فقال أبي - بعد أن رجوناه - إنه ربما لا يعاود ميجور مطاردة الخراف، كما أنه مقيد على أية حال، وقد يبقى مقيدا طوال حياته إذا لزم الأمر، أو على الأقل حتى يجتاز مرحلة طفولته الثانية ويصبح أضعف من أن يطارد أي شيء، وهي المرحلة التي لا تبدو بعيدة الآن.
ولكن أبي كان مخطئا، أما العم بيني بتشاؤمه العابس وتوقعاته الكئيبة، فكان على صواب؛ فقد هرب ميجور من الأسر في الصباح الباكر، وكان باب الحظيرة مغلقا، ولكنه مزق جزءا من شبكة الأسلاك التي تغطي نافذة ليس بها زجاج وقفز خارجا منها، ثم انطلق إلى منزل آل بوتر كي يأخذ حظه من المتعة التي اكتشفها مؤخرا، وعاد للمنزل بحلول موعد الإفطار، غير أن الحبل الممزق والنافذة التي قطعت أسلاكها والخروف الميت في مرعى آل بوتر؛ كل ذلك روى القصة التي لم يرها أحد.
في ذلك الوقت، كنا نتناول الإفطار بعد أن قضى أبي الليلة في المدينة، فاتصل به العم بيني بالهاتف وأخبره بالأمر، وعندما عاد أبي إلى المائدة قال: «أوين، علينا أن نتخلص من ميجور.»
أخذ أوين يرتجف ولكنه لم يتفوه بكلمة، وفي كلمات قليلة أخبرنا أبي بأمر الهروب والخروف الميت.
فقالت أمي بتعاطف كاذب: «إنه كلب عجوز وقد حظي بحياة طيبة، ومن يدري ماذا قد يحدث له الآن على أية حال، مع أمراض الشيخوخة ومتاعبها؟»
فقال أوين واهنا: «يمكنه أن يأتي ليقيم معنا، وهنا لن يعرف مكان الخراف.» «كلب كهذا لا يمكنه العيش في المدينة، ولا ضمانات لأن لا يعاود الكرة مرة أخرى.»
فقالت أمي موبخة: «فكر فيه وهو مقيد في المدينة يا أوين.»
فنهض أوين وغادر المائدة دون أن يتفوه بكلمة أخرى، ولم تناده أمي مرة أخرى كي تجعله يستأذن قبل الانصراف.
كنت معتادة على أمر القتل هذا؛ فالعم بيني كان يذهب لصيد فئران المسك وإيقاعها في الشراك، وكل خريف كان أبي يقتل الثعالب ويبيع فراءها للمعيشة، وخلال العام كان يقتل الجياد الكبيرة السن المعاقة أو تلك العديمة الفائدة كي يطعمها للثعالب. كنت قد رأيت حلمين سيئين بشأن ذلك منذ فترة وما زلت أذكرهما. حلمت ذات مرة بأنني ذهبت إلى المجزر الخاص بأبي، وهو كوخ مستتر خلف الحظيرة يحتفظ فيه في الصيف بأجزاء من الجياد المذبوحة والمسلوخة معلقة على خطاطيف. وكان هذا المكان يقع في ظل شجرة تفاح بري، وكانت الستائر مغطاة باللون الأسود من كثرة الذباب. حلمت بأنني نظرت للداخل ووجدت - وهو ما لم يكن مفاجأة - أن ما كان يعلقه أبي هناك أجساد بشرية مسلوخة ومقطعة. أما الحلم الآخر فكان مستوحى من التاريخ الإنجليزي الذي كنت أقرأ عنه في الموسوعة. حلمت بأن أبي قد وضع كتلة خشب عادية متواضعة على الحشائش التي تقع خارج باب المطبخ، وأوقفنا في صف واحد أنا وأوين وأمي كي يقطع رءوسنا، وقال: «إنه لن يؤلم.» كما لو كان ذلك هو كل ما نخشاه! واستطرد: «سوف ينتهي الأمر في دقيقة.» كان أبي طيبا هادئا عاقلا يجيد الإقناع، وأخذ يوضح لي أن كل ذلك لصالحنا جميعا. ظلت أفكار الهروب تتصارع في ذهني كذباب وقع في الزيت وأجنحته مفرودة عاجزة عن فعل أي شيء. شعرت بأني فقدت القدرة على الحركة أمام تلك العقلانية، فالترتيبات بسيطة ومألوفة ومسلم بها، إنه الوجه الآخر المطمئن للجنون.
أثناء النهار، لم أكن أشعر بالخوف كما يوحي هذان الحلمان، ولم يزعجني قط المرور بالمجزر أو سماع صوت إطلاق الرصاص من البندقية. ولكنني عندما فكرت في إطلاق الرصاص على ميجور، عندما تصورت أبي وهو يلقم البندقية على مهل بطريقته المعتادة كما يفعل دائما وينادي ميجور الذي لن يشك في أي شيء؛ إذ إنه معتاد على رؤية الرجال ببنادقهم، ويسيران بعيدا عن الحظيرة بينما يبحث أبي عن بقعة جيدة، رأيت مرة أخرى ملامح ذلك الوجه العقلاني التجديفي. كان ذلك التعمد هو ما فكرت فيه طويلا؛ الاختيار المتعمد لإطلاق رصاصة على المخ كي توقف أجهزة الجسم عن العمل، ففي ذلك الاختيار والتصرف - مهما كان ضروريا وعاقلا - كانت الموافقة على أي شيء. أصبح الموت محتملا، لا لأننا لا نستطيع منعه ولكن لأنه هو الشيء المرغوب، الشيء الذي «يريده» كل هؤلاء الكبار والمديرين والجلادين ذوي الوجوه الطيبة لكنها لا تعرف الصفح.
Unknown page