لم تثبط مجادلات أمي من عزيمتي، ليس كما لو كانت صدرت عن شخص آخر. ورغم ذلك، فبينما كنت أقطع طرقات المدينة، ظللت أبحث عن دليل على وجهة النظر المناقضة لوجهة نظرها، وشعرت ببعض الارتياح لأن المتاجر كانت مغلقة والستائر مسدلة على النوافذ، وهذا يثبت شيئا، أليس كذلك؟ فإذا قرعت أبواب كل المنازل في طريقي وسألتهم: «هل توفي المسيح من أجل تكفير خطايانا؟» فلا شك أن الإجابة الممزوجة بالدهشة والارتباك سوف تكون بالإيجاب.
أدركت أنني لا أهتم كثيرا بوفاة المسيح من أجل تكفير خطايانا، فكل ما كنت أريده هو الرب، ولكن إذا كانت فكرة وفاة المسيح تكفيرا لخطايانا هي الطريق إلى الرب فسوف أسلكه.
كان يوم الجمعة الحزينة يوما مشمسا لطيفا - بصورة غير مناسبة - تتساقط فيه الكتل الثلجية وتتفتت والأسطح يتصاعد منها البخار وجداول صغيرة من المياه في الشوارع، وكانت أشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ الزجاجية العادية للكنيسة. كنت قد تأخرت بسبب أمي، وكان القس قد وصل للمقدمة بالفعل، فتسللت حتى المقعد الخلفي ورمقتني السيدة شيريف ذات العمامة المخملية بنظرة خاوية تنم عن الغضب، وربما لم تكن غاضبة بل شديدة الاندهاش فحسب. بدا الأمر كما لو أنني قد جلست بجوار نسر على مجثمه.
ولكنني سررت لرؤيتها، رغم ذلك، شعرت بالسعادة لرؤيتهم جميعا؛ الأشخاص الستة أو الثمانية أو العشرة الحقيقيين، الذين ارتدوا قبعاتهم وغادروا منازلهم وساروا في الشوارع عابرين جداول الثلج الذائب كي يحضروا إلى هنا. إنهم لن يفعلوا ذلك بلا سبب.
كنت أرغب في أن أجد مؤمنا، مؤمنا حقيقيا يزيل شكوكي. كنت أرغب في مشاهدة ذلك المؤمن وأن أستمد منه الراحة والتشجيع، لا أن أتحدث معه. في بادئ الأمر، ظننت أن ذلك الشخص قد يكون السيدة شيريف، ولكنها لا تصلح، فاختلالها العقلي يفقدها الأهلية لهذه المهمة، وعلى المؤمن الذي أقصده أن يكون عاقلا بصورة واضحة. «اللهم أسرع إلى معونتنا، خلصنا من أجل اسمك.» «اللهم أسرع إلى معونتنا وخلصنا من أجل شرفك.»
هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
جلست أفكر في معاناة المسيح، فضممت قبضتي بقوة بحيث أتمكن من الضغط بظفر واحد بكل ما أوتيت من قوة في راحة اليد الأخرى، وظللت أضغط يدي وألفها، ولكنني لم أستطع أن أسيل دمائي، فشعرت بالخجل، وأنا أدرك أن هذا لا يجعلني مشاركة في تحمل المعاناة. لو كان الرب يتمتع بأي قدر من التمييز، كان سيحتقر تلك الحماقة (ولكن هل كان لديه بالفعل؟ انظروا إلى ما ارتكبه القديسون وحصلوا على الموافقة عليه) وسيعلم ما أفكر به وأحاول التغلب عليه في ذهني، وهو: «هل كانت معاناة المسيح بهذا السوء حقا؟»
هل كانت بهذا السوء، وأنت تعلم وهو يعلم والجميع يعلمون بأنه سوف ينهض سليما متألقا خالدا ويجلس على يمين الرب الأب القدير من حيث يأتي كي يحاكم الأحياء والأموات؟ فالكثير من الناس - ربما ليس كلهم أو حتى معظمهم ولكن عددا ليس بالقليل - قد يعرضون أجسادهم لتحمل آلام مماثلة إذا كانوا واثقين من أنهم سيصلون إلى ما وصل إليه بعد ذلك، بل وقد فعل الكثيرون ذلك بالفعل وهم القديسون والشهداء.
حسنا، ولكن ثمة فارق. فهو الرب، وهذا تدني أو خنوع بالنسبة له. هل كان هو الرب في تلك اللحظة أم ابن الرب الأرضي فحسب؟ لم أتمكن من فهم تلك النقطة بوضوح. هل كان يفهم كيف يحدث كل شيء عمدا ويفهم أن كل شيء سيصبح على ما يرام في نهاية الأمر، أم أن صفاته الإلهية قد توقفت مؤقتا بحيث لم ير سوى هذا الانهيار؟ «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟»
وبعد المزمور الطويل الذي يضم نبوءات عن تقاسم الثياب والاقتراع، صعد القس إلى المنبر وقال إنه سيلقي موعظة قصيرة حول آخر كلمات المسيح على الصليب، نفس الأمر الذي كنت أفكر به، ولكن اتضح أن كلماته الأخيرة كانت تزيد عن تلك التي أعرفها. بدأ بكلمة «أنا عطشان» التي توضح - كما يقول - أن المسيح كان يعاني جسديا كما كنا سنعاني في نفس الموقف بالضبط وليس أقل من ذلك، وأنه لم يخجل من الاعتراف بذلك وطلب المساعدة، وأعطى الجنود المساكين فرصة للحصول على الرحمة بفضل قطعة الإسفنج المغموسة في الخل. «يا امرأة هوذا ابنك!» و«هوذا أمك!» توضح تلك الكلمة أن آخر أفكاره كانت في الآخرين، إذ كان يجري ترتيباته لهم كي يجدوا العزاء بعضهم في بعض بعد رحيله (رغم أنه لم يرحل بالفعل)، وحتى في لحظة احتضاره وآلامه، لم ينس العلاقات الإنسانية ومدى جمالها وأهميتها. «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.» توضح تلك الكلمة بالطبع اهتمامه المستمر بالعاصي المذنب الذي يلفظه المجتمع ويعلقه على الصليب. «يا الله، الذي لا يرفض صنعة يديه ... الذي لا يشاء موت الخاطي مثل ما يرجع ويحيا ...»
Unknown page