميصا وربطة عنق للذهاب للعمل، فلم يكن يملك سوى الشعور بالتوجس وبعض الفخر والقلق من الإهانة، مع ذلك الاستعداد الخاص المرهف لاستشعار التظاهر الذي يعد موهبة لدى بعض أهل الريف. كان قد تربى في مزرعة في عمق البلدة (على غرار أمي، ولكنها ألقت كل ذلك وراء ظهرها)، ولكنه لم يكن يشعر بحميمية الوطن هناك أيضا وسط التقاليد الصعبة، والفقر الذي لا يخلو من الزهو، ورتابة حياة المزرعة. فكان طريق فلاتس يمنحه ذلك الشعور بحميمية الوطن، وكان العم بيني يكفيه كصديق.
كانت أمي معتادة على وجود العم بيني؛ فكان يتناول طعامه في بيتنا كل يوم عند الظهيرة ما عدا يوم الأحد، وكان يلصق العلكة الخاصة به في طرف الشوكة، وفي نهاية الوجبة كان ينتزعها من على الشوكة ويرينا الرسم المنقوش بدقة على العلكة الملونة بلون القصدير، حتى إنه من المؤسف إضاعة الرسم بمضغها. وكان يصب الشاي في طبق فنجان الشاي وينفخ فيه، وبكسرة من الخبز على الشوكة يمسح طبقه حتى يصبح نظيفا كما لو كان طبق قطة لعقته عن آخره. وكان وجوده في المطبخ ينثر مزيجا من رائحة السمك والحيوانات ذات الفراء والمستنقعات، وهي رائحة لم أكن أكرهها. واتباعا لعادات أهل الريف، لم يكن العم بيني يخدم نفسه قط، أو يقضي ثانية من وقته في مد يد المساعدة حتى يطلب منه ذلك ثلاث مرات.
وكان يروي لنا قصصا، وهي قصص غالبا ما يحدث فيها شيء ما، تصر أمي على أنه مستحيل الحدوث، وذلك كما حدث في قصة زواج ساندي ستيفنسون.
تزوج ساندي ستيفنسون امرأة بدينة من الجنوب الشرقي من خارج البلاد، وكان لديها ألفا دولار في البنك وتملك سيارة من طراز بونتياك، وكانت أرملة. وبمجرد أن انتقلت للعيش مع ساندي هنا في طريق فلاتس منذ حوالي اثني عشر أو خمسة عشر عاما، بدأت أمور غريبة تحدث؛ حيث أخذت الأطباق تتحطم وحدها على الأرض ليلا، واندفع طبق اليخنة من على الموقد وحده ملوثا حوائط المطبخ، واستيقظ ساندي ليلا وهو يشعر كما لو كانت عنزة تنطحه عبر الفراش، ولكنه عندما نظر أسفل الفراش لم يجد شيئا، وتمزقت أفضل ثياب النوم لدى زوجته من أعلى إلى أسفل وعقدت في حبل ستارة النافذة. وفي المساء، عندما أرادا الجلوس في هدوء والحديث معا بدأ القرع على الحائط بصوت مرتفع حتى إنك لا تتمكن من سماع أفكارك. وفي النهاية، قالت الزوجة لساندي إنها تعلم من يفعل ذلك، إنه زوجها الراحل، غاضب منها لأنها تزوجت بعد وفاته. وقد ميزت طريقته في القرع، فتلك كانت مفاصل أصابعه. فحاولا تجاهله ولكن لا فائدة، فقررا أن يذهبا في رحلة قصيرة بالسيارة ورؤية ما إذا كان ذلك سوف يثنيه عن عزمه، ولكنه صحبهما في رحلتهما، فركب فوق سطح السيارة وظل يدق عليه بقبضتيه ويركله ويحدث ضوضاء ويهزه، حتى إن ساندي كان يجد صعوبة في الحفاظ على السيارة على الطريق. وفي نهاية الأمر، فقد ساندي أعصابه، فتوقف على جانب الطريق وطلب من المرأة تولي القيادة، وكان ينوي الترجل من السيارة والسير حتى المنزل أو إيقاف أية مركبة على الطريق والركوب فيها إلى المنزل، ونصحها أن تعود إلى مدينتها وتحاول أن تنساه، فانفجرت المرأة في البكاء ولكنها وافقت على أن هذا هو الحل الوحيد.
تساءلت أمي بحماس: «ولكنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟» وأخذت توضح أن كل ذلك مصادفات ومحض تخيلات وإيحاءات ذاتية.
فرمقها العم بيني بنظرة مشفقة حادة. «اذهبي واسألي ساندي ستيفنسون. لقد رأيت الكدمات، رأيتها بنفسي.» «أية كدمات؟» «التي حدثت له من نطح العنزة له من تحت الفراش.»
وقال أبي متفكرا كي ينهي هذا الجدال: «ألفا دولار في البنك، عليك أن تبحث عن امرأة كهذه يا بيني.»
فقال العم بيني باللهجة نفسها التي تقع بين الجد والهزل: «هذا ما سوف أفعله بالضبط، يوما ما عندما أتمكن من العثور على امرأة من هذا النوع.» «إن العثور على امرأة كهذه ليس بالمهمة الصعبة.» «هذا ما أقوله لنفسي دائما.» «ولكن السؤال هو: امرأة بدينة أم نحيفة؟ البدينات غالبا ما يكن طباخات ماهرات ولكنهن قد يتناولن الكثير من الطعام، ولكن بعض النحيفات أيضا كذلك، فيصعب الجزم بذلك الأمر. فأحيانا يمكنك الحصول على امرأة بدينة تتغذى على دهون جسمها وتجعلك توفر، ولكن تأكد من أن لديها أسنانا سليمة، إما هذا أو أنها قد اقتلعتهم جميعا ولديها طاقم جيد من الأسنان الصناعية، ويفضل إذا كانت قد أجرت عملية استئصال الزائدة الدودية والمرارة أيضا.»
فقالت أمي: «إنك تتحدث كما لو أنك ستشتري بقرة.» ولكنها لم تكن تمانع في حقيقة الأمر، فقد كان لديها لحظات غير متوقعة من التسامح - فقدتها فيما بعد - يلين فيها جسدها وتهيمن عليها الحركات التي تنم عن اللامبالاة وهي ترفع الأطباق عن الطاولة. فقد كانت امرأة أكثر امتلاء وجمالا مما صارت عليه لاحقا.
استمر أبي قائلا برصانة: «ولكنها قد تخدعك وتخبرك بأنها قد استأصلت المرارة والزائدة وهما لا يزالان في مكانهما، يفضل أن تطلب رؤية آثار الندوب.»
فأصيب العم بيني بالفواق، واحمر وجهه وضحك ضحكة صامتة وهو ينحني على طبقه. ••• «هل يمكنك الكتابة؟» طرح العم بيني هذا السؤال علي وأنا في منزله أقرأ في الشرفة، بينما كان هو يفرغ أوراق الشاي من إبريق صفيح وكانت تتناثر على السياج. «منذ متى وأنت تذهبين إلى المدرسة؟ وفي أي صف أنت الآن؟» «سوف ألتحق بالصف الرابع.» «تعالي إلى هنا.»
اصطحبني إلى مائدة المطبخ وأزال مكواة كان يقوم بإصلاحها وقدرا مثقوبا من القاع، وأحضر دفترا جديدا وزجاجة من الحبر وقلم حبر قائلا: «هلا مارست بعض التدريب على الكتابة من أجلي هنا؟» «ماذا تريدني أن أكتب؟» «لا يهم، إنني أريد أن أرى كيف تقومين بذلك فحسب.»
فكتبت اسمه وعنوانه بالكامل: «السيد بنجامين توماس بول، طريق فلاتس، جوبيلي، بلدة واواناش، أونتاريو، كندا، أمريكا الشمالية، نصف الكرة الأرضية الغربي، العالم، المجموعة الشمسية، الكون.» أخذ يقرأ من فوق كتفي، وقال بحدة: «وأين موقع كل هذا بالنسبة للسماء؟ لم تكتبي ما يكفي، أليست السماء خارج الكون؟» «إن الكون يعني كل شيء، إنه كل ما هو موجود.» «حسنا، أتعتقدين أنك تعلمين الكثير. ماذا هناك عندما تصلين إلى نهاية كل ذلك؟ لا بد أن ثمة شيئا ما هناك وإلا فلا توجد نهاية، يجب أن يكون ثمة شيء كي تكون نهاية، أليس كذلك؟»
فقلت بارتياب: «ليس ثمة شيء.» «بلى ثمة شيء، إنها السماء.» «حسنا، وماذا هناك عندما تصل إلى نهاية السماء؟»
فقال العم بيني بنبرة انتصار: «لا يمكنك الوصول إلى نهاية السماء لأن الإله هناك!» وألقى نظرة عن كثب على خطي الذي كان دائريا مرتعشا مترددا، وقال: «حسنا، أي شخص يمكنه قراءة ذلك بسهولة، أريدك أن تجلسي هنا وتكتبي لي خطابا.»
كان العم بيني يعرف القراءة جيدا ولكنه لم يكن يعرف الكتابة، وكان يقول إن المعلمة في المدرسة قد ضربته مرارا وتكرارا محاولة غرس مهارة الكتابة بداخله، وكان يحترمها لذلك، ولكنها لم تنجح في ذلك قط. وعندما كان يحتاج لكتابة خطاب كان يطلب مساعدة أبي أو أمي في ذلك.
كان ينظر من فوق كتفي ليرى ما كتبته في أعلى الورقة، وكنت قد كتبت طريق فلاتس، جوبيلي، 22 أغسطس 1942، وقال: «هذا صحيح، هكذا تكون كتابة الخطاب! والآن اكتبي: «سيدتي العزيزة».»
فقلت: «الخطاب يبدأ ب «عزيزي» أو «عزيزتي» ثم اسم الشخص، ما لم يكن خطاب عمل فإنه يبدأ ب «سيدي العزيز» أو «سيدتي العزيزة». هل هو خطاب عمل؟» «نعم ولا في نفس الوقت، اكتبي «سيدتي العزيزة».»
فتساءلت بضيق: «ما اسمها؟ يمكنني كتابة اسمها بسهولة فحسب.» «لا أعرف اسمها.» ثم أحضر العم بيني بنفاد صبر الجريدة إلي وفتحها على صفحة الإعلانات المبوبة، وهو قسم لم أصل إليه من قبل، ووضعها أمام عيني.
سيدة لديها طفل واحد ترغب في الحصول على وظيفة مديرة منزل لرجل في منزل ريفي هادئ، مغرمة بحياة الريف، ومستعدة للزواج إذا كان ذلك مناسبا. «هذه هي السيدة التي أكتب لها، فماذا عساي أن أفعل سوى أن أناديها سيدتي؟»
فاستسلمت وكتبت ما أملاني، ووضعت فاصلة كبيرة بعناية، وانتظرت كي أبدأ الخطاب من تحت حرف «الياء» في كلمة «عزيزتي» بالضبط كما تعلمنا في المدرسة.
فقال العم بيني بسرعة: «سيدتي العزيزة، أكتب هذا الخطاب ...»
أكتب هذا الخطاب ردا على إعلانك بالجريدة التي تصلني عن طريق البريد. إنني رجل في السابعة والثلاثين من عمري، أعيش وحيدا في أرضي التي تبلغ مساحتها خمسة عشر فدانا في نهاية طريق فلاتس، وبها منزل جيد ذو أساس حجري بجوار الدغل، وهكذا فإن الحطب لا ينفد من عندنا أبدا في الشتاء. وثمة بئر ضخمة محفورة بعمق ستين قدما وخزان. وفي الدغل ثمة كم كبير من ثمار التوت أكبر مما يمكنك تناوله، والكثير من الأسماك في النهر، ويمكنني زراعة حديقة خضروات كبيرة إذا تمكنت من إبعاد الأرانب. ولدي أنثى ثعلب أليفة في حظيرة بجوار المنزل ونمس واثنان من حيوان المنك، بالإضافة إلى حيوانات الراكون والسناجب والصيدناني التي تحيط بالمنزل طوال الوقت. كما أرحب بوجود طفلك، ولكنك لم تقولي ما إذا كان صبيا أم فتاة، فإذا كان صبيا فيمكنني أن أعلمه الصيد ونصب الشراك. إنني أعمل لدى رجل يربي الثعالب الفضية في الأرض المجاورة لهذا المنزل، وزوجته امرأة متعلمة إذا رغبت في زيارتها. أتمنى أن أتلقى خطابا منك قريبا. المخلص: بنجامين توماس بول.
وفي غضون أسبوع، كان العم بيني قد استلم ردا على خطابه.
السيد بنجامين بول، أكتب إليك بالنيابة عن شقيقتي السيدة مادلين هووي كي أخبرك بأنها توافق على عرضك ومستعدة للقدوم في أي وقت بعد الأول من سبتمبر. ما هي خطوط الحافلات أو القطارات التي تصل إلى جوبيلي؟ أو قد يكون من الأفضل أن تأتي أنت إلى هنا، سوف أكتب عنواننا بالكامل في نهاية الخطاب، ومنزلنا لا يصعب الوصول إليه. وشقيقتي لديها فتاة لا صبي، عمرها 18 شهرا واسمها ديان. سوف أنتظر ردك. المخلص ماسون هووي، 121 شارع شالمرز، كيتشنر، أونتاريو.
عندما أرانا العم بيني هذا الخطاب ونحن نجلس إلى طاولة العشاء قال والدي: «حسنا، إنها مخاطرة. ما الذي يجعلك تعتقد أنها المرأة التي تريدها؟» «لست أرى أي ضرر في إلقاء نظرة عليها.» «يبدو لي كما لو كان شقيقها يرغب في التخلص منها.»
فقالت أمي بحزم: «اصطحبها إلى طبيب كي تجري لها فحصا طبيا.»
فأكد العم بيني أنه سوف يقوم بذلك، ثم تمت الترتيبات بعد ذلك بسرعة؛ فابتاع العم بيني لنفسه ثيابا جديدة وطلب اقتراض السيارة كي يقودها إلى كيتشنر، ورحل في الصباح الباكر مرتديا حلة خضراء فاتحة وقميصا أبيض اللون وربطة عنق بالألوان الأخضر والأحمر والبرتقالي، وقبعة من اللباد لونها أخضر داكن، وحذاء باللونين البني والأبيض. وكان قد حلق شعره وهذب شاربه واغتسل، فبدا غريبا شاحبا مضحيا بنفسه.
قال والدي: «ابتهج يا بيني، فلست ذاهبا إلى منصة الإعدام. إذا لم يعجبك الحال، استدر وعد إلى المنزل على الفور.»
عبرت أنا وأمي الحقول حاملتين ممسحة ومقشة ووعاء للقمامة وصندوقا من الصابون ومنظف أولد داتش، ولكن أمي لم تدخل ذلك المطبخ من قبل، وقد هالها ما رأته بالفعل. فبدأت ترمي بالأشياء من الشرفة، ولكنها بعد فترة أدركت أنه لا جدوى من ذلك، فقالت: «إننا بحاجة لحفر حفرة ونضع كل ذلك فيها.» وجلست على الدرج واضعة عصا المقشة تحت ذقنها كما لو كانت إحدى ساحرات القصص الخيالية، وبدأت تضحك قائلة: «إذا لم أضحك فسوف أبكي، تخيلي لو أتت إلى هنا فلن تبقى أسبوعا، وسوف تعود إلى كيتشنر ولو سيرا على الأقدام، أو سوف تلقي بنفسها في النهر.»
نظفنا الطاولة ومقعدين وجزءا في منتصف الأرض بقوة، ومسحنا الموقد وأسقطنا بيوت العنكبوت من على المصباح. انتقيت باقة من زهور القضبان الذهبية ووضعتها في إبريق في منتصف المائدة.
قالت أمي: «لماذا نغسل النافذة ونجعل رؤية المزيد من الكوارث الموجودة بالداخل أسهل؟»
وعندما عدنا إلى المنزل قالت أمي: «حسنا، أظن أنني أتعاطف مع المرأة الآن.»
وبعد حلول الظلام، ألقى العم بيني المفاتيح على المائدة، ونظر إلينا نظرة من عاد إلى المنزل بعد رحلة طويلة لا يمكنه أن يقص علينا مغامراتها بصورة لائقة، مع أنه يعلم أن عليه أن يحاول.
تساءل أبي مشجعا: «هل تفاهمتما؟ هل تسببت لك السيارة في أية مشاكل؟» «كلا يا سيدي، لم تسبب السيارة أية مشاكل، خرجت عن الطريق مرة واحدة، ولكنني لم أكن قد ابتعدت عندما اكتشفت ما فعلته.» «هل نظرت في الخريطة التي أعطيتك إياها؟» «كلا، فقد رأيت سائق جرار وسألته وأرشدني للطريق العكسي.» «إذن وصلت إلى هناك بسهولة؟» «نعم بالفعل وصلت إلى هناك بسهولة.»
تدخلت أمي قائلة: «ظننت أنك سوف تحضر السيدة هووي معك لاحتساء فنجان من الشاي.» «إنها متعبة قليلا من الرحلة، وعليها أن تضع الطفلة في فراشها.»
فقالت أمي بأسى: «الطفلة! لقد نسيتها، أين ستنام؟» «سوف نجهز لها مكانا للنوم. أعتقد أن لدي مهدا في مكان ما وسوف أحاول وضع بعض الألواح الجديدة به.» وخلع قبعته كاشفا عن الخط الأحمر في جبهته التي تتصبب عرقا ثم قال: «كنت سأخبركم أنها لم تعد السيدة هووي بل أصبحت السيدة بول.» «حسنا، مبارك يا بيني. أتمنى لكما السعادة. يبدو أنك قد حسمت أمرك منذ اللحظة التي رأيتها فيها، أليس كذلك؟»
فضحك العم بيني ضحكة خافتة متوترة. «لقد كان الجميع هناك، كانوا قد أعدوا لحفل الزفاف قبل أن أصل هناك، كان القس هناك ينتظرني، وابتاعوا الخاتم واتفقوا مع أحدهم كي يحضر عقد الزواج في عجلة. لقد رأيت أنهم كانوا مستعدين وأعدوا كل شيء للزفاف. نعم يا سيدي، لم يغفلوا أمرا واحدا.» «إذن، أنت الآن رجل متزوج يا بيني.» «نعم بالفعل أنا رجل متزوج الآن.»
فقالت أمي بجرأة: «حسنا، عليك أن تحضر العروس كي ترانا.» وكان استخدامها لكلمة العروس مفاجئا؛ حيث استحضر في أذهاننا صورة الطرحة البيضاء الطويلة والورود والاحتفال، وهي صور لا تنطبق هنا. فأجاب العم بيني قائلا إنه سوف يفعل بالتأكيد، فور أن تلتقط أنفاسها بعد الرحلة، نعم سوف يحضرها بالطبع.
ولكنه لم يفعل، ولم تظهر مادلين قط. واعتقدت أمي أنه سوف يذهب لتناول العشاء في منزله، ولكنه ظل يأتي إلى مطبخ منزلنا كالعادة، فسألته قائلة: «كيف حال زوجتك؟ كيف تتدبر أمورها؟ هل تعرف كيف تتعامل مع هذا النوع من المواقد؟» وكان هو يجيب على كل التساؤلات بإيجاب غامض وهو يضحك ضحكة خافتة ويهز رأسه.
وفي المساء عندما أنهى عمله قال لي: «أترغبين في رؤية شيء جديد؟» «ماذا؟» «تعالي وسوف ترين.»
تبعته أنا وأوين عبر الحقول حتى استدار وأوقفنا عند حدود فناء منزله.
فقلت: «أوين يرغب في رؤية النمس.» «عليه أن ينتظر حتى وقت آخر، لا تقتربا أكثر من ذلك.»
وبعد قليل خرج من المنزل حاملا طفلة صغيرة، فأصبت بخيبة الأمل، فلم تكن سوى طفلة صغيرة. فأجلسها على الأرض، فانحنت وهي تتمايل والتقطت ريشة غراب.
قال العم بيني وهو يداعب الطفلة: «أخبرينا باسمك. ما اسمك؟ هل هو ديان؟ أخبري الطفلين باسمك.»
ولكنها لم تقل شيئا. «يمكنها أن تتحدث جيدا إذا أرادت، يمكنها أن تقول ماما وبيني وديان وأريد الماء، أليس كذلك؟ هل تريدين الماء؟»
خرجت فتاة ترتدي سترة حمراء إلى الشرفة. «تعال إلى هنا!»
هل كانت تنادي ديان أم العم بيني؟ كان صوتها يحمل نبرة تهديد، فحمل العم بيني الفتاة الصغيرة وقال لنا بهدوء: «من الأفضل لكما أن تنطلقا مسرعين إلى المنزل الآن، ويمكنكما الحضور لرؤية النمس في يوم آخر.» ثم اتجه إلى المنزل.
وفي يوم آخر، رأيناها من مسافة ترتدي نفس السترة الحمراء في طريقها إلى متجر باكلز. كانت يداها في جيوب سترتها ورأسها محنيا، وساقاها الطويلتان تتقاطعان كالمقص. وقابلتها أمي أخيرا في المتجر، وفعلت ذلك عن عمد، فقد رأت العم بيني بالخارج يحمل ديان وسألته عما يفعل هناك، فأجاب: «إننا ننتظر والدتها.»
فدخلت أمي إلى المتجر وذهبت إلى حيث كانت الفتاة تقف لسداد الحساب، بينما كان تشارلز باكل يكتب لها الفاتورة.
وقدمت نفسها قائلة: «لا بد أنك السيدة بول.»
لم تقل الفتاة شيئا، ولكنها نظرت إلى أمي، وكانت قد سمعت ما قالته، ولكنها لم تنبس ببنت شفة، فنظر تشارلي باكل إلى أمي. «أعتقد أنك كنت مشغولة بالاستقرار في المنزل الجديد، عليك أن تأتي لزيارتي متى تشائين.» «إنني لا أسير على الطرق المفروشة بالحصى ما لم أكن مضطرة لذلك.»
فقالت أمي: «يمكنك أن تأتي عبر الحقل.» ولكنها لم تقل ذلك إلا لأنها لم ترغب في مغادرة المكان قبل أن تجعل الكلمة الأخيرة لها، وليس لهذه الفتاة.
قالت لوالدي: «إنها طفلة، لا يتعدى عمرها سبعة عشر عاما، لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك، وترتدي نظارة طبية، وشديدة النحافة. إنها ليست حمقاء، وليس هذا هو ما دفعهم للتخلص منها، ولكنها ربما تعاني من اضطراب عقلي ما أو على شفا ذلك. مسكين أنت يا بيني. ولكنها قد أتت لتعيش في المكان المناسب، فسوف تتلاءم مع طريق فلاتس.»
وكانت قد بدأت تصبح معروفة بالفعل؛ فقد طاردت إيرين بولوكس في فناء منزلها وعلى الدرج أيضا وجعلتها تركع على ركبتيها، وأمسكتها من شعرها الأبيض بكلتا يديها. هذا ما يردده الناس. لذا قالت أمي: «لا تذهبا إلى هناك، دعكما من النمس، فلست أرغب في أن يتشوه أحدكما.»
ولكنني مع ذلك ذهبت، ولم أصطحب أوين معي لأنه سوف يخبر أمي. ظننت أنني سوف أقرع الباب وأسأل بطريقة مهذبة عما إذا كان بإمكاني قراءة الصحف في الشرفة، ولكن قبل أن أصل إلى الدرج فتح الباب وخرجت مادلين وفي يدها رافعة غطاء الموقد. ربما كانت ترفع غطاء الموقد عندما سمعتني، وربما لم تكن تحمله عن قصد، ولكنني لم أر فيه شيئا سوى أنه سلاح.
نظرت إلي لحظة، وكان وجهها يشبه وجه ديان: نحيلا وأبيض اللون وغامضا. لم يكن غضبها فوريا، بل كانت تحتاج بعض الوقت كي تتذكره، كي تستجمع قواها. فلم يكن ثمة احتمال آخر منذ اللحظة التي رأتني فيها سوى الغضب، إما هذا وإما الصمت، تلك هي الخيارات الوحيدة التي كانت لديها. «ما الذي أتيت لتتجسسي عليه هنا؟ ما الذي أتيت لتتجسسي عليه حول منزلي؟ من الأفضل لك أن تخرجي من هنا.» وبدأت تهبط الدرج ببطء، فتراجعت من أمامها بالسرعة المطلوبة وأنا أحدق فيها بذهول. وتابعت هي: «إنك متطفلة صغيرة حقيرة، جاسوسة متطفلة صغيرة حقيرة، جاسوسة متطفلة صغيرة حقيرة، أليس كذلك؟» لم يكن شعرها القصير مصففا، وكانت ترتدي فستانا قطنيا ممزقا على جسدها الصغير المستوي. كان عنفها يبدو مقصودا متكلفا بصورة مسرحية؛ كمشهد ترغب في البقاء لرؤيته كما لو كان عرضا، غير أنه لم يكن ثمة شك في أنها عندما رفعت رافعة غطاء الموقد فوق رأسها أنها كانت على استعداد لتحطيمه على رأسي إذا أرادت ذلك؛ أي إذا شعرت أن المشهد يتطلب ذلك. فكرت في نفسي أنها تشاهد نفسها، وقد تتوقف في أية لحظة وتعود إلى حالة الخواء أو تتفاخر كطفلة قائلة: «أرأيت كيف أخفتك؟ لم تكتشفي أنني أمازحك، أليس كذلك؟»
تمنيت لو كان بوسعي أن أخبرهم بهذا المشهد في المنزل، فقد تناقل الناس في كل أرجاء القرية قصص مادلين. ذات مرة، حدث شيء ما أزعجها في المتجر، فقذفت علبة من الفوط الصحية في وجه تشارلي باكل (من حسن حظه أنها لم تكن تحمل علبة من شراب الذرة!) وعاش العم بيني في عاصفة من السباب يمكنك سماعها من الطريق، فكان الناس يقولون له: «لقد جلبت لنفسك امرأة صعبة المراس يا بيني، أليس كذلك؟» فيضحك هو ضحكة خافتة ويهز رأسه خجلا كما لو كان يتلقى التهنئة. وبعد فترة، بدأ يروي قصصا عنها هو أيضا، فقد قذفت الإبريق من النافذة لأنها لم تجد به مياه، وأخذت المقص وقطعت الحلة الخضراء التي لم يلبسها سوى مرة واحدة يوم زفافه، ولم يكن يعلم وجه اعتراضها عليها. وقالت إنها سوف تضرم النيران في المنزل لأنه أحضر لها النوع غير المناسب من السجائر. «هل تظن أنها تتناول الخمر يا بيني؟» «كلا، فلم أحضر أي زجاجات خمر إلى المنزل، وكيف يمكنها أن تحصل على زجاجة وحدها؟ كما أنني كنت سأشم رائحة الخمر بها.» «وهل اقتربت منها بما يكفي كي تشم رائحة الخمر يا بيني.»
فخفض بيني رأسه وهو يضحك ضحكة خافتة. «هل تقترب منها إلى هذا الحد يا بيني؟ أراهنك على أنها تقاوم بقوة قطيع من القطط البرية، عليك أن تقيدها ذات مرة وهي نائمة.»
عندما كان العم بيني يأتي إلى منزلنا كي يقوم بسلخ الفراء، كان يصطحب معه ديان. كان هو وأبي يعملان في قبو المنزل، يسلخان فراء الثعالب ويقلبان الجلد إلى الخارج ويضعانها على الألواح الطويلة كي تجف. كانت ديان تتسلق درجات القبو صعودا وهبوطا أو تجلس على الدرجة العليا تشاهدهما يعملان. لم تكن تحدث أحدا سوى العم بيني، وكانت تشك في الألعاب والكعك واللبن وأي شيء نقدمه لها، ولكنها لم تكن تنتحب أو تبك قط. وإذا لمستها أو عانقتها كانت تستسلم بحذر وجسدها يرتعش قليلا من الخوف وقلبها يدق بقوة كطائر أمسكت به في يدك، ولكنها كانت ترقد على ساقي العم بيني أو تستغرق في النوم على كتفه وهي ملتوية كالمكرونة الإسباجتي. وكانت يده تغطي الكدمات الموجودة على ساقيها. «إنها تتجول دائما وتصطدم بالأشياء في منزلي، فلدي أشياء كثيرة، وهي دائما ما تصطدم بالأشياء أو تتسلق فوقها وتسقط.»
في بداية الربيع، وقبل أن يذوب الثلج تماما، أتى إلى منزلنا ذات يوم كي يخبرنا بأن مادلين قد رحلت، فعندما عاد إلى المنزل في تلك الليلة - في الليلة السابقة - كانت قد رحلت. ظن أنها قد تكون في جوبيلي وانتظر عودتها، ولكنه لاحظ أن بعض الأشياء قد اختفت أيضا، مثل مصباح طاولة كان ينوي تغيير أسلاكه، وسجادة صغيرة جميلة، وبعض الأطباق، وإبريق شاي أزرق كان ملكا لوالدته، ومقعدين قابلين للطي في حالة ممتازة. وبالطبع، أخذت ديان أيضا. «لا بد أنها قد رحلت في شاحنة، فلا يمكنها أن تضع كل ذلك في سيارة.»
ثم تذكرت أمي أنها قد رأت شاحنة صغيرة تعتقد أنها رمادية اللون تتجه نحو المدينة في حوالي الثالثة من عصر اليوم السابق، ولكنها لم تهتم أو تلاحظ من كان فيها. «شاحنة رمادية صغيرة! لا بد أنها هي! وقد وضعت الأشياء في الخلف. هل كان بها شبكة فوقها؟ هل رأيت ذلك؟»
ولكن أمي لم تلاحظ شيئا.
فقال العم بيني متحمسا: «علي أن أتبعها، فلا يمكنها أن ترحل هكذا حاملة أشياء ليست ملكها، وكانت تقول لي دائما أبعد هذه النفايات من هنا، تخلص من هذه النفايات! لكن يبدو أنها لم ترها كنفايات عندما رغبت في أخذ بعضها لنفسها. ولكن المشكلة الوحيدة تكمن في كيفية معرفة مكانها، من الأفضل أن أتصل بشقيقها ذاك.»
وبعد حلول السابعة عندما انخفضت أسعار المكالمات، قام والدي باتصال لمدينة أخرى من هاتفنا - فلم يكن العم بيني يملك هاتفا - إلى شقيق مادلين، ثم ترك السماعة للعم بيني.
صرخ العم بيني في الحال عبر الهاتف: «هل أتت إلى منزلك؟ لقد رحلت في شاحنة، رحلت في شاحنة رمادية صغيرة. فهل أتت عندك؟» لكن يبدو أنه كان ثمة ارتباك في الجانب الآخر من الخط، ربما كان العم بيني يصرخ بصوت أعلى من أن يسمعه أحد، فاضطر والدي أن يأخذ سماعة الهاتف ويشرح ما حدث بصبر، واتضح أن مادلين لم تذهب إلى كيتشنر، ولم يهتم شقيقها كثيرا بأن يعلم أين ذهبت، وأنهى الاتصال دون أن يقول وداعا.
أخذ أبي يحاول إقناع العم بيني بأن التخلص من مادلين ليس أمرا سيئا في نهاية المطاف، وأوضح له أنها لم تكن مديرة منزل جيدة ولم تجعل حياته مريحة وهادئة. وأخذ يفعل ذلك بطريقة دبلوماسية دون أن يغفل أنه يتحدث عن زوجته، فلم يشر إلى افتقارها للجمال أو إلى ثيابها القذرة، وأما عن الأشياء التي أخذتها - أو سرقتها كما يقول العم بيني - فهذا أمر سيئ ومخز لا شك (كان لوالدي ما يكفي من الحكمة بحيث لا يشير إلى أن تلك الأشياء لم تكن ذات قيمة)، ولكن ربما كان ذلك ثمن التخلص منها، وعلى المدى الطويل قد يكتشف العم بيني أنه كان محظوظا.
قالت أمي فجأة: «ليس الأمر كذلك، إنها الفتاة الصغيرة ديان.»
فضحك العم بيني ضحكة خافتة بائسة.
فصاحت أمي في نبرة فهم وانزعاج مفاجئين: «إن أمها تضربها، أليس كذلك؟ هذا هو الأمر، هذا هو تفسير الإصابات على ساقيها ...»
وبمجرد أن بدأ العم بيني ضحكاته الخافتة، لم يستطع التوقف، فكانت ضحكاته كالفواق. «حسنا، نعم بالفعل إنها ...» «لم لم تخبرنا عندما كانت هنا؟ لم لم تخبرنا في الشتاء الماضي؟ لم لم يخطر ببالي ذلك الأمر؟ لو كنت أعلم الحقيقة كنت سأبلغ عنها ...»
فنظر العم بيني مفزوعا. «تبلغين الشرطة عنها! كان ذلك سيتسبب في توجيه اتهامات، وقد تؤخذ منا الفتاة. ولكن ما علينا أن نفعله الآن هو أن نجعل الشرطة تبحث عنها وسوف يجدونها، لا داعي للخوف.»
لم يبد العم بيني سعيدا أو مرتاحا لذلك التأكيد، فقال بتعقل: «كيف ستعلم الشرطة أين تبحث؟» «الشرطة الإقليمية سوف تعلم. يمكنهم العمل على نطاق المقاطعة أو الدولة إذا لزم الأمر، وسوف يجدونها.»
فقال أبي: «مهلا، مهلا، ما الذي يجعلك تعتقدين أن الشرطة مستعدة للقيام بذلك؟ إنهم لا يقتفون أثر أحد بتلك الطريقة سوى المجرمين.» «وماذا تسمي امرأة تضرب طفلة غير أنها مجرمة؟» «يجب أن تكون هناك قضية وشهود، إذا كنت ستبلغين عن الأمر علانية هكذا يجب أن يكون لديك دليل.» «بيني هو الشاهد، وسوف يخبرهم، سوف يشهد ضدها.» والتفتت أمي نحو العم بيني الذي عاودته نوبة الفواق، وقال بصوت ينم عن الحيرة وكأنه لا يستطيع استيعاب الأمر: «ما معنى هذا، ماذا عساي أن أفعل؟»
فقال أبي: «كفى حديثا في هذا الأمر اليوم، سوف ننتظر ونرى.»
هبت أمي واقفة وهي تشعر بالانزعاج والارتباك، ولكن كان عليها أن تقول شيئا واحدا آخر، فقالت ما يعلمه الجميع. «لست أدري لم التردد، فكل شيء واضح وضوح الشمس بالنسبة لي.»
ولكن ما كان واضحا وضوح الشمس بالنسبة لأمي كان غامضا ومخيفا بالنسبة للعم بيني، وكان من المستحيل الجزم بما إذا كان خائفا من الشرطة أم من المظهر العام والرسمي الذي سينتج عن تلك الخطة، وما سينتشر حولها من أحاديث، والأماكن الغريبة التي سوف تأخذه إليها. ولكن أيا كان فقد انهار مصدوما، ولم يتحدث عن مادلين وديان بعد ذلك.
ما الذي يمكن فعله؟ فكرت أمي مليا في التصرف بنفسها، ولكن أبي أخبرها: «سوف تقعين في مشاكل من البداية إذا تدخلت في حياة عائلات الآخرين.» «مهما يكن، أعلم أنني على حق.» «قد تكونين على حق، ولكن هذا لا يعني أن بيدك ما تفعلينه حيال هذا الأمر.»
في هذا الوقت من العام، تضع الثعالب صغارها، وإذا حلقت إحدى طائرات كلية التدريب التابعة للقوات الجوية الموجودة بجوار البحيرة على ارتفاع منخفض، أو إذا ظهر شخص غريب بجوار الحظائر، أو إذا وقع أي حدث مزعج أو مخيف؛ فقد تقرر قتل صغارها. ولا يعلم أحد ما إذا كانت الثعالب تفعل ذلك بدافع الغضب الأعمى أم أنها غريزة الأمومة اليقظة المذعورة. هل يمكن أن يكون ذلك بدافع أنها ترغب في إبعاد صغارها الذين لم يفتحوا أعينهم بعد عن الخطر الذي تظن الأمهات أنهن جلبن صغارهن إليه في هذه الحظائر؟ لم تكن الثعالب كالحيوانات المستأنسة؛ إذ إنها لم تعش في الأسر إلا منذ بضعة أجيال.
ولكي يقنع أمي، قال أبي إن مادلين قد تكون ذهبت إلى الولايات المتحدة حيث لا يمكن أن يجدها أحد، فالعديد من الأشخاص الفاسدين والمجانين - بالإضافة إلى الطموحين ومن لا يروق لهم الاستقرار - يذهبون إلى هناك في نهاية الأمر.
ولكن مادلين لم تذهب إلى هناك؛ ففي وقت لاحق في الربيع وصل منها خطاب. كان لديها الجرأة كي ترسل خطابا، كما قال العم بيني الذي أحضر الخطاب وأرانا إياه. وجاء في الخطاب، بلا أي تحية: «لقد تركت سترتي الصفراء ومظلة خضراء وبطانية ديان في منزلك، أرسلهم إلي على هذا العنوان: 1249 شارع ريدليت، تورونتو، أونتاريو.»
كان العم بيني قد قرر بالفعل أنه سوف يذهب إلى هناك وطلب اقتراض السيارة. ولم يكن قد ذهب إلى تورونتو من قبل، وعلى طاولة المطبخ بسط أبي خريطة الطريق ليريه كيف يصل إلى هناك، مع أنه تساءل عما إذا كانت الفكرة برمتها فكرة سديدة. قال العم بيني إنه ينوي إحضار ديان معه، ولكن أمي وأبي أوضحا له أن هذا غير قانوني ونصحاه بألا يفعل، ولكن العم بيني - الذي كان شديد الخوف من اتخاذ أي إجراء قانوني رسمي - لم يكن قلقا على الإطلاق من القيام بما قد يتحول إلى عملية اختطاف. وبدأ يروي لنا ما كانت تفعله مادلين: كانت تربط ساقي ديان في ألواح الفراش بأحزمة جلدية، وكانت توسعها ضربا بعصا خشبية، وربما تكون فعلت ما هو أسوأ عندما لم يكن موجودا بالمنزل؛ إذ كان يعتقد أن هناك علامات للمسعر على ظهر الطفلة. وبينما كان يقص علينا كل ذلك تملكت منه ضحكته الخافتة الاعتذارية، وكان عليه أن يهز رأسه ويبتلعها.
تغيب العم بيني مدة يومين، وفتح أبي أخبار الساعة العاشرة قائلا: «حسنا، علينا أن نرى ما إذا كان بيني العجوز قد ألقي القبض عليه!» وفي مساء اليوم الثاني، وصل العم بيني بالسيارة إلى فناء منزلنا وجلس هناك لحظة دون أن ينظر إلينا، ثم خرج ببطء وسار بوقار وإعياء نحو المنزل. لم تكن ديان معه. هل توقعنا أن يأتي بها؟
كنا نجلس على الرصيف الإسمنتي الذي يقع خارج باب المطبخ، وكانت أمي تجلس على الكرسي القماشي المائل الظهر الخاص بها، كي يذكرها بمروج الحضر وكيفية قضاء وقت الفراغ هناك، وكان أبي يجلس على أحد مقاعد المطبخ المستقيمة الظهر. لم يكن هناك سوى القليل من الحشرات في هذا الوقت المبكر من الموسم، وكنا نتأمل الغروب. كانت أمي أحيانا تجمعنا كلنا كي نتأمل الغروب كما لو كان حدثا قد رتبت هي له، وهو ما كان يفسد جمال الحدث قليلا - وبعد وهلة كنت أرفض تأمل المنظر تماما - ولكن على أية حال لم يكن ثمة مكان أفضل في العالم لمشاهدة الغروب من نهاية طريق فلاتس. حتى أمي نفسها أقرت بذلك.
كان أبي قد ثبت الباب السلكي في ذلك اليوم، وكان أوين يتأرجح فوقه متحديا الأوامر كي يسمع الصوت المألوف للزنبرك وهو يتمدد ثم يعود بحركة مفاجئة إلى مكانه. ويأمره والداي بأن يتوقف وألا يفعل ذلك، ولكنه يعود ويفعلها مرة أخرى بحذر شديد من ورائهما.
كانت هالة من الكآبة تحيط بالعم بيني، حتى إن أمي نفسها لم تتمكن من سؤاله مباشرة، وطلب مني أبي بصوت منخفض أن أحضر مقعدا من المطبخ. «اجلس يا بيني. هل أنت منهك القوى من القيادة؟ كيف كان أداء السيارة؟» «كانت جيدة.»
جلس العم بيني ولم يخلع قبعته، بل جلس متصلبا كما لو كان في مكان غريب لا يتوقع فيه الترحيب أو حتى يتمناه. وأخيرا، كسرت أمي حاجز الصمت وتحدثت إليه في نبرة أرغمتها على أن تخرج عادية ومبتهجة. «حسنا، هل تسكن هي وابنتها في منزل أم في شقة؟»
فقال العم بيني على مضض: «لست أدري.» وبعد قليل أضاف: «فلم أعثر على منزلهما قط.» «لم تجد منزلهما؟»
فهز رأسه نافيا. «إذن، فلم ترهما؟» «كلا، لم أرهما.» «هل فقدت العنوان؟» «كلا، فقد كتبته على هذه الورقة التي أحتفظ بها هنا.» وأخرج محفظته من جيبه وأخرج منها قصاصة من الورق أراها لنا، وقرأ ما بها: «1249 شارع ريدليت»، ثم طواها وأعادها إلى جيبه. بدت كل حركاته بطيئة رسمية تملؤها الحسرة. «لم أتمكن من العثور عليه، لم أتمكن من العثور على المكان.» «ولكن هل حصلت على خريطة للمدينة؟ أتذكر لقد قلنا إن عليك الذهاب إلى محطة بنزين وطلب خريطة لمدينة تورونتو.»
فقال العم بيني بنوع من الانتصار الذي يملؤه الأسى: «لقد فعلت ذلك بالطبع، ذهبت إلى محطة بنزين وطلبت منهم الخريطة، فقالوا إنهم ليس لديهم خرائط إلا للمقاطعة.» «ولكنك تملك خريطة للمقاطعة بالفعل.» «أخبرتهم بذلك، وقلت لهم إنني أريد خريطة لمدينة تورونتو، ولكنهم قالوا إنه لا خرائط لديهم.» «ألم تسأل في محطة بنزين أخرى؟» «إذا لم تكن موجودة في إحدى المحطات، تصورت أنني لن أجدها في أية محطة أخرى.» «كان بإمكانك أن تشتري واحدة من المتجر.» «لم أعرف أي نوع من المتاجر أتوجه إليه.» «متجر الأدوات المكتبية! متجر متعدد الأقسام! كان بإمكانك أن تسأل في محطة البنزين من أين تحصل على واحدة.» «تصورت أنه بدلا من التجول في المكان محاولا العثور على خريطة، من الأفضل أن أسأل الناس كي يرشدوني للوصول إلى هناك بما أن معي العنوان بالفعل.» «من المخاطرة الاعتماد على سؤال الناس.»
فقال العم بيني: «لقد أدركت ذلك.»
وعندما تمالك نفسه بدأ يروي ما حدث له. «في بادئ الأمر سألت أحدهم فأرشدني إلى عبور ذلك الجسر، ففعلت ذلك حتى وصلت إلى إشارة حمراء وكان من المفترض أن أتجه إلى اليسار كما أخبرني، ولكنني عندما وصلت إلى هناك اختلط علي الأمر، فلم أعلم ما إذا كان علي أن أتجه إلى اليسار عندما تكون الإشارة الحمراء أمامي أم الإشارة الخضراء.»
فصاحت أمي بإحباط: «بل تتجه إلى اليسار عند الإشارة الخضراء، فإذا اتجهت إلى اليسار عند الإشارة الحمراء سوف تسير عكس اتجاه المرور أمامك.» «نعم أعلم ذلك، ولكنني إذا اتجهت إلى اليسار عند الإشارة الخضراء، فسوف أسير عكس اتجاه المرور القادم في وجهي.» «عليك أن تنتظر حتى يسمحوا لك بالمرور.» «إذن فسوف أنتظر طوال اليوم ولن يسمحوا لي بالمرور، وهكذا لم أعلم ماذا علي أن أفعل، فجلست هناك محاولا اتخاذ قرار حتى بدأت السيارات خلفي تطلق نفيرها، فقررت أن أتجه يمينا، فيمكنني القيام بذلك بلا مشاكل، ثم أستدير وأعود من حيث أتيت وهكذا سأكون أسير على الطريق الصحيح، ولكنني لم أر أي مكان يمكنني الالتفاف والعودة منه فظللت أمضي قدما، ثم انحرفت في شارع به مفترق طرق، وظللت أقود حتى خطر لي أنني قد فقدت المسار الذي أخبرني به الشخص الأول تماما، وهكذا يمكنني أن أسأل شخصا آخر. فتوقفت وسألت سيدة تسير مصطحبة كلبا تربطه بسلسلة، ولكنها أجابتني بأنها لم تسمع عن شارع ريدليت هذا، لم تسمع عنه قط، وقالت إنها تعيش في تورونتو منذ اثنين وعشرين عاما، ثم نادت صبيا يركب دراجته فوجدته قد سمع عن ذلك الشارع، وأخبرني بأنه في الناحية الأخرى من المدينة وأنني أتجه إلى خارج المدينة. ولكنني ظننت أنه من الأيسر الالتفاف حول المدينة بدلا من المرور عبرها، حتى ولو استغرق الأمر وقتا أطول، وظللت في نفس طريقي الذي بدا لي دائريا، وعندئذ أدركت أن الظلام قد بدأ يحل، وخطر لي أنه من الأفضل أن أتحرك حتى أجد هذا المكان قبل حلول الظلام؛ لأنني لن أحب القيادة هنا في الظلام لحظة واحدة ...»
انتهى به الأمر نائما في السيارة على جانب الطريق خارج فناء أحد المصانع. كان قد ضل الطريق وسط المصانع والطرق المسدودة والمستودعات ومخازن الخردة والسكك الحديدية، وظل يصف لنا كل منعطف قام به وكل شخص سأله عن الاتجاهات، وأخبرنا بما قاله كل منهم وما خطر له وقتها، والبدائل التي فكر بها، ولم قرر في كل حالة أن يفعل ما فعل. كان يتذكر كل شيء، كما لو كانت خريطة الرحلة قد طبعت في ذهنه. وبينما كان يتحدث، كانت ملامح مشهد مختلف ترتسم أمامنا؛ مشهد من السيارات ولوحات الإعلانات والمصانع والطرق والبوابات المغلقة والأسياج السلكية المرتفعة والسكك الحديدية وأكوام شاهقة الارتفاع من خبث الفرن، وأكواخ الصفيح والمصارف التي تحتوي على مياه ضحلة بنية اللون، بالإضافة إلى علب الصفيح وصناديق الورق المقوى الممزقة، وكل أنواع النفايات الثقيلة أو - بالكاد - الطافية، ارتسم هذا المشهد حولنا بريشة صوته الرتيب الذي يتذكر التفاصيل بدقة، فرأينا كل شيء، رأينا كيف يبدو أن تضل الطريق هناك، وكيف يستحيل العثور على أي شيء أو الاستمرار في البحث.
ومع ذلك فقد اعترضت أمي قائلة: «ولكن هكذا تبدو المدن! ولذلك يجب أن يكون معك خريطة!»
فتابع العم بيني كما لو أنه لم يسمعها: «استيقظت هناك هذا الصباح، وأدركت أن أفضل ما أفعله هو الرحيل لأي مكان أستطيع الوصول إليه.»
فتنهد أبي وأومأ برأسه موافقا أن هذا صحيح.
وهكذا، بدا عالم العم بيني بجوار عالمنا كما لو كان انعكاسا مشوها مزعجا، نفس العالم ولكنه ليس هو إطلاقا. في ذلك العالم قد يغوص الناس في بحر من الرمال المتحركة، وتهزمهم الأشباح أو المدن العادية المروعة، وكل من الحظ والشر عملاق ضخم لا يمكن التنبؤ به، ولا شيء مستحق، فقد يحدث أي شيء، وكانت الهزائم تقابل برضا لا يخلو من الجنون. وكان انتصاره - الذي لا يعلم عنه شيئا - هو أنه جعلنا نرى.
كان أوين يتأرجح على الباب الشبكي وهو يغني بطريقة ازدرائية حذرة كما يفعل عادة في المناقشات الطويلة:
يا أرض الأمل والمجد
يا أم الأحرار
كيف لنا أن نبتزك
نحن أبناؤك؟
كنت قد علمته تلك الأغنية، ففي ذلك العام كنا نغني تلك الأغاني كل يوم في المدرسة كي نساعد في إنقاذ إنجلترا من يد هتلر. وقالت أمي إنها «نمجدك» لا «نبتزك»، ولكنني لم أصدق ذلك، فكيف تستقيم القافية هكذا؟
جلست أمي في مقعدها القماشي وجلس أبي في مقعده الخشبي دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر، ولكن كانت ثمة صلة بينهما، وكانت تلك الصلة واضحة كما لو كانت سياجا؛ كانت صلة بيننا وبين العم بيني؛ صلة بيننا وبين طريق فلاتس؛ صلة تبقى بيننا وبين كل شيء. كان الأمر نفسه كما يحدث أحيانا في الشتاء عندما يوزعان أوراق اللعب، ويجلسان إلى طاولة المطبخ ويلعبان في انتظار أخبار العاشرة بعد أن نكون قد خلدنا إلى النوم بالطابق العلوي، والطابق العلوي يبدو على بعد أميال منهما، فهو مظلم تملؤه أصوات الرياح. وهناك بالأعلى تكتشف ما لم تتذكره بالأسفل في المطبخ قط، أننا نعيش في منزل صغير صامت مثل زورق في البحر في وسط موجة من الجو العاصف. ويبدو كما لو أنهما يتحدثان ويلعبان الورق على بعد مسافة بعيدة في بؤرة ضوء ضئيلة لا صلة لها بما حولها؛ غير أن هذا التفكير - الممل كالفواق والمألوف كأصوات الأنفاس - فيهما هو ما كان يشغلني، ما كان يومض لي من قاع البئر وأنا أشد رحالي إلى عالم الأحلام.
لم يتلق العم بيني أي خطابات من مادلين مرة أخرى، أو حتى إذا كان قد تلقى فإنه لم يذكرها مرة أخرى. وعندما كان يسأله أحد أو يضايقه بشأنها، كان يبدو أنه يتذكرها بلا أسى مع لمحة من الازدراء لكونها شيئا - أو شخصا - مهملا منذ فترة طويلة كالسلاحف.
وبعد فترة، كنا نضحك جميعا ونحن نتذكر مادلين وهي تقطع الطريق، مرتدية سترتها الحمراء وساقاها تتقاطعان كالمقص وهي تكيل السباب للعم بيني، الذي يتبعها حاملا ابنتها. كنا نضحك متذكرين كيف كانت تسيء التصرف وما فعلته بإيرين بولوكس وتشارلي باكل. وقالت أمي في نهاية الأمر، كي تريح نفسها، إن العم بيني ربما يكون قد اختلق أمر الضرب ذاك، فكيف يمكن الوثوق به؟ وكانت مادلين نفسها تبدو كما لو كانت شيئا اختلقه؛ فكنا نتذكرها كقصة فحسب، ولما لم يكن لدينا ما نقوله ، لم نملك سوى هتاف غريب قاس جاء متأخرا: «مادلين! تلك المرأة المجنونة!»
ورثة الجسد الحي
كان اسم المنزل الذي يقع في جنكينز بيند هو ذاك الاسم المطبوع على لافتة من صنع العم كريج تتدلى من الشرفة الأمامية بين راية حمراء والعلم البريطاني. بدا المنزل كما لو كان مركز تجنيد أو نقطة عبور على الحدود، فقد كان يوما ما مكتب بريد، ولا يزال يحتفظ بتلك الهيئة الرسمية شبه العامة؛ وذلك لأن العم كريج كان كاتب بلدة فيرمايل، وكان الناس يقصدونه للحصول على تصاريح الزواج وغيرها من أنواع التصاريح، وكان مجلس البلدة يجتمع في عرينه أو مكتبه، الذي كان يضم خزانات للملفات وأريكة جلدية سوداء، ومكتبا ضخما ذا غطاء متحرك وأعلاما أخرى، وصورة للآباء المؤسسين للاتحاد الكونفدرالي، وأخرى للملك والملكة والأميرات الصغيرات في ثياب حفل التتويج الفاخرة. وثمة صورة أخرى محاطة بإطار لمنزل خشبي كان يقع مكان هذا المنزل الكبير الجذاب المصنوع من الطوب العادي. وكانت تلك الصورة تبدو كما لو أنها تنتمي لبلد آخر، كل شيء بها أقل ارتفاعا ووضوحا وأكثر ظلمة من هنا. وقد نما حول المباني دغل ضبابي يعج بالعديد من النباتات دائمة الخضرة مدببة الأطراف، وكان الطريق الظاهر في الصورة من الأمام مصنوعا من جذوع الأشجار المرصوصة. «إنه ما يطلق عليه طريق مرصوف بجذوع الأشجار.» قالها العم كريج لي في لهجة توجيهية.
كنا نتطلع إلى صورة تضم العديد من الرجال الذين يرتدون قمصانا، ويزين وجوههم شوارب متدلية، وترتسم على وجوههم تعبيرات حادة، ولكنها في الوقت نفسه توحي بقلة الحيلة، وكانوا يقفون حول حصان وعربة، وكنت أنا قد ارتكبت خطأ سؤال العم كريج عما إذا كان في الصورة.
فقال: «ظننت أنك تعرفين القراءة.» وأشار إلى التاريخ المكتوب تحت عجلات العربة: 10 يونيو 1860، واستأنف: «حتى والدي لم يكن حينها رجلا بالغا، ها هو ذا خلف رأس الحصان، ولم يتزوج حتى عام 1875، وولدت أنا عام 1882. هل يجيب هذا على سؤالك؟»
لقد استاء مني، لا بسبب أي تفاهات بشأن عمره، وإنما بسبب أفكاري غير الدقيقة عن الزمن والتاريخ، وتابع بصرامة: «عندما ولدت، كانت كل تلك الشجيرات التي ترينها في الصورة قد اختفت، وكان ذلك الطريق أيضا اختفى، وحل محله طريق مفروش بالحصى.»
كانت إحدى عينيه قد أصيبت بالعمى، وخضع لعملية جراحية فيها، ولكنها ظلت معتمة عليها غشاوة، وكان جفن تلك العين متدليا بصورة مخيفة، وكان وجهه مربعا مرتخيا وجسده ممتلئا. وكان ثمة صورة أخرى لا في غرفته، بل في الغرفة الأمامية في الجانب الآخر من الردهة، يظهر فيها العم كريج ممددا على بساط أمام والديه العجوزين الجالسين، وكان آنذاك مراهقا بدينا، أشقر الشعر، يرتسم على وجهه ملامح الرضا عن النفس ويتمدد مرتكزا برأسه على مرفقه. وجلست العمة جريس والعمة إلسبيث شقيقتاه الصغيرتان على وسادات عند رأسه وقدميه، وهما ترتديان فساتين البحارة، ويغطي جبهتيهما القليل من الشعر المنسدل المجعد. وكان جدي لوالدي - الذي توفي بمرض الأنفلونزا عام 1918 - يقف خلف مقعد الوالدين ومعه على جانب العمة مويرا (التي كانت رشيقة حينها!) التي تعيش في بورترفيلد، وعلى الجانب الآخر العمة هيلين التي تزوجت من أرمل وطافت حول العالم، وتعيش الآن حياة الأثرياء في بريتيش كولومبيا. وكانت العمة إلسبيث أو العمة جريس تقول وهي تنفض الغبار عن الصورة: «انظري إلى عمك كريج! ألا يبدو مغترا بنفسه كالقطة التي انتهت من لعق القشدة كلها؟» كانتا تتحدثان عنه كما لو كان لا يزال نفس الصبي الممدد في غطرسة خادعة تدللانه وتسخران منه.
كان العم كريج يحب نثر المعلومات، والتي كنت أجد بعضها مشوقا والبعض الآخر لا. فكنت أود أن أسمع عن ملابسات تسمية جنكينز بيند بهذا الاسم على اسم شاب لقي مصرعه بعد أن سقطت عليه شجرة على مقربة من هنا، وهو شاب لم يكن قد مر على وجوده في تلك البلدة سوى أقل من شهر. وقد أطلق جد العم كريج - أي جدي الأكبر الذي كان يبني منزله هنا ويفتتح مكتب البريد وينشئ مدينة تمنى أن تصبح مدينة مهمة يوما ما، وآمن بذلك في أعماقه - اسم هذا الشاب على المدينة، فبأي شيء آخر كان الناس سيتذكرون هذا الشاب الأعزب؟ «أين لقي مصرعه؟» «على مقربة من هنا، على بعد أقل من ربع ميل.» «أيمكنني أن أرى المكان؟» «لا توجد علامة مميزة تحدده، فليس هذا هو نوع الأشياء الذي يضعون علامة لتحديده.»
نظر إلي العم كريج باستنكار، فلم يكن الفضول من الأشياء التي تؤثر فيه، وغالبا ما كان يعتبرني طائشة وغبية، ولكنني لم آبه كثيرا لهذا؛ فقد كان ثمة شيء عام وموضوعي بشأن حكمه علي جعلني أشعر بالحرية، وهو نفسه لم يكن يؤذيه أو ينتقص منه أنني لست أهلا لتوقعاته، رغم أنه كان يشير إلى هذا. وهذا هو الفرق الكبير بين أن أخيب ظنه وأن أخيب ظن أمي أو حتى عماتي. ولكن طابع حب الذات الذكوري ذاك هو ما جعل التواجد معه أمرا مريحا.
والنوع الآخر من المعلومات التي أعطاني إياها تتعلق بالتاريخ السياسي لمقاطعة واواناش، وولاء العائلات الكبرى، والعلاقات بين الناس، وما حدث في الانتخابات. كان أول شخص أعرفه يؤمن حقا بعالم الأحداث العامة والسياسة، ولا يشك في أنه جزء من تلك الأشياء. ورغم أن والدي كانا يستمعان دائما للأخبار ويشعران بالإحباط أو بالراحة مما يسمعان (وغالبا ما يشعران بالإحباط، لأننا كنا في بداية الحرب)؛ كان يخالجني الشعور بأنه بالنسبة لهم - كما هو الحال بالنسبة لي - كل ما يحدث في العالم خارج عن نطاق سيطرتنا، أحداث خيالية ولكنها مأساوية. أما العم كريج، فلم يكن يشعر بالخوف؛ فقد كان يرى صلة بسيطة بين نفسه وهو يتولى شئون البلدة - مهما كانت مزعجة في الغالب - وبين رئيس الوزراء في أوتاوا وهو يتولى شئون البلاد. وكانت له وجهة نظر متفائلة بشأن الحرب، فهي انفجار ضخم في الحياة السياسية العادية وسيأتي يوم وتتوقف بعد أن تخور قواها، وكان مهتما بكيفية تأثير الحرب على الانتخابات، وتأثير التجنيد الإجباري على الحزب الليبرالي أكثر من اهتمامه بسير الحرب نفسها، رغم أنه وطني، فهو يعلق العلم ويبيع سندات النصر.
عندما لا يكون منخرطا في العمل في شئون البلدة، كان ينشغل بمشروعين: وهما تاريخ مقاطعة واواناش، وشجرة العائلة التي تعود جذورها إلى عام 1670 في أيرلندا. لم يكن أي شخص في عائلتنا قد قام بأعمال مميزة؛ فبعضهم قد تزوج من بروتستانتيين أيرلنديين آخرين وكونوا عائلات كبيرة، والبعض الآخر لم يتزوج، وبعض الأطفال توفوا في صغرهم، ولقي أربعة أفراد من عائلتنا حتفهم في حريق، وفقد رجل زوجتين له أثناء الولادة، وتزوج أحدهم من امرأة كاثوليكية، وقدموا إلى كندا واستمروا بالطريقة نفسها، وغالبا ما كانوا يتزوجون من المشيخيين ذوي الأصل الاسكتلندي. ورأى العم كريج أنه من الضروري اكتشاف أسماء كل هؤلاء الأشخاص، وصلتهم بعضهم ببعض، وتواريخ الميلاد والزواج والوفاة - أو على الأقل الميلاد والوفاة إذا كانت تلك هي الأحداث التي وقعت لهم فحسب - وغالبا ما يكون هذا بمجهود كبير وقدر هائل من المراسلات حول أنحاء العالم (فلم ينس الفرع من العائلة الذي ذهب إلى أستراليا)، وكتابة كل هذه المعلومات هنا بالترتيب وبخطه الواضح الأنيق. لم يبحث عن معلومات عن أي شخص في العائلة فعل ما هو أكثر إثارة للاهتمام - أو أكثر خزيا - من الزواج بامرأة كاثوليكية (حيث كان المذهب الذي تعتنقه المرأة يدون بالحبر الأحمر أسفل اسمها)، فقد كان هذا كفيلا بإرباك السجل الذي يضعه بالكامل، لو أن أحدهم فعل ما هو أكثر من هذا. لم تكن أسماء الأشخاص هي المهمة بالنسبة له، بل الهيكل المعقد المحكم من الحيوات من الماضي التي تدعم وجودنا.
وينطبق الأمر نفسه على تاريخ المقاطعة التي افتتحت، واستوطنها الناس، وكبرت، ودخلت مرحلة التدهور البطيء الحالي عن طريق كوارث بسيطة فحسب؛ مثل حريق تابرتون، والفيضان المنتظم لنهر واواناش، وبعض فصول الشتاء المروعة، وبعض جرائم القتل غير الغامضة، وأفرزت ثلاث شخصيات بارزة فحسب؛ وهم قاض بالمحكمة العليا، وعالم آثار نقب عن الآثار في القرى الهندية الواقعة حول خليج جورجيا وألف كتابا عنها، وسيدة كانت قصائدها تنشر في الصحف في أنحاء كندا والولايات المتحدة. لكن لم يكن ذلك ما يهم، وإنما الحياة اليومية هي التي تهم؛ فقد كانت ملفات العم كريج وأدراجه تعج بقصاصات من الصحف والخطابات التي تصف أحوال الطقس، وتروي قصة عن حصان هارب، وقوائم الحاضرين في الجنائز، وهو تجميع هائل للحقائق العادية للغاية، والتي كان شغله الشاغل أن يرتبها. فكل شيء يجب أن يدخل إلى الإطار التاريخي الذي يصنعه، كي يجعله التاريخ الكامل لمقاطعة واواناش، ولم يكن يغفل شيئا؛ ولذلك عندما توفي لم يكن قد وصل إلا إلى عام 1909 فحسب.
عندما قرأت بعد عدة أعوام عن ناتاشا في رواية «الحرب والسلام»، وكيف «عزت أهمية كبرى لمساعي زوجها الفكرية المجردة، رغم أنها لم تكن تفهمها.» خطر في بالي العمة إلسبيث والعمة جريس. لم يكن الأمر ليشكل فارقا ما إذا كان العم كريج لديه «مساع فكرية مجردة» أو أنه كان يقضي اليوم في فرز ريش الدجاج، فقد كانتا على استعداد للإيمان بما يفعله. كان لديه آلة كاتبة سوداء قديمة ذات حواف معدنية حول المفاتيح، وأذرعها السوداء الطويلة مكشوفة، فكان عندما يبدأ بالكتابة عليها بأسلوبه البطيء المتقطع عالي الصوت - ولكن الموثوق به - كانتا تخفضان صوتيهما، وتوجهان نظرات توبيخ عبثية بعضهما لبعض إذا ما أحدثت المقلاة ضوضاء، ولسان حالهما يقول: «إن كريج يعمل!» وترفضان خروجي إلى الشرفة خوفا من أن أسير أمام نافذته وأزعجه. لقد كانتا تحترمان عمل الرجال أكثر من أي شيء في العالم، وفي الوقت نفسه تتخذانه مادة للضحك. كان هذا الأمر غريبا، فقد كانتا تؤمنان تماما بأهميته، وفي الوقت نفسه تعبران عن حكمهما فيه بأنه تافه وبلا جدوى. وهما لا تتدخلان فيه أبدا، أبدا، فثمة خط فاصل هو الأوضح على الإطلاق بين عمل الرجل وعمل المرأة، وأي تعد على هذا الخط أو أي اقتراح لتخطيه، كانتا تقابلانه بضحكة هادئة مندهشة يملؤها شعور بالتفوق مفعم بالندم.
كانت الشرفة مكان جلوسهما في فترة ما بعد الظهيرة بعد انتهائهما من السباق الصباحي؛ من مسح الأرض، وجمع الخيار، والتنقيب عن البطاطس، وجمع الفاصوليا والطماطم، والتعليب، والتخليل، والغسيل، ووضع النشا، والرش، والكي، والمعالجة بالشمع، والخبز. لم تكونا تجلسان هناك عاطلتين عن العمل، بل كان حجر كل منهما مليئا بالعمل كذلك؛ من نزع النوى من الكرز، إلى تقشير البازلاء، إلى نزع البذور من التفاح. كانت يداهما وسكاكينهما القديمة الداكنة ذات المقابض الخشبية تتحرك بسرعة مذهلة كما لو أنها تنفذ عملية انتقامية. وكان يمر كل ساعة سيارتان أو ثلاث، وعادة ما كانت تهدئ من سرعتها وتلوح؛ إذ عادة ما يكون بها أناس من أهل البلدة. وكانت العمة إلسبيث أو العمة جريس تصيح بعبارة الترحيب المضيافة بصيغتها القروية: «لم لا تتوقفون لبرهة وترتاحون من ذلك الطريق الترابي؟» فيرد الجالسون في السيارة قائلين: «كنا سنفعل لو كان لدينا الوقت، متى ستأتون لزيارتنا؟»
كانت العمة إلسبيث والعمة جريس ترويان القصص، ولم يبد الأمر كما لو كانتا تخبرانني بها للتسلية، بل كما لو أنهما ستقصانها على أية حال من أجل متعتهما الشخصية، حتى وإن كانتا وحدهما. «ذاك الرجل الذي استأجره أبي - هل تذكرينه؟ - ذلك الأجنبي كانت طباعه شيطانية، عذرا على اللفظ. ماذا كانت جنسيته يا جريس؟ ألم يكن ألمانيا؟» «بل كان نمساويا، وجاء من ذلك الطريق يبحث عن عمل فاستأجره أبي، ولكن أمي لم تتمكن من التغلب على خوفها منه، فلم تكن تثق بالأجانب.» «لا عجب في ذلك.» «وجعلته ينام في مخزن الحبوب.» «كان طوال الوقت يصرخ ويسب باللغة النمساوية. هل تذكرين عندما قفزنا عبر محصول الكرنب خاصته؟ كان فيضان السباب باللغة الأجنبية يجعل الدم يتجمد في العروق.» «حتى قررت أن أتحداه.» «ماذا كان يحرق في ذلك الوقت؟ كان في البستان يحرق الكثير من الأغصان ...» «يرقة الخيمة.» «نعم بالضبط، كان يحرق حشرات يرقة الخيمة، وارتديت أنت ثياب العمل الخاصة بكريج وقميصا، وحشوت نفسك بالوسادات، وأخفيت شعرك أسفل قبعة أبي المصنوعة من اللباد، ولطخت يديك ووجهك بالسواد كي تبدي مثل الزنوج ...» «وأخذت سكين اللحم؛ تلك السكين الطويلة الخطرة التي لا تزال لدينا هنا ...» «وتسللت عبر البستان واختبأت خلف الأشجار، ألم أكن أنا وكريج نشاهد ذلك طوال الوقت من نافذة الطابق العلوي؟» «لا يمكن أن يكون أبي وأمي كانا موجودين في هذا الموقف.» «كلا، كانا قد رحلا إلى المدينة! ذهبا إلى جوبيلي راكبين عربة يجرها حصان.» «دنوت منه حتى مسافة خمس ياردات، وتسللت من خلف جذع شجرة ... يا إلهي! ألم يصرخ وقتها؟ لقد أطلق صرخة هائلة ثم أنار الطريق بحثا عن الإسطبل. لقد كان جبانا بكل معنى الكلمة.» «ثم دخلت إلى المنزل، وخلعت تلك الثياب واغتسلت قبل أن يعود أبي وأمي من المدينة، وجلسنا جميعا حول مائدة العشاء ننتظره، وكنا نأمل في أعماقنا أن يكون قد هرب.» «كلا، لم أكن أتمنى ذلك، بل كنت أريد أن أرى تأثير ما فعلت على وجهه.» «ثم دخل هو شاحبا كالورقة وعابسا كالشيطان، وجلس دون أن يتفوه بكلمة واحدة. كنا نتوقع على الأقل أن يشير إلى وجود زنجي مجنون طليق في المقاطعة، ولكنه لم يفعل.» «لم يرغب في أن يفضح كم كان جبانا حينها، كلا.»
وأخذتا تضحكان حتى تناثرت الفاكهة من حجريهما. «لم أكن أنا دائما من ينفذ الحيل، لم أكن الوحيدة التي بإمكانها التخطيط للقيام بخدع! لقد كنت أنت صاحبة فكرة وضع العلب القصدير فوق الباب الأمامي عندما كنت بالخارج لحضور حفل راقص، لا تنسي ذلك.» «كنت أنت بالخارج مع ميتلاند كير (يا لميتلاند المسكين! لقد مات)، كنت بالخارج في حفل راقص في جيريكو ...» «جيريكو! كلا كان حفلا راقصا في مدرسة ستون!» «حسنا، أيا كان، كنت تدخلينه إلى القاعة الأمامية كي تتمني له ليلة سعيدة، كنت تدخلينه متسللا، كنتما هادئين كحملين وديعين ...» «ثم فجأة سقطت العلب ...» «بدا صوتها كما لو كان انهيارا جليديا قد حدث؛ فقد قفز أبي من الفراش واختطف بندقية الصيد. هل تذكرين بندقية الصيد في غرفتهما، كانت دائما خلف الباب؟ وفجأة عم ارتباك شديد! واختبأت أنا تحت أغطية الفراش أكتم ضحكاتي بالوسادة في فمي؛ كي لا يسمعني أحد!»
لم تتوقفا عن القيام بخدع حتى الآن؛ فذات مرة دخلت أنا والعمة جريس غرفة النوم التي كانت العمة إلسبيث تأخذ بها القيلولة راقدة على ظهرها وتغط في نوم عميق، فرفعنا عنها الغطاء بحذر شديد وقيدنا كاحليها معا بشريط أحمر. وفي فترة ظهيرة أحد أيام الأحد عندما كان العم كريج نائما في مكتبه على الأريكة الجلدية، وأرسلت أنا كي أوقظه وأخبره بأن زوجين شابين بالخارج يطلبان الحصول على تصريح زواج، فنهض متذمرا، وخرج إلى المطبخ الخلفي، وغسل وجهه وبلل شعره وصففه، وارتدى ربطة عنقه وصدريته وسترته - فلم يكن يمنح تصاريح الزواج قط دون أن يكون مرتديا الثياب الرسمية المناسبة - وخرج إلى الباب الأمامي، فوجد امرأة عجوزا ترتدي تنورة طويلة ذات مربعات، وتضع شالا على رأسها وتنحني متكئة على عصا، ومعها رجل عجوز ينحني بالطريقة نفسها، يرتدي حلة لامعة وقبعة عتيقة. كان العم كريج لا يزال يشعر بالنعاس، فقال متشككا: «حسنا، كيف حالكما ...؟» قبل أن ينفجر في غضب ممتزج بالمرح قائلا: «إلسبيث! جريس! أيتها الشيطانتان!»
وفي وقت حلب الأبقار، كانتا تربطان شعريهما بأوشحة تتدلى أطرافها كما لو كانت أجنحة صغيرة، وترتديان الثياب المهترئة البالية، وتتجولان في ممرات الأبقار، وتلتقطان عصا في مكان ما من الطريق، وكانت الأبقار لديهما مزودة على أعناقها بأجراس ثقيلة تصدر أصوات صلصلة. وذات مرة، عندما كنت أنا والعمة إلسبيث نتتبع الصوت المتقطع البطيء لتلك الأجراس حتى حافة الدغل، رأينا أيلا يقف ساكنا واقفا بين جذوع الأشجار المقطوعة ونباتات السرخس الكثيفة. لم تتفوه العمة إلسبيث ببنت شفه، ولكنها مدت يدها بالعصا كما لو كانت ملكة تأمرني بأن أظل صامتة، وظللنا نحدق به للحظة قبل أن يرانا ويقفز بسرعة، حتى بدا وكأن جسده قد التف نصف دائرة في الهواء، في حركة تشبه حركات الراقصين، ووثب بعيدا إلى أعماق الدغل وأردافه تتحرك لأعلى ولأسفل. كان مساء حارا وهادئا، والضوء يكون حزما ذهبية كلون المشمش على جذوع الأشجار، وقالت العمة إلسبيث: «في الماضي، اعتدنا رؤية هذه الحيوانات بانتظام. عندما كنا صغارا، كنا نراها في الطريق إلى المدرسة، ولكن ليس الآن، فهذا أول أيل أراه منذ أعوام طويلة لا أتذكر عددها.»
وفي الإسطبل، أرياني كيف أحلب الأبقار، وهي مهمة ليست بسيطة كما تبدو، وكانتا تتبادلان دفع اللبن في فم قط يقف على ساقيه الخلفيتين على بعد بضعة أقدام، وهو قط قذر مخطط يدعى روبر. هبط العم كريج وهو لا يزال مرتديا قميصه الرسمي وقد شمر الأكمام، ويرتدي صديريته ذات الظهر اللامع، وقلماه الجاف والرصاص مثبتان في جيبه. وكان يشرف على عمل فرازة القشدة، وكانت العمة إلسبيث والعمة جريس تحبان الغناء أثناء حلب الأبقار، وكانتا تغنيان أغاني مختلفة في الوقت نفسه، وكل منهما تحاول أن تطغى على الأخرى وتشكو قائلة: «لست أدري كيف تخيلت تلك المرأة أنها تعرف الغناء!» كان وقت حلب الأبقار يجعلهما تشعران بالجرأة والابتهاج؛ فالعمة جريس - التي كانت تخشى دخول مخزن المنزل خشية أن تجد بها خفاشا - كانت تجري عبر فناء مخزن الحبوب تضرب الأبقار الضخمة طويلة القرون على مؤخراتها وتلاحقها خارج البوابة حتى المرعى، أما العمة إلسبيث فكانت تحمل صفائح القشدة بحركة قوية يسيرة - بلا مبالاة تقريبا - كما لو كانت بقوة شاب في عنفوانه.
ولكن هاتين هما نفس المرأتين اللتين تتحولان في منزل والدتي إلى امرأتين عابستين خبيثتين عجوزين ومستعدتين للشعور بالإهانة عند أول بادرة، وبعيدا عن مسمع والدتي كانتا تقولان لي: «أتلك هي الفرشاة التي تمشطين بها شعرك؟ ظننا أنها تخص الكلب!» أو «أهذا هو ما تجففون به الأطباق؟» وكانتا تنحنيان على أوعية الطعام وتحكانها، تحكان كل ذرة من اللون الأسود الذي تراكم منذ آخر زيارة لهما. وكانتا غالبا ما تستقبلان ما تقوله أمي بابتسامات دهشة صغيرة، فقد كانت صراحتها وجرأتها تصيبهما بالشلل في لحظتها، ولم يكن بوسعهما سوى أن تنظرا إليها نظرة خاطفة تشي بعجزهما، كما لو كان ضوء قاس قد بهر أعينهما.
بل وكانت أكثر الأمور التي تتفوه بها أمي كرما ولطفا هي ما تعتبرانها أفدح الأخطاء، فالعمة إلسبيث كانت تعزف على البيانو سماعيا، وكانت تجلس وتعزف المقطوعات القليلة التي تعرفها، حتى عرضت عليها أمي أن تعلمها قراءة النوتة الموسيقية. «كي تتمكني من عزف مقطوعات جميلة.»
فرفضت العمة إلسبيث وهي تطلق ضحكة رقيقة مصطنعة، كما لو أن أحدهم عرض أن يعلمها لعب البلياردو، ثم خرجت ووجدت حوض ورد مهملا، وانحنت في التراب تحت شمس الظهيرة الحارقة، وأخذت تقتلع الأعشاب الضارة، فقالت أمي بنبرة مرحة لا تخلو من التحذير وهي عند باب المطبخ: «لم أعد أهتم بهذا الحوض، لقد فقدت الأمل فيه، فلا يوجد به سوى نبتة لندن برايد العجوز تلك، وسوف أقتلعها قريبا على أية حال.» ولكن العمة إلسبيث استمرت في التخلص من الأعشاب الضارة وكأنها لم تسمع شيئا، فارتسم على وجه أمي تعبير الاستياء ثم اللامبالاة، وجلست في مقعدها المريح الظهر المصنوع من القماش، وانحنت إلى الخلف وأغلقت عينيها، وظلت هكذا لا تفعل شيئا وتبتسم ابتسامة غاضبة حوالي عشر دقائق. كان الأمر برمته كما لو أن أمي تسير في خطوط مستقيمة، بينما تتخذ العمة إلسبيث والعمة جريس طريقا متعرجا حولها، تتراجعان وتختفيان ثم تعودان مرة أخرى، تراوغان بصوت ناعم، ولكن لا يمكن التخلص منهما. وكانت هي تدفعهما بعيدا عن طريقها كما لو كانتا نسيج عنكبوت، أما أنا فقد كنت أكثر حكمة من أن أفعل ذلك.
أما في منزلهما في جنكينز بيند - حيث عدت معهما لزيارة الصيف الطويلة - فقد كانتا تنتعشان وتمتلئ أجسادهما كما لو أنهما وضعتا في الماء. كنت ألحظ ذلك التغيير بنفسي، وأنا أيضا - مع شعور خفيف بوخز الضمير والخيانة - كنت أستبدل بعالم أمي المليء بالأسئلة الجادة المتشككة وأعمال المنزل التي لا تنتهي - والمهمة إلى حد ما - والكتل البارزة في البطاطس المهروسة والأفكار المحيرة؛ أستبدل بهذا العالم عالمهما المليء بالعمل والمرح، بالراحة والنظام، وبالشكليات المعقدة. فكان ثمة لغة جديدة تماما، علي أن أتعلمها في منزلهما، فالمحادثات هناك كانت على مستويات عديدة، فلم يكن شيء يقال صراحة، فكل دعابة قد تكون هجوما مستترا. كان الاستنكار لدى أمي صريحا واضحا كالجو القاسي، أما الاستنكار لديهما فكان يأتي كجروح الموس المغلفة باللطف بصورة تصيب المرء بالحيرة. وكان لديهما الموهبة الأيرلندية المتمثلة في السخرية الشديدة المغلفة بالاحترام.
تزوجت ابنة العائلة التي تسكن في المزرعة المجاورة من محام - رجل من المدينة - افتخرت به عائلتها كثيرا وأحضرته كي يتعرف عليهما، فقامت العمة إلسبيث والعمة جريس بالخبز وتلميع الفضة وتحضير الأطباق المطلية يدويا والسكاكين ذات المقابض المرصعة باللآلئ؛ استعدادا لزيارته، وقدما له الكعك وحلوى الزبد وقالب المكسرات والفطائر. وكان شابا شرها، أو ربما كان شديد الارتباك، وكان يتناول الطعام بدافع العصبية؛ حيث كان يلتقط كعكات كاملة كانت تتفتت في طريقها إلى فمه، ويلوث الفتات شاربه. وعلى طاولة العشاء، بدأت العمة جريس - دون أن تتفوه بكلمة - تقليد طريقته في تناول الطعام، وأخذت تبالغ تدريجيا وهي تقلد أصوات الابتلاع وتمسك بأشياء وهمية من طبقها. وصاحت العمة إلسبيث بكياسة وهي تنحني على المائدة: «سيدي المحامي، هل كنت دائما مهتما بحياة الريف؟» وقد جعل هذا - بعد ترحيبهما الشديد له وكياستهما في التعامل معه - قشعريرة باردة تسري في جسدي؛ بمثابة تحذير. وقد كان حكمهما الأخير عليه، والذي قالاه بمزاح، هو: «إنه يظن نفسه شخصا مهما؟» فأخذت أفكر في نفسي: «إنه يظن نفسه شخصا مهما، ألا تظنان هما أنفسهما أنهما امرأتان مهمتان؟» فالادعاء والتظاهر يحيط بنا من كل مكان.
لا يعني ذلك أنهما كانتا ضد الكفاءة، بل كانتا تعترفان بها في عائلتهما، في عائلتنا، ولكن كان يبدو أنه من المفترض إبقاؤها سرا. وكان الطموح هو ما يثير قلقهما، فالطموح يعني وكأن المرء يخطب ود الفشل ويخاطر بأن يجعل من نفسه مثارا للسخرية. وقد أدركت أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة هو أن يسخر منك الآخرون.
قالت لي العمة إلسبيث: «إن عمك كريج واحد من أذكى الرجال وأكثرهم شعبية واحتراما في مقاطعة واواناش، وكان من الممكن أن ينتخب لعضوية المجلس التشريعي أو يصبح عضوا في مجلس الوزراء، إذا أراد ذلك.» «ألم ينتخب العم كريج؟» «لا تكوني سخيفة، إنه لم يترشح قط. لم يكن ليدع اسمه يدخل قوائم الترشيح، لقد فضل ألا يفعل ذلك.»
وكان هذا هو الإيحاء الغامض - والجديد بالنسبة لي - أن اختيار عدم فعل الأشياء يتضح في نهاية الأمر أنه أكثر حكمة واحتراما للذات من فعلها، فهم يحبون أن يرفض الناس العروض التي تقدم لهم مثل الزواج والمناصب والفرص والأموال. كانت ابنة عمي روث ماكوين التي تعيش في تابرتون قد حصلت على منحة لدخول الجامعة نظرا لتفوقها، ولكنها فكرت في الأمر ورفضتها مفضلة الجلوس في المنزل. «فضلت ألا تفعل ذلك.»
لماذا كان ذلك عملا رائعا يستحق الإعجاب؟ على غرار بعض التناغمات الدقيقة في الموسيقى أو في الألوان، كان جمال الرفض أبعد من نطاق إدراكي، ولكنني لم أكن مستعدة كوالدتي لأن أنكر وجودهم.
أما أمي، فقالت عن روث ماكوين: «إنها تخشى أن تخرج رأسها من جحرها.»
كانت العمة مويرا متزوجة من العم بوب أوليفانت، ويعيشان في بورترفيلد، ولديهما ابنة واحدة تدعى ماري آجنس، ولدت متأخرة في حياتهما الزوجية. وأثناء الصيف، كانت العمة مويرا تقود أحيانا مسافة الثلاثة عشر ميلا، التي تفصل بين بورترفيلد وجنكينز بيند، لزيارة مسائية مصطحبة معها ماري آجنس. كانت العمة مويرا تعرف كيف تقود سيارة، وهو ما اعتبرته العمة إلسبيث والعمة جريس شجاعة بالغة منها (وكانت أمي تتعلم قيادة سيارتنا، فكانتا تظنان أنها فكرة طائشة وغير ضرورية). وكانتا تترقبان عبور سيارتها، قديمة الطراز مربعة السقف، للجسر وظهورها على الطريق من اتجاه النهر، وتخرجان لاستقبالها بسيل من صيحات التشجيع والإعجاب والترحيب كما لو كانت قد وجدت طريقها للتو عبر الصحراء الكبرى، لا عبر الطرق الغبارية الحارة من بورترفيلد.
كانت لمحة الخبث التي تتراقص تحت مجاملاتهما إلى بقية العالم تغيب تماما في اهتمامهما ببعضهما، واهتمامهما بأشقائهما وشقيقاتهما، فلم يكن أفراد العائلة يكنون بعضهم لبعض سوى مشاعر الحنان والفخر. والشعور نفسه تجاه ماري آجنس أوليفانت، التي لم أستطع منع نفسي من التفكير في أنهما تفضلانها علي. كنت أجد منهما الحفاوة والترحيب والاستمتاع بصحبتي، ولكنني كنت ملوثة بمؤثرات أخرى، وبحقيقة أن نصف عنصر الوراثة فقط ينتمي إليهم، فنشأتي في نظرهم مليئة بالهرطقة التي لا يمكن إصلاحها بالكامل، أما ماري آجنس، فقد بدا لي كما لو كانت تستقبل بعاطفة خالصة أكثر إشراقا وثقة.
في جنكينز بيند لم يكن يذكر قط أن ثمة أي مشكلة بشأن ماري آجنس، وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أمر خطير بالفعل، فقد كانت مثل معظم الناس، فيما عدا أنك لا تتخيلها وهي تذهب للمتجر وحدها وتبتاع شيئا أو تذهب إلى أي مكان وحدها، بل عليها أن تكون دائما مع أمها. لم تكن حمقاء، ولم تكن تشبه إيرين بولوكس وفرانكي هول في طريق فلاتس، وبالطبع لم تكن بلهاء لدرجة أن يسمح لها بركوب الأرجوحة في معرض كينزمنز طوال اليوم مجانا كما كان يسمح لهما، حتى وإن كانت العمة مويرا سوف تسمح لها بأن تجعل من نفسها موضع سخرية، فإنها لن تفعل. كانت بشرتها تبدو مكسوة بطبقة من الغبار كما لو كان عليها لوح زجاج رقيق متسخ أو ورقة خفيفة زيتية.
قالت أمي - التي تستمتع دائما بتقديم التفسيرات - عنها: «لقد تعرضت للحرمان من الأكسجين، تعرضت للحرمان من الأكسجين في قناة الولادة، فقد ضم العم بوب أوليفانت ساقي العمة مويرا وهي في طريقها للمستشفى؛ لأن الطبيب أخبرهما أنها قد تتعرض للنزيف.»
لم أكن أرغب في سماع المزيد، أولا كنت أجفل من الفكرة المتضمنة أنه أمر قد يحدث لأي شخص، وأنني أنا شخصيا ربما كنت سأتعرض لذلك بسبب نقص شيء عادي معروف قابل للقياس مثل الأكسجين، كما جعلتني كلمة قناة الولادة أتخيل نهرا من الدماء مستقيم الضفتين. وتخيلت العم بوب أوليفانت وهو يمسك بساقي العمة مويرا الثقيلتين المليئتين بالأوردة ويضمهما معا وهي تلهث وتحاول أن تضع مولودها، ولم أتمالك نفسي من التفكير في هذا الأمر بعدها كلما رأيته. وكلما رأيناه في منزله يكون جالسا بجوار المذياع يدخن الغليون ويستمع إلى مسلسلي «بلاكي من بوسطن» أو «دورية الشرطة»، وسط صرير الإطارات وطلقات البنادق وهو يهز رأسه الأصلع. هل كان يضع غليونه في فمه وهو يضم ساقي العمة مويرا؟ هل كان يمنحها إيماءات تأكيدية وهي تصرخ من الألم أثناء الولادة، كما يفعل وهو يستمع إلى «بلاكي من بوسطن»؟
ربما بسبب هذه القصة بدا لي أن الكآبة التي تتدفق من العمة مويرا لها رائحة تتعلق بأمراض النساء؛ مثل رائحة الضمادات المطاطية الغامضة على ساقيها. كانت امرأة يمكنني تشخيصها الآن بالإصابة بدوالي الأوردة والبواسير، وهبوط الرحم وتكيسات المبيضين، والالتهابات والإفرازات، والورم والحصوات في أماكن عديدة؛ إحدى الناجيات البدينات المحطمات من حياة الإناث واللاتي يتحركن بصعوبة وحذر، وفي جعبتها الكثير من القصص لتحكيها. كانت تجلس في الشرفة على المقعد الهزاز وهي ترتدي - رغم ارتفاع درجة الحرارة - فستانا أنيقا داكن اللون ذا طبقات كثيرة، يرتعش من تلألؤ الخرز عليه، وقبعة كبيرة على شكل عمامة، وجوربين بنيين ضاربين إلى الحمرة، كانت أحيانا تدليهما للأسفل كي تجعل الضمادات «تتنفس». ولا يمكننا الدفاع كثيرا عن الزواج إذا ما قارنتها بشقيقتيها اللتين لا يزال بإمكانهما القفز بسرعة، ولا تزالان تفوح منهما رائحة الانتعاش والصحة، واللتين تذكران من حين لآخر مقاس وسطيهما في غير رضا. حتى أثناء مجرد الوقوف أو الجلوس، أو الحركة على الكرسي الهزاز، كانت العمة مويرا تطلق دمدمات من الشكوى التي كانت لاإرادية ومعبرة كأصوات الهضم أو إطلاق الريح.
أخذت تخبرنا عن بورترفيلد، لم تكن مدينة تمنع احتساء الكحوليات كمدينة جوبيلي، بل كان بها قاعتان لتناول الشراب تواجهان بعضهما البعض على كلا جانبي الشارع الرئيسي، تقع كل منهما في أحد فندقي المدينة، وأحيانا في مساء يوم السبت أو صباح يوم الأحد يقع شجار مروع في الطريق. ويقع منزل العمة مويرا على بعد نصف مربع سكني من الشارع الرئيسي وقريبا من الرصيف، ومن وراء نافذتها الأمامية المظلمة شاهدت الرجال يضحكون بأصوات مرتفعة كالهمجيين، وشاهدت سيارة تدور حول نفسها ثم تتحطم في أحد أعمدة الهاتف حتى تهشمت عجلة القيادة واخترقت قلب السائق، كما رأت رجلين يجران فتاة ثملة لا تستطيع الوقوف وتتبول في الطريق وهي مرتدية ملابسها، ونظفت آثار قيء المخمورين من على سور منزلها المطلي. لم يكن كل هذا أكثر مما تتوقع رؤيته، ولم يكن سكارى يوم السبت فحسب هم الوقحين الذين يرتكبون أفعالا فاضحة، بل أيضا البقالون والجيران وعاملو توصيل الطلبات للمنازل المحتالون. وكان صوت العمة مويرا وهي تحكي بتمهل يمتد على مدار اليوم ويبدو وكأنه يملأ الفناء كالنفط الأسود، والعمة إلسبيث والعمة جريس تبديان تعاطفهما معها. «كلا، لا يتوقع أحد أن يمكنكما احتمال هذا!» «إننا لم نكن نعلم كم نحن محظوظون هنا.»
وكانتا تهرولان جيئة وذهابا؛ بفناجين الشاي، وأكواب عصير الليمون، والبسكويت الطازج بالزبد، ومسحوق الخبيز، وكعك مارثا واشنطن، وشرائح الكعك بالزبيب، وحلوى صغيرة من الفاكهة المجففة المكسوة بالسكر والمغلفة بجوز الهند، والتي تكون لذيذة المذاق.
كانت ماري آجنس تجلس وهي تستمع وتبتسم. ابتسمت لي. لم تكن ابتسامة ساذجة، بل كانت ابتسامة شخص يقدم - على نحو إلزامي بل وحتى استبدادي - لطفل كل مظاهر الود التي لا يمكن منحها لأي شخص آخر بحكم الخوف والعادة. كان شعرها الأسود قصيرا وأشواك البشرة تبدو على رقبتها النحيلة ذات اللون البني الفاتح، وكانت ترتدي نظارة طبية. كانت العمة مويرا تجعلها ترتدي ثياب طالبة في المرحلة الثانوية التي لم تمر بها هي قط؛ تنورة ذات طيات مربعة النقش فضفاضة عند الخصر، وقميصا أبيض اللون واسعا للغاية وطويل الأكمام ومكويا بعناية. لم تكن تضع مستحضرات التجميل أو حتى مسحوقا لإخفاء الشعر الناعم الداكن على جانبي فمها. وكانت تتحدث إلي باللهجة القاسية المتغطرسة غير الواثقة لشخص لا يكتفي بإثارة غيظ الآخرين، وإنما يحاكي أساليب إثارة الغيظ، فكانت تحاكي الطريقة التي سمعت بعض المتهورين والمرحين - ربما أصحاب المحال - يخاطبون بها الأطفال.
أمسكت بي وأنا أنظر عبر الألواح الزجاجية الصغيرة الملونة حول الباب الأمامي، وسألتني: «لماذا تفعلين هذا؟»
ثم قالت وهي تنظر عبر الجزء الأحمر من الزجاج: «الفناء يحترق!» ولكنها ضحكت ساخرة مني كما لو كنت أنا من قلتها.
وفي أحيان أخرى، كانت تختبئ في البهو المظلم ثم تقفز وتمسك بي من الخلف مغطية عيني بيديها قائلة: «احزري من أنا! من أنا؟!» كانت تعانقني وتدغدغني بقوة حتى أصرخ، وكانت يداها ساخنتين وجافتين وعناقها عنيفا. كنت أقاومها بأقصى طاقتي، ولكنني لم أستطع أن أسبها أو أبصق عليها أو أجذبها من شعرها كما أفعل مع زميلاتي في المدرسة بسبب كبر سنها - فهي نظريا امرأة ناضجة - ومكانتها التي تتمتع بالحماية، وهكذا فقد اعتبرتها متنمرة وقلت: إنني أكرهها، ولكن بالطبع ليس في جنكينز بيند. وفي الوقت نفسه، شعرت بالفضول ولم أشعر بالضيق عندما اكتشفت أنني قد أكون شديدة الأهمية - بصورة لا يمكنني فهمها حتى - بالنسبة لشخص ليس مهما بالنسبة لي على الإطلاق. فكانت تدحرجني على سجاد البهو وهي تدغدغ بطني بعنف كما لو كنت كلبا، وفي كل مرة كانت تغمرني الدهشة بقدر ما تسيطر علي قوتها غير المتوقعة، وألاعيبها غير العادلة. كنت أشعر بالذهول نفسه الذي يجتاح المختطفين الذين يدركون أنه في العالم الغريب لآسريهم هم ذوو قيمة لا تتعلق بأي شيء يعرفونه عن أنفسهم.
كنت أعلم أمرا آخر حدث لماري آجنس أخبرتني به أمي؛ فقبل عدة أعوام كانت في الفناء الأمامي لمنزلهم في بورترفيلد عندما كانت العمة مويرا تغسل الثياب في القبو، وأتى خمسة صبية أقنعوها بأن تتنزه معهم واصطحبوها إلى الأرض التي تقام عليها المعارض، وخلعوا عنها ملابسها، وتركوها راقدة على الوحل البارد حتى أصابها التهاب الشعب الهوائية وكادت تموت؛ ولذلك فهي ترتدي دائما ملابس داخلية ثقيلة حتى في الصيف.
أعتقد أن الإحساس بالإهانة - فقد أخبرتني أمي بالقصة كي تحذرني من احتمال التعرض للإهانة إذا ما اقتنعت يوما بالخروج مع الصبية - يكمن في خلع ثيابها بالكامل، في أنها كانت عارية. وقد أورثتني فكرة كوني عارية شعورا بالخزي في أعماقي. ففي كل مرة كنت أتذكر الطبيب وهو يخلع سروالي ويحقن مؤخرتي بمصل الجدري، كنت أشعر بالغضب والاضطراب والإذلال على نحو لا يطاق. تخيلت جسد ماري آجنس وهي ترقد عارية على الأرض ومؤخرتها الباردة ظاهرة للعيان - فهي بالنسبة لي أكثر عضو مخز يبدو عاجزا في جسد الإنسان، وخطر لي أنني لو حدث لي ذلك فلن أستمر على قيد الحياة بعدها. «ديل، عليك أنت وماري آجنس أن تذهبا في نزهة سيرا على الأقدام.» «عليكما أن تتسابقا حول الحظيرة حتى تعثرا على روبر.»
نهضت في انصياع للأوامر، لكني في ركن الشرفة ضربت العصا في التعريشة الموجودة هناك في استياء همجي؛ لم أكن أرغب في الذهاب مع ماري آجنس، بل كنت أرغب في البقاء وتناول الطعام وسماع المزيد عن بورترفيلد، تلك المدينة الفاسدة الحزينة التي تغص بأشخاص يشبهون أفراد العصابات لا يمكن الوثوق بهم. وسمعت ماري آجنس وهي تأتي خلفي بخطواتها الثقيلة المتعثرة. «ماري آجنس، ابتعدي عن الشمس أينما كنت، ولا تذهبي للتجديف في النهر، فأنت معرضة للإصابة بالبرد في أي وقت من العام!»
قطعنا الطريق وسرنا بمحاذاة ضفة النهر، وفي وسط حرارة الحقول الجافة بعد حصادها وقيعان المجرى المائي المتشققة والطرق البيضاء المغبرة، كان نهر واواناش يمثل قناة تلطف من حرارة الجو. وكانت الظلال هي ظلال أوراق الصفصاف الرقيقة التي لم تكن تحجب أشعة الشمس أكثر مما يحتفظ المنخل بمحتوياته. وكان الوحل على ضفاف النهر جافا، ولكنه لم يكن قد تحول إلى تراب بعد، بل كان كمسحوق السكر الذي يزين الكعك، مكسوا بقشرة رقيقة أعلاه ولكنه رطب وبارد بالأسفل، وكان ممتعا في السير عليه. خلعت حذائي وسرت حافية القدمين، فصاحت ماري آجنس مستنكرة: «سوف أشي بك!» «أخبريهم إذا أردت.» ونعتها في سري «مزعجة غبية.»
كانت الأبقار قد نزلت إلى النهر وتركت آثار حوافرها في الوحل، وتركت أيضا روثها المستدير الذي يبدو عندما يجف ككرات مصنوعة يدويا، أو كألعاب من الصلصال المصنوع يدويا. وعلى الجانبين من حواف الماء كان ثمة بسط ممتدة من أوراق الزنابق، وبين الحين والآخر تظهر إحدى زنابق الماء صفراء اللون، والتي تبدو شاحبة وهادئة وجذابة، حتى إنني اضطررت إلى رفع أطراف ثوبي وطيها في سروالي، والخوض بين الجذور في الوحل الأسود الذي يقطر من بين أصابع قدمي، ويعكر الماء، ويملأ أوراق الزنابق وبتلاتها.
فصاحت ماري آجنس في انفعال غاضب: «سوف تغرقين، سوف تغرقين.» رغم أن مستوى الماء كان بالكاد تجاوز ركبتي. وعندما أحضرت الزهور للشاطئ بدت خشنة وذات رائحة نفاذة وبدأت تموت على الفور، فاستأنفت السير في طريقي، متناسية أمرها، وسحقت البتلات في يدي.
مررنا على بقرة نافقة ترقد وساقاها الخلفيتان في الماء، وكان الذباب الأسود يزحف ويتجمع على جلدها ذي اللونين البني والأبيض ويلمع في الشمس كالتطريز بالخرز.
أمسكت بعصا وضربت على جلد البقرة، فارتفع الذباب محلقا في دوائر ثم هبط مرة أخرى. تخيلت أن جلد البقرة عبارة عن خريطة؛ واللون البني يرمز إلى المحيط والأبيض إلى القارات العائمة، أخذت أتتبع بعصاي أشكالها الغريبة وسواحلها المتعرجة محاولة الحفاظ على طرف العصا بين اللونين الأبيض والبني بالضبط، ثم قدت العصا عبر العنق متتبعة حبلا مشدودا من العضلات، فقد نفقت البقرة وعنقها مشدود كما لو كانت تحاول الوصول للماء، ولكنها كانت ترقد في الاتجاه الخاطئ، ثم قرعت بالعصا على وجهها، كنت أكثر جبنا عندما تعلق الأمر بلمس الوجه، وكنت أجبن عن النظر في عينيها.
كانت عيناها مفتوحتين تماما، تبرز كنتوء أملس داكن اللون فقد القدرة على الإبصار يلمع كالحرير، وبه بريق ضارب إلى الحمرة من انعكاس الضوء، كما لو كانت برتقالة محشوة في جورب حريري أسود. استقر الذباب في جانب واحد، وتجمع بشكل جميل كما لو كان حلية ملونة بألوان قزح. كان لدي رغبة قوية في وخز العين بعصاي كي أرى ما إذا كانت سوف تنهار أم ترتج وتتداعى كالهلام، كاشفة أنها من التركيب نفسه، أم أن الطبقة الجلدية على السطح سوف تتمزق وتطلق سراح الأجزاء المتعفنة بداخلها تاركة إياها تسقط على الوجه. حركت العصا حول العين، ثم سحبتها، فلم أستطع، لم أستطع أن أخز العين.
لم تقترب ماري آجنس، بل قالت محذرة: «اتركيها وشأنها، تلك البقرة العجوز الميتة. إنها قذرة، وسوف تعرضين نفسك للقذارة.»
فقلت وأنا أطيل في حروف الكلمة بتلذذ: «أيتها البقرة الميتة، أيتها البقرة الميتة.»
فقالت ماري آجنس بلهجة آمرة: «تعالي إلى هنا.» ولكنني شعرت أنها خائفة من الاقتراب.
أثارت البقرة النافقة في مخيلتي كل أفكار الانتهاك والتدنيس؛ فأردت أن أخزها وأسحقها بقدمي وأتبول عليها، والقيام بأي شيء كي أعاقبها، كي أعبر عن مدى الاحتقار الذي أشعر به لكونها ميتة، كأن أوسعها ضربا أو أحطمها أو أبصق عليها أو أمزقها أو ألقيها بعيدا! ولكنها كانت لا تزال تتمتع ببعض القوة، فهي ترقد وعلى ظهرها خريطة لامعة غريبة، وعنقها مشدود، وعيناها ملساء. لم أكن قد نظرت من قبل إلى بقرة حية، وكنت دائما أفكر فيما خطر ببالي الآن: لم توجد أبقار؟ لم تتخذ النقاط البيضاء الشكل الذي هي عليه الآن، ولا تتكرر قط - لا في أي بقرة أخرى أو أي مخلوق آخر - بالشكل نفسه؟ عدت مرة أخرى إلى تتبع حدود القارة على جلد البقرة وأنا أدفع العصا بقوة في محاولة لرسم خط محدد، وانتبهت لشكل الخط كما كنت أنتبه أحيانا لشكل القارات أو الجزر على الخرائط الحقيقية، كما لو كان الشكل نفسه يكشف سرا أكبر من الكلمات، وكما لو كنت سأفهمه إذا حاولت بجهد أكبر، وكان لدي الوقت لذلك.
قلت باحتقار لماري آجنس: «أتحداك أن تلمسيها، أن تلمسي بقرة ميتة.»
فتقدمت ماري آجنس ببطء، ولدهشتي انحنت وهي تتمتم وتنظر إلى العين كما لو كانت تعلم أنني كنت أتفكر فيها، ووضعت يدها عليها، نعم وضعت راحة يدها على العين. وفعلت ذلك بجدية وبتردد، وبرباطة جأش رقيقة ليست من شيمها. وفور أن فعلت ذلك، وقفت ووضعت يدها أمام وجهي وراحتها في اتجاهي، وأصابعها مبسوطة حتى بدت يدا ضخمة داكنة أكبر من وجهها بالكامل، وضحكت في وجهي.
قالت: «إنك خائفة الآن من أن أمسك بك.» وقد كنت خائفة بالفعل، ولكنني ابتعدت عنها بأقصى قدر من الغطرسة استطعت استجماعه.
وهكذا، بدا لي أنه غالبا لا أحد سواي يعلم ما يحدث بالفعل، أو يعلم حقيقة الأشخاص. فعلى سبيل المثال؛ كان الناس يقولون: «يا لماري آجنس المسكينة!» أو يلمحون لذلك عن طريق انخفاض في نبرة الصوت أو لهجة حماية خافتة، كما لو كانت لا تملك أسرارا أو مكانا خاصا بها، ولكن هذا لم يكن حقيقيا. ••• «لقد وافت المنية عمك كريج مساء أمس.»
قالتها أمي بصوت يغلب عليه الخجل وهي تبلغني بذلك.
كنت أتناول إفطاري السري المفضل - الذي يتكون من القمح المغموس في دبس السكر الأسود - وأجلس على الرصيف الإسمنتي خارج منزلنا في شمس الصباح. كان قد مر يومان على عودتي من جنكينز بيند، وعندما ذكرت العم كريج تذكرته في آخر صورة رأيته عليها وهو يقف في مدخل البيت، مرتديا صدريته وقميصه وهو يلوح لي مودعا بلطف، وربما بنفاد صبر.
أصابني ذلك النظام المعقد بالحيرة. «مات!» بدا الموت كما لو كان شيئا إراديا، شيئا اختار أن يفعله بكامل إرادته، كما لو أنه قال: «سوف أموت الآن.» وفي تلك الحالة فلا يمكن أن يكون أمرا نهائيا، ولكنني كنت أعلم أنه كذلك. «في قاعة أورانج في مدينة بلو ريفر، كان يلعب الورق.»
بدأ عقلي يرسم صورة لما حدث: طاولة لعب الورق في قاعة أورانج المضيئة (رغم أنني كنت أعلم أن اسمها الحقيقي «قاعة أورانجمين»، وأن الاسم لا علاقة له باللون بالضبط مثلما كان اسم المدينة بلو ريفر لا علاقة له بنهر أزرق)، كان العم كريج يقسم الأوراق بطريقته الجادة وجفونه المتثاقلة، وكان يرتدي صدريته ذات الظهر المصنوع من الساتان وأقلامه الحبر والرصاص مثبتة في جيبه. ثم؟ «أصيب بأزمة قلبية.»
أزمة قلبية، تبدو كما لو أنها انفجار، كما لو كانت ألعابا نارية تنطلق مطلقة قضبانا من الضوء في كل الاتجاهات، ومفجرة كرة صغيرة من الضوء - كان هذا هو قلب العم كريج أو روحه - تحلق في الهواء، حيث تعثرت وانطفأت. هل قفز من مقعده، ولوح بذراعيه في الهواء وصرخ؟ كم استغرق الأمر؟ هل أغلقت عيناه؟ هل كان يعلم ماذا يحدث؟ بدت إيجابية أمي المعتادة معتمة، وكانت شهيتي للحصول على التفاصيل تثير استياءها. أخذت أتتبعها في أرجاء المنزل وأنا عابسة ومصرة وأكرر أسئلتي. أردت أن أعرف، فلا يوجد مصدر للحماية ما لم يكن في المعرفة. أردت أن يقوم أحدهم بتثبيت الموت وعزله خلف حائط من الحقائق والظروف؛ كي لا يظل طليقا متنقلا، متجاهلا ولكنه قوي، منتظرا أن يحل في أي مكان.
ولكن بحلول يوم الجنازة، كانت أمور كثيرة قد تغيرت، فقد استعادت أمي الثقة واستعدت أنا هدوئي، ولم أعد أرغب في سماع المزيد عن العم كريج أو عن الموت، وأخرجت أمي فستاني الأسود ذا النسيج مربع النقش من كرة النفتلين، ونفضت الغبار عنه، ووضعته على حبل الغسيل كي يتعرض للهواء. «إنه مناسب للصيف، فهذا الصوف الخفيف أفضل من القطن. وعلى أية حال، فهذا هو الفستان الوحيد داكن اللون الذي تملكينه، ولكنني لا أهتم، فلو كان الأمر بيدي كنت سأسمح لك بارتداء اللون القرمزي، وإذا كانوا يؤمنون بالمسيحية حقا لكان هذا ما يرتدونه كلهم، وكانوا سيقضون وقتهم في الرقص والابتهاج، فهم في نهاية المطاف يقضون حياتهم بأكملها في الغناء والابتهال للخروج من هذا العالم والذهاب في طريقهم إلى السماء. ولكنني أعلم عماتك جيدا، فسوف تتوقعان ملابس داكنة اللون، تقليدية حتى النخاع!»
لم تتفاجأ أمي عندما سمعت أنني لا أرغب في الذهاب.
وقالت بصراحة: «لا أحد يرغب في الذهاب، لا أحد يرغب في ذلك على الإطلاق، ولكنك مضطرة لذلك. عليك أن تتعلمي مواجهة الأمور أحيانا.»
لم أحب الطريقة التي قالت بها ذلك؛ فقد كان حماسها وحيويتها زائفين مبتذلين، ولم أستطع الوثوق بها، فدائما عندما يخبرك الآخرون بأن عليك مواجهة ذلك الأمر أحيانا؛ عندما يسرعون بك بصورة واقعية تجاه أي نوع من الألم أو الأعمال المشينة أو الاكتشافات البغيضة، تلمح في أصواتهم نبرة الخيانة؛ ذلك الابتهاج البارد المتخفي الذي لا ينجحون في إخفائه تماما، شيئا يتوق لإيلامك. نعم وفي حالة الوالدين أيضا، بل في حالة الوالدين تحديدا.
تابعت أمي قائلة، بمرح لا يخلو من نبرة تنذر بشؤم: «ما الموت؟ وماذا يعني أن يموت المرء؟» «أولا، ما الإنسان؟ هو عبارة عن نسبة كبيرة من الماء، مجرد ماء نقي. فلا شيء مميز في الإنسان. أهي مادة الكربون التي تعد أبسط العناصر، وما قيمتها؟ ثمانية وتسعون سنتا؟ هذا كل شيء. ولكن الشيء المميز حقا هو طريقة تركيب تلك العناصر مع بعضها. الطريقة التي يتركب بها جسم الإنسان، لدينا القلب والرئتان، لدينا الكبد والبنكرياس والمعدة والمخ. كل تلك الأشياء، ما هي؟ إنها تركيبات من العناصر! وعند تركيبها، تركيب جميع المكونات نحصل على إنسان! ونطلق عليه العم كريج أو والدك أو أنا، ولكنه في نهاية المطاف ليس إلا تلك «التركيبات»، تلك الأجزاء توضع معا وتعمل بطريقة معينة في الوقت الحالي. وما يحدث بعد ذلك أن أحد الأعضاء يتعطل أو ينهار، وفي حالة العم كريج، فهو القلب، وهكذا نقول إن: العم كريج قد مات، ذلك الشخص أصبح ميتا. ولكن هذه هي فقط طريقتنا للنظر إلى الأمر، تلك هي طريقتنا البشرية فحسب. فإذا لم نكن نفكر طوال الوقت في الأشخاص، وكنا نفكر في الطبيعة، فسنجد أن الطبيعة مستمرة من حولنا وأن أجزاء منها تموت؛ حسنا لا أعني أنها تموت، بل تتغير - هذه هي الكلمة التي أبحث عنها - تتغير إلى شيء آخر. فكل تلك العناصر التي يتكون منها الشخص تتغير وتعود إلى الطبيعة مرة أخرى، ثم تظهر من جديد على هيئة الطيور والحيوانات والزهور، فالعم كريج ليس بالضرورة أن يكون العم كريج! بل هو أزهار!»
فقلت: «سوف أصاب بالغثيان من الركوب في السيارة، وسوف أتقيأ.»
فقالت والدتي - التي كانت ترتدي ملابسها الداخلية وتضع العطر على ذراعيها المكشوفتين: «كلا لن تفعلي.» ثم جذبت فستانها الأزرق الداكن المصنوع من قماش الكريب، وأدخلت جسدها فيه عبر رأسها، وتابعت: «تعالي أغلقي لي الأزرار. يا له من فستان أرتديه في هذا الجو الحار! يمكنني أن أشم رائحة المنظفات عليه، فالحرارة تطلق تلك الرائحة. دعيني أخبرك عن مقال كنت أقرؤه قبل أسبوعين، فهو يتناسب تماما مع ما أقوله الآن.»
دخلت إلى غرفتها وأحضرت قبعتها التي ارتدتها أمام مرآة مكتبي الصغيرة، وهي تجمع خصلات شعرها الأمامية تحتها على عجل، وتترك بعض خصلات الشعر الخلفية تتدلى من الخلف. كانت قبعة صغيرة مستديرة ذات لون قبيح كان رائجا خلال الحرب، وهو اللون الأزرق الخاص بالقوات الجوية.
واستأنفت حديثها: «يتكون الناس من أعضاء، وعندما يموت شخص - كما نقول نحن - يكون عضو واحد فقط، أو اثنان، هو ما تلف، وبعض الأجزاء الأخرى قد تعمل لمدة ثلاثين أو أربعين عاما أخرى. فالعم كريج - على سبيل المثال - قد يكون لديه كلى سليمة تماما يمكن لشاب مريض بالكلى أن يستخدمها، وهذا المقال يؤكد أن تلك الأجزاء سوف تستخدم يوما ما! هذا هو كل ما في الأمر. تعالي إلى الطابق السفلي.»
تبعتها للأسفل نحو المطبخ، وبدأت هي تضع أحمر الشفاه أمام المرآة المعتمة المعلقة فوق حوض المطبخ. كانت أمي تحتفظ - لسبب ما - بمستحضرات التجميل هناك، على رف قصديري لزج فوق الحوض وتتركها تختلط مع زجاجات أقراص الدواء القديمة الداكنة، وشفرات أمواس الحلاقة، ومسحوق تنظيف الأسنان، والفازلين، وجميعها بلا أغطية. «نقل الأعضاء! على سبيل المثال: العينين. لقد أصبح نقل العينين ممكنا بالفعل، ليس العين بأكملها بل القرنية حسبما أعتقد، وهذه مجرد بداية. يوما ما سيصبح من الممكن نقل القلب والرئة وكل الأعضاء التي يحتاجها الجسد، حتى المخ، وإنني أتساءل: هل سيصبح من الممكن يوما ما نقل «المخ»؟ وهكذا فلن تموت تلك الأعضاء أبدا، بل ستحيا ولكن في جسد شخص آخر، جزءا في تركيبة أخرى. وهكذا فلن يعود بإمكاننا الحديث عن الموت تماما على الإطلاق. وكان عنوان ذاك المقال هو «ورثة الجسد الحي»، فسوف نصبح جميعنا ورثة بعضنا لأجساد البعض، وسنصبح جميعا متبرعين أيضا. أما الموت نفسه كما نعرفه الآن، فسوف نتخلص منه.»
هبط أبي لأسفل مرتديا حلته الداكنة. «هل كنت تنوين مناقشة تلك الأفكار مع من سيحضرون الجنازة؟»
فأجابت أمي بنبرة واقعية: «كلا.» «لأنهم يملكون بالطبع مجموعة مفاهيم مختلفة، وقد يستاءون بسهولة.»
فصاحت أمي: «إنني لا أقصد قط إثارة استياء أي شخص، لا أقصد هذا إطلاقا. ولكنني أعتقد أنها فكرة جميلة، إن بها جمالها الخاص. أليست أفضل من فكرة الجنة والنار؟ لا أستطيع فهم الناس، لا أستطيع مطلقا فهم ما يؤمنون به. هل يعتقدون أن عمك كريج يرتدي الآن منامة بيضاء ويطوف في عالم الخلود الأبدي في هذه اللحظة؟ أم أنهم يعتقدون أنه دفن تحت الأرض وأنه الآن يتحلل؟» «إنهم يؤمنون بالاثنين معا.» قالها أبي وهو يقف في وسط المطبخ يطوق أمي بذراعيه معانقا إياها برفق وقوة في آن واحد، وبحرص على ألا يفسد قبعتها أو وجهها الذي أضفت عليه مسحة من اللون الوردي.
كنت أتمنى هذا الأمر في بعض الأحيان، أن أرى والدي يؤكدان بالنظرات أو بالعناق العلاقة الرومانسية - لا الرغبة - التي نشأت بينهما وجمعتهما برباط الزواج. ولكن في تلك اللحظة، عندما رأيت أمي تتحول إلى شخصية وديعة مرتبكة - كما أوضح استرخاء ظهرها ولكن ليس كلماتها - وأبي يلمسها لمسات رقيقة حنونة وحزينة، غير أن حزنه لم يكن يمت بصلة بالعم كريج، شعرت بالقلق ووددت أن أصرخ فيهما كي يتوقفا ويعود كل منهما إلى شخصيته المنفصلة المستقلة التي لا تجد دعما. فقد خشيت أن يستمرا ويرياني شيئا لا أرغب في رؤيته بالضبط مثلما لا أرغب في رؤية العم كريج ميتا. «أوين ليس مضطرا للذهاب.» قلتها بمرارة وأنا أدفع وجهي نحو الشبكة الرخوة على الباب الشبكي، وأنا أراه جالسا في الفناء في عربته القديمة وهو حافي القدمين متسخ منعزل يتظاهر بأنه أي شخص آخر، ربما رجل عربي في قافلة أو أحد أبناء الإسكيمو على زلاجة تجرها الكلاب.
فابتعدا بعضهما عن بعض وتنهدت أمي قائلة: «لا يزال أوين صغيرا.»
بدا المنزل وكأنه موضوع على واحدة من تلك الأحجيات؛ تلك المتاهات التي ترسم على الورق، به نقطة سوداء في أحد المربعات أو الغرف، ويفترض بك أن تجد طريقك للدخول إليه أو للخروج منه. كانت النقطة السوداء في تلك الحالة هي جثة العم كريج، وكان كل همي منصبا على تجنبها لا الوصول إليها، وألا أفتح حتى أكثر الأبواب أمانا ظاهريا بسبب ما قد أجده ممددا خلفه.
كانت لفائف التبن لا تزال هناك؛ ففي الأسبوع الماضي عندما كنت أزوره، كان التبن قد تم جزه بارتفاع يصل إلى درج الشرفة، ولفه في شكل خلايا نحل متسقة ومستوية أعلى من ارتفاع رأس الإنسان. وفي المساء، كانت لفائف التبن - التي تلقي ظلالا طويلة بارزة، ثم عندما تغرب الشمس تتحول إلى ظلال صلبة ساكنة رمادية اللون - تكون صورة قرية بأكملها، أو إذا نظرت حول زاوية المنزل باتجاه بقية الحقل، تجد أنها تكون مدينة كاملة من الأكواخ السرية المتشابهة تماما ذات اللون الرمادي المائل إلى الأرجواني. ولكن أحدها قد انهار، أحدها كان رخوا ومحطما متاحا لي كي أقفز فيه. كنت أتراجع وأقف على السلالم، ثم أجري باتجاهه وذراعاي مفتوحتان في شغف، وأهبط داخل التبن الطازج الذي لا يزال دافئا ولا يزال يحتفظ برائحته العشبية. كان مليئا بالورود الجافة؛ مثل زهرة المسك الأبيض والأرجواني وتودفلاكس الأصفر وورود زرقاء صغيرة لا يعرف أحد اسمها، تغطي ذراعي وساقي ووجهي بالخدوش، وعندما نهضت من بين أكوام التبن كانت تلك الخدوش تحرقني أو تتوهج في النسيم المتصاعد من النهر.
أتت العمة إلسبيث والعمة جريس، وقفزتا بين أكوام التبن أيضا، ومئزرتيهما تتطايران وهما تضحكان على نفسيهما. وعندما تأتي لحظة القفز كانتا تترددان ثم تقفزان بلا اندفاع كاف، وتهبطان في وضع جلوس محتشم وأيديهما متباعدة كمن يقفز على وسادة، أو وهما تمسكان شعرهما.
وعندما عادتا وجلستا في الشرفة ومعهما أوعية من الفراولة كانتا تقشرانها لصنع المربى، بدأت العمة جريس تتحدث لاهثة، ولكن بصوت هادئ متأمل. «تخيلي إذا مرت سيارة ونحن نفعل هذا، أما كنت ستتمنين الموت حينها؟»
فاستخرجت العمة إلسبيث دبابيس الشعر من شعرها وتركته ينسدل على ظهر مقعدها. عندما كان شعرها مثبتا بدبابيس الشعر كان يبدو كله تقريبا رمادي اللون، ولكنها عندما تركته ينسدل ظهر به الكثير من الشعر الحريري البني الداكن بلون فراء المنك. وهزت رأسها للأمام وللخلف وهي تطلق صيحات سعادة خافتة، ومررت أصابعها خلال شعرها كي تتخلص من بقايا التبن الذي تطاير والتصق بشعرها.
وقالت: «كم نحن حمقى!»
أين كان العم كريج وقتها؟ كان يكتب بحماس خلف نوافذه المغلقة وستائره المنسدلة.
وكانت لفائف التبن المسحوق أيضا كما تركتها عندما انتهت زيارتي، ولكن الآن كان الرجال يسيرون على بقايا التبن وهم يرتدون حللا داكنة كالغربان الطويلة ويتبادلون أطراف الحديث، وكان إكليل من الزنابق البيضاء معلقا على الباب الأمامي الذي كان مفتوحا جزئيا. أتت ماري آجنس وهي تبتسم فرحا، وجعلتني أقف ساكنة وهي تربط وشاحي وتربطه مرة أخرى. كان المنزل والفناء مكتظين بالناس، وجلس الأقارب من تورونتو في الشرفة، وبدت الطيبة واضحة على وجوههم، لكنهم كانوا معزولين عن بعض بإرادتهم فكل منهم يجلس على حدة. أجبرت على الذهاب والتحدث إليهم وأنا أتحاشى تماما النظر إلى النوافذ التي تقع خلفهم خوفا من رؤية جثة العم كريج. وخرجت روث ماكوين وهي تحمل سلة من الخيزران مليئة بالورود ووضعتها على حافة الشرفة.
وقالت: «ثمة ورود أكثر مما يحتمل المنزل.» كما لو كان ذلك شيئا سيحزننا جميعا، وتابعت: «فرأيت أن أضعهم هنا بالخارج.» كانت شقراء متحفظة يبدو عليها الجزع والشحوب - فهي بالفعل عانس. كانت تعلم أسماء الجميع، وقدمتني أنا وأمي لرجل وزوجته من جنوبي البلاد. كان الرجل يرتدي سترة بدلة فوق رداء سروالي.
وقالت المرأة بفخر: «لقد أعطانا تصريح الزواج.»
قالت أمي: إنها يجب أن تدخل إلى المطبخ، وتبعتها وأنا أفكر في أنه على الأقل من المستحيل أن يكونوا وضعوا جثة العم كريج هناك حيث تفوح روائح القهوة والطعام. وكان الرجال في الردهة أيضا يقفون كجذوع الأشجار التي يتعين عليك أن تشق طريقك خلالها. وكان بابا الغرفة الأمامية مغلقين ووضعت أمامهما سلة من نبات الدلبوث.
كانت العمة مويرا - التي كانت متشحة بالثياب السوداء كما لو أنها سارية ضخمة - تقف عند مائدة المطبخ تعد فناجين الشاي.
وقالت: «لقد عددت الفناجين ثلاث مرات، وفي كل مرة أحصل على رقم مختلف.» كما لو كان ذلك سوء حظ خاص بها وحدها لا يصيب غيرها، وتابعت: «عقلي لا يستطيع العمل اليوم، ولا يمكنني الوقوف على قدمي أكثر من ذلك.»
أما العمة إلسبيث التي كانت ترتدي مئزرا رائعا مكويا بعناية به زخرفة من الشاش الأبيض، فقد قبلتني أنا وأمي وقالت وهي تتراجع متنهدة كما لو أنها أحرزت إنجازا: «إن جريس بالأعلى ترطب عينيها. لا يمكننا تصديق ذلك، الكثير من الناس حضروا إلى هنا! أخبرتني جريس أنها تعتقد أن نصف سكان المقاطعة هنا، فقلت لها: ماذا تقولين؟ نصف سكان المقاطعة؟ لن أتفاجأ إذا حضر كل سكان المقاطعة! ولكننا نفتقد هيلين، لقد أرسلت باقة من الزنبق.»
فقالت بلهجة عملية وهي تنظر إلى الفناجين: «يا إلهي! يجب أن يكون هناك عدد كاف، كل الفناجين الأنيقة لدينا وفناجين المطبخ وتلك التي اقترضناها من الكنيسة!»
فهمست امرأة عند المائدة: «افعلي كما فعلوا في جنازة بول، فقد أبعدت الفناجين الأنيقة وأوصدت عليها الخزانة واستخدمت تلك التي اقترضتها من الكنيسة، وقالت إنها لن تغامر بطقم الخزف النفيس الخاص بها.»
فأدارت العمة إلسبيث عينيها الحمراوين في تقدير، وهو تعبيرها المعتاد ولكنه مخفف؛ نظرا للظرف الحالي. «ولكن الطعام سوف يكفي على أية حال، أعتقد أن لدينا هنا ما يكفي لإطعام الخمسة آلاف شخص.»
وأنا أيضا اعتقدت ذلك، فأينما نظرت كنت أجد طعاما: لحم الخنزير المشوي، والدجاج المشوي الكبير الحجم يبدو لامعا، والبطاطس المطهوة، وحساء الطماطم، وسلطة البطاطس، وسلطة الخيار والبنجر، ولحم الخنزير المحمر، والفطائر، والبسكويت المصنوع بمسحوق الخبيز، والخبز المدور، والخبز بالمكسرات، والخبز بالموز، وكعك الفاكهة، والكعك الفاتح والداكن، ومارينج الليمون، وفطائر التفاح والتوت، وأطباق الفاكهة المحفوظة، وعشرة أصناف أو اثني عشر صنفا من المخللات والمقبلات، ومخلل قشر البطيخ، وهو المفضل لدى العم كريج، فقد كان دائما يقول إنه يرغب في تناول وجبة كاملة منه مع الخبز والزبد فحسب.
قالت العمة مويرا بنبرة غاضبة حزينة: «ليس أكثر من كاف، ففي الجنائز يأكل الجميع بشهية مفتوحة للغاية.»
حدث هرج ومرج في الرواق، فقد كانت العمة جريس تعبر والرجال يفسحون لها الطريق وهي تشكرهم باستسلام وامتنان كما لو كانت عروسا، وتبعها القس الذي تحدث إلى السيدات في المطبخ بحماس مكتوم. «حسنا، أيتها السيدات! أيتها السيدات! لا يبدو أنكن جعلتن الوقت يمر عليكن بتثاقل، فالعمل شيء مفيد، العمل شيء مفيد وقت الحزن.»
انحنت العمة جريس وطبعت قبلة على وجنتي، فشممت رائحة كريهة ضعيفة - رائحة تحذيرية - امتزجت بعطرها. وهمست لي برقة ومرح كما لو كانت تعدني بمكافأة: «هل ترغبين في رؤية العم كريج؟ إنه في الغرفة الأمامية، وهو يبدو وسيما للغاية تحت باقة الزنبق التي أرسلتها العمة هيلين.»
بدأت بعض السيدات يتحدثن إليها، فانسللت ناجية. مررت عبر البهو مرة أخرى، وكانت أبواب الغرف الأمامية لا تزال مغلقة، وفي أسفل الدرج عند الباب الأمامي كان أبي ورجل لا أعرفه يسيران بخطوات سريعة ويستديران ويقيسان بأيديهما بحذر. «هنا سيكون المكان الشائك. هنا.» «هل نخلع الباب؟» «تأخر الوقت كثيرا على هذا الأمر، لن ترغب في إحداث فوضى، كما أنه قد يزعج السيدات إذا رأيننا ونحن نخلعه. إذا تمكنا من الالتفاف هكذا ...»
وأسفل البهو الجانبي كان ثمة عجوزان يتحدثان فمررت من بينهما. «ليس كما كان الوضع في الشتاء، أتذكر جيمي بول؟ كانت الأرض كالصخر، ولم يكن بوسعك أن تحدث فيها ثقبا باستخدام أية أداة مهما كانت.» «كان عليه أن ينتظر ما يزيد عن شهرين كي يذوب الجليد.» «بحلول ذلك الوقت كان ثمة ثلاث أو أربع جثث تنتظر. دعني أرى، جيمي بول ...» «نعم هو، وكانت هناك السيدة فرالي، والسيد ...» «كلا، انتظر، لقد توفيت قبل الجليد، وكانت ظروف دفنها جيدة.»
مررت عبر الباب في نهاية البهو الجانبي إلى الجزء القديم من المنزل، وكان يطلق عليه المخزن. كان من الخارج يبدو منزلا صغيرا من جذوع الأشجار ملحقا بجانب المنزل الحجري الكبير. وكانت النوافذ صغيرة ومربعة ومنحرفة قليلا كالنوافذ غير المقنعة في منزل الدمية. ولم يكن أي ضوء يتسلل إلى داخل المنزل تقريبا؛ وذلك بسبب أكوام النفايات الشاهقة المكدسة في كل مكان حتى أمام النوافذ؛ مثل ممخضة اللبن، والغسالة اليدوية القديمة، وهيكل الفراش الخشبي المفكك، وجذوع النخل، وأحواض المياه، والمناجل، وعربة أطفال مهلهلة كسفينة شراعية مائلة على جنبها. وكانت تلك هي الغرفة التي ترفض العمة جريس دخولها، أما العمة إلسبيث فقد كان عليها دخولها دائما إذا ما أرادتا الحصول على شيء منها. فكانت تقف في المدخل وتتشمم الهواء بقوة وتقول: «يا له من مكان! إن الهواء هنا يبدو كما لو كان هواء مقبرة!»
أحببت إيقاع تلك الكلمة عندما سمعتها تتلفظ بها للمرة الأولى. لم أكن أعرف ما هي بالضبط، وتخيلت أننا داخل بيضة رخامية مجوفة يملؤها الضوء الأزرق الذي لا يحتاج إلى الدخول من الخارج.
كانت ماري آجنس تجلس على ممخضة اللبن ولا تبدو عليها المفاجأة.
وسألتني برفق: «لماذا أتيت إلى هنا؟ سوف تضلين الطريق.»
لم أجبها، ودون أن أستدير أخذت أتجول في الغرفة. تذكرت أنني كنت أتساءل عما إذا كان ثمة شيء في عربة الأطفال تلك. بالطبع كان هناك أشياء، كومة من مجلات «فاميلي هيرالد» القديمة. سمعت صوت أمي تناديني، وبدت قلقة بعض الشيء ومتسمة بالاحترام رغما عنها. لم أصدر صوتا لا أنا ولا ماري آجنس. ماذا كانت ماري آجنس تفعل هنا؟ كانت قد عثرت على زوج من الأحذية النسائية طويلة الرقبة قديمة الطراز مربوطة بالأشرطة في مقدمتها، ومزينة بالفراء، وكانت تمسك بهما بقوة، ثم حكت الفراء تحت ذقنها. «إنها فراء أرنب.»
ثم جاءت إلي ووضعت الحذاء أمام وجهي مباشرة. «فراء أرنب؟» «لا أريدهما.» «تعالي كي تلقي نظرة على العم كريج.» «كلا.» «إنك لم تريه بعد.» «كلا.»
ظلت واقفة أمامي تسد طريقي وتحمل الحذاء في كلتا يديها، ثم قالت مرة أخرى بنبرة خبيثة مغرية: «تعالي كي تري العم كريج.» «لن أفعل.»
ألقت الحذاء ووضعت يدها على ذراعي، وغرست أصابعها فيها بقوة. حاولت التخلص منها، ولكنها أمسكت بي باليد الأخرى وجذبتني نحو الباب. وبالنسبة لفتاة ضعيفة كهذه - فتاة كادت تلقى حتفها بالتهاب الشعب الهوائية ثلاث مرات من قبل - كانت تتمتع بقوة خارقة. تسللت يدها حتى خصري، وبقبضة محكمة فظة أمسكت بيدي، وظل صوتها متمهلا ناعما مبتهجا. «تعالي كي تري العم كريج.»
فخفضت رأسي وأدخلت ذراعها في فمي المفتوح، وأمسكت بذراعها الملساء المتينة من تحت المرفق، وظللت أعضها حتى مزقت الجلد بحرية تامة معتقدة أنني قد فعلت أسوأ ما يمكنني فعله. لقد تذوقت دماء ماري آجنس أوليفانت! •••
لم أكن مضطرة لحضور الجنازة، ولم يكن أحد ليجبرني على أن ألقي نظرة على العم كريج. فأدخلوني إلى مكتبه على الأريكة الجلدية التي كان يغفو عليها في وقت القيلولة وحيث كان الأزواج ينتظرون للحصول على تصاريح الزواج، ووضعت فوق ركبتي بطانية رغم حرارة الجو وبجواري كوب من الشاي، وقد منحوني كذلك شريحة من الكعك، ولكني تناولتها في الحال.
عندما عضضت ماري آجنس ظننت أنني أقطع نفسي من كل شيء، ظننت أنني أبعد نفسي بعيدا حيث لن يكون عقاب ما كافيا، وحيث لن يجرؤ أحد على أن يطلب مني النظر إلى رجل ميت أو إلى أي شيء آخر. ظننت أنهم سوف يكرهونني جميعا، وبدت لي الكراهية في ذلك الوقت شيئا مرغوبا فيه للغاية وكأنه هدية من الأجنحة.
ولكن كلا، فالحرية لا تأتي بهذه السهولة، رغم أن العمة مويرا - التي ظلت تؤكد أنها اضطرت إلى جذبي بعيدا عن ذراع ماري آجنس والدماء تغرق فمي (وهي كذبة، فقد كنت قد ابتعدت عنها بالفعل، وكانت ماري آجنس تقف منحنية هناك تبكي وقد تملك منها الذهول بعد أن خارت قواها الشيطانية) - أمسكت بكتفي وأخذت تهزني بقوة وهي تمسك وجهي الذي كان على بعد سنتيمترات قليلة من صدرها المصفح، وجسدها يرتجف فوقي كتمثال يوشك على الانفجار. «كلبة مسعورة! الكلاب المسعورة فقط هي التي تعض بهذا الشكل! يجب على والديك أن يحبساك!»
وضعت العمة إلسبيث منديلا على ذراع ماري آجنس، وجذبتها العمة جريس والسيدات الأخريات وأخذن يربتن عليها. «سوف أصطحبها إلى الطبيب، يجب أن يخيط لها هذا الجرح وتأخذ حقنا، فقد تكون تلك الطفلة مسعورة. ثمة أطفال مسعورون بالفعل.» «كلا يا عزيزتي مويرا، إنها بالكاد تخطت الجلد، إنه ألم لحظي فحسب، لا يحتاج الأمر سوى تنظيف الجرح ووضع ضمادة عليه وسوف يصبح الأمر على ما يرام.» حولت العمة إلسبيث والعمة جريس انتباههما من ماري آجنس إلى شقيقتهما، وأمسكتا بها كل منهما من جانب لتهدئا من روعها، كما لو كانتا تحاولان الإبقاء عليها سليمة في قطعة واحدة حتى يمر خطر الانفجار. «لا يوجد ضرر خطير يا عزيزتي، لا يوجد ضرر خطير.»
ارتفع صوت أمي الواضح - والذي أوحى لي بالخطر - وهي تقول: «إنه خطئي أنا، إنه خطئي بالكامل. لم يكن علي أن أحضر هذه الطفلة إلى هنا اليوم ، إنها شديدة العصبية والتوتر، ومن الوحشية تعريض طفلة كهذه لموقف حضور جنازة.» وعلى غير المتوقع - وفي أغرب وقت يمكن أن يشعر فيه المرء بالامتنان - فقد أبدت تفهما وقدمت لي وسيلة إنقاذ عندما لم تعد ذات فائدة كبيرة.
ولكنها كانت ذات تأثير، رغم أنه في بعض الأحيان كان استخدام كلمة «وحشية» في حد ذاته كفيلا بخلق هالة من الصمت والذعر حولها. ولكنها في تلك المرة وجدت تعاطفا، فقد تبنت الكثير من السيدات تفسيرها وأخذن يسهبن فيه. «إنها على الأرجح لم تكن تدرك ما تفعله.» «كانت في حالة هستيرية من التوتر والانفعال.» «لقد فقدت الوعي ذات مرة في جنازة قبل أن أتزوج.»
طوقتني روث ماكوين بذراعها وسألتني عما إذا كنت أرغب في تناول قرص أسبرين.
وهكذا، بينما وجدت ماري آجنس من يواسيها وينظف جرحها ويضمده، ووجدت العمة مويرا من يهدئ من روعها (كانت هي من تناولت الأسبرين وبعض الحبوب الخاصة للقلب من حقيبتها)، كنت أنا أيضا محاطة بمن يعتني بي، واصطحبوني إلى تلك الغرفة ووضعوني على الأريكة وغطوني بالبطانية كما لو كنت مريضة، وأعطوني كذلك الكعك والشاي.
لم يفسد تصرفي الجنازة، كان الباب موصدا، ولم يكن بوسعي أن أراها، ولكنني كنت أسمع أصوات الغناء مقطعا في البداية ثم بعد ذلك بمزيد من الطاقة واللهفة والإيمان الراسخ.
لأن ألف سنة في عينيك
مثل يوم أمس بعد ما عبر
وكهزيع من الليل
جرفتهم.
كان المنزل مليئا بالأشخاص المتزاحمين، ملتحمين كأقلام الرصاص القديمة غير الحادة يغنون في انصياع، وكنت أشعر أني أقف وسطهم رغم كوني محبوسة وحدي هنا. وسوف يتذكر معظمهم طوال حياتهم أنني قد عضضت ذراع ماري آجنس أوليفانت في جنازة العم كريج، وهكذا سوف يتذكرون أنني كنت شديدة العصبية غريبة الأطوار أو سيئة التربية أو حالة يصعب تصنيفها. ولكن تصنيفي لن يخرج عن هذا، كلا، سوف أصبح «فرد العائلة» الشديد العصبية الغريب الأطوار السيئ التربية، وهذا أمر مختلف تماما.
إن الحصول على السماح يخلق نوعا غريبا من الشعور بالخزي. شعرت بالحر، ليس بسبب البطانية فحسب، بل شعرت أنني مقيدة ومختنقة كما لو كنت أتحرك وأتحدث لا من خلال الهواء بل من خلال وسط سميك كالقطن. كان ذلك الشعور بالخزي جسديا، ولكنه يفوق الخزي الجنسي كثيرا - شعوري السابق بالخزي من العري - فالآن لم يكن الأمر مجرد جسد عار فحسب، بل بدا وكأن كل الأعضاء الداخلية - كالمعدة والقلب والرئتين والكبد - ترقد مكشوفة وعاجزة. وأقرب شعور مررت به في حياتي لهذا الشعور هو ما شعرت به عندما كنت أتعرض للدغدغة بصورة تفوق قدرتي على الاحتمال، وهو شعور حسي رهيب بالافتضاح والعجز وخيانة الذات. وقد امتد ذلك الشعور بالخزي مني ليغمر كل أنحاء المنزل ويغطي الجميع، حتى ماري آجنس، وحتى العم كريج في حالة الاستسلام المنبوذة الراهنة. أن تكون بشرا من لحم ودم ما هو إلا نوع من الإذلال. وهكذا، تملكت حواسي رؤيا هي النقيض تماما من رؤيا المتصوف عن الضوء والنظام التي يتعذر التعبير عنها، رؤيا - يتعذر التعبير عنها هي الأخرى - عن الاضطراب والبذاءة، رؤيا عن العجز الذي تجلى لي في أفظع صورة ممكنة. ولكن على غرار النوع الآخر من الرؤى، لم تستمر تلك الرؤيا إلا للحظة أو اثنتين، ثم انهارت من شدتها، ولم أتمكن من إعادة بنائها أو حتى تصديقها، فور أن انتهت. وعندما شرعوا في إنشاد الترنيمة الأخيرة في الجنازة كنت قد استعدت نفسي، ولم يكن بي سوى الضعف الطبيعي الذي يشعر به أي شخص بعد قيامه بعض ذراع آدمية، واستعاد الآباء المؤسسون للاتحاد الكونفدرالي الموجودون أمامي ثيابهم ووقارهم، وانتهيت من احتساء كوب الشاي وأنا أستكشف طعمه غير المألوف شديد الأهمية في عالم الكبار.
نهضت وفتحت الباب ببطء، وكان بابا الغرفة الأمامية مفتوحين، والناس يتحركون ببطء، وظهورهم المحنية التي توحي بالقلق تبتعد عني.
يا يسوع ناد علينا فوق اضطراب
بحر حياتنا الهائج.
دخلت الغرفة دون أن يلاحظني أحد وأقحمت نفسي في الصف أمام سيدة طيبة لا تعرفني تفوح منها رائحة العرق، وانحنت هامسة لي بأسلوب مشجع: «لقد أتيت في اللحظة المناسبة لإلقاء نظرة الوداع .»
كانت جميع الستائر مسدلة لإبعاد شمس ما بعد الظهيرة، وكانت الغرفة حارة كئيبة، تخترقها أسهم متفرقة من الضوء وكأنها مخزن للتبن في ظهيرة يوم شديد الحرارة. كانت رائحة المكان تعبق بالزنابق البيضاء اللينة، وكانت رائحته كالقبو كذلك. تقدمت للأمام بفعل دفع الآخرين حتى وصلت إلى جانب النعش الذي كان موضوعا أمام المدفأة، تلك المدفأة الجميلة التي لا تستخدم أبدا ذات الأحجار المغطاة بالشمع كالزمرد. وكان داخل النعش مغطى بالساتان الأبيض المطوي كأفخم الثياب، وكان النصف السفلي من جسد العم كريج مغطى بغطاء لامع، أما النصف العلوي من الأكتاف وحتى الخصر فكان مختبئا تحت الزنابق. وبالمقارنة بكل هذا البياض الذي يحيط به، بدا وجهه نحاسي اللون تعلوه نظرة ازدرائية. لم يبد نائما، ولم يبد على الإطلاق كما وجدته عندما دخلت إلى مكتبه ذات مرة كي أوقظه بعد ظهيرة أحد أيام الأحد. فقد استقرت جفونه برفق على عينيه، وأصبحت التجاعيد في وجهه شديدة السطحية، وهو نفسه بدا ممحوا، فهذا الوجه كان بمثابة قناع رقيق من الجلد مطلي وملقى فوق الوجه الحقيقي، أو فوق خواء مستعد لأن ينهار إذا وخزته بإصبعك. انتابتني تلك الرغبة، ولكن على مستوى أبعد ما يكون عن إمكانية التنفيذ، كما قد تنتابك الرغبة في الإمساك بسلك كهربائي. وهكذا كان العم كريج - الراقد تحت الزنابق على وسادته المصنوعة من الساتان - بمثابة الناقل الرهيب الصامت، غير المبالي لقوى قد تشتعل في لحظة وتحرق الواقع بأكمله في أرجاء تلك الغرفة، تاركة إيانا في ظلام دامس. استدرت بعيدا وفي أذني طنين، ولكنني شعرت بالراحة والسعادة؛ لأنني أقدمت على تلك الخطوة في نهاية المطاف ونجوت منها، وأخذت أشق طريقي عبر الغرفة المزدحمة التي ينبعث منها الغناء متجهة نحو أمي التي كانت تجلس وحدها بجوار النافذة، فقد كان أبي مع حاملي النعش الآخرين، ولم تكن تغني بل كانت تعض شفتيها وتبدو متفائلة بصورة سخيفة. •••
وبعد ذلك قامت العمة إلسبيث والعمة جريس ببيع المنزل في جنكينز بيند والأرض والأبقار، وانتقلتا للعيش في جوبيلي. وقالتا إنهما اختارتا جوبيلي - وليس بلو ريفر حيث تعرفان أناسا أكثر أو بورترفيلد حيث تعيش العمة مويرا - لأنهما ترغبان في تقديم العون قدر استطاعتهما لأبي وعائلته، وبالفعل كانتا تجلسان في منزلهما الذي يقع أعلى تل في الطرف الشمالي من المدينة كحارستين مشدوهتين جريحتين، ولكن تشعران بالواجب تجاهنا وتسهران على راحتنا، وإن كانت حياتنا بالنسبة لهم مثيرة للشكوك. كانتا ترتقان جوارب أبي الذي اعتاد أن يأخذها إليهما، وكانت لديهما حديقة أيضا وتصنعان لنا المخللات، وكانتا تقومان بأعمال الإصلاحات والحياكة والخبز لنا. كنت أزورهما مرة أو اثنتين في الأسبوع، وفي بادئ الأمر كان ذلك عن طيب خاطر مني، وهو ما يرجع جزئيا إلى الطعام، ولكن مع التحاقي بالمدرسة الثانوية بدأت أزورهما على مضض، وفي كل مرة أزورهما، تقولان: «ما الذي أخرك هكذا؟ إنك الغريبة هنا!» وكانتا تجلسان بانتظاري كما لو كانتا قد انتظرتا طوال الأسبوع في الشرفة الصغيرة المعتمة المغطاة بالستائر إذا كان الجو لطيفا، فقد كان بإمكانهما أن تريا من بالخارج، ولكن لا أحد يمكنه رؤية ما بالداخل.
ماذا كان بوسعي أن أقول؟ أصبح منزلهما أشبه بدولة صغيرة محكمة الإغلاق بغطاء من العادات المنمقة واللغة المعقدة بصورة أنيقة وسخيفة في الوقت نفسه، عالم كانت فيه الأخبار الحقيقية للعالم الخارجي ليست ممنوعة تماما، ولكن أصبح توصيلها إليهما مهمة أكثر صعوبة.
وفي الحمام أعلى المرحاض، وضعتا ملاحظتهما التوبيخية القديمة المكتوبة بالتطريز:
عطر الهواء قبل أن تغادر
هذا صنيع سيقدره الآخرون
وتحت اللافتة ثمة حاوية معلقة بها أعواد ثقاب جديدة. كنت أشعر دائما بالخجل وأنا أقرأ هذه الملحوظة وكأنني ضبطت متلبسة، ولكنني كنت دائما ما أشعل عود ثقاب.
ظلتا تقصان القصص نفسها وتلعبان الحيل نفسها التي أصبحت الآن مستهلكة تماما وفقدت معناها من كثرة الاستخدام، فبمرور الزمن أصبحت كل كلمة وكل تعبير وجه وكل حركة باليد تبدو شيئا قديما أتذكره جيدا، وكانت كل منهما نفسا مركبة بعناية فائقة، فكلما تقدمت في السن بدت هذه التركيبة أكثر ضعفا وإثارة للإعجاب وغير إنسانية. كان ذلك ما انتهى إليه حالهما بعد أن فقدا الرجل الذي يهتمان بأمره ويعجبان به، وبعدما رحلتا عن المكان الذي ازدهر فيه تكلفهما بصورة طبيعية. كانت العمة إلسبيث تصاب بالصمم تدريجيا، وعانت العمة جريس من التهاب المفاصل في يديها، وهكذا اضطرت في نهاية الأمر لأن تتخلى عن كل ما تفعل ما عدا النوع الرديء من الحياكة. لكنهما في النهاية، لم تتغيرا ولم تتضررا ولم يظهر عليهما المرض، فقد احتفظتا - بمزيد من الجهد والشعور بالالتزام - بهيئتهما الخارجية كما هي.
وعندما انتقلتا، اصطحبتا معهما مخطوطة العم كريج، ومن حين لآخر كانتا تتحدثان عن إبرازها لشخص ما؛ مثل السيد بيوكانان معلم التاريخ في المدرسة الثانوية، أو السيد فوكس من جريدة «هيرالد أدفانس»، ولكنهما لم ترغبا في أن يبدو الأمر كما لو أنهما تطلبان خدمة. وبمن يمكنهما الوثوق؟ فبعض الناس قد يستحوذون عليها ويعرضونها كما لو أنها عملهم من صنع أيديهم.
وذات مساء أحضرتا العلبة المصنوعة من القصدير ذات اللونين الأحمر والذهبي، والتي تحمل صورة الملكة ألكساندرا ممتلئة بكعك الشوفان الدائري الملصق ببعضه بالتمر المطهو، بالإضافة إلى صندوق كبير آخر من القصدير أسود اللون مضاد للحريق وموصد بقفل. «إنه تاريخ العم كريج.» «ما يقرب من ألف صفحة.» «أكبر من عدد صفحات رواية «ذهب مع الريح»!» «وقد كتبها بشكل جميل بلا أخطاء.» «لقد كتب الصفحة الأخيرة بعد ظهر اليوم الذي توفي فيه.»
وألحتا علي قائلتين: «خذيه، اطلعي عليه.» بنفس الطريقة التي يقدمان لي بها الكعك.
قلبت الصفحات سريعا حتى الصفحة الأخيرة. «اقرئي فيه قليلا، وسوف يثير اهتمامك. ألم تحصلي دائما على علامات جيدة في مادة التاريخ؟»
أثناء الربيع والصيف وبداية الخريف من ذلك العام، أقيمت العديد من المباني في بلدات فيرمايل وموريس وجرانتلي، وفي زاوية طريقي كونسيشن فايف وريفر سايدروود في فيرمايل، أنشئت كنيسة ميثودية كي تخدم طائفة كبيرة متزايدة في تلك المنطقة، وعرفت باسم كنيسة الطوب الأبيض، ولكن لسوء الحظ فإنها لم تبق إلا حتى عام 1924، عندما دمرها حريق مجهول السبب، ولكن مخزن العربات التي تجرها الخيول نجا من الحريق رغم أنه مصنوع من الخشب. وعلى الجانب المقابل، بنى السيد أليكس هيدلي متجرا عاما كبيرا وافتتحه، ولكنه توفي بعد شهرين من الافتتاح من جراء الإصابة بسكتة دماغية، واستأنف ولداه إدوارد وتوماس العمل. وثمة ورشة حدادة تعمل على مسافة في طريق فيفث كونسيشن، واسم العائلة التي تملكها أودونيل. وكانت هذه الزاوية من الطريق تعرف إما باسم زاوية هيدلي أو زاوية الكنيسة. ولا يوجد شيء في هذا الموقع في الوقت الحالي سوى مبنى المتجر الذي استأجرته عائلة وتعيش فيه.
وبينما كنت أقرأ ذلك الجزء، قالتا بتردد لطيف بسبب المفاجأة إن تلك المخطوطة ملكي. «وكذلك كل ملفاته وصحفه القديمة سوف تصبح ملكا لك عند وفاتنا، أو قبلها، فلا حاجة للانتظار! إذا كنت مستعدة لذلك.» «لأننا نأمل؛ نأمل أنك يوما ما ستتمكنين من استكمالها.» «كنا نفكر في إعطائها لأوين لأنه الصبي ...» «ولكنك أنت من تملكين موهبة كتابة موضوعات الإنشاء.»
أكدتا لي أنها مهمة شاقة، وأنها تتطلب مني الكثير، ولكنهما اعتقدتا أنها ستصبح أكثر يسرا؛ إذا أخذت المخطوطة معي للمنزل، واحتفظت بها، وظللت أقرؤها من حين لآخر؛ كي أعتاد على كتابة العم كريج. «كان لديه الموهبة. كان بإمكانه أن يضم كافة التفاصيل ويحافظ على السلاسة في القراءة.» «ربما تتعلمين محاكاة طريقته.»
ولكنهما كانتا تتحدثان إلى شخص يعتقد أن المهمة الوحيدة للكاتب هي إنتاج تحفة أدبية.
وعندما رحلت حملت الصندوق معي بصعوبة تحت ذراعي. وقفت العمة إلسبيث والعمة جريس في مدخل المنزل تودعانني بطريقة احتفالية، وشعرت كما لو أنني سفينة تحمل على متنها آمالهما وتشد الرحال وتختفي في الأفق. وضعت الصندوق أسفل فراشي في المنزل، ولم أستطع مناقشة ذلك الأمر مع أمي. وبعد مرور بضعة أيام خطر لي أنه مكان مناسب أحتفظ فيه بالقصائد القليلة وأجزاء الرواية غير المكتملة التي كتبتها؛ فقد كنت أرغب في إخفائها بعيدا بأمان، حيث لا يجدها أحد، وحيث تظل آمنة في حالة اندلاع حريق. فرفعت حشية الفراش وأخرجتها، حيث كنت أحتفظ بها حتى ذلك الوقت في هذا المكان مطوية داخل نسخة كبيرة مسطحة من رواية «مرتفعات ويذرينج».
لم أرغب في وضع مخطوطة العم كريج مع مؤلفاتي الخاصة، فقد بدت لي فاقدة للحياة، ثقيلة ومملة وعديمة الفائدة، حتى إنني ظننت أنها سوف تفقد مؤلفاتي الخاصة الروح وتجلب لي الحظ السيئ، فأخذتها إلى القبو وتركتها في صندوق من الورق المقوى.
وفي الربيع الأخير الذي قضيته في جوبيلي عندما كنت أذاكر لخوض الاختبارات النهائية، انغمر القبو بالماء حتى ارتفاع ثلاث أو أربع بوصات، ونادتني أمي كي أساعدها، فهبطنا وفتحنا الباب الخلفي، ونزحنا المياه الباردة ذات الرائحة الكريهة التي تشبه رائحة المستنقعات نحو مصرف خارجي، فوجدت الصندوق والمخطوطة وكنت قد نسيت أمرهما تماما، وتحولت المخطوطة إلى مجرد رزمة كبيرة من الأوراق المبللة.
لم أتفقدها كي أرى التلف الذي لحق بها أو ما إذا كانت قابلة للإنقاذ، بل بدا الأمر لي خطأ منذ بدايته إلى نهايته.
بالطبع فكرت في العمة إلسبيث والعمة جريس (كانت العمة جريس في ذلك الوقت في مستشفى جوبيلي تتعافى - كما ظن الجميع - من كسر في مفصل الفخذ، وكانت العمة إلسبيث تزورها يوميا وتجلس بجوارها وتقول للممرضات - اللاتي كن يحببنهما - «أتصدقن ما قد يفعله البعض كي يرقدوا في الفراش ويستمتعن بخدمة ورعاية الآخرين لهم؟») ظللت أفكر فيهما وهما تريان المخطوطة وهي تغادر منزلهما في صندوقها المغلق وشعرت بالندم؛ ذلك النوع من الندم الرقيق الذي يحمل على الجانب الآخر منه شعورا قاسيا بالرضا لا تشوبه شائبة.
الأميرة إيدا
أصبحت أمي تبيع الموسوعات، وأطلقت العمة إلسبيث والعمة جريس على ذلك العمل «الخروج في الطرقات!»
وكانتا تسألاني: «هل تخرج والدتك في الطرقات كثيرا هذه الأيام؟» وكنت أجيب: «كلا، لم تعد تخرج كثيرا.» ولكنني كنت أعلم أنهما تعلمان أنني أكذب، وقد تتابعان بلهجة مشفقة قائلتين: «لا يكون لديها متسع من الوقت للكي، عندما تضطر إلى الخروج في الطرقات.»
كنت أشعر بثقل غرابة أطوار أمي، كنت أشعر بشيء سخيف ومحرج بشأنها - لم تكن عمتاي تظهران سوى القليل في كل مرة - يحط على كتفي المرتعدتين. كنت أرغب بالفعل في أن أتبرأ منها، وأن أسترضيهما، أن أكون كيتيمة أو منبوذة في ثيابي المجعدة. وفي الوقت نفسه، كنت أرغب في حمايتها، فلم تكن ستتفهم مدى احتياجها للحماية من المرأتين العجوزين بمزاجهما المحير قليلا وأخلاقهما الرقيقة. كانتا ترتديان الفساتين القطنية الداكنة؛ ذات الياقات البيضاء المنشاة والمكوية بعناية، والدبابيس المزخرفة على هيئة زهور والمصنوعة من الخزف، وكان منزلهما به ساعة رنانة تشير إلى ربع الساعة إشارة لطيفة، بالإضافة إلى السراخس المائية وأزهار البنفسج الأفريقية والبسط المشغولة يدويا والستائر ذات الأهداب، وقبل كل شيء رائحة الشمع والليمون النظيفة القوية. «كانت هنا بالأمس كي تأخذ الكعك الذي صنعناه لك، هل كان جيدا؟ هل كان خفيفا؟ أخبرتنا بأنها قد علقت في طريق جيريكو. علقت وحدها تماما في طريق جيريكو! يا لتلك المسكينة آدا! ولكن تخيلي منظر الوحل وهو يغطيها، كان باعثا على الضحك!»
قالت العمة جريس بلهجة اعتذار: «كان علينا أن ننظف مشمع أرضية القاعة.» كما لو كان ذلك أمرا لا تود أن تخبرني به.
ومن وجهة النظر الفوقية تلك، بدت أمي كما لو كانت امرأة متوحشة.
كانت أمي تقود سيارتنا الشيفروليه طراز عام 1937، عبر الطرق السريعة والطرق الخلفية لمقاطعة واواناش، عبر الطرق المفروشة بالحصى والطرق الترابية وممرات الأبقار إذا رأت أن هذا يقودها إلى عملاء، وكانت تحمل رافعة ومجرفة في حقيبة السيارة، وزوجا من الألواح القصيرة؛ كي تسهل مرورها خارج حفر الوحل. كانت تقود طوال الوقت كما لو أنها لن تتفاجأ إذا ما رأت الأرض تتشقق أمام عجلاتها لعشرة أقدام، وكانت تطلق نفير السيارة في يأس في المنعطفات التي لا ترى ما بعدها، وكانت قلقة دائما من أن الجسور الخشبية قد لا تحتملها، ولم تكن تدع أي شيء يضطرها إلى الوقوف على جانب الطريق الخائن المتهاوي.
كانت رحى الحرب لا تزال دائرة، وأصبح المزارعون يربحون الأموال أخيرا، سواء من الخنازير أو بنجر السكر أو الذرة، ولكنهم ربما لا يودون إنفاقها في اقتناء الموسوعات، بل كانت أذهانهم تتوجه إلى الثلاجات أو السيارات، ولكن تلك الأشياء لم تكن في متناول اليد، وفي ذلك الوقت تظهر أمي التي تسحب حقيبة كتبها بجرأة، وتدخل إلى المطابخ وغرف الاستقبال الباردة التي تفوح برائحة المآتم، وتفتح عليهم النيران باسم المعرفة في حذر وتفاؤل. تدخل إليهم في محاولة لبيع سلعة باردة يمكن لمعظم الراشدين أن يستغنوا عنها، ولكن لا أحد ينكر أنها شيء لطيف للأطفال. وقد كانت أمي تعتمد على ذلك.
ولو كانت السعادة في هذا العالم تقاس بالاقتناع بما تبيعه، لكانت أمي سعيدة. فلم تكن المعرفة شيئا باردا بالنسبة لها، بل كانت دافئة وممتعة. كانت تجد راحة تامة - حتى في تلك المرحلة من عمرها - في معرفة موقع نهر سيليبس، وقصر بيتي، وترتيب زوجات هنري الثامن، والتعرف على النظام الاجتماعي للنمل، وطرق ذبح القرابين التي يمارسها الآزتيك، والسباكة في كنوسوس. وكانت تتحمس وهي تحكي عن تلك الأشياء وتقصها على أي شخص. كانت العمة إلسبيث والعمة جريس تقولان باستخفاف وبلا غيرة: «إن والدتك تعرف الكثير من الأمور.» ووجدت أنه بالنسبة للكثير من الناس - وربما لمعظم الناس - تعد المعرفة نوعا من غرابة الأطوار، شيئا بارزا كالنتوءات التي تظهر على الجلد.
ولكنني كنت أشارك أمي ذلك الاهتمام، لم أستطع أن أمنع نفسي من ذلك. كنت أحب مجلدات الموسوعات وثقلها (من الغموض والمعلومات الجميلة) وهي تسقط مفتوحة على حجري، وكنت أحب غلافها الأخضر الداكن الوقور، والخطوط الذهبية المتحفظة المتداخلة كشبكة العنكبوت على ظهورها. وقد تفتح الموسوعة على صورة منحوتة معدنية لمعركة تدور رحاها في المستنقعات وثمة قلعة في الخلفية أو في ميناء القسطنطينية، وقد صور سفك الدماء والغرق وقطع الرءوس واحتضار الجياد في عرض مسرحي مبالغ وخيال بديع. وأصبح لدي انطباع بأنه في الأزمان الغابرة، كان الجو دائما مصطنعا مشئوما، والمناظر الطبيعية عابسة، والبحر يتلألأ بظلال رمادية باهتة أو لامعة. فها هي شارلوت كورداي في طريقها للمقصلة، وماري ملكة اسكتلندا في طريقها للمشنقة، ورئيس الأساقفة لود يمنح مباركته لستافورد عبر قضبان نافذة السجن. ولا يمكن لأحد أن يشك في أن تلك هي الطريقة التي كانوا يبدون عليها بالفعل: حلل سوداء، وأيد مرفوعة، ووجوه بيضاء، وتعلو الوجوه رباطة جأش وشجاعة بطولية. وكانت الموسوعة تضم بالطبع أنواعا أخرى من الصور: كالخنافس، وأنواع الفحم المختلفة، والأجزاء الداخلية من المحركات موضحة برسوم بيانية، وصور لأمستردام أو بوخارست التقطت في أيام ضبابية معتمة في عشرينيات القرن العشرين (يمكن معرفة ذلك من السيارات المربعة المرتفعة). لقد كنت أفضل التاريخ.
في بادئ الأمر، كنت أتعلم بعض الأشياء من الموسوعة مصادفة، ثم أصبحت أتعلم منها عمدا، فلدي ذاكرة استثنائية، وكان تعلم مجموعة من الحقائق اختبارا لا يقاوم بالنسبة لي، كمحاولة الوثب مسافة مربع سكني كامل على قدم واحدة.
أدركت أمي أنها قد تستفيد مني في عملها. «ابنتي تقرأ هذه الكتب وأنا أشعر بالدهشة مما تعلمته؛ فعقول الأطفال كمصيدة الذباب، أيما تضع عليها فسوف يلتصق. عزيزتي ديل، هل يمكنك إخبارنا بأسماء رؤساء الولايات المتحدة بدءا من جورج واشنطن وحتى اليوم؟» أو: «أخبرينا بأسماء دول أمريكا الجنوبية وعواصمها»، أو «من أين أتى كبار المستكشفين وأين ذهبوا.» كما كان للتواريخ أيضا وقع سار على النفوس؛ فكنت أجلس في منازل الغرباء أردد تلك الأشياء بطلاقة وأنا أرسم على وجهي نظرة تنافسية جادة وحادة الذكاء، ولكنها كانت بغرض إحداث التأثير المنشود فحسب، أما في أعماقي فكان يغمرني شعور بالرضا عن الذات، فقد كنت أعلم أنني أعلم، ومن يمكنه ألا يحبني بسبب علمي أين تقع كيتو؟
القليل من الناس في حقيقة الأمر. ولكن أين حصلت على أول إشارة في ذلك الاتجاه؟ ربما كان ذلك من مشاهدة أوين - الذي لم يكن يعلم تاريخين أو عاصمتين أو رئيسين راحلين على حد علم أي شخص - وهو يلف قطعة طويلة من العلك، بعد أن مضغها، حول إصبعه برقة وخلسة. أو قد يكون ذلك من وجوه أطفال الريف التي تتفاداني وتشيح عني بإحراج معقد واضح. وذات يوم لم أعد أرغب في القيام بذلك مرة أخرى، وكان القرار لسبب عضوي؛ فالإذلال ولد شعورا بالوخز في أطراف الأعصاب وبطانة المعدة، وبدأت أقول: «لا أعرفهم ...» ولكنني كنت أكثر بؤسا وخجلا من أن أقول تلك الكذبة. «جورج واشنطن، جون آدامز، توماس جيفرسون ...»
فقالت أمي بحدة: «هل تشعرين بالغثيان؟»
كانت تخشى من أن أكون على وشك التقيؤ، فقد كنت أنا وأوين معتادين على التقيؤ في المواقف المحرجة. فهززت رأسي وانزلقت من على المقعد وخرجت واختبأت في السيارة وأنا أمسك معدتي. ولكن أمي أدركت عندما أتت خلفي أن ثمة شيئا أكبر من ذلك.
فقالت في لهجة عملية: «إنك تصابين بالخجل، لقد ظننت أنك تستمتعين بذلك.» وبدأ الوخز مرة أخرى. كانت تلك هي المشكلة بالضبط، كنت أستمتع بذلك، ولم يكن لائقا منها أن تقول ذلك. وقالت بلهجة متباهية: «الخجل والارتباك، تلك هي الرفاهيات التي لا يمكنني تحملها.» وأدارت محرك السيارة مردفة: «رغم ذلك أقول لك إن ثمة أفرادا في عائلة والدك لن يفتحوا أفواههم بكلمة أمام الناس، حتى إذا كان ذلك ليقولوا إن بيتهم يحترق.»
ومنذ ذلك الحين عندما كانت أمي تسألني برفق: «هل ترغبين في الإجابة على بعض الأسئلة اليوم؟» كنت أنزلق في المقعد وأهز رأسي نفيا وأقبض على معدتي في إشارة للاحتمال السريع لعودة الشعور بالغثيان. كان على أمي أن تستسلم، والآن عندما كنت أخرج معها في السيارة في أيام السبت أصبحت مثل أوين تماما، شحنة مجانية عديمة الجدوى، ولم أعد شريكة في مشروعاتها. وقالت هي: «تريدين إخفاء مواهبك وعقلك بدافع الحماقة، هذا ليس المستقبل الذي أتطلع إليه. افعلي ما تشائين.»
لكن كان لا يزال بداخلي آمال غامضة لخوض مغامرة، وشاركني أوين في هذه الآمال، على الأقل على المستوى الأكثر مادية. كنا نأمل في شراء حقائب من الحلوى البنية الذهبية المقطعة إلى مكعبات كالطوب الإسمنتي، والتي تذوب في الفم في الحال، وتباع في متجر واحد في القرية، مغطى بستائر تشبه لجام الفرس وتفوح منه رائحة الخيول. وكنا نأمل على الأقل في أن نقف للتزود بالبنزين في مكان يبيع المشروبات الغازية الباردة. وكنت آمل في السفر بعيدا حتى بورترفيلد أو بلو ريفر، وهي مدن تستمد سحرها من كونها أماكن لا نعرفها ولسنا معروفين فيها، من كونها ليست جوبيلي. وبينما أسير في شوارع إحدى تلك المدينتين أشعر بأنني مجهولة كحلية أو كذيل طاووس، ولكن بحلول العصر، تكون تلك الآمال إما انحسرت أو تحقق بعضها، وهو ما يخلف فراغا دائما. وأمي أيضا كانت تمر ببعض لحظات التدهور من تلك القوى الوحشية التي دفعتها إلى الخارج هنا في المقام الأول. ومع اقتراب حلول الظلام، والهواء البارد يتسلل من فتحة في أرض السيارة، وصوت المحرك المتعب، ولا مبالاة الريف؛ كنا نشعر بالتقارب بيننا ونشتاق إلى منزلنا. كنا نقود عبر قرية لا نعرف أننا نحبها، لا متعرجة ولا مسطحة بل متهدمة بلا إيقاع معروف، وهي ذات تلال منخفضة ووديان تمتلئ بالآجام، ومستنقع وشجيرات وحقول، وأشجار الدردار شاهقة الارتفاع - التي تقف كل منها منفصلة واضحة الشكل - تبدو مقدرا لها الهلاك، ولكننا لم نعرف ذلك أيضا. كانت تبدو مثل مراوح مفتوحة قليلا، وأحيانا على شكل القيثارة.
كانت جوبيلي مرئية من فوق مرتفع على بعد حوالي ثلاثة أميال على الطريق السريع رقم 4، وبيننا وبينها مسطحات النهر الذي يفيض ماؤه في فصل الربيع من كل عام، والمنحنى الخفي لنهر واواناش، والجسر الذي يعبر فوقه مطليا باللون الفضي والذي يبدو في ضوء الغسق كما لو كان قفصا معلقا. كان الطريق السريع رقم 4 هو نفسه الشارع الرئيسي في جوبيلي، وكان بوسعنا أن نرى برجي مكتب البريد ومبنى البلدية يواجهان بعضهما البعض؛ مبنى البلدية بقبته المذهلة التي تخفي الجرس الأسطوري (الذي يدق مع بداية الحروب ونهايتها، ومستعد للدق في حالة حدوث الزلازل أو الفيضانات)، ومكتب البريد ببرج الساعة المربع المفيد العملي. كانت المدينة تمتد على جانبي الشارع الرئيسي بمسافة متساوية تقريبا، وكان شكلها - الذي يكون لدى عودتنا يمكن تمييزه بالأضواء - يبدو كخفاش جناحه مرفوع قليلا ويحمل البرج المائي غير المضاء وغير المميزة قمته.
لم تكن أمي تدع هذا المشهد يمر دون أن تبدي تعليقا ما، مثل «ها هي جوبيلي» ببساطة أو «حسنا، ها هي العاصمة»، أو قد تستشهد - بصورة تفتقر إلى الدقة والوضوح - بقصيدة عن الدخول من نفس الباب الذي خرجت منه. وبتلك الكلمات - سواء أكانت منهكة أم ساخرة أم ممتنة حقا - تستمد جوبيلي - بالنسبة لي - وجودها، كما لو أنه بدون تشجيعها وقبولها لن تكون تلك الأضواء في الشارع والأرصفة والحصن في البرية وذلك النمط المفتوح والسري للمدينة - الذي يمثل مأوى ولغزا في الوقت نفسه - موجودا.
خلال كل رحلاتنا وعودتنا للمنزل وفي عالمنا بأسره بوجه عام، كانت أمي تمارس سلطة غامضة مروعة، ولم يكن بوسعي القيام بأي شيء، ليس بعد.
استأجرت أمي منزلا في المدينة، وكنا نقيم هناك من سبتمبر حتى يونيو، ولا نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس إلا في الصيف. وكان أبي يحضر لتناول العشاء ويبيت معنا، وذلك حتى يسقط الثلج، فيأتي إذا أمكنه ذلك ليقضي معنا ليلة السبت وجزءا من يوم الأحد.
كان المنزل الذي استأجرناه في نهاية شارع ريفر على مسافة قريبة من محطة السكك الحديدية الكندية، وهو ذلك النوع من المنازل الذي يبدو أكبر من حجمه، فسقفه مرتفع لكن منحدر - والطابق الأول مصنوع من الخشب والثاني من القرميد - به واجهة بارزة في غرفة الطعام وشرفات أمامية وخلفية، وكانت الشرفة الأمامية بها نافذة أخرى صغيرة عديمة الفائدة يتعذر الوصول إليها ملتصقة في سقفها. كانت كل الأجزاء الخشبية من المنزل مطلية باللون الرمادي؛ ربما لأن اللون الرمادي لا يحتاج لإعادة الطلاء كثيرا كاللون الأبيض. وفي الطقس الدافئ كانت نوافذ الطابق السفلي بها سقيفة متقشرة وباهتة، وكان المنزل بطلائه الرمادي الباهت والشرفات المنحدرة يذكرني بالشاطئ بشمسه والمرعى العاصف القاسي.
ولكنه كان منزلا ينتمي للمدينة، فكان يوحي بالرفاهية والجو الرسمي بطريقة لم تكن متاحة في طريق فلاتس. كنت أحيانا أفكر في منزلنا القديم، وواجهته القديمة الشاحبة، والمصطبة الإسمنتية خارج باب المطبخ، ويراودني شعور بالذنب واهن وبائس، وأشعر بألم خفيف كالذي يشعر به المرء عند التفكير في جد بسيط عجوز أصبح أكبر من أن يستمتع بألعابه. كنت أفتقد التواجد بالقرب من النهر والمستنقع والفوضى الحقيقية في الشتاء والعواصف الثلجية التي تقيد حركتنا في منزلنا كما لو كان سفينة نوح. ولكنني كنت أحب النظام والترتيب المعقد لحياة المدينة التي لا يمكن إلا لشخص من خارجها أن يراها. وفي طريق العودة من المدرسة إلى المنزل في عصر أيام الشتاء، كنت أشعر بالمدينة كلها حولي، كل الشوارع التي تحمل أسماء شارع ريفر وشارع ميسون وشارع جون وشارع فيكتوريا وشارع هورون - ومن الغريب أيضا شارع الخرطوم - وفساتين المساء شفافة وشاحبة كالزعفران في نافذة متجر كرال لملابس السيدات، وفرقة «الرسالة المعمدانية» في قبو كنيستهم يغنون «ثمة اسم جديد مكتوب في كتاب المجد، وهو اسمي أنا، اسمي أنا، اسمي أنا!» وعصافير الكناريا في أقفاصها في متجر سيلرايت، والكتب في المكتبة، والبريد في مكتب البريد، وصور أوليفيا دي هافيلاند وإيرول فلين يرتديان ثياب القرصان والمرأة الأرستقراطية خارج مسرح الليسيوم؛ كانت كل تلك الأشياء والطقوس ووسائل التسلية - سواء ضعيفة أم مبهجة - منسوجة معا تمثل المدينة! في المدينة ثمة جنود في إجازة في زيهم الرسمي ذي اللون الكاكي، الذي يوحي بوحشية مجهولة كرائحة الحريق. وكان ثمة فتيات جميلات مشرقات يعرف الجميع أسماءهن - مارجريت بوند ودوروثي جيست وبات موندي - بينما لا يعرفن هن أسماء أحد عدا من يخترن أن يعرفن اسمه. كنت أراقبهن وهن يهبطن التل عائدات من المدرسة الثانوية مرتديات أحذية مخملية ذات رقبة طويلة مزينة بالفراء. كن يتنقلن في مجموعة صغيرة تتألق كمصباح ليلي يعمي أعينهن عن العالم من حولهن. ورغم ذلك، ذات مرة ابتسمت لي إحداهن - وهي بات موندي - أثناء مرورها، فاستغرقت في أحلام اليقظة بشأنها؛ فتخيلت أنها أنقذتني من الغرق، وأنها أصبحت ممرضة وأخذت تعتني بي مخاطرة بحياتها وهي تهدهدني بين ذراعيها الناعمتين عندما كدت أهلك بالديفتيريا.
في عصر أيام الأربعاء تكون فيرن دوجرتي - مستأجرة لدى أمي - في المنزل تحتسي الشاي وتدخن وتتحدث مع أمي في غرفة الطعام. كانت فيرن تتحدث بصوت منخفض، وكانت تتجول وتتأوه وتضحك في مقابل تعليقات أمي المقتصدة والأكثر ذكاء. كانتا تحكيان قصصا عن الناس في المدينة وعن نفسيهما، وكان حديثهما نهرا لا ينضب. إنها الدراما، إنها إكسير الحياة الذي لا أستطيع الوصول إليه. كنت أذهب إلى المرآة المقعرة في نضد المائدة المبني في الجدار وأنظر إلى انعكاس الغرفة، إلى الألواح الخشبية الداكنة والأنوار المعتمة والمصباح النحاسي المثبت وكأنه شجرة تنمو في الاتجاه الخاطئ، بها خمسة فروع منحنية متيبسة وتنتهي بأزهار زجاجية. ومن خلال النظر إليهما في بقعة محددة في المرآة، كان بإمكاني أن أجعل أمي وفيرن دوجرتي تتحركان كشرائط من المطاط متمايلتين مصابتين بالهستيريا، وكان بإمكاني أن أجعل وجهي يتدلى بشكل رهيب على جانب واحد كما لو كنت قد أصبت بجلطة.
قلت لأمي: «لم لم تحضري تلك الصورة؟» «أية صورة؟ أية صورة؟» «الصورة التي فوق الأريكة.»
لأنني كنت أفكر - على فترات متقاربة كان علي أن أفكر - في مطبخنا القديم في المزرعة، حيث ربما كان أبي والعم بيني في ذلك الوقت يقومان بقلي البطاطس للعشاء في مقلاة غير مغسولة (فلم يغسلان الدهون المفيدة؟) والقفازات والأوشحة معلقة كي تجف أعلى الموقد. وكلبنا ميجور - الذي لم يكن مسموحا له بدخول المنزل أثناء فترة سيطرة أمي - نائم على المشمع القذر أمام الباب، وأوراق الصحف مفروشة على المائدة بدلا من مفرش، والبطاطين محملة بشعر الكلاب على الأريكة، والبنادق وأحذية الجليد وأحواض الغسيل معلقة على الحائط. إنها رفاهية العزاب ذات الرائحة الكريهة. وأعلى الأريكة ثمة لوحة رسمتها أمي في الأيام الخوالي، في الأيام الأولى لزواجها التي ربما كانت تحفل بالترف والإشراق والحب؛ تصور طريقا حجريا، ونهرا بين الجبال، وقطيعا من الخراف تقوده عبر الطريق فتاة صغيرة ترتدي شالا أحمر. كانت الجبال والخراف تشبه بعضها البعض، متكتلة وتشبه الصوف وذات لون رمادي مائل إلى الأرجواني. وفي الماضي، كنت أعتقد أن الفتاة الصغيرة هي أمي بالفعل، وأن تلك هي القرية الموحشة التي قضت فيها طفولتها وشبابها، ثم عرفت بعد ذلك أنها قد نقلت ذلك المشهد من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك». «تلك اللوحة؟ أتريدينها هنا؟»
لم أكن أريدها في حقيقة الأمر، ففي أغلب محادثاتنا كنت أحاول إغواءها للحصول على الإجابة أو للبوح بالسر الذي أرغب في معرفته. كنت أريدها أن تقول إنها قد تركتها لأبي، فأنا أذكر أنها قالت ذات مرة إنها قد رسمتها من أجله، فقد كان هو من أحب ذلك المشهد.
قالت: «لا أريدها معلقة حيث يراها الناس، فلست فنانة، ولكنني رسمتها لأنني لم يكن لدي ما أفعله فحسب.»
أقامت أمي حفلة للسيدات دعت إليها السيدة كوتس - والتي يطلق عليها أحيانا السيدة كوتس زوجة المحامي - والسيدة بيست - التي يعمل زوجها مديرا لبنك التجارة - والعديد من السيدات الأخريات اللائي لم تتخط معرفتها بهن التحية في الشارع، وكذلك بعض الجيران وزميلات فيرن دوجرتي في مكتب البريد، وبالطبع العمة إلسبيث والعمة جريس. (وقد طلبت منهما أن تصنعا فطائر الدجاج بالقشدة وفطائر الليمون وكعك التمر والشوفان، وقامتا بذلك بالفعل). كان كل شيء في الحفل مخططا سلفا، وفور أن وصلت السيدات إلى القاعة الأمامية كان عليهن أن يحزرن عدد حبات الفول في البرطمان ويكتبن تخمينهن في ورقة. واستمرت الأمسية بألعاب التخمين واختبارات للمعرفة وضعت بالاستعانة بالموسوعة، وألعاب تمثيلية تخمينية لم تمض بصورة صحيحة؛ لأن العديد من السيدات لم يفهمن كيفية اللعب وكن شديدات الخجل، وألعاب بالورق والقلم؛ تكتب فيها المشتركات اسم رجل وتطوي الورقة ثم تمررها، ثم تكتب فعلا وتطوي الورقة، ثم اسم سيدة وهكذا، وفي نهاية اللعبة تفتح جميع الأوراق وتقرأ بصوت عال. كنت أرتدي تنورة صوفية قرنفلية اللون وسترة قصيرة وأوزع المكسرات على الحضور مبتهجة.
انشغلت العمة إلسبيث والعمة جريس في المطبخ وهما تبتسمان وتشعران بالإهانة. وكانت أمي ترتدي فستانا أحمر اللون شبه شفاف مغطى بأزهار الثالوث الصغيرة السوداء والزرقاء التي تشبه التطريز. همست العمة إلسبيث في أذني قائلة: «ظننا أن ما على الفستان خنافس، فجفلنا برهة!» وبعد ذلك بدا لي أن الحفل أقل جمالا مما ظننت، ولاحظت وجود سيدات لم يشتركن في أي من الألعاب، وأن وجه أمي كان شديد الانفعال والإثارة وصوتها مليئا بالحماس التنظيمي، وأنها عندما عزفت على البيانو وغنت فيرن دوجرتي - التي درست الغناء - أغنية «ماذا تساوي الحياة دون حبيبي؟» كانت السيدات يسيطرن على مشاعرهن ويصفقن بتحفظ كما لو كان ذلك نوع من الاستعراض.
وظلت العمة جريس والعمة إلسبيث تقولان لي بين حين وآخر على مدار العام التالي: «كيف حال تلك السيدة المستأجرة؟ كيف هي حياتها بدون حبيبها؟» وكنت أوضح لهما أنها مجرد أغنية مترجمة من أوبرا، فكانتا تصيحان: «يا للهول، حقا؟ لقد كنا نشعر بالأسى من أجلها طوال الوقت!»
كانت أمي تأمل في أن حفلها سوف يشجع السيدات الأخريات على إقامة حفلات مماثلة، ولكن ذلك لم يحدث، أو إذا كان قد حدث، فإننا لم نسمع به قط، بل ظللن يقمن حفلات لعب الورق التي ترى أمي أنها سخيفة متعجرفة، وهكذا فقد فقدت الأمل في الحياة الاجتماعية تدريجيا، وقالت إن السيدة كوتس امرأة غبية لم تكن متأكدة في إحدى المسابقات من هو يوليوس قيصر، فقد ظنت أنه إغريقي، وكانت ترتكب أيضا أخطاء نحوية من ذلك النوع من الأخطاء الشائعة بين أبناء الطبقة التي تظن نفسها أرستقراطية.
انضمت أمي إلى مجموعة مناقشة الكتب العظيمة التي تلتقي يوم الخميس الثاني من كل شهر خلال فصل الشتاء في قاعات المجلس في مبنى البلدية. وكانت المجموعة تضم خمسة أشخاص آخرين منهم طبيب متقاعد يدعى د. كومر كان شديد الضعف ومهذبا - وكما اتضح أيضا - مستبدا. كان ذا شعر أبيض ناعم ويرتدي وشاحا يلفه حول رقبته كأنه ربطة عنق. وقد عاشت زوجته في جوبيلي لما يزيد عن ثلاثين عاما، ولكنها بالكاد كانت تعرف أسماء الناس وأماكن الشوارع. لقد كانت مجرية، ولديها اسم رائع تقدمه للناس أحيانا، كما لو كان سمكة على صحن كبير مقاطعها الفضية الحرشفية سليمة ولكن بلا فائدة، فلم يتمكن أي شخص في جوبيلي من نطق الاسم أو حتى تذكره. في بادئ الأمر، سعدت أمي بصحبة هذين الزوجين اللذين رغبت دائما في التعرف عليهما، واغتبطت كثيرا عندما دعيت إلى منزلهما؛ حيث رأت صورا لهما في شهر العسل في اليونان، واحتست النبيذ الأحمر كي لا تهينهما - رغم أنها لم تكن تتناول الشراب - واستمعت إلى قصص مضحكة ومخيفة عن مواقف حدثت لهما في جوبيلي؛ نظرا لكونهما ملحدين ومفكرين. واستمر إعجابها مرورا بمناقشة «أنتيجون»، وهدأ قليلا مع «هاملت»، وأصبح أكثر فأكثر خفوتا مع مناقشة «الجمهورية» و«رأس المال». فقد بدا كما لو أن لا أحد من حقه تكوين رأي سوى آل كومر، فهم يعرفون أكثر من أي شخص، وقد زاروا اليونان وحضروا محاضرات للأديب إتش جي ويلز، وهم دائما على صواب. اختلفت السيدة كومر مع أمي، فأثارت السيدة كومر قضية عدم التحاق أمي بالجامعة وأنها لم تلتحق إلا بمدرسة باكوودز الثانوية فحسب؛ تقولها أمي وهي تقلد لهجتها. راجعت أمي بعض القصص التي أخبراها بها وقررت أنهما يعانيان عقدة اضطهاد (تساءلت فيرن «وماذا يعني ذلك؟» فتلك المصطلحات كانت جديدة في ذلك الوقت)، بل وإنهما - من المحتمل - مصابان بمس من الجنون. كما أن منزلهما تفوح منه رائحة كريهة لم تذكرها لنا من قبل، وكان المرحاض الذي كان عليها أن تستخدمه بعد احتساء ذلك النبيذ الأحمر؛ مثيرا للاشمئزاز، مغطى بطبقة صفراء قذرة. وتساءلت أمي قائلة: «ما فائدة القراءة لأفلاطون وأنت لا تنظف مرحاضك أبدا؟» عائدة بذلك إلى قيم مدينة جوبيلي.
لم تشترك أمي في مجموعة مناقشة الكتب العظيمة في العام التالي، ولكنها التحقت بدورة تدريبية بالمراسلة بعنوان «المفكرين العظماء في التاريخ» من جامعة ويسترن أونتاريو، وأخذت تكتب خطابات للصحف. •••
لم تتخل أمي عن أي شيء، فداخل تلك النفس التي كنا نعرفها - والتي قد تبدو أحيانا مشوشة أو تحيد عن الطريق - كانت تحتفظ بذواتها الشابة المفعمة بالحيوية والأمل، وكانت مشاهد من الماضي تظهر إلى السطح في أي وقت فجأة مثل الصور الملونة الشفافة التي تعرض بالفانوس السحري على نسيج الحاضر المبعثر.
في بداية الأمر، قبل كل شيء، كان هناك ذلك المنزل الذي يقع في نهاية زقاق طويل - يحيط به سياج سلكي ونوافذ من السلك على الجانبين - في منتصف الحقول حيث تبرز الصخور - وهي جزء من الدرع الكندي الذي يعود إلى العصر ما قبل الكمبري - من التربة كما تبرز العظام من اللحم. بدا ذلك المنزل الذي لم أره في أي صورة قط - ربما لم تلتقط له أية صورة - ولم أسمع أمي تصفه إلا بطريقة متبرمة عملية («إنه مجرد منزل خشبي قديم لم يطل قط»)؛ واضحا في مخيلتي كما لو أني رأيته في الجريدة، فهو أكثر المنازل الخشبية القديمة تجريدا وإظلاما وارتفاعا، لكنه كان بسيطا ومألوفا وثمة شيء مخيف يتعلق به، وكأنه يحتضن بداخله شرا ما، وكأنه منزل ارتكبت به جريمة قتل.
وكانت أمي، التي كانت طفلة صغيرة آنذاك تدعى أدي موريسون، طويلة نحيفة على ما أتصور، وذات شعر قصير؛ رغبة من أمها في حمايتها من الغرور، تعود من المدرسة سيرا على الأقدام عبر الزقاق الطويل المخيف ويتخبط الصندوق الذي تحمل فيه غداءها بساقيها. ألم يكن الجو دائما كشهر نوفمبر؛ حيث الأرض وعرة، والجليد مبعثر على البرك الصغيرة، والأعشاب الميتة تطفو من بين الأسلاك؟ نعم، وكان الدغل قريبا ومخيفا بالرياح غير العادية التي رفعت الأغصان واحدا تلو الآخر. كانت تدخل إلى المنزل لتجد أن النار قد انطفأت، والموقد باردا، وأن الدهون التي تراكمت على الأطباق والمقلاة بعد تناول الرجال للعشاء قد تكثفت.
لا يوجد أثر لوجود أبيها أو أشقائها الكبار الذين انتهوا من الدراسة، فلم يكونوا يتجولون حول المنزل، وكانت تذهب عبر الغرفة الأمامية إلى غرفة والديها، حيث كانت غالبا ما تجد أمها راكعة على ركبتيها منحنية على فراشها تصلي. وكانت تتذكر ذلك الظهر المحني والكتفين الضيقتين في سترة رمادية أو سمراء على ثوب فضاض أو ثوب منزلي متسخ أكثر وضوحا من تذكر وجه أمها، وخلفية الرأس ذات الشعر الخفيف الذي جذب بقوة من المنتصف ليكشف من تحته فروة رأس بيضاء بصورة غير صحية؛ بيضاء كالرخام، بيضاء كالصابون.
قالت أمي عن تلك المرأة الراكعة، التي كانت أحيانا ما يجدونها ترقد على ظهرها وتبكي، لأسباب لا تحب أمي الخوض فيها، وقطعة قماش رطبة على جبهتها: «كانت متعصبة دينيا.» وذات مرة في المراحل الأخيرة اللاعقلانية من اعتناقها المسيحية، اتجهت إلى الحظيرة وحاولت إخفاء ثور صغير في كومة القش عندما رأت رجال الجزار وهم قادمون. كان صوت أمي وهي تقص تلك الأمور محملا بيقينها أنها تعرضت للخداع، وبمشاعر جياشة بالغضب والخسارة. «هل تعلمين ماذا فعلت؟ هل أخبرتك بما فعلت؟ هل أخبرتك عن المال؟» وكانت تأخذ نفسا عميقا كي تستعيد رباطة جأشها وتتابع قائلة: «حسنا، لقد ورثت بعض المال؛ فقد كان بعض أهلها يملكون المال وكانوا يعيشون في ولاية نيويورك، وورثت هي مائتين وخمسين دولارا، لم يكن مبلغا كبيرا، ولكن قيمته وقتها كانت أكثر من الآن، وأنت تعلمين أننا كنا فقراء. أتظنين أننا فقراء الآن، ولكن ذلك «لا شيء» بالمقارنة بما كنا عليه من فقر آنذاك. لا أزال أذكر المشمع على المائدة، كان مهترئا حتى إنه كان بإمكانك رؤية الألواح الخشبية العارية. كان معلقا وهو ممزق، كان خرقة لا مشمع مائدة. وإذا ما حدث وارتديت حذاء، كنت أرتدي أحذية صبية؛ مخلفات أشقائي. لقد كنا نعيش في مزرعة لا يمكنك فيها زراعة الأعشاب التي تقتات عليها الطيور، وفي عيد الميلاد كنت أحصل على بنطلون أزرق داكن، ودعيني أؤكد لك أنني كنت أسعد به؛ فقد كنت أعلم ما هو الشعور بالبرد.
حسنا، استلمت أمي المال وطلبت صندوقا كبيرا من الأناجيل التي أتت عن طريق الشحن السريع، وكانت من أغلى الأنواع، فكانت صفحات خرائط الأرض المقدسة ذات حواف مطلية بالذهب، وكل كلمات المسيح محددة باللون الأحمر. «طوبى لفقراء الروح» ما المميز في أن يكون المرء فقيرا في الروح؟ لقد أنفقت كل مليم.
وهكذا، كان علينا أن نخرج كي نوزعها. كانت قد اشترتها كي توزعها على الوثنيين، وأعتقد أن شقيقي قد خبآ بعضا منها في المخزن. كنت أعلم أنهما قد فعلا ذلك، ولكنني كنت أكثر حمقا من أن أفكر في ذلك، فكنت أسير في جميع أنحاء البلدة وأنا في الثامنة من عمري أرتدي أحذية الصبية ولا أملك زوجا من القفازات وأوزع الأناجيل.» «ولكن ذلك قد شفاني من الدين طوال حياتي.»
ذات مرة تناولت الخيار واحتست اللبن لأنها سمعت أن ذلك المزيج سام وكانت ترغب في الموت، وكانت تشعر بالفضول أكثر منه بالإحباط، فرقدت وتمنت أن تستيقظ في الجنة التي سمعت عنها كثيرا، ولكنها بدلا من ذلك فتحت عينيها على صباح يوم جديد. وكان لذلك أيضا تأثيرا على إيمانها، ولكنها لم تخبر أحدا في ذلك الوقت.
كان الشقيق الأكبر يحضر لها الحلوى أحيانا من المدينة، وكان يحلق ذقنه على مائدة المطبخ أمام مرآة قبالة المصباح. وكانت تعتقد أنه مغرور، وكان ذا شارب ويتلقى خطابات من فتيات لا يجيب عنها أبدا، ولكنه يتركها ملقاة في كل مكان بحيث يمكن لأي شخص قراءتها. وكانت أمي تدين هذا السلوك وقالت عنه: «لا يجول بذهني أية أفكار سيئة حياله، رغم أنني أعتقد أنه لم يكن مختلفا عن معظم الآخرين.» وهو يعيش الآن في ويستمنستر ويعمل على مركب تستخدم كمعدية. أما الشقيق الآخر فكان يعيش في الولايات المتحدة، وفي أعياد الميلاد كانا يرسلان بطاقات تهنئة، وكانت أمي ترسل لهما أيضا بطاقات تهنئة، ولكنهما لم يكتبا خطابات قط، ولا فعلت أمي.
كان الشقيق الأصغر هو من تكرهه، ماذا فعل لها؟ لم تكن إجاباتها مرضية تماما في هذا الصدد. لقد كان شريرا ومغرورا وقاسيا؛ صبي بدين وقاسي القلب، فكان يطعم القطط المفرقعات النارية، وذات مرة قيد ضفدعا وقطعه إربا، وأغرق قطة أمي التي تدعى ميستي في حوض مياه الأبقار، رغم أنه أنكر ذلك لاحقا. كما أنه أمسك بأمي وقيدها في الحظيرة وآذاها، آذاها؟ بل إنه عذبها.
عذبها بماذا؟ لكن أمي لم تتفوه بأكثر من ذلك، تلك الكلمة «عذاب» كانت تقذفها من فمها وكأنها تبصق دما. وهكذا، فقد تركتني أطلق العنان لخيالي فأتصور أمي مقيدة في الحظيرة إلى عمود بينما كان شقيقها - الذي تصورته هنديا بدينا - يطلق صوتا كالعواء في وجهها ويثب فرحا من حولها. لكنها هربت في نهاية الأمر، لم تسلخ رأسها ولم يحرق جسدها. ولم يفسر أي شيء وجهها الذي كان يكفهر عند تلك النقطة من القصة أو الطريقة التي تتفوه بها بكلمة «العذاب». لم أكن قد تعلمت بعد ملاحظة هالة الكآبة التي تحيط بها عند الحديث عن الأمور المتعلقة بالجنس.
ثم توفيت والدتها، كانت قد سافرت لإجراء عملية ولكنها أصيبت بأورام ضخمة الحجم في كلا ثدييها وتوفيت - كما تقول أمي دائما - على الطاولة؛ أي على طاولة العمليات. وعندما كنت أصغر من ذلك كنت أتخيلها راقدة ميتة على طاولة عادية وسط أكواب الشاي وزجاجات صلصة الطماطم والمربى.
قلت وأنا مفعمة بالأمل: «هل شعرت بالحزن؟» وأجابت أمي بالإيجاب بالطبع، ولكنها لم تتوقف كثيرا حول هذا المشهد، فثمة أمور مهمة قادمة. فسرعان ما دخلت المدرسة واجتازت اختبارات القبول ورغبت في الالتحاق بالمدرسة الثانوية في المدينة، ولكن والدها رفض، فقد كان عليها أن تمكث في المنزل وتدير شئونه حتى تتزوج. (وكانت أمي تصيح غاضبة عند تلك النقطة من القصة: «ومن سأتزوج بحق السماء هناك في نهاية العالم حيث الجميع مصابون بالحول بسبب زواج الأقارب؟») وبعد أن قضت عامين في المنزل بائسة تحاول تعلم بعض الأشياء بمفردها من كتب المدرسة الثانوية القديمة التي كانت تخص والدتها (التي كانت مدرسة قبل أن تنشغل بالزواج والدين)، تحدت والدها وسارت مسافة تسعة أميال إلى المدينة وهي تختبئ بين الشجيرات على الطريق كلما سمعت صوت حصان قادم؛ خوفا أن يكون والدها راكبا العربة القديمة وقد أتى كي يعيدها إلى المنزل. قرعت باب نزل كانت تعرفه من تجارة البيض، وسألت عما إذا كان من الممكن الحصول على إقامة فيه في مقابل القيام بأعمال المطبخ وخدمة العملاء على الطعام. فقبلتها مديرة المنزل، وكانت امرأة عجوزا حادة ومهذبة، يطلق عليها الجميع الجدة سيلي، وقد أبعدتها عن أبيها حتى مر الوقت، بل إنها أعطتها فستانا ملونا مربع النقش من الصوف الخشن، ارتدته في أول يوم لها في المدرسة، عندما وقفت أمام صف دراسي يصغرها بعامين، وقرأت اللاتينية كما علمت نفسها بالضبط في المنزل، وبالطبع فقد ضحك الجميع عليها.
لم تتمالك أمي نفسها قط من الشعور بالإثارة والضعف وهي تتذكر ذلك. كانت تتعجب بشدة من ذاتها القديمة الشابة، فلو كانت هناك لحظة خارج حسابات الزمن، لحظة يمكننا أن نختار فيها أن نحاكم - ونحن عراة قدر الإمكان - ونحاصر ثم ننتصر، فقد كانت تلك هي هذه اللحظة بالنسبة لها. ولاحقا ربما تأتي التسويات والأخطاء، أما هناك فقد كانت مثيرة للضحك ولكنها كانت تتمتع بقوة حصينة.
ثم يبدأ فصل جديد من حياتها في النزل. كانت تستيقظ قبل الفجر كي تقشر الخضروات، وتتركها في ماء بارد كي تصبح جاهزة للغداء في وقت الظهيرة، وتنظف المباول وترشها ببودرة التلك؛ لم يكن في تلك المدينة مراحيض تطرد الماء، وكانت أمي تقول: «كنت أنظف المباول كي أحصل على تعليمي!» دون أن تأبه لمن يسمع تلك الجملة، ولكن كانت فئة جيدة من الناس هي التي كانت تقطن بالنزل؛ كموظفي البنوك وعمال تلغراف محطة السكك الحديدية الكندية والمعلمة الآنسة راش. علمت الآنسة راش أمي الحياكة، وأعطتها بعض صوف المارينو الجميل كي تصنع فستانا، وأعطتها وشاحا أصفر ذا أهداب (كانت أمي تتساءل في حزن ساخط «ماذا حل به؟») وبعض العطر. كانت أمي تحب الآنسة راش، وكانت تنظف غرفتها وتحتفظ بالشعر الذي تجده في المنفضة وفي فرشاة شعرها، وعندما تجمع ما يكفي من الشعر كانت تلفه على شكل دائرة وترتديه حول عنقها، كانت تلك هي طريقة تعبيرها عن حبها. علمتها الآنسة راش كيفية قراءة النوتة الموسيقية والعزف على البيانو الخاص بها الذي كانت تحتفظ به في الغرفة الأمامية في نزل الجدة سيلي، وكانت أمي لا تزال تعرف كيفية عزف تلك الأغاني، رغم أنها نادرا ما كانت تفعل: «اشرب نخبي بعينيك فحسب»، و«القيثارة التي كانت يوما في قاعات تارا»، و«بوني ماري من أرجايل».
ماذا حدث للآنسة راش بعد ذلك بجمالها وبتطريزها وبعزفها للبيانو؟ تزوجت متأخرا وتوفيت وهي تضع مولودها، وتوفي المولود أيضا ورقد بين ذراعيها كما لو كان لعبة من الشمع ترتدي فستانا طويلا، وقد رأته أمي.
وهكذا كانت قصص الماضي تدور وتدور في حلقات دائرية حتى تصل إلى الموت، كنت أتوقع ذلك.
فقد وجدت الجدة سيلي - على سبيل المثال - ميتة في فراشها صباح أحد أيام الصيف، بعد أن أتمت أمي أربعة أعوام من الدراسة الثانوية ووعدتها الجدة سيلي بأن تعطيها الأموال اللازمة للالتحاق بدار المعلمين، وهو قرض عليها أن تسدده عندما تصبح معلمة. وكان ثمة ورقة في مكان ما بهذا المحتوى، ولكن لم يعثر أحد عليها قط، أو كانت أمي تعتقد أن قريب الجدة سيلي وزوجته اللذين ورثا بيتها وأموالها قد عثرا عليها ولا بد أنهما قد تخلصا منها، فالعالم مليء بأشخاص من هذا النوع.
وهكذا كان على أمي أن تعمل، فعملت في متجر كبير في بلدة أوين ساوند، حيث أصبحت مسئولة عن المنسوجات والملابس الجاهزة وأدوات الحياكة الصغيرة، وخطبها شاب ظل شخصية غامضة غير واضحة؛ فلم يكن شريرا صريحا كشقيقها أو قريب الجدة سيلي، ولكنه ليس واضحا ومحبوبا، ليس كالآنسة راش. ولأسباب غامضة اضطرت لأن تفسخ الخطبة («اتضح أنه ليس الشخص الذي ظننته».) ولاحقا بعد فترة غير محددة قابلت أبي، الذي لا بد وأنه لم يخذلها؛ لأنها تزوجته رغم أنها كانت تقسم لنفسها دائما أنها لن تتزوج من مزارع (كان يربي الثعالب، وفي وقت من الأوقات ظن أنه قد يحقق الثراء من ذلك، فهل مثل ذلك فارقا؟) وبدأت عائلته بالفعل تبدي ملاحظات عليها لم تكن بنية طيبة.
ولكنني كنت أذكرها بحزم وقلق تدفعني رغبة في تسوية هذا الأمر للأبد: «ولكنك أغرمت به، لقد وقعت في الحب.» «حسنا، بالطبع أغرمت به.» «ولم أحببته؟» «كان والدك دوما رجلا مهذبا.»
أهذا كل شيء؟ كان يؤرقني هنا غياب التناسب؛ رغم أنه كان من الصعب تحديد الحلقة المفقودة أو الخطأ الذي وقع. ففي بداية قصتها، ترسم أمي صورة الوقوع في الأسر الكئيب والمعاناة، ثم الجرأة والتحدي والهروب، بالإضافة إلى الصراع والإحباط والمزيد من الصراع وأمهات روحيات وأشرار. والآن كنت أتوقع كما في كل القصص العظيمة، تفجر لحظات المجد والمكافأة. الزواج من أبي؟ كنت آمل أن يكون كذلك، وتمنيت ألا تتركني في حيرة من أمري.
وأنا أصغر سنا عندما كنا نقطن في نهاية طريق فلاتس، كنت أشاهدها وهي تسير عبر الفناء كي تفرغ مياه غسل الصحون، أشاهدها وهي تحمل الوعاء عاليا كما لو كانت كاهنة تسير بطريقة متأنية مهيبة وتلقي بالمياه بإيماءة شامخة عبر السياج. في ذلك الوقت، اعتقدت أنها قوية، أنها مسيطرة، أنها راضية أيضا. كانت لا تزال تتمتع بالقوة، ولكن ليس بالقدر الذي تظنه هي، كما أنها لم تكن راضية بأية حال من الأحوال، ولا كاهنة. كانت معدتها تصدر صوت قرقرة تثير لديها الضحك أو التجاهل، ولكنها كانت تحرجني على نحو لا يطاق. كان شعرها ينمو في خصل صغيرة جامحة لونها بني مائل إلى الرمادي، وكل محاولة لفرد الشعر تنتهي بها إلى التجعد. أكان لزاما على كل قصصها أن تنتهي بها هي فقط، بالحال التي هي عليها الآن، مجرد أمي التي أراها في جوبيلي؟
ذات يوم أتت إلى المدرسة ممثلة عن شركة الموسوعات لتقدم جائزة لأفضل مقال عن الأسباب التي تدفعنا لشراء سندات النصر. كان عليها أن تذهب إلى المدارس في بورترفيلد وبلو ريفر وستيرلينج وتقوم بالمهمة نفسها، وكان هذا الأسبوع مصدر فخر بالنسبة لها. كانت ترتدي حلة رجالية بشعة، لونها أزرق داكن، ذات زر واحد على الخصر وقبعة كستنائية من اللباد، وهي أفضل ما لديها، وما آلمني أنني رأيت عليها ترابا دقيقا. ألقت خطبة قصيرة، فأخذت أحدق في سترة الفتاة التي تقف أمامي - التي كانت ذات لون أزرق باهت وتبرز منها قطع من الصوف الخشن - كما لو كان التعلق بقشة الواقع اللامبالية سوف ينقذني من الغرق في بحر الإذلال. لقد كانت مختلفة للغاية، هذا كل ما في الأمر، تبدو نشيطة ومفعمة بالأمل وساذجة في قبعتها الكستنائية، تطلق نكاتا صغيرة وتظن نفسها ناجحة. وكانت مستعدة في مقابل الحصول على سنتين أن تخوض في وصف تاريخها التعليمي؛ بدءا من رحلة السفر تسعة أميال إلى المدينة، إلى تنظيف المباول. من له أم كهذه؟ كان الناس يرمقونني بنظرات خبيثة شامتة مشفقة، وفجأة لم أستطع أن أحتمل أي شيء يخصها؛ نبرة صوتها والطريقة الطائشة المسرعة التي تتحرك بها وإيماءاتها الحيوية السخيفة (في أية لحظة قد تطيح بزجاجة الحبر من على مكتب المدير) وقبل كل شيء براءتها وطريقتها في تجاهل متى يضحك الآخرون واعتقادها أنها سوف تنجو من الموقف بسلام.
كنت أكره قيامها ببيع الموسوعات وإلقاء الخطب وارتداء تلك القبعة، وكنت أكره قيامها بكتابة خطابات إلى الصحف. وكانت خطاباتها عن المشاكل المحلية، أو تلك التي تشجع فيها التعليم وحقوق المرأة وتعارض التعليم الديني الإلزامي في المدارس؛ تنشر باسمها في جريدة «هيرالد أدفانس»، التي تصدر في جوبيلي. وتنشر مقالات أخرى في صفحة في جريدة المدينة مخصصة لمراسلات السيدات؛ حيث كانت تستخدم الاسم المستعار «الأميرة إيدا»، المستمد من شخصية في أحد أعمال تينيسون التي كانت تروق لها كثيرا. كانت مقالاتها مليئة بالوصف التفصيلي المزخرف للريف الذي هربت منه («في هذا الصباح، كان ثمة صقيع فضي رائع يبهج العين على كل غصن من أغصان الشجر وعلى أسلاك الهاتف، يجعل العالم يبدو عالما سحريا على أرض الواقع ...») بل كانت أيضا تضم إشارات لي ولأوين («كانت ابنتي التي أوشكت أن تتجاوز مرحلة الطفولة تنسى وقارها المكتسب حديثا أمام اللهو في الثلج») تجعل جذور أسناني تؤلمني خجلا. وكان أناس آخرون - بخلاف العمة إلسبيث والعمة جريس - يقولون لي «لقد رأيت ذلك الخطاب الذي كتبته والدتك في الجريدة»، فكنت أشعر كم كانوا يشعرون بالازدراء والاستعلاء والتحفظ والحسد، هؤلاء الأشخاص الذين قد يظلون طوال حياتهم ساكنين دون حاجة لفعل أو قول أي شيء مميز.
أنا نفسي لم أكن أختلف كثيرا عن أمي، ولكنني كنت أخبئ تلك الحقيقة؛ إذ كنت أدرك مدى الأخطار الكامنة. •••
وفي الشتاء الثاني الذي مر علينا في جوبيلي طرق بابنا زائرون. كان عصر أحد أيام السبت، وكنت أجرف الثلج عن رصيف منزلنا عندما رأيت سيارة ضخمة تتحسس طريقها بين تلال الجليد في صمت كما لو كانت سمكة وقحة. لوحة السيارة المعدنية أمريكية. ظننت أن شخصا ما قد ضل الطريق. كان الناس يسيرون في طريقهم باتجاه نهاية شارع ريفر؛ حيث لم يأبه أحد بوضع لافتة تحذيرية تقول إنه طريق مسدود، وعندما يصلون إلى منزلنا يكونون قد بدءوا في التساؤل.
خرج شخص غريب من السيارة يرتدي معطفا وقبعة رمادية من اللباد ووشاحا حريريا في الشتاء. كان طويلا وبدينا، ووجهه حزين وواهن لكن لا يخلو من الفخر، وفتح ذراعيه لي بطريقة مخيفة. «تعالي هنا وألق علي التحية، إنني أعرف اسمك ولكنك لا تعرفين اسمي!»
فأتى نحوي مباشرة وأنا أقف ساكنة أحمل الجاروف في يدي وقبلني على خدي. كانت رائحته رائحة ذكورية حادة تميل لأن تكون حلوة، رائحة كريم الحلاقة، ويبدو قلقا ومضطربا، يرتدي قميصا منشى نظيفا، وتنبعث منه القليل من الرائحة الكريهة بسبب الشعر الزائد. «كانت والدتك تدعى آدي موريسون، أليس كذلك؟»
لم يعد أحد يطلق على أمي اسم آدي، وقد جعلها هذا الاسم تبدو مختلفة؛ أكثر امتلاء وإهمالا في المظهر وأكثر بساطة. «والدتك اسمها آدي، وأنت ديل وأنا خالك بيل موريسون، هذا هو اسمي. لقد أعطيتك قبلة وأنت لم تعطني شيئا، أهذا هو العدل لديكم؟!»
وفي ذلك الوقت كانت أمي تخرج من المنزل وقد وضعت لتوها القليل من أحمر الشفاه بطريقة عشوائية.
وقالت ببعض القسوة كما لو كانت تجادله في شيء ما: «حسنا يا بيل، من الواضح أنك لا تقتنع بالإخطار المسبق، أليس كذلك؟ لا بأس، إننا سعداء لرؤيتك.»
لقد كان شقيقها حقا إذن، شقيقها الأمريكي، خالي!
استدار نحو السيارة ولوح بيديه قائلا: «يمكنك الخروج الآن، فلن يعضك شيء هنا.»
فتح الباب في الجانب الآخر من السيارة وخرجت منها سيدة طويلة ببطء وصعوبة بسبب القبعة التي ترتديها. كانت القبعة عالية في جانب من رأسها ومنخفضة من الجانب الآخر، وجعلها الريش الأخضر الملتصق تبدو أعلى مما هي عليه. وكانت ترتدي معطفا فضيا متوسط الطول من فراء الثعالب وفستانا أخضر، وحذاء أخضر ذا كعب عال دون حذاء فوقي من المطاط للحماية من المطر والوحل.
قال الخال بيل: «هذه زوجة خالك نايل.» كما لو كانت لا تسمع أو لا تفهم الإنجليزية، كما لو كانت أحد معالم المشهد الرائعة التي تحتاج إلى تعريف، وتابع قائلا: «إنك لم تقابليها من قبل، لكنك رأيتني من قبل وحينها كنت صغيرة جدا فلن تتذكري. لم تريها من قبل، وأنا نفسي لم أرها قبل الصيف الماضي. كنت متزوجا من كالي عندما رأيتك المرة السابقة، والآن أنا متزوج من الخالة نايل. قابلتها في شهر أغسطس وتزوجتها في سبتمبر.»
لم يكن الثلج قد أزيح عن الرصيف تماما، فتعثرت الخالة نايل بحذائها ذي الكعب العالي، وتأوهت وهي تشعر بالثلج داخل حذائها. تأوهت بتأفف كالأطفال، وقالت للخال بيل: «كاد كاحلي أن يلتوي» كما لو كان لا أحد حولهما.
فقال مشجعا: «إنها مسافة قصيرة.» وأمسك بذراعها وسندها بقية الطريق حتى صعدت إلى الرصيف ثم الدرج وعبر الشرفة، كما لو كانت امرأة صينية (كنت قد انتهيت للتو من قراءة رواية «الأرض الطيبة» من مكتبة المدينة) يعد السير بالنسبة لها نشاطا نادرا وغير طبيعي. تبعناهما إلى الداخل أنا وأمي دون أن نتبادل التحية مع نايل، وفي القاعة المظلمة قالت أمي: «حسنا، مرحبا بكما!» وساعد الخال بيل نايل في خلع معطفها وقال لي: «خذي هذا وعلقيه في مكان مستقل، لا تضعيه بجوار أي سترات تخص الحظيرة!» فقالت أمي لنايل وهي تلمس الفراء: «لا بد أن تأتي إلى مزرعتنا، يمكنك أن تري بعضا من هذه حية.» كانت نبرتها مازحة ومصطنعة.
فقال الخال بيل لنايل: «إنها تقصد الثعالب، كذلك الذي صنع منه معطفك.» وقال لنا: «لا أعتقد أنها كانت تعرف أن هذه الفراء تأتي من ظهر مخلوق حي، بل كانت تظن أنها تصنع في المتجر!» إبان ذلك، بدت نايل مشدوهة وغير سعيدة كما لو كانت لم تسمع من قبل عن أي بلد أجنبي ثم اقتلعت من مكانها فجأة وأودعت في بلد أجنبي، ووجدت كل من حولها يتحدث لغة حتى لم تحلم بالسماع بها من قبل. لا يمكن أن تكون قابلية التكيف أحد نقاط قوتها، ولم قد تكون؟ فسوف يشكك هذا في كونها مثالية. وقد كانت مثالية بالفعل، وأصغر مما ظننتها عليه في بادئ الأمر، ربما لا يزيد عمرها عن اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عاما. وكانت بشرتها خالية من العلامات كفنجان الشاي الوردي، وشفتاها قطعة من المخمل العنابي اللون، ورائحتها عذبة بطريقة تفوق البشر، وأظافرها مطلية باللون «الأخضر» كي تتماشى مع ثيابها، وقد لاحظت ذلك بينما يخالجني شعور بالدهشة والسرور والقليل من الارتياب كما لو كانت بالغت في الأمر.
قالت أمي بمزيد من الوقار: «إنه معطف شديد الجمال.»
نظر الخال بيل إليها حزينا وقال: «لن يجني زوجك أي أرباح من ذلك العمل يا آدي، فهو تحت سيطرة اليهود. والآن، هل لنا بفنجان من القهوة في هذا المنزل كي أحصل على بعض الدفء أنا وزوجتي الصغيرة؟»
المشكلة أننا لم يكن لدينا بن. كانت والدتي وفيرن دوجرتي تحتسيان الشاي - الذي كان أرخص من البن - ومشروب بوستام في الصباح. قادت أمي الجميع نحو غرفة الطعام وجلست نايل، فقالت أمي: «ألا ترغبين في تناول فنجان من الشاي الساخن؟ لقد نفد البن تماما.»
فلم يتأثر الخال بيل ورفض تناول الشاي قائلا إنه إذا كان البن قد نفد من عند أمي فسوف يحضر بعضا منه، ثم سألني: «هل لديكم أية محلات بقالة في هذه المدينة؟ لا بد أن لديكم واحدا أو اثنين في مدينة كهذه، إنها مدينة كبيرة حتى إن بها مصابيح في الشوارع، لقد رأيتها. سوف أذهب أنا وأنت بالسيارة كي نشتري بعض البقالة، وندع هاتين السيدتين ليتعرفا.»
انزلقت بجواره في تلك السيارة الضخمة الملونة بلوني الكريمة والشوكولاتة التي تفوح برائحة النظافة، واجتزنا شارع ريفر وشارع ميسون إلى الشارع الرئيسي في جوبيلي، وأوقفنا السيارة أمام بقالة «ريد فرونت» خلف زلاجة جليد تجرها الجياد. «هل هذا متجر بقالة؟»
لم أورط نفسي، فماذا لو قلت إنه كذلك ثم اتضح أنه لا يوجد به أي من الأغراض التي يريدها؟ «هل تتسوق والدتك هنا؟» «أحيانا.» «أعتقد إذن أنه مناسب لنا.»
ومن تلك السيارة رأيت الزلاجة التي تجرها الجياد ومعلق على أفواهها أكياس من العلف، ومتجر ريد فرونت، والشارع بأكمله بشكل مختلف. لم تبد جوبيلي مميزة وخالدة كما ظننتها، بل بديلا مؤقتا رثا بالكاد يفي بالغرض.
كان المتجر قد تحول لتوه إلى نظام الخدمة الذاتية، أول متجر يتحول إلى ذلك النظام في المدينة. وكانت الممرات شديدة الضيق لا تستوعب عربات التسوق ولكن ثمة سلال يمكن حملها في الذراع لجمع المشتريات. كان الخال بيل يريد عربة تسوق، وسأل عما إذا كان ثمة متاجر أخرى في المدينة بها عربات تسوق، ولكن الإجابة جاءت بالنفي. وعندما انتهينا من هذا الأمر، أخذ يقطع ممرات المتجر ذهابا وإيابا وهو يردد أسماء الأغراض، كان يتصرف كما لو لم يكن أحد آخر في المتجر على الإطلاق، وكما لو كانت الحياة تدب في من في المتجر فقط عندما يريد أن يطلب منهم شيئا، وكما لو أن المتجر نفسه ليس حقيقيا، بل صنع على عجل في اللحظة التي قال فيها إنه بحاجة لمتجر.
اشترى بنا وفواكه وخضروات معلبة وجبنا وبلحا وتينا وحلوى البودنج ووجبات من المكرونة ومسحوق الشوكولاتة الساخنة والمحار والسردين المعلب، وظل يسألني «هل تحبين هذا؟ هل تحبين ذاك؟ هل تحبين الزبيب؟ هل تحبين رقائق الذرة؟ هل تحبين المثلجات؟ أين يحتفظون بالمثلجات؟ ما النكهة التي تحبينها؟ الشوكولاتة؟ هل أكثر نكهة تحبينها هي الشوكولاتة؟» وفي نهاية الأمر أصبحت أخشى النظر إلى أي شيء لئلا يشتريه.
توقف خالي أمام نافذة متجر سيلرايت التي كان يوجد بها علب من الحلوى غير المعبأة قائلا: «أنا واثق من أنك تحبين الحلوى. ماذا تريدين؟ العرقسوس؟ الهلام بالفاكهة؟ حلوى المكسرات؟ فلنأخذ مزيجا منها، نأخذ من الثلاثة. سوف تصيبك هذه الحلوى بالعطش، كل حلوى المكسرات تلك، فمن الأفضل أن نجد مشروبا غازيا.»
ولكن هذا لم يكن كل شيء، فقد سألني: «هل لديكم مخبز في المدينة؟» اصطحبته إلى مخبز ماكارتر؛ حيث اشترى دزينتين من كعك الزبد، ودزينتين من الكعك المغطى بالسكر والمكسرات، وكعكة جوز الهند بارتفاع نصف قدم. كان الموقف يذكرني بقصة أطفال لدي في المنزل تروي قصة فتاة صغيرة تتمكن بطريقة ما من أن تجعل أمنياتها تتحقق، أمنية واحدة كل يوم لمدة أسبوع ثم يتضح بالطبع أنها تجلب لها التعاسة. ومن بين تلك الأمنيات أن تحصل على كل ما اشتهت تناوله من الطعام في حياتها. اعتدت أن أفتح ذلك الجزء وأقرأ وصف الطعام مرة تلو الأخرى كي أستمتع به فحسب، متجاهلة أصناف العقاب التي حلت بها لاحقا، والتي أوقعتها بها قوى خارقة للطبيعة تراقب الطمع طوال الوقت. ولكنني أدركت الآن أن الكثير من كل شيء قد يكون زائدا عن الحد فعلا، وحتى أوين قد يكون أصيب بالإحباط في نهاية الأمر من هذا السخاء السفيه الذي أفسد نظام المكافآت المتعارف عليه وقضى عليه تماما.
قلت للخال بيل: «إنك أشبه بجني جاء لتحقيق الأمنيات.» وكنت أقصد ألا أبدو طفولية بل تهكمية بعض الشيء، وأردت أيضا بتلك الطريقة المبالغ فيها أن أعبر عن الامتنان الذي كنت أخشى أنني لم أكن أشعر به بالقدر الكافي، ولكنه أخذ الأمر على محمل طفولي في أبسط صوره، وردد الكلام على مسامع أمي عندما عدنا إلى المنزل. «أخبرتني أنني أشبه بجني جاء لتحقيق الأمنيات، رغم أنني اضطررت لأن أدفع نقدا!» «حسنا، لست أدري ماذا أفعل بكل هذا يا بيل، عليك أن تأخذ بعض الأشياء معك في طريق العودة.» «إننا لم نقطع كل تلك المسافة من أوهايو إلى هنا كي نتبضع. ضعي تلك الأشياء في مكانها بعيدا، فلسنا بحاجة إليها. طالما أن لدي مثلجات بالشوكولاتة للتحلية، فلا يهمني أي شيء آخر، فعشقي للحلوى لم يفارقني قط، ولكنني فقدت بعض الوزن، لقد فقدت ثلاثين رطلا منذ الصيف الماضي.» «اطمئن إنك لم تتحول بعد إلى حالة تستحق إعانة ما بعد الحرب.»
أزالت أمي مفرش المائدة الذي يحمل بقع شاي وصلصة عمرها يوم ووضعت مفرشا جديدا، وهو المفرش الذي تطلق عليه مفرش ماديرا، وهي أفضل هدية حصلت عليها بمناسبة زفافها. «هل تعلمين أنني كنت قزما يوما ما؟ كنت رضيعا نحيلا، وعندما كان عمري عامين كدت أموت بالالتهاب الرئوي، ولكن أمي نجحت في أن تجعلني أتعافى وبدأت تطعمني. ولم أبذل مجهودا لفترة طويلة وبدأ وزني يزيد.»
وقال بلهجة من التعظيم المفعم بالحزن: «أمي، ألم تكن كقديسة تسير على الأرض؟ إنني أؤكد لنايل أنها كانت ستتمنى التعرف عليها.»
رمقت أمي نايل بنظرة فزعة (هل تعرفت هاتان السيدتان على بعضهما؟) ولكنها لم تقل ما إذا كانت ترى أنها فكرة صائبة.
فقلت لنايل: «هل تفضلين طبقا عليه رسوم طيور أم ورود؟» كنت أرغب فقط في أن أحملها على الحديث فحسب.
فقالت بصوت هادئ: «لا يهم» وهي تنظر إلى أظافرها الخضراء كما لو أنها تعويذة لتبقيها في هذا المكان.
ولكن هذا كان مهما بالنسبة لأمي التي قالت: «ضعي أطباقا متشابهة على المائدة، فلسنا فقراء لدرجة أننا لا نملك طقما من الأطباق!»
فقلت وأنا ما زلت أحثها على الحديث: «هل ترتدين اللون الأخضر النيلي لأن اسمك نايل؟ هل هذا اللون هو الأخضر النيلي؟» كنت أراها حمقاء، ولكنني أعجبت بها بشدة رغم ذلك، وشعرت بالامتنان لكل كلمة صغيرة تتفوه بها، والتي كانت تخرج من فمها وكأنها فقاعة عديمة اللون. لقد وصلت إلى حد متطرف في الزينة الأنثوية والتكلف المثالي الذي لم أكن حتى أعلم بوجوده، وعندما رأيتها أدركت أنني لن أصبح جميلة أبدا. «إنها مجرد صدفة أن اسمي نايل، وهذا لوني المفضل منذ زمن بعيد قبل حتى أن أسمع عن لون يطلق عليه الأخضر النيلي.» «لم أكن أعلم أنه ثمة طلاء أظافر باللون الأخضر.» «عليك أن تطلبيه خصيصى.»
كان الخال بيل لا يزال شاردا في أفكاره الخاصة، وأردف: «كانت أمي تأمل أن نظل في المزرعة ونحيا بالطريقة نفسها التي تربينا بها.» «لا أتمنى لأي أحد أن يحيا في مزرعة كتلك، فلا يمكنك فيها تربية الأعشاب التي تقتات عليها الطيور.» «ليس الجانب المادي هو كل شيء دائما يا آدي، ولكن ثمة القرب من الطبيعة، بدلا من كل ما نعانيه الآن من الانشغال طوال الوقت، والقيام بأمور لا تناسبنا، وعيش حياة الأثرياء، ونسيان المسيحية. كانت أمي تشعر أنها حياة جيدة.» «وما الجيد في الطبيعة؟ فما الطبيعة إلا مجرد كائن يفترس آخر وهكذا على كافة المستويات، ما الطبيعة إلا مجرد الكثير من النفايات والقسوة، ربما لا من وجهة نظر الطبيعة ولكن من وجهة نظر الإنسان. القسوة هي قانون الطبيعة.» «حسنا، لست أقصد ذلك يا آدي. لست أقصد الحيوانات المفترسة وما إلى ذلك، بل أعني حياتنا التي عشناها في منزلنا، حيث لم يكن لدينا الكثير من وسائل الراحة، أعترف بذلك، ولكننا كنا نحيا حياة بسيطة ونعمل أعمالا شاقة ونستنشق هواء نقيا ولدينا نموذج روحاني في والدتنا. لقد توفيت صغيرة يا آدي، توفيت متألمة.»
فقالت أمي: «كانت تحت تأثير المخدر، وهكذا إذا تحرينا الدقة، أتمنى ألا تكون قد توفيت متألمة.»
وأثناء تناول العشاء، أخبرت أمي الخال بيل بقيامها ببيع الموسوعات قائلة: «لقد بعت ثلاث مجموعات في الخريف الماضي.» رغم أنها لم تبع سوى واحدة وما زالت تحاول إقناع اثنين من العملاء المحتملين. «لقد أصبح أهل البلد يمتلكون أموالا الآن كما تعلم بسبب الحرب.»
فقال الخال بيل وهو ينحني على طبقه ويتناول الطعام بثبات كالعجز: «لن تحققي أية أرباح من العمل بائعة متجولة لدى الفلاحين، ماذا قلت إنك تبيعين؟» وكان يبدو عجوزا بالفعل. «الموسوعات. الكتب. إنها مجموعة جميلة للغاية، كنت لأضحي بأي شيء في مقابل الحصول على مجموعة كهذه من الكتب في المنزل عندما كنت طفلة.» ربما كانت تلك المرة الخمسين التي أسمعها تقول فيها تلك العبارة. «لقد واصلت تعليمك، وأنا استغنيت عنه، ولكن ذلك لم يوقفني. لا يمكنك بيع الكتب للفلاحين، فهم يتمتعون بقدر عال من الفهم، وحريصون على أموالهم، فالربح ليس في أشياء كهذه، بل في العقارات. الربح يكمن في العقارات والاستثمار إذا كنت تعلمين ماذا تفعلين جيدا.» وبدأ يقص قصة طويلة ذات خلفية معقدة ويصحح التفاصيل لنفسه عن شراء المنازل وبيعها، ثم الشراء والبيع والشراء والبناء، والإشاعات والتهديدات والأخطار والأمان. لم تكن نايل تستمع إليه إطلاقا بل كانت تحرك الذرة المعلبة في طبقها وتغرز الشوكة في حبات الذرة واحدة تلو الأخرى، وهي لعبة طفولية لا يمكن حتى لأوين أن يفلت من العقاب بشأنها. لم يتفوه أوين نفسه بكلمة بل تناول طعامه وهو يضع علكته على إبهامه، ولم تلاحظ أمي ذلك. لم تكن فيرن دوجرتي موجودة، فقد ذهبت كي ترى والدتها في مستشفى المقاطعة، واستمعت أمي لشقيقها بينما ترتسم على وجهها نظرة هي مزيج من الاستنكار والدهاء.
شقيقها! هذه هي المشكلة، هذه هي الحقيقة التي يصعب تقبلها. كان هذا الخال بيل شقيق أمي، الصبي البدين الكريه صاحب الموهبة الهائلة في القسوة، ذاك الماكر الذكي الشيطاني، الكثير من الصفات التي تثير الخوف. ظللت أنظر إليه محاولة انتزاع ذلك الصبي من هذا الرجل الشاحب العجوز، ولكنني لم أجده، فقد رحل واختنق كثعبان أرقط صغير كان يوما ما ساما ومولعا بالأذى ودفن في كيس من الدقيق. «هل تذكرين اليرقات، وكيف كانت تحط على أزهار الصقلاب؟»
فقالت أمي وهي لا تصدق ما تسمع: «اليرقات؟» ثم نهضت وأحضرت فرشاة صغيرة ذات يد نحاسية ووعاء معدنيا كان هدية زفاف أيضا، وأخذت تزيل الفتات من على المفرش. «كانت تحط على أزهار الصقلاب في فصل الخريف، وهي تأتي بحثا عن اللبن كما تعلمين، العصارة الموجودة بالأزهار، فتشربه حتى يمتلئ جسمها وتشعر بالنعاس وتدخل في شرنقتها. حسنا، لقد وجدت واحدة على زهرة الصقلاب وأحضرتها معها إلى المنزل ...» «من هي؟» «أمي يا آدي، فمن غيرها قد يتكبد ذلك العناء؟ كان ذلك قبل أن تولدي بزمن بعيد. وجدت تلك اليرقة وأحضرتها للمنزل ووضعتها فوق الباب حيث لا يمكنني الوصول إليها. لم أكن أقصد الإيذاء ولكنني كنت أتصرف كالفتية. دخلت اليرقة في شرنقتها ومكثت فيها طوال الشتاء، ونسيت أمرها، وذات يوم كنا نجلس جميعا بعد أن تناولنا العشاء في عيد الفصح، ولكن كان ثمة عاصفة ثلجية بالخارج، ثم قالت أمي انظروا! انظروا! فنظرنا ووجدنا ذلك الشيء فوق الباب يشرع في الحركة، كانت تمزق الشرنقة، تجذبها وتفتحها من الداخل، ثم تتعب وتتوقف ثم تواصل مرة أخرى. استغرق الأمر نصف الساعة أو أربعين دقيقة تقريبا، ولم نتوقف عن المشاهدة قط، ثم رأينا الفراشة تخرج. وبدا الأمر كما لو كانت الشرنقة قد ضعفت أخيرا وسقطت كالخرقة القديمة. كانت فراشة صفراء صغيرة منقطة وأجنحتها مشدودة للأسفل، وكان عليها أن تحركها بعض الشيء كي تجعلها لينة وحرة الحركة. فتحاول تحريك أحد أجنحتها، تحاول بجهد شديد ثم ترفرف به، ثم تحاول تحريك الآخر وتنجح في الرفرفة به هو الآخر، فتحلق قليلا. فقالت أمي: «انظروا إلى ذلك، لا تنسوه أبدا، فهذا ما رأيتموه يوم عيد الفصح.» لا تنسوا، ولم أنس قط.»
فقالت أمي بحياد: «وماذا حدث لها؟» «لست أذكر، لا بد وأنها لم تعش طويلا في جو كذاك، ولكنه كان أمرا طريفا؛ أنها كانت تعمل بجد على جناح، ثم تعمل على الجناح الآخر، ثم تحلق قليلا، أول مرة تستخدم فيها أجنحتها.» وضحك بنبرة اعتذار كانت الأولى والأخيرة التي نسمعها منه، ثم بدا بعد ذلك مرهقا ومحبطا بصورة غامضة، وأمسك بيديه بطنه التي كانت تصدر أصواتا هادئة ضرورية للهضم.
كان ذلك في المنزل نفسه، المنزل نفسه حيث كانت أمي تجد النار قد انطفأت ووالدتها تصلي، وحيث تناولت اللبن والخيار آملة في أن تصعد روحها إلى السماء.
قضى الخال بيل ونايل الليل في منزلنا وناما على أريكة الغرفة الأمامية التي كان يمكن فردها وتحويلها إلى فراش. رقدت نايل بأطرافها الطويلة المعطرة اللامعة شديدة القرب من جسد خالي المتهدل وبالقرب من رائحته. لم أتخيل أنهما قد يفعلان أكثر من ذلك؛ لأنني ظننت أن المداعبات الجنسية المتلهفة هي أمر طفولي، وأن البالغين المحتشمين قد تخطوا تلك المرحلة وأصبحوا يقومون بذلك الاتصال غير المرجح من أجل إنجاب الأطفال فحسب.
وفي صباح يوم الأحد، رحلا بعد تناول الإفطار، ولم نر أيا منهما مرة أخرى.
وبعد مرور بضعة أيام، اعترفت أمي لي قائلة: «إن خالك بيل يحتضر.»
كان وقت العشاء قد أوشك، وكانت أمي تطهو النقانق. لم تكن فيرن قد عادت من العمل بعد، وكان أوين قد عاد للتو من تدريب الهوكي وذهب ليلقي بالزلاجات والعصا في القاعة الخلفية. طهت أمي النقانق حتى أصبحت صلبة ولامعة وداكنة من الخارج، لم أتناولها من قبل سوى هكذا. «إنه يحتضر. كان يجلس هنا صباح الأحد عندما هبطت كي أشغل الغلاية وأخبرني بأنه مصاب بالسرطان.»
استمرت في تقليب النقانق بشوكة، وكانت قد انتزعت لعبة الكلمات المتقاطعة من الجريدة وانتهت من نصفها وتركتها على الطاولة بجوار الموقد. تذكرت الخال بيل وهو يذهب إلى وسط المدينة ويشتري كعك الزبد ومثلجات الشوكولاتة والكعك، ثم عودته إلى المنزل وتناول الطعام. كيف أمكنه أن يفعل ذلك؟
قالت أمي كما لو كانت تفكر في الأمور نفسها التي تجول بخاطري: «كان دائما مفتوح الشهية، ويبدو أن احتمال الموت المرتقب لم يضعف من شهيته. من يعلم؟ ربما لو كان يأكل أقل من ذلك كان سيعيش أطول حتى يبلغ سن الشيخوخة.» «هل تعلم نايل بذلك؟» «وماذا يهم إذا كانت تعلم أم لا؟ لقد تزوجته من أجل نقوده فحسب، وسوف تصبح ثرية.» «أما زلت تكرهينه؟»
فقالت أمي سريعا ولكن بتحفظ: «أنا لا أكرهه بالطبع.» نظرت إلى المقعد الذي جلس فيه، وشعرت بالخوف من العدوى، لا من السرطان بل من الموت ذاته. «أخبرني بأنه ترك لي ثلاثمائة دولار في وصيته.»
ماذا تبقى لنا بعد ذلك من خيارات سوى العودة لأرض الواقع؟ «وكيف ستنفقينها؟» «لا شك أنني عندما يحين وقت استلامها سيكون شيء ما قد خطر ببالي.»
فتح الباب الأمامي ودخلت فيرن. «يمكنني دائما الإرسال في طلب صندوق من الأناجيل.»
قبل أن تدخل فيرن من باب ويدخل أوين من الباب الآخر مباشرة، كان ثمة ومضة سريعة في الغرفة وكأنها رفرفة جناح طائر أو حركة سكين سريعة، شعور قوي بالألم ولكنه سريع ومنزو، يتلاشى.
قالت أمي وهي تقطب ما بين حاجبيها وهي تنظر إلى الكلمات المتقاطعة: «إله مصري من خمسة حروف، إنني أعرفه، ولا أستطيع أن أتذكره كي أنقذ نفسي.» «إيزيس.» «إيزيس إلهة وليست إلها، إنني مندهشة مما تقولين.»
بعد ذلك بوقت قريب، بدأ الجليد يذوب وفاض نهر واواناش وأغرق ضفافه حاملا معه لافتات الطريق وأعمدة الأسيجة وحظائر الدجاج ثم انحسر، وأصبحت الطرق صالحة إلى حد ما للسير فيها، وعادت أمي تخرج مرة أخرى في فترة ما بعد الظهيرة. وكما قالت إحدى عمات أبي - لا يهم من هي: «الآن سوف تفتقد مراسلة الصحف.»
عصر الإيمان
اعتدت أنا وأمي - عندما كنا نعيش في ذلك المنزل في نهاية طريق فلاتس وقبل أن تتعلم أمي قيادة السيارة - أن نسير حتى مدينة جوبيلي التي تبعد ميلا. وبينما كانت تغلق هي الباب، كان علي أن أعدو حتى البوابة وأتفحص الطريق كي أتأكد من أنه لا يوجد أحد قادم؛ ومن يمكن أن يكون في ذلك الطريق سوى ساعي البريد والعم بيني؟! وعندما أهز رأسي بالنفي كانت أمي تخبئ المفتاح تحت العمود الثاني للشرفة؛ حيث نخر السوس الخشب وأحدث به فتحة صغيرة، فقد كانت تؤمن بوجود لصوص المنازل.
وعندما ندير ظهورنا لمستنقع جرينوش ونهر واواناش وبعض التلال البعيدة، سواء الجرداء أو المشجرة التي كنت أعتبرها أحيانا نهاية العالم - رغم أنني لم أكن جاهلة بحقائق الجغرافيا - كنا نسير في طريق فلاتس الذي كان شديد الضيق في ذلك الطرف، حتى إنه لا يتسع إلا لسيارة واحدة، ويزخر بنمو ثري لنبات لسان الحمل والأعشاب التي تقتات عليها الطيور في المنتصف. كنت أفكر حينها في اللصوص، وأتخيلهم في صورة باللونين الأبيض والأسود رجالا ذوي وجوه كئيبة يبدو عليها التركيز على هدفهم، يرتدون ثيابا مخصصة للصوص. تخيلتهم ينتظرون في مكان ما ليس بعيدا، مثل الحقول الموحلة المليئة بالسراخس على امتداد حافة المستنقع، ينتظرون ولديهم معرفة بأدق تفاصيل منزلنا وكل ما فيه، فهم يعلمون بأمر الفناجين ذات المقابض على شكل فراشة المطلية باللون الذهبي، وقلادتي المصنوعة من المرجان التي كنت أظنها قبيحة مغطاة بالخدوش، ولكنني أخبرت بأنني يجب أن أعتبرها قيمة؛ لأن عمة والدي هيلين هي من أرسلتها من أستراليا أثناء رحلتها حول العالم، وسوار فضي اشتراه أبي لأمي قبل زواجهما، ومزهرية سوداء عليها أشكال يابانية مرسومة عليها تبعث شعورا بالراحة عند النظر إليها - وهي هدية زفاف - ومحبرة أمي ذات اللون الأبيض المائل إلى الخضرة التي تحمل صورة القس لاوكون وأبنائه (قس طروادة الذي قتلته الأفاعي البحرية مع ولديه)، والتي فازت بها لحصولها على أعلى الدرجات ولكفاءتها العامة عند تخرجها في المدرسة الثانوية، وكانت الحية في صورة لاوكون تلتف بخبث شديد حول الذكور الثلاثة، حتى إنني لم أستطع قط اكتشاف ما إذا كانت هناك أعضاء تناسلية من المرمر تحتها أم لا. كنت أدرك أن اللصوص يشتهون تلك الأشياء، ولكنهم لن يتحركوا ما لم نعطهم سببا بإهمالنا. وقد أكدت معرفتهم بتلك الأشياء وجشعهم للحصول عليها على قيمة وتفرد كل منها. كانت صورة عالمنا تنعكس بثبات في أذهان اللصوص.
بالطبع لاحقا بدأت أشك في وجود اللصوص أو على الأقل في أن هذه هي طريقة عملهم، وبدأت أعتقد على الأرجح أن الطرق التي يتبعونها عشوائية ومعلوماتهم ضبابية وجشعهم غير محدد الهدف، وعلاقتهم بنا أقرب ما تكون إلى المصادفة. وبعد أن خفت تفكيري فيهم، أصبحت أذهب بسهولة أكبر حتى المستنقع، ولكنني افتقدتهم وافتقدت التفكير فيهم لفترة طويلة.
لم يكن لدي قط تخيل واضح وبسيط عن الرب مثلما كان لدي عن اللصوص، فلم تكن أمي مستعدة للإشارة إليه. كنا نتبع الكنيسة المتحدة في جوبيلي - على الأقل أبي وعائلته - وقد عمدنا أنا وشقيقي أوين هناك عندما كنا رضيعين، وهو ما يظهر ضعفا أو كرما مدهشا من جانب أمي، ربما تكون الولادة قد جعلتها لينة الجانب ومرتبكة بعض الشيء.
كانت الكنيسة المتحدة أحدث الكنائس في جوبيلي وأكبرها وأكثرها ازدهارا، فقد استوعبت كل الميثوديين والأبرشانيين وكثيرا من المشيخيين (وهو مذهب عائلة أبي) السابقين في وقت اتحاد الكنائس. كان ثمة أربع كنائس أخرى في المدينة، ولكنها كانت كلها صغيرة وفقيرة نسبيا، فضلا عن أنها - وفقا لمعايير الكنيسة المتحدة - تتخذ مواقف متطرفة، كانت الكنيسة الكاثوليكية أكثرها تطرفا. كانت الكنيسة الكاثوليكية - الخشبية بيضاء اللون وعليها صليب بسيط - تقع أعلى تل في الطرف الشمالي من المدينة، وتقيم قداسات متميزة للكاثوليكيين، الذين يبدون غريبي الأطوار ومتحفظين كالهندوس بتماثيلهم واعترافاتهم والنقاط السوداء التي يرسمونها في أربعاء الرماد. وفي المدارس، كان الكاثوليك طائفة صغيرة ولكنها غير مهددة، معظمهم من الأيرلنديين الذين لم يكونوا يمكثون في الفصول في حصص التعليم الديني، بل كان يسمح لهم بالنزول إلى القبو للعزف على المزامير. كان من الصعب الربط بين ضوضائهم البسيطة وبين عقيدتهم الخطيرة الغريبة. كانت عمات أبي تعشن قبالة الكنيسة الكاثوليكية وتطلقن النكات على «التسلل لأداء طقس الاعتراف»، ولكنهن كن يعلمن ما يكمن خلف النكات: الهياكل العظمية للرضع، والراهبات المخنوقات تحت أرض الدير، نعم، والقساوسة البدناء والعاهرات والبابوات العجز السود. كل ذلك كان حقيقيا، وكن يمتلكن كتبا تتناول تلك الموضوعات. كل هذا حقيقي. وعلى غرار الأيرلنديين في المدرسة، بدا مبنى الكنيسة غير ملائم؛ إذ إنه كان شديد البساطة والتواضع والاستقامة في المظهر، حتى إنه يصعب تصديق صلته بالشهوانية والفضائح على هذا النحو.
كان المعمدانيون متطرفين أيضا، ولكن بطريقة تخلو من الشرور، بل كانت فكاهية قليلا. لم يكن أي شخص ذي شأن أو مكانة اجتماعية يذهب إلى الكنيسة المعمدانية، وهكذا فإن شخصا مثل بورك تشايلدز - الذي كان يوصل الفحم للمنازل ويجمع القمامة في المدينة - تمكن من أن يصبح شخصية بارزة فيها، كان قائدا ذا مكانة. كان محرما على المعمدانيين الرقص أو الذهاب للسينما، ولم يكن بإمكان النساء المعمدانيات طلاء شفاههن بأحمر الشفاه، ولكن ترانيمهم كانت صاخبة ومرحة ومليئة بالتفاؤل، ورغم تقشف حياتهم، فقد كان بعقيدتهم قدر من المرح الشعبي أكثر من عقيدة أي شخص آخر. لم تكن تلك الكنيسة بعيدة عن المنزل الذي استأجرناه لاحقا في شارع ريفر، وكانت متواضعة ولكنها حديثة الطراز وقبيحة الشكل، حيث بنيت من كتل الإسمنت الرمادية، وكانت ذات نوافذ من الزجاج المشطوف.
أما عن المشيخيين، فهم بقايا الناس الذين رفضوا الانضمام للاتحاد، ومعظمهم من كبار السن الذين كانوا ينظمون حملات ضد ممارسة الهوكي في أيام الأحد وينشدون المزامير.
أما الكنيسة الرابعة فهي الأنجليكانية، ولم يكن أحد يعلم عنها الكثير أو يتحدث عنها. لم تكن تلك الكنيسة في جوبيلي تتمتع بالمكانة الاجتماعية ولا بالأموال، التي ترتبط بها في المدن التي يوجد بها بقايا من الأقلية الحاكمة القديمة أو نوع من المؤسسات العسكرية أو الاجتماعية للحفاظ على بقائها واستمرارها. كان من استوطنوا مقاطعة واواناش وبنوا مدينة جوبيلي من المشيخيين الاسكتلنديين والأبرشانيين والميثوديين من شمال إنجلترا. ومن ثم؛ لم يكن اتباع المذهب الأنجليكاني شائعا كما هو في أماكن أخرى، ولم يكن أمرا مشوقا مثل اتباع الكاثوليكية أو المعمدانية، ولا دليلا على التمسك بالعقيدة كما في حالة المشيخية. ورغم ذلك فقد كان للكنيسة جرس، وهو جرس الكنيسة الوحيد في المدينة، وبدا لي ذلك شيئا من الجميل أن تملكه الكنيسة.
في الكنيسة المتحدة، وضعت المقاعد الخشبية الطويلة - المصنوعة من خشب البلوط الذهبي اللامع - في ترتيب منتظم مروحي الشكل، والمنبر والفرقة في قلب المروحة. لم يكن هناك مذبح، بل استعراض ضخم لمزامير آلة الأرجن فحسب. وكانت النوافذ الزجاجية الملونة تصور المسيح وهو يقوم بمعجزات مفيدة (ولكن ليس منها تحويل الماء إلى خمر) أو تصور القصص الرمزية ذات المغزى الأخلاقي. وفي يوم العشاء الرباني، كانت الخمر تقدم على صوان في كئوس زجاجية صغيرة سميكة، كانت كما لو أن الجميع يحصلون على بعض المرطبات، ولم يكن حتى خمرا بل عصير عنب. تلك هي الكنيسة التي يتردد عليها أعضاء الفيلق الملكي الكندي في زيهم الموحد في يوم معين من أيام الأحد، وكذلك أعضاء نادي ليونز وهم يحملون قبعاتهم المزينة بشرابات أرجوانية اللون، وكان من يمررون الأطباق أطباء ومحامين وتجارا.
لم يكن والداي يترددان على الكنيسة إلا نادرا. كان أبي في حلته التي لم نعتد على رؤيتها كثيرا يبدو محترما للآخرين وفي الوقت نفسه مستقلا. وأثناء الصلاة، كان يضع مرفقه على ركبته ويريح جبهته على يده ويغلق عينيه وتبدو عليه سيماء العفو والتسامح. أما أمي من ناحية أخرى، فلم تكن تغلق عينيها قط وبالكاد تحني رأسها، بل كانت تجلس متلفتة في كل الاتجاهات بحذر ولكن بلا خجل، كما لو كانت عالم أنثروبولوجيا يدون ملاحظات حول سلوكيات قبيلة بدائية. كانت تستمع إلى الموعظة وهي منتصبة القامة ومتحفزة تعض على شفتيها بتشكك، وكنت أخشى أن تهب واقفة في أية لحظة كي تعترض على شيء ما، وكانت تتباهى بعدم اشتراكها في غناء الترانيم.
بعد أن استأجرنا المنزل في المدينة أصبح لدينا مستأجرة تسكن معنا، وهي فيرن دوجرتي التي كانت تغني في جوقة الكنيسة المتحدة. كنت أذهب معها إلى الكنيسة وأجلس وحدي، فأنا الوحيدة من عائلتي الحاضرة، فعمات والدي يسكن في الطرف الآخر من المدينة ولا يسرن تلك المسافة الطويلة كثيرا، كما أن القداس يكون مذاعا على أية حال على محطة جوبيلي الإذاعية.
لم كنت أفعل ذلك؟ في بادئ الأمر، ربما كان ذلك كي أضايق أمي، رغم أنها لم تبد اعتراضا صريحا، وكي أجذب الانتباه إلي. كنت أتخيل الناس ينظرون إلي ثم يقولون لاحقا: «هل ترون تلك الفتاة الصغيرة هناك التي تأتي وحدها أسبوعا تلو الآخر؟» كنت آمل أن ينخدع الناس ويتأثروا بتقواي ومثابرتي، في الوقت الذي يعرفون فيه طبيعة إيمان أمي، أو بالأحرى عدم إيمانها. وكنت أفكر أحيانا في سكان جوبيلي كما لو أنهم ليسوا إلا جمهورا كبيرا لي، وقد كانوا كذلك بالفعل نوعا ما، فبالنسبة لكل شخص يعيش هناك كان بقية سكان المدينة جمهورا.
ولكن في الشتاء الثاني لنا في المدينة - الشتاء الذي بلغت فيه الثانية عشرة من عمري - تغيرت أسبابي أو أصبحت أكثر رسوخا. فقد أردت أن أحسم قضية الرب. كنت أقرأ كتبا عن العصور الوسطى، وازداد انجذابي أكثر فأكثر لفكرة الإيمان. كان وجود الرب احتمالا واردا بالنسبة لي طوال الوقت، ولكنني الآن وقعت فريسة لحنين واضح وقوي له. فقد صار في نظري ضرورة، ولكنني كنت أرغب في الحصول على تأكيد؛ دليل على وجوده بالفعل، كان ذلك هو السبب الرئيسي لترددي على الكنيسة، ولكنني لم أستطع أن أبوح بذلك لأي شخص.
وهكذا ظللت أتردد على الكنيسة في أيام الآحاد الممطرة العاصفة أو الثلجية أو التي كنت أعاني فيها من التهاب الحلق، ظللت أذهب وأجلس في الكنيسة المتحدة مفعمة بذلك الأمل الذي لا يمكنني البوح به في أن الرب سوف يتجلى - لي أنا على الأقل - على هيئة قبة من الضوء أو فقاعة متوهجة لا تقبل الجدال فوق المقاعد الخشبية الطويلة الحديثة، أو أنه سوف يظهر فجأة كصف من الزنابق المزهرة أسفل آلات الأرجن. شعرت بأنني بحاجة للسيطرة على هذا الأمل بشدة، فكشفه بنبرة صوت متحمسة أو بكلمة أو إيماءة أمر غير ملائم كإطلاق الريح. وأكثر ما لاحظته على وجوه الناس خلال الأجزاء الأولى من القداس الموجه نحو الرب (فالموعظة تميل للانصراف نحو موضوعات محلية) هو نوع من اللباقة العامة المتسقة، وهو الشيء نفسه الذي كانت أمي تنتهكه بنظرتها المعارضة المتسائلة كما لو كانت على وشك أن تتوقف وتطلب تفسيرا لكل شيء.
لم تطرح مسألة ما إذا كان الرب موجودا أم لا في الكنيسة قط، بل كان كل ما يطرح هو ما يقبل به الرب، أو عادة ما لا يقبل به. وبعد منح البركة كانت تحدث حالة من الهياج، حالة من التحرير الذي يبعث على الراحة، كما لو أن الجميع قد تثاءب، رغم أن أحدا لم يفعل ذلك بالطبع، وكان الناس ينهضون من أماكنهم ويحيون بعضهم البعض بطريقة احتفالية تدل على السرور والارتياح. وفي تلك اللحظات كنت أشعر بالاضطراب والحرارة والتثاقل والقنوط.
لم أفكر في عرض مشكلتي على أي مؤمن، ولا حتى السيد ماكلوفلين القس؛ فهو أمر محرج للغاية، كما كانت بداخلي مخاوف أيضا؛ فقد كنت أخشى أن يتلعثم المؤمن وهو يدافع عن معتقداته أو يعرفها؛ مما يمثل نكسة لي. فإذا اتضح مثلا أن السيد ماكلوفلين لا يحكم قبضته على دليل وجود الرب أكثر مما أفعل أنا، فسوف يؤدي ذلك إلى تثبيط عزيمتي كثيرا، وإن كان لن يثنيني عن الأمر. كنت أفضل أن أومن بأن دليله قوي دون أن أختبره.
ولكنني فكرت حقا في عرض المشكلة على كنيسة أخرى؛ على الكنيسة الأنجليكانية. كان ذلك بسبب الجرس، ولأنني كنت أشعر بالفضول لرؤية كنيسة أخرى من الداخل وكيف يتعاملون مع الأمور، وكانت الكنيسة الأنجليكانية هي الوحيدة التي يمكن تجربة هذا الأمر معها. لم أخبر أحدا بالطبع عما أنوي القيام به ، ولكنني سرت مع فيرن دوجرتي حتى سلالم الكنيسة المتحدة حيث افترقنا؛ حيث كانت هي تذهب إلى غرفة ملابس الكهنة وترتدي ثياب الجوقة. وعندما غابت عن ناظري استدرت عائدة وانطلقت إلى الطرف الآخر من المدينة، حتى وصلت إلى الكنيسة الأنجليكانية استجابة لدعوة الجرس، وتمنيت ألا يكون أحد قد رآني، ثم دخلت.
كان ثمة رواق مسقوف للعواصف خارج الباب الرئيسي كي يحجز الرياح بعيدا، ثم مدخل بارد قليلا به قطعة من الحصير البني وكتب الترانيم متراكمة على حافة النافذة، ثم دخلت إلى الكنيسة نفسها.
لم يكن لديهم تنور، بل مجرد مدفأة صغيرة بجوار الباب تصدر صوتها الثابت المألوف في المنازل، وكانت هناك شريحة من الحصير البني نفسه تمتد من الخلف وعلى طول الممر، وغير ذلك لم يكن سوى الأرض الخشبية التي لم تكن مصقولة أو مطلية، بل مجرد ألواح واسعة تتزحزح تحت الأقدام بين الحين والآخر، بالإضافة إلى سبعة أو ثمانية مقاعد خشبية طويلة فقط على كل جانب، وزوج من مقاعد الجوقة بزاوية قائمة مع المقاعد الخشبية، وآلة أرجن في أحد الجوانب ومنبر - لم أدرك في البداية أنه منبر - شامخ كمجثم الطيور في الجانب الآخر، ووراء ذلك ثمة حاجز ودرجة سلم لأعلى ومذبح صغير. كانت أرض المذبح مغطاة بسجادة قديمة تصلح لقاعة استقبال، وكان ثمة مائدة أيضا عليها زوج من الشموع الفضية، وصحن لجمع الأموال مبطن بنسيج البيز، وصليب يبدو كما لو كان مصنوعا من الورق المقوى ومغطى بالورق الفضي كالتاج الذي يرتديه الممثلون في المسرحيات، وفوق المائدة ثمة نسخة من لوحة هولمان هانت التي تصور المسيح يقرع الباب. لم أكن قد رأيت تلك اللوحة من قبل، وكان المسيح بها يختلف قليلا - ولكن اختلافا مهما - عن المسيح الذي يظهر وهو يصنع المعجزات على نافذة الكنيسة المتحدة، فقد بدا هنا أكثر ملكية وحزنا، وخلفية اللوحة أكثر كآبة وثراء، ونوعا ما أكثر وثنية أو على الأقل تنتمي لمنطقة البحر المتوسط. وكنت معتادة على رؤيته واهنا وريفيا في الصور الوصفية المرسومة بأقلام الباستيل الخاصة بمدارس تعليم المسيحية التي تقام يوم الأحد.
إجمالا كان هناك حوالي اثني عشر شخصا في الكنيسة: راهب هولندي والجزار وزوجته وابنته جلوريا التي كانت في الصف الخامس في المدرسة، وكنت أنا وهي فحسب في الكنيسة في ذلك الوقت تحت سن الأربعين، وكان هناك أيضا بعض النساء العجائز.
وصلت بالكاد في الوقت المناسب؛ فقد توقف الجرس عن الدق وبدأت ترنيمة على الأرجن، ودخل القس من الباب الجانبي - الذي لا بد وأنه يقود إلى غرفة ملابس الكهنة - على رأس الجوقة التي كانت تتكون من ثلاث سيدات ورجلين. كان القس شابا مستدير الرأس باسم الثغر لم أره من قبل، كنت أعلم أن الكنيسة الأنجليكانية لا يمكنها تحمل تكلفة القس وحدها وأنها تشارك قسا مع بورترفيلد وبلو ريفر، فلا بد أنه يعيش في إحدى هاتين المدينتين. وكان يرتدي حذاء مخصصا للجليد تحت ثيابه.
تحدث باللكنة البريطانية قائلا: «أيها الإخوة الأحباء، إن الكتاب المقدس يحثنا في مواضع مختلفة على الإقرار والاعتراف بآثامنا وشرورنا المختلفة ...»
كان ثمة لوح أمام كل مقعد ينحنون عليه للقراءة منه، تقدم الجميع للأمام وهم يقلبون أوراق كتب الصلوات، وعندما انتهى القس من دوره بدأ الجميع يرددون شيئا. نظرت في كتاب الصلوات الذي وجدته أمامي على الرف ولكنني لم أعثر على الموضع الذي كانوا يقرءون منه، فاستسلمت وظللت أستمع لما يقولون. وفي الناحية الأخرى من الممر وعلى المقعد الخشبي الذي يسبق مقعدنا، كانت امرأة عجوز طويلة نحيفة ترتدي غطاء رأس يشبه العمامة (تربان) مخمليا أسود. لم تفتح تلك المرأة كتاب الصلوات، فلم تكن بحاجة إليه، بل انحنت مستقيمة ورفعت وجهها الشاحب القاسي باتجاه السماء - فذكرتني بصورة أحد فرسان الحملات الصلييبة في الموسوعة التي أملكها في المنزل - قادت تلك المرأة كل الأصوات الأخرى في الاجتماع، بل إنها سيطرت عليها بالفعل، حتى إنها لم تكن سوى مجرد صدى ضبابي لصوتها، الذي كان مرتفعا حزينا غنائيا جذلا لا يخلو من الشجن: ... لم نفعل ما علينا فعله، وفعلنا ما لا يجب علينا فعله، ولا صحة فينا، لكن ارحمنا يا الله نحن المذنبين الأشقياء. ارحم يا رب أولئك الذين يعترفون بخطاياهم. ورد التائبين كما وعدتنا في المسيح يسوع مخلصنا ...
واستمر الحال على هذا قليلا، ثم بدأ القس بصوته الإنجليزي الجميل الإيقاعي رغم أنه كان أكثر تحفظا؛ واستمر هذا الحوار بإيقاع ثابت يعلو ويهبط بثقة دائمة، والعواطف المفعمة بالحياة يعبر عنها أرقى قنوات التواصل اللغوي وتجتمع في نهاية الأمر في عذوبة ووفاق تام.
يا رب ارحمنا.
يا يسوع ارحمنا.
يا رب ارحمنا.
وهكذا، كان هنا ما لم أعرفه من قبل، ولكنني شككت دائما بوجوده، وهو ما قضى عليه كل الميثوديين والأبرشانيين والمشيخيين بخوف، إنه ذلك الجانب المسرحي في الدين. منذ أول لحظة شعرت بالسعادة الغامرة، فالعديد من الأمور قد جلبت لي السرور؛ مثل الانحناء على اللوح الخشبي والوقوف والانحناء مرة أخرى وتحويل الرأس إلى المذبح عند ذكر اسم يسوع، وقراءة قانون الإيمان المسيحي الذي أحبه بفضل الابتهال بأشياء غريبة رائعة نؤمن بها. وكنت أحب أيضا إطلاق اسم يسوع على المسيح أحيانا، فهذا الاسم يجعله يبدو أكثر ملكية وسحرا كما لو كان ساحرا أو إلها هنديا، وأحببت أيضا النقش باسم يسوع على تصميم شعار المنبر الثري العتيق البالي. كما أسعدني كذلك الفقر الذي تبدو عليه الكنيسة وصغر حجمها وحالتها الرثة، ورائحة العفن أو الفئران وغناء الجوقة الهزيل وانعزال المصلين، وشعرت بأنه إذا كان هؤلاء هنا، فكل شيء حقيقي على الأرجح. والشعائر التي في ظروف أخرى كانت لتبدو مصطنعة خالية من الحياة، كانت هنا تبدو وكأنها محاولة أخيرة للحفاظ على الكبرياء. إنه ثراء الكلمات في مقابل فقر المكان. فإذا لم أتمكن من استشعار أثر الرب فعلى الأقل يمكنني استشعار أثر عصره القديم من القوة، القوة الحقيقية لا تلك التي يتمتع بها اليوم في الكنيسة المتحدة، استطعت أن أتذكر الترتيب الهرمي الشهير والتقويم الرائع العتيق البالي للأعياد والقديسين. كانوا موجودين في كتاب الصلوات، فقد فتحته على تلك الصفحة مصادفة: أعياد القديسين. هل يتذكرها أحد ويحتفي بها؟ جعلتني أعياد القديسين أفكر في شيء مختلف تماما عن جوبيلي: مخازن التبن المفتوحة، وبيوت المزارع نصف الخشبية، وصلاة التبشير، والشموع، وموكب من الراهبات يسرن في الثلوج في نزهة الدير يخيم عليهن الهدوء؛ عالم من الثراء والمعتقدات الراسخة والأمان. فإذا أمكننا اكتشاف الرب أو تذكره فسوف يصبح كل شيء آمنا، وسوف ترى عندئذ الأشياء التي رأيتها - حبيبات الخشب الباهتة في ألواح الأرض الخشبية، والنوافذ الزجاجية غير المزخرفة ومن ورائها الأغصان الرقيقة والسماء التي تنهمر منها الثلوج - ويختفي الألم الغريب القلق الذي يتسبب فيه مجرد رؤية الأشياء. بدا لي واضحا أن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها - نعم «الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها» - إذا كانت كل تلك الذرات - تلك المجرات من الذرات - آمنة طوال الوقت تدور في عقل الرب، فكيف يمكن للناس أن تطمئن؟ بل كيف يمكن لهم أن يستمروا في التنفس والوجود حتى يتأكدوا من ذلك؟ إنهم مستمرون بالفعل، وهكذا فلا بد أنهم متأكدون.
وماذا عن أمي؟ نظرا لأنها أمي، فإنها لا تدخل في الاعتبار، ولكن حتى هي عندما تحاصر فإنها تقول بالطبع لا بد وأن هناك شيئا ما أو نوعا من «التخطيط»، ولكنها تحذر من عدم جدوى إضاعة الوقت في التفكير فيه لأننا لن نفهمه على أية حال، وثمة الكثير مما يجب علينا التفكير فيه إذا أردنا محاولة تحسين حياتنا هنا والآن من قبيل التغيير، وبعد الموت سوف نكتشف أمر ما تبقى، إذا كان ثمة بقية.
لم تكن أمي على استعداد حتى لأن تقول «لا شيء» على كل هذا، وأن ترى نفسها وكل عصا وحجر وريشة في هذا العالم تطفو بحرية في ذلك الظلام المخيف الميئوس منه. كلا.
لم تتصل فكرة وجود الرب لدي بالخير إطلاقا، وهو أمر قد يبدو غريبا، بالنظر إلى كل الخطايا والشرور التي كنت أستمع إليها. كنت أومن بالخلاص عن طريق الإيمان وحده، عن طريق تملك عظيم للروح. ولكن هل رغبت حقا؟ «هل رغبت حقا في أن يحدث لي هذا؟» نعم ولا في الوقت ذاته. كنت أرغب في أن يحدث لي، ولكنني كنت أرى أنه يجب أن يظل سرا، وإلا فكيف لي أن أستمر في الحياة مع أمي وأبي وفيرن دوجرتي وصديقتي ناعومي وكل من في جوبيلي؟
تحدث إلي القس عند الباب بطريقة مرحة قائلا: «يسعدني رؤية الفتيات الحسناوات في هذا الصباح البارد.»
صافحته بصعوبة؛ إذ كنت قد سرقت أحد كتب الصلوات ووضعته تحت معطفي، وكنت أثبته في مكانه بذراعي المنحنية.
قالت فيرن: «لم أرك في الكنيسة.» كان القداس في الكنيسة الأنجليكانية أقصر من القداس في كنيستنا؛ فهم يختصرون في الموعظة، وهكذا كان لدي الوقت كي أعود إلى درج الكنيسة المتحدة وأقابل فيرن عند خروجها. «كنت أجلس خلف أحد الأعمدة.»
أرادت أمي أن تعرف موضوع الموعظة.
فقالت فيرن: «السلام والأمم المتحدة ... إلخ إلخ.»
فقالت أمي باستمتاع: «السلام! حسنا، هل هو معه أم ضده؟» «إنه يؤيد الأمم المتحدة تماما.» «أظن إذن أن الرب كذلك. يا لها من راحة! فمنذ وقت قصير فحسب كان هو والسيد ماكلوفلين مؤيدين للحرب. يبدو أنهما متقلبان.»
وفي الأسبوع التالي عندما كنت مع أمي في متجر ووكر مرت تلك السيدة العجوز الطويلة ذات العمامة السوداء وتحدثت إليها، وخشيت أن تقول إنها قد رأتني في الكنيسة الأنجليكانية، ولكنها لم تفعل.
قالت أمي لفيرن: «لقد رأيت السيدة شيريف العجوز في متجر ووكر اليوم، إنها لا تزال ترتدي العمامة نفسها، إنها تذكرني بقبعة الشرطي الإنجليزي.»
فقالت فيرن: «إنها تأتي إلى مكتب البريد دائما وتنفجر في ثورة غضب عارمة إذا لم تكن أوراقها جاهزة بحلول الساعة الثالثة، إنها امرأة عنيفة حادة الطباع.»
ومن خلال محادثة بين أمي وفيرن حاولت أمي خلالها بلا جدوى أن ترسلني خارج الغرفة - وأعتقد أنها كانت تقوم بذلك كتصرف شكلي، فذات مرة طلبت مني أن أخرج ولكنها لم تكترث بما إذا كنت قد خرجت بالفعل أم لا - علمت أن السيدة شيريف قد عانت من مشاكل غريبة في عائلتها نتجت عن - أو أدت إلى - نوع من غرابة الأطوار والجنون فيها، فقد توفي ابنها الأكبر بسبب إدمان الشراب، وابنها الثاني يتردد على مصحة (وهو الاسم الذي نطلقه على مستشفى الأمراض العقلية في جوبيلي)، وانتحرت ابنتها إذ أغرقت نفسها في نهر واواناش. وماذا عن زوجها؟ قالت أمي بجفاء إنه كان يملك متجرا للمنسوجات والملابس الجاهزة، وكان أحد أهم الشخصيات في المجتمع، وأشارت فيرن إلى أنه ربما كان مصابا بالزهري ونقل المرض إليها، كما أن هذا المرض يهاجم المخ في الجيل الثاني، فكلهم منافقون، أولئك المتأنقون. وقالت أمي: إن السيدة شيريف ظلت أعواما طويلة ترتدي ثياب ابنتها المتوفاة في المنزل وبينما تقوم بالعناية بالحديقة حتى أبلتها تماما.
وثمة قصة أخرى؛ فذات مرة نسي متجر ريد فرونت أن يضع رطلا من الزبد في طلباتها، فخرجت تطارد عامل توصيل الطلبات حاملة فأسا صغيرة. «يا يسوع ارحمنا.»
وفي ذلك الأسبوع أيضا فعلت شيئا بذيئا، فقد طلبت من الرب أن يثبت لي وجوده عن طريق إجابة دعاء، وكان الدعاء يتعلق بما يدعى مادة «الاقتصاد المنزلي» التي كانت مقررة علينا في المدرسة مرة واحدة أسبوعيا عصر يوم الخميس. في تلك المادة كنا نتعلم الحياكة والكروشيه والتطريز وتشغيل ماكينة الخياطة، وكان كل ما نقوم به لا يحتمل أكثر من تلك الأخيرة؛ فقد كانت يداي تصبحان لزجتين من العرق، وتبدو غرفة الاقتصاد المنزلي نفسها، بماكينات الخياطة الثلاث العتيقة وطاولات القص والتماثيل المكسرة، كما لو كانت حلبة تعذيب، وقد كانت كذلك بالفعل. كانت السيدة فوربس المعلمة امرأة قصيرة بدينة تضع مساحيق التجميل على وجهها بطريقة تجعلها تبدو مثل دمية من السليوليد، وكانت مرحة مع معظم الفتيات، ولكن غبائي ويدي الغليظتين الخرقاوين، اللتين تتسببان في تجعد المنديل القذر الذي كان يفترض بي أن أحيك أطرافه، أو أعمال الكروشيه البائسة؛ كانت تجعلها تستشيط غضبا. «انظرن إلى العمل القذر! هذا العمل القذر! لقد سمعت عنك، أنت تظنين أنك بارعة فيما يتعلق بالذاكرة (كنت مشهورة بحفظ القصائد بسرعة) ولكنك الآن تقومين بعمل غرز تخجل منها أي طفلة في السادسة من عمرها!»
والآن كانت تحاول تعليمي وضع الخيط في ماكينة الخياطة ، ولكنني لم أستطع أن أتعلمه. كنا نصنع المآزر المطرزة بقماش على شكل أزهار الخزامى، وكانت بعض الفتيات تنتهين من أزهار التيوليب أو تقمن بحياكة الحواف بينما لا أكون قد انتهيت من حياكة الحزام بعد؛ لأنني لم أستطع وضع الخيط في ماكينة الخياطة، وقالت السيدة فوربس إنها لن تريني كيف أقوم بذلك مرة أخرى. على أية حال، لم تكن محاولتها أن تريني ذلك ذات جدوى من الأساس؛ فيداها السريعتان أمامي بالإضافة إلى نظرات الاحتقار التي كانت ترمقني بها كانت تصيبني بالذهول والعمى والشلل.
ومن ثم، فقد دعوت: «أرجوك لا تجعلني أضع الخيط في آلة الخياطة عصر يوم الخميس.» وكررتها عدة مرات في ذهني، بسرعة وجدية وبدون مشاعر كما لو كنت أجرب تعويذة، ولم أستخدم أي صيغة تضرع أو مساومة خاصة. لم أكن أطلب أي شيء استثنائي كأن يشب حريق في غرفة الاقتصاد المنزلي، أو أن تنزلق السيدة فوربس في الطريق وتكسر ساقها، لا شيء سوى تدخل بسيط غير محدد.
ولكن لم يحدث شيء، فلم تنسني المعلمة، وأرسلتني في بداية الحصة إلى ماكينة الخياطة، فجلست هناك محاولة اكتشاف أين أضع الخيط، لم يكن لدي أي أمل في وضعه في المكان الصحيح، ولكن كان علي أن أضعه في أي مكان كي أثبت لها أنني أحاول، فأتت ووقفت خلفي وهي تتنفس باشمئزاز، وكالعادة بدأت ساقي ترتعد وتهتز بشدة حتى إنني حركت الدواسة وبدأت الآلة تعمل ببطء بلا خيط فيها.
فقالت السيدة فوربس: «حسنا، يا ديل.» فوجئت بصوتها الذي لم يكن يوحي بالطيبة بالطبع، ولكنه لم يكن غاضبا، بل كان سئما فحسب. «لقد قلت حسنا، يمكنك النهوض.»
وأمسكت بقطع المئزر التي قمت بحياكتها على نحو يائس، وجعدتها في بعضها وألقت بها في صندوق القمامة.
ثم قالت: «لا يمكنك أن تتعلمي الحياكة كما لا يمكن لشخص غير قادر على تمييز الفرق بين النغمات الصوتية أن يتعلم الغناء. لقد حاولت وفشلت. تعالي معي.»
أعطتني مقشة قائلة: «إذا كنت تعرفين كيف تكنسين الأرض، فأريدك أن تنظفي هذه الغرفة وأن تلقي بالفضلات في صندوق القمامة وتصبحي مسئولة عن المحافظة على نظافة الأرض. وعندما تفرغين من ذلك يمكنك الجلوس على المائدة هنا في الخلف وحفظ الشعر أو أي كان.»
خارت قواي من الارتياح والسعادة، رغم الشعور بالخزي العلني الذي كنت معتادة عليه. كنست الأرض بعناية، ثم تناولت الكتاب الذي اقترضته من المكتبة، الذي يتحدث عن الملكة ماري ملكة اسكتلندا، وأخذت أقرؤه وأنا أشعر بالخزي، ولكنني متحررة من العبء، أجلس وحدي في آخر الغرفة. ظننت في بادئ الأمر أن ما حدث معجزة واضحة وإجابة لدعائي، ولكنني حاليا بدأت أتساءل ماذا لو لم أكن قد دعوت بذلك؟ ماذا لو أن هذا كان سيحدث في كل الأحوال؟ لم يكن لدي وسيلة أعرف بها، فلم يكن ثمة عنصر تحكم في التجربة التي أجريها. وبمرور الدقائق أصبحت أكثر بخلا في مشاعري وأكثر نكرانا للجميل. فكيف لي أن أتأكد؟ كما أنه أيضا شيء تافه وغير ذي أهمية أن يشغل الرب نفسه بطلب تافه كهذا بتلك السرعة؟ فبدا كما لو أنه يستعرض قواه، ولكني أريده أن يتصرف بطريقة أكثر غموضا.
أردت أن أخبر أحدا، ولكنني لم أستطع إخبار ناعومي، فقد سألتها من قبل عما إذا كانت تؤمن بوجود الرب، فأجابتني على الفور بازدراء: «بالطبع أؤمن بوجوده، فلست مثل أمك. أتظنين أنني أريد دخول النار؟» فلم أناقش معها الأمر مرة أخرى قط.
اخترت أن أخبر شقيقي أوين. كان يصغرني بثلاثة أعوام، وفي إحدى الفترات كان سريع التأثر وشديد الثقة. وعندما كنا نخرج إلى المزرعة، كان لدينا مأوى من الألواح القديمة حيث كنا نلعب معا ونمثل أننا في منزل، فكان يجلس على طرف اللوح بينما أقدم له ثمار شجرة السمن وأخبره بأنها رقائق الذرة، فيتناولها كلها، وبينما كان يتناولها خطر لي أنها قد تكون سامة، ولكنني لم أخبره حفاظا على هيبتي أمامه ومراعاة لأهمية اللعبة، ولاحقا قررت بحكمة ألا أخبر أحدا. والآن تعلم أوين التزلج وكان يذهب إلى تدريبات الهوكي وينحني على الدرابزين ويبصق على رأسي، كان يتصرف مثل الصبية.
ولكنه من بعض الزوايا كان لا يزال يبدو ضعيفا وصغيرا، وكانت أنشطته واهتماماته تبدو لي غير مريحة وبلا جدوى. فكان يشترك في منافسات، وهي الطبيعة التي ورثها عن أمي المتمثلة في استعدادها غير المحدود لقبول تحديات العالم الخارجي. وكان يؤمن بالجوائز مثل المناظير التي يرى من خلالها الفوهات على سطح القمر، وأدوات السحرة التي يمكنه أن يخفي بها الأشياء، وأدوات الكيمياء التي تمكنه من صنع المتفجرات. لعله كان سيصبح كيميائيا لو كان يفهم في تلك الأمور. مع ذلك، لم يكن أوين متدينا.
عندما ذهبت إليه كان جالسا على الأرض في غرفته يقص أشكالا دقيقة من الورق المقوى على شكل لاعبي الهوكي، والتي كان يرتبها في فرق ويلعب بهم، وكان يمارس تلك الألعاب التي يلعب فيها دور المسيطر الأول على مجريات الأمور باستغراق شديد. وبدا لي عندئذ كما لو كان يسكن عالما بعيدا عن عالمي (الحقيقي)، عالما غير ذي صلة بعالمنا، عالما واهيا في خداعه بصورة مفجعة.
جلست على الفراش وراءه. «أوين.»
لم يجبني، فعندما كان يمارس ألعابه لم يكن يرغب في وجود أي شخص حوله. «ماذا تظن أنه يحدث للإنسان بعد الموت؟»
فقال أوين متمردا: «لا أعرف.» «هل تؤمن بأن الرب يحتفظ بروحك حية؟ هل تعرف ما هي الروح؟ هل تؤمن بالرب؟»
فاستدار أوين نحوي وفي عينيه نظرة من وقع في الشرك. لم يكن لديه ما يخفيه ولا ما يظهره سوى لامبالاته الساذجة النابعة من القلب.
فقلت له: «من الأفضل أن تؤمن بالرب، استمع إلي جيدا.» وأخبرته بأمر دعائي ومادة الاقتصاد المنزلي، فاستمع إلي حزينا. لم أجد ضالتي لديه، وشعرت بالغضب لهذا الاكتشاف. بدا حائرا لا يجد ما يدافع به ولكنه طيع ككرة مطاطية صلبة. كان يستمع إلي إذا ألححت، ويوافقني الرأي إذا ما أصررت، ولكن في قرارة نفسه، لم يكن يوليني أي اهتمام. هذا غباء.
وهكذا، كنت أحاصره كثيرا بهذه الطريقة، كلما نجحت في الانفراد به، وكنت أؤكد عليه: «لا تخبر أمي.» فقد كان هو كل ما لدي كي أختبر إيماني عليه؛ إذ كان علي أن أعثر على شخص ما، ولكنني لم أحتمل عدم اهتمامه في قرارة نفسه، والرضا الذي يشعر به في عالم بلا إله، وظللت أكرر محاولاتي في هذا الجانب. كما كنت أشعر أيضا أنه نظرا لأنه أصغر مني وظل تحت سيطرتي لفترة طويلة، فإن عليه التزاما بأن يتبعني، وعدم اعترافه بذلك كان يمثل علامة على التمرد.
وفي غرفتي، كنت أغلق الباب، وأقرأ في كتاب الصلوات العامة.
وأحيانا وأنا أسير في الشارع كنت أغلق عيني (بنفس الطريقة التي اعتدنا بها أنا وأوين ممارسة لعبة الأعمى) وأقول لنفسي وأنا أقطب ما بين حاجبي وأدعو «يا رب، يا رب، يا رب»، ثم أتخيل لبضع ثوان متقلقلة سحابة كثيفة مشرقة تهبط على جوبيلي وتلتف حول رأسي، ولكن فتحت عيني فجأة وأنا أشعر بالقلق، فلا يمكنني أن أسمح لتلك الحالة بالسيطرة علي، أو أسمح لنفسي بالتعبير عنها بوضوح، كما خشيت أيضا أن أصطدم بشيء وأجعل من نفسي أضحوكة.
ثم جاءت الجمعة الحزينة، وكنت أستعد للخروج عندما جاءت أمي إلى البهو وسألتني: «لم ترتدين قلنسوتك؟»
لقد حان الوقت كي أتخذ موقفا، «إنني ذاهبة إلى الكنيسة.» «لا توجد كنيسة اليوم.» «إنني ذاهبة إلى الكنيسة الأنجليكانية، فهم يذهبون إلى الكنيسة في يوم الجمعة الحزينة.»
اضطرت أمي للجلوس على الدرج، ورمقتني بتلك النظرة المتفحصة الشاحبة الغاضبة، التي رمقتني بها قبل عام عندما وجدت رسما رسمته أنا وناعومي في كراستي لامرأة بدينة عارية، ذات ثديين منتفخين ومكمن ضخم من شعر العانة الأسود البارز. «هل تعرفين ما هي ذكرى الجمعة الحزينة؟»
فقلت باقتضاب: «الصلب.» «إنه يوم وفاة المسيح من أجل تكفير خطايانا، هذا ما يخبروننا به. هل تصدقين ذلك؟» «نعم.»
فقالت أمي وهي تهب واقفة على قدميها: «المسيح مات من أجل تكفير خطايانا.» وفي مرآة البهو حدقت بعدوانية في وجهها الشاحب وتابعت قائلة: «حسنا، حسنا. الافتداء بالدم. إنها فكرة لطيفة. ربما تصدقين أيضا الآزتك وهم ينتزعون القلوب الحية لأنهم يعتقدون أن الشمس لن تشرق وتغرب ما لم يفعلوا ذلك، والمسيحية ليست أفضل حالا. ما رأيك في إله يطلب الدماء؟ دماء، دماء، دماء. استمعي إلى ترانيمهم، إن هذا كل ما تدور حوله. ماذا عن إله لم يرض حتى علق شخص على صليب لمدة ست أو تسع ساعات، أيا كان؟ فلو كنت أنا ذلك الرب فلن أكون متعطشة للدماء هكذا، فالبشر الطبيعيون لا يتعطشون للدماء هكذا، باستثناء هتلر. ربما يصبحون كذلك يوما ما ولكن ليس الآن. هل تفهمين ما أقول؟ هل تدركين مقصدي؟»
فقلت بصراحة: «كلا.» «إن الرب من صنع الإنسان! وليس العكس! الإنسان هو من صنع الرب أثناء مرحلة من تطوره أكثر انحطاطا وأكثر تعطشا للدماء مما هو عليه الآن، نأمل في ذلك. لقد صنع الإنسان الرب على صورته، وقد ناقشت القساوسة في ذلك الأمر، وأنا على استعداد لمناقشته مع أي شخص، فلم أقابل من يجادل ضد هذا الافتراض ويقول كلاما منطقيا.» «أيمكنني الذهاب؟»
فقالت أمي: «أنا لا أمنعك من الذهاب.» رغم أنها قد تحركت كي تسد الباب بالفعل. «اذهبي واحصلي على كفايتك، وسوف ترين أنني على حق. ربما كنت تشبهين أمي.» وحدقت في وجهي بحثا عن آثار للتعصب الديني، وتابعت قائلة: «لو كنت كذلك، فأعتقد أن الأمر خارج عن سيطرتي.»
لم تثبط مجادلات أمي من عزيمتي، ليس كما لو كانت صدرت عن شخص آخر. ورغم ذلك، فبينما كنت أقطع طرقات المدينة، ظللت أبحث عن دليل على وجهة النظر المناقضة لوجهة نظرها، وشعرت ببعض الارتياح لأن المتاجر كانت مغلقة والستائر مسدلة على النوافذ، وهذا يثبت شيئا، أليس كذلك؟ فإذا قرعت أبواب كل المنازل في طريقي وسألتهم: «هل توفي المسيح من أجل تكفير خطايانا؟» فلا شك أن الإجابة الممزوجة بالدهشة والارتباك سوف تكون بالإيجاب.
أدركت أنني لا أهتم كثيرا بوفاة المسيح من أجل تكفير خطايانا، فكل ما كنت أريده هو الرب، ولكن إذا كانت فكرة وفاة المسيح تكفيرا لخطايانا هي الطريق إلى الرب فسوف أسلكه.
كان يوم الجمعة الحزينة يوما مشمسا لطيفا - بصورة غير مناسبة - تتساقط فيه الكتل الثلجية وتتفتت والأسطح يتصاعد منها البخار وجداول صغيرة من المياه في الشوارع، وكانت أشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ الزجاجية العادية للكنيسة. كنت قد تأخرت بسبب أمي، وكان القس قد وصل للمقدمة بالفعل، فتسللت حتى المقعد الخلفي ورمقتني السيدة شيريف ذات العمامة المخملية بنظرة خاوية تنم عن الغضب، وربما لم تكن غاضبة بل شديدة الاندهاش فحسب. بدا الأمر كما لو أنني قد جلست بجوار نسر على مجثمه.
ولكنني سررت لرؤيتها، رغم ذلك، شعرت بالسعادة لرؤيتهم جميعا؛ الأشخاص الستة أو الثمانية أو العشرة الحقيقيين، الذين ارتدوا قبعاتهم وغادروا منازلهم وساروا في الشوارع عابرين جداول الثلج الذائب كي يحضروا إلى هنا. إنهم لن يفعلوا ذلك بلا سبب.
كنت أرغب في أن أجد مؤمنا، مؤمنا حقيقيا يزيل شكوكي. كنت أرغب في مشاهدة ذلك المؤمن وأن أستمد منه الراحة والتشجيع، لا أن أتحدث معه. في بادئ الأمر، ظننت أن ذلك الشخص قد يكون السيدة شيريف، ولكنها لا تصلح، فاختلالها العقلي يفقدها الأهلية لهذه المهمة، وعلى المؤمن الذي أقصده أن يكون عاقلا بصورة واضحة. «اللهم أسرع إلى معونتنا، خلصنا من أجل اسمك.» «اللهم أسرع إلى معونتنا وخلصنا من أجل شرفك.»
هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
جلست أفكر في معاناة المسيح، فضممت قبضتي بقوة بحيث أتمكن من الضغط بظفر واحد بكل ما أوتيت من قوة في راحة اليد الأخرى، وظللت أضغط يدي وألفها، ولكنني لم أستطع أن أسيل دمائي، فشعرت بالخجل، وأنا أدرك أن هذا لا يجعلني مشاركة في تحمل المعاناة. لو كان الرب يتمتع بأي قدر من التمييز، كان سيحتقر تلك الحماقة (ولكن هل كان لديه بالفعل؟ انظروا إلى ما ارتكبه القديسون وحصلوا على الموافقة عليه) وسيعلم ما أفكر به وأحاول التغلب عليه في ذهني، وهو: «هل كانت معاناة المسيح بهذا السوء حقا؟»
هل كانت بهذا السوء، وأنت تعلم وهو يعلم والجميع يعلمون بأنه سوف ينهض سليما متألقا خالدا ويجلس على يمين الرب الأب القدير من حيث يأتي كي يحاكم الأحياء والأموات؟ فالكثير من الناس - ربما ليس كلهم أو حتى معظمهم ولكن عددا ليس بالقليل - قد يعرضون أجسادهم لتحمل آلام مماثلة إذا كانوا واثقين من أنهم سيصلون إلى ما وصل إليه بعد ذلك، بل وقد فعل الكثيرون ذلك بالفعل وهم القديسون والشهداء.
حسنا، ولكن ثمة فارق. فهو الرب، وهذا تدني أو خنوع بالنسبة له. هل كان هو الرب في تلك اللحظة أم ابن الرب الأرضي فحسب؟ لم أتمكن من فهم تلك النقطة بوضوح. هل كان يفهم كيف يحدث كل شيء عمدا ويفهم أن كل شيء سيصبح على ما يرام في نهاية الأمر، أم أن صفاته الإلهية قد توقفت مؤقتا بحيث لم ير سوى هذا الانهيار؟ «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟»
وبعد المزمور الطويل الذي يضم نبوءات عن تقاسم الثياب والاقتراع، صعد القس إلى المنبر وقال إنه سيلقي موعظة قصيرة حول آخر كلمات المسيح على الصليب، نفس الأمر الذي كنت أفكر به، ولكن اتضح أن كلماته الأخيرة كانت تزيد عن تلك التي أعرفها. بدأ بكلمة «أنا عطشان» التي توضح - كما يقول - أن المسيح كان يعاني جسديا كما كنا سنعاني في نفس الموقف بالضبط وليس أقل من ذلك، وأنه لم يخجل من الاعتراف بذلك وطلب المساعدة، وأعطى الجنود المساكين فرصة للحصول على الرحمة بفضل قطعة الإسفنج المغموسة في الخل. «يا امرأة هوذا ابنك!» و«هوذا أمك!» توضح تلك الكلمة أن آخر أفكاره كانت في الآخرين، إذ كان يجري ترتيباته لهم كي يجدوا العزاء بعضهم في بعض بعد رحيله (رغم أنه لم يرحل بالفعل)، وحتى في لحظة احتضاره وآلامه، لم ينس العلاقات الإنسانية ومدى جمالها وأهميتها. «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.» توضح تلك الكلمة بالطبع اهتمامه المستمر بالعاصي المذنب الذي يلفظه المجتمع ويعلقه على الصليب. «يا الله، الذي لا يرفض صنعة يديه ... الذي لا يشاء موت الخاطي مثل ما يرجع ويحيا ...»
ولكن لماذا؟ لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في هذا الأمر رغم أنني أعلم أنه لن يجلب لي السعادة، لماذا يكره الرب أي شيء من صنيعه ؟ وإذا كان سيكرهه فلم صنعه من البداية؟ وإذا كان قد صنع كل شيء كما أراد، فلا يسعنا إلقاء اللوم على أي شيء لما هو عليه، مما يستبعد فكرة الخطيئة تقريبا، أليس كذلك؟ إذن فلم كان على المسيح أن يموت تكفيرا لذنوبنا؟ لقد كان تأثير الموعظة علي تأثيرا سلبيا، فقد أصابتني بالحيرة وحب الجدال، بل إنها جعلتني أشعر بنفور من المسيح نفسه - رغم أنني لم أستطع الاعتراف بذلك - بسبب الطريقة التي يشار بها دائما إلى مثاليته. «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» قال القس: إن المسيح قد فقد الاتصال مع الرب للحظة قصيرة، نعم حدث ذلك بالفعل، حتى له هو. لقد فقد الاتصال، وفي الظلام صاح يائسا، ولكن ذلك كان جزءا من الخطة أيضا، وكان ضروريا كي نعلم أنه في أحلك لحظات حياتنا فإن شكوكنا وتعاستنا قد شاركنا فيها المسيح نفسه، وعندما نعلم ذلك فسوف تمر شكوكنا سريعا.
ولكن لماذا؟ لماذا يجب أن تمر سريعا؟ فلنفترض أن تلك كانت صيحة المسيح الحقيقية الأخيرة، آخر شيء حقيقي سمعه الناس منه. علينا أن نفترض ذلك على الأقل، أليس كذلك؟ علينا أن نضعه في اعتبارنا، افترض أنه صاح تلك الصيحة ثم مات ولم يقم مرة أخرى، ولم يكتشف قط أن كل ذلك جزء من الدراما الإلهية الصعبة. كان ثمة معاناة. نعم، تخيل أنه يدرك فجأة أن «الأمر ليس حقيقيا، لا شيء من ذلك كان حقيقيا.» إن ألم اليدين والقدمين الممزقة لا يعد شيئا بالمقارنة بذلك؛ لا يعد شيئا مقارنة بالنظر عبر شقوق العالم، بعد أن قطع كل ذلك الطريق وقال ما قال، ثم ماذا يرى؟ لا شيء. أخذت أصيح في داخلي للقس: تحدث عن هذا الأمر! أرجوك فلتتحدث عن هذا الأمر، اطرح تلك النظرية صراحة، ثم فندها.
ولكننا نفعل ما بوسعنا فعله، ولم يستطع القس القيام بما هو أكثر من ذلك.
قابلت السيدة شيريف في الطريق بعد مرور بضعة أيام، وكنت وحدي تلك المرة. «إنني أعرفك. ماذا تفعلين طوال الوقت في الكنيسة الأنجليكانية؟ ظننت أنك تتبعين الكنيسة المتحدة.» •••
عندما ذاب معظم الجليد وانحسر النهر، كنا نذهب أنا وأوين إلى طريق فلاتس إلى المزرعة كل على حدة في أيام السبت. وأصبح المنزل الذي كان يسكنه العم بيني طوال الشتاء ويسكنه أبي معظم الوقت - فيما عدا عطلات نهاية الأسبوع التي كان يقضيها معنا - أصبح قذرا حتى إنه لم يعد منزلا على الإطلاق، بل أصبح امتدادا للطريق في الخارج لكنه مسقوف. وضاعت رسمة مشمع المطبخ وشكلت الأوساخ التي تراكمت عليه رسمة أخرى. قال لي العم بيني: «والآن ها هي فتاة التنظيف، ما نحتاجه بالضبط.» ولكنني لم أعتقد ذلك. كان المكان بأسره تفوح منه رائحة الثعالب، ولن توقد نار في الموقد حتى المساء وظل الباب مفتوحا. وبالخارج كانت الغربان تنعق فوق الحقول الموحلة، والنهر مرتفع يميل إلى اللون الفضي، وشكل الأفق هو بالضبط كما نتذكره ثم ننساه ثم نتذكره مرة أخرى، وكأنه سحر. كانت الثعالب تعوي في عصبية؛ لأنه كان ذلك الوقت من العام الذي تضع فيه الإناث صغارها، ولم أكن أنا وأوين مسموحا لنا بالذهاب عند الحظائر.
كان أوين يتأرجح على الحبل المعلق أسفل شجرة الدردار حيث كانت أرجوحتنا في العام الماضي. «ميجور قتل أحد الخراف!»
كان ميجور كلبنا، ولكنه الآن أصبح يعد كلب أوين رغم أنه لا يولي أوين أي اهتمام خاص، ولكن أوين كان يوليه اهتماما خاصا. كان كلبا بنيا ذهبيا كبيرا هجينا من فصيلة كولي، وقد كان شديد الكسل الصيف الماضي حتى إنه لم يطارد السيارات، ولكنه كان يغفو في الظل، وسواء أكان مستيقظا أم نائما كان يبدو عليه وقار متمهل كأعضاء مجلس الشيوخ، والآن أصبح يطارد الخراف، لقد تعلم الإجرام في كبره كما قد يتعلم أحد أعضاء مجلس الشيوخ القدامى المتفاخرين الحريصين طوال حياتهم السابقة ارتكاب الرذائل علنا في كبره. عدت أنا وأوين كي نلقي نظرة عليه، وظل أوين يخبرني في الطريق أن الخروف كان ملك آل بوتر الذين كانت أرضهم تجاور أرضنا، وأن أبناء آل بوتر قد رأوا ميجور من شاحنتهم، فتوقفوا وقفزوا من فوق السور وهم يصرخون، ولكن ميجور كان قد فصل هذا الخروف عن الآخرين وظل يتتبعه حتى قتله. «قتله»، تخيلته غارقا في الدماء ممزقا. لم يصطد ميجور أو يقتل أي شيء في حياته من قبل، فتساءلت بحيرة واشمئزاز: «هل أراد أن يأكل؟» واضطر أوين لأن يوضح لي أن عملية القتل كانت حادثة عارضة نوعا ما؛ فيبدو أن الخراف يمكن أن تموت من الركض، أو تموت من الخوف، فهي كائنات ضعيفة بدينة مذعورة، وربما يكون ميجور قد قفز على ذلك الخروف وأصابه بالذعر من باب الحفاظ على شكله ليس أكثر - رغم أن ميجور قد أخذ تذكارا ملء فمه من الصوف الدافئ - ثم كان عليه أن ينطلق عائدا بسرعة البرق إلى المنزل (هذا إذا كان بإمكانه أن يندفع بسرعة البرق) لأن آل بوتر كانوا قادمين.
قيد ميجور في الحظيرة وترك الباب مفتوحا كي يمنحه بعض الضوء والهواء، وقفز أوين منفرج الساقين على ظهره كي يوقظه - وكان ميجور يستيقظ دائما بسرعة وجدية بلا أي ضوضاء، حتى إنه كان يصعب علينا التأكد مما إذا كان نائما بالفعل أم أنه يتظاهر بذلك - وأخذ يتقلب معه على الأرض محاولا أن يحثه على اللعب معه. قال أوين وهو يلكزه متفاخرا: «يا قاتل الخراف العجوز، يا قاتل الخراف العجوز.» وتحمل ميجور ذلك، ولكنه لم يكن مازحا أكثر من المعتاد، ولم يبد أنه قد استعاد شبابه بأي طريقة، إلا بتلك الطريقة التي أصابتنا بالصدمة، فلعق ميجور أعلى رأس أوين بطريقة متعالية، وعاد للنوم مرة أخرى بعد أن تركه أوين. «يجب أن يقيد حتى لا يطارد الخراف مرة أخرى، قاتل الخراف العجوز هذا. ويقول آل بوتر إنهم سوف يطلقون عليه الرصاص إذا أمسكوا به مرة أخرى.»
كان ذلك حقيقيا. كان ميجور بالفعل محط الأنظار، وأتى أبي وعمي بيني كي يلقوا عليه نظرة في كبريائه وبراءته المصطنعة وهو يرقد على أرض الحظيرة، ورأى العم بيني أن مصير ميجور الهلاك، فمن وجهة نظره لا أمل في أن ينجح كلب اكتسب عادة مطاردة الخراف في التغلب على تلك العادة. قال العم بيني وهو يداعب رأس ميجور: «عندما يكتسب هذا الميل ويذوق طعم هذه التجربة، فإنه يستمر هكذا للأبد، لا يمكنكم أن تدعوا قاتل الخراف يعيش.»
فصحت قائلة: «أتعني أن نطلق عليه الرصاص؟» ولم تكن تلك الصيحة مدفوعة في الواقع بحبي لميجور، ولكن لأنها بدت نهاية قاسية لما اعتبره الجميع قصة فكاهية، بدا الأمر كاقتياد عضو مجلس الشيوخ ذي الشعر الأبيض إلى الإعدام في ميدان عام عقابا على مقالبه المحرجة. «لا يمكن الاحتفاظ بقاتل خراف، فسوف يتسبب في إفلاسكم بسبب سداد ثمن كل الخراف التي قتلها، وعلى أية حال فسوف يقوم غيركم بذلك ما لم تفعلوه أنتم.»
فقال أبي - بعد أن رجوناه - إنه ربما لا يعاود ميجور مطاردة الخراف، كما أنه مقيد على أية حال، وقد يبقى مقيدا طوال حياته إذا لزم الأمر، أو على الأقل حتى يجتاز مرحلة طفولته الثانية ويصبح أضعف من أن يطارد أي شيء، وهي المرحلة التي لا تبدو بعيدة الآن.
ولكن أبي كان مخطئا، أما العم بيني بتشاؤمه العابس وتوقعاته الكئيبة، فكان على صواب؛ فقد هرب ميجور من الأسر في الصباح الباكر، وكان باب الحظيرة مغلقا، ولكنه مزق جزءا من شبكة الأسلاك التي تغطي نافذة ليس بها زجاج وقفز خارجا منها، ثم انطلق إلى منزل آل بوتر كي يأخذ حظه من المتعة التي اكتشفها مؤخرا، وعاد للمنزل بحلول موعد الإفطار، غير أن الحبل الممزق والنافذة التي قطعت أسلاكها والخروف الميت في مرعى آل بوتر؛ كل ذلك روى القصة التي لم يرها أحد.
في ذلك الوقت، كنا نتناول الإفطار بعد أن قضى أبي الليلة في المدينة، فاتصل به العم بيني بالهاتف وأخبره بالأمر، وعندما عاد أبي إلى المائدة قال: «أوين، علينا أن نتخلص من ميجور.»
أخذ أوين يرتجف ولكنه لم يتفوه بكلمة، وفي كلمات قليلة أخبرنا أبي بأمر الهروب والخروف الميت.
فقالت أمي بتعاطف كاذب: «إنه كلب عجوز وقد حظي بحياة طيبة، ومن يدري ماذا قد يحدث له الآن على أية حال، مع أمراض الشيخوخة ومتاعبها؟»
فقال أوين واهنا: «يمكنه أن يأتي ليقيم معنا، وهنا لن يعرف مكان الخراف.» «كلب كهذا لا يمكنه العيش في المدينة، ولا ضمانات لأن لا يعاود الكرة مرة أخرى.»
فقالت أمي موبخة: «فكر فيه وهو مقيد في المدينة يا أوين.»
فنهض أوين وغادر المائدة دون أن يتفوه بكلمة أخرى، ولم تناده أمي مرة أخرى كي تجعله يستأذن قبل الانصراف.
كنت معتادة على أمر القتل هذا؛ فالعم بيني كان يذهب لصيد فئران المسك وإيقاعها في الشراك، وكل خريف كان أبي يقتل الثعالب ويبيع فراءها للمعيشة، وخلال العام كان يقتل الجياد الكبيرة السن المعاقة أو تلك العديمة الفائدة كي يطعمها للثعالب. كنت قد رأيت حلمين سيئين بشأن ذلك منذ فترة وما زلت أذكرهما. حلمت ذات مرة بأنني ذهبت إلى المجزر الخاص بأبي، وهو كوخ مستتر خلف الحظيرة يحتفظ فيه في الصيف بأجزاء من الجياد المذبوحة والمسلوخة معلقة على خطاطيف. وكان هذا المكان يقع في ظل شجرة تفاح بري، وكانت الستائر مغطاة باللون الأسود من كثرة الذباب. حلمت بأنني نظرت للداخل ووجدت - وهو ما لم يكن مفاجأة - أن ما كان يعلقه أبي هناك أجساد بشرية مسلوخة ومقطعة. أما الحلم الآخر فكان مستوحى من التاريخ الإنجليزي الذي كنت أقرأ عنه في الموسوعة. حلمت بأن أبي قد وضع كتلة خشب عادية متواضعة على الحشائش التي تقع خارج باب المطبخ، وأوقفنا في صف واحد أنا وأوين وأمي كي يقطع رءوسنا، وقال: «إنه لن يؤلم.» كما لو كان ذلك هو كل ما نخشاه! واستطرد: «سوف ينتهي الأمر في دقيقة.» كان أبي طيبا هادئا عاقلا يجيد الإقناع، وأخذ يوضح لي أن كل ذلك لصالحنا جميعا. ظلت أفكار الهروب تتصارع في ذهني كذباب وقع في الزيت وأجنحته مفرودة عاجزة عن فعل أي شيء. شعرت بأني فقدت القدرة على الحركة أمام تلك العقلانية، فالترتيبات بسيطة ومألوفة ومسلم بها، إنه الوجه الآخر المطمئن للجنون.
أثناء النهار، لم أكن أشعر بالخوف كما يوحي هذان الحلمان، ولم يزعجني قط المرور بالمجزر أو سماع صوت إطلاق الرصاص من البندقية. ولكنني عندما فكرت في إطلاق الرصاص على ميجور، عندما تصورت أبي وهو يلقم البندقية على مهل بطريقته المعتادة كما يفعل دائما وينادي ميجور الذي لن يشك في أي شيء؛ إذ إنه معتاد على رؤية الرجال ببنادقهم، ويسيران بعيدا عن الحظيرة بينما يبحث أبي عن بقعة جيدة، رأيت مرة أخرى ملامح ذلك الوجه العقلاني التجديفي. كان ذلك التعمد هو ما فكرت فيه طويلا؛ الاختيار المتعمد لإطلاق رصاصة على المخ كي توقف أجهزة الجسم عن العمل، ففي ذلك الاختيار والتصرف - مهما كان ضروريا وعاقلا - كانت الموافقة على أي شيء. أصبح الموت محتملا، لا لأننا لا نستطيع منعه ولكن لأنه هو الشيء المرغوب، الشيء الذي «يريده» كل هؤلاء الكبار والمديرين والجلادين ذوي الوجوه الطيبة لكنها لا تعرف الصفح.
وهل أردته أنا؟ لم أكن أريده أن يحدث، لم أكن أرغب في أن يردى ميجور قتيلا برصاصة، ولكن كانت تجتاحني مشاعر انفعال متوتر وندم. هل كان مشهد الإعدام الذي تخيلته، والذي أعطاني تلك اللمحة من الظلام، بغيضا إلى هذا الحد؟ كلا، فقد فكرت مليا في ثقة ميجور بأبي وعاطفته تجاهه - فقد كان يحب أبي حقا بطريقته الهادئة بالقدر الذي يمكنه أن يحب به أي شخص - وعينيه المرحتين ذاتي القدرة الضعيفة على الرؤية. ثم صعدت إلى الطابق العلوي كي أرى كيف يتقبل أوين الأمر.
كان أوين يجلس على أرض الغرفة يلهو ببعض الكور الصغيرة المطاطية، ولم يكن يبكي. كان لدي آمال غامضة في إقناعه بإحداث بعض المشاكل، لا لأنني أعتقد أن هذا الأمر سيجدي، ولكن لأنني شعرت أن الموقف بحاجة لذلك.
سألني أوين بصوت فيه إلحاح: «لو أنك دعوت لميجور ألا يطلق عليه الرصاص، فهل سينجو؟»
لم تخطر ببالي فكرة الدعاء قط. «لقد دعوت ألا تضطري لوضع الخيط في ماكينة الخياطة واستجيب دعاؤك.»
فرأيت بفزع الصدام الحتمي قادما؛ الصدام بين الدين والحياة.
نهض أوين من مكانه ووقف أمامي وقال متوترا: «ادعي. كيف تقومين بذلك؟ ابدئي الآن!»
فقلت : «لا يمكنك الدعاء بشيء كهذا.» «ولم لا؟»
لم لا؟ كان بوسعي أن أقول له إننا لا ندعو أن تحدث أشياء بعينها أو لا تحدث، بل كي نحصل على القوة والصبر كي نتحمل ما يحدث بالفعل. وهو مخرج جيد تفوح منه رائحة الهزيمة على نحو مخز، ولكنني لم أفكر في ذلك، بل خطر لي - وكنت أدرك - أن الدعاء لن يمنع أبي من الخروج وإحضار بندقيته والنداء على ميجور كي يقتله، لن يغير الدعاء شيئا من ذلك.
لن يغير الرب هذا، فإذا كان الرب إلى جانب الخير والرحمة والشفقة، فلم جعل تلك الأشياء صعبة المنال بهذا الشكل؟ دعك من القول بأن ذلك يجعلها «تستحق العناء»، دعك من هذا الهراء. فالدعاء بألا تتم عملية إعدام غير ذي جدوى؛ وذلك لأن الرب ليس مهتما بتلك الاعتراضات، لم تكن تخصه. «أيمكن أن يكون ثمة إله لا تحتويه شبكة الكنائس على الإطلاق، وألا يكون التعامل معه عن طريق الأحجبة والصلبان؟ إله حقيقي موجود في العالم بالفعل، إله غريب وغير مقبول كالموت؟ أيمكن أن يكون ثمة إله مذهل ولا مبال أبعد من نطاق الإيمان؟»
قال أوين بإصرار: «كيف تقومين بذلك؟ هل عليك أن تنحني على ركبتيك؟» «لا يهم.»
ولكنه كان قد انحنى بالفعل وأطبق يديه بقوة في جانبيه، ودون أن يحني رأسه بذل جهدا شديدا وهو يطبق ملامح وجهه في محاولة للخشوع.
فقلت بحدة: «انهض يا أوين! لن يفيد ذلك، لن يفلح الأمر، لن يفلح. انهض يا أوين وكن ولدا مطيعا يا عزيزي.»
فلوح إلي بقبضتيه المضمومتين وكأنه سيضربني، دون حتى أن يفتح عينيه. وبينما كان يدعو، مر وجهه بمراحل عديدة مستميتة؛ من التقطيب، ولي قسمات الوجه التي بدا لي كل منها تعبيرا ازدرائيا، ووضعا يصعب النظر إليه كالجلد المسلوخ، فرؤية شخص لديه إيمان عن قرب ليست أيسر من رؤية شخص يقطع إصبعه.
هل مر المبشرون قط بمثل هذه اللحظات؛ لحظات الدهشة والخزي؟
تغيرات واحتفالات
كانت مشاعر الكراهية لدى الصبية أمرا خطيرا، قويا وصارخا، حقا طبيعيا خارقا مثل سيف آرثر الذي انتزع من الحجر كما في القصة المذكورة بكتاب الصف السابع. أما مشاعر الكراهية لدى البنات فهي مشاعر مضطربة مليئة بالدموع ذات نزعة دفاعية تغلب عليها المرارة. فكان الأولاد لا يترددون في الاندفاع نحوك بأسلوب تهديدي وهم على متن دراجاتهم، ويشقون الهواء في المكان الذي تقفين فيه بقوة دون تورع، كما لو أنهم يتمنون وجود سكاكين في عجلات الدراجات، وقد يتلفظون بأي شيء.
قد يقولون: «مرحبا أيتها الساقطات.»
أو يقولون: «هاي، أين فروجكن؟» بنبرة صاخبة مزدرية.
فكان ما يقولونه ينزع عنك حقك وحريتك في أن تكوني ما تريدين ويختزلك إلى ما يرونه هم، وكان ذلك كفيلا بوضوح لإثارة ضحكاتهم. ولما كان كبريائي وكبرياء صديقتي ناعومي لا يسمح لنا بعبور الشارع إلى الجهة الأخرى من الطريق حتى نتجنبهم، فقد قالت إحدانا للأخرى: «تظاهري بأنك لا تسمعينهم.» وأحيانا كنا نرد عليهم: «اذهبوا واغسلوا أفواهكم في حوض البقر، فأنتم لا تستحقون استخدام الماء النظيف.»
بعد المدرسة لم أكن أنا وناعومي نريد العودة إلى المنزل؛ لذا أخذنا نطالع إعلانات الفيلم المعروض في مسرح الليسيوم وصور العرائس في واجهة عرض استوديو التصوير، ثم ذهبنا إلى المكتبة والتي كانت عبارة عن حجرة في دار البلدية. وعلى اللوح الزجاجي لأحد جانبي الباب الرئيسي لمبنى دار البلدية كتبت بضعة أحرف «حم م الس دات»، وعلى الجانب الآخر «حجرة الق اءة العا ة»، ولم تستكمل الأحرف الناقصة قط، وتعلم الجميع قراءة اللافتات بدونها.
وبجانب الباب كان ثمة حبل يتدلى من الجرس تحت القبة، وإلى جواره لافتة تحول لونها إلى البني مكتوب عليها: «غرامة 100 دولار عقوبة إساءة الاستخدام.» وكانت زوجات الفلاحين تظهرن من الألواح الزجاجية لدورات مياه السيدات، جالسات متلفعات بأوشحتهن ومنتعلات أحذية الكلوش المطاطية في انتظار أن يأتي أزواجهن لاصطحابهن. نادرا ما يكون بالمكتبة أحد سوى أمينة المكتبة بيلا فيبين، وهي امرأة صماء كالحجر، وتعاني من عرج في إحدى رجليها جراء إصابتها بشلل الأطفال، وقد سمح لها مجلس المدينة أن تتولى تلك الوظيفة؛ لأنها لن تتمكن قط من أن تنال وظيفة لائقة. وكانت تقضي جل وقتها فيما يشبه معتزلا أعدته لنفسها خلف مكتبها، وبه وسائد وبساط ملون وعلب بسكويت وسخان كهربائي وإبريق شاي وكتل من أشرطة بديعة الشكل. وكانت هوايتها هي صنع وسائد الدبابيس، وكانت كل الوسائد التي تصنعها لها الشكل نفسه؛ فكلها دمى كوباي يزينها في الأعلى ذلك الشريط الذي يكون على شكل تنورة منفوشة تغطي الوسادة الفعلية، وكانت تهدي واحدة لكل فتاة تتزوج في مدينة جوبيلي.
وقد سألتها ذات مرة عن شيء ما فأخذت تزحف حول مكتبها، وراحت تعرج بشدة بين الرفوف، ثم عادت بكتاب وناولتني إياه قائلة بالصوت المرتفع الحاد الذي يميز الصم: «إنه كتاب جميل.»
كان كتاب «انتصار باربرا وورث.»
كانت المكتبة متخمة بمثل هذا النوع من الكتب؛ كتب قديمة مملة زرقاء وخضراء وبنية اللون ذات أغلفة أصبحت مهترئة ومهلهلة بعض الشيء. وكان غالبا ما يكون على أغلفتها صورة شاحبة بالألوان المائية لسيدة ترتدي ملابس تشبه ملابس الشخصيات التي يرسمها جاينزبورو، ويكتب تحتها كلمات على غرار: «السيدة دوروثي تسعى للعزلة في حديقة الورود كي تتفكر مليا في أهمية ذلك التواصل الغامض (ص112).»
مؤلفات جيفري فارنول، وماري كوريلي، ورواية «أمير بيت ديفيد»، كلهم أصدقاء قدامى ممتعون حزانى مهترئون. كنت قد قرأتها من قبل، لكنني لم أقرأها ثانية، أما الكتب الأخرى فكنت أعرفها من ظهرها، أعرف كل انحناءة في كل حرف في عناوينها، لكنني لم ألمسها أو أسحبها من رفها؛ روايات مثل «قس القرية لأربعين عاما»، «أملاك الملكة في الحرب والسلام»، كانوا مثل أناس تراهم في الشارع يوما بعد يوم، وعاما تلو الآخر، لكنك لا تعرف عنهم سوى وجوههم، وهذا يمكن أن يحدث حتى في جوبيلي.
كنت أشعر بسعادة غامرة في المكتبة؛ فهي مكان بنيت جدرانه من صفحات مطبوعة، دليل إلى عوالم كثيرة بديعة، وهو ما كان يمنحني إحساسا بالراحة. على النقيض من هذا كانت ناعومي؛ فكانت تشعر أن هذا العدد الهائل من الكتب يثقل كاهليها، ويجعلها تشعر بالقلق والشك. كانت في السابق تقرأ كتب ألغاز الفتيات، لكنها كبرت على هذه العادة. وقد كان هذا أمرا معتادا في جوبيلي؛ إذ كانت قراءة الكتب كمضغ العلك، عادة يجب التخلي عنها عندما تطغى على المرء سمات الجدية والاكتفاء التي تأتي مع مرحلة البلوغ، لكنها كانت تظل راسخة عند السيدات غير المتزوجات، غير أنها تعتبر عادة مخزية في حالة الرجال.
وهكذا كي تظل ناعومي صامتة بينما أتفحص أنا الكتب، كنت أحضر لها شيئا لتقرأه، شيئا لا تتصور هي أن يكون موجودا بين دفتي كتاب. جلست على السلم الصغير الذي لم تستخدمه بيلا فيبين قط، وأحضرت لها ثلاثية «كريستين لافرانسداتر» الضخمة خضراء الغلاف. وبحثت في صفحات الكتاب عن الجزء الذي يصف كريستين وهي تنجب طفلها الأول، ساعة بساعة، وصفحة بصفحة، ما شعرت به من آلام وما نزفته من دماء وهي تجلس القرفصاء على القش. شعرت ببعض الحزن وأنا أناولها الكتاب؛ كنت دائما أخون شخصا ما، لكنها بدت لي الطريقة الوحيدة كي أتدبر أموري. لم يكن هذا الكتاب مثيرا للاهتمام بالنسبة لي. كلا، فمتى كنت أود العيش في القرن الحادي عشر مثل كريستين، بل وألد طفلا على كومة من القش بفرض أني عشت في ذلك الوقت، ولا سيما متى كنت أريد حبيبا مثل إيرلوند ذاك الفارس الوحيد الكئيب المليء بالعيوب؟!
بعد أن انتهت ناعومي من قراءة الرواية أتتني سائلة: «هل اضطرت للزواج؟» «نعم.» «هذا ما ظننته؛ لأن الفتاة إذا ما اضطرت للزواج، فإنها إما تموت أثناء الولادة، أو تشرف على الموت، أو يولد الطفل بخطب ما مثل شفاه أرنبية أو قدم حنفاء أو قد يكون عيب ما في الرأس. لقد رأت أمي كل هذا.»
لم أجادلها في الأمر، ولكنني لم أصدقها كذلك؛ فوالدة ناعومي تعمل ممرضة ممارسة، وعلى حسب ما تقول - أو ما تنقله ناعومي عنها - سمعت أن الأطفال الذين يولدون بكيس الجنين يصيرون مجرمين عندما يكبرون؛ وأيضا أن هناك رجالا جامعوا نعاجا فكانت نتيجة الجماع كائنات ضئيلة هزيلة موبرة بوجوه بشر وأذناب نعاج لم تلبث أن ماتت وحفظت في زجاجات في مكان ما؛ وعن نساء مجنونات جرحن أنفسهن بطرائق فاحشة باستخدام شماعات المعاطف. كنت أصدق أو أنكر تلك الروايات وفقا لمزاجي العام في تلك اللحظة إن كنت مبتهجة أو كنت خائفة. لم أكن أحب والدة ناعومي؛ فقد كان لها صوت رنان متغطرس وعينان جاحظتان ذابلتان - كعيني ناعومي - وسألتني هل بدأت في المحيض أم لا. لكن أي شخص يتعامل مع أمور الولادة والموت، ومستعد لرؤية أي شيء - النزيف ومخلفات الولادة وتحلل الأجساد المريع - والتعامل معه لا بد أن يلقى آذانا مصغية مهما كانت الأخبار التي يأتي بها. «هل سيمارسان الجنس في أي جزء من أجزاء هذا الكتاب؟»
أخذت أبحث في الرواية - وأنا شغوفة بأن أزينها في ناظري ناعومي تماما كقس يحاول جاهدا أن يظهر أن الدين من الممكن أن يكون عمليا وممتعا - حتى وجدت ذلك الجزء الذي يختلي فيه إرلوند وكريستين داخل الحظيرة، لكنه لم يكن مرضيا بالنسبة لها. «هل من المفترض أن يعني هذا أنهم مارسوا الجنس؟»
أشرت إلى الكلمات التي تصف ما فكرت به كريستين: «هل كان هذا الشيء السيئ هو ذاته الذي تتغنى به جميع الأغنيات؟»
عندما خرجنا من المكتبة كان الظلام قد بدأ يهبط، وكانت زلاجات الفلاحين في طريقها إلى خارج المدينة. لحقت أنا وناعومي بواحدة منطلقة إلى خارج شارع فكتوريا. كان الفلاح يلف رقبته بكوفية ويرتدي قلنسوة ضخمة من الفراء؛ فبدا كرجل من إحدى الدول الاسكندنافية يرتدي خوذة. استدار ناحيتنا وسبنا طالبا منا أن نترجل، لكننا تشبثنا، يملؤنا الفخر بالتحدي المرح، وكأننا مجرمتان ولدتا بكيس الجنين. كنا نتشبث بالزلاجة وحافتها تنحر بطوننا، وأقدامنا تجعل الجليد يتناثر حولنا، حتى وصلنا إلى زاوية شارع ميسون، وهناك أفلتنا الزلاجة وسقطنا على كومة من الثلوج. وبعد أن جمعنا كتبنا والتقطنا أنفاسنا، صاحت كل منا في الأخرى: «انزلي أيتها العاهرة.» «انزلي أيتها العاهرة.»
كان أملنا - نحن الاثنتين - ألا يكون أحد ما قد سمع السباب الذي أطلقناه في الشارع، وخفنا من ذلك.
كانت ناعومي تعيش في شارع ميسون، وكنت أقطن في شارع ريفر، وكان هذا هو أساس صداقتنا؛ فعندما انتقلت لأعيش في المدينة كانت ناعومي تنتظرني في الصباح أمام بيتها الذي كنت أمر عليه في طريقي. فكانت تقول لي: «لم تمشين بهذه الطريقة؟» فأسألها: «أية طريقة؟» فكانت تمشي بشكل غريب مترنحة في حالة من اللاوعي بما حولها تخفي ذقنها في ياقة معطفها، كنت أضحك وهي تقلدني وأنا أشعر بالإهانة، لكن انتقاداتها لي كانت انتقادات تنم عن أنني ملكا لها، وعندما اكتشفت أنها تعتبر أننا أصدقاء شعرت بالحذر والفخر في الوقت نفسه، فلم يكن لي أصدقاء من قبل، فهذا يحد من حريتي ويجعلني مخادعة بشكل أو بآخر، لكنه كذلك أثرى حياتي وأضفى عليها أهمية؛ فكل ذلك الصياح والسباب والسقوط على أكوام الجليد لم تكن أمورا يفعلها المرء بمفرده.
والآن، صرنا نعرف بعضنا عن بعض أمورا كثيرة للغاية تجعلنا لا نستطيع التخلي عن تلك الصداقة.
سجلت أنا وناعومي اسمينا كي نصير مراقبي السبورات في الفصول، وهو ما يعني أن نبقى في المدرسة بعد انتهاء الدوام الدراسي كي ننظف السبورات، ثم نأخذ الفراشي الحمراء والبيضاء والزرقاء إلى الخارج ونضربها بسور المدرسة المبني من الطوب، وهو ما يصنع في الهواء ما يشبه المراوح بمسحوق الطبشور. وحينما دخلنا سمعنا موسيقى غريبة تنبعث من حجرة المعلمين؛ فقد كانت الآنسة فاريس تغني وتذكرنا أنه وقت الأوبريت، لا بد أنه الأوبريت.
كل سنة في شهر مارس تعرض المدرسة أوبريت، والذي كان يظهر العديد من القوى المختلفة، ويغير كل شيء لفترة. وكانت مسئولية هذا الأوبريت تقع على عاتقي الآنسة فاريس - التي لم تكن تقوم طوال العام بعمل مميز سوى أن تدرس لتلاميذ الصف الثالث، وأن تعزف مقطوعة «المسيرة التركية» على البيانو كل صباح، والتي نصعد على ألحانها إلى فصولنا - والسيد بويس، وهو عازف آلة الأرجن في الكنيسة المتحدة، وكان يأتي إلى المدرسة يومين أسبوعيا كي يدرس الموسيقى.
كان السيد بويس محط انتباه وعدم احترام الآخرين؛ لأنه كان مختلفا عن المدرسين العاديين؛ فقد كان قصيرا ذا شارب ناعم وعينين دائريتين تبدوان دامعتين كقطعتي كاراميل. وكان أيضا رجلا إنجليزيا انتقل إلى هنا في بداية الحرب بعد أن نجا من غرق سفينة «أثينيا». لا أستطيع تخيل السيد بويس في قارب نجاة في شمال الأطلنطي! لقد كانت المسافة التي يقطعها من سيارته إلى المدرسة في شتاء جوبيلي تتركه يلهث في حنق شديد. وكان يحضر معه جهاز تشغيل أسطوانات في الفصل، ويشغل مقطوعات موسيقية مثل مقطوعة «افتتاحية عام 1812»، ثم يسألنا عن المشاعر والأفكار التي أثارتها هذه الموسيقى في داخلنا. ولأننا اعتدنا فقط الأسئلة الواقعية القويمة، فقد كنا ننظر إلى ألواح أرضية الفصل ونتضاحك وتهتز أجسادنا قليلا كما لو أننا نرى شيئا لا يليق. فكان ينظر إلينا نظرة تنم عن الاستياء قائلا: «أعتقد أنها لا تجعلكم تفكرون إلا في أنه ليس من المفترض أن تستمعوا إليها.» ثم يهز كتفيه في حركة أكثر لطفا وذاتية من أن تصدر عن معلم.
كانت الآنسة فاريس من أهل جوبيلي، فقد ارتادت هذه المدرسة وصعدت هذه السلالم الطويلة التي بليت في موضعين بفعل مسير الأقدام التي تطؤها كل يوم في حين كان شخص آخر يعزف «المسيرة التركية» (لأن هذه المقطوعة يبدو أنها كانت تعزف منذ قديم الأزل). وكان اسمها الأول معروفا، إلينور، وكانت تعيش في منزلها الصغير القريب من رصيف شارع ميسون بالقرب من منزل ناعومي وتتردد على الكنيسة المتحدة. كانت أيضا تذهب للتزلج مساء مرة كل أسبوع طوال فصل الشتاء، وترتدي زيا مخمليا لونه أزرق داكن حاكته لنفسها؛ لأنها لم تكن لتستطيع شراءه قط، فكان زيها مؤطرا بالفراء البيضاء ولديها قلنسوة وغطاء لليدين أبيضا اللون من ذات الفراء تتماشيان مع الزي، وكانت التنورة قصيرة ذات طيات متعددة، ومبطنة بطبقة من نسيج التفتة الحريري الأزرق الشاحب، وتحتها كانت ترتدي بنطالا ضيقا أبيض اللون كراقصات الباليه. مثل هذا الزي كان يوحي بالكثير وبطرائق عدة.
ولم تكن الآنسة فاريس صغيرة السن كذلك. فكانت تصبغ بالحناء شعرها القصير الذي يتماشى مع موضة عشرينيات القرن العشرين، وكانت دائما ما تضع أحمر خدود واضحا على وجنتيها وترسم ابتسامة بأحمر الشفاه على وجهها. وكانت تتزلج في دوائر تاركة تنورتها المبطنة بلون السماء تطير معها. غير أنها كانت جافة ومتصلبة وبريئة، فلم يكن تزلجها هذا عرضا لنفسها، وإنما كان في الواقع يبدو كعرض تعليمي لمهاراتها في التزلج.
كانت تحيك كل ملابسها بنفسها، فترتدي ملابس مرتفعة الرقبة بأكمام طويلة محتشمة، أو أردية قروية ذات أربطة وأشرطة، أو أثوابا مكشكشة ذات أشرطة تحت الذقن وعند الأساور، أو ملابس ذات أزرار لامعة جريئة عليها مرايا صغيرة. كان الناس يسخرون منها لكن ليس كثيرا، كما لو كانت لم تولد في جوبيلي. قال فيرن دوجرتي، مستأجر لدى أمي: «يا لتلك المسكينة! إنها فقط تحاول أن تصطاد رجلا، إنني أرى أن من حق كل امرأة أن تفعل هذا بطريقتها الخاصة.»
إذا كانت تلك طريقتها، فقد باءت بفشل ذريع؛ ففي كل عام تتواتر أخبار عن علاقة عاطفية - أو فضيحة - بينها وبين السيد بويس، ويكون ذلك أثناء التحضيرات للأوبريت. يزعم الناس أنهما شوهدا ملتصقين ببعضهما على كرسي البيانو، وقدمه تكز قدمها على الدواسة، وأن هناك من سمعه يناديها إلينور. غير أن كل تلك التلفيقات المبالغ فيها تتداعى عندما ينظر المرء إلى وجهها الضئيل ذي العظام البارزة، والذي تزينه بمستحضرات التجميل والنقطتين اللامعتين في زاويتي فمها وعينيها اللامعتين الواسعتين. أيا ما كان الذي تسعى وراءه فلا يمكن أن يكون السيد بويس، بل وبغض النظر عما قاله فيرن دوجرتي، لا يمكن أن يكون هدفها هو الرجال من الأساس.
كان شغفها الحقيقي هو الأوبريت، هو ما يأسر كيانها ويسيطر على كل مشاعرها في المقام الأول، عندما حضرت مع السيد بويس إلى فصلنا نحو الساعة الثانية ظهرا وكان الجو ضبابيا تنهمر فيه الثلوج، وكنا ننقل المكتوب على السبورة ونحن شبه نائمين وكل شيء حولنا شديد الهدوء، حتى إنه بإمكان المرء أن يسمع الخرير الصادر عن أنابيب المياه المطمورة بعمق في داخل المبنى. وفي صوت هامس، طلبت من الجميع أن ينهضوا ويغنوا في حين بدأ السيد بويس يعزف النوتة الموسيقية :
هل تعرفون جون بيل ذا المعطف الزاهي؟
هل تعرفون جون بيل وقت الفجر؟
هل تعرفون جون بيل عندما يكون بعيدا جدا
مع حصانه وكلابه وقت شروق الشمس؟
أما معلمنا السيد ماكينا - وهو ناظر المدرسة أيضا - فقد عبر عن رأيه فيما يحدث بأن استمر في الكتابة على السبورة، فأخذ يكتب: «كان وادي النيل محصنا ضد الغزو بالصحراوات الثلاث التي تحيط به: الصحراء الليبية، والصحراء النوبية، والصحراء العربية.» لكن ما فعله لم يكن أمرا ذا بال، ففي النهاية لن يجدي ذلك نفعا، وستظل نغمات الأوبريت تتصاعد وتتصاعد، وستزيح كل قواعده وتقسيماته للوقت، كما تزاح الأسياج المصنوعة من عيدان الثقاب. كم كان السيد بويس والآنسة فاريس لبقين في هذه اللحظة؛ إذ كانا يتحركان على أطراف أصابعهما في أرجاء الفصل بشكل احتفالي ورأساهما مائلان لتمييز الأصوات المنفردة. لكن لن يدوم هذا طويلا؛ فالأوبريت بأكمله الآن محصور فيهما، لكن حين يحين الوقت المناسب سوف يطلقان سراحه، سوف ينتفخ كبالون السيرك، وسيكون علينا جميعا أن نتمسك جيدا!
ثم أشارا برفق لبعض الطلاب أن يجلسوا، وكنت أنا منهم، وكذلك ناعومي، وقد أسرني هذا في الحقيقة. كما طلبا من بعض الطلاب أن يغنوا من جديد، وأومآ للطلاب الذين أرادا لهم أن يخرجوا من الصف.
كان توزيع الأدوار في الأوبريت أمرا غير متوقع؛ تتراوح الأدوار فيه ما بين حمل أكاليل زهر الخشخاش إلى النصب التذكاري في ذكرى الاحتفال بيوم الهدنة، إلى إذاعة برنامج الصليب الأحمر للصغار، إلى حمل الملاحظات من معلم لآخر عبر الأروقة الخاوية على نحو غير معتاد. وبإمكان المرء أن يعرف مسبقا من الذين سيتم اختيارهم معظم الوقت، ومن الذين سيتم اختيارهم في بعض الأحيان، ومن الذين لن يتم اختيارهم قط تحت أي ظرف من الظروف. وعلى رأس القائمة كانت مارجوري كوتس التي كان والدها محاميا وعضوا في المجلس التشريعي المحلي، وجوين موندي التي يعمل والدها متعهدا ومالكا لمتجر أثاث. لم يكن أحد ليعترض على اختيارهما، بل إننا حين أقيمت انتخابات حرة لاختيار مسئولي برنامج الصليب الأحمر الصغار ، اخترناهما بأنفسنا دون تردد بدافع حس رفيع لتمييز ما هو مناسب. فعلاقاتهما الطيبة التي استمرت لسنوات مع من حولهما في البلدة وفي المدرسة جعلت منهما الاختيار الأنسب؛ فهما تتمتعان بخصال الثقة في النفس والدبلوماسية والكتمان والطيبة. أما أولئك الذين ليسوا أهلا للثقة ويتحولون إلى الديكتاتورية عندما يتولون مهمة ما، أو الذين يتعثرون في الطريق إلى النصب التذكاري، أو من قد يقرءون ملاحظات المعلمين في الأروقة على أمل أن يجدوا بها ما يمكن الوشاية به، هم من كان يقع عليهم الاختيار أحيانا؛ وكذلك الطموحون وغير الواثقين مثل ألما كودي - التي كانت متخصصة في المعلومات الجنسية - ومثلي أنا وناعومي.
وبالضبط كما كان من المؤكد أن مارجوري وجوين تحجزان مكانيهما، كان من المؤكد أن البعض لن يتم اختياره قط، مثل تلك الفتاة الضخمة البدينة التي تدعى بيولا باوز التي كانت مؤخرتها تتخطى حدود مقعدها، وكان الأولاد يغرسون فيها سنون أقلامهم، وتلك الفتاة الإيطالية التي لا تتكلم أبدا ودائما ما تتغيب بسبب مرض في كليتها، وكذلك صبي أمهق واهن الجسد كثير البكاء يمتلك أبوه دكان بقالة صغيرا، والذي كان يشتري حياته في المدرسة بأكياس من الحلوى باللبان والشيكولاتة والحلوى بطعم العرقسوس. مثل هؤلاء الطلاب كانوا يجلسون دائما في آخر الفصل، ولا يطلب منهم المعلمون أبدا القراءة بصوت مرتفع، أو الخروج لكتابة مسألة حسابية على السبورة، وكانوا يتلقون بطاقتي معايدة في كل عيد حب (هاتان البطاقتان من مارجوري وجوين اللتين بإمكانهما إرسال بطاقات للجميع دون خوف من أن تتلوث سمعتهما). وكانوا يمضون العام بعد العام والصف تلو الصف في عزلة حالمة لا يعكر أحد صفوها. وستكون الفتاة الإيطالية هي أول من يموت من بيننا عندما نلتحق بالمدرسة الثانوية، وحينها سنتذكرها بذعر، وفخر جاء متأخرا قائلين: «لقد كانت في صفنا.»
وقد نجد صوتا غنائيا شجيا في أي مكان، لكن بالطبع ليس لدى بيولا باوز أو لدى الفتاة الإيطالية أو ذلك الصبي الأمهق، لكنه كان يأتي من مكان قريب منهم. فمن يمكن أن يكون ذلك الذي اقتنصه السيد بويس والآنسة فاريس كأنه غنيمة سوى ذلك الصبي الذي يجلس خلفي - وهو صبي كنت سأضعه في آخر قائمة الطلاب الذين يجري اختيارهم في بعض الأحيان - وهو فرانك ويلز.
لم يكن ينبغي لي أن أندهش، فقد كنت أسمعه خلفي كل صباح يغني «ليحفظ الله الملك»، ومرة كل أسبوع خلال زيارات السيد بويس كنت أسمعه يغني «جون بيل»، و«تدفق برفق يا نهر آفتون الجميل»، و«كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه الباردة عندما يصيبه الحر من المطاردات.» كان صوته صوت سوبرانو ثابتا طبيعيا جريئا ذا طبقات تكاد تكون غير بشرية، بل هادئة ومتفردة كصوت الناي. (وقد بدا جهاز تشغيل الأسطوانات - الذي تعلم بعد ذلك أن يشغله ليعزف موسيقى دوره في الأوبريت - كأنه امتداد لصوته). هو نفسه كان غير مكترث بامتلاك صوت كهذا، وغير واع به لدرجة أنه عندما يتوقف عن الغناء، يتلاشى كليا ولا يفكر أحد في الربط بينه وبين هذا الصوت.
كل ما كنت أعرفه عن فرانك ويلز هو أنه سيئ جدا في التهجية، فقد كان عليه أن يمرر ورقة التهجية الخاصة به إلي أولا لأمررها للمعلمة كي يتم تصحيحها وتوضع عليها الدرجات. وبعدها كان يذهب إلى السبورة، منصاعا ولكن رابط الجأش، كي يكتب كل كلمة ثلاث مرات، لكن لم يبد أن هذا يساعده كثيرا. كان من الصعب تصديق أن تهجئته هذه لم تكن حماقة أو مزاحا عنيدا غاضبا، لكن لا شيء آخر بشأنه كان يرجح هذا الرأي. فبخلاف مستواه في التهجية، فإنه لم يكن ذكيا ولا غبيا؛ فقد كان يعرف على الأرجح أين يقع البحر المتوسط، لكنه لا يعلم أين يقع بحر سارجاسو.
عندما عاد إلى مقعده كتبت على مسطرتي «أي دور أخذت؟» ثم مررتها إليه كما لو كنت أعيره إياها. كان الفصل الدراسي منطقة هدنة يسمح فيها باتصال محايد، ولكن خفي، بين الأولاد والبنات.
فكتب فرانك على جانب المسطرة الآخر: «زمار هاملين.»
فعرفت أن الأوبريت الذي سوف نؤديه هو «زمار هاملين». أصابني الإحباط لأنه لن تكون هناك مشاهد في البلاط، ولن تكون هناك وصيفات للملكة ولا ثياب جميلة. لكنني مع هذا أردت بشدة أن أشارك في الأوبريت. شرعت الآنسة فاريس في اختيار الراقصات لمشهد «رقصة زواج القرويات». «أريد أربع فتيات يستطعن أن يبقين رءوسهن منتصبة ويتابعن الإيقاع بأقدامهن. مارجوري كوتس وجوين موندي، ومن أيضا؟» جالت عيناها في الصفوف، وتوقفت عدة مرات عند العديد من الفتيات وعندي أنا أيضا، حيث جلست مرفوعة الرأس وكتفاي مستقيمتان وتعبير وجهي مشرق لكن غير متلهف حفظا لكرامتي، وإصبعاي منعقدتان حول بعضيهما بعنف تحت طاولتي، وهي إشارة خاصة بي طلبا للحظ السعيد. «آلما كودي و... جون جانيت، والآن أريد أربعة صبية يستطيعون الرقص دون أن يسقطوا الستارة ...»
شعرت بألم يعتصرني، ماذا لو أنني مقدر لي فقط أن أكون مع الجمهور دائما وراء كواليس خشبة المسرح؟ ماذا لو أنني لم يكتب لي قط ارتقاء خشبة المسرح؟ بعض طلاب الفصل لن يرتقوا خشبة المسرح قط، بل سيجلسون على مقاعد مصطفة أسفلها على جانبي البيانو الذي يعزف عليه السيد بويس ومعهم الطلبة من الصفوف الأصغر الذين اختيروا للغناء في الكورس، وكلهم يرتدون زيا موحدا من تنورة سوداء وبلوزة بيضاء أو بنطلون أسود وقميص أبيض. في ذاك المكان جلست لثلاث سنين خلال أوبريتات «أميرة الغجر» و«راقصي كيري» و«التاج المسروق». وهناك ستجلس الفتاة الإيطالية والفتاة البدينة والفتى الأمهق - كما هو متوقع - خلال أوبريت «زمار هاملين»، لكن ليس أنا! ليس أنا! لم أكن أصدق ذلك الظلم الفظيع الذي سيبعدني عن المسرح.
ناعومي هي الأخرى لم تحصل على دور لتشارك في الأوبريت، لكننا لم نتكلم في هذا الموضوع في طريقنا إلى المنزل، لكننا سخرنا من كل شيء متعلق بهذا الأوبريت. «أنت قومي بدور الآنسة فاريس وأنا سأكون السيد بويس. آه، يا حبي الحقيقي، يا طائري الصغير، موسيقى «زمار هاملين» هذه تجعلني أفقد صوابي ولعا وهياما بك، متى سأضمك بين ذراعي حتى يتصدع عمودك الفقري لأنك نحيلة للغاية؟» «لست نحيلة، أنا باهرة الجمال، وشاربك هذا أصابني بطفح جلدي . ماذا سنفعل بشأن السيدة بويس يا حبي؟» «لا تشغلي بالك بها يا ملاكي الجميل، سوف أحبسها في خزانة مظلمة ملأى بالصراصير.» «لكنني أخشى أن تهرب.» «في هذه الحالة سوف أجبرها على تناول الزرنيخ، ثم سأقطع جسدها إلى قطع صغيرة وألقي بها في المرحاض. كلا سوف أذيبها في محلول قلوي في حوض الاستحمام. وسوف أصهر حشوات أسنانها الذهبية وأصنع لنا منها خاتم زفاف جميلا.» «آه كم أنت رومانسي يا حبيبي!»
وبعد ذلك، اختيرت ناعومي لأداء دور أم تقول في الأوبريت: «آه، حبيبتي مارتا الصغيرة، كم كنت ترقصين كل صباح وأنا أحاول أن أضفر شعرك! وكنت أوبخك على هذا! آه لو كان لي أن أراك وأنت ترقصين الآن!» وفي آخر مشهد تقول: «الآن أنا ممتنة للغاية، لن أحكي أي شيء عن جيراني، ولن أكون امرأة بخيلة نمامة بعد الآن!» وأعتقد أنها اختيرت لأداء ذلك الدور بسبب قوامها القصير المكتنز الذي يسهل تحويله إلى قوام امرأة وقورة. وهكذا، صرت أعود إلى المنزل وحدي؛ فكل من فاز بدور في الأوبريت كان عليه البقاء بعد اليوم الدراسي ليتدرب. وعندما عدت إلى المنزل سألتني أمي: «كيف أحوال الأوبريت؟» وتقصد: هل حصلت على دور؟ «لم يفعلوا شيئا حتى الآن، لم يوزعوا الأدوار بعد.»
بعد العشاء ذهبت إلى شارع ميسون ومررت من أمام بيت الآنسة فاريس، لم تكن لدي فكرة عما أنتوي فعله، أخذت أقطع الطريق جيئة وذهابا على الثلوج المتصلبة دون أن أصدر صوتا. لم تكن الآنسة فاريس تسدل ستائرها، لم يكن من عاداتها. كان بيتها صغيرا كبيوت ألعاب الأطفال، وكان أبيض اللون ذا مصاريع زرقاء، وله سطح مدبب ذو قمة مثلثة صغيرة، وفوق الباب والنوافذ ألواح ذات نتوءات مدورة. وقد جعلت البنائين يبنون هذا المنزل من أجلها بالنقود التي ورثتها بعد وفاة والديها. ورغم أنه كان من الشائع رؤية بيوت كهذه في الأفلام السينمائية - بيوت ساحرة غريبة تبدو كما لو كانت مصممة للعب لا للسكنى - فلم يكن أحد في جوبيلي قد رآها من قبل. ومقارنة بالبيوت الأخرى بالمدينة، كان بيتها يبدو خاليا من الأسرار والتناقضات. وكان الناس يقولون: «إنه بيت جميل، لا يبدو حقيقيا.» لم يكن بإمكانهم تفسير ما كان يريبهم في ذلك المنزل أكثر من هذا.
بالطبع، لم يكن بوسعي ما أفعله، وبعد وهلة عدت إلى المنزل.
لكن في اليوم التالي، جاءت الآنسة فاريس إلى الفصل ومعها جون جانيت، وسارت بها مباشرة نحو مقعدي قائلة: «قفي يا ديل.» كما لو كان علي أن أفعل هذا دون أن يطلب مني - فقد كانت تسترد المزيد والمزيد من طباعها أثناء فترة عروض الأوبريت - وجعلت كلتينا تقف وظهري في مواجهة ظهرها. أدركت أن طول جون لم يكن مناسبا، لكني لم أعرف هل هي أطول مما ينبغي أم أقصر مما ينبغي؛ ومن ثم لم أتمكن من الانبساط أو الانكماش. وضعت الآنسة فاريس يديها على رأسينا ثم رفعتهما ببطء. كانت تقف على مسافة قريبة جدا حتى إنني شممت رائحة عرقها الأشبه برائحة الفلفل، وارتجفت يداها ارتجافة خفيفة، وسرت في جسدها همهمة حماس صغيرة خطيرة. «إنك أطول مما ينبغي بنصف بوصة يا عزيزتي جون، سوف نفكر في إمكانية إعطائك دور أم.»
تبادلت أنا وناعومي - وآخرون - نظرات سعادة تواقة، فقطب السيد ماكينا ما بين حاجبيه وأدار وجهه بنظرة عابسة بين أرجاء الفصل. «من شريكك؟» هكذا همست لي ناعومي فيما بعد ونحن في حجرة الملابس نتدافع لانتعال أحذيتنا ذات الرقاب الطويلة. كان علينا أن نخرج في صفوف، ونحضر ثياب الخروج ونأتي بها إلى الفصل، ونلبسها على مقاعدنا بشكل منظم.
أجبتها: «جيري ستوري.» لم أكن سعيدة بتوزيع الأدوار. لقد بدا كما لو كان مقصودا به التوافق؛ فقد كان شريكا جوين موندي ومارجوري كوتس هما موراي هيل وجورج كلاين، اللذان كانا بشكل أو بآخر قرينيهما بين الصبية؛ حيث كانا ذكيين رياضيين وكانا - حيثما كان ذلك مهما - مهذبين. وكان شريك آلما كودي هو دايل ماكلوفلين ابن كاهن الكنيسة المتحدة والذي كان طويلا ذا أطراف مرتخية، وجريئا بحماقة يرتدي نظارات سميكة فوق عينين إحداهما حولاء، وكان قد مارس الجنس بشكل أو بآخر مع فايوليت تومز في مرأب الدراجات خلف المدرسة. وكان من نصيبي أنا جيري ستوري، وهو فتى يغطي رأسه شعر متموج طفولي وتجحظ عيناه بحماس علمي جلي. وفي حصص العلوم، كان يرفع يده ويتكلم بصوت أخنف ممل شارحا التجارب التي أجراها بأدواته الكيميائية. وكان يعرف أسماء كل شيء: العناصر والنباتات، وكذلك الأنهار والصحاري الموجودة على الخريطة، وكان يعرف موقع بحر سارجاسو. وطوال فترة تدريبنا على تلك الرقصة لم ينظر إلى وجهي قط، وكانت يداه تتعرقان، وكذلك يداي.
قالت ناعومي: «إنني أشفق عليك، سيظن الجميع الآن أنه يروق لك.»
لا أبالي، فليس في المدرسة الآن إلا الأوبريت. وكما في الحرب حيث لا يمكن للمرء أن يتخيل فيما كان يفكر الناس، أو ما كان يشغل بالهم، أو عما كانت الأخبار قبل اندلاع الحرب، من المستحيل الآن أن أتذكر ما كانت عليه المدرسة قبل هذا التشويق والارتباك والتوتر الذي صحب الأوبريت. كنا نتدرب على الرقص بعد المدرسة، وخلال ساعات الدراسة، في حجرة المعلمين. لم يسبق لي أن دخلت حجرة المعلمين من قبل، واندهشت لمرأى الخزانة الصغيرة ذات الستائر المصنوعة من الكريتون، وفناجين الشاي والسخان الكهربائي وزجاجة الأسبرين، والأريكة الجلدية المتكتلة. فلم يكن أحد يربط بين المعلمين وبين مثل هذه الأغراض المنزلية المألوفة، بل والمهترئة.
واستمرت مشاهد غريبة غير متوقعة في الظهور أمامنا، فقد كانت هناك كوة في سقف حجرة المعلمين، وذات يوم عندما دخلنا الحجرة للتدريب وجدنا السيد ماكينا - من بين كل المعلمين السيد ماكينا نفسه - تتدلى مؤخرته وساقاه في بنطلونه البني المليء بالغبار من الكوة وهو يبحث عن السلم. وكان ينزل صناديق من الورق المقوى التي كانت الآنسة فاريس تتناولها منه وهي تقول: «نعم، ذاك، وذاك! آه ماذا لدينا هنا؟ لنر ما إذا كان لدينا ثروة هنا!»
قطعت الخيط بحركة سريعة قوية، وأخرجت ما في الصندوق من أقمشة قطنية خفيفة مصبوغة باللونين الأحمر والأزرق، محفوفة أطرافها بحلقات ذهبية وفضية مصنوعة من الخيوط التي نزين بها أشجار عيد الميلاد، وكذلك تيجان مغلفة برقائق ذهبية وفضية، وبناطيل مخملية ذات لون بني ضارب إلى الصفرة، وشيلان صفراء ذات أهداب مصنوعة من قماش بيزلي، وبعض من أثواب المحاكم مصنوعة من قماش تفتة رقيق مترب. ولم يملك السيد ماكينا سوى أن يأخذ في الضرب على بنطاله نافضا عنه الغبار دون أن يتلقى أي شكر. «لا رقص اليوم! ليخرج الأولاد، ليخرجوا ويلعبوا الهوكي.» (كان هذا واحدا من خيالاتها إذ كانت تظن أن الأولاد يلعبون الهوكي حين لا يكونون في المدرسة.) «الفتيات يبقين ويساعدنني في الفرز. ماذا لدينا هنا يصلح لقرية ألمانية في العصور الوسطى؟ لا أدري، لا أدري. هذه الملابس واسعة جدا، وسوف تسقط منكم على المسرح على أية حال، لقد شهدت أعظم أيامها في مسرحية «التاج المسروق». هل ستلائم تلك البناطيل العمدة؟ هذا يذكرني بأن علي أن أصنع سلسلة العمدة! وعلي أن أصنع زي فرانك ويلز كذلك، إن آخر من لعب دور زمار هاملين لدينا كان حجمه ضعف حجم فرانك، من كان ذاك؟ لقد نسيت حتى من كان، كان فتى بدينا، ولم نختره إلا لصوته.»
سألت جوين مونداي - التي كانت تشعر بالراحة والألفة في التعامل مع المعلمين - بنبرة صوتها المهذبة الرقيقة: «كم يصل عدد الأوبريتات المختلفة؟»
أجابت الآنسة فاريس بلهجة حازمة: «ستة: «زمار هاملين»، و«أميرة الغجر»، و«التاج المسروق»، و«الفارس العربي»، و«راقصي كيري»، و«ابنة الحطاب». وعندما يحين موعد إعادة إحداها يكون لدينا مجموعة جديدة من المؤدين نختار من بينهم، ونبتهل إلى السماء أن يكون الجمهور قد نسي المرة السابقة.» التقطت عباءة مخملية سوداء اللون مبطنة باللون الأحمر، ونفضت عنها الغبار ثم وضعتها على كتفيها قائلة: «هل تذكرون؟ هذا ما ارتداه بييرس موراي حين لعب دور الكابتن في «أميرة الغجر». كلا بالطبع لا تذكرون، كان هذا في عام 1937، وبعدها قتل، كان في القوات الجوية.» لكنها قالت هذا الجزء دون اكتراث؛ فبعد أن أدى دور الكابتن في «أميرة الغجر» هل يهم ما حدث له بعدها؟ «وفي كل مرة كان يرتدي هذا المعطف كان يتمايل - هكذا - مظهرا بطانته.» قالتها وهي تميل بخيلاء مقلدة ما كان يفعله. كانت كل تعليماتها المسرحية وتعليماتها في الرقصات مبهرة ومبالغا فيها بشكل كبير ومتعمد، كما لو كانت تريد أن تدهشنا لدرجة أن ننسى ذواتنا. وكانت تكيل لنا الإهانات فقالت إننا نرقص كأناس في الخمسين من عمرهم مصابين بالتهابات المفاصل، وقالت إنها ستضع مفرقعات نارية في أحذيتنا، لكنها كانت تحوم حولنا طوال الوقت كما لو أن بداخلنا إمكانات رقص جميل متقدة، وكأنها قادرة على أن تخرج من داخلنا ما لا يستطيع غيرها اكتشافه، بل وحتى ما لا نعرف نحن أننا نمتلكه.
ثم دخل السيد بويس كي يأخذ جهاز التسجيل الذي كان يعلم فرانك ويلز تشغيله، ورأى حركة التمايل التي كانت تؤديها.
فقال بدهشته الإنجليزية المعهودة التي تنم عن تحكم كامل بالذات: «كون بريو يا آنسة فاريس، كون بريو (أي بحماس وحيوية باللغة الفرنسية).»
انحنت الآنسة فاريس بلباقة لتكمل حالة التمايل، وأفسحنا نحن المجال لها لتفعل ذلك، بل إننا في تلك اللحظة تفهمنا أن حمرة الخجل التي امتصت حمرة أدوات التجميل كضوء الشمس لم تكن تمت بصلة للسيد بويس، وإنما مردها إلى المتعة التي تجدها في حركتها. ولكننا توقفنا عند «كون بريو» وقررنا أن نخبر الآخرين بها، لم نكن نعلم ماذا تعني ولم نكترث لأن نعرف، كل ما كان يهمنا أنها كلمة سخيفة؛ فكل الكلمات الأجنبية في حد ذاتها سخيفة وتنتشر كالنار في الهشيم. بعد ذلك عرفنا مدى ملاءمتها. فلفترة طويلة بعد انتهاء الأوبريت لم تكن الآنسة فاريس تسير في رواق المدرسة، ولم تكن تمر بنا في طريقها إلى أعلى هضبة جون ستريت وهي تغني بخفة مشجعة نفسها كعادتها وتلقي تحية الصباح، دون أن تسمع هذه العبارة تتردد بمكر بجوارها. شعرنا أن هذه هي الضربة القاصمة لها؛ فقد كانت تجعلها تستشيط غضبا.
بدأنا نذهب إلى دار البلدية لنتدرب هناك، كانت قاعة البلدية ضخمة ومفتوحة تكثر بها تيارات الهواء كما أتذكر، وكانت ستائر خشبة المسرح مخملية قديمة لونها أزرق داكن ومؤطرة بأهداب ذهبية رائعة، كما أتذكر. كانت المصابيح مضاءة في تلك الأيام الشتوية المظلمة، ولكن ليس على طول الممر المؤدي إلى نهاية القاعة؛ حيث كانت الآنسة فاريس أحيانا تقف بحيث لا نراها وتصيح: «لا أسمع كلمة هنا! لا أسمع ما تقولون! مم تخافون؟ هل تريدون أن يصيح الجالسون في الصفوف الخلفية مطالبين باسترداد نقودهم؟»
كانت الآنسة فاريس على وشك أن يتملكها اليأس، وكانت طوال الوقت في يدها شيء ما تحيكه. وذات يوم أشارت إلي وأعطتني قطعة من جديلة ذهبية كانت تخيطها على قبعة العمدة المخملية، وطلبت مني أن أذهب إلى متجر ووكر لأحضر ربع ياردة تتناسق معها. كانت ترتجف، وأخذت همهمتها تصبح أكثر وضوحا وقالت: «لا تتأخري.» قالتها كما لو أنها ترسلني كي آتيها بدواء ضروري أو برسالة يمكن أن تنقذ جيشا. لذا غادرت مسرعة مرتدية معطفي دون أن أغلق أزراره إلى شوارع مدينة جوبيلي الصامتة، البيضاء بلون الصوف الأبيض، بعد أن غطت الثلوج التي انهمرت حديثا المدينة، وبدا مسرح دار البلدية ورائي مشرقا كمشعل متقد بحماسة الإخلاص الشديد. إخلاص لصناعة ما هو غير حقيقي، ما لم يكن ضروريا بصورة واضحة، لكنه كان أكثر أهمية - بمجرد أن نؤمن به - من أي شيء آخر لدينا.
وبعد أن حررني الأوبريت من روتين حياتنا اليومية، وبعد أن أصبحت أتذكر الفصل - حيث كان السيد ماكينا يواصل منافسات التهجية والحسابات العقلية مع أولئك الذين لم يقع عليهم الاختيار - بأنه مكان حزين وكئيب تركته خلفي، شعرت أننا جميعا صرنا حلفاء الآنسة فاريس. كنا نجمع أدوارنا المنفصلة في الأوبريت جنبا إلى جنب ونراها تتحول إلى كيان متكامل. وكانت قصة الأوبريت تثير مشاعري ولا تزال؛ فكنت أفكر في مدى قوة واختلاف وعجز وتراجيدية شخصية زمار هاملين. لم تكن الخيانة تفاجئه حقا، وبعد أن خارت قواه من استغلال العالم له، استطاع - على غرار همفري بوجارت - الحفاظ على نبله وشرفه بعد أن أصابهما الإرهاق والوهن. بل وحتى انتقامه (الذي أفسده تغيير نهاية القصة طبعا) لم تكن تفوح منه رائحة الحقد، وإنما كان أقرب إلى الرفق؛ انتقام رقيق ومروع هدفه تحقيق العدالة الكبرى. شعرت أن فرانك ويلز - ذاك المتهجي الذي لا سبيل لتعليمه - تقمص دوره بسهولة وبشكل طبيعي دون أدنى محاولة للتمثيل. فكان كل يوم يحمل معه تحفظه ولامبالاته إلى خشبة المسرح، وكان هذا هو الصواب. وقد تأملت ملامحه للمرة الأولى لأرى كيف يبدو، فكان رأسه طويلا ونحيلا، وشعره أسود قصيرا مجعدا وكثيفا، ووجهه يغلب عليه الحزن - رغم أنه قد يتضح أنه وجه شخصية كوميدية، لكن ليس في هذه الحالة - به ندوب من أثر حبوب قديمة، وحبة جديدة بدأت تظهر في مؤخرة عنقه. كان جسده نحيلا كوجهه، وارتفاعه كان مناسبا لصبي في صفنا - أي إنه أقصر مني بأقل من بوصة - وكانت مشيته سريعة وعفوية، مشية شخص لا يحتاج لا إلى جذب اهتمام الناس أو دفعه بعيدا. كل يوم كان يرتدي سترة ذات لون رمادي يميل إلى الزرقة مرقعة عند الكوعين، وقد بدا لي هذا اللون الدخاني العادي المتحفظ الغامض هو لون شخصيته، لون ذاته.
لكنني كنت أحبه، أحب شخصية زمار هاملين، وأحب شخصية فرانك ويلز.
وهكذا لم أتمالك نفسي، وكنت بحاجة لأن أتحدث عنه مع أي شخص؛ لذا تحدثت مع أمي متصنعة الموضوعية والنقد. «صوته جيد، لكنه ليس طويلا بما يكفي، لا أظنه سيكون مميزا على خشبة المسرح.» «ما اسمه؟ ويلز؟ أهو ابن تلك السيدة التي تبيع مشدات الخصر؟ كنت أبتاع مشداتي من السيدة ويلز، كان لديها أنحف مقاس، لكنه لم يعد لديها منه الآن. كانت تقطن في شارع بيجز بعد محل الألبان.» «لا بد أنها والدته.» كنت متحمسة بصورة غريبة لفكرة أن هناك حلقة وصل بين أسرة فرانك ويلز وأسرتي، بين حياته وحياتي، فسألت أمي: «هل ذهبت إلى منزلها؟ هل أتت هي إلى هنا؟» «ذهبت أنا إلى منزلها، فلا بد لمن أراد الشراء أن يذهب إلى هناك.»
أردت أن أسألها عن شكل المنزل: هل من صور في غرفة الاستقبال؟ عم تكلمت أمه؟ هل جاءت على ذكر أطفالها؟ كان أملا مبالغا فيه أن تكونا قد صارتا صديقتين، وأن تكونا قد تحدثتا عن أسرتيهما، وأنه في تلك الليلة على مائدة العشاء تكون السيدة ويلز قد قالت: «جاءتنا اليوم سيدة لطيفة لتضبط مقاس مشدات خصرها وقالت: إن لها ابنة في الفصل نفسه معك في المدرسة ...» فيم سيفيد هذا؟ أن يذكر اسمي على مسمع منه وأن تتراءى صورتي أمامه.
دفعت الأجواء في دار البلدية في تلك الأيام الكثيرين - وليس أنا فقط - إلى تلك الحالة. فكانت جدران العداوة التقليدية بين الصبية والفتيات تتشقق في مئات الأماكن، فلم يكن من الممكن الإبقاء عليها، أو حيثما كان على تلك الجدران أن تبقى، فقد بقيت مستترة خلف غلاف من المزاح، وتيارات خفية مرتبكة من الود.
في طريق العودة من المدرسة كنت أنا وناعومي نأكل قوالب حلوى الطوفي السكرية - التي كانت تباع بخمسة سنتات - والتي كان قضمها عسيرا في ذاك الجو البارد ومضغها لا يقل صعوبة، وكنا نتحدث بحذر وأفواهنا ممتلئة بالحلوى. «إن لم يكن شريكك جيري ستوري، من كنت ستختارين ليكون شريكك؟» «لا أدري.» «موري؟ أم جورج؟ أم دايل؟»
هززت رأسي بحزم وأنا أمتص بصوت عال لعابي المشبع بطعم الطوفي.
قالت ناعومي بلهجة شيطانية: «فرانك ويلز.»
وتابعت: «قولي نعم أو لا، هيا، سأخبرك من أحب أن يكون شريكي لو كنت مكانك.»
قلت بصوت حذر مستسلم: «لم أكن لأعترض عليه، أقصد فرانك ويلز.» «أنا لم أكن لأعترض على دايل ماكلوفلين.» قالتها ناعومي بتحد وبصورة مدهشة إلى حد ما، لقد استطاعت أن تكتم سرها خيرا مني. أمالت رأسها فوق كومة من الجليد تقطر ماء، وأخذت قضمة من قالب الطوفي ثم قالت في النهاية: «أعرف، لا بد أنني مجنونة، إنه يروقني حقا.»
فقلت بنبرة اعتراف تام: «وأنا يروقني فرانك ويلز حقا، لا بد أنني أنا أيضا مجنونة.»
بعدها صرنا نتحدث طوال الوقت عن هذين الولدين، أطلقنا عليهما الاختصار ج. ق، وهو اختصار «الجاذبية القاتلة». «ها هو ج. ق قادم، حاولي ألا تفقدي وعيك.» «لماذا لا تعطين ج. ق دهان نوكسيما لعلاج الحبوب ؟ أف !» «أظن أن ج. ق كان ينظر إليك لكن من الصعب التأكد من ذلك مع عينه الحولاء.»
وهكذا طورنا شفرة بيننا تتكون من رفع الحواجب، وهز الأصابع على الصدر، وكلام بدون صوت مثل «بانج أوه بانج» (والتي نستخدمها عندما نقف إلى جوارهم على خشبة المسرح)، و«غضب»، و«غضب مضاعف» (عندما يتحدث دايل ماكلوفلين مع آلما كودي ويطرقع إصبعي الإبهام والوسطى على عنقها)، و«نشوة» (عندما يدغدغ ناعومي تحت ذراعها ويقول: «ابتعدي عن طريقي يا كرة الزبدة»!)
أرادت ناعومي أن تتحدث عن الواقعة التي حدثت في مرأب الدراجات، عن الفتاة التي ضاجعها دايل ماكلوفلين، وهي فايوليت تومز المريضة بالربو، والتي رحلت عن المدينة. «خيرا أنها رحلت؛ لقد جلبت على نفسها الخزي هنا.» «لم تكن غلطتها بالكامل.» «بل هي غلطتها، إنها دائما غلطة الفتاة.» «كيف تكون غلطتها إذا كان قد أمسكها عنوة؟»
قالت ناعومي بصرامة: «لا يمكن أن يكون قد أمسكها عنوة، فكيف له أن يمسكها عنوة ويضاجعها في الوقت نفسه، كيف يمكنه هذا؟» «لماذا لا تسألينه أنت؟ سوف أخبره أنك تريدين أن تعرفي.»
قالت ناعومي متجاهلة ما قلت: «تقول أمي: إنها غلطة الفتاة، إن الفتاة هي المسئولة؛ لأن أعضاءنا الجنسية في داخل أجسادنا أما أعضاؤهم فهي خارج أجسادهم، ونحن نستطيع أن نتحكم في رغباتنا خيرا منهم، فالصبي لا يستطيع أن يتمالك نفسه.» كانت توجهني بنبرة منذرة ومع ذلك متساهلة بصورة غريبة تقر بالفوضى والوحشية الغامضة التي تسود العالم المجاور لنا.
كان من الصعب مقاومة الحديث في تلك الأمور، لكنني مع هذا أثناء سيري في شارع ريفر، غالبا ما كنت أتمنى لو أنني احتفظت بسري لنفسي كما نتمنى جميعا لو أننا احتفظنا بأسرارنا لأنفسنا. قالت ناعومي: «فرانك ويلز لم يبلغ بعد؛ إذ إن صوته لم يتغير.» لا بد وأنها كانت تنقل معلومة أخرى من معلومات والدتها، وقد كنت مهتمة أن أعرف لكن في الوقت نفسه منزعجة، كما لو أن مشاعري تجاهه صنفت تصنيفا خاطئا، وذهبت في اتجاه غير متوقع بالمرة. لم أكن أعرف في الواقع ماذا أريد من فرانك ويلز. كنت أحلم به في يقظتي حلما يتكرر كثيرا، كنت أتخيله يسير معي إلى البيت بعد أداء الأوبريت. (فقد أصبح متعارفا عليه أن الصبية - بعض الصبية - يسيرون إلى منازلهم مع البنات - بعض البنات - في ليلة عرض الأوبريت، لكنني وناعومي لم نناقش حتى احتمالية فعل ذلك، فقد كنا نحذر التفوه بأمانينا الحقيقية). فنسير نقطع طرقات جوبيلي التي يخيم عليها الصمت تماما، نسير تحت أضواء الشوارع وظلالنا تدور وتغرق في الجليد، وهناك في المدينة الجميلة المهجورة المظلمة سوف يحيطني فرانك إما بغنائه الحقيقي الرقيق الهادئ الذي لا يصدق، أو - في النسخ الأكثر واقعية من الحلم - يحيطني بالموسيقى غير المسموعة التي يعزفها مجرد وجوده معي. وكان في الحلم يرتدي قبعته المدببة - التي هي أقرب لقبعات الحمقى - والعباءة المرقعة بألوان عديدة - يغلب عليها اللون الأزرق - التي أعدتها له الآنسة فاريس. كنت دائما أختلق هذا الحلم لنفسي وأنا على شفا النوم، وكان من الغريب مدى ما يجعلني أشعر به من سعادة ورضى، ومدى ما يغدق علي من سلام وسلوان، فكنت أغمض عيني وأسبح فيه حتى أبلغ أحلامي الحقيقية والتي لم تكن أبدا بتلك الرقة، وإنما مليئة بمشاكل صغيرة كجوارب مفقودة، أو عدم قدرة على إيجاد مكان فصل الصف الثامن، أو أمور مرعبة مثل الرقص على مسرح البلدية، ثم اكتشاف أني نسيت أن أعتمر غطاء رأسي.
خلال بروفة الملابس صرخت الآنسة فاريس كي يسمع الجميع: «يبدو أنني سوف أقفز من فوق مبنى البلدية، يبدو أنني سأقفز الآن! هل أنتم مستعدون جميعا لتحمل المسئولية؟» وأخذت تجذب وجنتيها بأصابعها المفرودة بقوة، لدرجة أنها بدت كما لو كانت ستترك تجاعيد على وجهها. «إلى الخلف، تراجعوا، انسوا الخمس عشرة دقيقة الفائتة، انسوا النصف ساعة الفائتة، ابدءوا مرة أخرى من البداية!» ابتسم السيد بويس بارتياح وبدأ يعزف موسيقى الكورس الافتتاحي. •••
ثم جاءت الليلة الموعودة، حان الوقت واحتشد الجمهور، والمكان الذي اعتدنا أن يخيم عليه الظلام ويتردد فيه صدى الصوت أصبح مليئا بالحركة والسعال والناس المتأنقين المترقبين. كان المسرح أكثر سطوعا وأكثر ازدحاما - بواجهات المنازل المصنوعة من الورق المقوى والنافورة المصنوعة من الورق المقوى - مما عرفناه في أي وقت سابق. ثم حدث كل شيء بسرعة شديدة، ثم انتهى، انقضى، لم يكن مهما كيف جرى الأداء؛ إذ كان يجب أن يتم ولا يمكن استرجاع ما حدث. لا يمكن استرجاع أي شيء. وبعد كل هذا التدريب، كان من العسير تصديق أن الأوبريت يقدم بالفعل. كان السيد بويس يرتدي حلة ذات ذيل، والتي قال الناس: إنها تبدو سخيفة.
كانت قاعات المجلس (التي تقع أسفل خشبة المسرح مباشرة وتتصل بها من خلال سلم خلفي) مقسمة إلى غرف لتبديل الملابس باستخدام ملاءات معلقة على حبال، وكانت الآنسة فاريس (التي كانت تضع مئزرا فوق فستانها الجديد القصير الضيق ذي اللون الوردي الضارب إلى الحمرة) تتحرك هنا وهناك؛ فترسم الحواجب والشفاه، وتضع نقاطا حمراء في أركان الأعين، وترش لونا أصفر على شحمات الآذان، وتغمر الشعر بنشا الذرة. ثم حدثت جلبة فظيعة؛ فقد فقدت قطع مهمة من الأزياء، وأحدهم وطئ بقدمه على طرف فستان زوجة العمدة فمزقه من عند الخصر، وادعت آلما كودي أنها تناولت أربع حبات أسبرين لتهدئة أعصابها فأصابها ذلك بالدوار، وأخذت تتصبب عرقا باردا، فجلست على الأرض تقول إنها ستفقد وعيها. وسقطت بعض الملاءات أرضا فرأى بعض الصبية البنات وهن في ملابسهن الداخلية، وحدث العكس كذلك. كما دخل بعض البنات من أعضاء الكورس إلى قاعات المجلس - ولم يكن يفترض بهن ذلك - واصطففن بجرأة بتنوراتهن السوداء وقمصانهن البيضاء ولم تنتبه الآنسة فاريس فدهنت وجوههن كذلك.
كانت لا تنتبه لأمور كثيرة. توقعنا أن تكون شرسة كما كانت طوال الأسبوع، لكن لم يحدث أي شيء من هذا، قالت ناعومي ووجنتاها متوردتان وهي ترتدي ثوب الأمهات: «لعلها مخمورة، أظنني شممت منها رائحة ما.» لم أشم منها أية رائحة سوى ماء التواليت برائحة الزهور البرية ونفحة من عرق رائحته أشبه برائحة الفلفل. لكنها كانت متألقة - بذاك الترتر الذي يحدد حواف سترة زيها بنمط عسكري هزلي - وتتحرك بخفة ورشاقة على غير عادتها، وتتحدث بنعومة، تتحرك وسط كل ذاك الاضطراب بتقبل شديد.
قالت لزوجة العمدة: «ثبتي تنورتك بالدبابيس يا لويز، ليس في وسعك شيء الآن، لن يلحظ الجمهور من مكانه أي شيء.»
لن يلحظ الجمهور! هي من تقول ذلك وهي التي كانت صعبة الإرضاء حتى في أدق التفاصيل، حتى إنها قد أجبرت بعض الأمهات على أن يمزقن ما انتهين من حياكته ويعدنه ثلاث مرات!
وقالت لآلما كودي: «فتاة كبيرة قوية وصحيحة البدن مثلك تستطيع أن تتناول ست حبات أسبرين دون أن يطرف لها جفن، قفي على قدميك يا سيدتي.»
كانت الراقصات يرتدين تنورات قطنية لامعة ذات ألوان حمراء وصفراء وخضراء وزرقاء وبيضاء، وفوقها قمصان ذات أربطة. وقد أرخت آلما أربطة قميصها لتظهر بداية صدرها بصفاقة. حتى هذا المنظر ابتسمت الآنسة فاريس له واستمرت في طريقها. وبدا أن كل شيء مرغوب يمكن أن يحدث الآن.
بالقرب من بداية الرقصة، بدأ غطاء رأسي - وهو عبارة عن قمع طويل من الورق المقوى ملفوف بشبكة صفراء وبه غطاء صغير مرتخ يحمل طابع العصور الوسطى - بدأ ينزلق بصورة طفيفة وكارثية إلى جانب رأسي. فكان علي أن أميل رأسي كما لو كانت رقبتي ملتوية، وأن أؤدي الرقصة بهذا الشكل وأنا أضغط على أسناني وأرسم ابتسامة ثابتة خاوية.
وبعد أداء النشيد الوطني «ليحفظ الله الملك»، وبعد أن أسدل الستار النهائي، انطلقنا إلى محل المصور جميعنا ونحن لا نزال نرتدي أزياءنا دون معاطف كي تلتقط صورنا. تكدسنا معا ونحن ننتظر أمام الستائر المهملة التي يتخذها المصور خلفية للصور، والتي رسمت عليها شلالات بنية اللون وحدائق إيطالية. وجد دايل ماكلوفلين مقعدا من تلك المقاعد التي يجلس عليها الآباء في الصور العائلية ويتجمع الأولاد والأم من حولها. فجلس على المقعد، وجلست آلما كودي بكل جرأة على ركبته، وارتمت بتثاقل على عنقه. «أشعر بالوهن، إنني مريضة، هل تعلم أنني تناولت أربع حبات أسبرين؟»
كنت أقف أمامهما فقال لي دايل ببشاشة: «اجلسي، اجلسي.» ثم شدني فوق آلما التي صرخت . ثم فتح ساقيه الطويلتين ورمى كلتينا على الأرض. أخذ الجميع يضحكون، وسقطت قبعتي ونقابي فالتقطها دايل ووضعها على رأسي بالمقلوب، فصار النقاب على وجهي. «تبدين فاتنة هكذا وأنت لا ترين أي شيء.»
حاولت أن أنفض عنها الغبار وألبسها بالشكل الصحيح. وفجأة ظهر فرانك ويلز من بين الستائر بعد أن التقطت صورته وحيدا بزيه الفخم والمعدم في آن واحد.
صاحت زوجة المصور بغضب مطلة برأسها من بين الستائر: «التالي! الراقصون.» كنت آخر من دخل؛ إذ كنت لا أزال أحاول أن أضبط غطاء رأسي بالشكل الصحيح، فقال دايل: «انظري إلى انعكاسك في نظارتي.» فنظرت فيها رغم أن رؤية عينه الوحيدة الحولاء خلف انعكاس صورتي كانت تشتت انتباهي. وكان هو يصنع بوجهه تعبيرات ازدرائية.
ثم قال لفرانك ويلز: «عليك أن تصحبها إلى بيتها.»
فقال فرانك ويلز: «من؟»
أومأ دايل ناحيتي وقال: «هي.» اهتز رأسي في نظارته فتابع قائلا: «ألا تعرفها؟ إنها تجلس أمامك.»
خشيت أن يكون الأمر مجرد مزحة. شعرت بالعرق يتصبب من تحت إبطي، وهي دائما ما تكون العلامة الأولى للخوف من المهانة، وسبح وجهي في عيني دايل الخرقاء. كان ذلك كثيرا، وخطيرا؛ أن يزج بي هكذا إلى داخل حلمي مباشرة.
لكن فرانك ويلز قال بكل شهامة ومراعاة: «كنت سأفعل إن لم تكن تسكن على مسافة بعيدة للغاية.»
كان لا يزال يظن أنني أقطن في طريق فلاتس؛ إذ كنت مشهورة في الفصل بأنني أمشي مسافة كبيرة حتى أصل إلى المدرسة. ألم يعرف أنني أعيش في المدينة الآن؟ لا وقت كي أخبره ولا سبيل لذلك أيضا، كما أن الأمر ينطوي على مخاطرة صغيرة - لا أستطيع تحملها إطلاقا - أن يضحك علي تلك الضحكة الهادئة التي تشبه الصهيل ويقول إنه كان يمزح.
صاحت زوجة المصور قائلة: «جميع الراقصين.» فاستدرت بتلقائية نحوها وتبعتها إلى وراء الستائر. وبعد لحظة غرق إحباطي في بحر من الامتنان؛ فالكلمات التي قالها أخذت تتردد في عقلي كما لو كانت كلمات مديح أو اعتذار، فكانت نغمة حديثه رقيقة جدا وواقعية وإقرارية وجميلة . واستقر بداخلي شعور بالسلام - كذلك الذي كان يغمرني في حلم اليقظة - أثناء التقاط الصورة، وصاحبني في الطقس البارد في طريق العودة إلى قاعات المجلس، وبقي معي ونحن نغير ملابسنا حتى عندما قالت ناعومي: «انفجر الجميع ضحكا من الطريقة التي كنت تمسكين بها رأسك أثناء الرقص، لقد بدوت كدمية مكسورة العنق. لكن لم يكن بيدك أي شيء.» كانت في مزاج يزداد سوءا لحظة بعد الأخرى، وهمست في أذني: «هل تعلمين، كل ما أخبرتك به عن دايل ماكلوفلين؟ كله كذب، كله كان تمثيلا افتعلته كي أستخرج منك أسرارك، ها ها.»
كانت الآنسة فاريس تلتقط الثياب وتطويها بشكل آلي، وكان بعض من دقيق الذرة قد انسكب على مقدمة ردائها الوردي الضارب إلى الحمرة، وبدا صدرها مقعرا كما لو أن شيئا انهار بداخله. كانت لا تكاد تلحظ وجودنا إلا عندما قالت: «اخلعن الحلي وردية الشكل من على أحذيتكن يا بنات، اتركنها أيضا؛ فكل هذا سنعيد استخدامه يوما ما.»
سرت إلى مدخل قاعة البلدية، وهناك كانت أمي تنتظر ومعها فيرن دوجرتي وأخي أوين مرتديا زي تحية العلم (كان على طلاب الصفوف الأصغر أن يقوموا بمهام غير ذات أهمية مثل تحية العلم أو المقطوعات الموسيقية التعليمية البسيطة قبل رفع الستار لعرض الأوبريت) غارسا علمه - الذي سمح له بالاحتفاظ به - في كومة من الجليد.
فقالت أمي: «ما الذي أخرك هكذا؟» وكان لديها بعض التعليقات الصغيرة الغريبة تتعلق بالتقاليد فقالت: «لقد كان الأوبريت جميلا، لكن هل أصبت بتشنجات في رقبتك؟ ذاك الصبي ويلز كان الوحيد على خشبة المسرح الذي نسي أن يخلع قبعته أثناء نشيد «ليحفظ الله الملك».»
ماذا حدث بعد الأوبريت؟ في أسبوع واحد تلاشى عن الأنظار. فكانت رؤية قطعة من أزياء الأوبريت معلقة في حجرة المعاطف في انتظار إعادتها إلى مكانها؛ تشبه رؤية شجرة عيد الميلاد مسندة إلى الشرفة الخلفية في شهر يناير وقد تحول لونها إلى اللون البني وأجزاء من الشرائط المبهرجة ملتصقة بها، وكأنها تذكار لوقت تبدو توقعاته المحمومة وما بذل فيه من مجهود الآن في غير محله. لكن الأرضية الصلبة التي يوفرها لنا السيد ماكينا كانت ثابتة تحت أقدامنا؛ فكل يوم كنا نحل ثماني عشرة مسألة حسابية كي نلحق بما فاتنا من المنهج، ونستمع باطمئنان إلى عبارات مثل: «الآن وبسبب كل هذا الوقت الذي فقدناه، لا بد أن نضع أنوفنا بين شقي الرحى.» وقد بدت تعبيرات مثل «أنوفنا بين شقي الرحى»، «أكتافنا على العجلة»، «أقدامنا على الدواسات» - وهي التعبيرات المفضلة لدى السيد ماكينا - بسذاجتها وسهولة توقعها؛ مرضية لنا بشكل غريب. فكنا نأخذ معنا إلى المنزل أكواما من الكتب، ونقضي وقتنا نرسم خرائط أونتاريو والبحيرات العظمى - وهي أصعب خرائط يمكن رسمها في العالم - وندرس رواية «رؤيا السير لونفال».
كانت جميع المقاعد في الفصل قد نقلت من أماكنها، وقد اتضح أن عملية إعادة ترتيب المقاعد وتغيير الجيران فكرة مثيرة للاهتمام ومحفزة. وصار فرانك ويلز يجلس الآن على الجانب الآخر من الفصل. وذات يوم جاء حارس المدرسة بسلمه الطويل وأزال شيئا كان مرئيا في أحد المصابيح المعلقة منذ عيد الهالوين. اعتقدنا جميعا أنه واق ذكري وقد ارتبط اسم دايل ماكلوفلين به، ولكن - بالقدر نفسه من الغموض وإن كان أقل خزيا - اتضح في النهاية أنه مجرد جورب قديم. كان السيد ماكينا سيقول في مثل هذا الموقف: «إنه وقت نبذ الخيالات والعودة للحديث عن الأمور المهمة.»
بالطبع لم تخب جذوة الحب بداخلي تماما مع تغير الموسم؛ وظلت أحلامي تطاردني في يقظتي، لكنها كانت مستقاة من الماضي، فلم يكن هناك شيء جديد يغذيها، كما أن تغير الموسم أحدث فارقا. فقد بدا لي أن الشتاء هو فصل الحب لا الربيع؛ ففي الشتاء يبدو العالم الذي نقطنه متقلصا، ومن ذلك الحيز الضيق المنغلق الذي نعيش فيه، قد تزدهر الآمال الرائعة. أما الربيع، فيظهر جغرافيا المكان العادية؛ الطرقات الطويلة بنية اللون، والأرصفة القديمة المتشققة تحت أقدامنا، وأغصان الشجر التي تكسرت في عواصف الشتاء والتي لا بد أن تزال عن الأفنية؛ فالربيع يظهر المسافات كما هي بالضبط.
لم يستكمل فرانك ويلز دراسته ويلتحق بالمدرسة الثانوية كما فعل معظمنا، بل حصل على وظيفة في مغسلة جوبيلي للتنظيف الجاف. في ذلك الوقت، لم تكن محال التنظيف الجاف تمتلك شاحنات؛ فكان معظم الناس يذهبون ليستلموا ملابسهم بأنفسهم، لكن قليلا من الثياب كانت توصل إلى أصحابها في منازلهم. وكانت وظيفة فرانك ويلز أن يقوم بتسليم تلك الثياب في أي مكان في المدينة، وأحيانا كنا نقابله أثناء تأدية مهام عمله في طريق عودتنا من المدرسة، فكان يلقي علينا التحية باللهجة السريعة الجادة المهذبة التي تميز رجل أعمال أو رجلا عاملا يخاطب أولئك الذين لم يدلفوا بعد إلى العالم المسئول. وكان دائما ما يحمل الثياب رافعا إياها إلى مستوى كتفيه ومرفقه مثني بالشكل المناسب لإتمام المهمة؛ فعندما بدأ العمل لم يكن قد اكتمل نمو جسده ليبلغ أقصى طول له.
ظللت لفترة - ستة أشهر تقريبا على ما أعتقد - أتردد على مغسلة جوبيلي للتنظيف الجاف بداخلي ارتجافة حماسة ضئيلة وأمل أن أراه، لكنه لم يكن يتواجد قط في المحل الأمامي، وإنما كان من يظل هناك هو صاحب المحل أو زوجته - وكلاهما صغير الجسد يبدو عليه الإرهاق ويميل لون بشرته إلى الزرقة وكأنما تركت سوائل التنظيف الجاف بقعا عليه أو وجدت طريقها إلى دمائه.
أما الآنسة فاريس فقد غرقت في نهر واواناش، عندما كنت أنا في المدرسة الثانوية؛ أي بعد ثلاث أو أربع سنوات من أوبريت «زمار هاملين»، لكنني عندما سمعت الخبر شعرت كما لو أن الآنسة فاريس كانت تعيش في زمن سحيق كانت به المشاعر ساذجة وبدائية والمفاهيم خاطئة. كنت أشعر أنها مسجونة في ذلك الزمن، وشعرت بالدهشة لأنها تمكنت من تحرير نفسها لتقترف هذا الفعل، إذا كان هذا الفعل من صنع يديها.
من الممكن - لكن ليس من المرجح على الإطلاق - أن تكون الآنسة فاريس قد ذهبت تتمشى على ضفة النهر شمالي المدينة قرب الجسر الإسمنتي، وأن تكون قد زلت فسقطت في الماء ولم تستطع إنقاذ نفسها. كما أنه ليس من المستبعد - كما أشارت جريدة «هيرالد أدفانس» لمدينة جوبيلي - أن تكون قد اختطفت من منزلها من قبل شخص أو أشخاص مجهولين وأجبرت على أن تلقي بنفسها في النهر؛ فقد تركت منزلها مساء دون أن تغلق الباب وكان النور مضاء. صدق بعض الأشخاص المتحمسين لأفكار الجرائم الصامتة الغريبة التي تحدث في الليل قصة جريمة القتل تلك. أما غيرهم فرأوا أنها حادثة، ربما بدافع طيبتهم أو خوفهم. كان هذان هما الاحتمالين اللذين يخضعان للجدل والمناقشة. أما من رأوا أنها انتحار - وقد أصبح معظم الناس في نهاية المطاف كذلك - فلم يرغبوا في الحديث عن الموضوع كثيرا، ولماذا قد يفعلون هذا؟ فلم يكن هناك ما يقال؛ فقد كان الأمر برمته لغزا لا تفسير له ولا أمل لتفسيره يقف - بكل غطرسة وتحد - واضحا وضوح السماء الزرقاء الصافية. فليس ثمة تجل للحقائق محتمل هنا.
صورة الآنسة فاريس وهي تتزلج مرتدية زي التزلج المخملي معتمرة قبعتها الأنيقة - التي تميزها دائما عن الآخرين - المصنوعة من الفراء وهي تتمايل بين المتزلجين، وصورة الآنسة فاريس والجميع يصيحون بها: «كون بريو»، ثم صورة الآنسة فاريس وهي تدهن الوجوه في قاعات المجلس، والآن صورة الآنسة فاريس وهي طافية على الماء في نهر واواناش ووجهها لأسفل - دون أي بادرة للمقاومة - قبل أن تكتشف جثتها بستة أيام؛ برغم أنه لا توجد طريقة منطقية لوضع تلك الصور بجانب بعضها - وإذا كانت الصورة الأخيرة حقيقية، أليس من الضروري أن تغير الصور الأخرى؟ - فسيتعين أن تظل تلك الصور جنبا إلى جنب الآن. «زمار هاملين»، و«أميرة الغجر»، و«التاج المسروق»، و«الفارس العربي»، و«راقصو كيري»، و«ابنة الحطاب».
من مرقدها في الماء، أرسلت الآنسة فاريس تلك الأوبريتات كفقاقيع تكونت بمجهود مضن ومرهق، ثم تحررت عرضا حتى تتلاشى وتتلاشى، لكنها ظلت تحبس بداخلها للأبد نفوسنا الطفولية التي تحولت، وحبها غير المتبادل الذي لا ينهزم.
أما السيد بويس، فكان قد ترك جوبيلي بالفعل؛ حيث إنه - كما يقول الناس - لم يشعر قط بالارتياح فيها وكأنها وطنه، ووجد وظيفة عازف للأرجن في كنيسة ومدرس للموسيقى في مدينة لندن، والتي أجد نفسي مضطرة لأفسر أنها ليست مدينة لندن الحقيقية، وإنما مدينة متوسطة المساحة غربي أونتاريو. وتردد بعد ذلك أنه استطاع أن يندمج هناك في تلك المدينة جيدا؛ حيث وجد فيها أناسا يشبهونه.
حياة الصبايا والنساء
كانت الجوانب الجليدية على طول الشارع الرئيسي شديدة الارتفاع، حتى إنه جرى حفر طريق فرعي في واحد منها بين الشارع والرصيف أمام مكتب البريد. التقطت صورة لهذا المنظر ونشرت في جريدة «هيرالد أدفانس»، التي تصدر في مدينة جوبيلي، كي يقصها الناس في جوبيلي ويرسلوها إلى أقاربهم ومعارفهم، الذين يعيشون في طقس أقل حدة في إنجلترا أو أستراليا أو تورونتو. وكان برج الساعة المبني من القرميد الأحمر يبرز فوق الجليد، ووقفت سيدتان في الطريق الفرعي لتثبتا أنه حقيقي وأن الأمر ليس خدعة. كانت هاتان السيدتان تعملان في مكتب البريد، وكانتا ترتديان معطفيهما دون أن تغلقا أزرارهما، إحداهما كانت فيرن دوجرتي، مستأجرة لدى أمي.
قصت أمي تلك الصورة من الجريدة؛ لأن فيرن بها، وأيضا لأنها قالت إنني يجب أن أحتفظ بها لأريها لأطفالي.
وقالت: «إنهم لن يروا شيئا كهذا قط في أيامهم؛ ففي ذلك الوقت سيجمع الجليد في ماكينات وسوف ... يتبدد، أو سيعيش الناس تحت قباب شفافة يمكن التحكم في درجة حرارتها، ولن تعود هناك فصول مناخية.»
كيف كانت تجمع كل تلك المعلومات المزعجة عن المستقبل؟ فقد كانت تتطلع إلى زمن يستبدل فيه بمدن مثل جوبيلي قباب وأبنية على شكل فطر عيش الغراب مصنوعة من الخرسانة، ويكون بها طرق جوية للتنقل من قبة إلى أخرى، وسيغدو الريف محاطا بأشرطة عريضة هائلة من الأرصفة وتتغير ملامحه تماما. لن يظل شيء على حاله كما نعرفه اليوم، لن تكون هناك مقلاة، ولا دبابيس شعر، ولا صفحات مطبوعة، ولا أقلام حبر. لم تترك أمي شاردة ولا واردة إلا تخيلت كيف ستكون في المستقبل.
وقد أصابني حديثها عن أطفالي بالدهشة أيضا؛ لأنني لم أنتو أبدا أن أنجب أي أطفال. لقد كان ما أسعى وراءه هو المجد، فكنت أسير في طرقات جوبيلي كشخص منفي أو جاسوس لا أدري من أي اتجاه ستأتيني الشهرة، ولا متى، لكني كنت واثقة حتى النخاع أن هذا سيحدث. ولقد كانت أمي تشاركني تلك الثقة، لقد كانت حليفتي، لكنني الآن لن أناقش الأمر ثانية معها لأنها لم تكن كتومة، كما أن توقعاتها اتخذت منحى سيئا متطرفا.
فيرن دوجرتي، ها هي صورتها في الجريدة تمسك بدلال ياقة معطفها الشتوي الأنيق، والذي أسعدها الحظ بأنها ارتدته ذاك اليوم وهي ذاهبة إلى العمل. وقالت: «إنني أبدو في حجم بطيخة وأنا مرتدية هذا المعطف.»
كان السيد تشامبرلين يطالع الصورة معها فقرص ذراعها فوق تجاعيد معصمها المستديرة الشكل. «قشرة صلبة، بطيخة صلبة عجوز.»
قالت فيرن: «لا تكن شريرا، إنني أعني ما أقول.» كان صوتها صغيرا جدا بالنسبة لامرأة ضخمة مثلها، صوتا حزينا منكسرا لكنه مع ذلك خفيف الظل وممتع. فبدا أن كل تلك الخصال التي اكتسبتها أمي لخوض معركتها مع الحياة - الحدة والذكاء والتصميم والانتقائية - تقف على طرفي النقيض من خصال فيرن التي كانت شكاءة، بطيئة الحركة وتتسم بالطيبة اللامبالية. وكانت بشرتها داكنة اللون - ليست بنية فاتحة وإنما تبدو عليها طبقة من الغبار - باهتة، بها بقع بنية في حجم العملات؛ فكانت بشرتها تبدو كأرض مرقطة أسفل شجرة في يوم مشمس. وكانت أسنانها مربعة بيضاء ناتئة بعض الشيء تتخللها فراغات صغيرة. وقد منحتها تلك الصفات، التي لم يكن أي منها جذابا في حد ذاته، مظهرا لعوبا حسيا.
كان عندها مبذل من الساتان لونه ياقوتي، رداء جميل بحق، يبرز حين تجلس نتوءات معدتها وفخذيها. كانت ترتديه صباح كل يوم أحد، عندما تجلس في غرفة الطعام في بيتنا تدخن وتحتسي الشاي حتى يحين وقت الذهاب للكنيسة. كان ذلك المبذل ينفرج عند ركبتيها فيظهر من تحته قميص نوم ضيق باهت اللون مصنوع من الحرير الصناعي. لم أكن أحتمل ارتداء قمصان النوم؛ لأنها تلتف وتتعقد حول الجسد أثناء النوم، كما أنها تترك منطقة بين الساقين مكشوفة. عندما كنت أنا وناعومي صغيرتين، كنا نرسم صورا لرجال ونساء لهم أعضاء جنسية ضخمة مخيفة ، وكنا نرسم الأعضاء الجنسية لدى النساء بدينة ومنتفشة بشعر رفيع حاد كالإبر، تشبه ظهر حيوان الشيهم. ومن ثم، في حال ارتداء قمصان النوم، لا يستطيع المرء تجاهل إدراكه لتلك الكتلة الكريهة التي كانت البيجامات تحتويها وتحجبها باحتشام. وكانت أمي أثناء ذلك الإفطار في كل يوم أحد ترتدي بيجامات واسعة مخططة ورداء كيمونو باهتا لونه بني ضارب إلى الحمرة برباط مزين، وخفين عبارة عن جوربين صوفيين أسفلهما نعل محاك بهما.
كانت أمي وفيرن دوجرتي صديقتين برغم اختلافاتهما، فكانت أمي تقدر في الناس خبرتهم بالعالم، والاحتكاك بأي حياة بها قدر من التعلم أو الثقافة، وأخيرا أية إشارة لكون المرء مثيرا للحيرة في جوبيلي. لم تقض فيرن حياتها وهي تعمل في مكتب البريد؛ ففي وقت من الأوقات درست الغناء في معهد الموسيقى الملكي، وتغني حاليا في جوقة الكنيسة المتحدة؛ فتغني في أحد عيد الفصح «أعرف أن مخلصي يعيش»، وفي الأعراس كانت تغني: «من أجل»، و«عدني»، و«الصوت الذي يتنفس فوق عدن». وفي عصر أيام السبت، حيث يغلق مكتب البريد أبوابه، تستمع هي وأمي إلى بث أوبرا متروبوليتان. وكان لدى أمي كتاب عن الأوبرا فكانت تخرجه وتتبع القصة محددة الأغنية الفردية، والتي تكون لها ترجمة في الكتاب. كانت تطرح أسئلة على فيرن، لكن فيرن لم تكن تعرف الكثير عن الأوبرا كما قد يتوقع المرء، بل إنها كانت أحيانا يختلط عليها الأمر فلا تعرف أي أوبرا كانوا يستمعون إليها. لكنها كانت أحيانا تميل للأمام وهي تسند مرفقيها على الطاولة، غير مرتخية وإنما تسند جسدها إلى الطاولة بحذر وتغني بسخرية وازدراء مقلدة الكلمات الأجنبية: «دو، داا، دو؛ دا، دو؛ دا دو، دو.» دائما ما كانت قوة وجدية صوتها في الغناء تصيبنا بالدهشة. لم يكن يحرجها أن تطلق العنان لهذه العواطف الجياشة الهائلة التي لم تكن تلقي لها بالا في الحياة. «هل كنت تخططين لأن تصبحي مغنية أوبرا؟» «كلا، لم أخطط إلا لأن أكون السيدة التي تعمل في مكتب البريد. الأمر هو أنني خططت ولم أخطط ؛ فلم يكن لدي الطموح اللازم للعمل، للتدريب. أعتقد أن تلك كانت مشكلتي، كنت دائما أفضل أن أمضي وقتا ممتعا.» كانت ترتدي في عصر أيام السبت بنطالا واسعا وصندلا يظهر أصابع قدميها القصيرة المكتنزة المطلية. وكانت تسقط رماد السجائر على بطنها التي - لأنها لا ترتدي حزاما - تبرز للأمام وكأنها حامل. وتابعت هي بتفكر: «التدخين يدمر صوتي.»
وبرغم أن أسلوب فيرن في الغناء كان محبوبا، فإنه في جوبيلي كان يعد غناء تفصله شعرة واحدة عن التباهي، وأحيانا كان الأطفال يصيحون ويغنون بصورة كريهة خلفها في الشوارع. وكانت أمي ترى هذا اضطهادا؛ إذ إنها كانت على استعداد لبناء قضايا كهذه من أوهن الأدلة؛ فكانت تعامل الزوجين اليهوديين اللذين يديران متجرا لبيع فائض متعلقات الجيش، أو ذاك الصيني الصامت ضئيل الحجم الذي يعمل بالمغسلة؛ برفق مثير للحيرة، وتقدم لهم عروض صداقة بصوت مرتفع وبطيء، لكن لم يكن أي منهم يفهمها. أما فيرن فلم تكن مضطهدة، وأنا متأكدة من هذا، رغم أن عماتي كبيرات السن - عمات أبي - كن ينطقن اسمها بطريقة غريبة، كما لو كان بالاسم بذرة كبيرة عليهن امتصاصها ثم بصقها. أما ناعومي فقد قالت لي: «كان لفيرن دوجرتي هذه طفل رضيع.»
فقلت بلهجة دفاعية بصورة تلقائية: «لم تنجب أي أطفال.» «بل كان لها طفل، لقد أنجبته عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها؛ ولهذا طردت من معهد الموسيقى.» «وما أدراك أنت؟» «أمي تعرف.»
كان لوالدة ناعومي جواسيس في كل مكان يعلمونها بكل حالات الولادة القديمة وحالات الوفاة. فخلال وظيفتها كممرضة تتنقل من منزل لآخر، كانت تشبه أنبوب شفط مختفيا تحت الماء، تشفط ما لا يمكن لأحد آخر أن يصل إليه. أحسست أنني لا بد أن أجادل ناعومي في هذا لأن فيرن تسكن لدينا، وكانت ناعومي دائما ما تتكلم عمن في بيتنا (فكانت تقول بتلذذ مقيت: «إن أمك ملحدة.» فكنت أقول لها: «لا، بل هي لاأدرية.» وبعد كل ما أقدمه من تفسير منطقي مفعم بالأمل، كانت تردد: «لا فارق، لا فارق».) لم أستطع أن أثأر منها؛ إما ضعفا مني أو جبنا، بالرغم من أن والدها كان ينتمي إلى مذهب ديني غريب مشكوك فيه، وكان يهيم على وجهه في طرقات المدينة يتحدث عن النبوءات دون أن يضع أسنانه الصناعية.
بدأت أطالع صور الأطفال في الجريدة أو في المجلات عندما تكون فيرن بالقرب مني قائلة: «يا لهم من أطفال رائعين!» ثم أراقبها عن كثب في محاولة لأن استشف شعورا بالندم أو لحظة تغرق فيها في اشتياق أمومي؛ فعلت هذا كما لو أنها يوما ما ستجهش في بكاء حار، وتفرد ذراعيها الخاويتين وتشعر بطعنة في قلبها عندما ترى إعلانا عن بودرة للأطفال أو لحم ناعم مسحوق للأطفال.
بل والأكثر من هذا أن ناعومي قالت إن فيرن فعلت مع السيد تشامبرلين ما يفعله المتزوجون بالضبط.
كان السيد تشامبرلين هو من أتى بفيرن كي تسكن عندنا. فقد استأجرنا البيت من والدته التي تعيش في مستشفى مقاطعة واواناش منذ ثلاث سنوات، وهي كفيفة وطريحة الفراش، وكانت والدة فيرن في المستشفى نفسه، بل إنهما قد تعارفا هناك في الأساس أثناء أحد أيام الزيارة. كانت تعمل وقتها في مكتب بريد مدينة بلو ريفر، وكان السيد تشامبرلين يعمل في محطة إذاعة جوبيلي، وكان يقطن في شقة صغيرة في البناية نفسها؛ إذ كان لا يرغب في تكبد عناء امتلاك بيت. كانت أمي تتحدث عنه بصفته «صديق فيرن» بنبرة توضيحية، كما لو أنها تقصد أن تؤكد على أن كلمة صديق في هذه الحالة لا تعني أكثر من المعنى الذي تحمله.
وقالت: «إنهما يستمتعان بصحبة بعضهما، ولا يلقيان بالا لأي هراء.»
وتقصد بالهراء الرومانسية، الابتذال، الجنس.
أردت أن أرى وقع ما قالته ناعومي على أمي. «قد تكون فيرن والسيد تشامبرلين متزوجين.» «ماذا؟ ماذا تعنين؟ من قال هذا؟» «الكل يعرف هذا.» «أنا لا أعرف بذلك. ولا أحد يعرف ذلك. لم أسمع أحدا يقوله أمامي. إنها ناعومي، تلك هي من قالت هذا، أليس كذلك؟»
لم تكن ناعومي محبوبة في بيتي وما كنت أنا محبوبة في بيتها. فكل منا كانت متهمة بأنها تحمل بذور فساد ما؛ بذور الإلحاد في حالتي، وبذور الانشغال بالجنس في حالة ناعومي. «إنها العقليات القذرة المستشرية في هذه المدينة التي لن تترك أحدا في حاله قط.»
وختمت أمي حديثها مضفية لمحة من المنطق: «إذا لم تكن فيرن دوجرتي امرأة صالحة، فهل كنت تظنين أني سأتركها تعيش في بيتي؟»
ذلك العام - عامنا الأول في المدرسة الثانوية - كنت أنا وناعومي ننخرط في مناقشات شبه يومية عن الجنس، لكننا كنا نستخدم نبرة واحدة في الحديث - ومن ثم كانت هناك مستويات من الصراحة لا نصل إليها قط - وهي نبرة تهكمية ازدرائية وفضولية. قبل عام، كنا نحب أن نتخيل أنفسنا ضحايا للعاطفة، لكننا الآن صرنا متفرجتين، أو على أقصى تقدير مجربتين باردتين ومرحتين. كان معنا كتاب وجدته ناعومي في خزانة ملابس والدتها القديمة، أسفل البطانيات الأكثر أناقة لديها، والتي تحتفظ بها مع كرات النفتالين.
قرأنا بصوت عال: يجب توخي الحذر خلال الاتصال الأولي، وخاصة إذا كان العضو الذكري ذا حجم غير معتاد. وقد يكون استعمال الفازلين فعالا في هذه الحالة.
فقلت معلقة: «أنا عن نفسي أفضل الزبدة، إنها أشهى.»
ثم واصلنا القراءة: يلجأ إلى الجماع بين الفخذين عادة في المراحل الأخيرة من الحمل. «أتعنين أنهم يظلون يمارسون الجنس حتى في هذه المرحلة؟»
قد يلجأ إلى وضع الإيلاج من الخلف إذا كانت الأنثى بدينة للغاية.
قالت ناعومي: «فيرن، هكذا يفعلها مع فيرن، إنها بدينة للغاية.» «أف! هذا الكتاب أصابني بالغثيان.»
قرأنا أن العضو الذكري حين ينتصب يبلغ الأربع عشرة بوصة طولا، بصقت ناعومي العلكة التي كانت تمضغها وبرمتها بين راحتيها ماطة إياها أطول وأطول، ثم أمسكتها من أحد طرفيها وتركتها تتدلى في الهواء قائلة: «السيد تشامبرلين، محطم الأرقام القياسية.»
وبعدها كلما جاءت إلى منزلي وتصادف وجود السيد تشامبرلين، كانت إحدانا أو كلانا إذا كنا نمضغ العلكة نخرجها من فمينا ونبرمها بهذه الطريقة، ثم نتركها تتدلى في الهواء بكل براءة، حتى إن الكبار قد لاحظوا ذلك، وقال السيد تشامبرلين: «يا لها من لعبة تلك التي تلعبانها!» وقالت أمي: «توقفا عن ذلك، فهذه قذارة» (وكانت تقصد العلكة). أخذنا نراقب فيرن والسيد تشامبرلين؛ بحثا عن أي علامات شغف أو خلاعة أو نظرات شهوانية أو يده تحت تنورتها، لكننا لم نجد أي شيء. وكان دفاعي عنهما حقيقيا بأكثر مما كنت أتمنى؛ لأنني - مثل ناعومي - كنت أحب أن أمتع نفسي بأفكار عنهما تتضمن مجونا وتمرغا في فراش يحدث أصواتا (قالت ناعومي إن هذا كان يحدث في الكبائن السياحية كل مرة كانا يذهبان فيها في رحلة لمشاهدة البحيرة). لم يكن الاشمئزاز يطرد شعوري بالاستمتاع في أفكاري، بل إنهما كانا شعورين متلازمين.
كان السيد تشامبرلين - واسمه آرت تشامبرلين - يقرأ الأخبار في إذاعة جوبيلي، وكان أيضا يتولى إذاعة الأخبار الخطيرة والهامة. وكان له صوت احترافي جميل، صوت مشجع وكأنه شوكولاتة جميلة تنساب لتخرج من آلة الأرجن كأنها موسيقى وهو يذيع برنامج «في ذكرى»، والذي يذاع برعاية مؤسسة محلية لتقديم خدمات تنظيم الجنازات في عصر يوم الأحد. وكان أحيانا يجعل فيرن تغني في هذا البرنامج أغاني دينية مثل: «أتساءل وأنا أتجول»، وأغاني غير دينية ولكن حزينة مثل: «نهاية يوم مثالي». لم يكن من الصعب أن يتحدث المرء عبر إذاعة جوبيلي، حتى أنا قد ألقيت يوما قصيدة فكاهية في برنامج «حفل الصغار صباح كل يوم سبت»، ولعبت ناعومي مقطوعة «أجراس القديسة ماري» على البيانو. وكل مرة تفتح فيها هذه الإذاعة، هناك فرصة جيدة أنك ستسمع صوت شخص مألوفا، أو على الأقل تسمع اسم شخص تعرفه في الإهداءات. («نهدي هذه المقطوعة للسيد كارل أوتيس وزوجته بمناسبة ذكرى زواجهما الثامنة والعشرين، وهي مهداة من ابنهما جورج، وزوجته إيتا، وأحفادهما الثلاثة: لورين ومارك ولويس، وكذلك أخت السيدة أوتيس حرم السيد بيل تاونلي القاطنة في طريق بورترفيلد».) بل إنني قد اتصلت بالإذاعة يوما وأهديت أغنية للعم بيني في عيد ميلاده الأربعين، لكن أمي رفضت أن يذكر اسمها في الإذاعة. وكانت تفضل الاستماع إلى إذاعة تورونتو، والتي كانت تذيع أوبرا المتروبوليتان، وتذيع الأخبار دون إعلانات ، وتذيع كذلك برنامج مسابقات تتنافس فيه هي مع أربعة رجال مهذبين، يتضح من أصواتهم أن لهم لحى صغيرة مدببة.
وكان السيد تشامبرلين يقرأ الإعلانات أيضا، وكان يفعل ذلك باهتمام جم ناصحا بشراء نقاط أنف «فيك» من صيدلية كروس، وتناول العشاء يوم الأحد في فندق برونزويك، والتعاقد مع «لي ويكيرت وأبنائه» للتخلص من الحيوانات النافقة. وكانت فيرن تحييه قائلة: «كيف حال الحيوانات النافقة أيها الجندي؟» فيصفعها برفق على ردفها قائلا: «سأخبرهم أنك تحتاجين لخدماتهم.» فتقول فيرن دون حقد: «يبدو لي أنك تحتاجها أكثر مني.» فيجلس هو على الكرسي ويبتسم لأمي لأنها تصب له الشاي. لم تكن عيناه الخضراوان المائلتان إلى الزرقة تحملان أي تعبير، فقط ذاك اللون الذي تودين أن يكون لون فستانك، وكان دائما مرهقا.
كان السيد تشامبرلين - بيديه بيضاء اللون وأظافره المقلمة بشكل مستقيم، وشعره الخفيف الممشط بعناية الذي يتحول إلى اللون الرمادي، وجسده الذي لم يتعارض أبدا مع ثيابه بل بدا وكأنه مصنوع من الخامات نفسها؛ لذا فربما لا يكون كل جسده سوى قميص وربطة عنق وحلة - غريبا بالنسبة لي كرجل. حتى العم بيني الذي كان نحيلا للغاية وضيق الصدر وشعبه الهوائية مدمرة، كانت له نظرات أو طريقة في التحرك تنذر بعنف محتمل، بأمر قد يخلق اضطرابا، وكان أبي كذلك أيضا رغم أنه كان معتدلا جدا في سلوكياته. لكن هذا الشعور كنت أشعر به تجاه السيد تشامبرلين - الذي كان ينفض سيجارته الجاهزة في منفضة السجائر - الذي شارك في الحرب وكان في قوة المدرعات. إذا كان أبي هنا عندما يأتي تشامبرلين لزيارتنا - أو لزيارة فيرن في الواقع، لكنه لم يجعل ذلك واضحا - كان يسأله عن الحرب. لكن كان من الواضح أنهما كانا يريان الحرب من منظورين مختلفين؛ فأبي كان يراها مخططا كبيرا مقسما إلى حملات منفصلة لها أهداف محددة ربما تفشل أو تنجح. أما السيد تشامبرلين فقد كان يراها مجموعة من القصص ليس لها غاية محددة. وكان دائما ما يجعل من قصصه قصصا مضحكة.
فقد حكى لنا - على سبيل المثال - عن المرة الأولى التي خاض فيها معركة، وعن مدى الارتباك الذي كان يسود المكان؛ فبعض الدبابات توغلت في إحدى الغابات ثم استدارت عائدة من جهة خطأ؛ من الجهة التي كان زملاؤهم يتوقعون قدوم الألمان منها، وهكذا كانت أولى الطلقات التي أطلقت تجاه واحدة من دباباتهم هم.
قال السيد تشامبرلين دون اكتراث أو أسف: «لقد فجروها!» «هل كان بتلك الدبابة جنود؟»
نظر إلي بدهشة مستهزئة كما يفعل دوما عندما أقول أي شيء، فيشعر الآخرون كما لو أني أحدثه وأنا أقف على رأسي، «لن أندهش كثيرا إذا كان بها جنود.» «إذن هل ... قتلوا؟» «شيء ما حدث لهم، لكنني لم أرهم بعد ذلك إطلاقا، يا إلهي!»
قالت أمي في صدمة ولكن أقل ثقة في نفسها عما هو مألوف: «أصيبوا بنيران رفاقهم، يا له من أمر فظيع!»
قال أبي بهدوء تشوبه بعض الحدة كما لو أن الاعتراض على أي من هذه الأمور يظهر سذاجة أنثوية: «تحدث أشياء مثل هذه في الحرب.» أما السيد تشامبرلين فقد اكتفى بالضحك. واستمر يروي ما فعلوه في آخر أيام الحرب. لقد فجروا المطبخ، فتحوا النار عليه في آخر حلقة لهم من المرح الناري.
قالت فيرن: «يبدو أنكم كنتم مجموعة من الأطفال، ويبدو أنك لم تكن ناضجا بما يكفي لتخوض حربا، ويبدو أنك قضيت وقتا ممتعا تسيطر عليه الحماقة.» «الوقت الممتع هو ما أبحث عنه دوما، أليس كذلك؟»
بمجرد أن قال إنه كان في فلورنسا - وهو الأمر الذي لم يكن مدهشا بما أنه حارب في إيطاليا - اعتدلت أمي في جلستها، بل إنها قفزت قفزة صغيرة في مقعدها وارتجفت وهي شديدة الانتباه. «هل كنت في فلورنسا؟»
رد السيد تشامبرلين دون حماس: «نعم يا سيدتي.»
كررت أمي بمزيج من الارتباك والسعادة: «في فلورنسا، كنت في فلورنسا؟» خطر ببالي أن لدي فكرة عما تشعر به، لكني أملت ألا تفصح أكثر من اللازم. فقالت: «لم يدر بخلدي ذلك، طبعا كنت أعرف أنك كنت في إيطاليا، لكن هذا يبدو غريبا ...» كانت تعني أن إيطاليا تلك التي كنا نتحدث عنها والتي دارت بها رحى الحرب هي المكان نفسه الذي كتب سطور التاريخ، المكان نفسه الذي عاش به الباباوات القدامى، وعاشت به عائلة ميديتشي، وعاش به ليوناردو، وعائلة تشينتشي، بلد لوحة أشجار السرو، وبلد دانتي أليجييري.
كان من الغريب أن أمي - مع كل حماسها للمستقبل - كانت شديدة الاهتمام بالماضي. فهرعت إلى غرفة الاستقبال وعادت ومعها ملحق الموسوعة الخاص بالفنون والعمارة، والمليء بصور تماثيل ولوحات ومبان ومعظمها مصور في ضوء غائم هادئ رمادي كلون المتاحف.
فتحت الموسوعة على الطاولة أمامه وقالت: «ها هي، ها هي فلورنسا، تمثال داود لمايكل أنجلو، هل رأيته؟»
تمثال رجل عار، يتدلى عضوه الذكري المرمري منه كي ينظر إليه الجميع كبتلة زهرة زنبق متدلية. من غير أمي بصرامتها وبراءتها الشديدة تعرض صورة كهذه أمام رجل، أمامنا جميعا؟ انتفخ فم فيرن وهي تحاول أن تكتم ضحكتها. «كلا، لم يتسن لي أن أراه؛ فالمكان هناك يعج بالتماثيل، هذا مشهور، وذاك مشهور. أينما نظرت وجدت واحدا منها.»
رأيت أنه لم يكن شخصا يمكن التحدث معه في أمور كهذه، لكن أمي واصلت كلامها. «لكن لا بد أنك رأيت الأبواب البرونزية؟ الأبواب البرونزية العظيمة؟ لقد استغرق الفنان الذي صنعها حياته كلها في هذا العمل. انظر إليها، إنها هنا. ماذا كان اسمه؟ جيبرتي، جبرتي، لقد استغرقت حياته كلها.»
بعض الأشياء أقر السيد تشامبرلين بأنه رآها، والبعض الآخر قال إنه لم يره. نظر إلى الكتاب بقدر معقول من الصبر ثم قال بعد ذلك إنه لم يهتم كثيرا بإيطاليا. «ربما كانت إيطاليا بلدا جميلا، لكن المشكلة كانت في الإيطاليين.»
قالت أمي بأسف: «هل وجدتهم منحلين؟» «منحلين، لا أدري، لا أدري كيف كانوا، لم يكونوا يبالون بشيء؛ ففي شوارع إيطاليا، جاءني رجل وعرض علي أن يبيعني ابنته. كان هذا يحدث طوال الوقت.»
فقلت وأنا أضع على وجهي بسهولة قناع البراءة البسيط والجريء: «لماذا يريد بيع الفتاة، هل ستباع كجارية؟» «شيء من هذا القبيل.» قالتها أمي وهي تغلق الكتاب متخلية عن مايكل أنجلو والأبواب البرونزية.
قال السيد تشامبرلين باشمئزاز، والذي بدا على وجهه أنه مشوب بمسحة احتيال: «صبايا في عمر ديل، وبعضهن حتى لم يصلن إلى عمرها.»
قالت فيرن: «إنهن يبلغن مبكرا في ذاك المناخ الحار.» «ديل، خذي هذا الكتاب بعيدا.» كانت النبرة التحذيرية في صوت أمي واضحة كصوت رفرفة جناح طائر يحلق.
وقد سمعت تلك النبرة، ولم أعد إلى حجرة الطعام مرة أخرى، وإنما صعدت إلى الطابق العلوي، وخلعت ملابسي ثم ارتديت مبذل أمي الحريري الأسود المزين بمجموعة من الزهور الوردية والبيضاء. كانت هدية غير عملية لم ترتدها أبدا. نظرت إلى المرآة الثلاثية في غرفة أمي بتحد وقشعريرة تسري في جسدي. سحبت طرفي المبذل عن كتفي ووضعتهما فوق نهدي، اللذين كانا كبيرين بما فيه الكفاية ليناسبا حجم الأقماع الورقية العريضة التي توضع في أطباق المثلجات. كنت قد أضأت المصباح بجانب منضدة الزينة، فخرج منه ضوء وديع دافئ من خلال قوس من زجاج بلون بني ضارب إلى الصفرة، أكسب بشرتي نوعا من اللمعان. نظرت إلى جبهتي العالية المستديرة وبشرتي ذات النمش الوردي ووجهي الذي يبدو بريئا كبيضة، واستطاعت عيناي أن تغيرا ما أراه، أن تجعلا مظهري خبيثا وناعما، وأن تغيرا شعري البني الفاتح الناعم كشجرة مقلمة وتحيلاه إلى شعر متموج كثيف يميل إلى اللون الذهبي أكثر منه إلى اللون البني. كان صوت السيد تشامبرلين يتردد في ذهني - وهو يقول صبايا في عمر ديل - ويفعل بي ما تفعله لمسة الثوب الحريري على جلدي، يحيطني، يجعلني أشعر بأنني في خطر، بأنني مرغوبة. فكرت في الصبايا في فلورنسا، في الصبايا في روما، صبايا في سني يمكن لرجل أن يشتريهن، بعد أن ينبت ذلك الشعر الإيطالي الأسود في إبطهن، وعلى زوايا أفواههن، «إنهن يبلغن مبكرا في ذاك المناخ الحار.» صبايا كاثوليكيات. رجل يدفع لك نقودا كي تتركيه يضاجعك. ماذا قال؟ هل خلع عنك ملابسك أم كان ينتظر أن تفعلي ذلك بنفسك؟ هل خلع سرواله أم اكتفى بأن فتح سحابه وأخرج عضوه الذكري؟ كانت مرحلة انتقالية، جسرا بين ما هو سلوك ممكن ومعروف وعادي، وما هو فعل سحري حيواني لا أستطيع تخيله. ولا يوجد شيء في كتاب والدة ناعومي عن هذا.
كان في جوبيلي بيت به ثلاث من العاهرات، ذلك إذا ما حسبنا السيدة ماكويد التي تدير هذا البيت وكانت على الأقل في الستين من عمرها. كان هذا البيت يقع في الطرف الشمالي من الشارع الرئيسي في ساحة مزروعة بنباتات الهندباء البرية والخطمي، إلى جوار محطة الخدمات البريطانية الأمريكية. في الأيام المشمسة كانت المرأتان الشابتان أحيانا تجلسان على كرسيين قماشيين، وكنت أنا وناعومي قد مررنا أكثر من مرة بهذا المكان ورأيناهما ذات مرة. كانت كل منهما ترتدي ثوبا من قماش قطني ملون وخفين، وأرجلهما البيضاء كانت عارية، وكانت إحداهما تقرأ جريدة «ستار ويكلي»، فقالت لي ناعومي إن اسمها بيجي، وإنها ذات ليلة في حمام الرجال في قاعة رقص «جاي لا» وافقت على تقديم خدماتها لصف من الرجال وهم واقفون. هل هذا ممكن؟ (سمعت هذه القصة ثانية بعدها، لكن هذه المرة كانت السيدة ماكويد بنفسها هي التي أدت أو تحملت هذا العمل البطولي، ولكن لم يكن هذا في قاعة «جاي لا»، وإنما مستندة على الجدار الخلفي لمقهى «بلو آول كافيه».) تمنيت لو رأيت ملامح بيجي هذه بشكل أوضح فلم أر سوى عدة خصلات من شعر بني ناعم مموج تتدلى فوق الجريدة، تمنيت لو رأيت وجهها. توقعت أن أرى شيئا ما؛ هالة كريهة من الفساد، غازا كريها ينبعث منها. اندهشت لكونها تقرأ جريدة وأن الكلمات المكتوبة تعني لها شيئا مثلما تعني لنا نحن، وأنها تأكل وتشرب، وأنها لا تزال بشرا. كنت أتخيل أنها تجاوزت الطبيعة الإنسانية إلى حالة من الفسوق التام، على النقيض التام من مراتب القديسين، لكن مثلهم مجهولة ومعزولة. ما كان يبدو عاديا هنا - جريدة ستار ويكلي، والستائر المنقطة الملفوفة إلى الخلف، ونبات الغرنوقي الذي ينمو باعثا على الأمل من الوعاء القصديري في نوافذ بيت العاهرات - كله بدا خداعا متعمدا ومزعجا؛ قشرة من المظهر العادي التي تغطي الخزي ، التي تغطي المجون والاستغراق في الشهوات.
أخذت أدلك فخذي عبر الحرير البارد، لو كنت ولدت في إيطاليا لكان جسدي الآن قد استخدم وتكدم وأدرك كل شيء، دون أن تكون غلطتي. حملتني فكرة العهر الذي لا جريرة لي فيه خارج الواقع للحظة، فكرة مغرية ومريحة لأنها كانت نهائية وتقضي على الطموح والقلق.
بعدها قمت بتأليف عدة حلقات غير مكتملة من أحلام اليقظة. تخيلت أن السيد تشامبرلين رآني في مبذل أمي الأسود ذي الزهور وكان منسدلا من على كتفي مثلما رأيت نفسي في المرآة، ثم اقترحت أن أخلع الثوب وأتركه يراني عارية تماما. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ يجب أن أتخلص من الآخرين الذين يتواجدون عادة معنا في المنزل. أرسلت أمي خارج البيت كي تبيع موسوعاتها، ونفيت أخي إلى المزرعة. لا بد أن يكون هذا في إجازة الصيف عندما أكون في البيت لا أذهب للمدرسة، ولا تكون فيرن قد عادت بعد من مكتب البريد. ثم أنزل أنا إلى الطابق السفلي في عصر يوم قائظ لا أرتدي شيئا سوى هذا الثوب الحريري. أشرب كوبا من الماء أمام الحوض دون أن ألحظ وجود السيد تشامبرلين الذي يجلس بهدوء في الحجرة ... وماذا بعد؟ كلب غريب - يظهر في بيتنا لأول مرة لهذه الغرض فحسب - يقفز علي ويجذب الثوب عن جسدي، أو ربما أستدير بشكل ما فيشتبك الثوب بمسمار في أحد المقاعد وينزلق عن جسدي ويسقط عند قدمي، المهم أن يحدث هذا دون قصد، دون مجهود من جانبي، وبالتأكيد دون أي مجهود من جانب السيد تشامبرلين. لكن حلمي انتهى عند نقطة التعري هذه ولم يتخطها. في الواقع، غالبا لم يكن يصل إلى هذه النقطة بل يتوقف عند التفاصيل المبدئية ويعززها ويجعلها متماسكة، لكن لم يتمكن عقلي من تعزيز لحظة التعري أمام أحد، فكانت تسطع دائما كوميض ضوء مبهر. لم أتخيل قط رد فعل السيد تشامبرلين، بل إنني لم أتصوره هو بوضوح. كان وجوده أساسيا لكنه ضبابي، يقبع في إحدى زوايا حلم اليقظة بلا ملامح لكنه مع هذا قوي ، يصدر أزيزا كهربائيا كمصباح فلورسنت أزرق. •••
ذات مرة رآنا والد ناعومي بينما كنا نسرع أمام باب غرفته في طريقنا للطابق السفلي. «تفضلا أيتها الآنستان، وشرفاني بزيارتكما قليلا.»
كنا في فصل الربيع، وكان مساء عاصفا غابرا، ورغم هذا كان يحرق بعض القمامة في موقد معدني مستدير في غرفته؛ مما جعل الغرفة حارة وكريهة الرائحة. وكان قد غسل جواربه وثيابه الداخلية وعلقها على حبل ممدود على طول الجدار. كانت ناعومي ووالدتها تعاملانه معاملة سيئة، وعندما لا تكون والدة ناعومي بالمنزل كانت ناعومي تفتح علبة مكرونة اسباجتي وتضعها بإهمال في طبق وتقدمها له كعشاء، فكنت أقول لها: «ألن تقومي بتسخينها؟» فترد قائلة: «وعلام العناء؟ إنه لن يلاحظ الفارق على أية حال.»
وعلى أرضية غرفته كانت هناك رزم من كتيبات مطبوعة على ورق صحف، أظن أنها تتعلق بالدين الذي يعتنقه، وكانت ناعومي أحيانا تضطر لأن تحضرها من مكتب البريد. ونظرا لأنها كانت تحتذي بوالدتها، فقد كانت تحمل مقتا لمعتقداته الدينية، وتقول: «كلها تنبؤات وتنبؤات، لقد تنبئوا بنهاية العالم ثلاث مرات حتى الآن.»
جلسنا على حافة السرير الذي لم يكن عليه مفرش، وإنما بطانية قذرة خشنة، وجلس هو على كرسيه الهزاز قبالتنا. كان رجلا عجوزا، وكانت والدة ناعومي تمرضه قبل أن تتزوجه. تتخلل عباراته لحظات صمت طويلة لا ينسى فيها محدثه، لكنه يركز عينيه الشاحبتين على جبهته كما لو كان يتوقع أن يجد بقية أفكاره مكتوبة عليها. «أقرأ في الكتاب المقدس.» قالها بلهجة ودودة ودون داع وبأسلوب من اختار ألا يرى الاعتراضات التي يعلم أنها موجودة. ثم فتح إنجيلا كبيرا مطبوعا على صفحة تحمل علامة، وشرع يقرأ بصوت عجوز حاد، وكان يتوقف وقفات غريبة ويعاني صعوبات في التعبير.
حينئذ يشبه ملكوت السماوات بعشر عذارى أخذن مصابيحهن وانطلقن لملاقاة العريس.
وكانت خمس منهن حكيمات، وخمس جاهلات. فأخذت الجاهلات مصابيحهن دون زيت.
وأما الحكيمات، فأخذن مع مصابيحهن زيتا وضعنه في أوعية. وإذ أبطأ العريس، نعسن جميعا ونمن. وفي منتصف الليل، دوى الهتاف: ها هو العريس آت ؛ فانطلقن لملاقاته!
فنهضت العذارى جميعا وجهزن مصابيحهن. وقالت الجاهلات للحكيمات: أعطيننا بعض الزيت من عندكن، فإن مصابيحنا تنطفئ!
عندها اتضح بالطبع - فقد تذكرت أني قد سمعت هذا الكلام من قبل - أن العذارى الحكيمات لم يعطين الأخريات أي مقدار من الزيت خشية ألا يتبقى لهن ما يكفي، وستذهب الجاهلات كي يبتعن بعض الزيت فيفوتهن مقدم العريس ويستبعدن. كنت دائما أظن أن هذه الحكاية - التي لم ترق لي - تتحدث عن الحكمة والاستعداد أو شيء من هذا القبيل. لكنني أرى الآن أن والد ناعومي يراها تدور حول الجنس. التفت جانبا في اتجاه ناعومي فرأيتها تمتص جانب فمها للداخل، وهو الانطباع الذي يرتسم على وجهها دائما عندما تتعرف على هذا الموضوع، لكنها كانت تبدو متذمرة وبائسة، مشمئزة من ذلك الشيء الذي كنت أعتبره متعتي السرية؛ ألا وهو ذاك التيار المتدفق من الكلمات الشعرية والتعبيرات التي لم تعد مستخدمة. لقد كانت مستاءة من كل هذا حتى إنها لم تستمتع حتى بكلمة العذارى.
أغلق والدها فمه الأهتم، أغلقه تماما وبخبث كأنه طفل. «نكتفي بهذا القدر الآن. فكرا بهذه الحكاية عندما يحين الوقت لهذا؛ فبها رسالة للصبايا.» «ذاك العجوز الأخرق التافه.» قالتها ناعومي ونحن نهبط الدرج. «أشعر بالأسى لأجله.»
وكزتني في جانبي. «أسرعي، دعينا نخرج من هنا، فقد يجد شيئا آخر. وسيأخذ في قراءة الإنجيل حتى تخرج عيناه من محجريهما. هذا ما يستحقه.»
ركضنا إلى الخارج إلى شارع ميسون في تلك الأمسيات المضيئة الطويلة كنا نتجول في كل جزء في المدينة. فتسكعنا بالقرب من مسرح الليسيوم، ومقهى «بلو آول كافيه»، وقاعة لعب البلياردو. وجلسنا على مقاعد بالقرب من النصب التذكاري وكنا نلوح لأية سيارة تطلق نفيرها تجاهنا، وكان قائدها يندهش من صغر سننا وخرقنا فيستكمل طريقه وهو يضحك من نافذة سيارته. دخلنا حمام السيدات في دار البلدية ذا الأرضية المبتلة والحوائط الإسمنتية الرطبة التي تفوح منها رائحة الأمونيا المزعجة، وعلى باب الحمام كانت الفتيات الحمقاوات السيئات فقط هن من يكتبن أسماءهن، فكتبنا نحن اسمي ملكتي صفنا المتوجتين ؛ مارجوري كوتس وجوين موندي. كتبنا الاسمين بأحمر الشفاه ورسمنا تحتهما أشكالا خليعة. لماذا فعلنا هذا؟ هل كنا نكره هاتين الفتاتين اللتين كنا بالنسبة لهما فتاتين طيبتين مذعنتين ولا نخذلهما؟ لا ونعم، كنا نكره مناعتهما، وافتقارهما إلى الفضول النابع من حسن تربيتهما، كنا نكره كل ما يجعلهما مميزتين وخيرتين وسعيدتين تطفوان على سطح الحياة في جوبيلي، والذي سيجعلهما تشتركان في الأخويات الجامعية، وأيضا تخطبان وتتزوجان من أطباء أو محامين، وتنتقلان للعيش في أماكن بعيدة مزدهرة. لقد كرهناهما؛ لأنه لا أحد كان يتخيلهما تدخلان حمام دار البلدية.
بعد أن فعلنا ما فعلنا، ركضنا مبتعدتين لا ندري إذا ما كنا قد ارتكبنا فعلا إجراميا.
وكنا نتحدى بعضنا ونحن نسير تحت أضواء الشارع، نبدو شاحبتين كوردتين مصنوعتين من مناديل ورقية ونحن نمر بجوار نوافذ مظلمة ونتمنى لو أن العالم كله يشاهدنا من خلالها. «أتحداك أن تتصرفي كما لو كنت تعانين شللا دماغيا.»
على الفور أرخيت مفاصلي وأسقطت رأسي وأدرت مقلتي في محجريهما، وأخذت أتلفظ بهمهمة متواصلة غير مفهومة. «أتحداك أن تستمري هكذا لمسافة مربع سكني، مهما كان من يقابلنا، لا تتوقفي.»
قابلنا في الطريق الدكتور كومر العجوز، وهو رجل طويل نحيل مهيب متأنق، فتوقف وخبط بعصاه معترضا: «ما هذه المسرحية؟»
قالت ناعومي بحزن: «إنها نوبة يا سيدي، إنها دائما ما تتعرض لهذه النوبات.»
إنها متعة ذلك المذاق الكريه للسخرية من المساكين والمبتلين الذين لا حول لهم ولا قوة، ومتعة تلك القسوة.
ذهبنا إلى المنتزه الذي كان مهملا ومهجورا، وعبارة عن قطعة مثلثة من الأرض أضفت عليها أشجار الأرز الضخمة المزروعة بها من أجل لعب الأطفال كآبة شديدة، ولم تنجح في اجتذاب من يريدون التنزه سيرا على الأقدام. لماذا قد يود أي شخص في جوبيلي السير كي يشاهد المزيد من العشب والطين والأشجار، وهي الأشياء نفسها التي تحيط بالمدينة من كل الاتجاهات؟ فكانوا يفضلون السير في وسط المدينة يشاهدون واجهات المحلات، ويتقابلون على الأرصفة المزدوجة، ويشعرون بالأمل الذي يولده النشاط. تسلقت أنا وناعومي أشجار الأرز الكبيرة وجرح لحاء الشجر ركبنا، فصرخنا كما لم نفعل ونحن أصغر سنا، ونحن نرى أغصان الأشجار تتباعد كاشفة الأرض المائلة. تدلينا من أغصان الأشجار بأيدينا المضمومة وبكواحلنا وكأننا قردة بابون نمرح ونثرثر، وشعرنا أن المدينة بأسرها تقبع تحتنا تحدق فينا مذهولة.
كانت هناك أصوات غريبة بالنسبة لهذا الموسم من العام؛ أصوات أطفال على الرصيف يقفزون ويغنون بأصواتهم النقية البريئة:
على الجبل تقف سيدة
لا أعرف من هي.
لا ترتدي سوى الذهب والفضة.
لا تحتاج سوى زوجأ جديدا من الأحذية!
وسمعنا أصوات الطواويس، فنزلنا إلى الأرض، وأخذنا ننظر إليها عبر الحديقة في ذلك الشارع الذي يقع خلف المنتزه، وهو شارع بائس لا اسم له يمتد حتى النهر. كانت الطواويس ملكا لرجل يسمى بورك تشايلدز، كان يعمل سائقا لشاحنة القمامة الخاصة بالمدينة. ولم يكن بذلك الشارع أرصفة، فكنا نضطر لأن ندور حول البرك الصغيرة الموحلة التي تومض بالطمي الناعم. وكان بورك تشايلدز يملك حظيرة لطيوره خلف منزله، ولم يكن منزله أو حظيرته مطليين.
كانت الطواويس تتجول تحت أشجار البلوط العارية، كيف يمكن أن ننساها من ربيع لآخر؟
كان من السهل نسيان إناث الطواويس بألوانها الكئيبة. أما الذكور فلم تخيب ظننا قط. فقد كانت ألوانها الأساسية المذهلة - اللون الأزرق على الصدور والأعناق - والريش الداكن يلمعان هناك مثل بقع من الحبر أو النباتات الناعمة أسفل بحيرة من المياه الاستوائية. كان أحدها فاردا ذيله فظهرت ألوانه ساطعة يراها الأعمى كقماش ساتان مطبوع. كانت هذه الطيور ذات الرءوس الحمقاء الصغيرة المتوجة المتألقة في الربيع البارد من عجائب جوبيلي.
من جديد حدثت جلبة لكنها لم تكن تصدر عن أي منها، وإنما جذبت أنظارنا إلى الأعلى، فرأينا ما لم تكن عقولنا ستصدقه لولا أننا رأيناه بأنفسنا؛ رأينا الطاووس الأبيض الوحيد فوق شجرة وذيله مفرود بالكامل وهو يهبط من بين أغصان الشجرة وكأنه ماء ينهمر فوق صخرة. لقد كان أبيض نقي اللون، تحفة فنية. ومن مقره المختبئ فوق الشجرة، أخذ يطلق تلك الصرخات المدوية التقريعية المشاغبة.
قالت ناعومي: «إن الجنس هو الذي يجعلها تصرخ.»
قلت وأنا أتذكر شيئا رأيته في المزرعة: «وإناث القطط تصرخ أيضا، تصرخ صرخات مدوية عندما يضاجعها قط ذكر.»
قالت ناعومي: «ألن تصرخي إن كنت مكانها؟»
عندها اضطررنا للانصراف، لأن بورك تشايلدز جاء يمشي مسرعا يتأرجح بين طواويسه. كنا نعرف أن أصابع قدميه كلها قد بترت بعد أن تجمدت؛ لأنه رقد في حفرة إذ لم يستطع العودة إلى منزله من فرط سكره، وكان هذا منذ وقت طويل قبل أن ينضم إلى الكنيسة المعمدانية. صاح فينا وهو يلقي تحيته القديمة أو مزحته القديمة: «مساء الخير يا أولاد.» كان دائما ما يصيح من كابينة شاحنة القمامة «مرحبا يا أولاد»، «مرحبا يا فتيات.» دائما يصيح في الشوارع صيفا وشتاء، لكنه لم يحصل يوما على رد لتحيته، فركضنا هاربتين.
كانت سيارة السيد تشامبرلين واقفة أمام بيتنا.
قالت ناعومي: «لندخل، أريد أن أرى ما يفعل بفيرن العجوز.»
لكنه لم يكن يفعل شيئا، في حجرة الطعام كانت فيرن تقيس فستانا من الشيفون المزين بالورود، تساعدها أمي في تفصيله كي ترتديه في عرس دونا كارلينج، والذي سوف تغني فيه منفردة. كانت أمي تجلس بجنب على كرسي أمام ماكينة الخياطة، بينما كانت فيرن تدور أمامها كمظلة كبيرة نصف مفتوحة.
أما السيد تشامبرلين فكان يحتسي مشروبا حقيقيا: ويسكي مخلوطا بالماء، وقد ذهب إلى بورترفيلد كي يشتريه؛ إذ إن جوبيلي كانت تمنع احتساء الكحوليات. خالجني شعور مختلط بين الفخر والخزي لأن ناعومي رأت الزجاجة على النضد الجانبي؛ فشيء كهذا لا يمكن أن يتواجد في بيتها. كانت أمي تسمح له بالشرب لأنه خاض الحرب.
قال السيد تشامبرلين بقدر كبير من النفاق: «ها قد أتت الآنستان الجميلتان، مفعمتين بجمال الربيع، ومنتعشتين بالهواء الطلق.»
قلت وأنا أستعرض أمام ناعومي: «صب لنا شرابا.» فضحك ووضع يده فوق كأسه. «ليس قبل أن تخبرانا أين كنتما.» «ذهبنا إلى بيت بورك تشايلدز لنرى الطواويس.»
تغنى السيد تشامبرلين قائلا: «ذهبتما لتريا الطواويس، لتريا الطواويس الجميلة.» «صب لنا شرابا.»
قالت أمي مؤنبة بفم مليء بالدبابيس : «ديل ، تأدبي.» «أريد فقط أن أعرف طعمه.» «لن أصب لك الشراب دون ثمن، لم لا تقومين بأي حركات مضحكة من أجلي؟ لم لا تجلسين على ركبتيك متوسلة إلي ككلبة طيبة.» «أستطيع أن أقلد الفقمة، هل تريد أن تراني أقلد الفقمة؟»
كان هذا من الأمور التي أحب أن أفعلها، ولا أخشى أبدا ألا أجيدها أو ألا أفعلها ببراعة، ولا أخشى أبدا أن يظن في أحد أنني خرقاء، بل إنني قد فعلتها مرة في المدرسة، في ساعة الهواة ببرنامج الصليب الأحمر للصغار فضحك الجميع، أطلقوا جميعا تلك الضحكات التي كانت باعثة على الارتياح، حتى إنني كان من الممكن أن أصير حيوان فقمة طوال حياتي.
ركعت على ركبتي وضممت مرفقي إلى جانبي، وأخذت أرفرف بيدي مصدرة صوت نباح مدهشا عاليا وغليظ النبرة. كنت أقلد مشهدا من فيلم قديم لماري مارتن، حيث كانت تغني بجانب بركة فيروزية اللون وتنبح حيوانات الفقمة حولها وكأنها كورس.
خفض السيد تشامبرلين كأسه وقربها من شفتي، لكنه كان يسحبها بعيدا كلما توقفت عن النباح. كنت أركع بجوار مقعده، وكانت فيرن توليني ظهرها وذراعاها مرفوعتان، وكان رأس أمي مختفيا وهي تضع الدبابيس في الثوب حول خاصرة فيرن. أما ناعومي - التي سبق وأن رأت تقليد الفقمة مرارا وتكرارا وكانت تهتم بحياكة الفساتين - فكانت تنظر إلى فيرن وأمي. أخيرا سمح السيد تشامبرلين لشفتي أن تلمسا حافة الكأس التي كان يحملها بيد واحدة، وبيده الأخرى فعل أمرا لم يكن أحد يستطيع أن يراه، فقد مرر يده تحت إبط قميصي ثم داخل فتحة ذراع السترة الواسعة التي كنت أرتديها، ثم دعك بيده بسرعة وقوة القماش القطني الذي يغطي نهدي، كانت لمسته من القوة حتى دفعت نهدي البض فجعلته مسطحا، ثم سحب يده بسرعة، كان الأمر أشبه بصفعة تركتني مصعوقة.
في وقت لاحق سألتني ناعومي: «كيف كان طعمه؟» «كطعم البول.» «لكنك لم تتذوقي البول قبل هذا.» قالتها وهي ترمقني بنظرة حادة حائرة، فقد كانت لديها قدرة على استشعار وجود سر ما.
أردت أن أخبرها لكنني لم أفعل وتراجعت؛ فلو أخبرتها لكان علي إعادة تمثيل ما حدث.
وكانت ستسأل: «كيف؟ كيف كانت يده حين بدأ؟ كيف أدخلها تحت سترتك؟ هل دعك نهدك أم عصره أم فعل كلا الأمرين؟ بأصابعه أم براحة يده؟ أكانت هكذا؟»
كان في المدينة طبيب أسنان يدعى الدكتور فيبين، وهو شقيق أمينة المكتبة الصماء، وكان معروفا عنه أنه يتحسس أرجل الفتيات حين ينظر إلى ضروسهن الخلفية. عندما كنت أمر أنا وناعومي تحت نافذته نصيح عاليا: «ألا ترغبين في موعد لدى الدكتور فيبين؟ الدكتور فيبين المتحسس؟ إنه رجل دقيق.» كان الأمر سيتحول هكذا في حالة ما حدث من السيد تشامبرلين، سنحول الأمر إلى مزحة ونأمل أن تحدث له فضيحة ونأخذ في حبك المؤامرات كي نوقعه بها، ولم يكن هذا ما أريد.
قالت ناعومي بصوت متعب: «لقد كان جميلا.» «ماذا؟» «ذاك الطاووس فوق الشجرة.»
اندهشت وانزعجت قليلا لسماعها تستخدم كلمة «جميل» لتصف شيئا كهذا، بل ولتذكرها له؛ فلم أعتدها تتصرف إلا بشكل معين ولا تعي إلا أشياء معينة. أما أنا فقد فكرت بالفعل ونحن نركض إلى المنزل أن أكتب قصيدة عن الطاووس. أما أن تفكر هي أيضا في هذا فهو أمر أشبه بالتعدي على منطقتي، وأنا لم أكن لأسمح لها أو لغيرها بأن يدلفوا إلى ذاك الجزء من ذهني.
بدأت نظم قصيدتي وأنا أصعد الدرج إلى غرفتي.
ما الذي يقبع فوق الشجرة يبكي تلك الليالي المظلمة؟
أهي الطواويس أم شبح الشتاء؟
كان هذان هما أفضل بيتين فيها.
كنت أفكر أيضا في السيد تشامبرلين، في يده التي كانت مختلفة عن أي أمر أظهره عن نفسه سابقا في عينيه، وفي صوته، وفي ضحكته، وفي قصصه. كانت تلك بمثابة إشارة، أعطيت حيثما ستفهم. لقد كان انتهاكا وقحا واثقا من نفسه، سلطويا وخاليا من العواطف.
عندما أتى المرة التالية سهلت عليه تكرار فعلته؛ فوقفت بجانبه حينما كان يرتدي حذاءه الفوقي المطاطي في الردهة المظلمة. وبعد ذلك، كل مرة كنت أنتظر الإشارة وأحصل عليها، لم يكن يعبأ بقرص ذراعي أو التربيت عليها، أو أن يضمني كأب أو كصديق، وإنما كان يتجه مباشرة إلى النهدين أو الردفين أو أعلى الفخذ بشكل وحشي كالصاعقة. كان هذا هو ما توقعت أن يكون عليه الاتصال الجنسي: ومضة من الجنون، أشبه بالحلم، اختراق همجي وضيع لعالم ذي مظهر محترم. كنت قد نبذت أفكار الحب والسلوى والحنان التي كانت تغذيها مشاعري تجاه فرانك ويلز وصارت الآن تبدو باهتة وطفولية إلى حد كبير. ففي العنف السري للجنس يكمن إدراك يتجاوز كثيرا العطف، يتجاوز النوايا الحسنة والأشخاص.
لم يكن الأمر أنني كنت أخطط لممارسة الجنس، لكن ضربة الصاعقة ليس بالضرورة أن تؤدي إلى أي مكان، ولكنها تؤدي إلى ضربة أخرى.
ومع ذلك، ارتعدت أوصالي عندما أطلق السيد تشامبرلين نفير سيارته يناديني. كان ينتظرني على مسافة نصف مربع سكني من المدرسة. لم تكن ناعومي معي؛ فقد كانت مصابة بالتهاب اللوزتين. «أين صديقتك؟» «إنها مريضة.» «يا للأسف، أتريدينني أن أقلك إلى المنزل؟»
في السيارة، ارتجف جسدي وجف لساني، بل جف فمي كله حتى إنني كنت أتكلم بصعوبة. أهذا هو ما تبدو عليه الرغبة؟ تمني المعرفة، وخوف منها يكاد يصل إلى حد الألم؟ كان وجودي معه وحدنا دون حماية من قبل الآخرين أو من قبل الظروف قد جعل هناك فارقا. لكن ما الذي قد يرغب في القيام به هنا في وضح النهار على مقعد سيارته؟
لم تبدر منه أي حركة تجاهي، لكنه لم يتجه إلى شارع ريفر، بل أخذ يقود في هدوء في عدة شوارع جانبية متجنبا الحفر التي تسبب فيها الشتاء. «إذا طلبت منك معروفا أتلبينه لي؟» «حسنا.» «ماذا تظنين أن يكون هذا المعروف؟» «لا أدري.»
أوقف السيارة خلف محل الألبان تحت أشجار الكستناء ذات الأوراق الصغيرة الخضراء المصفرة. هنا؟ «أتدخلين إلى غرفة فيرن؟ أيمكنك أن تدخلي إلى غرفتها عندما لا يكون هناك أحد في المنزل؟»
بدأت أتخلى عن فكرة الاغتصاب تدريجيا. «يمكنك أن تدخلي حجرتها وتتقصي شيئا ما لأجلي، شيئا يهمني، ماذا تظنين أن يكون، هه؟ ما الشيء الذي تظنين أن يهمني؟» «ماذا؟»
قال السيد تشامبرلين وقد انخفضت نبرة صوته فجأة وأصبحت واقعية تشوبها الكآبة بسبب حقيقة يراها ولا أراها: «خطابات، ابحثي عن خطابات قديمة، قد تكون في أدراجها، قد تكون في خزانتها، غالبا ستكون محتفظة بها في صندوق قديم ما، مربوطة في رزمة، هذا ما يفعله النساء.» «خطابات ممن؟» «مني، ماذا تظنين؟ ليس عليك أن تقرئيها، فقط انظري إلى التوقيع. خطابات مكتوبة منذ زمن قد تعرفينه من حالة الورق. لا أدري، ستكون لا تزال مقروءة لأنها كتبت بقلم حبر. انظري سأعطيك عينة من خطي، وهذا سيساعدك.» التقط مظروفا من درج القفازات وكتب عليه: «ديل فتاة شقية.»
دسسته في كتاب اللغة اللاتينية. «لا تدعي فيرن ترى هذا لأنها ستتعرف خطي على الفور، ولا تدعي أمك تراه كذلك فقد تستغرب ما كتبت، ستكون مفاجأة لها، أليس كذلك؟»
أوصلني إلى المنزل. أردت أن أنزل عند زاوية شارع ريفر لكنه رفض هذا قائلا: «سيبدو هذا كما لو كنا نخفي شيئا. والآن كيف ستعلمينني بما جرى؟ ما رأيك مساء يوم الأحد عندما أحضر على العشاء، سأسألك هل أنهيت واجباتك المدرسية، فإذا كنت قد وجدتها فقولي نعم، وإذا كنت قد بحثت ولم تجديها فقولي لا، وإذا كنت لسبب ما لم تسنح لك فرصة كي تبحثي عنها، فقولي إنك نسيت إن كان لديك واجبات.»
جعلني أكرر: ««نعم» تعني وجدتها، «لا» تعني لم أجدها، «نسيت» تعني أنني لم أجد فرصة لأبحث.» شعرت بالإهانة من ذلك التدريب؛ فقد كنت مشهورة بذاكرتي القوية.
قال لي: «حسنا، في صحتك.» وعلى مستوى من الانخفاض يصعب على أي شخص ينظر إلى السيارة أن يراه، ضربني بقبضته على رجلي بقوة آلمتني. سحبت نفسي وكتبي إلى خارج السيارة، وبمجرد أن انفردت بنفسي - وكنت لا أزال أشعر بوخز في فخذي - أخرجت المظروف وقرأت ما كتبه عليه: «ديل فتاة شقية.» لقد افترض السيد تشامبرلين دون أدنى جهد على الإطلاق أن في نفسي غدرا وشهوانية إجرامية تنتظر من يستخدمها. كان يعرف أنني لن أصرخ حين اعتصر نهدي ، وكان يعرف أنني لن أبلغ أمي، والآن يعرف أنني لن أحكي هذه المحادثة لفيرن، وإنما سأتجسس عليها كما طلب مني. أمن الممكن أن يكون قد وضع يده على حقيقة ذاتي؟ كانت تلك هي ذاتي الحقيقية حتى إنني قضيت وقت المدرسة الممل أعمل بمنقلتي وفرجاري، وأكتب جملا لاتينية مثل [بعد أن أقام فرسن جتريكس معسكره، وذبح خيول العدو بطرق خفية، استعد لخوض غمار معركة في اليوم التالي] وكنت أعي تماما انحلالي الذي بدا يانعا كالقمح في فصل الربيع، وكان جسدي ينبض بكدمات غير مرئية في الأماكن التي لمسها. بعد إحدى مباريات الكرة الطائرة، كنت أرتدي ثوبا فضفاضا أزرق اللون وأغتسل بصابون قادر على أن يسلخ جلدي، نظرت إلى صورتي في المرآة الموجودة في حمام الفتيات وابتسمت ابتسامة خفية لوجهي المتورد، ودارت بخلدي أفكار عن الفسوق الذي جررت إليه، والخداع الذي صرت قادرة عليه.
وفي صباح يوم السبت دخلت إلى حجرة فيرن عندما خرجت أمي لتقوم ببعض أعمال التنظيف في المزرعة. تطلعت إلى الغرفة من حولي بتمهل؛ إلى دب الكوالا الجالس على وسادتها، إلى مسحوق بودرة التجميل المسكوب على طاولة الزينة، إلى البرطمانات التي بها قليل من مزيل رائحة عرق كاد يجف، ومرهم، وكريم ليلي، وأحمر شفاه قديم، وطلاء أظافر ملتصق بغطائه، وصورة لسيدة ترتدي فستانا ذا طبقات متدلية تبدو كمجموعة من الأوشحة المرتبة - على الأرجح والدة فيرن - تحمل طفلا بدينا يرتدي زيا صوفيا، إنها فيرن على الأرجح. ثم صورة لفيرن وهي ترتدي أكماما على شكل فراشات وتحمل باقة ورد وخصلات شعرها ملتفة في طبقات فوق رأسها. وكانت هناك صور صغيرة ذات حواف مثنية مثبتة حول المرآة، كانت صورا للسيد تشامبرلين وهو يرتدي قبعة مدببة من القش وسروالا أبيض، وكان ينظر إلى الكاميرا نظرة كما لو أنه يعرف أكثر منها، وصورة أخرى لفيرن وكانت بدينة لكن ليست إلى الحد الذي هي عليه الآن، ترتدي سروالا قصيرا وتجلس على جذع خشبي في إحدى الغابات المخصصة لقضاء الإجازات. ثم صورة للسيد تشامبرلين وفيرن متأنقين - وكانت فيرن تضع سوارا من الزهور - وكانت الصورة قد التقطت بعدسة مصور شوارع في مدينة غريبة، وكانا يسيران تحت ظلة دار سينما تعرض فيلم «رفعت المرساة». ثم صورة لنزهة لموظفي مكتب البريد في منتزه تابرتون في يوم غائم، وكانت فيرن ترتدي بنطالا فضفاضا وتمسك بيدها بمرح مضرب بيسبول.
لكنني لم أجد أي خطابات، فتشت أدراجها وأرفف خزانتها وتحت سريرها وحتى داخل حقائب ملابسها؛ فوجدت ثلاث حزم من الورق ملفوفة بشرائط مطاطة.
واحدة من تلك الحزم كانت تحتوي على خطاب من ذاك النوع الذي يطلب من متلقيه كتابة العديد والعديد من النسخ لإرسالها لكثير من الأشخاص، وعدد هائل من النسخ التي تحتوي على النص نفسه الموجود في ذلك الخطاب مكتوبة بأقلام رصاص وأقلام حبر، وبخطوط يد مختلفة، وبعضها مكتوب على الآلة الكاتبة وبعضها منسوخ.
هذا الدعاء لف العالم ست مرات. لقد كتب في جزيرة وايت، كتبه راهب متبصر رآه في حلم. انسخ هذه الرسالة ست مرات وأرسلها إلى ستة من أصدقائك، ثم انسخ الصلاة المرفقة وأرسلها إلى ستة أسماء من أعلى القائمة المرفقة بالخطاب. بعد ستة أيام من تلقيك هذا الخطاب سوف تتلقى نسخا من هذا الدعاء من جميع أرجاء الأرض وسوف تجلب لك البركات والحظ السعيد إذا أرسلت هذا الخطاب. أما إذا لم تفعل فلك أن تتوقع أمرا حزينا ومؤسفا يحدث لك خلال ستة أشهر ابتداء من اليوم الذي تلقيت فيه هذا الخطاب. لا تتكاسل عن إرسال الخطاب، ولا تحذف الكلمة السرية التي في آخر الخطاب. فبهذا الدعاء تنتشر السعادة والحظ السعيد في جميع أرجاء العالم.
يا رب أدعوك أن تنزل السلام والحب
على هذا الصديق اليوم.
اشف جراحه، وبارك قلبه.
لا تحرمه أبدا من منبع القوة والحب.
كاركاهمد
الحزمة الثانية كانت تتكون من عدة أوراق مطبوعة ملطخة بالحبر، تظهر فيها رسوم رمادية غير واضحة لما ظننت في البداية أنها حقن شرجية ذات أنابيب متشابكة، لكنني بعد أن قرأت النص اكتشفت أنها مقاطع عرضية من تشريح الأعضاء الذكرية والأنثوية ، وصور لأشياء أخرى كوسيلة منع حمل توضع داخل المهبل، وفوط صحية، وواقيات ذكرية (كانت تلك المصطلحات كلها جديدة علي) وهي توضع في أماكنها. لم أستطع النظر إلى تلك الرسومات دون أن أشعر بالذعر وعدم الارتياح؛ لذا فقد بدأت في القراءة. قرأت عن زوجة فلاح مسكينة في نورث كارولاينا ألقت بنفسها تحت عجلات عربة عندما اكتشفت أنها حامل بطفلها التاسع، وعن نساء يمتن في البيوت بمضاعفات الحمل أو الولادة، أو محاولات الإجهاض الفاشلة المروعة التي يقمن بها باستخدام دبابيس تثبيت القبعات أو إبر الخياطة الكبيرة أو فقاقيع الهواء. قرأت - أو بالأحرى تجاوزت - إحصائيات متعلقة بالزيادة السكانية، والقوانين التي تم سنها في العديد من الدول لصالح أو ضد تحديد النسل، والنساء اللائي وضعن في السجون لدفاعهن عن هذا الأمر. بعدها جاءت تعليمات حول استخدام أدوات مختلفة، كان ثمة فصل عن الموضوع نفسه في كتاب والدة ناعومي، لكننا لم نتمكن من قراءته لأننا كنا مشغولتين بقراءة «أنواع الجماع وحالات جماع تاريخية». كل ما كنت أقرؤه الآن عن جل منع الحمل وغيره من وسائل منع الحمل الأخرى، بل وحتى استخدام كلمة «مهبل»؛ كان يجعل الأمر برمته يبدو شاقا ومفهوما، يرتبط بشكل ما بالمراهم والضمادات والمستشفيات، ويجعلني أشعر بشعور الاشمئزاز والعجز السخيف الذي كنت أشعر به عندما أضطر لخلع ملابسي في عيادة الطبيب.
وفي الحزمة الثالثة كانت هناك أبيات مكتوبة بالآلة الكاتبة، بعضها له عناوين مثل «عصير ليمون مصنوع منزليا»، و«عويل زوجة سائق الشاحنة».
زوجي، أيا زوجي الحبيب، ماذا عساي أن أفعل؟
بداخلي رغبة ظمآى أحتاج إليك لتشبعها.
أنت دائما إما خارج المنزل أو نائم. (لا أريد سوى ليلة حب جامحة!)
اندهشت أن شخصا بالغا يعرف أو لا يزال يتذكر كلمات كهذه. التعاقب السريع للأبيات، تلك الكلمات القصيرة المكتنزة المنظومة بأسلوب فاحش، كلمات تنفث شهوة عظيمة كدفقات من الكيروسين تنثر على مشاعل. لكنها كانت مكررة مسهبة، وبعد برهة بدأت أشعر بالجهد الميكانيكي الذي احتاجه نظم هذه الكلمات، وهو ما جعل فهمها مهمة شاقة، ومملة بصورة محيرة. غير أن الكلمات نفسها كانت تومض بالقوة، وبالأخص كلمة «النكاح»، وهي كلمة لم أكن أستطيع النظر إليها حين تكون مكتوبة على الأسوار أو الأرصفة. لم أكن أستطيع أن أتأمل من قبل قوتها الوحشية وتأثيرها الذي يشبه تأثير التنويم المغناطيسي.
أجبت السيد تشامبرلين بالنفي عندما سألني عما إذا كنت قد أنهيت واجبي المدرسي. ولم يلمسني طوال تلك الأمسية، لكنني عندما خرجت من المدرسة يوم الاثنين، كان بانتظاري. «ألا تزال صديقتك مريضة؟ إنه أمر سيئ، لكنه لطيف أيضا. أليس لطيفا؟» «ماذا؟» «الطيور لطيفة، الأشجار لطيفة، من اللطيف أن تصحبيني في جولة بالسيارة، وأن تتقصي بعض الأمور من أجلي.» قالها بصوت صبياني. معه لا يكون الشر أمرا من الكبائر أبدا؛ كان صوته يشعرني بأنه من الممكن فعل أي شيء، أي شيء على الإطلاق ثم نحوله إلى دعابة، دعابة تهزأ بكل الوقورين والأخلاقيين والعاطفيين ومن يخالجهم الشعور بالذنب، كل من «يعقدون حياتهم على أنفسهم». كان هذا هو ما لا يستطيع هو احتماله في الناس. فكانت ابتسامته الخفيفة مثيرة للاشمئزاز، تحمل قدرا هائلا من الرضا عن الذات وتغطي هاوية هائلة من عدم الإحساس بالمسئولية، أو ما هو أسوأ. لكن هذا لم يجعلني أعيد التفكير في الخروج معه وأن أفعل كل ما كان يجول بخاطره؛ فلم تكن أخلاقياته تعنيني كثيرا في هذا السياق، بل وربما كان من الضروري أن تكون أخلاقا سيئة.
كانت الإثارة التي ولدتها قصائد فيرن الفاحشة قد تملكتني تماما.
قال بنبرة عادية: «هل فتشت جيدا؟» «نعم.» «ولم تجدي أي شيء؟ هل فتشت جميع أدراجها؛ أعني أدراج منضدة الزينة، وصناديق القبعات، وحقائب الملابس؟ هل فتشت خزانة الملابس؟»
قلت برزانة: «فتشت وفتشت في كل مكان.» «لا بد أنها تخلصت منها.» «أعتقد أنها ليست عاطفية.» «عاطفية! لا أعلم ماذا تعني هذه الكلمات الكبيرة أيتها الفتاة الصغيرة.»
كنا نمضي بالسيارة إلى خارج المدينة، اتجهنا جنوبا على الطريق السريع رقم 4 ثم انعطفنا إلى أول طريق جانبي. قال السيد تشامبرلين: «صباح جميل، معذرة أعني نهار جميل، يوم جميل .» تطلعت خارج النافذة، شعرت أن الريف الذي أعرفه قد تغير بوجوده، وبصوته، وبمعرفتي المسبقة بطبيعة المهمة التي نحن بصددها معا. طوال عام أو عامين، كنت أتطلع إلى الأشجار والحقول والمناظر الطبيعية بانسجام سري قوي. في بعض الأيام، وفي حالة مزاجية معينة، كان مرأى أجمة من العشب أو سياج قضباني أو كومة من الأحجار يولد بداخلي المشاعر المتدفقة التي كنت أتمناها - وأشعر بإشاراتها - فيما يتعلق بالتواصل مع الرب. لم أكن أشعر بهذا عندما يكون معي أحد، أما الآن ومعي السيد تشامبرلين، فكنت أرى الطبيعة كلها وضيعة ومثيرة جنسيا بجنون. كان ذلك الوقت هو أثرى أوقات السنة وأنضرها؛ فكانت القنوات تزهر زهور الأقحوان والتودفلاكس والحوذان، وكانت الفراغات مليئة بشجيرات مجهولة الاسم ذات لون ذهبي باهت وبريق جداول المياه. كنت أرى في هذا كله منظومة ضخمة من أماكن اختباء؛ فالحقول المحروثة في الخلفية ترتفع كفرش فاحشة، وتلك الممرات الصغيرة المفتوحة بين الشجيرات، والمناطق ذات الأعشاب المسحوقة التي لا شك أن بقرة ما نامت عليها، بدت لي مغرية بصورة قوية مثل كلمات أو لمسات بعينها. «أتمنى ألا نقابل والدتك تقود سيارتها هنا.»
لم أظن أن هذا يمكن أن يحدث، فقد كانت أمي تسكن طبقة من الواقع تختلف تماما عن الطبقة التي صرت أنا فيها.
انحرف السيد تشامبرلين عن الطريق متبعا ممرا انتهى سريعا في حقل. وقوف السيارة، وانقطاع تيار الصوت والحركة الدافئ الذي كان يغمرني جعلني أرتجف ارتجافة خفيفة. بدأت الأحداث تغدو حقيقية. «دعينا نتمش قليلا حتى الجدول.»
خرج من باب السيارة المجاور له وخرجت من الباب المجاور لي، ثم تبعته عبر منحدر بين أشجار الزعرور البري في مرحلة الازدهار تفوح منها رائحة خميرية. كان هذا طريقا مطروقا؛ إذ كان فيه علب سجائر وزجاجة جعة وعلبة علكة تشكلتس ملقاة على العشب، ثم انتهينا إلى أشجار تحيطنا إحاطة تامة.
قال السيد تشامبرلين بصوت عملي: «لم لا نتوقف هنا قليلا؟ فالأرض تزداد ابتلالا قرب الجدول.»
في ذاك المكان الذي تحيط به الظلال جزئيا قبل الجدول شعرت بالبرد، واجتاحني قلق عنيف بشأن ما سيحدث لي، حتى إن ما كان بين ساقي من حرارة وارتجاف اختفى، وتخدر كما لو أن قطعة من الثلج وضعت عليه. فتح السيد تشامبرلين سترته وأرخى حزامه ثم فتح سحاب بنطاله وأزاح ملابسه الداخلية وأخرج عضوه الذكري أمامي، وقال وكأنه يقصد إخافتي: «بخ!»
لم يكن عضوه مثل العضو المتدلي من تمثال داود، كان منتصبا أمامه، وهو الشيء الذي أعرف من قراءاتي أنه طبيعي. كان لعضوه رأس، مثل عيش الغراب، وكان لونه أحمر مائلا إلى الأرجواني. وبدا شكله فظا أحمق، بالمقارنة مثلا مع أصابع اليدين والقدمين، بقدرتها الذكية على التعبير، أو حتى بالمقارنة مع المرفق أو الركبة. لم يبد مخيفا بالنسبة لي، رغم أنني ظننت أن هذا ما كان يقصده السيد تشامبرلين، وهو يقف هناك بنظرته الفاحصة المراقبة، ويداه تباعدان بين طرفي البنطال ليظهر عضوه لي. بدا لي شيئا فظا مسلوخا، ذا لون قبيح كأنه لون جرح، بدا لي ضعيفا ولعوبا وساذجا، مثل حيوان بأنف طويل يضمن شكله القبيح المشوه حسن النية. (عكس ما يوحي به الجمال عادة.) ومع ذلك، لم يجعلني المشهد أسترد الإثارة التي كنت أشعر بها. بدا أنه لا علاقة لي به على الإطلاق.
كان مستر تشامبرلين لا يزال ينظر إلي ويبتسم وهو يضع يده حول هذا الشيء، ثم بدأ يحرك يده لأعلى وأسفل، ليس بقوة شديدة وإنما في إيقاع فعال منظم. فارتخى وجهه، ولاحت في عينيه اللتين كانتا لا تزالان مثبتتان علي نظرة زجاجية. وبالتدريج، يكاد يكون بتمرس، زاد من سرعة يده؛ وأصبح الإيقاع أقل نعومة. وجثا على ركبتيه وعلا صوت أنفاسه وأصبحت غير منتظمة، بعد أن زادت سرعة يديه بجنون وأخذ يتأوه وكاد جسمه ينثني للأمام في انقباضات مؤلمة. كان وجهه المرتعش الذي ينظر إلي به، من وضعه المنحني، أعمى وكأنه قناع مثبت على عصا، وتلك الأصوات اللاإرادية الصادرة عنه كأنها أنات إنسان يحتضر في أنفاسه الأخيرة، ولكنها في الوقت نفسه كانت تبدو أصواتا مسرحية. في الواقع، كان الأداء برمته - وسط فروع الأشجار المزهرة الهادئة - يبدو مصطنعا ومبالغا فيه بصورة متوقعة كرقصة هندية. لقد قرأت من قبل عن وصول الجسم لمراحل متطرفة من المتعة، ولكن هذه التعبيرات لا تبدو مساوية لهذا الجهد المضني الرهيب المتعمد الجنوني الذي رأيته يبذله الآن أمامي. وظننت أنه إن لم ينل قريبا مراده، فسوف يموت. ولكن بعد ذلك أطلق نوعا جديدا من الآهات، هي الأعلى صوتا والأكثر استماتة من بين كل ما سبق؛ وكانت آهاته مرتعشة وكأن شخصا ما يضربه على حنجرته. وبمعجزة، اختفى كل ذلك الصوت تماما وتحول إلى همس ضعيف مستكين ممتن أثناء خروج ذلك السائل الأبيض منه وسقوطه على طرف تنورتي. بعد ذلك، وقف السيد تشامبرلين على قدميه مرة أخرى وهو يرتجف لاهث الأنفاس وأعاد ملابسه كما كانت وأخرج منديلا ومسح يديه ثم مسح تنورتي. «إنك سعيدة الحظ؟ أليس كذلك؟» قالها وهو يضحك لي برغم أنه لم يسترد أنفاسه بالكامل بعد.
كيف يمكن لرجل بعد هذا التشنج، بعد هذه المجاهرة، أن يضع منديله في جيبه ثم يتأكد من غلق سحاب بنطاله ويسير عائدا - وهو لا يزال محتقن الوجه - من الطريق الذي أتينا منه؟
لم يتكلم إلا في السيارة عندما جلس للحظة يستجمع شتات نفسه قبل أن يدير مفتاح السيارة.
قال: «منظر جميل، أليس كذلك؟»
كان المشهد الطبيعي يبدو مصطبغا بلون الجماع، فاترا وغير ذي معنى، ولعل السيد تشامبرلين نفسه قد شعر ببعض الكآبة أو القلق؛ إذ إنه جعلني أنزل إلى أرضية السيارة حين دخلنا المدينة من جديد، ثم أنزلني في مكان منعزل ينخفض فيه الطريق بالقرب من محطة السكك الحديدية الكندية. لكنه لم ينس طبيعته فقد ضربني على منفرج ساقي بقبضته كما لو كان ينقر على ثمرة جوز هند ليتأكد أنها سليمة. •••
كان ذلك هو الظهور الختامي الذي ودعني به السيد تشامبرلين، كما كان يجب أن أخمن. رجعت البيت ظهرا لأجد فيرن تجلس على المائدة في غرفة الطعام التي كانت جاهزة لتناول الغداء، وسمعت أمي تصيح من المطبخ كي يعلو صوتها فوق صوت هراسة البطاطس. «لا يهم ما يقول أي شخص. إنكما لم تتزوجا أو تخطبا، فلا شأن لأحد بهذا؛ فحياتك تخصك أنت وحدك.»
قالت فيرن وهي تحرك خطابا بيدها تحت أنفي: «هل تريدين أن تري خطابي الغرامي الصغير؟»
عزيزتي فيرن، نظرا لظروف خارجة عن إرادتي سأرحل اليوم في سيارتي البونتياك التي أثق بها وأتجه إلى بعض البلدان غربا. لا يزال هناك الكثير لم أشاهده في العالم، ولا معنى لأن أظل مسجونا هنا. قد أرسل لك بطاقة بريدية من كاليفورنيا أو ألاسكا، من يدري؟ كوني فتاة طيبة كما أنت دوما واستمري في لعق هذه الطوابع وفتح الخطابات بالبخار؛ فقد تجدين مائة دولار يوما ما. عندما تموت أمي سوف أعود للمنزل على الأرجح، لكن لن أمكث طويلا. وداعا، آرت.
لقد كانت هي اليد نفسها التي كتبت: «ديل فتاة شقية.»
قالت أمي وهي تدخل إلى الغرفة: «العبث بالبريد جريمة فدرالية، لا أظن أن ما يقوله لطيفا.»
أخذت توزع الجزر المعلب والبطاطس المهروسة وأرغفة اللحم. مهما كان الموسم، كنا نتناول وجبة دسمة في منتصف اليوم.
قالت فيرن وهي تتنهد: «يبدو أن هذا الأمر لم يؤثر على شهيتي على أية حال.» ثم وضعت صلصة الطماطم على الطعام وأردفت: «كان يمكنني أن أحظى به قبل وقت طويل إذا أردت هذا، بل لقد كتب لي خطابات يتحدث فيها عن الزواج. كان علي أن أحتفظ بها، فكان بإمكاني مقاضاته للحنث بوعد الزواج.»
قالت أمي بحماس: «جيد أنك لم تفعلي، وإلا فماذا كان سيحل بك اليوم؟» «لم أفعل ماذا؟ لم أقاضه للحنث بالوعد أم لم أتزوج به؟» «لم تتزوجي به. إن المقاضاة للحنث بوعد الزواج أمر يحط من قدر المرأة.» «أوه، لم يكن الزواج يمثل لي خطرا.» «كان لديك غناؤك، وكان لديك حبك للحياة.» «كنت عادة أحظى بوقت طيب، وكنت أعرف عن الزواج ما يكفي لأن أعرف أنه يعني انتهاء كل الأوقات الطيبة.»
كانت فيرن تعني بكلامها عن الأوقات الطيبة الذهاب للحفلات الراقصة على شاطئ بحيرة بافيليون، والذهاب لفندق ريجنسي في تابرتون لاحتساء الشراب وتناول العشاء، والتنقل بالسيارة من نزل لآخر في ليالي السبت. حاولت أمي أن تفهم هذا النوع من المتع لكنها لم تستطع ذلك، كما أنها لم تستطع أن تتفهم لماذا يركب الناس ألعاب الملاهي ثم ينزلون عنها ليتقيئوا ثم يعودون للركوب مجددا.
لم تكن فيرن من نوعية النساء التي تشعر بالأسى والحزن، برغم معرفتها بفن الأوبرا. وكانت مشاعرها التي تعبر عنها هي أن الرجال دائما ما يرحلون، وهذا أفضل قبل أن تسأمي منهم. لكنها صارت ثرثارة للغاية ولا تصمت أبدا.
فقالت لأوين أثناء العشاء: «قدر ما كان آرت سيئا، فإنه لم يكن يلمس الخضروات الصفراء أبدا. لا بد أن والدته كانت تبرحه ضربا في صغره، هذا ما كنت أقوله له.»
وقالت لأبي: «إن بنيتك على النقيض من بنية آرت؛ فقد كان يجد صعوبة في تفصيل حلله لأن جسمه كان طويلا وساقيه قصيرتان، وكان خياط رانسوم في تابرتون هو الوحيد الذي يستطيع أن يفصل له حللا تلائمه.» «مرة واحدة فقط رأيته يفقد أعصابه، كنا عند بحيرة بافيليون وذهبنا للرقص، وهناك طلب أحدهم أن يراقصني فنهضت معه، فماذا يمكن أن أفعل؟! ثم حدث أن دفن هذا الرجل وجهه في عنقي، ثم أخذ يلعق عنقي كما لو كان يأكل مثلجات بالشوكولاتة! حينها قال له آرت: «إذا أردت أن تسيل لعابك فلا تفعل هذا على فتاتي، فلربما أردتها لنفسي.» ثم جذبه بعنف بعيدا عني. فعل هذا حقا!»
عندما كنت أدلف إلى الغرفة وهي تتحدث مع أمي يحل على الغرفة صمت مترقب غير طبيعي، وكانت أمي تستمع إليها وعلى وجهها تعبير بائس متصنع التعاطف يشي بأنها تحس أنها محاصرة. لكن ماذا عساها أن تفعل؟ إن فيرن هي صديقتها المقربة وربما الوحيدة، لكن كان ثمة أشياء لم تظن قط أنها سيتحتم عليها أن تسمعها. يبدو أن فيرن تفتقد السيد تشامبرلين.
وقد قالت لفيرن: «لقد كان يعاملك معاملة سيئة.» لكن فيرن هزت كتفيها وضحكت ضحكة غامضة وقالت: «صحيح، لقد كان يعاملني معاملة سيئة ، لم يسقط إنسان من نظري بهذه السرعة كما سقط هو، لكني مع هذا أفتقده كلما أسمع من يحاولون قراءة الأخبار المحلية في الإذاعة.»
لم تجد إذاعة جوبيلي من يستطيع قراءة الأخبار كما هي الآن مليئة بالأسماء الروسية دون أن يشعر بالذعر، كما جعلوا شخصا يدعى باتش يقدم برنامج «في ذكرى»، وعندما كانت الإذاعة تبث أغنية «يسوع، السعادة التي ينشدها الإنسان»، كانت أمي تصاب بالجنون.
كنت أنوي أن أخبر ناعومي حكايتي مع السيد تشامبرلين بعد أن انتهت. لكن ناعومي تعافت من مرضها بنظرة جديدة للحياة وخسرت خمسة عشر رطلا من وزنها، واختفت صراحتها مع قوامها المكتنز، وعف لسانها واختفت جراءتها. لقد صارت ترى نفسها من منظور جديد رقيق. كانت تجلس تحت شجرة وتنورتها تفترش المكان حولها تشاهدنا ونحن نلعب الكرة الطائرة وتتحسس جبينها بين الحين والآخر لتتأكد من أنها غير محمومة. إنها حتى لم تلق بالا لكون السيد تشامبرلين قد رحل؛ فقد كانت منشغلة تماما بنفسها وبمرضها؛ فقد ارتفعت حرارتها حتى تعدت المائة والخمس درجات فهرنهايت. اختفت المفردات الفجة عن الجنس من حديثها وكما يبدو من عقلها، برغم أنها تحدثت كثيرا عن الدكتور واليس الذي مسح رجليها بالإسفنجة بنفسه، وعن تعريها أمامه وهي تشعر بالعجز أثناء مرضها.
لذلك لم أنل الراحة المتمثلة في تحويل ما فعله السيد تشامبرلين إلى قصة مضحكة ومفزعة أيضا. ولم أعرف ماذا أفعل بهذه الحكاية، لم أستطع أن أعيده لدوره القديم، لم أستطع أن ألبسه دور الفاسق القوي قاصر الفكر المحرك الأساسي لأحلام يقظتي؛ فقد وهن إيماني بالانحلال المحدود. ربما في أحلام يقظتي فقط كان الباب المسحور يفتح بسهولة وبجمال، دافعا الأجساد إلى التحرر الكامل من أي فكر، من أي شخصية، إلى الانغماس في المتع؛ تلك الرخصة الرديئة المجنونة. بدلا من هذا، أراني السيد تشامبرلين أن جزءا كبيرا من المكون البشري هو الجسد الذي لا يستطيع الإنسان التغلب عليه ولكن يجب أن يمنحه حالة من النشوة، ذلك اللغز العنيد والجوانب المظلمة من النفس.
في شهر يونيو، أقيم حفل عشاء الفراولة السنوي الذي يقام على المرج خلف الكنيسة المتحدة. ذهبت فيرن إلى العشاء كي تغني مرتدية ثوب الشيفون ذا الورود الذي ساعدتها أمي في صنعه، غير أنه أصبح ضيقا للغاية عند الخاصرة؛ فمنذ رحيل السيد تشامبرلين زاد وزن فيرن ولم تعد رقيقة ومكتنزة، وإنما صارت بدينة للغاية متورمة كالنقانق المسلوقة، ولم تعد بشرتها ذات البقع شاحبة وإنما استحالت لامعة نضرة.
ربتت فيرن على خصرها قائلة: «على كل حال، لن يستطيع أحد أن يقول إن فستاني مضيق بالدبابيس، أليس كذلك؟ لكنها ستصير فضيحة إذا ما فكت الغرز.»
كنا نسمع صوت كعبيها العاليين على الرصيف؛ ففي الأمسيات الهادئة الغائمة تحت الأشجار المورقة كانت الأصوات تنتقل لمسافات بعيدة، فالضوضاء الاجتماعية لمرتادي حفل الكنيسة المتحدة كانت تصل حتى عتبة دارنا. هل كانت أمي تتمنى لو أنها ارتدت قبعة وفستانا صيفيا وذهبت للكنيسة؟ كان مذهبها اللاأدري ونزعتها الاجتماعية دائما في صراع في جوبيلي؛ حيث كانت الحياة الدينية والاجتماعية كيانا واحدا. طلبت منها فيرن أن تذهب إلى الكنيسة قائلة: «إنك عضو بالكنيسة، ألم تقولي لي إنك انضممت إليها عندما تزوجت؟» «وقتها لم تكن أفكاري قد تشكلت بعد، أما الآن فسأكون منافقة إذا ذهبت، فأنا غير مؤمنة.» «وهل تظنين أن كل من يذهبون إلى الكنيسة مؤمنون؟»
كنت في الشرفة أقرأ رواية «قوس النصر» التي استعرتها من المكتبة. كان شخص ما قد ترك بعض النقود للمكتبة فاشترت بها المكتبة مجموعة من الكتب الجديدة، معظمها أوصت به السيدة واليس، زوجة الطبيب التي تحمل درجة جامعية لكنها لا تتمتع بالذوق الذي كان مجلس المدينة يعول عليه. فقد كانت هناك شكاوى من الناس، وقال بعضهم إنه كان لا بد أن يوكل هذا الأمر إلى بيلا فيبين، إلا أنه لم يزح عن رفوف المكتبة سوى كتاب واحد هو رواية «وكلاء الدعاية»، والتي كنت قد قرأتها أولا، أما أمي فقد التقطتها وقرأت منها وأصابها الحزن. «لم أتوقع قط أن أرى أحدا يستخدم الكلمات المطبوعة في أمر كهذا.» «إنه يتناول مجال العمل في الدعاية، وكم هو مجال فاسد!» «أخشى أن هذا ليس الأمر الوحيد الفاسد، فقريبا سيكتبون عن كيفية الذهاب إلى المرحاض، لماذا لم يكتبوا عنه حتى الآن؟ لم يكن ثمة شيء كهذا في رواية «سايلس مارنر»، لم يكن هذا في مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين. لقد كانوا كتابا جيدين، لم يكونوا يحتاجون لهذا.»
كنت قد تحولت عن روايات كريستين لافرانسداتر التاريخية التي كنت أفضلها وأصبحت أقرأ الروايات الحديثة كروايات سومرست موم ونانسي متفورد، كنت أقرأ عن أناس أثرياء ذوي حيثية كانوا يزدرون نوعية البشر الذين يشغلون قمة الهرم المجتمعي في جوبيلي: كالصيادلة وأطباء الأسنان وأصحاب المحال. تعلمت أسماء مثل بالنسياجا وسكيابارلي، وعرفت أسماء المشروبات الكحولية: الويسكي مع الصودا، والجن مع التونيك، وأسماء علامات تجارية مثل تشينتسانو، وبيندكتاين، وجراند مارنيي. وعرفت أيضا أسماء فنادق، وشوارع ومطاعم في لندن وباريس وسنغافورة. في تلك الروايات، كانت الشخصيات تمارس الجنس مع بعضها، كانوا يفعلون ذلك طول الوقت، لكن لا يرد فيها وصف دقيق لما يفعلونه على عكس ما كانت أمي تظن. وقد شبهت إحدى الروايات ممارسة الجنس بالدخول في نفق قطار (بافتراض أن الإنسان هو قطار كامل) ثم الاندفاع منه إلى مرج جبلي مرتفع جميل مبارك لدرجة يشعر معها المرء أنه يحلق في السماء. دائما ما كانت الكتب تشبه ممارسة الجنس بشيء آخر، ولم تتحدث عنه قط في حد ذاته.
قالت أمي: «لا تقرئي عندك، لا تقرئي في هذا الضوء الضعيف، انزلي إلى هنا.»
نزلت، لكنها لم تكن تريدني أن أقرأ أساسا، كانت تريد الصحبة. «أترين زهور الليلك بدأت تتحول، سنذهب إلى المزرعة قريبا.»
كانت زهور الليلك الأرجوانية - التي تمتد على طول فناء المنزل وبجوار الرصيف - بدأت تتحول إلى اللون الشاحب وهي ناعمة ورقيقة كخرقة تنظيف ذات بقع بلون الصدأ. وخلفها كان الطريق مغبرا تنمو على جانبيه أشجار التوت البري أمام المصنع المغطى بألواح الخشب ولا تزال عليه الحروف الكبيرة البارزة التي خبا بريقها: «موندي لآلات البيانو».
قالت أمي: «أشعر بالأسى حيال فيرن، أشعر بالأسى حيال حياتها .»
أثارت نبرتها الهادئة الحزينة حفيظتي. «لعلها ستجد رفيقا جديدا الليلة.» «ماذا تعنين؟ إنها لا تسعى وراء رفيق جديد، لقد اكتفت من كل هذا، ستغني أغنية «أينما مشيت»، لا يزال صوتها جميلا جدا.» «إن وزنها يزداد.»
أجابت أمي بصوتها المفعم بالأمل ونبرتها التوجيهية: «أعتقد أن هناك تغييرا قادما في حياة الصبايا والسيدات، نعم لكن حدوث هذا التغيير من عدمه يتوقف علينا نحن. كل ما تملكه النساء حتى الآن هو علاقتهن بالرجال، هذا هو كل ما لدينا. ليس لدينا حياة خاصة في الواقع، ليس أكثر من الحيوانات الأليفة. «عندما تفقد عاطفته قوتها الأولية، سوف يضمك أقرب قليلا من كلبه وبحميمية أكثر قليلا من حصانه.» تينيسون كتب هذا، وهذا صحيح، كان صحيحا؛ ولكنك سوف ترغبين في إنجاب الأطفال.»
هذا هو مقدار معرفتها بي. «لكني آمل أن تستخدمي عقلك. استخدمي عقلك، لا تتشتتي، فبمجرد أن ترتكبي ذلك الخطأ - أن تتشتتي بسبب رجل - لن تعود حياتك ملكك، ستكونين أنت من يتحمل العناء، المرأة دائما هي من تتحمل العناء.»
ذكرتها قائلة: «هناك ما يسمى تحديد النسل هذه الأيام.» فنظرت إلي مذعورة، على الرغم من أنها هي التي سببت الحرج لعائلتنا عندما كتبت مقالا ذات يوم في جريدة «هيرالد أدفانس» التي تصدر في جوبيلي قالت فيه: «إن تلك الوسائل الوقائية لا بد أن توزع على كل النساء كإعانات عامة في مقاطعة واواناش كي تساعدهن على أن يوقفن أي زيادة في عدد أفراد أسرهن.» وقتها كان الصبية يصرخون في وجهي في المدرسة: «متى ستوزع أمك تلك الوسائل الوقائية؟» «ليس هذا بكاف، رغم أنها نعمة كبيرة، لكن الدين يقف خصما لها كما هو خصم لأي شيء قد يخفف آلام الحياة على الأرض. إنني أتحدث عن احترام الذات في الواقع، احترام الذات.»
لم أفهم تماما مغزى ما تقول، وإن كنت فهمته فقد كنت معدة مسبقا لأن أقاومه. كنت سأقاوم أي شيء تقوله لي بمثل هذه الجدية والأمل العنيد. لم أكن أحتمل تعبيرها عن اهتمامها بحياتي، رغم أنني كنت بحاجة لذلك الاهتمام وأعتبره أمرا مسلما به. وكنت أراه أيضا لا يختلف كثيرا عن النصائح التي تلقن لباقي النساء والفتيات، والتي تفترض أن كونك أنثى يعني أنك هشة، وأن ثمة حاجة إلى قدر معين من الحرص، والقلق الذي يتسم بالرصانة، وحماية الذات، بينما يفترض بالرجال أن يخرجوا إلى العالم وأن ينهلوا من شتى الخبرات وينبذوا ما لا يريدون ثم يعودوا مظفرين. ودون أن أفكر حتى في الأمر، قررت أن أفعل المثل.
التعميد
في عامنا الثالث من المدرسة الثانوية، تحولت ناعومي إلى القسم التجاري، وهكذا تحررت فجأة من دراسة اللغة اللاتينية والفيزياء والجبر، وصعدت إلى الطابق الثالث من المدرسة حيث كانت الآلات الكاتبة تطقطق طوال النهار تحت السطح المائل، ومعلق على الحوائط شعارات داخل إطارات لأقوال مأثورة تعد الدارسين لخوض غمار عالم الأعمال، مثل: «الوقت والطاقة هما رأس مالي؛ إذا بددتهما فلن أعوضهما.» كان تأثير التحول إلى مثل هذه القاعات بعد الجلوس في الدور السفلي في الفصول ذات السبورات السوداء، المليئة بالكلمات الأجنبية والمعادلات النظرية والصور القاتمة المعلقة للمعارك والسفن الغارقة، والمغامرات الأسطورية العنيفة التي لا تخلو من النبل والفخر؛ يشبه الدخول إلى الضوء العادي اللطيف، إلى العالم الحقيقي النشيط، وهو راحة للكثيرين، وقد راق الأمر لناعومي.
في شهر مارس من ذاك العام تولت وظيفة في مكتب محل الألبان بعد أن أنهت دراستها في المدرسة. وطلبت مني أن أذهب لمقابلتها هناك بعد الساعة الرابعة عصرا، فذهبت دون أن يكون لدي أدنى فكرة عما أنا متورطة فيه. ظننت أن ناعومي ستتجهم في وجهي بشكل تمثيلي من وراء النضد، وسأقلد أنا صوت عجوز مرتعش وأقول لها: «ماذا يعني هذا؟ اشتريت بالأمس دزينة من البيض فوجدته كله فاسدا!»
كان المكتب في مبنى ملحق مزخرف بالجص يقع أمام محل الألبان القديم، وكانت به أضواء فلورسنت وخزائن أوراق معدنية جديدة ومكاتب - وهو المحيط الذي كان يعطيني شعورا غريزيا بأنني لا أنتمي إلى المكان - كما كانت هناك أصوات عالية صادرة من الآلات الكاتبة وآلة الجمع. كانت هناك فتاتان أخريان تعملان هناك بخلاف ناعومي، وعرفت بعدها أن اسميهما مولي وكارلا. كانت أظافر ناعومي مطلية بطلاء أظافر قرنفلي داكن وشعرها مصففا بإتقان، وكانت ترتدي تنورة ذات نقوش مربعة وردية وخضراء وسترة وردية. ابتسمت لي وهزت أصابعها فوق الآلة الكاتبة بأبسط تحية ممكنة، ثم استمرت في الكتابة على الآلة الكاتبة بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت كانت تجري أحاديث مرحة غير مترابطة وغير مفهومة مع زملائها في العمل. وبعدها بعدة دقائق نادتني قائلة إنها ستنتهي من العمل في الساعة الخامسة، فأخبرتها أن علي العودة إلى المنزل. شعرت أن مولي وكارلا كانتا تنظران إلي، إلى الحبر الذي على يدي العاريتين الحمراوين، وإلى وشاحي الصوفي المنزلق، وإلى شعري الجامح وإلى كومة الكتب التي أحملها والتي توحي بمظهر التلميذة.
كانت الفتيات المتأنقات يخفنني حتى الموت، ولم أكن أحب حتى أن أقترب منهن خشية أن تكون رائحتي كريهة. كنت أشعر أن بيني وبينهن فارقا جوهريا وكأنني مخلوقة من مادة أخرى غير المادة التي خلقن منها. أيديهن الرقيقة لم تكن تتبقع أو تتعرق، وتظل شعورهن طوال الوقت على هيئتها المنمقة بعناية، ولا تبتل منطقة الإبط بالعرق قط، وبالطبع فإنهن لم يعرفن أبدا شعور أن تبقي الواحدة منا مرفقيها ملتصقين بجانبها؛ كي تخفي تلك البقع الداكنة المشينة ذات الشكل الهلالي على الثوب، وبالطبع لم يحدث أبدا أن شعرت إحداهن بذلك التدفق الزائد البسيط، زيادة لا تستطيع أي فوطة صحية أن تحبسها، فتقطر الدماء بشكل مرعب نازلة على منطقة الفخذين. كلا بالطبع، لا يحدث هذا معهن، كانت عادتهن الشهرية سرية وطبيعية ولم تخنهن أبدا. ولم يكن من الممكن قط تحويل ما أنا عليه من غلظة إلى ما هم عليه من نعومة، لقد فات الأوان على هذا؛ فالهوة اتسعت للغاية. لكن ماذا عن ناعومي؟ لقد كانت مثلي؛ فذات مرة أصيبت بوباء من الثآليل في أصابعها، وعانت من سعفة القدم، وكنا نختبئ في حمام الفتيات عندما يتصادف مرورنا بالدورة الشهرية في الوقت نفسه خوفا من القيام بحركات بهلوانية - واحدة تلو الأخرى أمام باقي طلاب الفصل - مخافة أن ننزلق فتقطر منا الدماء، وكنا نتحرج أن نطلب الإذن بإعفائنا. ما هذا الزي التنكري الذي ترتديه الآن بطلاء الأظافر والسترة الملونة؟
سرعان ما صارت ناعومي صديقة حميمة لمولي وكارلا. فقد كانت حواراتي معها عندما تأتي إلى بيتي أو حينما تدعوني إلى بيتها متخمة بالحديث عن حميتهما الغذائية، ونظام عنايتهما بالبشرة، وطرق غسيل الشعر، وملابسهما، والعازل الأنثوي الذي تستخدمانه لمنع الحمل (كانت مولي متزوجة منذ عام أما كارلا فسوف تتزوج في يونيو). وأحيانا كانت كارلا تأتي إلى بيت ناعومي عندما أكون هناك، وكانتا دائما تتحدثان عن الغسيل، غسيل السترات أو الملابس الداخلية أو الشعر. كانتا تقولان: «غسلت سترتي الصوفية.» «غسلتها؟ هل غسلتها بماء بارد أم فاتر؟» «بماء فاتر، لكن أظن أنه لا بأس في الحالتين.» «ماذا فعلت بشأن عنق السترة؟» كنت أجلس وأفكر أن سترتي قذرة وشعري دهني وحمالة صدري بهت لونها وأحد شريطيها مثبت بدبوس. كان علي أن أهرب من ذلك المكان، لكن عندما أعود إلى المنزل لم أكن أحيك شريط حمالة الصدر أو أغسل سترتي؛ فالسترات التي أغسلها دائما ما تنكمش أو تتسع ياقتها وتتدلى. كنت أعلم أنني لا أتكبد المشقة اللازمة معها، لكن كان لدي إحساس محتوم بأنها ستنكمش أو أن ياقتها ستتسع مهما فعلت. أحيانا كنت أغسل شعري وألفه على بكرات معدنية فظيعة كانت تمنعني من النوم، بل إنني كنت أقضي ساعات طويلة أمام المرآة في بعض الأحيان أهذب حاجبي بألم وأطالع مظهري الخارجي، ثم أضع على وجهي مساحيق التجميل الداكنة والفاتحة كي أبرز المحاسن وأخفي العيوب كما توصي المجلات. كان هما دائما لا أقدر على تحمله، رغم أن كل شيء ابتداء من المجلات، إلى روايات إف سكوت فيتزجيرالد، وحتى تلك الأغنية المخيفة التي كانت تذاع في الراديو - تقول كلماتها: «الفتاة التي سأتزوجها لا بد أن تكون ناعمة ووردية كالأطفال.» - كان ينبئني بأن علي أن أتعلم؛ فالحب لن يكون لمن لا تهتم حتى بنزع الشعر الزائد عن جسدها.
أما بخصوص غسيل الشعر ، فقد كنت في ذلك الوقت تقريبا بدأت أقرأ مقالا في مجلة عن موضوع الاختلاف الأساسي بين عادات الذكور والإناث الفكرية التي ترتبط بصفة أساسية بتجربتهم الجنسية (عنوان المقال يجعل القارئ يظن أنه يتناول الجنس أكثر مما يفعل في الواقع). كان كاتب المقال طبيبا نفسانيا مشهورا من نيويورك من أتباع فرويد، وكان يقول إن الفارق بين أنماط التفكير الذكورية والأنثوية يتضح جليا في كيفية تفكير صبي وفتاة يجلسان على مقعد في الحديقة وينظران إلى بدر كامل التمام؛ فيتفكر الصبي في الكون وضخامته وغموضه، بينما تفكر الفتاة: «لا بد أن أغسل شعري.» عندما قرأت هذا استشطت غضبا، وتركت المجلة فورا؛ إذ اتضح لي على الفور أنني لا أفكر كفتاة؛ فلم يكن البدر المكتمل ليذكرني أبدا ما حييت بأن أغسل شعري. كنت أعرف أنني لو أريت هذا المقال لأمي لقالت: «نعم، إنه ذلك الهراء الذكوري المجنون الذي يرى المرأة بلا عقل.» لكن هذا لم يكن ليقنعني فلا بد لطبيب نفساني من نيويورك أن «يكون على علم»، كما أن النساء على شاكلة أمي كن أقلية. علاوة على هذا، لم أكن أريد أن أكون مثل أمي بفظاظتها العذرية وبراءتها. كنت أريد أن يحبني الرجال، وأردت أن أفكر في الكون حينما أنظر إلى القمر. شعرت أنني محاصرة، مقيدة، وبدا لي أنني يجب أن يكون لدي اختيار حيث لا يمكن أن يكون لدي. لم أكن أريد أن أقرأ مزيدا من هذا المقال، لكنني انجذبت إليه كما كنت أنجذب في صغري لصورة بعينها لبحر مظلم أو حوت ضخم في كتاب للقصص الخرافية. قفزت عيناي بعصبية عبر الصفحة، بداية من بعض العبارات المؤكدة مثل «بالنسبة للمرأة، كل شيء يعتبر شخصيا ولا توجد فكرة تمثل لها أهمية في حد ذاتها، وإنما لا بد أن تترجمها إلى تجربتها الشخصية، وفي الأعمال الفنية ترى المرأة دائما حياتها الخاصة أو أحلام يقظتها.» في النهاية أخذت المجلة إلى سلة القمامة فمزقتها إلى نصفين ودفنتها بداخلها وحاولت نسيانها. بعدها كنت كلما رأيت مقالا في مجلة عنوانه «الأنوثة ... عائدة»، أو أجد اختبارا للمراهقين عنوانه: «هل مشكلتك أنك تحاولين أن تكوني فتى؟» كنت أقلب الصفحة بسرعة كما لو أن بها شيئا سيعضني. غير أنني لم أفكر أبدا أنني أريد أن أكون فتى.
بفضل مولي وكارلا ومن خلال وضعها الجديد كفتاة عاملة، صارت ناعومي جزءا من دائرة معينة في جوبيلي لم أكن أعرف أنا أو هي أنها موجودة. كانت الدائرة تضم الفتيات اللاتي يعملن في المحال والمكاتب والبنكين الموجودين في البلدة، بالإضافة إلى بعض الفتيات المتزوجات واللاتي تركن وظائفهن مؤخرا. وإذا لم تكن تلك الفتيات متزوجات وليس لهن رفقاء، فإنهن كن يذهبن للحفلات الراقصة معا، وللعب البولنج معا في تابرتون، وكن يقمن حفلات ويقدمن هدايا لبعضهن بمناسبة الزواج أو الإنجاب (وكان هذا يزعج السيدات الأكبر سنا في البلدة). كانت علاقتهن ببعضهن - رغم أنها مليئة بالأسرار الفاضحة - محاطة بجميع أنواع الرسميات والمجاملات وآداب اللباقة. لم يكن الأمر يشبه المدرسة، فلا همجية ولا فظاظة ولا لغة سوقية، وإنما دائما شبكة معقدة من الضغائن يشار إليها بشكل غير مباشر، وعادة ما تكون بسبب أزمة - مثل حمل أو إجهاض أو هجر - كلهن يعلمنها ويتكلمن عنها، لكنهن يعتبرنها سرهن الذي يحرسنه ويحفظنه عن باقي سكان البلدة. وكان أكثر ما يقلن براءة ومواساة وإطراء قد يعني شيئا آخر. كن يتسامحن ويتقبلن من بعضهن ما يراه معظم أهل المدينة زلات أخلاقية، لكنهن لا يتسامحن أبدا مع أي انحراف في أسلوب الملبس أو تصفيف الشعر، أو مع من لا يقطعون قشرة الخبز من على الشطائر في حفلات الهدايا.
ما إن بدأت ناعومي تتسلم شيكات راتبها حتى بدأت تفعل ما تفعله هؤلاء الفتيات إلى أن يتزوجن. فكانت تتجول بين عدة محال وتطلب منهم أن يحجزوا لها بعض الأشياء على أن تدفع لهم ثمنها خلال شهر على الأكثر؛ ففي متجر الأدوات المنزلية حجزت مجموعة كاملة من الأواني والمقالي، وفي متجر المجوهرات حجزت حقيبة من فضيات المائدة، وفي متجر ووكر حجزت بطانية ومجموعة من المناشف وزوجا من الملاءات الكتانية . كانت تعد هذه الأشياء حتى يأتي وقت زواجها وتستعد للقيام بالمهام المنزلية، وكانت تلك المرة الأولى التي أراها تخطط لأي شيء بهذا التحديد. وقد قالت لي بحدة: «لا بد أن تبدئي في هذا يوما ما، بماذا ستتزوجين؟ بطبقين وخرقة قديمة لمسح الأطباق؟»
وفي عصر أيام السبت، كانت تريدني أن أصحبها في جولتها في المحال وهي تسدد ما عليها من مستحقات وتطالع ممتلكاتها المستقبلية، وتشرح لي لماذا ستعمد - على غرار مولي - للطهي دون ماء وكيف يمكن معرفة جودة الملاءات من عدد الخيوط في كل بوصة مربعة منها. اندهشت وأصابني الذعر من تحولها إلى شخصيتها الجديدة المملة المستغرقة في التفكير في تلك الأمور الغريبة. كانت تبدو كما لو أنها تسبقني بأميال كثيرة، لكنني لم أرد أن أذهب إلى حيث هي ذاهبة، غير أنها هي نفسها بدت راغبة في الذهاب في ذلك الاتجاه، كانت الأمور تتطور معها، هل يمكن أن يقال الشيء نفسه عني؟
ما كنت أريد أن أفعله في عصر أيام السبت هو أن أبقى في البيت وأستمع إلى أوبرا المتروبوليتان. كانت تلك العادة ترجع إلى الوقت الذي كانت فيرن دوجرتي تسكن فيه لدينا، واعتادت هي وأمي الاستماع إليها. رحلت فيرن دوجرتي عن جوبيلي وذهبت لتعمل في وينزر، وكانت تكتب لنا من حين لآخر خطابات غامضة مرحة تتحدث فيها عن الذهاب إلى ملهى ليلي في ديترويت وذهابها إلى سباق الخيول، والغناء مع جمعية الأوبريتات والاستمتاع بحياتها. قالت ناعومي عنها: «لم تكن فيرن دوجرتي تلك إلا نكتة.» كانت تتحدث من منظورها الجديد. لقد كانت ناعومي وكل تلك الفتيات متوجهات نحو هدف بعينه؛ ألا وهو الزواج، ولا يمكن لأي امرأة أكبر سنا غير متزوجة - سواء إذا كانت تخطت سن الزواج أو من هواة المغامرات السرية مثل فيرن - أن تتوقع منهن أي تعاطف. ما الذي يجعلها نكتة؟ كنت أود أن أعرف فعلا لكن ناعومي حدقت في بعينيها الشاحبتين البارزتين وكررت قائلة: «نكتة، لقد كانت مجرد نكتة.» قالتها كأنها تتصدى لهرطقة كبيرة بنشر معتقدات جليلة بديهية مثبتة .
لم تعد أمي تولي اهتماما كبيرا للأوبرا؛ فلقد حفظت الشخصيات والحبكة وصارت تتعرف على الألحان المشهورة ولم يعد هناك شيء جديد لتعرفه. أحيانا كانت تخرج من المنزل؛ إذ كانت لا تزال تقوم بجولاتها من أجل بيع الموسوعات، فكانت تذهب لأولئك الذين اشتروا الموسوعة كي تقنعهم بشراء الملحقات التي تصدر سنويا. لكنها لم تكن بخير، في البداية ابتليت بسلسلة من الأمراض غير الشائعة: الثآليل الأخمصية، والتهاب العين، وتورم الغدد، وطنين في الأذن، ونزيف الأنف، وطفح جلدي قشري غامض. ظلت ترتاد عيادة الطبيب، وكلما برئت من شيء أصابها شيء آخر. ما كانت تعاني منه فعلا هو نضوب طاقتها، وتدهور صحتها بشكل عام، وهو ما لم يعرفه أحد. غير أن هذه الحالة المتدهورة لم تكن ثابتة؛ فقد كانت في بعض الأحيان تكتب خطابات للصحيفة وكانت تحاول أن تعلم نفسها علم الفلك. لكنها كانت أحيانا تستلقي في فراشها وتناديني كي أدثرها بالغطاء، وكنت دائما ما أفعل هذا بعدم اكتراث، حتى إنها كانت تناديني ثانية كي أحكم الغطاء عند ركبتيها وحول قدميها، حينها كانت تقول بصوت شكس طفولي مصطنع: «قبلة لماما.» فكنت أطبع قبلة جافة هزيلة على صدغها. كان شعرها يخف، وكانت بشرتها الشاحبة لها مظهر غير صحي ينم عن المعاناة كنت أمقته.
على أية حال، فإنني كنت أفضل أن أكون بمفردي حينما أستمع إلى عروض أوبرالية مثل «لوشيا دي لامرمور» و«كارمن» و«لاترافياتا». مقاطع موسيقية معينة كانت تثيرني لدرجة لا أستطيع معها أن أظل ساكنة في مكاني، فأنهض وأظل أتحرك في أرجاء حجرة الطعام، وأغني في سري مع الأصوات التي تنبعث من الراديو وأنا أحتضن نفسي وأعتصر مرفقي. ثم تمتلئ عيناي بالدموع بينما تلتهب بداخلي التخيلات التي تتولد بسرعة ورفق. فتخيلت حبيبا، وتخيلت جوا عاصفا، وتخيلت المجد الخافق لعاطفتنا المقدر له الفشل. (لم يخطر ببالي قط أنني أفعل ما قال المقال إن المرأة تفعله عند تعاملها مع عمل فني.) استسلام شهواني، ليس استسلاما لرجل وإنما استسلام للقدر، استسلام للظلام، استسلام للموت. ولكن كان أكثر ما أحبه هو أوبرا كارمن في نهايتها، وأخذت أدندن موسيقى «ودعني أذهب.» كنت أرتجف وأنا أتخيل الاستسلام الآخر، إنه أكثر إغراء وأكثر جمالا من الاستسلام للجنس؛ إنه استسلام البطل، استسلام الوطني، استسلام كارمن للأهمية النهائية للإشارة، وللصورة، وللنفس التي خلقتها النفس.
كانت الأوبرا تشعرني بالجوع، وعندما انتهت ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي شطائر من البيض المقلي مع قطع البسكويت الملتصقة معا بالعسل وزبدة الفول السوداني، ومعها مزيج سري كريه من الكاكاو وشراب الذرة والسكر البني وجوز الهند مع الجوز المقشر، والذي يجب أن يؤكل بالملعقة. كان الأكل بنهم في البداية يرضيني ثم يصيبني بعد ذلك بالاكتئاب كما تفعل ممارسة العادة السرية (العادة السرية؛ قرأت أنا وناعومي في كتب أمها كيف أن الفلاحات في شرق أوروبا يمارسنها باستخدام الجزر وتمارسها السيدات في اليابان باستخدام كرات ذات ثقل، ويمكن التعرف على من اعتادت ممارستها من النظرة الفاترة في عينيها وملمس بشرتها التي تشبه بشرة مرضى الكبد، وكنا نطوف جوبيلي باحثات عن هذه الأعراض ونحن نفكر أن هذا الأمر بأكمله غريب وطريف ومثير للغثيان، بل إن كل ما كنا نكتشفه عن الجنس كنا نحوله إلى مهرجان إما للضحك أو للشعور بالغثيان، أو كما كنا نقول «نضحك حتى يصيبنا الغثيان.» أما الآن فلم نعد نتحدث عن هذا الأمر أبدا.) أحيانا بعد أن أسرف في تناول الطعام، كنت أصوم عن الطعام ليوم أو اثنين، وأشرب جرعة كبيرة من الملح الإنجليزي المذاب في ماء دافئ وأنا أفكر أن السعرات الحرارية لن تبقى في جسدي إذا استطعت أن أطرد كل ما بجسدي بسرعة. لم أصبح بدينة حقا، وإنما كان جسمي ممتلئا ومشدودا بما فيه الكفاية، حتى إني كنت أحب أن أقرأ الروايات التي توصف فيها المناطق الممتلئة في جسد البطلة بشكل ناعم ومثير جنسيا، وفي الوقت نفسه كنت أقلق من الروايات التي تكون فيها النساء المثيرات كلهن نحيفات، ولكي أطمئن نفسي كنت أردد لنفسي بيت الشعر القائل: «العشيقات ذوات السيقان الممتلئة الناعمة المرمرية.» كنت أحب هذا ، وأحب كلمة «عشيقة»، وهي كلمة أتخيل صاحبتها ترتدي تنورة ضيقة عند الخصر ومنفوشة عند السيقان؛ العشيقة لا يجب أن تكون شديدة النحافة. كنت أحب أن أطالع نسخة لوحة «المستحمون» لسيزان في الملحق الفني للموسوعة ثم أنظر لنفسي عارية في المرآة، لكن كان الجانبان الداخليان لفخذي يرتعشان كقالب من الجبن القريش في كيس شفاف.
في ذلك الوقت، كانت ناعومي تبحث حولها لترى الاحتمالات المتاحة.
كان ثمة رجل يدعى بيرت ماثيوز - أعزب في الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمره، وله وجه مرح مضطرب وشعر يبدو كقبعة من الفراء مدفوعة إلى الخلف على فروة رأسه المغضنة - يتردد بانتظام على مكتب محل الألبان، وكان يعمل مفتش دواجن. قصت لي ناعومي باشمئزاز ما كان يقول لمولي وكارلا؛ فكان دائما ما يسأل مولي إذا ما كانت حاملا، وكان يتسلل حولها محاولا أن يلحظ بطنها من الجانب، وكان يعطي كارلا نصائح عن شهر العسل المقبل. وكان يطلق على ناعومي «كعكة الزبدة»، وعندما يراها في الطريق كان يبطئ سيارته ويطلق نفيرها نحوها فتستدير هي مبتعدة قائلة: «يا ربي، أنقذني من هذا الأحمق!» وتعبس في انعكاس صورتها في زجاج المتجر.
راهنها بيرت ماثيوز بعشرة دولارات أنها لن يسمح لها بمقابلته في قاعة رقص «جاي لا». وأرادت ناعومي أن تذهب وقالت إن هذا من أجل الدولارات العشرة ولكي تثبت له أنها تستطيع أن تذهب إلى هناك. صحيح أن والدتها لم تكن لتسمح لها بأن تذهب إلى تلك القاعة، لكن والدتها كانت خارج المدينة في مهمة تمريض، ولم يكن أمر والدها يقلقها إطلاقا، فكانت تقول عنه دوما: «إنه يخرف»، كما لو أنها تستمتع بالرنين الطبي للكلمة. كان يقضي وقته في غرفته مع الإنجيل والكتب الدينية خاصته يصنف النبوءات.
أرادت ناعومي أن أذهب معها وأبيت الليل عندها في بيتها وأقول لأمي إننا سنذهب إلى مسرح الليسيوم. شعرت أنه لا يوجد أمامي خيار سوى أن أفعل هذا؛ ليس لأن ناعومي تريدني أن أفعل هذا، وإنما لأنني كنت أكره قاعة «جاي لا » وأخشاها بحق.
كانت قاعة «جاي لا» تقع على بعد نصف ميل شمال المدينة على الطريق السريع، وكانت مغطاة بجذوع شجر صناعية لونها بلون الشوكولاتة، ونوافذها لم يكن بها زجاج، وإنما لها مصاريع لوحية تغلق بإحكام خلال النهار وتفتح حين يحين وقت الرقص. عندما كنت أمر بالسيارة مع أمي من هذا المكان كانت تقول: «انظري إلى سدوم وعمورة.» كانت تشير إلى عظة ألقيت في الكنيسة المشيخية تشبه قاعة رقص «جاي لا» بهاتين القريتين وتتوقع لها مصيرا مشابها (يقال إنها القرى التي كان نبي الله لوط يعيش فيها). حينها قالت أمي إن هذا التشبيه غير صحيح؛ لأن سدوم وعمورة لقيتا هذا المصير بسبب ممارسات غير طبيعية. (فقالت فيرن دوجرتي بغموض وثقة عندما شرحت لها أمي ذلك: «طبيعية أو غير طبيعية، على حسب، أليس كذلك؟») كانت أمي في موقف مرتبك؛ فمن حيث المبدأ عليها أن تسخر من موقف الكنيسة المشيخية، لكن على الجانب الآخر كان مجرد مرأى قاعة «جاي لا» - على ما أعتقد - يشعرها بإحساس الفساد العظيم نفسه الذي يشعر به المشيخيون. وكنت أنا أراها من وجهة النظر نفسها، تلك القاعة بنوافذها المعتمة في ذلك الحقل الخرب القذر، فكنت أراه برمته مكانا أسود سيء السمعة.
وفي غابة الصنوبر خلف القاعة، كانت الواقيات الذكرية تتناثر، يبدو شكلها كجلود ثعابين قديمة، هذا ما كان الجميع يقولونه.
انحرفنا عن الطريق السريع في ليلة جمعة وكل منا ترتدي فستانا مزينا بالزهور، تنورته طويلة وذات طيات متعددة محكمة عند الوسط. كنت قد بذلت قصارى جهدي كي أتزين؛ فاغتسلت وأزلت شعري الزائد واستخدمت مزيلا لرائحة العرق وصففت شعري لأعلى، وارتديت تنورة تحتية من قماش القرينول خشنة ومثيرة للحكة عند الفخذين، وصدرية كان من المفترض أن تضغط خاصرتي، لكنها قرصت على حجابي الحاجز وتركت انتفاخا صغيرا تحته، لدرجة اضطرتني أن أضيق حزامي البلاستيكي فوقها. ضيقت الحزام لخمس وعشرين بوصة وكنت أتعرق تحته. وضعت على وجهي وعنقي مسحوق تجميل لونه بيج يشبه الطلاء، وطليت شفتي باللون الأحمر بشكل سميك حتى بدت كالوردة الحمراء المصنوعة من الحلوى التي يزين بها الكعك. وانتعلت صندلا تعلق به حصى الطريق. أما ناعومي فقد انتعلت حذاء ذا كعب عال. كنا في شهر يونيو وكان الجو دافئا ناعما يعج بالحشرات، والسماء تبدو خلف أشجار الصنوبر السوداء كقشرة نبات الدراق، والكون يبدو جميلا، فقط لو لم أكن مضطرة للذهاب لقاعة الرقص.
سبقتني ناعومي عبر مرأب السيارات العشوائي غير الممهد، وصعدت السلم المضاء الذي لا يضيئه سوى مصباح أصفر واحد. إذا كانت تشعر بالخوف مثلما أشعر أنا فإنها لم تظهر ذلك. ثبت عيني على كعبي حذائها العاليين اللذين يدلان على التكبر، وعلى ساقيها القويتين العاريتين ناميتي العضلات بلونهما الشاحب. كان ثمة رجال وشباب يجلسون على السلم، لم أستطع رؤية وجوههم ولم أنظر لأراها، لم أر سوى سجائرهم أو حليات أحزمتهم المعدنية أو الزجاجات التي تتلألأ في الظلام. كي أمر عبر الكلام الناعم المثير للازدراء والمفزع بطريقة غريبة، حاولت أن أوقف حاسة السمع لدي بالطريقة نفسها التي يكتم بها المرء أنفاسه. ماذا حدث لثقتي بنفسي التي كنت أتمتع بها، تلك الثقة الزائفة التي ميزت الأيام الخوالي للتهريج والشعور بالأفضلية؟ لم يبق منها شيء، كنت أفكر بحنين وعدم تصديق كم كنت جريئة حينها! كما حدث مع السيد شامبرلين، على سبيل المثال.
طبعت سيدة بدينة مسنة يدينا بطابع قرمزي.
شقت ناعومي طريقها على الفور نحو بيرت ماثيوز الذي كان واقفا بالقرب من مسرح الرقص وقالت له: «لم أتوقع قط أن أجدك هنا، أسمحت لك ماما بالخروج؟»
اصطحبها بيرت ماثيوز للرقص. كان الرقص يتم فوق منصة خشبية ترتفع عن مستوى الأرض نحو قدمين، وهي محاطة بحواجز مزينة بحبال من الأضواء الملونة، والتي كانت أيضا تلتف حول الأعمدة الأربعة التي تتوزع في الأركان وتمتد في خطين مائلين يتقاطعان فوق رءوس الراقصين؛ مما يجعل منصة الرقص تبدو كسفينة مضاءة تطفو فوق الأرض المرشوشة بنشارة الخشب. وفيما عدا تلك الأضواء، والضوء الذي ينبعث من نافذة مفتوحة على ما يشبه المطبخ - حيث تباع النقانق وشطائر الهامبرجر والمشروبات الغازية والقهوة - كان المكان مظلما. كان الناس يقفون متجاورين في حشود غامضة، وكانت نشارة الخشب تحت أقدامهم مبللة وتفوح منها رائحة المشروبات المسكوبة. وقف رجل أمامي حاملا كوبا ورقيا، اعتقدت أنه قد أخطأ العنوان، فهززت رأسي، لكني بعدها تمنيت لو أنني أخذته منه، فلربما بقي بجواري وطلب أن أرقص معه.
بعد رقصتين عادت ناعومي ومعها بيرت ماثيوز ورجل آخر نحيل جذاب ذو وجه أحمر وشعر أحمر. وقف ورأسه ممدودة للأمام وجسده الطويل منحن على شكل حرف الواو. لم يطلب مني هذا الرجل الرقص وإنما جرني من يدي إلى المنصة عندما بدأت الموسيقى. ولدهشتي، وجدته راقصا بارعا ومبتكرا واستمر يدفعني بعيدا عنه ثم يسحبني إليه مرة أخرى ويدور حول نفسه وهو يطقطق بأصابعه، وكان يفعل ذلك دون أن يبتسم وإنما في الواقع كان يرتسم على وجهه تعبير جاد عدواني. وفي الوقت الذي كنت أحاول أن أتابع رقصه، كان علي أيضا أن أتابع كلامه لأنه كان يتحدث كذلك خلال تلك اللحظات القصيرة غير المتوقعة التي تتخلل الرقص عندما نكون على مسافة قريبة بعضنا من بعض. كان ذا لكنة هولندية، ولكن لم يكن ذلك صحيحا؛ ففي ذلك الوقت كان المهاجرون الهولنديون قد اشتروا بعض المزارع القليلة حول جوبيلي، وكانت لهجتهم - بأصواتها الدافئة البريئة - يمكن أن تسمع في نكات محلية بعينها وفي الأقوال المأثورة. قال لي مستخدما واحدة من تلك العبارات وهو يدير عينيه متوسلا: «راقصيني بليونة.» لم أعرف ماذا كان يعني، فلقد كنت أراقصه أو أنه كان يراقص نفسه بأقصى قدر من الليونة يستطيع أحد أن يرقص به. كان كلامه كله بهذا الشكل؛ فكنت أسمع الكلمات لكني لا أستطيع أن أحدد المعنى، لعله كان يمزح لكن وجهه ظل لا يبتسم. لكنه أدار عينيه بطريقته الغريبة وناداني قائلا: «يا حبيبتي.» بصوت بارد واهن، كما لو كنت شخصا مختلفا تماما عن نفسي، وكل ما فكرت أن أفعله هو أن أتخيل تلك الفتاة التي يظن أنه يراقصها وأتقمص شخصيتها، فتاة ضئيلة مندفعة مشرقة لعوب. لكن كل ما كنت أفعله، كل حركة، وكل تعبير حاولت به أن أواكب حركاته بدا متأخرا جدا؛ إذ يكون قد تجاوزه إلى شيء آخر.
رقصنا حتى أخذت الفرقة استراحة، سررت لانتهاء الرقص وسعدت لأنه ظل معي؛ فقد كنت أخشى أن يشعر بمدى عدم ملاءمتي ويذهب للبحث عن فتاة أخرى. سحبني خارج منصة الرقص ثم إلى نافذة المطبخ حيث دفعنا المتزاحمون كي يستطيع أن يبتاع لنا كوبين من جعة الزنجبيل.
قال بلهجة آمرة: «اشربي بعضا من هذا.» متخليا عن لهجته الهولندية وهو يبدو متعبا وعمليا، فشربت بعضا من كوبي فقال لي: «اشربي الاثنين فأنا لا أشرب جعة الزنجبيل قط.» كنا نمشي عبر ساحة القاعة، استطعت وقتها تمييز الوجوه، ورأيت أناسا أعرفهم وأخذت أبتسم لهم وأنا يخالجني شعور بالفخر؛ لكوني في هذا المكان ولكوني أتبع رجلا. وصلنا إلى بيرت وناعومي، اشترى بيرت قنينة من الويسكي وقال: «حسنا أيها العريف، كيف أخدمك؟» ثم صب بعض الويسكي في الكوبين، ابتسمت ناعومي لي ابتسامة خاوية كسباحة خرجت لتوها من الماء. كنت أشعر بالحر والعطش فشربت الويسكي وجعة الزنجبيل في ثلاث أو أربع رشفات كبيرة.
قال بيرت ماثيوز: «يا إلهي!»
وقالت ناعومي وهي سعيدة بي: «إنها معتادة على احتساء الكحول.»
فقال بيرت: «إذن، فهي لا تحتاج إلى جعة الزنجبيل.» وصب الويسكي في كوبي، فاحتسيته وبداخلي رغبة قوية في إضافة المزيد من البريق إلى وضعي الجديد، ولم أهتم بالطعم كثيرا. أخذ بيرت يشكو أنه لا يريد أن يرقص بعد ذلك، قائلا إنه يعاني ألما في ظهره. أطلق الرجل الذي كنت معه - والذي عرفت وقتها أو بعدها أن اسمه كلايف - ضحكة مرعبة متحشرجة صوتها كصوت مدفع رشاش، وحرك يده وكأنه يلكم بيرت عند حلية حزامه. «كيف ضعف ظهرك؟ ها! كيف ضعف ظهرك؟»
قال بيرت بصوت عال متذمر: «كنت مستلقيا هناك أيها الضابط، فجاءت هي وجلست علي، ماذا عساي أن أفعل؟»
قالت ناعومي بسعادة: «لا تكن بذيئا.» «ما البذاءة في هذا؟ ماذا قلت؟ هل تريدين أن تدلكي ظهري، يا حبيبتي؟ دلكي ظهري يا ناعومي.» «لا أهتم بظهرك الأحمق، اذهب وابتع مرهما.»
قال وهو يتشمم شعر ناعومي: «هل تدلكيني به؟ هه! تدلكيني به جيدا؟»
صارت الأضواء الملونة زائغة وكانت تتحرك لأعلى وأسفل كالأشرطة المطاطية الممتدة. وتضخمت وجوه الناس قليلا بشكل بذيء عبر الوجنات، وبدت لي كما لو أني أنظر إلى الوجوه منعكسة على سطح منحن لامع. كما أن الرءوس بدت كبيرة لا تتناسب مع الأبدان، وتخيلتها - رغم أنني لم أرها في الواقع - منفصلة عن الأجساد تطفو بسلاسة على صوان غير مرئية. كانت تلك هي قمة السكر التي قد أصل إليها فيما يتعلق بالتأثير على المستقبلات الإدراكية. وبينما كنت أمر بهذه الحالة ذهب كلايف ليشتري نقانق مغلفة في مناديل ورقية وصندوق جعة الزنجبيل، وتركنا كلنا قاعة الرقص وجلست في مقعد السيارة الخلفي مع كلايف. أحاطني بذراعه وأخذ يدغدغ خصري المصفح بعنف. انطلقنا بالسيارة على الطريق السريع بما بدت لي سرعة هائلة وكان بيرت وكلايف يغنيان بأصوات عالية بإيقاع مصطنع: «لا أبالي إن لم تشرق الشمس، فستأتيني حبيبتي في وقت المساء.» كانت النوافذ مفتوحة والريح والنجوم تعدو مسرعة بجوارنا. كنت سعيدة؛ فلم أعد مسئولة عن أي شيء؛ «إنني ثملة.» هكذا فكرت. دخلنا جوبيلي فرأيت البنايات تمتد على طول الشارع الرئيسي، وبدت كما لو أنها تحمل رسالة لي تتعلق بطبيعة العالم المؤقتة واللعوب، والمستبعدة بصورة بهيجة. كنت قد نسيت أمر كلايف، لكنه مال بوجهه وألصقه بوجهي ودس لسانه الضخم المبتل البارد المجعد كخرقة تنظيف صحون داخل فمي.
كنا قد توقفنا خلف فندق برونزويك.
قال بيرت: «هنا أعيش، هذا هو بيتي السعيد.»
قالت ناعومي: «لا يمكننا أن ندخل، لن يسمحوا لك بأن تصطحب فتيات إلى غرفتك.» «انتظري، وسترين.»
دخلنا من باب خلفي وصعدنا بعض السلالم، ثم مشينا في ممر تتلألأ في نهايته حاوية كبيرة على شكل فقاعة مليئة بسائل أحمر اللون، بدا لي جميلا للغاية في الحالة التي كنت عليها. دخلنا إلى غرفة نوم وجلسنا يغمرنا ضوء ساخن مفاجئ كل منا بعيد عن الآخر. جلس بيرت على السرير ثم استلقى، أما ناعومي فقد جلست على المقعد وجلست أنا على مسند ممزق، وتنورتانا ممتدتان بشكل مناسب. جلس كلايف على المدفأة الباردة لكنه نهض فجأة ليسدل ستارة على الشباك، ثم صب لنا المزيد من الويسكي مازجا إياه بجعة الزنجبيل التي اشتراها، وأكلنا النقانق. كنت أعلم أننا اقترفنا خطأ بإيقاف السيارة والدخول إلى هنا. أخذ إحساسي بالسعادة يذوي برغم أني أخذت أشرب المزيد على أمل أن يعود ثانية، لكني لم أشعر سوى أنني منتفخة وجسدي ثقيل خاصة أصابع يدي وقدمي.
قال كلايف بحدة موجها حديثه إلي: «هل تؤمنين بحق المرأة في المساواة؟» «نعم.» قلتها وأنا أحاول أن أستجمع شتات نفسي وقد شجعني السؤال وأشعرني بأنه يتعين علي أن أجيب على أمل الدخول في مناقشة. «هل تناصرين أيضا توقيع عقوبة الإعدام على النساء؟» «لا أناصر عقوبة ... الإعدام على الإطلاق. لكن إن كانت ستطبق فيجب أن تطبق على النساء كذلك.»
قال كلايف بسرعة الرصاص: «تعتقدين أن النساء يجب أن يشنقن كالرجال؟»
ضحكت بصعوبة دون أي سعادة، فقد بدأ الإحساس بالمسئولية يعود إلي.
دفع هذا كلا من بيرت وكلايف لأن يلقيا النكات، وكل نكتة كانت تبدأ جادة وتستمر هكذا لفترة حتى لتبدو أنها حكاية تعليمية ذات مغزى؛ ومن ثم كان ينبغي أن نظل طوال الوقت مترقبتين كي لا تبدو علينا الحماقة ونصمت عندما يأتي وقت الضحك. كنت أخشى أنني إذا لم أضحك في الحال فسوف يكون انطباعهم عني أنني ساذجة حتى إنني لم أستوعب النكتة أو أن النكتة قد أهانتني. في كثير من تلك النكات - كما في النكتة الأولى - كان ضروريا أن أزود أنا أو ناعومي المحادثة بكلام جاد، والطريقة التي كنا نفعل بها هذا - كي لا نظهر بصورة الحمقى كما بدوت أنا في تلك المرة - هو أن نجيب بشكل متردد ساخط لكن في نفس الوقت متساهل بعض الشيء؛ كي نتابع النكتة بترقب ونبتسم ابتسامة خفيفة كما لو أننا نعرف ما سيأتي. وبين النكات قال بيرت لناعومي: «تعالي إلى الفراش معي.»
فقالت : «كلا شكرا، إنني مرتاحة حيث أنا.» ورفضت أن تشرب المزيد وأخذت تنفض دخان السيجارة في منفضة السجائر الخاصة بالفندق. «لماذا تكرهين الأسرة؟ فيها تحصلين على المزيد.» «احصل أنت على ما تشاء.»
أما كلايف فلم يبق ثابتا في مكانه قط، فقد أخذ يتحرك في أرجاء الغرفة؛ يمثل وكأنه يلاكم أناسا وهميين، ويمثل نكاته عمليا، يندفع نحو بيرت على السرير حتى قفز بيرت في النهاية هو الآخر وأخذا يتظاهران أنهما يتعاركان؛ يسددان لكمات قريبة ويقفزان وهما يضحكان. فاضطررت أنا وناعومي لأن نبعد أقدامنا عنهما.
قالت ناعومي: «إنهما مغفلان.»
أنهى كلايف وبيرت عرضهما بأن وضع كل منهما يده على كتف الآخر وواجهانا بشكل رسمي كما لو كانا فوق خشبة مسرح.
قال بيرت: «أرى من ثيابك أنك راعي بقر ...» فرد عليه كلايف مغنيا: «أرى من ثيابك أنك أيضا راعي بقر ...» «من ثيابنا، يمكنكما أن تعرفا أننا راعيا بقر ...»
قال بيرت بلهجة مخيفة: «أنت يا راستوس.» «نعم؟» «هل أنت في الرابعة أم في الخامسة من عمرك؟» «لا أعرف، لا أعرف هل أنا في الرابعة أم في الخامسة من عمري.» «راستوس؟ هل أنت خبير بالنساء؟» «كلا.» «إنك في الرابعة من عمرك إذن!»
ضحكنا لكن قالت ناعومي: «هذا الحوار من العروض الغنائية بمهرجان كنزمن في تابرتون، لقد سمعت هذا من قبل.»
قلت وأنا أنهض: «لا بد أن أذهب إلى الحمام.» لا بد أنني كنت لا أزال ثملة؛ ففي الظروف الطبيعية لم أكن لأقول هذا أمام رجال أبدا.
قال بيرت بكرم: «أصرح لك بهذا، اذهبي، لديك تصريح مني لمغادرة الغرفة. انزلي إلى البهو وادخلي الباب المكتوب عليه ...» حدق في للحظة ثم دفع وجهه حتى كاد يلصقه بصدري وقال: «نعم، فهمت الآن ... مكتوب عليه السيدات.»
وجدت الحمام واستخدمته ثم تذكرت بعدها أنني لم أغلق الباب. وفي طريق عودتي رأيت فقاعة السائل الأحمر وخلفها ضوء قادم من نهاية الممر. مشيت نحوها وتجاوزت غرفة بيرت، وخلف ذاك الضوء كان هناك باب مؤد لسلم الطوارئ ترك مفتوحا لأن الجو كان حارا في تلك الليلة. كنا في الطابق الثالث، آخر طوابق الفندق. خطوت إلى الخارج فتعثرت وكدت أسقط فوق الدرابزين ثم تمالكت نفسي وانحنيت، وبصعوبة كبيرة خلعت صندلي الذي كنت أظنه سبب تعثري. نزلت السلالم كلها وفي نهاية السلالم كانت هناك فجوة بين آخر درجة وبين الأرض تبلغ نحو ستة أقدام، فألقيت صندلي إلى أسفل في البداية - وأنا أشعر بذكائي لأني فكرت في هذا - ثم جلست على آخر درجة من درجات السلم ودليت جسدي لأسفل قدر استطاعتي، ثم قفزت فسقطت على طين جاف في الزقاق الذي يفصل بين الفندق ومحطة الإذاعة. انتعلت صندلي وأنا أشعر بالحيرة؛ إذ كنت أنوي حقا العودة إلى الغرفة، لم أستطع التفكير أين سأذهب. نسيت تماما أمر بيتي في شارع ريفر وفكرت أننا لا نزال نعيش في طريق فلاتس. وفي نهاية الأمر تذكرت منزل ناعومي، وبتخطيط حريص فكرت أن بإمكاني الوصول إليه.
مشيت بامتداد حائط فندق برونزويك أتخبط في الجدار الطوبي حتى وصلت إلى ظهر الفندق وسرت في طريق دياجونال - في البداية في الاتجاه الخاطئ ثم اضطررت لأن أعود أدراجي - وعبرت الطريق الرئيسي دون أن أتلفت عن يميني أو يساري، لكن الوقت كان متأخرا ولم تكن هناك سيارات مارة. لم أستطع أن أرى الوقت جيدا على ضوء القمر الخافت في ساعة مكتب البريد. ما إن خرجت عن الطريق الرئيسي، قررت أن أمشي على الحشائش في الساحات الأمامية لمنازل الناس؛ لأن الرصيف كان خشنا، خلعت صندلي مرة أخرى، وفكرت أنني يجب أن أخبر الجميع عن هذا الاكتشاف أن المشي على الرصيف يؤلم أما الحشائش فملمسها ناعم. لماذا لم يفكر أحد في هذا من قبل؟ وصلت لبيت ناعومي في شارع ميسون، ونسيت أننا تركنا الباب الخلفي مفتوحا فذهبت إلى الباب الأمامي وحاولت فتحه، لكنني فشلت فطرقته برفق في البداية، ثم أخذ طرقي يشتد ويعلو صوته. فكرت أن ناعومي لا بد أن تكون في الداخل وأنها سوف تسمعني وستأتي لتدخلني.
لم توقد الأضواء، ولكن الباب فتح وأطل منه والد ناعومي لابسا ثياب النوم بساقيه العاريتين وشعره الأشيب يتوهج في الظلام كميت قام من قبره. قلت: «ناعومي ...» ثم تذكرت، واستدرت وتعثرت على درجات السلم واتجهت إلى شارع ريفر الذي تذكرته في الوقت نفسه. ثم قررت أن أكون أكثر حكمة، فاستلقيت على الأرجوحة الموجودة في الشرفة، وغرقت في سبات عميق في دوامات من النور والظلمة تبتلعني وأنا عاجزة أتجشأ فتفوح من أنفاسي رائحة النقانق.
لم يعد والد ناعومي إلى فراشه، بل جلس في المطبخ في الظلام حتى عادت ناعومي، فاستل حزامة وأخذ يضربها على ذراعيها وساقيها ويديها وعلى أي مكان طاله حزامه، وأجبرها على أن تجثو على ركبتيها على أرض المطبخ وتستغفر الرب قائلة إنها لن تذوق الخمر ثانية.
أما أنا فقد استيقظت في الساعات الأولى من الفجر أشعر بالبرد والغثيان والألم، فخرجت على الفور من الشرفة وتقيأت على كومة من نبات القرطب بجانب المنزل. كان الباب الخلفي مفتوحا طوال ذلك الوقت، فغطست رأسي وشعري في حوض المطبخ محاولة التخلص من رائحة الويسكي، وصعدت السلم بحرص حتى وصلت إلى السرير. عندما استيقظت أمي أخبرتها أنني شعرت بالإعياء في بيت ناعومي فعدت إلى البيت ليلا. ظللت طوال اليوم في فراشي أعاني صداعا رهيبا واضطرابا في معدتي ووهنا شديدا وشعورا بالإخفاق والارتياح. شعرت بأنني أسترد ذاتي من خلال الأشياء الطفولية، مثل مصباحي القديم على شكل شخصية سكارليت أوهارا، والزهور المعدنية الزرقاء والبيضاء التي تمسك ستائري المرتخية المنقطة. وأخذت أقرأ كتاب «حياة شارلوت برونتي».
ومن نافذتي رأيت المروج ذات الأعشاب القصيرة خلف قضبان السكة الحديدية، التي مالت إلى اللون الأرجواني مع الحشائش التي تزدهر في شهر يونيو، وكنت أستطيع كذلك أن أرى جزءا صغيرا من نهر واواناش الذي لا يزال فائضا وأشجار الصفصاف الفضية. وأخذت أحلم بأن أعيش حياة على طراز القرن التاسع عشر؛ حيث التنزه سيرا على الأقدام والتأمل، والاستقامة واللباقة والعذرية والسلام.
أتت ناعومي إلى حجرتي وقال بغلظة هامسة: «يا إلهي! يجدر بي أن أقتلك لأنك تركتنا وانصرفت.» «شعرت بالإعياء.» «هراء، من تظنين نفسك؟ كلايف ليس أحمق كما تعرفين. إنه يعمل في وظيفة مرموقة؛ فهو محقق تأمين. من تريدين أن ترافقي؟ صبيان المدرسة الثانوية؟»
ثم أرتني آثار الضرب وأخبرتني بما فعله أبوها. «لو أنك عدت معي إلى البيت لاستحيا أن يفعل هذا. كيف عرف بحق الجحيم أنني خرجت أساسا؟»
لم أقل لها شيئا قط، ولم يقل هو شيئا، ربما اختلط عليه الأمر أو ظن أنني شبح. كانت ناعومي تعتزم الخروج مع بيرت ماثيوز مرة أخرى في عطلة الأسبوع المقبل، ولم تبال. «يمكنه أن يضربني حتى يتعب، لا بد أن أعيش حياة طبيعية.»
ما هي الحياة الطبيعية؟ هي حياة الفتيات في مكتب محل الألبان، حياة حفلات الهدايا والملاءات والأواني والمقالي وفضيات المائدة، ذاك الترتيب الأنثوي المعقد؛ وعلى الجانب الآخر نجد حياة قاعة رقص «جاي لا» والقيادة تحت تأثير الكحول ليلا في الطرق المظلمة، وسماع النكات التي يلقيها الرجال، وتحمل الرجال والصراع معهم بحذر والسيطرة عليهم، ولا يمكن لأحد وجهي هذه الحياة أن يوجد دون الوجه الآخر، وعبر سلوك الطريقين والاعتياد عليهما كانت الفتاة تضع نفسها على الطريق المؤدي للزواج. لم يكن هناك سبيل آخر، وأنا لن أستطيع سلوك ذلك الطريق. كلا، إنني أفضل «شارلوت برونتي». «انهضي وارتدي ثيابك وانزلي معي إلى وسط المدينة، سوف يفيدك هذا.» «أشعر بإعياء شديد.» «إنك طفلة كبيرة. ماذا تريدين؟ هل تريدين أن تزحفي إلى حفرة تقضين فيها باقي حياتك؟»
منذ ذلك اليوم، بدأت صداقتنا تذوي، صارت كل منا لا تتردد على منزل الأخرى. وحين التقينا في الطريق في الشتاء التالي أطلعتني - وهي مرتدية معطفها الجديد وحوافه من الفراء وأنا أحمل كومة الكتب المدرسية - على آخر مستجدات حياتها؛ أنها كانت ترافق أحدا لم أسمع عنه من قبل، شخصا ما من بورترفيلد أو بلو ريفر أو تابرتون. أما بيرت ماثيوز فقد هجرته سريعا؛ فقد اتضح أن دوره كان يقتصر على مرافقة الفتيات الصغيرات في أول موعد لهن، وكان يلاحق فقط الفتيات الصغيرات عديمات الخبرة، برغم أنه لم يضايقهن قط أو يورطهن في أي مشاكل ، مع كل ثرثرته. وأخبرتني أيضا أن كلايف تعرض لحادث سيارة وبترت إحدى ساقيه من أسفل الركبة وقالت: «لا عجب في ذلك، فهم يسرفون في احتساء الكحول، ويقودون كالحمقى.» كانت تتكلم بتسليم أمومي، بل وبفخر، كأن الإفراط في الشرب والقيادة كالحمقى أمر لا غبار عليه، شيء مؤسف لكنه ضروري. بعد فترة توقفت عن تقديم تقارير ما تحرزه من تقدم لي. فكنا نتقابل في جوبيلي وكل ما نقوله لبعض هو «مرحبا.» أحسست أنها تجاوزتني كثيرا فيما افترضت بقلق والتباس أنه العالم الحقيقي، كما تجاوزتها أنا كثيرا في كل فروع المعرفة المتخصصة البعيدة عن الواقع عديمة الجدوى، التي تدرس في المدارس. •••
كنت أحصل على أعلى الدرجات في المدرسة ولم أكتف منها أبدا؛ فكلما كنت أعود إلى بيتي محملة بشهادات لأعلى الدرجات، كنت أفكر في كيف أجني المزيد منها. كانت تبدو لي ملموسة وذات ثقل كالحديد، وكنت أجمعها حولي كمتاريس، وإن حدث وفقدت إحداها كنت أحس بفجوة خطيرة.
في القاعة الرئيسة للمدرسة الثانوية، حول قائمة الشرف لأسماء الطلبة السابقين الذين قتلوا في المعارك ما بين عامي 1914 و1918 وبين عامي 1939 و1945، علقت لوحات خشبية، كل لوحة خاصة بصف معين، وفي كل لوحة علامات فضية صغيرة تحمل أسماء الأوائل كل عام، وتظل هكذا إلى أن يختفي أصحاب هذه الأسماء في الوظائف وأعباء الأمومة. كان اسمي مكتوبا لكن ليس في كل سنة، ففي بعض الأحيان كان جيري ستوري يتفوق علي؛ فقد كان معدل ذكائه هو الأعلى في تاريخ مدرسة جوبيلي الثانوية وجميع المدارس الثانوية في مقاطعة واواناش. والسبب الوحيد الذي كان يمكنني من التفوق عليه هو أن انشغاله بالعلوم جعله ضيق الصدر تجاه تلك المواد التي يصفها باسم «مواد الحفظ» (اللغة الفرنسية والتاريخ) بالإضافة إلى الأدب الإنجليزي - وأحيانا ينسى أمرها تماما - الذي كان يثير ضيقه كما لو أنه إهانة شخصية.
كنت أنا وجيري ستوري نتناغم معا، كنا نتحدث معا في الأروقة، ونشأ بيننا تدريجيا نوع من المزاح، ومصطلحات ومجموعة من الموضوعات التي لا يشاركنا الاهتمام بها أحد آخر. كان اسمانا يكتبان معا في الصحيفة المدرسية الصغيرة التي تكتب بالآلة الناسخة وتكاد تكون غير مقروءة. الجميع كانوا يروننا ملائمين لبعضنا، وكانوا يطلقون علينا أسماء «فريق الخبراء» أو «العباقرة»، ويفعلون هذا بقدر من الازدراء تعود جيري على التعايش معه أكثر مني. كنا نشعر بكآبة لأن الطلاب كانوا يعتبروننا العضوين الوحيدين من نوع غريب من الكائنات الموجودة في حديقة حيوان، وكنا نستاء من فكرة أنهم يظنون أننا متشابهين؛ لأننا لم نكن نظن ذلك. فكنت أرى أن جيري أغرب مني ألف مرة، وكان أقل مني جاذبية، وكان من الواضح أن تصنيف عقلينا معا في الفئة نفسها لا يجعل للفئات أي أهمية؛ فهو يشبه أن تقول إن توسكانيني وقائد الفرقة المحلية الاثنين موهوبان. عندما كنا نناقش المستقبل كان يقول لي بصراحة إنني أملك ذاكرة ممتازة، وموهبة أنثوية غير استثنائية في التعامل مع اللغات، لكن قدرات التفكير المنطقي لدي ضعيفة، وتقريبا لا أملك أي قدرة على التفكير المجرد. وقال أيضا إن حقيقة أنني أكثر ذكاء بكثير من معظم أهل جوبيلي لا يجب أن تعميني عن حقيقة أنني قريبا سأصل إلى أقصى حدودي في العالم الخارجي التنافسي على المستوى الفكري. (وأضاف قائلا بحدة: «وهو ما ينطبق علي أنا أيضا، إنني أحاول دائما أنا تكون لي نظرة مستقبلية. فأنا أبدو متميزا في مدرسة جوبيلي الثانوية لكن كيف سأكون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؟» حين كان يتكلم عن مستقبله كان يمتلئ بطموحات هائلة، لكنه كان يحرص على أن يعبر عنها بشكل ساخر ويحيطها بنقد ذاتي واقعي.)
استمعت إلى رأيه كما يستمع الجندي إلى الأوامر لأنني لم أصدقه؛ أي إنني كنت أعرف أن كلامه كله حقيقي، لكنني مع ذلك كنت أشعر بأنني أتمتع بنقاط قوة كبيرة في بعض المجالات، التي أرى أنه لا يستطيع ملاحظتها ولا يصل إليها نطاق حكمه. لم تكن طريقة تفكيره تروق لي؛ لأن الناس لا يعجبها إلا القدرات التي تشابه - وتفوق - قدراتهم. كنت أرى عقله كخيمة السيرك المليئة بأجهزة غامضة، كان يمارس عليها - في غيابي - ألعابا بهلوانية مذهلة ولكنها مملة. وحرصت على ألا أجعله يدرك ما أفكر به. لقد كان صادقا وأمينا معي في رأيه عني على ما يبدو، لكن لم يكن لدي أية نية في أن أكون هكذا معه. لم لا؟ لأنني أحسست فيه ما تحس به النساء في الرجال؛ شيئا ناعما متفاخرا طاغيا سخيفا، شيئا لا أستطيع قط تحمل عواقب التدخل فيه، لقد كان بداخلي شعور باللامبالاة، بل بالازدراء، أخفيته عنه. وكنت أظن أنني بهذا أكون لبقة وعطوفا، لم أفكر أبدا أنني متكبرة.
كنا نذهب إلى السينما معا، وإلى حفلات المدرسة الراقصة، وكنا نرقص رقصا سيئا عصبيا وكل منا ساخط على الآخر، وكنا نشعر بالإهانة من تنكرنا في هيئة حبيبين في المدرسة الثانوية، وهو ما كنا مضطرين إليه حتى اكتشفنا أن الطريقة الوحيدة للتغلب على هذا الموقف هو أن نسخر منه. كان خلاصنا يتمثل في المحاكاة الساخرة والتهكم على الذات. في أحسن الأحوال، كنا نبدو رفيقين مبتهجين يشعران بالارتياح معا وأحيانا القسوة على أحدنا الآخر، وليس زوجين تزوجا منذ أكثر من ثمانية عشر عاما. كان يطلق علي لقب «الباذنجانة» بسبب ثوب كان لدي من التفتة لونه قرمزي نبيذي، وهو في الأساس ثوب تركته فيرن دوجرتي عندما رحلت وعدلته أمي ليكون مقاسي. (فقد صرنا فجأة أفقر من ذي قبل بسبب انهيار تجارة الثعالب الفضية عقب الحرب.) بينما كانت أمي تعمل على تعديل هذا الثوب، كنت آمل أن يصبح على ما يرام وأن يظهر بريقا مثيرا لفخذي العريضتين المثيرتين، مثل فستان ريتا هيوارث في إعلان فيلم «جيلدا»، وعندما ارتديته حاولت أن أقنع نفسي بأنه كان كذلك، لكن بمجرد أن رأيت تعبير وجه جيري ورأيته وهو يزدرد لعابه بصورة مبالغ فيها ويقول بصوت رفيع ساخر: «باذنجانة!» عرفت الحقيقة. وعلى الفور حاولت أن أجد الأمر طريفا ومضحكا كما فعل هو ونجحت تقريبا، وفي الطريق ارتجلنا أكثر. «حضر الحفل الراقص المسائي الأخير لمنتصف الشتاء الذي يقام في دار ترسانة جوبيلي السيد جيري ستوري الثالث، سليل عائلة كريمة تعمل ببيع الأسمدة، والآنسة الفاتنة ديل جوردان وريثة إمبراطورية الثعالب الفضية، وهما زوجان أبهرا الحضور برقصهما الفريد الذي يفوق الوصف ...»
الكثير من الأفلام التي شاهدناها في السينما كانت تدور حول الحرب والتي انتهت قبل أن نبدأ المدرسة الثانوية بعام واحد. وبعدها كنا نذهب إلى مطعم «هاينز»، الذي كنا نفضله عن مقهى «بلو آول» الذي يذهب إليه كل زملائنا في المدرسة الثانوية تقريبا ليشغلوا الأغاني في صندوق الموسيقى ويلعبوا بماكينات لعبة الكرة والدبابيس. كنا نحتسي القهوة وندخن سجائر برائحة المنثول، وبين الحجيرات كانت هناك حواجز خشبية داكنة مرتفعة تعلوها نوافذ مروحية من زجاج ذهبي داكن. كان جيري يتحدث عن الحرب وهو يقوم بتجعيد المناديل الورقية على هيئة أشكال هندسية ويلفها حول ملعقة ويمزقها إلى أشرطة صغيرة. كان يصف لي مسيرة الموت من باتان، وأساليب التعذيب في معسكرات الاعتقال اليابانية، وقصف طوكيو الناري وتدمير درسدن، لقد أمطرني بحكايات وحشية وإحصائيات مدمرة لم أسمع مثيلا لها. وكنت أستمع إليه دون أدنى اعتراض وإنما بحماس محدود واستمتاع فضولي مستمر. ثم أخذ يحدثني عن الأسلحة التي يطورها الأمريكان والروس، وقد جعلت روايته من قوتهما التدميرية أمرا حتميا هائلا لا جدوى من مقاومته وكأنه قوى الكون نفسه. «الحرب البيولوجية؛ إنهم يستطيعون إعادة إنتاج الطاعون الدبلي، إنهم يخلقون أمراضا لا يوجد علاج لها ويخزنونها. غازات الأعصاب؛ ماذا عن السيطرة على شعب بأكمله من خلال عقاقير تذهب العقل جزئيا؟ ...»
كان موقنا من أنه ستكون هناك حرب أخرى قادمة، وأنها ستقضي علينا جميعا. فمن وراء نظارته التي تنم عن العبقرية، كان يبدو مبتهجا عنيدا وهو يتوقع كارثة هائلة، بل وكارثة قريبة. كان رد فعلي لما يقول هو أني اصطنعت نظرة الرعب التقليدية، العقلانية الأنثوية المعتادة، التي من شأنها أن تثيره وتدفعه إلى معارضة أكبر، وتجعل من الضروري له أن يرعبني أكثر ويجادل منطقي. لم يكن هذا أمرا عسيرا علي؛ فالعالم الذي يعرفه كان ذلك العالم الحقيقي حيث يعرف كيف يشطرون الذرة، أما العالم الوحيد الذي كنت أعرفه أنا فهو العالم الذي صنعته بنفسي بمساعدة كتبي؛ كي يكون عالما خاصا ومغذيا لي. لكنني توقفت عن هذا، شعرت بالسأم والغضب وقلت له حسنا فلنفترض أن هذا حقيقي، لماذا إذن تستيقظ من نومك كل صباح وتذهب إلى المدرسة؟ إذا كان هذا صحيحا، فلماذا تخطط لأن تصير عالما عظيما؟ «إذا كان العالم سينتهي، ولم يعد ثمة أمل، فلماذا إذن تفعل هذا؟»
قال بلهجة غريبة ليجعلني أضحك: «لا يزال أمامي وقت كي أحصل على جائزة نوبل.» «عشر سنوات؟» «أمهليني عشرين سنة؛ فمعظم الاكتشافات العظيمة كانت على أيدي رجال لم يبلغوا الخامسة والثلاثين.»
كان دائما يتمتم بعد أن يقول أمرا كهذا: «تعلمين أنني أمزح.» لكنه كان يعني جائزة نوبل لا بشأن الحرب. فلم نستطع الفكاك من الاعتقاد السائد في جوبيلي، الذي يقول إن ثمة أخطارا هائلة خارقة للطبيعة تلازم المزهوين أو من لهم آمال وتطلعات للمستقبل. لكن في الواقع ما كان يجذبنا ويبقينا معا كانت هي تلك الآمال، تلك الآمال التي كنا ننكرها ونعترف بها ونحترمها ونسخر بعضنا منها لدى البعض.
في عصر أيام الأحد كنا نحب أن نذهب في نزهات طويلة سيرا على الأقدام على طول قضبان السكك الحديدية بادئين من خلف منزلي. كنا نسير حتى الجسر الممتد فوق الالتواء الكبير في نهر واواناش، ثم نعود أدراجنا. كنا نتحدث عن القتل الرحيم والسيطرة الجينية على أعداد السكان، وعما إذا كان هناك فعلا ما يسمى بالروح، وإذا ما كان من الممكن أن نعرف كل شيء عن الكون. ولم نكن نتفق على شيء. في البداية كنا نتنزه في الخريف ثم في الشتاء. فكنا نسير في العواصف الثلجية نتجادل خافضين رأسينا داسين أيدينا في جيوبنا، بينما تضرب حبات الثلج الرفيعة الحادة وجهينا، وبعد أن نتعب من الجدال كنا ننتزع أيدينا من جيوبنا ونمد أذرعنا أمامنا؛ لكي تمنحنا بعض التوازن ونحن نحاول أن نمشي على قضبان السكك الحديدية. كانت لجيري ساقان طويلتان ضعيفتان ورأس صغير وشعر مجعد وعينان مدورتان لامعتان، وكان يعتمر قبعة ذات نقوش مربعة ولها غطاء على الأذن مبطن بالصوف، وكنت أذكر أنه يرتديها منذ الصف السادس.
تذكرت أنني كنت أسخر منه مثلما كان يفعل الجميع، وكنت لا أزال أحيانا أستحيي من أن يراني أحد، مثل ناعومي، بصحبته. لكنني الآن بدأت أفكر أن به أمرا يثير الإعجاب، ميزة غريبة ولاذعة في طريقة التزامه بالنموذج، وتقبله لدوره في جوبيلي، وسخافته الضرورية التي تشعره بالرضا والسعادة، بما تحمله من نزعة حتمية، وهو ما لم أكن أنا نفسي قادرة قط على استجماعه. كانت تلك هي الروح التي يظهر بها في الحفلات الراقصة والتي يقودني بها بتشنج فوق أرضية قاعة الرقص الزلقة، والتي يتأرجح بها بلا جدوى نحو الكرة خلال مباراة البيسبول السنوية الإجبارية، والتي يمشي بها مع الطلاب في التدريب العسكري. كان يقدم نفسه دون أن يتظاهر بأنه ولد عادي، ولكن يفعل ما يفعله الولد العادي وهو يعلم أن أداءه لا يمكن أن يكون مقبولا وأن الآخرين سوف يسخرون منه لا محالة. لكن لم يكن بإمكانه سوى فعل هذا، فباطنه كظاهره. أما أنا - التي كانت حدودي الطبيعية أكثر غموضا، وحيث اعتدت أن أتماشى مع ما حولي قدر استطاعتي - فبدأت أرى أنه قد يكون من المريح أن أكون مثل جيري.
أتى جيري إلى منزلي يوما للعشاء، وكان هذا رغما عني؛ فلم أكن أحب أن أجلسه وجها لوجه مع أمي؛ فقد كنت أخشى أنها ستتحمس حماسا زائدا، وتحاول أن تتفوق على نفسها بطريقة ما بسبب شهرة جيري بالذكاء. وهذا هو ما حدث؛ فقد حاولت أن تجعله يشرح لها نظرية النسبية، وأخذت هي تومئ له وتشجعه وتكاد تقفز من مكانها مطلقة صيحات خافتة تدل على فهمها، وتلك المرة كان شرحه غير مترابط. وأخذت أنا أنتقد الطعام، كما كنت أفعل دائما قبل أن نحظى بهذه الصحبة؛ فاللحم يبدو ناضجا أكثر مما ينبغي، والبطاطس نيئة بعض الشيء، والفاصوليا المعلبة باردة جدا. أتى أبي ومعه أوين من طريق فلاتس لأنه كان يوم الأحد، وكان أوين يعيش في طريق فلاتس طوال الوقت آنذاك وصار فظا للغاية؛ فبينما كان جيري يتحدث، أخذ أوين يمضغ الطعام بصوت مرتفع وينظر إلى أبي نظرات تنم عن جهل وازدراء ذكوري. لم يتجاوب أبي مع نظراته تلك، وإنما اكتفى بقليل من الكلام، وربما كان محرجا من حماس أمي الذي ربما ظن أنه حماسا كافيا لكليهما. أما أنا، فكنت غاضبة من الجميع، كنت أعلم أن أوين وأبي أيضا يريان جيري شخصا غريب الأطوار طرد من عالم الرجال، ولا أهمية لما يعرفه. (ورغم أن أبي لم يكن يظهر ذلك؛ فإنه كان يعلم أن هناك طريقة واحدة للنظر إلى الأمور.) وقد بدا لي أنهما على درجة من الحماقة تمنعهما من رؤية ما يمتلكه من قوة. أما جيري، فقد كانت عائلتي في نظره جزءا من الجموع الحاشدة من البشر الذين لا يستحق الأمر تكبد مشقة شرح أي شيء لهم، ولم يكن يرى أنهم يملكون قوة بداخلهم. لقد كان عدم الاحترام ظاهرا من الجميع وموجها إلى الجميع. «مما يثير ضحكي ما يظنه الناس من أنهم يمكنهم أن يطرحوا أسئلة قليلة، ويستطيعون الفهم دون أن يعرفوا أي شيء من الأساسيات.»
قلت بمرارة: «فلتضحك إذن، أتمنى أن تستمتع بوقتك.»
لكنه كان يروق لأمي، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا كانت تترقب مجيئه لتعرف رأيه في أشكال الحياة التي تخلق في المعامل، وفي احتلال الماكينات مكان البشر. كنت أتفهم كم كان ذاك السيل المحموم من الأسئلة يربكه ويثير ضيقه. ألم أشعر أنا نفسي بهذا عندما اختطف هو رواية «أيها الملاك تطلع إلى بيتك» من أعلى كومة الكتب التي كنت أزمع إعادتها إلى المكتبة، وفتحه ثم أخذ يقرأ في حيرة: «حجر، ورقة شجر، باب ... وهكذا أضاعت الرياح الشبح وأحزنته ...» فانتزعت الكتاب من يديه كما لو كان يعرضه لخطر. قال لي بعقلانية: «ماذا يعني هذا؟ ما أراه إلا هراء، فلتشرحيه لي، كلي آذان مصغية.»
وقالت عنه أمي: «إنه خجول للغاية، هو فتى ذكي لكن لا بد أن يتعلم كيف يعبر عن نفسه بصورة أفضل.»
كان الأسهل أن نتناول العشاء في بيته؛ فقد كانت والدته أرملة لمعلم وكان هو ابنها الوحيد. كانت تعمل سكرتيرة في المدرسة الثانوية ولهذا كنت أعرفها مسبقا. كانا يقطنان نصف بيت مزدوج يقع على طريق دياجونال. في ذلك البيت، كانت مناشف الأطباق مكوية ومطوية كما لو كانت أفضل المناشف الكتانية، وموضوعة في درج تفوح منه رائحة الليمون. وللتحلية تناولنا بودنج الجيلي ثلاثي الألوان الممتلئ بالفواكه المعلبة. بعد العشاء، دخل جيري إلى غرفة الاستقبال لحل مسألة الشطرنج الأسبوعية التي تلقاها عبر البريد (وهذا مثال على ما كنت أعنيه عن التزامه المثير للإعجاب بالنموذج) وأغلق الباب الزجاجي حتى لا يشتت حديثنا تركيزه. قمت أنا بتجفيف الأطباق، وأخذت والدته تتحدث عن معدل ذكائه، وكانت تتحدث عنه كما لو أنه شيء نادر، ربما كاكتشاف أثري، شيء قيم لدرجة هائلة ولكنه مخيف تحتفظ هي به مغلفا في خزانة.
ثم قالت بنبرة مطمئنة: «أنت أيضا معدل ذكائك مرتفع.» (فقد كانت كل سجلات المدرسة متاحة أمامها في المدرسة، بل إنها في الواقع كانت هي من تحتفظ بها)، واستدركت قائلة: «لكنك تعرفين أن معدل ذكاء جيري يجعله في الربع الأعلى من نسبة الواحد بالمائة من السكان الأكثر ذكاء. أليس من المذهل أن نفكر في هذا؟ وها أنا ذي، والدته، يا للمسئولية الملقاة على عاتقي!»
وافقتها على ذلك. «سوف يظل لسنوات وسنوات في الجامعة، وسوف يكون عليه أن يحصل على الدكتوراه، ثم سيكمل بعدها إلى دراسات ما بعد الدكتوراه وغير ذلك، هذا يستغرق سنوات.»
أحسست من لهجتها الرصينة أنها سوف تتكلم الآن عن النفقات.
قالت بواقعية وجدية: «لذا، لا بد أن تتجنبي المشاكل كما تعلمين، فجيري لا يستطيع الزواج، ولن أسمح بهذا. لقد رأيت حالات كثيرة كهذه يضطر فيها الشباب أن يضحوا بحياتهم لأن فتاة ما صارت حاملا، ولا أظن ذلك أمرا صائبا. كلانا رأى هذا، أنت تعرفين الحالات التي أقصدها في المدرسة. زواج إجباري على وجه السرعة لتجنب الفضائح، هذا هو الأسلوب في جوبيلي، لا أتفق مع هذا، ولم أتفق يوما مع هذا، لا أرى أنها مسئولية الفتى وأنه يجب أن يضحي بمستقبله المهني لأجل هذا، هل ترين هذا؟» «كلا.» «هذا ما اعتقدته، أنت فتاة شديدة الذكاء، هل تستخدمين عازلا لمنع الحمل؟» قالتها بسرعة خاطفة.
قلت وأنا أشعر بالخدر: «لا.» «حسنا، لماذا لا تشترين واحدا؟ فأنا أعرف كيف تسير أموركن هذه الأيام أيتها الفتيات الصغيرات، فقد غدت العذرية شيئا من الماضي، فليكن، لا أقول إنني أوافق أو لا أوافق لكن لا يمكن للمرء أن يعيد الزمن إلى الوراء، أليس كذلك؟ لا بد لأمك أن تجعلك تستخدمين العازل، هذا ما كنت سأفعله لو أن لي ابنة.»
كانت أقصر مني بكثير، فكانت امرأة ممتلئة الجسم ضئيلة وذكية، وشعرها خفيف ومنتفش أصفر اللون بلون زهور الخزامى تظهر جذوره التي تتحول إلى اللون الرمادي من أسفل. كانت دائما ما ترتدي أقراطا ودبابيس زينة وقلائد ساطعة بألوان متناسقة. كانت تدخن وتسمح لجيري بالتدخين في المنزل، بل إنهما كانا دائما ما يتجادلان بطريقة ودية كما يتجادل الأزواج حول سجائر من تلك. كنت قد هيأت نفسي لأجدها امرأة عصرية في أفكارها، ليست عصرية كأمي على المستوى الفكري - فمن مثل أمي؟ - لكن كنت أتوقع أن أجدها عصرية أكثر بكثير في الأمور العادية. لكنني لم أكن مهيأة لهذا. أخذت أتطلع إلى جذور شعرها التي تتحول إلى اللون الرمادي بينما كانت تتحدث عن أمي التي يجدر بها أن تصطحبني لأركب عازلا لمنع الحمل، وفكرت في أمي التي قد تنظم حملة إعلانية لتحديد النسل لكنها أبدا لن تفكر في أنها تحتاج لأن تتحدث معي؛ لأنها كانت مقتنعة تماما بأن الجنس هو أمر لا تخضع له أي امرأة - أي امرأة ذكية - ما لم تكن مضطرة لهذا. كان هذا الأسلوب يروق لي أكثر؛ فقد كان أليق بأسلوب أم أكثر من تقبل والدة جيري السخيف وأسلوبها العملي غير المحتشم. بل ولقد رأيته أمرا مهينا لأم أن تأتي على ذكر علاقات حميمة أمام فتاة من الممكن أن تكون تمارسها مع ابنها. بل إن مجرد فكرة العلاقة الحميمة مع جيري ستوري كانت مهينة في حد ذاتها، لكن هذا لا يعني أنها لم تحدث بين الحين والآخر.
لماذا مهينة؟ كان هذا أمرا غريبا. فكنت أنا وهو بمجرد أن ننتهي من مناقشاتنا تحيطنا هالة من الأسى. كانت أيدينا تتشابك معا وهي رطبة وكل منا يتساءل - ولا شك - إلى متى ستظل أيدينا متشابكة بلباقة محتشمة. كان جسدانا يتلامسان ليس دون قصد، ولكن دون أي استمتاع كما لو كانا جوالي رمل مبتلين. وكنا نفتح فمينا بالطريقة التي قرأنا وسمعنا عنها لكن نظل باردين ويظل لسانانا جافين، مجرد كتلتين من اللحم غير المحبوب. وما أن يوليني جيري انتباهه - هذا النوع من الانتباه - أستشيط غضبا ولا أدري لماذا، غير أنني أظل خاضعة بحزن؛ فكل منا كان المجال الوحيد للاستكشاف المتاح أمام الآخر.
وكان الفضول من شأنه أن يقود الأمور لأن تنجرف بعيدا جدا؛ ففي إحدى الأمسيات الشتوية كنا في الغرفة الأمامية في منزل والدته - وكانت هي خارج المنزل تحضر اجتماع منظمة النجم الشرقي - فطلب مني جيري أن أخلع كل ثيابي. «لماذا تريدني أن أفعل هذا؟» «ألا ترين أن هذا أمر تعليمي؟ فلم يسبق لي أن رأيت امرأة حية عارية من قبل.»
كان للفكرة جاذبيتها الخاصة؛ فكلمتا «امرأة عارية» أشعرتاني بسعادة خفية، وأشعرتاني بأنني ثرية أوزع الكنوز. كما أنني فكرت أن جسدي أجمل من وجهي، وأن جسدي وهو عار أجمل منه وهو مدثر بالملابس، وكنت دائما ما أريد أن أري جسدي العاري لأحد ما. وكان لدي أمل - أو على وجه الدقة فضول تجاه احتمالية - أنه يوما ما في مرحلة متقدمة من علاقتنا ستتغير مشاعري تجاه جيري وسوف أتمكن من أن أرحب بعلاقة حميمة معه. ألم أكن أعلم كل شيء عن الرغبة؟ كنت في الموقف القديم المبتذل الذي يحاول فيه شخص متزوج أن يفرغ رغبته المكبوتة في الجسد المتاح أمامه.
لكن لم أكن لأفعلها في الغرفة الأمامية، وبعد جدال وتباطؤ قال إننا يمكننا أن نصعد إلى غرفته. وبينما كنا نصعد درجات السلم خامرني شعور بالتوق كما لو كنا في السابعة أو الثامنة من عمرنا وفي طريقنا لمكان كي نخلع سراويلنا. وبينما كان جيري يرخي ستائر غرفته أوقع المصباح من فوق الطاولة، كدت أن أستدير وأهبط درجات السلم مرة أخرى. لا شيء يعيد الأمور إلى طبيعتها في تلك الأوقات سوى لحظة ارتباك إلا إذا كنت واقعا في الحب. لكني برغم هذا قررت أن أحافظ على روحي المرحة؛ فعاونته في رفع المصباح وتعديل غطائه المائل ولم أتضايق حتى عندما أوقده حتى يرى إذا ما كان قد تلف. ثم أوليته ظهري وخلعت كل ما علي من ملابس - دون أن يساعدني هو أو يلمسني مما أشعرني بالسعادة - ثم استلقيت على الفراش.
شعرت بالسخف والذهول.
وقف هو بجوار الفراش وأخذ ينظر إلي وهو يرسم على وجهه تعبيرات دهشة كوميدية باهتة. هل وجد جسدي غير متناسق وغير مدرك كما وجدت أنا جسده؟ هل أراد أن يحولني إلى فتاة هادئة الأعصاب ذات شهوة غير معقدة بالوعي الذاتي، فتاة دون إجابات ذكية ولا مفردات ضخمة أو أي اهتمام بفكرة نظام الكون، فتاة مهيئة لأن تحتويه وتهدهده في فراشه؟ ضحكنا نحن الاثنين، ومد هو إصبعه ليلمس إحدى حلمتي ثديي كما لو كان يختبر شوكة نتأت على جسدي.
كنا أحيانا نتبادل الأحاديث الفكاهية بلهجة شخصية بوجو، الشخصية الرئيسية في القصة الهزلية المصورة «بوجو»، وهذا ما فعلناه في ذلك الموقف. «إنك بالطبع شكل جذاب لجسد المرأة.» «هل كل جزء من جسدي في المكان المناسب بالشكل المناسب، أتظن هذا؟» «حسنا، علي أن أحضر الدليل الإرشادي القديم الصغير وأراجع هذا الأمر.» «إنك لا تعني ذاك الدليل القديم الصغير الخاص بالثدي الثالث، أليس كذلك؟» «ألا تمتلك كل النساء ثديا ثالثا صغيرا؟ لقد عشت حياة مغلقة.» «يا فتى، إنك ولا شك ...» «هشش ...»
سمعنا صوت والدته بالخارج وهي تلقي التحية على شخص ما قد أوصلها بسيارته إلى المنزل. أغلق باب السيارة، إما أن اجتماع جمعية النجم الشرقي قد انتهى قبل موعده المعتاد، أو أننا أطلنا الجدال قبل أن نصعد إلى غرفته.
جذبني جيري من على الفراش إلى خارج الغرفة بينما كنت أحاول أن ألملم ثيابي، فقلت في صوت هامس: «الخزانة، يمكنني أن أختبئ ... بالخزانة، وأرتدي ثيابي.» «اصمتي» قالها متوسلا إياي بهمس، كان غاضبا للغاية، تكاد عيناه تدمعان، وظل يردد: «اصمتي. اصمتي.» كان وجهه شاحبا وكان يرتجف لكنه قوي بشكل غريب على جيري ستوري. كنت أجاهده وأسحب نفسي للوراء معترضة وأحاول إقناعه بأنني لا بد أن أحضر ثيابي، لكنه كان يسحبني للأمام مجبرا إياي على أن أنزل السلم. فتح باب القبو في نفس اللحظة التي فتحت فيه والدته باب المنزل الأمامي وسمعتها تصيح بابتهاج: «ألا يوجد أحد في المنزل؟» فدفعني هو إلى الداخل وأغلق الباب.
كنت وحيدة على درجات القبو الخلفي مسجونة، وعارية.
أضاء لي المصباح كي أعرف أين أقف، ثم أطفأه ثانية بسرعة، وهو ما زاد الطين بلة؛ لأنه جعل القبو أكثر ظلمة من ذي قبل. جلست بحذر على الدرجات أشعر بشذرات الخشب الباردة في مؤخرتي العارية، وحاولت التفكير في أي وسيلة أستطيع بها أن أخرج نفسي من هنا. فكرت أنه ربما بعد أن تعتاد عيناي الظلام يمكنني إيجاد نوافذ القبو وأحاول أن أفتح إحداها عنوة، لكن فيم سيجدي هذا وأنا عارية هكذا؟ ربما أستطيع العثور على ستارة قديمة رثة أو قطعة مفرش أستر بها جسدي، لكن كيف سأصل إلى بيتي بهذا الشكل؟ كيف سأمشي في جوبيلي عبر الشارع الرئيسي هكذا والساعة لم تتجاوز بعد العاشرة مساء؟
من المحتمل أن يأتي جيري ويخرجني بعد أن تأوي أمه إلى الفراش. وعندما يفعل هذا - إذا فعله في الأساس - فسوف أقتله.
سمعتهما - جيري ووالدته - يتحدثان في الغرفة الأمامية ثم في المطبخ. «إنها تريد أن تأوي إلى الفراش.» سمعت والدته تقول هذه العبارة ثم تطلق ضحكة، رأيت أنها ضحكة خبيثة. كان جيري ينادي والدته باسمها الأول مجردا وهو «جريتا»، غير أني رأيت هذا متكلفا وغير صحي. سمعت أصوات أواني وأكواب؛ كوب الكاكاو المسائي مع كعك الزبيب المحمص. بينما كنت سجينة عارية أشعر بالبرد في القبو، أخذت أفكر في جيري ومعدل ذكائه، وأفكر في قدراته الفكرية وحماقته. إذا كانت أمه عصرية لهذا الحد وتعرف أنه لا يوجد واحدة منا كفتيات تظل عذراء هذه الأيام، فلماذا يجب أن يلقي بي هنا؟ شعرت أنني أكرههما بشدة. فكرت في أن أطرق بشدة على الباب، هذا هو ما يستحقه، سأخبر أمه أنني أريد زواجا إجباريا على وجه السرعة لإخفاء الفضيحة.
اعتادت عيناي الظلام نوعا ما، وعندما سمعت صوت صرير وصوت باب يغلق في الأعلى، كنت أنظر في الاتجاه الصحيح فرأيت شيئا معدنيا يتدلى من سقف القبو، كانت صرة من الملابس طارت منها قطعة فاتحة اللون وسقطت على الأرضية الإسمنتية بصوت مكتوم. زحفت نازلة الدرج على الإسمنت البارد وأنا أدعو أن تكون هذه ملابسي وليست كومة من الملابس المتسخة ألقت بها والدة جيري لتوضع مع الغسيل.
كان قميصي وسترتي وتنورتي وسروالي الداخلي وحمالة صدري وجواربي، وكذلك معطفي الذي كان معلقا في خزانة الطابق السفلي، وكلها كانت ملفوفة حول حذائي كي لا يحدث صوتا مرتفعا حين يسقط. كل شيء هنا ما عدا رباط جوربي، وبدونه لا أستطيع أن أرتدي جواربي؛ لذا فقد كورتهما ودسستهما في حمالة صدري. في تلك اللحظة صرت أرى ما حولي بوضوح نوعا ما، فرأيت أحواض الغسيل والنافذة التي تعلوها، كان مزلاج النافذة لأسفل، فصعدت فوق حوض الغسيل وفتحت المزلاج وزحفت خارجة منها إلى الجليد. كان الراديو مفتوحا في المطبخ؛ ربما ليغطي على الضوضاء التي أحدثها، أو ربما لمجرد الاستماع إلى أخبار الساعة العاشرة.
عدوت إلى البيت حافية القدمين في الطرقات الباردة. كنت في تلك اللحظة أستشيط غضبا لمجرد فكرة كوني عارية في ذاك الفراش، لا أحد ينظر إلي سوى جيري وهو يضحك ويبدو عليه الخوف ويتحدث بلهجة غريبة. كان ذلك هو الشخص المتاح أمامي كي أعرض عليه نفسي، لن أحظى بحبيب حقيقي أبدا.
في اليوم التالي في المدرسة، أتى جيري إلي حاملا كيسا ورقيا بني اللون.
وقال بنعومة مستخدما لهجة بوجو: «أستميحك عذرا يا سيدتي، أظن أن لدي واحدا من متعلقاتك الشخصية.»
كان رباط جوربي بالطبع، لم أعد أكرهه. وبينما كنا نسير على هضبة شارع جون بعد المدرسة حولنا تلك الليلة إلى مشهد كوميدي عظيم، مشهدا أخرق مجنونا من فيلم صامت. «كنت أجذبك بقوة لنهبط الدرج، وأنت كنت تشدين بنفس القوة في الاتجاه المعاكس ...» «لم أكن أعرف ماذا تريد أن تفعل بي، ظننتك سوف تلقيني في الشارع كامرأة قبض عليها في بيت دعارة ...» «كان يجب أن تري النظرة التي اعتلت وجهك عندما دفعتك إلى القبو.» «وأنت كان يجب أن ترى النظرة التي اعتلت وجهك عندما سمعت صوت أمك.»
قال جيري محاولا تقليد لهجة إنجليزية كنا نستخدمها في بعض الأحيان: «جئت في وقت غير مناسب بالمرة يا أماه، فهناك فتاة عارية في فراشي، كنت على وشك أن أقوم باستكشاف ...» «لم تكن على وشك أن تفعل شيئا.» «في الواقع ...»
تركنا الأمر عند هذه النقطة، الغريب أن علاقتنا صارت بعد هذه المهزلة أفضل من ذي قبل. صار كل منا يتعامل مع جسد الآخر بمزيج من الحذر والألفة ولم تعد لأي منا متطلبات. لم يعد هناك مزيد من العناق الطويل دون أمل، أو دس الألسن في الأفواه. كما أنه كان لدينا أمور أخرى نفكر فيها؛ فقد حصلنا على استمارات اختبارات المنح الدراسية لنملأها وأخذنا كتيبات عدة جامعات، وصرنا نترقب شهر يونيو حين نخوض تلك الاختبارات بمزيج من السرور والهلع. لم نمر بأي شيء في حياتنا في أهمية هذه الامتحانات التي ترسلها لنا وزارة التعليم في مظاريف مغلقة ويفض مدير المدرسة الثانوية الأظرف أمام أعيننا. أما استعدادنا لهذه الاختبارات، فإن القول إننا قد استذكرنا لا يصف نصف التدريب الذي خضناه، لقد كنا نتدرب كالرياضيين قبل المنافسات. لم نكن نرمي لمجرد الحصول على درجات مرتفعة، ليس مجرد الفوز بالمنحة الدراسية ودخول الجامعة، بل كنا نهدف إلى الحصول على أعلى درجات ممكنة، إنه المجد، الوصول إلى المجد، بلوغ قمة حصد أعلى الدرجات، إنه الإحساس بالأمان أخيرا.
كنت أعزل نفسي عن العالم بعد العشاء في الغرفة الأمامية، وكان الربيع على وشك أن يهل وكانت الأمسيات أطول ، فكنت أوقد النور بعد حين. لكنني لم ألحظ شيئا، لم ألحظ - دون أن أعي هذا - سوى الأشياء الموجودة في تلك الغرفة التي كانت زنزانتي أو محرابي؛ النقش الباهت على السجادة، والذي تحول إلى لون القش عند أماكن خياطتها، وجهاز الراديو القديم التالف ولا يمكن إصلاحه، لكنه يقف كشاهد قبر وعلى قرصه إشارات لمحطات روما وأمستردام ومكسيكو سيتي، والأريكة العتيقة المزركشة، والصورتين المعلقتين: إحداهما لقلعة شيلون المظلمة التي تقف على ضفة البحيرة المتلألئة، والأخرى لفتاة صغيرة مستلقية على كرسيين غير متوافقين في ضوء وردي وحولها الوالدان يبكيان في خلفية الصورة، والطبيب بجانبها تبدو عليه السكينة وليس التفاؤل. اكتسبت هذه الأشياء - التي كنت أحدق فيها من حين لآخر وأنا أحفظ الأفعال والتواريخ والحروب والشعب في تصنيفات الحيوانات - أهمية، وقوة وتحذيرية، كما لو أن تلك الأشكال والأنماط العادية للأشياء ليست في الواقع إلا غلافا خارجيا للحقائق والعلاقات التي أتقنتها، والتي بمجرد أن أتقنتها أصبحت جميلة وبريئة ومطيعة. وكنت أخرج من هذه الغرفة شاحبة متعبة غير قادرة على التفكير في أي شيء كراهبة قضت ساعات في الصلاة، أو ربما كحبيب بعد ليلة حب جامحة، ثم كنت أتمشى في الشارع الرئيسي حتى مطعم هاينز حيث اتفقت أنا وجيري على أن نلتقي في الساعة العاشرة. وأسفل شراعات النوافذ المصنوعة من الزجاج البني الضارب إلى الصفرة، كنا نحتسي القهوة وندخن، نتحدث قليلا، ثم ننهض ببطء وكل منا يتفهم نظرات الآخر المنهكة الجافة.
لقد توارت حاجتي للحب بداخلي، فأصبحت مثل ألم خفيف بالأسنان. •••
في ذاك الربيع، كان من المزمع إقامة اجتماع نهضة دينية في دار البلدية. وقف السيد بيوكانن مدرس التاريخ أعلى درج المدرسة، وأخذ يناولنا أزرارا كتب عليها: «تعال إلى يسوع.» كان من زعماء الكنيسة المشيخية وليس المعمدانية التي كانت في صدارة جميع ترتيبات اجتماع النهضة الدينية، غير أن جميع كنائس المدينة، فيما عدا الكنيسة الكاثوليكية وربما الكنيسية الأنجليكانية - التي كانت من الصغر بحيث لم تحدث تأثيرا - كانت تدعم هذا الاجتماع. وبدأت اجتماعات النهضة الدينية تنال الاحترام من جديد في جميع أرجاء البلد. «إنك لا تأبهين بالحصول على واحدة من هذه يا ديل، أليس كذلك؟» قالها السيد بيوكانن بغير صيغة استجواب، وإنما بصوته الحزين المتزن. كان طويلا متحفظا نحيلا يفرق شعره في المنتصف كما كان يفعل قائدو الدراجات في بداية هذا القرن - وقد كان عجوزا بما يكفي لأن يكون واحدا منهم - وكان قد استأصل نصف معدته من جراء قرح أصابته. وقد ابتسم لي تلك الابتسامة الساخرة الباهتة الواهنة التي يحتفظ بها عادة لشخصية تاريخية ما (قد تكون شخصية بارنيل مثالا جيدا) أثارت إعجاب الناس بمظهرها في وقت من الأوقات ولكنها فقدته في النهاية بعد أن بالغت في هذا. لذا فقد شعرت أنني مضطرة - بدافع العند - لأن أقول: «بلى أرغب في واحدة، شكرا جزيلا.»
قال جيري: «هل ستذهبين لهذا الاجتماع؟» «بالطبع.» «لم؟» «لأجل الفضول العلمي.» «هناك أمور لا طائل من الفضول بشأنها.»
كان الاجتماع يعقد في الطابق العلوي من دار البلدية الذي كانت تعرض فيه الأوبريتات المدرسية. كان ذلك هو الأسبوع الأول من شهر مايو وتحول الجو إلى الدفء فجأة، وكان هذا يحدث دائما عقب الفيضان السنوي. وقبل أن تشير عقارب الساعة إلى الثامنة، اكتظت دار البلدية بالناس، كان الحضور من أولئك الذين تجدهم في احتفالات عيد الثاني عشر من يوليو، أو في مهرجان كنزمن؛ عدد كبير منهم من أهل المدينة لكن عددا أكبر من الريف. وكانت السيارات الملطخة بالطين مركونة على طول الشارع الرئيسي والشوارع الجانبية. وبعض الرجال ارتدوا حللا سوداء أنيقة وبعض النساء يعتمرن القبعات، ورجال آخرون يرتدون أردية سروالية نظيفة ونساء يرتدين فساتين واسعة مطبوعة بألوان متعددة وينتعلن أحذية رياضية، وكانت أذرعهن عارية مكتنزة وردية اللون ويحملن أطفالا مدثرين بأغطية. أما الرجال والنساء العجائز - الذين كانوا بحاجة لمن يساعدهم للوصول إلى مقاعدهم - فقد كانوا يخرجون لأول مرة منذ زمن بعيد؛ لذلك كانوا يرتدون ملابس عتيقة الطراز. تساءلت إذا ما كنت أستطيع من خلال النظر إليهم أن أعرف من أي جزء من البلاد أتوا. اعتدت أنا وجيري - ونحن نشاهد من نافذة حجرة العلوم ركوب الناس في ثلاث من حافلات المدارس، تلك الحافلات القديمة المتداعية المبهرجة التي تبدو كما لو كان يجب أن تسير مهتزة في إحدى الطرق الجبلية في أمريكا الجنوبية وتخرج من نوافذها دجاجات حية تضرب بأجنحتها - أن نلعب هذه اللعبة فنحاول تخمين من أين أتى كل منهم وفقا لمظهره، ونتحدث كما لو أننا علماء اجتماع يتكلمون بنبرة متكلفة راقية. «أولئك أتوا من بلو ريفر، فهم متأنقون ويبدو عليهم الاحترام. وهناك الكثير من الهولنديين الكادحين، وكلهم زاروا عيادة طبيب الأسنان.» «معظمهم من مستوى متمدن.» «من سانت أوجستين وكلهم أناس عاديون، مجرد مزارعون، لهم أسنان كبيرة صفراء، ويبدو عليهم أنهم يأكلون الكثير من عصيدة الشوفان.» «من وادي جيريكو، إنهم بلهاء وربما كانوا مجرمين. لا يتجاوز معدل ذكائهم المائة نقطة، وعيونهم حولاء وأقدامهم مشوهة ...» «أحناك مشقوقة ...» «أكتاف محدبة ...» «إن زنا المحارم هو ما يسبب هذا، الآباء ينامون مع بناتهم، والأجداد ينامون مع حفيداتهم، والإخوة ينامون مع أخواتهم، والأمهات ينمن مع الآباء ...» «الأمهات ينمن مع الآباء؟» «أوه، إنه مريع ما يفعلون هناك.»
امتلأت القاعة ووقفت أنا في المؤخرة خلف آخر صف من المقاعد، وكان الناس لا يزالون يتوافدون ويتزاحمون في جانبي القاعة مالئين الفراغ الذي خلفي، وجلس الأولاد على حواف النوافذ. كانت النوافذ مرتفعة بما يسمح لهم بالجلوس عليها، ولا تزال ساخنة؛ لأن أشعة الشمس المنخفضة تضرب تلك الجدران القديمة المشققة الملوثة المكسوة بالخشب والجبس، لم أكن لاحظت من قبل كم هي مهترئة تلك القاعة.
أدى السيد ماكلوفلين من الكنيسة المتحدة الصلاة الافتتاحية للاجتماع. كان ابنه دايل قد هرب من المنزل منذ زمن طويل. أين هو الآن؟ آخر ما سمع عنه أنه كان يعمل في جز الحشائش بأحد ملاعب الجولف. شعرت كما لو أنني قد عشت عمرا طويلا في جوبيلي أشاهد الناس يرحلون ويعودون ويتزوجون ويبدءون حياتهم وأنا لا أزال أرتاد المدرسة. وهناك كانت ناعومي أيضا بصحبة الفتيات من محل الألبان، وكلهن صففن شعورهن بالطريقة نفسها، فعقصن شعورهن في جزأين خلف الأذن، ووضعن شرائط للشعر.
صعد إلى المسرح أربعة زنوج؛ رجلان وامرأتان، فاشرأبت الأعناق وصمت الجمع تقديرا لهم. كثير ممن كانوا في القاعة - وأنا من بينهم - لم يسبق لهم أن رأوا زنجيا كما لم يروا زرافة أو ناطحة سحابة أو عابرة محيطات. أحد هؤلاء الرجال كان نحيلا أسود البشرة عجوزا، وصوته قوي جهير مخيف، وكان هو المغني ذا الصوت الجهير. أما المغني ذو الصوت الصادح فكان بدينا بشرته مائلة إلى الشحوب وكان كثير الابتسام. كانت السيدتان ممتلئتا الجسم ترتديان مشدات للجسد ولون بشرتهما كلون القهوة، ترتديان فستانين جميلين لونهما أخضر زمردي وأزرق لامع. حين غنوا غطى العرق وجوههم وأعناقهم، وأثناء أداء الأغنية دخل بتواضع إلى المسرح واعظ النهضة الدينية، الذي تعرفنا عليه من صورته الملصقة على كل أعمدة أسلاك الهاتف وعلى كل واجهات المحال الزجاجية في المدينة منذ أسابيع - لكنه كان أصغر حجما ويبدو عليه الإرهاق والشيب أكثر مما يبدو في الصور - ووقف خلف حامل القراءة واستدار تجاه المغنين وعلى وجهه تعبير رقيق بالبهجة، رافعا وجهه كما لو كان غناؤهم يتساقط عليه كحبات المطر.
على الجانب الآخر من القاعة، كان ثمة شاب يحدق في بثبات، لا أذكر أنني رأيته من قبل. لم يكن فارع الطول، وكان أسمر البشرة وعظام وجهه بارزة، وله عينان غائرتان ووجنتان عريضتان غائرتان بعض الشيء، ويرتسم على وجهه تعبير وقور، متغطرس دون وعي. وبعد أن انتهى غناء الزنوج تحرك من مكانه تحت النوافذ واختفى بين الجمع في نهاية القاعة. للحظة ظننت أنه سيأتي ليقف بجانبي، ثم فكرت أن هذا محض هراء، مثل تعارف في حفل أوبرا أو أغنية عاطفية مثيرة رديئة.
نهض الجميع وهم يسقطون الأقمشة القطنية الغارقة في العرق التي كانوا يسندون إليها، كي يغنوا الترنيمة الأولى.
في خيمة يرقد صبي غجري
يموت وحيدا وقت الغروب
حملنا إليه خبر خلاصه
فقال لم يخبرني أحد بهذا من قبل ...
تمنيت بيأس أن يأتي، ركزت بكياني كله في الدعاء بأن يظهر إلى جانبي ، بل وكنت أقول لنفسي: «إنه الآن يدور من خلفي، ويتجه نحو الباب، الآن ينزل السلالم ...»
عرفت من اختلاف مستوى الأصوات خلفي أنه هنا، فقد تباعد الناس جانبا وأحسست بفراغ خلفي يقف فيه جسد ما لكنه لا يغني. شممت رائحة القميص القطني الساخن الخفيف، ورائحة البشرة التي أحرقتها الشمس، ورائحة الصابون وزيت الماكينات. مس ذراعه كتفي (لمسة كالنار، بالضبط كما يقولون) ثم انسل ليقف بجانبي.
نظر كلانا نحو خشبة المسرح مباشرة، كان القس المعمداني قد قام بتقديم واعظ النهضة الدينية الذي بدأ يتحدث بطريقة ودودة حوارية. بعد فترة قصيرة، أرحت يدي على ظهر المقعد الذي كان أمامي، والذي كانت تجلس عليه فتاة صغيرة انحنت تنتزع قشرة متجلطة من على ركبتها. ثم وضع هو يده على ظهر المقعد على مسافة بوصتين من يدي، وقتها شعرت أن كل ما في جسدي من إحساس، وكل الآمال والاحتمالات قد تدفقت إلى تلك اليد.
أما واعظ النهضة الذي بدأ حديثه برفق وهو واقف خلف حامل القراءة فقد أطلق العنان لمشاعره تدريجيا، وبدأ يقطع المسرح جيئة وذهابا وتزداد نبرة صوته توترا ويأسا وحزنا. وبين الحين والآخر، كان يهجر تلك النبرة الحزينة ويدور فوق خشبة المسرح ويصرخ في الجمهور بصوت مرتفع كزئير الأسد. رسم صورة لجسر مصنوع من الحبال مثل ذلك الذي رآه عندما كان في بعثة تبشيرية في أمريكا الجنوبية - على حد قوله - وكان ذلك الجسر الهش المتأرجح معلقا فوق واد سحيق تضطرم فيه النيران. كان ذلك هو «نهر النار»، كان نهر النار في الأسفل، وجميع الكفرة الصارخين المستغيثين المعذبين مغموسين فيه - دون أن يغرقوا حقا - ثم أخذ يعد من بينهم الساسة ورجال العصابات والمقامرين والسكيرين والزناة ونجوم السينما والمرابين والكفرة. وقال إن كلا منا له جسر من الحبال خاص به يتأرجح فوق الجحيم، مربوط من الجانب الآخر بضفاف الفردوس. لكن هذه الفردوس لا تراها أعيننا ولا تسمعها آذاننا، وفي بعض الأحيان لا نستطيع تخيلها أيضا، وذلك بسبب الزئير والصراخ المنبعث من الجحيم، ومن أثر دخان الخطايا الذي تبعثه من كل جانب. ما اسم هذا الجسر؟ اسمه «رحمة الرب»، وجسر رحمة الرب هذا متين بصورة رائعة، لكن كل خطية من خطايانا، وكل كلمة وكل فعل وكل تفكير في الخطايا يحدث قطعا في هذا الحبل ويبليه أكثر ...
وبعض حبالكم لا تحتمل المزيد! بعض حبالكم تجاوزت نقطة اللاعودة. لقد أضعفتها الخطايا، لقد أبلتها الخطايا، لم يبق منها سوى خيط! لم يبق منها سوى خيط واحد هو ما يحميكم من السقوط في الجحيم! كلكم تعرفون، كل واحد منكم يعرف كيف هي حال جسره! ما هي إلا قضمة أخرى من فاكهة الجحيم، ما هو إلا يوم وليلة واحدة من الخطايا، وما إن ينقطع ذلك الجسر لن تجدوا غيره! لكن خيطا واحدا فقط كاف لأن تتعلقوا به إذا أردتم! لم يلق الرب بكامل معجزاته في زمان الإنجيل! كلا، أقول لكم من كل قلبي ومن خلال خبرتي إن الرب يلقي بمعجزاته هنا والآن وبيننا. فلتتعلقوا بالرب، وتتمسكوا بحبله جيدا حتى يوم الحساب، ولا تخشوا الشر.
في الظروف العادية كنت سأهتم بسماع هذا الحديث ومراقبة أثره على الناس. معظمهم كانوا هادئين مستمتعين كما لو كان يغني لهم تهويدة نوم. أما السيد ماكلوفلين - الذي كان يجلس على المسرح - فكان ينظر إلى الأرض وعلى وجهه تعبير مهذب لكنه غير صادق، فلم يكن ما يسمع هو نوعه المفضل من المواعظ. أما القس المعمداني فكانت ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة كالتي ترتسم على وجه منظمي الحفلات. وكان الحضور من كبار السن يستمرون في ترديد «آمين» وهم يتمايلون في رفق. إن نجوم السينما والساسة والزناة قد فات أوان إنقاذهم، بدت هذه فكرة مريحة للكثيرين. أضيئت المصابيح، ودخلت الحشرات الطائرة من النوافذ، فقط تلك الحشرات القليلة التي تظهر في تلك الفترة من العام. وبين الحين والآخر كنا نسمع صوت صفعة دفاعية سريعة.
غير أني كنت مستغرقة بكامل حواسي في متابعة يدينا المستندتين إلى ظهر المقعد. حرك هو يده قليلا، وحركت يدي، ثم تحرك وتحركت مرة أخرى، حتى تلامست يدانا برفق وحيوية، ثم سحب كل منا يده، لكن لم نلبث أن أعدناهما، فظلت أيدينا معا. ظلت إصبعانا الصغيرتان تحتكان ببعضهما برفق، ثم تسللت إصبعه فوق إصبعي، ترددت قليلا فانفرجت يدي قليلا فلمس بإصبعه الصغرى خنصري، حتى وقعت في أسر يديه، وهكذا بخطوات رسمية محتومة - وبقدر هائل من التحفظ والثقة - غطت يده يدي. وعندما حدث هذا رفع يدي من فوق ظهر المقعد وأمسك بها بيننا. انتابني إحساس ملائكي يغمره الامتنان وكأنني أخرج إلى مستوى آخر من الوجود، أحسست أنني لا أريد شيئا آخر، فلا توجد حميمية أكثر مما أشعر به.
ثم دوت الترنيمة الأخيرة.
أحب أن أروي قصة.
ستكون عن المجد.
أن أحكي قصة قديمة قديمة ...
قادنا الزنوج في الغناء، جميعهم إلا الرجل ضئيل الحجم الذي أخذ يلوح بيديه طالبا من الجمهور أن يرفع صوته، وأخذ الناس يتمايلون وهم يغنون معا. انتشرت رائحة عرق نفاذة كرائحة البصل، كرائحة الخيول، كرائحة روث الخنازير، وشعرت أنا بأنني محاصرة مقيدة وكأن ثمة ما يحملني بعيدا، وكأن السعادة المرهقة الحزينة تصعد حولي مثل سحابة. كنت قد رفضت أن آخذ الورقة المكتوب عليها الترانيم التي قدمها إلي السيد بيوكانن وآخرون من رجال الكنيسة لكنني كنت أذكر الكلمات فغنيت معهم. وكنت وقتها أستطيع غناء أي شيء.
لكن عندما انتهت الترنيمة، ترك يدي وابتعد وانضم إلى مجموعة من الناس المتجهين إلى مقدمة القاعة، استجابة لدعوة باتخاذ قرار من أجل يسوع، أن يوقع على عهد أو على تجديد عهد، ليضفي طابع الإنجاز على تلك الأمسية. لم يخطر ببالي أنه أراد أن يفعل هذا، ظننت أنه ذهب ليبحث عن شخص ما. حدث ارتباك كبير في القاعة وفقدته في لحظة، فاستدرت وتلمست طريقي إلى خارج القاعة ونزلت السلالم وتلفت حولي أكثر من مرة باحثة عنه (لكني كنت مستعدة لأتظاهر بأنني كنت أبحث عن شخص آخر إذا ما رأيته ينظر إلي). تلكأت في المشي في الشارع الرئيسي وأنا أنظر إلى النوافذ، ولكنه لم يأت.
كان هذا مساء يوم الجمعة. ظللت أفكر به طوال عطلة نهاية الأسبوع ، وظلت صورته خلفية ثابتة في ذهني لكل ما أضطر للتفكير فيه. كنت دائما أحاول تحرير ذهني منه، لكن أجد ذهني ينزلق إلى التفكير فيه مرة أخرى، حاولت أن أستعيد إحساسي بلمسة يده على يدي، وأحاول أن أتذكر بدقة ضغط أصابعه المتفاوت. فكنت أفرد يدي أمامي مندهشة أنها لم تكن تخبرني سوى بالقليل مما أردت أن أعرفه. لم تكن تشي بالكثير، بالضبط مثل تلك الأشياء الموجودة في المتاحف التي كانت تخص الملوك. وكنت أحلل تلك الرائحة التي شممتها هناك، وأفرز عناصرها المألوفة وغير المألوفة، وكنت أتصوره كما رأيته لأول مرة عبر القاعة؛ لأنني لم أنظر إليه قط عندما جاء ليقف بجانبي؛ فتذكرت وجهه الأسمر الحذر العنيد. بدا لي وجهه يحمل كل احتمالات الضراوة والعذوبة، الكبرياء والخضوع، العنف وضبط النفس. لم أر فيه قط أكثر مما رأيت في المرة الأولى؛ لأنني وقتها رأيت كل شيء، رأيت كل شيء سأذوب فيه حبا ولكني لا أستطيع أن أحكم قبضتي عليه أو أفسره.
لم أعرف اسمه، أو من أين أتى، أو ما إذا كنت سأراه مرة أخرى.
في يوم الإثنين، بينما كنت أهبط هضبة شارع جون بعد المدرسة مع جيري، انطلق نحونا نفير شاحنة قديمة مغبرة محملة بالقش وأطل منها ذلك الوجه، وجهه، لم يتغير وجهه أو يتقلص في ضوء النهار.
قلت لجيري: «الموسوعات! لأمي عنده بعض النقود، علي أن أتكلم معه، اذهب أنت في طريقك.»
شعرت بالدوار بهذا الظهور المتوقع الذي لم أرجه، إنه كتجسد الخيال في عالم الواقع، ركبت الشاحنة معه. «ظننت أنك لا تزالين في المدرسة.»
أجبت بسرعة: «كدت أنتهي من الدراسة، فأنا في الصف الثالث عشر.» «سررت لمقابلتك، فعلي أن أرجع إلى مخزن الأخشاب، لماذا لم تنتظريني في تلك الليلة؟»
قلت كما لو كنت لم أره: «أين ذهبت؟» «اضطررت لأن أذهب إلى مقدمة القاعة، كان هناك حشد كبير من الناس هناك.»
أدركت أن عبارة «اضطررت لأن أذهب إلى مقدمة القاعة» تعني أنه ذهب ليوقع بطاقة العهد أو لأن يمنحه واعظ النهضة الدينية الخلاص. وقد كان هذا هو أسلوبه أنه لا يقول شيئا محددا أبدا؛ فهو لا يفسر شيئا إلا إذا اضطر لهذا. ما انتزعته منه من معلومات عن نفسه - خلال ركوبي الشاحنة في عصر ذلك اليوم وبعده - لم يكن إلا سلسلة من الحقائق البسيطة التي يقدمها ردا على أسئلتي. كان اسمه جارنيت فرينش وكان يعيش في مزرعة بعد وادي جيريكو، لكنه كان يعمل هنا في جوبيلي في مخزن الأخشاب. قبل عامين، كان قد أمضى أربعة أشهر في السجن لاشتراكه في شجار مريع خارج حانة بورترفيلد فقد فيه رجل إحدى عينيه. وفي السجن، زاره قس معمداني وساعدة على التوبة والعودة إلى الرب. كان قد ترك المدرسة بعد الصف الثامن لكن سمح له بأن يدرس بعض مواد المدرسة الثانوية في السجن؛ لأنه فكر أن يلتحق بكلية لاهوت ويصير قسا معمدانيا. كان يتحدث عن هدفه هذا دون أن يشعر بحاجة ملحة إليه الآن، وكان في الثالثة والعشرين من عمره.
أول مكان طلب مني أن أذهب إليه معه هو اجتماع لجمعية الشباب المعمدانيين. أو ربما أنه لم يطلب؛ إذ لم يقل سوى: «حسنا، سوف آتي لاصطحابك بعد العشاء.» ثم أقلني بشاحنته إلى ذلك المكان القريب من بيتنا وهو يأخذني مشدوهة وصامتة إلى آخر مكان في جوبيلي يتوقع أحد ظهوري فيه، ربما فيما عدا بيت الدعارة.
كان هذا ما استمررت في فعله كل ليلة إثنين طوال الربيع والصيف، أجلس على مقعد خشبي طويل في الكنيسة المعمدانية، وهو ما لم أعتده أبدا، فقد كنت دائما مندهشة ووحيدة مثل شخص بقي وحيدا بعد تحطم سفينته. لم يسألني قط إذا كنت أريد أن أكون في هذا المكان، أو ما رأيي في هذه الاجتماعات عندما أكون هناك، لم يسألني أي شيء. قال لي ذات مرة: «الأرجح أنني كنت سأعود إلى السجن مرة أخرى لولا الكنيسة المعمدانية، هذا هو كل ما أعرف، ولا أريد أن أعرف سواه.» «ولماذا قد تعود إلى السجن؟» «لأنني كنت معتادا على الشجار واحتساء الخمر.»
على ظهر المقاعد الخشبية الطويلة في الكنيسة كانت هناك قطع من العلكة الممضوغة القديمة، تحول لونها إلى الأسود الفضي وأصبحت صلبة كالحديد. كانت الكنيسة تفوح برائحة حمضية كرائحة مطبخ جرى تنظيفه بمياه قذرة وتركت خرق التنظيف القذرة لتجف خلف الموقد. أما هؤلاء الشباب، فلم يكونوا كلهم شبابا؛ إحداهم كانت كادي ماكويج التي تعمل في محل جزارة مونك، تلقي قطع اللحم النيئ في مفرمة اللحوم وتقطع سيقان الأبقار بمنشار كبير وهي مرتدية مئزرا أبيض مغطى بالدماء، وكانت ضخمة البنية ومرحة مثل مونك نفسه صاحب المحل الألماني. أما في الكنيسة فكانت ترتدي فستانا من قماش الأورجانزا منقوشا بالزهور ويداها النظيفتان تعزفان على آلة الأرجن، وعنقها الأحمر عار لأن شعرها قصير وتبدو وديعة ومهذبة. وكان هناك شقيقان - إيفان وأورين وولبول - قصيرا القامة وجههما يشبه وجوه القرود يؤديان حركات رياضية. وامرأة ممتلئة الثديين ذات وجه بارد كانت تعمل مع فيرن دوجرتي في مكتب البريد وكانت فيرن تسميها «بيتي المقدسة». وفتيات من متجر تشينواي وهن شاحبات مغبرات ككل فتيات متجر تشينواي لأنهن كن الأقل أجرا والأقل مكانة اجتماعية بين جميع الفتيات اللاتي يعملن في المتاجر في جوبيلي. وكانت إحداهن - لا أذكرها أيهن - من المفترض أن تكون وضعت مولودها.
كان جارنيت هو الرئيس، وأحيانا كان يقود الصلاة بادئا بصوته الثابت: «أبانا الذي في السماوات ...» اختفت حرارة شهر مايو المبكرة وبدأت أمطار الربيع الباردة تغسل النوافذ. خامرني ذاك الشعور القوي الغريب بأنني في حلم وأنني سأصحو منه الآن. وفي البيت كانت على الطاولة في الغرفة الأمامية كتبي المفتوحة وقصيدة «آندريا ديل سارتو» التي بدأت قراءتها قبل أن أخرج، والتي لا تزال كلماتها تتردد في ذهني:
الضوء الرمادي يغطي كل شيء باللون الفضي
وقت الشفق، أنا وأنت متشابهان ...
بعد انتهاء ما يسمى بخدمة العبادة، كنا ننزل إلى قبو الكنيسة حيث توجد طاولة للعب كرة الطاولة، حيث كان يجري تنظيم مسابقات. وهناك كانت كادي ماكويج ومعها إحدى فتيات تشينواي يخرجان شطائر أحضرتاها من المنزل وتعدان الكاكاو على السخان الكهربائي. وكان جارنيت يعلمهم لعب كرة الطاولة ويشجع فتيات تشينواي اللاتي بالكاد يستطعن رفع المضرب، ويمزح مع كادي ماكويج التي تصير صاخبة عندما تنزل إلى القبو بالضبط كما تكون في محل الجزارة. «إنني أشعر بالقلق عليك حين تجلسين على كرسي الأرجن الصغير هذا يا كادي.» «ماذا تقول؟ ما الذي يقلقك؟» «يقلقني جلوسك على كرسي الأرجن الصغير، إنه يبدو صغيرا عليك.»
قالت بصوتها العالي المنفعل المبتهج ووجهها أحمر كاللحم الطازج: «هل تخشى أن يختفي؟»
فأجابها جارنيت بصوت نادم وهو مطأطئ الرأس: «لا يا كادي، لم أفكر هكذا أبدا.»
كنت أبتسم للجميع غير أني كنت أشعر بالغيرة والهلع وأنتظر بلهفة أن ينتهي كل هذا؛ أن تغسل أكواب الكاكاو وتطفأ أضواء الكنيسة، وأن يصطحبني جارنيت إلى شاحنته. ثم كنا نذهب بالسيارة عبر ذلك الطريق الموحل الذي يقود إلى مكان بورك تشايلدز (قال لي جارنيت: «إنني أعرف بورك، إذا ما علقت فسيعيرني سلسلة ويساعدني على الخروج.» وقد تسبب التفكير في أنه يشعر بالتوافق الاجتماعي مع بورك تشايلدز - الذي كان بالطبع معمدانيا - بخيبة أمل تغمر قلبي، وهو الشعور الذي صار مألوفا بعد ذلك). لكن الآن، لا شيء يهم؛ فاللاواقعية والإحراج أو الملل الذي كان يخيم على الأمسية الطويلة كان يتلاشى تماما في كابينة الشاحنة؛ في رائحة المقاعد الممزقة القديمة، ورائحة علف الدواجن، ومرأى جارنيت وهو يشمر عن ساعديه ويداه حرتان وحذرتان تتشبثان بعجلة القيادة. والمطر الأسود الذي يضرب النوافذ المغلقة يحمينا. وعندما يتوقف المطر، كنا ننزل زجاج النوافذ ونستنشق الهواء العليل قرب النهر الذي لا تصل إليه أعيننا، ونشم رائحة النعناع الذي ينسحق تحت عجلات الشاحنة حيث توقفنا على جانب الطريق المؤدي إلى الحديقة. كنا نتوغل خلال الشجيرات التي كانت تحتك بغطاء محرك السيارة المعدني. ونوقف السيارة بعد المطب الأخير الصغير الذي كان بمثابة إشارة الوصول، بمثابة تصريح، وكان نور السيارة يشق ظلمة الليل بخفوت، ثم كنا نخرج من السيارة ويستدير إلي جارنيت بالتنهيدة نفسها، بالنظرة الجادة المستترة نفسها، ثم كنا نمضي قدما إلى الريف ؛ حيث الأمان التام ، حيث لا توجد أية حركة لن تضفي علينا بهجة، حيث لا مجال لخيبة الأمل. لم أشعر بهذا الشعور من قبل - إلا حين أكون مريضة بالحمى - شعور بالتحليق والوهن والاحتواء، وفي الوقت نفسه شعور بأنني أملك قوة لا حدود لها. كنا لا نزال في الخطوات الأولى إلى ممارسة الجنس، فكنا نلف وندور، نتقدم ونتقهقر، ونتردد؛ ليس لأننا خائفين أو لأنني وضعت أي قيود على «التجاوز» (كان مثل هذا النوع من المصارحة في تلك البلدة ومع جارنيت أمرا غير وارد) وإنما لأننا شعرنا بالتزام - كالذي شعرنا به وقت طاردت أيدينا بعضها على ظهر المقعد - بألا نتسرع، وبأن نتراجع مؤقتا بخجل في وجه مثل هذه اللذة. بل إن كلمة «لذة» نفسها تغيرت بالنسبة لي، كنت أعتقد أنها كلمة لطيفة تدل على تدليل معتدل بسيط للذات، أما الآن فقد صرت أراها كلمة متفجرة وحروفها مشتعلة كالألعاب النارية وتنتهي نهاية حالمة.
حينما كنت أعود إلى البيت من تلك الجلسات بجوار النهر لا أستطيع النوم وأحيانا أظل ساهرة حتى الفجر، ليس لأنني لم أفرغ شحنتي - كما قد يتوقع - وإنما لأنه كان علي أن أسترجع في ذهني تلك الهدايا العظيمة التي تلقيتها، تلك الأعطيات الجميلة، ولا أدعها تفلت مني: شفتاه على معصمي، على باطن مرفقي، على كتفي، على ثديي، يداه على بطني، على فخذي، بين ساقي. إنها هدايا. قبلات عديدة، تلامس بالألسن، أصوات متضرعة وممتنة، جرأة وتكشف. أما انغلاق الفم بإحكام على حلمة الثدي فكان يبدو بمثابة إقرار بالبراءة والعجز؛ ليس لأنه تقليد لمشاعر الأطفال الصغار، وإنما لأنه لا يخشى الشعور بالسخف. كنت أرى الجنس استسلاما تاما، ليس استسلام المرأة للرجل وإنما استسلام الإنسان للجسد، هو فعل إيماني محض، إنه الحرية في الإهانة. كنت أستلقي تغمرني تلك المعاني والاكتشافات، كالعالق طوال الليل في مياه صافية دافئة متدفقة بشكل لا يقاوم.
كان جارنيت يصطحبني أيضا إلى مباريات البيسبول التي أحيانا كانت تلعب بعد سقوط المطر مباشرة. وكانت تقام في المساء في الساحات التي تقع في نهاية طريق دياجونال وفي البلدات المجاورة. كان جارنيت لاعب كرة البيسبول الأول في فريق جوبيلي، وكان اللاعبون يرتدون زيا أحمر ورماديا. وكانت جميع الملاعب بها مدرجات مكشوفة متداعية وسياجات عريضة مغطاة بإعلانات قديمة للمشروبات الغازية والسجائر. ولم تكن المدرجات تمتلئ بأكثر من ثلثها قط، وكان كبار السن يأتون لمشاهدة المباريات - هم أنفسهم كبار السن الذين كانوا يجلسون دائما على المقعد الطويل الذي يقع أمام الفندق، أو الذين يلعبون لعبة الداما في الصيف على لوحة الداما الإسمنتية المطلية خلف النصب التذكاري، والذين كانوا يسيرون لاستكشاف نهر واواناش أثناء الفيضان في كل ربيع، ويقفون يومئون برءوسهم ويبدون تعليقاتهم كما لو أنهم هم من جعلوا النهر يفيض. وكان هناك أولاد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرهم يجلسون على الأعشاب ويدخنون. وكانت الشمس تسطع دوما بعد يوم طويل كئيب وتفترش أشعتها الهادئة الحقل كقضبان ذهبية. وكنت أنا أجلس مع السيدات، صديقات اللاعبين وبعض الزوجات الشابات اللائي كن يصحن ويقفزن في المدرجات. أما أنا فلم أكن أستطيع أن أصيح أبدا؛ لأن لعبة البيسبول كانت تحيرني كما كانت تحيرني الكنيسة المعمدانية، لكنها لم تكن تشعرني بعدم الارتياح. فكنت أحب فكرة أن هذا الطقس الرجالي ما هو إلا مقدمة لطقوسنا الخاصة.
لكنني كنت لا أزال أذاكر دروسي في الأمسيات الأخرى، وكنت أتعلم أمورا ولم أنس كيف تعلمتها، غير أنني كنت أغرق في أحلام يقظة تستمر لنصف ساعة. واستمررت كذلك في مقابلة جيري في مطعم هاينز. «لماذا ترافقين إنسان نياندرتال هذا؟»
قلت بصوت مبتهج مراوغ يملؤه الخزي: «ماذا تعني بإنسان نياندرتال؟ إنه إنسان كرومانيون.»
لكن جيري لم يكن يملك ترف التفكير في أموري؛ فقد كان عقله مثقلا بالتفكير في قرارات بشأن مستقبله، أخذ يقول: «إذا ذهبت إلى ماكجيل ...» «لكن إذا ذهبت إلى تورونتو ...» كان عليه أن يفكر في المنح الدراسية التي قد ينالها، وكذلك عليه أن يتطلع إلى المستقبل أيضا ويحدد أي جامعة ستتيح له أفضل فرصة كي يلتحق بواحدة من أفضل كليات الدراسات العليا الأمريكية. اهتممت بالموضوع وأخذت أطالع كتيبات الجامعات وأقارن الخيارات المتاحة أمامه وأنا أقلب في ذهني تفاصيل لقائي الأخير مع جارنيت. «لا زلت عند رأيك أنك ستذهبين إلى الجامعة، أليس كذلك؟» «ولم قد أكون غيرت رأيي؟» «عليك إذن أن تتوخي الحذر، في هذه الحالة. أنا لا أسخر منك، ولست أشعر بالغيرة، إنني أفكر في مصلحتك.»
كانت أمي هي الأخرى تفكر في مصلحتي وقالت لي: «أنا أعرف آل فرينش هؤلاء، إنهم يعيشون بعد وادي جيريكو. إنها أفقر غابة مهجورة يمكنك أن تأملي أن تريها.» لم أخبرها عن جمعية الشباب المعمدانيين، لكنها اكتشفت الأمر بمفردها فقالت لي: «لا أفهم هذا، لا بد أنك فقدت صوابك.»
فقلت بحدة: «ألا يمكنني أن أذهب حيث أريد؟» «لقد شوش ذاك الصبي على عقلك. أنت بما تملكين من ذكاء. هل تنوين أن تعيشي بقية حياتك في جوبيلي؟ هل تريدين أن تكوني زوجة عامل بمخزن أخشاب؟ هل تريدين الانضمام لهيئة مساعدة السيدات المعمدانيات؟» «كلا.» «حسنا، أنا لا أريد إلا أن أبصرك بالأمور، لمصلحتك الشخصية.»
عندما أتى جارنيت إلى منزلي عاملته أمي بكل لباقة وسألته عن مهنة قطع الأخشاب. كان يناديها: «يا سيدتي.» بالطريقة نفسها التي كنت أستخدمها أنا وجيري عندما نقلد القرويين بسخرية. كان يقول بتهذيب وثقة في النفس: «لا أعرف كثيرا عما تسألين يا سيدتي.» وكانت أي محاولة من هذا النوع من المناقشات العامة، أي محاولة لجعله يفكر بهذه الطريقة، أن يتكلم كلاما نظريا، أو يحدد نظاما؛ كانت تولد نظرة خاوية تفوح بالشموخ الذي لا يخلو من الشعور بالإهانة على وجهه. كان يكره من يستخدمون مصطلحات ضخمة ويتحدثون عن أمور خارج حيواتهم الخاصة. كان يكره من يحاولون ربط الأمور ببعضها، لكن هذه الأمور هي التسلية الكبرى في حياتي، فلماذا لم يكرهني إذن؟ ربما أكون قد نجحت في إخفاء حقيقتي عنه، أو على الأرجح أنه أعاد ترتيب شخصيتي وأخذ منها ما يناسبه فقط، ما يحتاج إليه. وهذا هو ما فعلته أنا أيضا معه، فقد أحببت الجانب المظلم منه، الجانب الغريب منه ، الجانب الذي لم أعرفه، ليس المعمداني الجديد، بل إني رأيت ذلك الوجه المعمداني الذي كان فخورا به ما هو إلا قناع يلهو به ويستطيع أن يخلعه بسهولة. حاولت أن أدفعه لأن يروي لي عن الشجار الذي دار خارج حانة بورترفيلد وعن تجربته في السجن. فقد كنت أولي اهتماما كبيرا لغرائزه ولم أهتم أبدا بأفكاره.
حاولت أن أجعله يخبرني لماذا أتى إلي في تلك الليلة في اجتماع النهضة الدينية. «أعجبتني نظراتك.»
كان هذا هو كل ما حصلت عليه.
لم يكن ثمة شيء يمكن أن نقوله ليقربنا من بعض، كانت الكلمات أعداءنا؛ فهي لن تفعل إلا أن تشوش على ما نعرفه بعضنا عن بعض. كان ما بيننا هو المعرفة التي يطلق عليها: «الجنس فقط» أو «الانجذاب الجسدي». اندهشت عندما فكرت بهذا الأمر - ولا أزال حتى الآن مندهشة - من الاستخفاف الذي كنت أتعامل به مع هذا الأمر، كما لو كان أمرا عاديا يتواجد بسهولة في أي مكان كل يوم.
اصطحبني لمقابلة عائلته، كان ذلك في عصر يوم أحد، وكانت بداية الامتحانات يوم الإثنين، فقلت له إن علي أن أستذكر فقال: «لا يمكنك أن تفعلي هذا، لقد ذبحت أمي دجاجتين بالفعل.»
ولكن كان ذلك الجزء مني الذي يريد أن يذاكر قد ضاع، اختبأ في مكان بعيد، فلم أستطع أن أفهم شيئا في كتبي أو حتى أضع كلمتين إلى جوار بعضهما وجارنيت في الحجرة، كل ما كان بوسعي فعله هو قراءة الكلمات على لوحة الإعلانات أثناء سيرنا بالسيارة. كان هذا على النقيض تماما مما يحدث لي وأنا مع جيري، حيث كنت أرى العالم كثيفا معقدا لكنه واضح بشكل مفزع، أما العالم الذي رأيته مع جارنيت كان لا يختلف كثيرا عن العالم الذي أعتقد أن الحيوانات تراه، عالم بلا أسماء.
كنت قد سرت في طريق وادي جيريكو من قبل مع أمي بالسيارة. في بعض المناطق منه يتسع بصعوبة لحجم الشاحنة، وكانت الزهور البرية تحتك بكابينة السيارة. قطعنا أميالا بالشاحنة عبر الشجيرات الكثيفة. كان ثمة حقل مليء بجذوع الأشجار المقطوعة . تذكرت هذا، تذكرت أمي وهي تقول: «في وقت من الأوقات كان الريف بأكمله بهذا الشكل، لكنهم هنا لم يتقدموا إلى ما بعد المرحلة الأولية. ربما كانوا من الكسل حتى إنهم لم يفعلوا هذا، أو أن الأرض لا تستحق العناء، أو كلا الأمرين معا.»
وكانت هناك أطلال لمنزل وحظيرة محترقين.
قال جارنيت: «هل أعجبك منزلنا؟»
كان منزله الحقيقي في منطقة منخفضة تحيط بها أشجار ضخمة عن قرب شديد حتى إن المرء لا يستطيع أن يرى البيت كاملا، وإنما يرى السقف الخشبي البني وقمته الباهتة مثلثة الشكل والشرفة، التي كانت مطلية باللون الأصفر منذ زمن بعيد؛ حتى إنه يبدو الآن مجرد خطوط صفراء على الخشب المليء بالشظايا. ولما دخلنا بالشاحنة إلى فناء المنزل ودرنا بالشاحنة، أخذ الدجاج يرفرف وهو يركض محدثا جلبة كبيرة، وجاء كلبان ضخمان ينبحان ويتقافزان نحو نوافذ الشاحنة المفتوحة.
كان ثمة فتاتان في التاسعة والعاشرة تقريبا تتقافزان فوق مجموعة من الفرش الزنبركية التي تركت في الساحة وقتا طويلا بما يكفي لأن تحيل العشب من حولها إلى اللون الأبيض. توقفتا عن القفز وأخذتا تحدقان في، لكن جارنيت مشى بي متجاوزا إياهما ولم يقدمني لهما، في الواقع إنه لم يقدمني لأي أحد. كان أفراد عائلته يأتون - ولم أكن أعرف أيهم أفراد أسرته وأيهم أعمامه أو عماته أو أبناء عمومته - ويتكلمون معه وينظرون إلي بطرف أعينهم. كنت أحيانا أعرف أسماءهم من كلامهم بعضهم مع بعض، لكنهم لم ينادوني باسمي أبدا.
كانت هناك فتاة أظن أنني رأيتها في المدرسة الثانوية، كانت حافية القدمين ومتزينة بشكل جميل تتمايل حول أحد أعمدة الشرفة. فقال جارنيت: «انظري إلى ثيلما، إن ثيلما عندما تضع أحمر الشفاه تستهلك أنبوبا كاملا، وأي رجل يحاول أن يقبلها يلتصق بها ولا يستطيع أن ينتزع نفسه.» ملأت ثيلما وجنتيها المزينتين بالبودرة بالهواء، ثم نفخته في فظاظة.
ثم أتت امرأة قصيرة القامة بدينة الجسد تبدو غاضبة ترتدي حذاء رياضيا دون أربطة، وكان كاحلاها متورمين حتى إن رجليها بدتا مستديرتين تماما كأنابيب تصريف المياه . كانت هي أول من خاطبني مباشرة، فقالت لي: «أنت ابنة السيدة التي تبيع الموسوعات. إنني أعرف أمك. ألا تجدين مكانا تجلسين فيه؟» ثم دفعت بيدها صبيا صغيرا وقطا بعيدا عن كرسي هزاز ووقفت جواره حتى جلست أنا، وجلست هي على أعلى درجة من السلم، وبدأت تصيح ملقية التعليمات وكذلك عبارات التوبيخ على الجميع. «احبسوا تلك الدجاجات في الخلف! أحضروا لي بعض الخس والبصل الأخضر والفجل من الحديقة! ليلا! فيليس! توقفا عن القفز! أليس هناك ما تفعلان خيرا من هذا؟! بويد انزل من الشاحنة! أخرجوه من تلك الشاحنة! أتعلمين؟! ذات يوم حرك عصا السرعة فتحركت الشاحنة عبر الفناء وكادت ترتطم بالشرفة، لولا أن تجاوزتها ببوصات قليلة.»
أخرجت علبة تبغ وبضعة ورقات لف سجائر من جيب مئزرها. «لست سيدة معمدانية، فأنا أستمتع بالتدخين بين الحين والآخر. هل أنت معمدانية؟» «كلا أنا أذهب للكنيسة مع جارنيت.» «أعتاد جارنيت الذهاب إلى هناك بعد أن تورط في المشاكل، هل لديك فكرة عن المشاكل التي تعرض لها جارنيت؟» «نعم.» «ما حدث أنه ارتاد الكنيسة بعدما مر به من مشاكل، وأنا لم أقل قط إن هذا ليس شيئا جيدا له، لكنه اكتسب بعض الأفكار المتشددة. كنا جميعا - ولا نزال - نتبع الكنيسة المتحدة، لكن تفصلنا عن الكنيسة المتحدة مسافة بعيدة بالسيارة، وأنا أحيانا أكون في العمل، فلا فرق بين أيام الأحد والأيام الأخرى في المستشفى.» أخبرتني أنها تعمل في مستشفى بورترفيلد كمساعدة ممرضة، وقالت: «أنا وجارنيت نعول هذه الأسرة، فالمزارع مثل هذه لا تدر ما يكفي من دخل لإعالة الأسرة.» ثم أخذت تروي لي حوادث رأتها في المستشفى؛ مثل طفل أتى إلى المستشفى مسموما حتى إن لونه كان أسود كلون طلاء الأحذية، ورجل أتى ويده مسحوقة، ورجل أتى بصنارة لصيد سمك تخترق إحدى عينيه، وأخبرتني كذلك أنها رأت ذراع شخص تتدلى من مرفقه لا تربطها به سوى قطعة جلد. أما جارنيت فقد اختفى. وفي ركن الشرفة، جلس رجل يرتدي رداء سرواليا وكان ضخما وشاحب اللون كتمثال بوذا، غير أنه يفتقر إلى التعبير المسالم الذي يرتسم على وجوه تماثيل بوذا. وقد ظل يرفع حاجبيه ويظهر أسنانه في ابتسامة تختفي على الفور، ظننت في البداية أن هذا تعليق تهكمي على قصص المستشفى هذه، لكنني أدركت بعد ذلك أنه تقلص لا إرادي يحدث في وجهه.
توقفت الفتاتان عن التقافز وجاءتا لتجلسا حول أمهما لتخبراها بأي تفاصيل قد تكون فاتتها وهي تحكي. أما الصبية فقد شرعوا في الشجار في الفناء وأخذوا يتمرغون في الوحل الجاف مرارا في شجار صامت ضار، حتى إن ظهورهم العارية استحالت بنية ناعمة كباطن لحاء الشجر، فصاحت الأم محذرة: «سآتي بإبريق ماء مغلي، وأحرق به جلودكم.» قالت إحدى الفتيات: «هل تحب هي أن ترى جدول الماء؟»
وكانت تقصدني أنا. اصطحبتاني إلى جدول الماء الذي كان عبارة عن مجرى هزيل من المياه بنية اللون بين الصخور البيضاء المستوية، كما أرتاني إلى أين يصل في فصل الربيع، وفي إحدى السنوات أغرق هذا الجدول بيتهم. واصطحبتاني إلى مخزن التبن كي أرى عائلة من القطط الوليدة التي كانت برتقالية وسوداء اللون ولم تكن قد فتحت عيونها بعد، ثم إلى الإسطبل الخالي لأرى كيف أن الحظيرة كانت قائمة على أعمدة وعوارض مؤقتة، «إذا ما تعرضنا يوما لعاصفة عاتية فستتهاوى هذه الحظيرة.»
أخذت الفتاتان تثبان مرحا في الإسطبل وتغنيان أغنية من تأليفهن: «هذه الحظيرة القديمة ستتهاوى، ستتهاوى ...»
ثم اصطحبتاني في جولة في أرجاء المنزل. كانت الحجرات واسعة والأسقف مرتفعة وبها قدر ضئيل من الأثاث الذي كان يوضع بشكل غريب. كان ثمة فراش نحاسي في حجرة بدت أنها حجرة معيشة، ويتراكم في الأركان وعلى الأرض أكوام من الملابس والأغطية كما لو أن العائلة قد انتقلت لتوها إلى هذا البيت. والعديد من نوافذ البيت لا تغطيها ستائر، وكان ضوء الشمس يخترق الحجرات المرتفعة من خلال الأشجار التي لا تكاد تتحرك مما جعل الحوائط مغطاة بظلال مورقة طافية. ورأيت كذلك الآثار التي تركتها مياه الفيضان على الحوائط، وبعض صور المجلات التي قصوها ولصقوها على الحوائط، كانت صورا لنجوم السينما ولسيدات يرتدين فساتين شفافة في دعاية لفوط صحية.
وفي المطبخ كانت الأم تغسل الخضروات: «هل تحبين أن تعيشي هنا؟ هه! قد يبدو المكان عاديا لأي من قاطني المدينة، لكننا هنا نجد كفايتنا من الطعام، والنسيم هنا عليل ورائع في الصيف بالقرب من جدول الماء. جو بارد في الصيف دافئ في الشتاء، إنه أفضل موقع أعرفه لمنزل.»
وكان جميع ما في البيت من مشمع مسودا وبه نتوءات لم يبق إلا آثار متقطعة من تطريزه القديم، وكانت قطع المشمع متروكة تحت الطاولة، وبجوار النافذة حيث لا يوجد ما يمكن فرشه. شممت رائحة يخنة دجاج تطبخ.
فتح جارنيت الباب السلكي ووقف متجهما في مقابل الضوء الساطع في الفناء الخلفي، وكان يرتدي سروال العمل ولا يرتدي قميصا. «لدي شيء أريد أن أريك إياه.»
خرجنا إلى الشرفة الخلفية وكانت معنا شقيقتاه أيضا؛ وطلب مني أن أنظر إلى أعلى. في الجانب السفلي من أحد أعمدة سطح الشرفة حفرت قائمة بأسماء فتيات وأمام كل اسم منها وضعت علامة
X . صاحت إحدى الشقيقات قائلة: «إنهن رفيقات جارنيت!» ثم انفجرن في الضحك، لكن جارنيت قرأ بصوت عال بنبرة جادة: «دوريس ماكايفر! كان والدها - ولا يزال - يمتلك مصنع أخشاب بعد مدينة بلو ريفر، لو كنت تزوجتها لصرت ثريا!»
فقالت أمه التي تبعتنا حتى الباب السلكي: «كأن هذه وسيلة للثراء.» «دولي فاذرستون، كانت من الكاثوليك، وتعمل في مقهى فندق برونزويك.»
فقالت أمه باهتمام: «لو تزوجتها لعشت فقيرا؛ فأنت تعرف ماذا يطلب منهم البابا أن يفعلوا!» «وكأن أمورك أنت تسير على ما يرام بدون البابا يا أماه ... مارجريت فرالي، صهباء.» «لا يمكنك أن تأمن تقلب مزاجها.» «مزاجها كان كمزاج الكتكوت الصغير. ثورا ويلوبي، كانت تبيع التذاكر في مسرح الليسيوم، إنها تعيش في برانتفورد الآن.» «ماذا تعني علامة
X
هذه يا بني؟ أتعني أنك توقفت عن الارتباط بهن؟» «كلا، لا تعني هذا يا سيدتي.» «ماذا تعني إذن؟» «هذا سر عسكري!» ثم قفز جارنيت على سور الشرفة، وأمه تصيح محذرة: «إنه لن يحتمل وزنك إطلاقا!» ثم أخذ ينحت كاتبا شيئا ما في نهاية القائمة. إنه اسمي! وعندما انتهى من نقش الاسم رسم حوله نجوما ثم وضع تحته خطا وقال: «أظنني وصلت للنهاية.»
ثم أغلق المطواة الخاصة به، وقفز نازلا؛ فقالت الفتاتان وهما تضحكان بقوة: «قبلها.» فأحاطني هو بذراعه، وأخذت الفتاتان تصيحان بجوارنا: «إنه يقبلها في شفتيها.» أبعدهما جارنيت بذراع واحدة وهو لا يزال يقبل شفتي. ثم بدأ يدغدغني واشتبكنا في معركة دغدغة ضارية تحالفت معي فيها الفتاتان وحاولنا أن نثبت جارنيت على أرضية الشرفة لكنه أفلت منا، وأسرع باتجاه الحظيرة. دلفت إلى المنزل وبكل فخر سألت والدته عما بوسعي أن أساعد به في إعداد العشاء لكنها قالت: «ستفسدين رداءك.» لكنها استسلمت في النهاية وتركتني أقطع الفجل.
تناولنا على العشاء يخنة الدجاج التي لم تكن شديدة الصلابة وصلصة لحم لتلين اليخنة، وزلابية خفيفة، وبطاطس (قالت والدته: «من المؤسف أنه ليس أوان المحصول الجديد».) ورقائق خبز مسطح دائري مصنوع من الدقيق، وفاصوليا معلبة في المنزل وطماطم وأنواعا عديدة من المخللات، وكانت هناك أطباق بها بصل أخضر وفجل وأوراق الخس في الخل، وكعكة دسمة بنكهة دبس السكر، وثمر العليق المحفوظ. جلس حول المائدة اثنا عشر شخصا قامت فيليس بعدهم. على طول أحد جانبي المائدة، جلس الجميع على مقعد طويل عبارة عن لوح خشب موضوع على قائمين خشبيين. أما أنا فجلست على الكرسي الملمع الذي أحضروه من الغرفة الأمامية. وقد أحضروا الرجل الضخم شاحب الوجه من الشرفة وأجلسوه على رأس المائدة، واتضح أنه الأب. أتى مع جارنيت من الحظيرة رجل أكبر سنا لكن خفيف الحركة، أخذ يقول إنه لم ينم الليلة السابقة بسبب ألم في أسنانه؛ فقال له جارنيت ساخرا: «إذن فمن الأفضل ألا تأكل دجاجا، الأفضل أن نكتفي بإعطائك بعض اللبن الدافئ ونضعك في سريرك.» أكل الرجل بنهم وهو يحكي كيف استخدم زيت القرنفل الدافئ، لكن والدة جارنيت قالت: «أراهن بخاتم زفافي أنك استخدمت شيئا أقوى من ذلك.» جلست أنا بين ليلا وفيليس اللتين كانتا تمثلان أنهما تتشاجران فترفض أن تناول إحداهما الأخرى أي شيء وتخفيان الزبدة تحت الصحون الصغيرة. روى جارنيت والرجل المسن حكاية عن مزارع هولندي في المنطقة أصاب برصاص بندقيته حيوان راكون ظنا منه أنه حيوان غابة خطير. ثم جلسنا نحتسي الشاي، فرفعت فيليس غطاء الملاحة بهدوء ووضعت الملح في السكرية وناولتها للرجل المسن، لكن أمها التقطت السكرية في الوقت المناسب وتوعدتها قائلة: «سأسلخك حية يوما ما.»
لا أنكر أنني كنت سعيدة في هذا البيت.
فكرت في طريق عودتنا إلى بيتي أن أقول لجارنيت: «لقد أحببت عائلتك.» لكنني أدركت كم سيكون غريبا وقع هذه الجملة عليه؛ لأنه لم يفكر قط في احتمال ألا أحبهم، أو ألا أصير جزءا منهم. ومن ثم، فإن إصدار آراء من هذا النوع سيبدو معه نوعا من ادعاء الأهمية والوعي بالذات.
تعطلت السيارة مباشرة بعد أن انعطفنا عن الشارع الرئيسي في جوبيلي، فخرج جارنيت من السيارة ونظر أسفل غطاء محرك السيارة وقال إن السبب كان كما توقع؛ عطل في جهاز نقل الحركة. أخبرته أنه يستطيع أن يبيت الليلة في الحجرة الأمامية في منزلنا لكنني شعرت أنه لا يريد ذلك بسبب أمي، وقال إنه سوف يبيت عند صديق له يعمل في مخزن الأخشاب.
ونظرا لأن وصولنا إلى المنزل لم يعلن عنه بضوضاء الشاحنة، فقد كان بإمكاننا أن ندور خلف المنزل ونستند إلى الحائط ونتبادل القبلات واللمسات الدافئة. كنت أظن دائما أن اتحادنا النهائي ستسبقه وقفة، بداية احتفالية، مثل ستار يرفع قبل الفصل النهائي من المسرحية. لكن لم يكن هناك شيء من هذا، وعندما أدركت أنه كان يرمي إلى هذا أردت أن أستلقي على الأرض وأردت أن أخلع عني سروالي الداخلي الذي كان يطوق قدمي، وأردت أن أنزع حزام فستاني؛ لأنه كان يضغط على حليته فيؤلم معدتي. لكن لم يكن هناك وقت لهذا؛ لذا فقد باعدت بين ساقي على قدر استطاعتي، وسروالي الداخلي يطوقهما، ورفعت نفسي ملاصقة جدار المنزل محاولة الحفاظ على توازني. وعلى خلاف لقاءاتنا الحميمة السابقة، كان هذا اللقاء يتطلب مجهودا وانتباها. كما أنه آلمني، على الرغم من أنه كان قد حاول توسيع فتحتي من قبل بأصابعه. كذلك كان علي أن أمسك بسرواله الداخلي خشية أن يفضحنا لمعان مؤخرته لأي مار بالطريق. شعرت بألم غير محتمل في قوسي قدمي. وفي اللحظة التي فكرت فيها أن أطلب منه أن يتوقف وينتظر على الأقل حتى أضع كعبي على الأرض لثانية، تأوه وأدخله في بعنف وهو يهوي علي وقلبه يخفق. لم أكن متوازنة بما يكفي لأحتمل ثقله، فسقطنا نحن الاثنين على زهور الفاوانيا وقد انفصلنا بطريقة ما. وضعت يدي على ساقي المبللة فوجدتها تخرج داكنة اللون، كان دما. وعندما رأيت الدم أصبح عظم الموقف واضحا أمامي.
في الصباح، لففت حول المنزل لأرى أزهار الفاونيا المكسورة وبقعة دم صغيرة على الأرض. نعم، دم جاف على الأرض. شعرت بحاجة ملحة لأن أخبر أحدا بالأمر، فقلت لأمي: «هناك دماء على الأرض بجانب المنزل.» «دماء؟» «رأيت بالأمس قطا يمزق أوصال طير، كان قطا ذكرا كبيرا مخططا، لا أدري من أين جاء.» «يا للحيوانات الشريرة!» «تعالي لتري الدماء.» «ماذا؟ لدي أمور أهم من هذا؟» •••
في ذلك اليوم بدأنا الاختبارات؛ أنا وجيري، وموري هيل وجورج كلاين - اللذان سيصير أولهما طبيب أسنان والثاني مهندسا - وجون جانيت التي اشترط عليها والدها أن تنتهي من الدراسة الثانوية المؤهلة للالتحاق بالجامعة كي تتزوج ذلك الفتى الماجن ذا الصدر الغائر الذي يعمل في بنك التجارة. وكانت هناك أيضا فتاتان من الريف هما بياترس وماري، وكانتا تخططان لأن ترتادا كلية المعلمين.
فتح الناظر ختم المظروف أمام أعيننا ووقعنا على تعهد بأن هذا الختم لم يفض من قبل. كنا بمفردنا في المدرسة الثانوية؛ فكل طلاب الصفوف الأصغر كانوا في العطلة الصيفية، وبدت أصداء أصواتنا ووقع أقدامنا ضخمة في طرقات المدرسة. كان مبنى المدرسة حارا تفوح منه رائحة الطلاء، والفراشون قد أخرجوا جميع المقاعد من أحد الفصول وكوموها في الممر لأنهم كانوا يلمعون الأرضية.
لكنني كنت أشعر أنني بعيدة عن كل هذا. كان الاختبار الأول في الأدب الإنجليزي فبدأت أكتب عن قصيدتي «الرجل السعيد» و«الرجل الحزين» لجون ميلتون، كنت أفهم الأسئلة جيدا، لكن ولسبب ما لم أستطع الوثوق بأنها تعني هذا حقا، فقد بدت لي سخيفة غير مباشرة مشئومة كجملة في حلم. أخذت أكتب ببطء وبين الحين والآخر كنت أتوقف لأحك جبهتي وأطقطق أصابعي وأحاول أن أستشعر حرج الموقف، لكن دون جدوى لم أستطع أن أسرع أكثر من هذا. أنهيت الامتحان بأكمله لكن لم أجد وقتا ولا طاقة ولا رغبة في أن أراجع ما كتبت. شككت أنني أغفلت جزءا من أحد الأسئلة، لكنني تعمدت ألا أنظر إلى ورقة الأسئلة لأتحقق مما إذا كان هذا صحيحا.
كان يغمرني شعور متوهج بالأهمية والعظمة الجسدية. صرت أمشي بتلكؤ أبالغ في إظهار أنني لا أشعر بالارتياح. وكنت أستعيد مرارا وتكرارا شكل وجه جارنيت في عناء مجهوده الشديد وفي لحظة انتصاره المظفر قبل أن يسقط كلانا على الأرض. وقد جعلني الإحساس بأني كنت مصدر ألم ثم ارتياح بهذا الشكل لشخص ما؛ معجبة بنفسي.
كانت بياتريس - إحدى الفتاتين اللتين أتتا من القرية - قد جاءت بسيارة عائلتها؛ لأن حافلات المدرسة لم تعد تعمل. وطلبت مني أن نشرب سويا الكوكاكولا في محل - كان دكان حدادة أعيد طلاؤه وتهيئته - افتتح على الطريق حيث تجري خدمة الزبائن في سياراتهم في الطرف الجنوبي من المدينة. لم تطلب مني هذا إلا لأنها كانت تريد أن تعرف كيف كانت إجاباتي في الاختبار. كانت فتاة ضخمة مجتهدة، وكانت ترتدي فساتين من قماش الجوخ أزرارها من الأمام. كنت أنا وناعومي نضحك عليها في الماضي؛ لأنها كانت تأتي إلى المدرسة في الشتاء بمعطف مزين بشعر الخيل الأبيض.
سألتني: «بم أجبت هذا السؤال؟» ثم أخذت تقرأ ببطء: كان الرجال الإنجليز في القرن الثامن عشر يقدرون قيمة الرسميات والاستقرار الاجتماعي. ناقش مع الإشارة إلى إحدى قصائد القرن الثامن عشر.
كنت أنا وقتها أفكر في أنني إذا ما خرجت من السيارة ومشيت إلى نهاية هذه المساحة المفروشة بالحصى حيث كنا نوقف السيارة ، فسأجد نفسي عند الشارع الذي يقع خلف ساحة مخزن الأخشاب. كان العاملون في ساحة مخزن الأخشاب يركنون سياراتهم في هذا الشارع، فإذا مشيت إلى هناك ووقفت في منتصف الشارع سأستطيع رؤية السياج الخلفي والمدخل وسطح السقيفة الطويلة المفتوحة وقمة كومة كبيرة من الأخشاب. كان في المدينة بعض الأماكن التي تعتبر أماكن بارزة؛ مثل مخزن الأخشاب والكنيسة المعمدانية ومحطة الخدمات التي يحضر جارنيت منها الوقود ومحل الحلاقة الذي يقص فيه شعره ومنازل أصدقائه، وبين هذه الأماكن كانت الشوارع التي اعتاد أن يقود شاحنته بها، كلها بدت في ذهني كأسلاك مشعة.
كنا قد انتهينا من المراحل الأولية الجميلة التي كنا لا نزال نتلمس بها طريقنا إلى علاقة كاملة، وتلك المداعبات في الشاحنة تحت قطرات المطر. منذ ذلك الوقت، كنا نمارس علاقة جنسية كاملة؛ فمارسنا الحب على مقعد الشاحنة وبابها مفتوح، وتحت الشجيرات وعلى الأعشاب في الليل. لقد تغير الكثير. في البداية، كنت أشعر بأنني مخدرة ويغمرني إحساس بأهمية ما نفعل، واسمه، والتفكير فيه. ثم اختبرت ذروة النشوة الجنسية، والتي عرفت اسمها مما قرأته في كتاب والدة ناعومي، وعرفت إحساسها لأنني جربت تلك الانقباضات بنفسي في الماضي مع كثير من العشاق الخياليين المتلهفين المتعطشين. لكنني اندهشت من المرور بها في صحبة أحد، فقد بدت شيئا خاصا للغاية، شيئا فرديا نجده في أعماق الحب. وهكذا، سرعان ما أصبح هذا هو ما يجب أن نصل إليه، ولم أستطع أن أتخيل كيف كنا نتوقف قبل الوصول إلى هذه المرحلة. لقد انتقلنا إلى مستوى آخر، مستوى أكثر تماسكا أقل إعجازا حيث يجب الإقرار بالسبب والنتيجة، وحيث بدأ الحب يتدفق بنمط متعمد.
لم نتبادل أية كلمة قط بهذا الشأن.
كان ذلك هو أول صيف أقضيه أنا وأمي في جوبيلي بدلا من أن نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس؛ إذ قالت أمي إنها غير مستعدة للذهاب إلى هناك، كما أن أبي وأوين والعم بيني سعداء بحالهم هناك. أحيانا كنت أذهب لأراهم، كانوا يشربون الجعة على طاولة المطبخ، وينظفون البيض بالصوف المعدني، كانوا قد توقفوا عن تربية الثعالب لأن أسعار الفراء انخفضت للغاية بعد الحرب. اختفت الثعالب وهدمت الحظائر وتحول أبي لتربية الدواجن، فكنت أجلس معهم وأحاول تنظيف البيض أيضا. كان مع أوين نصف زجاجة من الجعة وعندما طلبت أن أشرب بعضها قال أبي: «كلا، لن يعجب هذا أمك.» وقال العم بيني: «لا خير ينتظر من فتاة تتجرع الجعة.»
كنت قد سمعت العبارة نفسها، بالألفاظ نفسها، من جارنيت.
كنت أغسل الأرضية وأنظف النوافذ وأتخلص من الطعام المتعفن وأفرش خزانات الأواني بورق جديد، كنت أعمل في جو خانق وكئيب. أوين يزمجر في لإظهار أنه رجل، ويفرد قدميه بحركة متعجرفة ويحركهما ببطء عندما أقول له: «تحرك! أريد أن أنظف هذه المنطقة، تحرك!» أحيانا كنت أركله أو يعرقلني هو فنسقط نركل بعضنا البعض أو نكيل اللكمات لبعضنا، فيضحك العم بيني علينا بأسلوبه القديم الذي ينم عن الخجل، أما أبي فكان ينهر أوين كي لا يتعارك مع فتاة ويطرده إلى الخارج. كان أبي يعاملني برقة ويمدح تنظيفي للمنزل، لكنه لم يكن أبدا يمزح معي كما يمزح مع الفتيات اللاتي يقطن طريق فلاتس، ليس كما يمزح مع ابنة بوتر - على سبيل المثال - التي تركت المدرسة بعد أن أنهت الصف الثامن والتحقت بالعمل في مصنع القفازات في بورترفيلد. كان يوافق على ما أفعل لكنه كان في الوقت نفسه غاضبا مني. أكان يظن أن طموحي يظهر رغبة في التكبر؟
كان أبي ينام على أريكة المطبخ، ولم يعد ينام بالأعلى كما اعتاد. وفوق تلك الأريكة رف عليه ثلاثة كتب بجوار الراديو وزجاجة الحبر؛ هي: كتاب «موجز تاريخ العالم» من تأليف إتش جي ويلز، ورواية «روبنسون كروزو»، ومجموعة من المقالات لجيمس ثربر. كان يقرأ ذات الكتب مرارا وتكرارا حتى يخلد للنوم، ولم يكن يتكلم أبدا عما يقرأ.
سرت عائدة إلى المدينة في وقت مبكر من المساء حين كانت الشمس - قبل أن تغيب بساعة أو ما يزيد - تلقي ظلا طويلا لي على الطريق المفروش بالحصى أمامي. نظرت إلى ذلك الشكل الغريب الممطوط ذي الرأس الصغيرة المستديرة (إذ إنني قمت في عصر أحد الأيام - عندما لم أجد ما أفعله - بقص شعري) وقد بدا لي كأنه ظل فتاة أفريقية غريبة مهيبة. لم أنظر إلى المنازل في طريق فلاتس، ولم أنظر إلى السيارات التي كانت تقابلني في الطريق وما تثيره من غبار، لم أكن أنظر إلى شيء سوى ظلي الذي يطفو على الأرض المفروشة بالحصى.
وصلت المنزل في ساعة متأخرة من الليل وأنا أشعر بألم في أماكن غير معتادة - كنت دائما أعاني ألما في أعلى صدري وفي كتفي - وأختنق وأرتعب من رائحتي، وكانت أمي غالبا ما تكون جالسة على الفراش والضوء يسطع خلال شعرها إلى فروة رأسها الناعمة، وإلى جوارها على الطاولة بجانب الفراش فنجان شاي ترك حتى برد، ومعه فناجين أخرى تركت في أوقات أخرى من اليوم أو اليوم الذي يسبقه - وأحيانا كانت هذه الفناجين تظل في مكانها حتى يفسد ما بها من حليب - وكانت تقرأ لي بصوت عال من أدلة الجامعات التي أرسلت في طلبها.
قالت: «سأخبرك ماذا كنت سأختار لو كنت مكانك ...» لم تعد أمي تخشى جارنيت؛ لأنه أخذ يتلاشى في ضوء مستقبلي الساطع. «كنت سأختار علم الفلك واللغة اليونانية، لقد كانت دائما تراودني رغبة سرية في تعلم اللغة اليونانية.» علم الفلك، اللغة اليونانية، اللغات السلافية، فلسفة عصر التنوير، أخذت تقذفني بهذه الكلمات وأنا أقف على عتبة الباب. لن تعلق هذه الكلمات في ذهني؛ فقد كنت أفكر في الشعيرات السوداء غير الثقيلة التي تصطف على ساعدي جارنيت متوازية حتى لتبدوا لي أنها ممشطة، وفي نتوئي معصميه النحيفين، وفي تقطيب حاجبيه بهدوء وهو يقود الشاحنة، وهو تعبير يجمع بين الإحساس بالضرورة والعملية والذي كان يقودني به إلى الشجيرات أو على طول ضفة النهر بحثا عن مكان نرقد فيه. أحيانا كنا لا ننتظر حتى يحل الظلام تماما، لم أكن أخشى أن يكتشفنا أحد كما أنني لم أكن أخشى الحمل. فكل ما كنا نفعله كان يبدو لي كما لو أنه خارج نطاق البشر الآخرين أو العواقب العادية.
كنت أتحدث مع نفسي عن نفسي بضمير الغائب، فأقول: «إنها غارقة في الحب»، «لقد أتت لتوها من موعد مع حبيبها»، «هي سلمت نفسها لحبيبها»، «المني يتقاطر من بين ساقيها.» وأحيانا كنت أشعر في منتصف النهار أنني أريد أن أغلق عيني وأستلقي حيث أنا لأغرق في النوم.
ما إن انتهت الاختبارات حتى ذهب جيري ستوري ووالدته في رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة. وبين الحين والآخر في الصيف كنت أتلقى بطاقة بريدية لمنظر من واشنطن العاصمة أو ريتشموند أو فرجينيا أو نهر المسيسيبي أو متنزه يلوستون، وفي ظهرها رسالة مختصرة مكتوبة بأحرف كبيرة تنم عن ابتهاج تقول: «أتنقل عبر أرض الأحرار، وأتعرض للخداع من قبل أصحاب النزل والجراجات، وغيرهم. وأعيش على الهامبرجر والجعة الأمريكية المتعفنة، ودائما أقرأ كتاب «رأس المال» في المطاعم كي أبهر المواطنين المحليين، لكن المواطنين المحليين لا يتجاوبون معي.» •••
كانت ناعومي على وشك أن تتزوج، اتصلت بي هاتفيا وأبلغتني الخبر وطلبت مني أن أحضر إلى منزلها. لم يتغير شيء في شارع ميسون سوى أن منزل الآنسة فاريس سكنه زوجان حديثا الزواج قاما بطلائه بلون أزرق مائل إلى الخضرة. «مرحبا أيتها الغريبة!» قالت ناعومي بلهجة اتهامية كما لو أن الشرخ الذي حدث في صداقتنا كان فكرتي وحدي، «إنك تواعدين جارنيت فرينش، أليس كذلك؟» «كيف عرفت؟» «أتظنين أنك تبقين الأمر سرا؟ هل صرت معمدانية أم ليس بعد؟ لكنه على أية حال، يعتبر تقدما مقارنة بجيري ستوري.» «من ستتزوجين؟»
قالت ناعومي بحزن: «لا تعرفينه، إنه من تابرتون. كلا إنه من باري أصلا، لكنه الآن يعمل خارج تابرتون.» «ماذا يعمل؟» طرحت هذا السؤال من باب اللباقة وإبداء الاهتمام، لكن ناعومي تجهمت له. «حسنا، إنه ليس عبقريا فذا أو شيئا من هذا القبيل، فهو لم يرتد الجامعة. إنه يعمل فنيا لتصليح الخطوط في شركة بيل للتليفون. اسمه سكوت جايجن.» «سكوت ماذا؟»
تهجتها قائلة: «جايجن. لا بد أن أعتاده فسيصير اسمي. ناعومي جايجن. قبل أربعة أشهر، لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل . عندما قابلته كنت أواعد شخصا مختلفا تماما هو ستيوارت كلايمور. بعد أن تركته ابتاع سيارة جديدة من طراز بلايموث. تعالي معي إلى الطابق العلوي سأريك أشيائي.»
صعدنا درجات الطابق العلوي ومررنا من أمام غرفة أبيها. «كيف حاله؟» «من، هو؟ هناك فجوات كثيرة في رأسه حتى إن الطيور بدأت تبيض فيها.»
ظهرت أمها أعلى السلم الخلفي ورافقتنا إلى غرفة ناعومي.
وقالت: «قررنا أن نكتفي بزفاف بسيط، ما لزوم حفلات الزفاف الضخمة؟ ما هي إلا للتباهي.»
قالت ناعومي: «لا بد أن تكوني وصيفتي في العرس، فأنت أقدم صديقاتي.» «متى سيكون العرس؟»
قالت أمها: «بعد أسبوع من السبت المقبل. سنقيمه في الحديقة تحت التعريشة إذا ما كان الجو مناسبا. سنقترض بعض الكراسي من الكنيسة المتحدة وستأتي المأكولات من شركة دبليو إيه، ولن نحتاج الكثير منها. سيكون عليك أن تشتري فستانا يا عزيزتي، فستان ناعومي أزرق مائل إلى اللون الرمادي، أريها فستانك يا ناعومي. سيناسبك اللون الأرجواني الداكن كثيرا.»
أرتني ناعومي فستانها والفستان الذي ستغادر به إلى بيت عريسها وملابسها الداخلية وقميص نومها الذي سترتديه ليلة العرس. ابتهجت قليلا وهي تريني هذه الأشياء، ثم فتحت خزانة تخزن فيها أغراض زواجها وخزانة أخرى، وفتحت بعض الأدراج وأخرجت بعض الصناديق من الدولاب، وأرتني كل الأشياء التي اشترتها لتفرش وتؤثث بها المنزل. أخذت أفكر بائسة في أن كوني وصيفة العروس يلزمني بأن أقيم لها حفل هدايا، وأن أزين لها كرسيا بأشرطة من قماش وردي رقيق، وأن أزيل قشرة الخبز من الشطائر، وأن أقطع الفجل الأحمر على شكل ورود والجزر على شكل أشرطة ملفوفة. كانت قد اشترت أكياس وسائد غير مزخرفة وزينت كل واحدة منها بأكاليل الزهور وسلال الفاكهة وتماثيل لفتيات صغيرات يرتدين أغطية رأس ويحملن أواني الري. قلت وأنا أشعر بحزن على أيامنا الخوالي التي قضيناها في المكتبة بعد انتهاء اليوم الدراسي: «ستعطيك بيلا فيبين وسادة دبابيس.»
سرت ناعومي لهذه الفكرة وقالت: «ليتها تكون خضراء، أو صفراء، أو برتقالية؛ لأن هذه هي الألوان التي سأستخدمها في تزيين المنزل.» وأرتني مناديل المائدة التي خاطتها بالكروشية بهذه الألوان، وبعضها قامت بتقويتها بمحلول من الماء والسكر كي تنتصب حوافها على شكل سلال.
نزلت أمها إلى الطابق السفلي فطوت ناعومي جميع الأشياء وأعادتها إلى أدراجها وصناديقها وقالت لي: «إذن ماذا سمعت عني؟» «ماذا؟» «أعرف أن هناك كثيرا من الناس الثرثارين في هذه المدينة.»
ارتمت جالسة على سريرها بقوة حتى إنها أحدثت فجوة كبيرة في الفراش. تذكرت هذه الحشية وتذكرت كيف كنت أنا وناعومي نتدحرج إلى المنتصف حين أبيت الليل عندها ثم نصحو ونحن نركل وننطح بعضنا. «أنا حامل! لا تنظري إلي تلك النظرة الحمقاء؛ فالجميع يفعل هذا. لكن ليس الجميع على القدر نفسه من سوء الحظ فيحملن. الجميع يمارس الجنس، إنه يصبح معتادا مثل إلقاء التحية على الآخرين.» استلقت بظهرها على الفراش ووضعت يديها خلف رأسها بينما قدماها لا تزالان على الأرض، وأخذت تحدق في المصباح وقالت: «هذا المصباح يعج بالحشرات.»
قلت: «أعرف هذا، لقد مارسته أنا أيضا.»
اعتدلت في جلستها قائلة: «حقا؟ مع من؟ جيري ستوري؟ كلا، إنه لا يعرف كيف يفعلها. جارنيت؟» «نعم.»
عادت لتستلقي مرة أخرى وقالت بنبرة شك: «كيف وجدت الأمر؟» «جيدا.» «إنه يتحسن بمرور الوقت. في المرة الأولى تألمت كثيرا، لم تكن مع سكوت أيضا. لقد كان يضع واقيا ذكريا. ألم رهيب! كان يجدر بنا أن نستخدم الفازلين. لكن من أين كنا سنأتي بفازلين هناك بين الشجيرات في منتصف الليل؟ أين كانت مرتك الأولى؟»
أخبرتها عن زهور الفاونيا وعن الدم الذي سقط على الأرض وعن قصة القط والطائر. تمددنا بعضنا بجوار بعض على السرير على وجهينا وأخذنا نحكي بعضنا لبعض كل شيء، كل التفاصيل الفاضحة، بل إنني حكيت لناعومي بعد كل هذا الزمن ما حدث مع السيد شامبرلين، وكيف كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الشيء وأرى ما فعله به. أخذت تضحك وتضرب الفراش بقبضتها قائلة: «يا إلهي! لم أر حتى الآن أي أحد يفعل هذا.» لكنها بعد برهة، عادت لتكتئب مرة أخرى ونهضت من على الفراش، وأخذت تحدق في بطنها. «لكنك برغم هذا محظوظة، لا بد أن تبدئي في استخدام وسيلة ما، عليك أن تكوني حذرة، فلا شيء مضمون على أية حال، وتلك الواقيات الذكرية القديمة البالية تتمزق في بعض الأحيان. عندما عرفت أنني حامل، تعاطيت الكينين، والدردار الأحمر، وأخذت أبتلع تلك الملينات اللعينة والعناب، وجلست في حمام الخردل حتى ظننت أني سأتحول إلى إصبع نقانق، لا شيء من هذا يفيد.» «ألم تسألي أمك؟» «كانت فكرة حمام الخردل فكرتها، إنها لا تعرف الكثير كما تدعي.» «لست مضطرة للزواج، يمكنك أن تذهبي إلى تورونتو ...» «بالطبع، ويجري إيداعي في إحدى دور جيش الخلاص. المجد للمسيح!» ارتعشت وأضافت بشكل لا يتفق إطلاقا مع ما قالته قبل قليل عن الخردل والكينين: «على أية حال، لا أظن أنه من الصواب أن أعطي طفلي لغرباء كي يربوه.» «حسنا، لكن إذا لم تكوني ترغبين في الزواج ...» «من قال إنني لا أريد هذا؟ لقد جمعت كل هذه الأشياء لأنني كنت أريد الزواج. إن المرأة تكتئب دائما عندما تحمل للمرة الأولى بفعل الهرمونات. كما أنني أعاني من إمساك لعين.»
رافقتني إلى الخارج حتى الرصيف، ثم وقفت هناك تجول ببصرها عبر أرجاء الشارع وهي تسند يديها على فخذيها وتدفع بطنها للأمام كي تبرز من تنورتها القديمة ذات النقش المربع. تخيلتها زوجة، وأما شابة متسلطة ومرهقة ومشبعة تخرج بحثا عن أبنائها، تناديهم كي يأووا إلى الفراش أو لتصفف شعورهم في جدائل أو لتتدخل في حياتهم بأي شكل آخر. ثم قالت لي بحرارة: «وداعا يا من لم تعودي عذراء.»
وعندما وصلت إلى منتصف المربع السكني تحت مصابيح الشارع إذا بها تصيح: «يا ديل!» ثم أتتني تعدو بشيء من الخرق وهي تلهث وتضحك، وعندما اقتربت مني وضعت يديها على جانبي فمها وقالت بهمس وكأنها تصيح: «لا تأمني كذلك للانسحاب قبل القذف!» «لن أفعل!» «فأولئك الأوغاد لا يسحبونه قط في الوقت المناسب!»
ثم ذهبت كل منا في طريقها، بعد أن استدرنا ولوحنا لبعضنا مرتين أو ثلاث مرات بمبالغة ساخرة كما كنا نفعل دوما. •••
بعد العشاء ذهبت مع جارنيت إلى ثيرد بريدج للسباحة. مارسنا الحب أولا على الأعشاب الطويلة بعد أن بحثنا في المنطقة حتى وجدنا مكانا خاليا من الأشواك، ثم أخذنا نسير بارتباك يحتضن أحدنا الآخر عبر طريق يتسع لشخص واحد وكنا بين الحين والآخر نتوقف لنتبادل القبلات. لقد تغيرت نوعية قبلاتنا عن الماضي كثيرا، أو على الأقل تغير جارنيت؛ فتحول من القبلات التواقة الشغوفة إلى قبلات بغرض الإرضاء وبث الطمأنينة، ومن التوسل إلى العطاء. بل وكم أصبح بإمكانه أن يستعيد نفسه بسرعة من الحالة التي يكون فيها بعد أن يصرخ بالطريقة التي يصرخ بها وتدور عيناه لأعلى ويرتعش جسده كله ويغوص في داخلي بعنف! وأحيانا كنت أسأله بعد أن يستعيد أنفاسه بالكاد بماذا كان يفكر فيقول لي: «كنت أفكر كيف أصلح شكمان الشاحنة ...» لكن هذه المرة عندما سألته، أجاب: «كنت أفكر متى سنتزوج.»
كانت ناعومي قد تزوجت وسكنت في تابرتون، في ذلك الوقت كنا قد تجاوزنا ذروة فصل الصيف، وذبلت ثمار أشجار السمن، وانخفض منسوب مياه النهر - بعد أسابيع لم تشهد سوى هطول قليل من الأمطار - ليكشف عن أشباه جزر مليئة بالأعشاب التي تنمو في المياه والتي بدت متماسكة بما يكفي للسير عليها.
سرنا في الماء خائضين في الطين حتى وصلنا إلى قاع النهر الرملي المليء بالحصى. كانت نتائج الاختبارات قد ظهرت في ذلك الأسبوع، ونجحت، لكنني لم أنل المنحة الدراسية ولم أنل درجات عليا ولا في مادة واحدة. «هل تريدين أن تنجبي طفلا؟»
أجبته: «نعم.» أخذ الماء - الذي كان دافئا كالهواء من حولنا - يلمس مؤخرتي المتقرحة المجروحة، وكنت أشعر بالوهن من أثر ممارسة الجنس فكنت أشعر بالدفء والكسل وأنا أنزل بظهري وذراعي وصدري في الماء كأوراق ثمرة كرنب ضخمة ترتخي وتتمدد على الأرض.
من أين جاءت هذه الكذبة؟ إنها ليست كذبة.
قال لي بخجل: «عليك أن تنضمي للكنيسة أولا، لا بد أن يتم تعميدك.»
سقطت على الماء وذراعاي مفرودتان والذباب الأزرق يطير مباشرة بتذبذب عند مستوى عيني. «هل تعرفين كيف يفعلون هذا في كنيستنا؟ أعني التعميد.» «كيف؟» «يغطسونك تحت الماء. فلديهم حوض مغطى خلف المنبر، يمارسون فيه هذا الطقس. لكن الأفضل أن يتم هذا في النهر حيث يمكن تعميد أكثر من شخص في آن واحد.»
ألقى بنفسه في الماء وسبح مطاردا إياي محاولا أن يمسك إحدى قدمي. «متى ستقومين بهذا الأمر؟ هل يمكن أن يكون هذا الشهر.»
استدرت أسبح على ظهري وأنا أركل الماء في وجهه. «لا بد أن تنالي خلاصك يوما ما.»
كان النهر ساكنا كبركة، حتى إن الناظر إليه لم يكن يستطيع تحديد اتجاه التيار، وكان ينطبع عليه انعكاس الضفتين المتقابلتين وبلدة فيرمايل التي تبدو معتمة بأشجار الصنوبر والأرز. «لماذا يجب أن أفعل هذا؟» «أنت تعرفين لماذا.» «لماذا؟»
لحق بي وأمسك بكتفي وأخذ يدفعني برفق لأعلى وأسفل في الماء. «ينبغي أن أعمدك الآن وأنتهي من هذا الأمر، ينبغي أن أعمدك الآن.»
فضحكت. «أنا لا أريد أن أعمد، لن يكون للأمر جدوى إذا لم تكن تلك رغبتي.» رغم أنه كان من السهولة أن أستسلم في تلك اللحظة كدعابة، فإنني لم أستطع. ظل يردد: «سأعمدك!» واستمر في دفعي لأعلى وأسفل في الماء بمزيد من القوة، وأنا أواصل الرفض والضحك وأهز رأسي نفيا. شيئا فشيئا ومعركتنا تتواصل، توقف الضحك وقست الابتسامات العريضة المصممة المؤلمة على وجوهنا.
قال برفق: «إنك ترين نفسك أفضل من أن تعمدي.» «كلا، لا أظن هذا.» «إنك ترين أنك أفضل من أي شيء، من أي أحد منا.» «كلا.» «إذن فلتعمدي!» قالها ودفعني تحت الماء مباشرة على حين غرة، فرفعت نفسي من تحت سطح الماء أبصق من فمي وأنفي. «المرة القادمة لن أتركك بهذه السهولة! سأبقيك تحت الماء حتى تقولي إنك ستعمدين! قولي إنك ستعمدين! أو سأعمدك أنا رغما عنك ...»
دفعني تحت الماء مرة أخرى لكن هذه المرة كنت مستعدة له فكتمت نفسي وقاومته، قاومته بقوة وبشكل طبيعي كأي شخص يرغم على البقاء تحت الماء، دون أن أفكر كثيرا في من كان يمسك بي. لكنه عندما تركني أرفع رأسي مدة كافية كي أسمعه يقول: «الآن قولي أنك ستفعلينها.» رأيت وجهه غارقا بالماء الذي رششته عليه وشعرت بالدهشة، ليس لأنني أتعارك مع جارنيت وإنما لأن أي شخص قد يرتكب مثل هذا الخطأ؛ خطأ أن يظن أن له سيطرة علي. كنت مندهشة بقوة حتى إنني نسيت مشاعر الغضب، نسيت مشاعر الخوف، فكرت أنه من المستحيل ألا يكون قد فهم أن كل السلطة التي منحتها إياه كانت مجرد تمثيلية، هو نفسه كان تمثيلية، وأنني كنت أنوي أن أبقيه يلعب دور الحبيب الذهبي للأبد، حتى لو كنت قد حدثته قبل خمس دقائق فقط عن الزواج منه. كنت أرى هذا واضحا وضوح الشمس في النهار؛ لذا فقد هممت أن أقول له ما يجعل هذا واضحا بالنسبة له أيضا، ولكني رأيت أنه يعرفه مسبقا. لكن ما كان يعرفه هو أنني كنت أقابل عروضه المحمودة بعروضي المخادعة، سواء أكنت أعرف هذا أم لا، كنت أقابل نواياه الصادقة بما أحمله من عقد وأداء تمثيلي. «إنك تظنين نفسك أفضل من هذا.» «إذن قولي إنك ستفعلينها.» كان وجهه الداكن الودود الكتوم قد مزق ملامحه الغضب الشديد وشعوره العاجز بالإهانة. شعرت بالخزي لإهانتي له، لكن كان علي أن أتمسك بها لأنها كانت تمثل اختلافاتي، تحفظاتي، كانت حياتي. كنت أتخيله يركل ذاك الرجل أمام حانة بورترفيلد مرارا، ظننت أنني أريد أن أعرف المزيد عنه لكنني في الحقيقة لم أشأ هذا، لم أكن في الحقيقة أريد أسراره أو عنفه أو حتى أريده هو خارج سياق هذه اللعبة الغريبة السحرية، والتي قد تكون مميتة، كما اتضح لي الآن.
هب أنك حلمت ذات مرة أنك تقفز بإرادتك في حفرة وأخذت تضحك بينما يلقي الناس عليك عشبا ناعما لطيفا، إلى أن تدرك بعد أن يغطي العشب وجهك وعينيك أن الأمر ليس لعبة على الإطلاق، أو إذا كان لعبة، فإنها لعبة تتطلب أن يتم دفنك حيا. قاومت تحت الماء كما سيقاوم أي أحد يمر بحلم كهذا، بشعور يأس لم يباغتني على الفور، وإنما أخذ يشق طريقه إلي عبر طبقات من الارتياب. لقد ظننت مع هذا أنه قد يغرقني، ظننت هذا بحق، وظننت أنني أقاتل دفاعا عن حياتي.
عندما تركني أصعد فوق الماء مرة أخرى حاول أن يجري عملية التعميد بالوضع المعروف، بأن جعلني أنحني إلى الخلف من عند خاصرتي وكان هذا خطأ منه؛ فقد استطعت أن أركله أسفل بطنه - ليس في أعضائه التناسلية رغم أنني لم أبال بهذا فلم أعرف أي جزء منه كنت أركل ولم أبال - وكانت هذه الركلات كافية لأن تجعله يفقد اتزانه بعض الشيء ويفلتني مما مكنني من الهرب. ما إن صارت تفصلنا عن بعضنا مسافة ياردة حتى تبدى لنا سخف عراكنا والرعب الذي ينطوي عليه ولم يكن من الممكن أن نستكمله، لم يلاحقني، فمشيت بتؤدة واطمئنان خارجة من الماء الذي لم يكن في هذا الوقت من السنة يجاوز ارتفاع إبطي. كنت أرتجف وألهث وأستنشق الهواء بشغف.
ارتديت ثيابي على الفور داخل الشاحنة وأنا أواجه صعوبة في إدخال ساقي في سروالي القصير، وحاولت أن أكتم أنفاسي كي أثبت وأنجح في إغلاق أزرار قميصي.
ناداني جارنيت: «سأوصلك إلى منزلك.» «أريد أن أمشي.» «سآتي لأصطحبك مساء الإثنين.»
لم أجبه وافترضت أنه يقول هذا بدافع المجاملة؛ فهو لن يأتي. لو كنا أكبر سنا لكنا بقينا وتفاوضنا حول كلفة التوصل لحل وسط، ثم أخذنا نشرح المواقف ونبرر الأمور وربما سامحنا بعضنا، وحملنا معنا هذا الأمر إلى مستقبلنا، لكننا كنا أقرب إلى الطفولة، فكنا نؤمن بالجدية المطلقة لبعض الشجارات وأنها قد تخط سطور النهاية، وعدم إمكانية التسامح مع بعض الضربات. لقد رأى كل منا في الآخر ما لم يكن يحتمل، ولم نكن نعرف أن الآخرين يرون هذا ويستمرون، وأنهم يكرهون بعضهم ويتشاجرون بل ويحاولون قتل بعضهم - بسبل عدة - ثم يزدادون حبا بعضهم لبعض.
شرعت أمشي على طول الطريق الفرعي الذي يقود إلى الطريق الرئيسي، وبعد برهة جعلني المشي أكثر هدوءا وأكثر قوة فلم تعد ساقاي واهنتين. مشيت عبر المنطقة الثالثة التي كانت تؤدي إلى طريق المقبرة. كان أمامي ما يقرب من ثلاثة أميال ونصف لأقطعها.
مشيت عبر المقابر، وكان الظلام قد بدأ يحل. كان الجو في شهر أغسطس بعيدا عن منتصف الصيف بالضبط مثل شهر أبريل، وهي حقيقة كنت دائما أجد صعوبة في تذكرها. رأيت صبيا وفتاة - لم أستطع أن أميز من هما - يرقدان على العشب المقلم بالقرب من ضريح موندي، الذي كنت قد كتبت على جدرانه الإسمنتية القاتمة أنا وناعومي من قبل نقشا على الضريح، ارتجلناه ورأينا أنه شرير ومضحك للغاية، لكنني لم أعد أذكره جيدا:
هنا ترقد أجساد كثير من آل موندي
الذين ماتوا لأنهم كانوا يتبولون في حسائهم في أيام الآحاد ...
نظرت إلى هذين العاشقين الممددين على أعشاب المقبرة دون أي حسد مني أو فضول. وفي طريقي إلى جوبيلي، أحسست أني أعدت امتلاك العالم؛ الأشجار، والبيوت، والأسيجة، والشوارع كلها عادت إلي بأشكالها العادية المألوفة. لقد عاد العالم إلى هيئته الطبيعية القاسية، منفصلا عن حياة المحبين ولا يلونه الحب. صدمتني هذه الحقيقة أولا، لكني وجدت فيها بعد ذلك مواساة غريبة، ثم بدأت أشعر أن نفسي القديمة - نفسي المراوغة الساخرة المنعزلة - بدأت تتنفس من جديد بداخلي وتتمدد وتستقر، رغم أن جسدي المحيط بها بدا مشروخا مصدوما غارقا في ألم الخسارة الأحمق.
كانت أمي قد أوت إلى فراشها بالفعل. عندما فشلت في الحصول على المنحة الدراسية، انهار أمامها حلم لم تشك أبدا في إمكانية تحقيقه؛ ألا وهو آمالها في المستقبل التي كانت تضعها في أبنائها. لقد واجهت احتمال أنني وأوين لن نفعل شيئا ولن نصير شيئا، وأننا شخصان عاديان لا يميزنا شيء، أو أننا قد أصابتنا عدوى الحماقة الفظيعة المتكبرة المقدسة لعائلة أبي. فها هو ذا أوين يعيش في طريق فلاتس، لا تخلو كلماته من الأخطاء النحوية والإملائية، ويقتدي بالعم بيني في الأساليب النحوية، ويقول إنه يريد أن يترك المدرسة، وها أنا ذي أواعد جارنيت فرينش وأرفض الحديث عن الأمر ولم أنجح في الحصول على المنحة الدراسية.
قالت بمرارة : «افعلي ما تريدين .»
لكن هل من السهل أن أعرف ما أريد؟ دخلت إلى المطبخ وأوقدت النور، وأعددت لنفسي خليطا كبيرا من البطاطس المقلية والبصل والطماطم والبيض، وأخذت آكله بنهم وتجهم من المقلاة مباشرة وأنا أقف في المطبخ. كنت أشعر أني حرة وغير حرة، أشعر بالارتياح والبؤس والوحدة. ماذا لو لم أفق وأعد إلى نفسي؟ ماذا لو أني تركت نفسي أستلقي وأعمد في نهر واواناش؟
لعدة سنوات، كنت أفكر في هذا الاحتمال بصورة متقطعة كما لو كان لا يزال متاحا، ومعه كنت أفكر في ظلال أوراق الشجر وبقع الماء في منزله، وكنت أفكر في سخاء جسد عشيقي.
لم يأت جارنيت يوم الإثنين، انتظرت لأرى إن كان سيأتي. مشطت شعري وانتظرت وراء الستار في حجرة الاستقبال كالمعتاد، لم أعرف ماذا سأفعل إن أتى؛ فقد كان ألم رغبتي في رؤية شاحنته ورؤية وجهه يبتلع كل شيء آخر. فكرت أن أسير من أمام الكنيسة المعمدانية لأرى إذا ما كانت شاحنته هناك، لو كنت فعلت هذا، ولو كانت الشاحنة هناك، لربما كنت دخلت إلى الكنيسة وأنا متصلبة كمن يمشي خلال نومه. غير أنني في الواقع لم أتجاوز الشرفة، ولاحظت أنني أبكي، أبكي بذلك الأنين الرتيب الذي يفعله الأطفال عندما يتألمون. استدرت وعدت إلى البهو كي أنظر في المرآة المعتمة إلى وجهي الباكي المبتل، راقبت نفسي، دون أن يخفف هذا من ألمي، واندهشت من فكرة أن ذلك الشخص الذي كان يعاني هو أنا؛ لأنه لم يكن أنا على الإطلاق. لقد كنت أشاهد، كنت أشاهد وأعاني. خاطبت المرآة بأحد أبيات تينيسون، قرأته في كتاب الأعمال الكاملة لتينيسون الذي تملكه أمي، والذي أهدته لها معلمتها القديمة الآنسة راش، تلوته بإخلاص شديد وسخرية مطلقة: «قالت إنه لن يأتي.»
كان ذلك البيت من قصيدة «ماريانا»، وهي واحدة من أكثر القصائد التي قرأتها سخافة في حياتي، لكنها جعلت دموعي تنهمر بحرارة أكثر على وجنتي. كنت لا أزال أراقب نفسي، ثم ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي فنجانا من القهوة، ثم أخذته إلى غرفة الطعام وكانت لا تزال جريدة المدينة على المائدة، وقد قصت أمي منها الكلمات المتقاطعة وأخذتها معها إلى فراشها. فتحت الجريدة على صفحة الإعلانات وأمسكت بقلم رصاص حتى أضع دائرة حول أي إعلان وظيفة قد تكون ملائمة. أفهمت نفسي ماذا أقرأ، وبعد برهة أحسست ببعض الامتنان الرقيق المعتدل تجاه تلك الكلمات المطبوعة المفعمة باحتمالات غريبة. كانت هناك أسماء مدن، وإعلان يطلب عاملات خدمات هاتفية. لا يزال بإمكان المرء أن يرسم خطوط مستقبله دون حب ودون منح دراسية. وأخيرا، ودون أي خيالات أو خداع للذات، وبتناسي أخطاء الماضي، الفادح منها والبسيط، وبتناسي ما به من حيرة وارتباك، وبحقيبة ملابس صغيرة أحملها في يدي وأستقل الحافلة - كما تفعل الفتيات في الأفلام عندما يتركن منازلهن أو أديرتهن أو عشاقهن - اعتقدت أنني سأبدأ حياتي الحقيقية. «جارنيت فرينش، جارنيت فرينش، جارنيت فرينش.» «حياة حقيقية.»
الخاتمة: المصور
«هذه المدينة تعج بحالات الانتحار.» كانت هذه إحدى العبارات التي ترددها أمي كثيرا، ولفترة طويلة كنت أحمل هذه العبارة الغامضة الجازمة في عقلي أينما ذهبت وأومن بصحتها، أومن أن حالات الانتحار في جوبيلي أعلى من غيرها من الأماكن الأخرى كما أن بورترفيلد بها الكثير من الشجارات والسكيرين، وأن حالات الانتحار هذه ميزت المدينة مثل قبة دار البلدية. لكن فيما بعد، تغير سلوكي تجاه كل ما قالته أمي، وأصبحت نظرتي له نظرة متشككة ومنكرة، بل وجادلتها في الواقع أنه لا توجد سوى حالات انتحار محدودة في جوبيلي، وأن عددها لا يتجاوز المعدلات العادية، وكنت أتحداها أن تسمي لي هذه الحالات. فكانت هي تحصيها بشكل منهجي بذكر كل الحالات التي حدثت في كل شارع على حدة في عقلها قائلة: «... ذلك الذي شنق نفسه عندما كانت زوجته وأولاده في الكنيسة ... وذاك الذي خرج من غرفته بعد الإفطار وأطلق الرصاص على رأسه ...» لكن لم تكن هناك في الواقع حالات كثيرة، وكنت أنا أقرب للحقيقة منها على الأرجح.
وكان ثمة حالتا انتحار غرقا، إذا ما عددنا حالة الآنسة فاريس معلمتي القديمة. أما الحالة الثانية فقد كانت حالة ماريون شيريف، والتي كانت أمي - وغيرها - تقول عن عائلتها بنبرة لا تخلو من الكبر: «هذه العائلة قد نالت نصيبها من المآسي!» فقد مات أحد أخويها من الإفراط في احتساء الكحوليات، والأخ الآخر يعيش في المصحة في تابرتون، وماريون «سارت حتى غرقت في نهر واواناش». كانوا دائما يقولون عنها إنها «سارت» حتى غرقت، بينما في حالة الآنسة فاريس يقولون إنها «ألقت بنفسها» في النهر. ونظرا لأنه لم ير أحد ما فعلته هذه أو تلك، فالأرجح أن اختلاف الصياغة هذا يرجع لاختلاف شخصيتي المرأتين؛ فالآنسة فاريس كانت مندفعة ودرامية في كل ما تفعله، أما ماريون شيريف فكانت متأنية وتفكر مليا قبل اتخاذ قراراتها.
أو على الأقل هكذا كانت تبدو في صورتها التي كانت معلقة في قاعة المدرسة الثانوية الرئيسية، فوق الصندوق الذي يحوي الكأس الرياضية للفتيات التي أحرزتها ماريون إيه شيريف، وهي عبارة عن كأس فضية تمنح كل عام لأفضل فتاة رياضية في المدرسة، ثم يحفر اسمها عليها وتعاد الكأس إلى مكانها مرة أخرى. في تلك الصورة، كانت ماريون شيريف تحمل مضرب تنس وترتدي تنورة بيضاء ذات ثنيات وسترة بيضاء بها خطان أسودان حول الياقة التي على شكل رقم 7. وكانت تفرق شعرها عند المنتصف وتثبته بالدبابيس عند صدغيها بشكل غريب، وكانت ممتلئة الجسد ذات وجه متجهم غير مبتسم.
كانت فيرن دوجرتي تقول: «إنها حامل، هذا مؤكد.» وكانت ناعومي كذلك تقول هذا، الجميع فيما عدا أمي. «لم يثبت هذا أبدا، لماذا تلوثون سمعتها؟»
فتجيبها فيرن بتأكيد: «أحدهم ورطها في هذه المشكلة ثم تخلى عنها، وإلا فلماذا ستغرق نفسها وهي في السابعة عشرة من عمرها؟»
أتى علي وقت لم تكن فيه كل الكتب الموجودة بمكتبة دار البلدية تكفيني، فوجدت أني بحاجة لأن أؤلف كتبا خاصة بي، ورأيت أن أفضل ما أفعله في حياتي هو أن أكتب رواية. اخترت عائلة شيريف لأكتب عنها روايتي، لأكتب ما حدث لهم؛ فأعزلهم وأحصرهم في الخيال. غيرت اسم العائلة من شيريف إلى هالوواي، وغيرت مهنة الأب من صاحب متجر إلى قاض؛ إذ كنت أعرف من خلال قراءاتي أنه في عائلات القضاة - كما في عائلات كبار ملاك الأراضي - يعد الانحلال والجنون من الأمور المتوقعة، أما الأم فيمكنني أن أبقيها كما هي كما اعتدت رؤيتها في الأيام التي كنت أذهب فيها إلى الكنيسة الأنجليكانية؛ حيث كانت تتواجد دائما بهيئتها النحيلة المسيطرة وهي تنخرط في الصلاة بصوت مرتفع مهيب. ونقلتهم من البيت الذي يعيشون به - ذاك البيت الصغير الذي يماثل لونه لون الخردل وهو مزخرف بالجص، والذي يقع خلف مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، الذي عاشوا فيه طوال حياتهم، وحتى الآن تعيش فيه السيدة شيريف وتحافظ على حشائش الحديقة مقلمة وأحواض الزهور نظيفة - إلى بيت من تصميمي؛ بيت مرتفع مبني من الطوب، وله نوافذ طويلة ضيقة ومدخل للعربات، ويحيط به الكثير من الشجيرات المقلمة بعناية على أشكال ديوك وكلاب وثعالب.
لم يعرف أي أحد بشأن هذه الرواية، ولم تكن هناك حاجة لأن أخبر أي أحد بها. كتبت شذرات قليلة من الرواية وحفظتها في مكان بعيد، لكن سرعان ما اكتشفت أن محاولة كتابة أي شيء ما هي إلا خطأ، فما أكتبه قد يفسد جمال الرواية وتكاملها في ذهني.
كنت أحملها - فكرة الرواية - معي في كل مكان أذهب إليه، كما لو كانت واحدة من تلك الصناديق السحرية التي تتمسك بها إحدى شخصيات الحكايات الخيالية، والتي ما إن يلمسها تتلاشى كل مشاكله. حملتها معي عندما كنت أتمشى مع جيري ستوري بجانب شريط القطار ويقول لي إنه يوما ما - إذا استمر العالم دون أن يفنى - سوف يمكن تحفيز المواليد الجدد بموجات من الكهرباء؛ فيصبحون قادرين على تأليف مقطوعات موسيقية مثل مقطوعات بيتهوفن وفيردي، أو أي ما يريدون، وأخذ يشرح لي كيف يمكن أن يتم دمج ما يريده الناس من مواهب وذكاء وتفضيلات ورغبات بداخل عقولهم، بالكميات المناسبة، لم لا؟
سألته: «كما في رواية «عالم جديد جميل»؟» فأجاب: وما هذه؟
ولما أخبرته قال ببساطة: «لا أدري فأنا لا أقرأ الروايات الخيالية أبدا.»
احتفظت بفكرة الرواية ، وأحسست بشعور أفضل ؛ لأن هذا جعل ما يقول غير مهم، حتى لو كان حقيقيا. أخذ جيري يغني أغاني عاطفية بلكنة ألمانية ويحاول تقليد مشية الإوزة على طول شريط القطار حتى سقط كما توقعت. «صدقيني إذا كانت كل هذه الخيالات السخيفة الصغيرة ...»
تخلصت من الأخ الأكبر السكير في روايتي؛ فثلاث مصائر مأساوية أمر مبالغ فيه حتى بالنسبة لرواية، وبالتأكيد كان أكثر مما يمكنني أن أتعامل معه. أما الأخ الأصغر منه فقد صورته مهذبا محبا يحمل براءة مبالغا فيها في مظهره: وجهه ذو نمش وردي وجسده ضعيف يميل إلى السمنة، وكان الأولاد الآخرون يتنمرون عليه في المدرسة وغير قادر على تعلم الحساب أو الجغرافيا، ولا يشعر بالسعادة أبدا سوى مرة واحدة في العام حين يسمح له بركوب الأرجوحة الدوارة في مهرجان كنزمن، حينها كانت ترتسم على وجهه ابتسامة تنم عن ابتهاج كبير. (استلهمت هذه الشخصية بالطبع من فرانكي هال، ذاك الأحمق المسن الذي كان يعيش في طريق فلاتس، والذي كان قد مات آنذاك، وكان دائما يركب هذه اللعبة طوال اليوم مجانا، وكان يلوح للناس بغطرسة ملكية على الرغم من أنه لم يهتم بأي أحد من قبل.) كان الأولاد يسخرون منه بسبب أخته ... «كارولين!» نعم اخترت اسم كارولين، وقد برزت فجأة صورة هذه الشخصية في ذهني، شخصية ساخرة كتومة لتطغى تماما على شخصية ماريون لاعبة التنس القصيرة البدينة. هل كانت قميئة؟ هل كانت تعاني الشبق الجنسي؟ كلا، ليس الأمر بهذه البساطة!
كانت متقلبة المزاج وخفيفة كورقة شجر، وكانت تسير في طرقات جوبيلي كما لو كانت تحاول أن تخترق جدارا غير مرئي. كان شعرها طويلا أسود اللون، وكانت تغدق المنح الجنسية على الرجال على حسب أهوائها، ليس للرجال ذوي الوسامة الذين يظنون أنها من حقهم، ولا لأبطال المدارس الثانوية المتجهمين الرياضيين الذين يجري في دمائهم الحارة حب الانتصار، وإنما على الأزواج في منتصف العمر الضجرين من حياتهم، والباعة المتجولين الفاشلين الذي يمرون بالمدينة، بل وحتى على بعض المشوهين والمختلين بعض الشيء. لكن كرمها هذا كان يسخر منهم ، «وجسدها الذي يجمع بين الحلاوة والمرارة بلونه المشابه للون اللوز المقشر» كان يدمر الرجال بسرعة ويترك طعم الموت. لقد كانت قربانا، يمددون جسدها للجنس على شواهد القبور العتيقة غير المريحة، ويدفعونها بقوة قبالة جزوع الأشجار القاسية، وجسدها الواهن ينسحق في الطين وروث الحظائر، ويعاني تحت الثقل القاتل لأجساد الرجال، لكن رغم ذلك كانت هي - وليس هم - من ينجو ويبقى على قيد الحياة.
ذات يوم جاء رجل إلى المدرسة الثانوية ليلتقط الصور، في البداية رأته مغطى بقماش المصورين الأسود، لم يبد منه سوى ظهر محدودب مغطى بقماش مهترئ أسود ورمادي ظاهر خلف الحامل ثلاثي القوائم، ورأت عدسة الكاميرا الكبيرة والطيات السوداء التي تشبه انثناءات آلة الأكورديون التي تميز الكاميرات القديمة. لكن كيف بدا عندما أخرج رأسه من وراء الكاميرا؟ شعره أسود مفروق من المنتصف ومصفف إلى الخلف، وتملأ قشرة الشعر قسمي الشعر، وله صدر وكتفان نحيلان، وبشرة شاحبة متقشرة، ولكن رغم مظهره المهلهل واعتلال بدنه كانت تشع منه طاقة شريرة، وكان ذا ابتسامة فاقعة لا تعرف الرحمة.
لم يكن له اسم في الرواية، وإنما كان يطلق عليه «المصور»، وكان يتنقل في أرجاء المدينة بسيارة مربعة مرتفعة ذات سقف قمته من القماش الأسود يخفق عندما تتحرك السيارة. لكن الصور التي كان يلتقطها كانت غير عادية، بل إنها كانت مرعبة، فكان الناس يرون أنفسهم في هذه الصور وقد شاخوا عشرين أو ثلاثين سنة، وكان من هم في منتصف العمر يرون في ملامحهم تشابها مروعا متزايدا ومحتوما بذويهم الموتى، والفتيات والفتيان الشباب رأوا كم ستصير وجوههم نحيلة أو معتمة أو حمقاء عندما يبلغون سن الخمسين. وبدت العرائس في تلك الصور حوامل، وبدا الأطفال كما لو أنهم يعانون من زوائد أنفية، ولهذا لم يكن مصورا يلقى إقبالا رغم رخص سعره. لكن برغم هذا لم يرفض أحد خدماته لأنهم كانوا يخشونه؛ فكان الأطفال يتوارون في الحفر عندما تمر سيارته بالطريق. أما كارولين فقد كانت تلاحقه، وكانت تجول في الطرقات تحت القيظ تفتش عنه ، انتظرته وتربصت به ثم عرضت عليه نفسها دون أن تظهر الاحتقار الدفين والاستعداد غير المكترث الذي كانت تتعامل به مع الرجال الآخرين، وإنما بلهفة وتوق وأمل وبكاء. وذات يوم (حين شعرت أن رحمها متورم «مثل ثمرة يقطين صفراء صلبة في بطنها») وجدت سيارته مقلوبة بجانب الجسر، مقلوبة في خندق بجانب جدول مياه جاف. كانت السيارة خالية، لقد اختفى، وفي تلك الليلة مشت هي حتى غرقت في نهر واواناش.
هذه هي كل القصة التي كتبتها. فيما عدا أنه بعدما ماتت، رأى شقيقها المسكين حين نظر إلى الصورة التي التقطها المصور لصف أخته في المدرسة الثانوية وجد أن عيني «كارولين كانتا بيضاوين».
لم أنته من التفكير في جميع المعاني الممكنة لهذا الأمر، لكنها بدت متنوعة وقوية.
في هذه الرواية غيرت جوبيلي كذلك، أو انتقيت منها بعض الملامح وتجاهلت ملامح أخرى. في الرواية، أصبحت مدينة أقدم وأكثر إظلاما وأكثر انحطاطا، مليئة بالأسوار العالية غير المطلية المغطاة بملصقات دعائية ممزقة لرحلات بالسفن، أو لمهرجانات الخريف، أو الانتخابات التي جرت وانتهت منذ زمن طويل. كان قاطنوها إما نحيلين مثل كارولين أو بدناء كالفقاقيع، وكان كلامهم ناعما مراوغا وأحمق بشكل غريب، وتفاهاتهم مجنونة. وكان الوقت الذي تجري فيه أحداث الرواية هو منتصف الصيف؛ حيث الحرارة الحارقة والكلاب الراقدة على الأرصفة وكأنها جثث هامدة، وموجات الريح - التي ترتعش مثل الجيلي - تضرب الطريق السريع الخاوي. لكن كيف إذن سيكون هناك ما يكفي من ماء في نهر واواناش لإغراقها؟ فمن حين لآخر كانت تبرز حقائق صغيرة مهملة لتثير قلقي؛ فبدلا من أن تمشي كارولين حانية رأسها عارية تحت ضوء القمر مذعنة نحو عمق النهر، سيكون عليها أن تستلقي ورأسها للأسفل كما لو كانت تغرق نفسها في حوض الاستحمام.
تخيلت جميع الصور، وقد كانت لدي فكرة غير واضحة عن أسباب ما يحدث، لكن لم أكن قادرة على تفسير هذه الأسباب، وتوقعت أن يتضح كل هذا لي لاحقا. المهم هو أن تلك الأحداث بدت لي حقيقية، ليست واقعية وإنما حقيقية، كما لو أنني اكتشفت هذه القصة وهذه الشخصيات، ولم أختلقهم، وكما لو أن تلك المدينة موجودة خلف هذه المدينة التي أمشي في طرقاتها كل يوم.
لم أول آل شيريف الحقيقيين أي اهتمام بمجرد أن حولتهم إلى شخصيات أخرى لأغراض روايتي. عاد بوبي شيريف - الابن الذي كان في المصحة - إلى بيته لفترة ما - وهو ما بدا أنه قد حدث من قبل - وشاهده الناس يتمشى في شوارع جوبيلي ويتحدث مع الآخرين. كنت قريبة منه بما يكفي لأن أسمع صوته الناعم المهذب المتأني، ولاحظت أنه كان دوما يبدو مشذب الشعر معطر الجسد، ويرتدي ثيابا فاخرة، وكان قصيرا بدينا ويمشي بمرح وابتهاج يميز أولئك الذين لا يجدون ما يفعلون. لم أستطع أن أربط بينه وبين شخصية الأخ المجنون الذي ابتكرته في عائلة هالوواي.
كنت أنا وجيري ستوري عندما نعود من نزهاتنا سيرا على الأقدام نرى جوبيلي بوضوح، فنراها - بعد أن سقطت الأوراق عن الشجر - ممتدة أمام أعيننا بنمط غير معقد من الشوارع التي كانت تحمل أسماء معارك وسيدات وملوك وشخصيات رائدة. وذات مرة بينما كنا نمشي فوق الجسر مرت تحتنا سيارة مليئة بأناس من مدرستنا، وكانوا يطلقون نفير السيارات نحونا، راودتني رؤية - كما لو كنت أرى نفسي من الخارج - حول مدى غرابة هذه الأمور: فكان جيري يفكر في مستقبل يشهد هلاك جوبيلي والحياة فيها ويرحب به، وأنا أخطط سرا لتحويل جوبيلي إلى حكاية مأساوية وأدمجها في روايتي، بينما سكان المدينة - الناس الذين يمثلون المدينة في الواقع - كانوا يطلقون نفير سياراتهم - في سخرية لأي شخص يسير ولا يركب في عصر أيام الآحاد - دون أن يعرفوا الخطر الذي يحدق بهم بسببنا. •••
كل صباح بداية من منتصف شهر يوليو - وقد كان هذا آخر صيف أقضيه في جوبيلي - اتخذت عادة؛ وهي أن أتمشى في وسط المدينة بين الساعة التاسعة والعاشرة. كنت أمشي حتى مبنى جريدة «هيرالد أدفانس»، ثم أتطلع إلى نافذته الأمامية ثم أعود أدراجي. كنت أنتظر نتائج الاختبار الذي تقدمت إليه في شهر يونيو. كانت النتائج ستأتينا عبر البريد، لكنها كانت تأتي إلى الجريدة قبلها بيوم، وكانت تلصق على النافذة الأمامية، وإذا لم تأت في البريد الصباحي فلن تأتي طوال اليوم. كل صباح عندما كنت أجد أنه لا يوجد شيء معلق على الواجهة - لا أجد سوى ثمرة البطاطس التي تشبه حمامة، والتي وجدها بورك تشايلدز في حديقته، والتي كانت مستقرة على حافة النافذة تنتظر ثمار القرع المزدوج والجزر المشوه واليقطين الضخم الذي سينضم إليها لاحقا ولا شك - كنت أشعر وكأن حكما ما قد تأجل، فيمكنني الشعور بالارتياح ليوم آخر، فأنا أعلم أن أدائي في الاختبارات لم يكن على خير ما يرام. لقد دمرني الحب، ولم يكن من المحتمل أن أنال المنحة الدراسية التي ظللت أعول عليها لسنين عدة - أنا وجميع من حولي - كي تحملني إلى خارج جوبيلي.
ذات صباح بعد أن قمت برحلتي اليومية إلى جريدة «هيرالد أدفانس»، مررت من أمام منزل آل شيريف بدلا من العودة عن طريق الشارع الرئيسي، ففوجئت ببوبي شيريف واقفا عند بوابة المنزل وقال: «صباح الخير.» «صباح الخير.» «هل لي أن أقنعك بأن تدخلي إلى فنائي وتتناولي قطعة من الكعك؟ هذا ما قاله العنكبوت للذبابة، أليس كذلك؟» كان أسلوبه المهذب يتسم بالتواضع وأيضا - في رأيي - بالسخرية. استأنف حديثه قائلا: «ذهبت أمي إلى تورونتو مستقلة قطار الساعة السادسة، ففكرت بما أنني مستيقظ على أية حال، فلماذا لا أجرب أن أخبز كعكة؟»
أمسك الباب فاتحا إياه، ولم أدر كيف أتملص من هذه الدعوة، فتبعته مرتقية درجات السلم. «الجو لطيف وبارد في الشرفة، يمكنك أن تجلسي هناك، هل تريدين كأسا من عصير الليمون؟ فأنا خبير في إعداد عصير الليمون.»
وهكذا جلست في شرفة منزل آل شيريف وأنا أتمنى ألا يمر أحد من هنا ويراني، أحضر لي بوبي شيريف قطعة من الكعك على طبق صغير مع شوكة مناسبة للكعك ومنديل مائدة مطرز. ثم دخل مرة أخرى ليعود بكأس عصير ليمون بها مكعبات ثلج وأوراق النعناع وكرز ماراشينو، واعتذر لأنه لم يحضر الكعكة وعصير الليمون معا على صينية ، وقال إن الصواني في خزانة الأواني تحت كومة من الأطباق؛ ومن ثم تعسر عليه إخراج واحدة، وإنه فضل أن يقضي الوقت معي على أن يضيعه جاثيا على ركبتيه يعبث في خزانة الأواني المظلمة، ثم اعتذر عن عدم جودة الكعكة قائلا إنه ليس خبازا ماهرا، كل ما في الأمر أنه يحب أن يجرب وصفة جديدة بين الحين والآخر، وشعر أنه لم يكن يجدر به أن يقدم لي الكعك دون أن يكون مغطى بالكريمة، لكنه لم يتقن قط فن صنع الكريمة، وكان يعتمد على أن تعدها والدته، لكن هذا ما حدث. ثم قال إنه يتمنى أن أكون قد أحببت أوراق النعناع في عصير الليمون، كما لو أن معظم الناس يدققون بشدة في هذا الأمر، وإنه لا يمكن قط أن نعرف ما إذا كان سيخطر ببالهم إخراج أوراق النعناع ورميها. كان يتصرف كما لو كان مجرد جلوسي في الشرفة وتناول الطعام والشراب هو عملا في غاية اللباقة والتهذيب وصنيع معروف لم يكن يتوقعه.
كانت هناك سجادة طويلة رفيعة على أرضية الشرفة الخشبية العريضة المشققة والمطلية باللون الرمادي. كانت تبدو كسجادة تفرش في البهو، لكنها كانت قديمة وبالية بحيث لم يكن من الممكن استعمالها داخل المنزل. وكنا نجلس على كرسيين من الخيزران البني عليهما وسائد باهتة اللون من الكريتون بها الكثير من الكتل وأمامنا طاولة من الخيزران كذلك. وعلى الطاولة كان ثمة ما يشبه الكوب الفخاري الصيني أو المزهرية التي ليس بها أزهار وإنما بها راية حمراء صغيرة والعلم البريطاني، كانت تلك واحدة من التذكارات التي كانت تباع أثناء زيارة الملك والملكة إلى كندا عام 1939، وكانت وجوههم الملكية الشابة تشع نورا رقيقا، كما في اللوحة المعلقة أمام فصل الصف الثامن في المدرسة الحكومية. وكان وجود هذا الشيء على الطاولة لا يعني أن آل شيريف أناس وطنيون بصورة خاصة؛ فهذه التذكارات كانت تتواجد في كثير من بيوت جوبيلي. هذا هو كل شيء. وحقيقة أن كل شيء بالمكان كان عاديا وغير مميز أوقفت تدفق أفكار القصة في ذهني فجأة ، وجعلتني أتذكر؛ فهذا هو بيت آل شيريف. استطعت من مكاني أن أرى جزءا من الرواق عبر الباب السلكي، وكان مغطى بورق حائط يجمع بين اللونين البني والوردي. هذا هو مدخل البيت الذي سارت فيها ماريون في طريقها إلى المدرسة، وفي طريقها للعب التنس، وفي طريقها لنهر واواناش. لقد كانت ماريون هي كارولين؛ فهي كل ما لدي لأبدأ به روايتي: تصرفها وسريتها. لم أفكر في هذا حين دخلت إلى فناء منزل آل شيريف، أو عندما كنت أجلس في الشرفة منتظرة أن يأتيني بوبي بالكعك. لم أفكر في روايتي، بل إنني لم أعد أفكر فيها تقريبا. لم أحدث نفسي قط بأنني فقدت فكرة الرواية، وإنما كنت أعتقد أنها محفوظة في مكان ما، مستعدة للخروج مجددا في وقت ما في المستقبل، لكن الحقيقة هي أنها قد أصابها بعض الضرر الذي أيقنت أنه لا يمكن إصلاحه. لقد وقع الضرر وفقدت كارولين وباقي أفراد أسرة هالوواي وبلدتهم قوتها المقنعة، وفقدت أنا إيماني. لكنني لم أرد أن أفكر في هذا، ولم أفكر فيه.
لكنني تذكرت في تلك اللحظة بدهشة كيف اختلقت هذه القصة، هذا الكيان الغامض الذي اتضح بعد ذلك أنه غير موثوق به، هذا الكيان القائم على هذا البيت وعلى أسرة آل شيريف وعلى حقائق قليلة ضعيفة وعلى كل الأمور التي لم ترو.
قال لي بوبي شيريف بخجل: «أنا أعرفك، ألم تظني أنني أعرفك؟ أنت الفتاة التي ستذهب إلى الجامعة بمنحة دراسية.» «لم أحصل عليها بعد.» «أنت فتاة ذكية.»
سألت نفسي ماذا حدث لماريون؟ ليس لكارولين، بل ماذا حدث لماريون؟ وماذا حدث لبوبي شيريف، عندما كان يضطر للتوقف عن خبز الكعك والعودة مرة أخرى إلى المصحة؟ مثل هذه الأسئلة تظل عالقة، بصرف النظر عن الروايات. إنها لصدمة حقا؛ صدمة أن تغير الواقع بقوة ودهاء ثم تعود إليه لتدرك أنه كما هو ولم يتغير. هل سيظهر لي بوبي شيريف الآن أية علامة على الجنون؟ هل سيقول بصوته المهذب الودود: «إن نابليون هو أبي »؟ هل سيبصق في شقوق الأرض ويقول: «إنني أسقط المطر على صحراء جوبي»؟ هل هذه هي نوعية الأمور التي يقوم بها؟ «هل تعرفين أنني ارتدت الجامعة؛ جامعة تورونتو، في كلية الثالوث؟ نعم فعلت.»
صمت لدقيقة، ثم واصل حديثه - كما لو كنت قد سألته: «لم أنل أي منح دراسية، فقد كنت طالبا عاديا، فكرت أمي أنه من الممكن أن يعدوني لأصبح محاميا، كانت تضحية منهم أن يرسلوني إلى الجامعة، فقد كان ذلك في وقت الكساد الكبير كما تعلمين، وفي فترة الكساد لم يكن أحد يملك أي أموال، أما الآن فيبدو أن الجميع يملكون الأموال. نعم، منذ وقت الحرب، الجميع يشتري، هل تعرفين فيرجوس كولبي - صاحب متجر كولبي موتورز - لقد أراني قائمة بمن سجلوا أسماءهم كي يشتروا سيارات أولدزموبيل الجديدة، وسيارات شيفروليه الجديدة.
عندما تذهبين إلى الجامعة، لا بد أن تعتني بنظامك الغذائي، فهذا أمر شديد الأهمية، فالجميع في الجامعة يميلون إلى تناول المأكولات النشوية لأنها مشبعة ورخيصة. كنت أعرف فتاة اعتادت أن تطهو الطعام في غرفتها، وكانت تعيش على المكرونة والخبز، فقط المكرونة والخبز! إنني أعزو الانهيار الذي حدث لي إلى الطعام الذي كنت أتناوله، فلم يكن هناك غذاء للمخ، ولا بد للمخ من تغذية كي نستخدمه، وما يفيد المخ حقا فيتامينات ب: فيتامين ب
1
وفيتامين ب
2
وفيتامين ب
12 . لقد سمعت بهذه الفيتامينات، أليس كذلك؟ تتواجد هذه الفيتامينات في الأرز غير المقشر، والدقيق غير المكرر ... إنني أشعرك بالملل الآن، أليس كذلك؟»
قلت وأنا أشعر بالذنب: «كلا، كلا، كلا.» «أستميحك عذرا لو كنت أشعرتك بالملل، أعرف أنني أنجرف في الكلام عن هذا الموضوع؛ هذا لأنني أعتقد أن مشاكلي الخاصة - جميع مشاكلي منذ طفولتي - تتعلق دائما بسوء التغذية، بدءا من المذاكرة بجهد شديد دون تغذية للمخ، لكنني بالطبع لم أمتلك مخا عبقريا منذ البداية، لا أدعي هذا.»
أخذت أراقبه بانتباه حتى لا يسألني مجددا ما إذا كان حديثه يضجرني. كان يرتدي قميصا رياضيا ناعما أصفر مكويا جيدا ومفتوحا عند العنق، وكانت بشرته وردية اللون ، وكان ذا شبه بسيط بشقيق كارولين الذي اختلقته. كنت أشم رائحة بلسم الحلاقة الذي يستخدمه، واستغربت فكرة أنه يحلق وأن وجهه ينمو فيه الشعر كباقي الرجال وأن في سرواله عضوا ذكريا، تخيلته مكورا حول نفسه رطبا وطريا. كان يبتسم لي برقة ويتكلم باتزان؛ هل يمكن أن يكون قد قرأ أفكاري؟ لا بد أن الجنون له سر، «ملكة»، شيء لا أعرفه.
كان يخبرني كيف أن الفئران نفسها كانت ترفض أن تأكل الدقيق الأبيض بسبب ما به من مواد مبيضة، والمواد الكيميائية التي كانت به. أومأت له، ومن وراء رأسه رأيت السيد فاوكس يخرج من الباب الخلفي لجريدة «هيرالد أدفانس» ثم يفرغ محتويات سلة في المحرقة ثم يعود إلى داخل المبنى. لم تكن هناك نوافذ في ذلك الحائط الخلفي، وكان به بعض البقع وبعض الطوب المتكسر وشق طويل يمتد على شكل خط مائل، بادئا من قبل منتصفه تقريبا وحتى الركن الأسفل منه بجوار متجر تشينواي.
تفتح البنوك في الساعة العاشرة؛ البنك التجاري الكندي وبنك دومينيون على الجانب الآخر من الشارع. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف تمر من المدينة حافلة قادمة من بلدة أوين ساوند في لندن ومتجهة جنوبا. وإذا أراد أي شخص أن يستقلها فيجب أن يتم تعليق علم أمام مطعم هاينز.
كان بوبي شيريف يتحدث عن الفئران والدقيق الأبيض، وكنت أرى في ذهني صورة أخته معلقة في بهو المدرسة الثانوية بالقرب من الخرير المستمر لنافورة ماء الشرب. كان وجهها ينم عن العند ولا يفصح عن الكثير، وكانت مطأطئة الرأس حتى إن الظلال قد سكنت عينيها. كانت حياة الناس في جوبيلي - كما في كل مكان آخر - مملة وبسيطة ومدهشة، ولا يمكن سبر أغوارها ككهوف عميقة مفروشة بورق المشمع الذي يستخدم في المطبخ.
لم يخطر ببالي آنذاك أنني يوما ما سوف أهتم هذا الاهتمام البالغ بجوبيلي، فقد صرت نهمة ومضللة كما كان العم كريج في منزله في جنكينز بيند وهو يدون التاريخ؛ فقد كنت أرغب في تدوين بعض الأشياء.
سأحاول أن أعد بعض القوائم؛ قائمة بأسماء المحال والأعمال الموجودة في الشارع الرئيسي وأسماء من يملكونها، وقائمة بأسماء العائلات، والأسماء المكتوبة على شواهد القبور في المقبرة وأي نقوش موجودة تحتها. وقائمة بأسماء الأفلام التي عرضت في قاعة الليسيوم منذ عام 1938 وحتى عام 1950 تقريبا. وقائمة بالأسماء الموجودة على النصب التذكاري (والتي يرجع معظمها إلى الحرب العالمية الأولى لا الثانية)، وقائمة بأسماء الشوارع ونمط تصميمها.
وبالطبع، فإن عقد الآمال على دقة هذه المهام ما هو إلا ضرب من الجنون الذي يفطر القلب.
لكن لم تكن ثمة قائمة بإمكانها أن تحوي ما أريد؛ فما أريد كان كل شيء بالتفصيل؛ كل كلمة وكل فكرة، كل شعاع ضوء يسقط على لحاء الشجر أو على الجدران، وكل رائحة، وكل تجويف، وكل ألم، وكل شرخ، وكل وهم، كل هذا قائما ومجتمعا ... مشعا وخالدا.
أما في تلك اللحظة، لم أكن أنظر كثيرا لهذه المدينة.
تحدث إلي بوبي شيريف بحزن، وهو يتناول مني الشوكة ومنديل المائدة والطبق الفارغ.
قال: «صدقيني، أتمنى أن يحالفك الحظ في حياتك.»
ثم فعل الشيء الوحيد المميز الذي فعله لي؛ فبكل ما في يده من أشياء حياني بالوقوف على أصابع قدميه كراقص، أو كراقصة باليه ممتلئة الجسد. بدت لي هذه الحركة - مصحوبة بابتسامته الرقيقة التي ارتسمت على وجهه - مزحة، لكنها ليست مزحة يرويها لي وإنما يفعلها من أجلي، وبدت أن لها معنى وجيزا، معنى منمقا؛ بدت وكأنها حرف أو كلمة كاملة في أبجدية لا أعرفها.
آنذاك، كنت أتقبل تمنيات الناس لي - وغيرها من الأمور - وكأنها أمور طبيعية وأنا يخالجني شعور بسيط بالحيرة، كما لو أنها لم تكن قط أكثر مما أستحقه.
فأجبته: «حسنا»، بدلا من أن أشكره.
Unknown page